البناية
شرح الهداية كتاب الحج الحج واجب على الأحرار البالغين
العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزاد والراحلة فاضلا عن المسكن، وما لا بد
منه، وعن نفقة عياله إلى حين عوده، وكان الطريق آمنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الحج]
[حكم الحج]
م: (كتاب الحج) ش: أي هذه كتاب في بيان أحكام الحج، وإنما ذكره آخراً رعاية
للترتيب بين العبادات الأربعة، أما الصلاة فإنها عماد الدين، وهي عبادة
متكررة فذكرت أولاً وأما الزكاة فلأنها تالية للصلاة، أما الصوم فلأنه
عبادة بدنية خاصة كالصلاة، وأما الحج فلأنه عبادة مركبة من البدن والمال،
وأخر عن الصوم، لأن الفرد قبل المركب، ولأن الصوم يتكرر دون الحج،
والاحتياج إليه أكثر، وذكر الأترازي ها هنا ما ذكره الناس، ثم قال: هذا ما
أملاه خاطري في وجه المناسبة في هذا المقام، ونسبة الشخص شيئاً لنفسه مع
كونه مسبوقاً به لا يحتج به، والحج في اللغة: القصد بفتح الحاء وكسرها.
وفي الشريعة: عبارة عن قصد مخصوص إلى مكان مخصوص على وجه التعظيم في أوان
مخصوص، وذكر بعض العلماء كتاب المناسك عوض الحج؛ منهم الطحاوي والكرخي
وصاحب " الإيضاح "، والمناسك جمع منسك بفتح السين بمعنى النسك، وهو كل ما
يتقرب به إلى الله تعالى لكنه اختص في العرف بأفعال الحج والعمرة، والحج من
الشرائع القديمة.
وروي أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما حج تلقته الملائكة،
وقالت: بر حجك فإننا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
وقال تعالى لإبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الآية م: (الحج: الآية: 27) .
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت الأنبياء، - عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يحجون مشاة حفاة، وإبراهيم وإسماعيل -
عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حجا ماشيين، وعنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان النبي من الأنبياء إذا هلك قومه لحق مكة يعبد
الله تعالى حتى يموت» ، وكذا من معه فمات فيها نوح وهود وصالح وشعيب -
عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقبورهم بين زمزم والحجر، ونوح -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - حج قبل الطوفان أيضاً، وكل نبي، بعد إبراهيم -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد حج.
قال م: (الحج واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على
الزاد والراحلة فاضلا عن المسكن، وما لا بد منه، وعن نفقة عياله إلى حين
عوده، وكان الطريق آمنا) ش: هذا كله عبارة القدوري بعينها ذكرها المصنف ثم
شرحها كلمة كلمة، وذكر الشراح كلهم أن المصنف ذكرها بلفظ الجمع، فقال: على
الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء، وذكر في الزكاة بلفظ الواحد، فقال:
الزكاة واجبة على الحر العاقل المسلم، ثم أجابوا عن ذلك بناء على عادات
الناس أنهم
(4/138)
وصفه بالوجوب وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيتها
بالكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {ولله على النّاس حجّ البيت} [البقرة: 97]
[الآية 97 آل عمران] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يؤدون الحج في الغالب بجمع عظيم، وأما الزكاة واجبة فلأن كل واحد يؤدي زكاة
ماله بلا اجتماع.
قلت: هذا الجواب والسؤال في عبارة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المصنف
- رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل عبارته على هذا الوجه ولم يقل من عنده.
وجواب آخر في عبارة القدوري أن الألف واللام إذا دخلا على الجمع يبطل معنى
الجمع، ويراد به الجنس.
م: (وصفه بالوجوب) ش: أي وصف القدوري الحج بلفظ الوجوب والضمير المرفوع في
وصفه يرجع إلى القدوري، والمفهوم من كلام الشراح أنه يرجع إلى المصنف، وليس
كذلك، وقال وصفه بالوجوب وسكت اكتفاء بما ذكره في أول كتاب الزكاة بقوله -
والمراد بالواجب الفرض لأنه لا شبهة فيه - على أنه أشار إلى هذا أيضاً
بقوله م: (وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيتها بالكتاب) ش: لأن قوله - ثبتت - فيه
تلميح إلى أن معنى الوجوب الثبوت بالكتاب، ولا يكون الثابت بالكتاب إلا
الفرض.
م: (وهو) ش: أي الكتاب م: (قَوْله تَعَالَى: {ولله على الناس حج البيت}
[البقرة: 97] [آل عمران: الآية: 97] ) ش: فيه وجوه من التأكيد منها قوله:
على الناس، وكلمة على الإلزام، أي حق واجب في رقاب الناس، ومنها أنه ذكر
الناس ثم أبدل من استطاع إليه سبيلاً بدون تكرير العامل، وفي هذا الإبدال
من التأكيد، أحدهما: أن الإبدال تنبيه على المراد، والثاني: أنه إيضاح بعد
الإبهام، وتفصيل بعد الإجمال.
ومنها قوله {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [البقرة: 97] : م: (آل
عمران: الآية: 97) ، فكان قوله ومن لم يحج - تغليظاً على تارك الحج، وكذلك
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات ولم يحج» .... الحديث
كذا قاله الكاكي.
فإن قلت: روى الترمذي من حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
مرفوعاً: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن
يموت يهودياً أو نصرانياً» .
وقال الترمذي: غريب، وفي إسناده مقال، وقد روي عن علي موقوفاً.
ومنها ذكر الاستغناء، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله:
{فإن الله غني عن العالمين} [البقرة: 97] م: (آل عمران: الآية: 97) ولم يقل
عنه لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، وقيل: إنما
قال على الناس ولم يقل على المؤمنين، لأن هذا الحج غير
(4/139)
ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة؛ «لأنه -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قيل له: الحج في كل عام أم مرة واحدة؟
فقال: " لا بل مرة فما زاد فهو تطوع» ؛ ولأن سببه البيت، ولأنه لا يتعدد
فلا يتكرر الوجوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واجب على الملائكة مع شمول اسم المؤمنين لهم، وليدل على عدم اختصاصه بهذه
الأمة بحسب الظاهر.
م: (ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
م: (قيل له: الحج في كل عام أو مرة واحدة؟ فقال: " لا بل مرة واحدة فما زاد
فهو تطوع) ش: هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه في سننهما " عن سفيان بن
حسين عن الزهري عن أبي سفيان يزيد بن أمية عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - «أن الأقرع بن حابس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو
مرة واحدة فقال لا بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع» .
ورواه الحاكم في " مستدركه "، وقال حديث صحيح الإسناد، إلا أنهما لم يخرجاه
لسفيان ابن حسين وهو من الثقات.
م: (ولأن سببه) ش: أي سبب الحج م: (البيت) ش: أي الكعبة م: (ولأنه لا يتعدد
فلا يتكرر الوجوب) ش: وقد علم أن السبب إذا لم يتكرر لا يتكرر المسبب،
وإنما كان سببه البيت لإضافته إليه يقال حج البيت والإضافة دليل السببية،
وقال الكرماني في " مناسكه " وعن بعض الناس يجب في كل سنة، وهو مردود.
وقال ابن العربي في " العارضة " يجب في العمر مرة واحدة بإجماع الأمة إلا
من شذ، فقال يجب في كل خمسة أعوام ومتعلقه ماروي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - أنه قال: «على كل مسلم في خمسة أعوام أن يأتي بيت الله
الحرام» . قال ابن العربي: قلنا رواية هذا الحديث حرام فكيف العمل به، وقال
السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورد ما يدل على استحباب ذلك دون وجوبه عن أبي
هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: قال: «قال الله عز وجل: إن من صححته ووسعت عليه ولم يزرني من
كل خمسة أعوام عاماً لمحروم» أخرجه أبو ذر الهروي وأبو بكر بن أبي شيبة
وسعيد بن منصور، ويروى أربعة أعوام أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ولفظه «أن الله تعالى يقول: إن عبداً أصححت له جسمه
وأوسعت عليه في المعيشة تمضي عليه أربعة أعوام لا يعود إلي لمحروم» وقال
ابن وضاح: يريد في الحج.
(4/140)
ثم هو واجب على الفور عند أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل عليه. وعند
محمد والشافعي - رحمهما الله - على التراخي؛ لأنه وظيفة العمر، فكان العمر
فيه كالوقت في الصلاة. وجه الأول: أنه يختص بوقت خاص، والموت في سنة واحدة
غير نادر فيضيق احتياطا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شروط وجوب الحج]
[البلوغ والحرية من شروط وجوب الحج]
[حج العبد والصبي]
م: (ثم هو) ش: أي الحج م: (واجب على الفور عند أبي يوسف) ش: وبه قال أحمد،
وفي " البدائع " و " التحفة " عن الكرخي أنه على الفور، والإمام أبو منصور
الماتريدي يحمل الأمر المطلق على الفور. ومعنى يجب على الفور يعني عند
استجماع شرائط الوجوب يتعين العام الأول عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
حتى يأثم بالتأخير عنه، والمراد من الفور أن يلزم المأمور فعل المأمور به
في أول أوقات الإمكان مستعار للسرعة من فارت القدر فوراً إذا غلت.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل عليه) ش: أي وروي عن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على أنه على الفور مثل قول أبي يوسف،
وهو ما قاله ابن شجاع كان أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: من
كان عنده ما يحج به وكان يريد التزوج فإنه يبدأ بالحج: لأنه فريضة، وهذا
يدل أنه على الفور، وفي " المحيط " و " المرغيناني " و " الكرماني " أن أصح
الروايتين عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه على الفور، وفي "
قنية المنية " يجب مضيقاً على المختار، وفي الأداء يرتفع الإثم.
م: (وعند محمد والشافعي - رحمهما الله - على التراخي) ش: وبه قال أبو حنيفة
في رواية، وذكر الإمام علي بن موسى العمي أنه على التراخي، ولم يعزه إلى
أحد وهو من عظماء أصحابنا، وله تصنيف في نقض مذهب الشافعي، وذكر أبو عبد
الله البلخي أنه قال على التراخي عن أصحابنا جميعاً، وفائدة الخلاف أنه
يأثم بالتأخير عند أبي يوسف ولا يأثم بالتأخير عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ
-، ومعنى قول محمد على التراخي أن العام الأول يتعين، لكن عند محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يسعه التأخير بشرط أنه لا يفوته بالموت، وإذا مات عنه
أثم، وعند الشافعي لا يأثم، وقال بعض أصحابه يأثم بالتأخير عن السنة الأولى
إذا مات فيها.
وقال بعضهم: يأثم بالتأخير عن السنة التي مات فيها.
م: (لأنه) ش: أي لأن الحج م: (وظيفة العمر) ش: ألا ترى أنه لو أداه في
السنة الثانية كان مؤدياً لا قاضياً م: (فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة)
ش: لأنه إذا أخر الصلاة إلى آخر الوقت يجوز، وكذا إذا أخر الحج إلى آخر
العمر بشرط أن لا يفوته.
م: (وجه الأول) ش: وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه يختص
بوقت خاص) ش: وهو أشهر الحج من كل عام، وكل ما اختص بوقت خاص، وقد فات عن
وقته لا يدرك إلا بإدراك الوقت بعينه وإلا لا يكون مختصاً به، وذلك مدة
طويلة تستوي فيه الحياة م: (والموت في سنة واحدة) ش: مشتملة على الفصول
الأربعة [....] م: (غير نادر فيضيق احتياطا) ش: لا تحقيقاً
(4/141)
ولهذا كان التعجيل أفضل، بخلاف وقت الصلاة؛
لأن الموت في مثله نادر، وإنما شرط الحرية والبلوغ؛ لقوله - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيما عبد حج، ولو عشر حجج، ثم أعتق فعليه حجة
الإسلام، وأيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام» . ولأنه عبادة،
والعبادات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل الاحتياط م: (كان التعجيل أفضل) ش: اتفاقاً.
م: (بخلاف وقت الصلاة) ش: جواب عن قوله: كالوقت في الصلاة م: (لأن الموت في
مثله نادر) ش: يعني لأن الموت في مثل وقت الصلاة فجأة نادر م: (وإنما شرط
البلوغ والحرية؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أيما عبد حج، ولو عشر
حجج، ثم أعتق فعليه حجة الإسلام وأيما صبي حج ولو عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة
الإسلام» ش: هذا الحديث رواه الحاكم في " مستدركه " من حديث محمد بن
المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما صبي حج ثم بلغ الحدث فعليه أن يحج حجة أخرى،
وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق
فعليه حجة أخرى» وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
فإن قلت: رواه البيهقي في " سننه " ثم قال: الصواب وقفه، تفرد برفعه محمد
بن المنهال عن يزيد بن زريع عن شعبة، ورواه غيره عن شعبة موقوفاً.
قلت: قال الشيخ: رواه الإسماعيلي في جمعه لحديث سليمان الأعمش عن الحارث بن
شريح أبي عمر، ويقال: الخوارزمي عن يزيد بن زريع به مرفوعاً فزال التفرد،
وليس في رواية الحاكم عشر حجج، وذكر هذا فيه لبيان الكثرة؛ لأن العشر منتهى
الآحاد، لا لبيان انحصار الحكم عليها.
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من لا يعتد بخلافه أن الصبي والعبد لا
يعتبر حجهما في حجة الإسلام، فإذا بلغ الصبي، وأعتق العبد ووجد إليه سبيلاً
يجب عليهما، هكذا قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعطاء،
والنخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وأبو ثور، والأعرابي محمول
على أنه حج قبل إسلامه ثم أسلم وهاجر وحج بعده، وإنما أوجب عليه الإعادة
لأنه كان جاهلا بأحكام الحج وكانوا يحجون في ذي القعدة ولا يعتد به.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الحج م: (عبادة، والعبادات بأسرها موضوعة عن
الصبيان) ش:
(4/142)
بأسرها موضوعة عن الصبيان، والعقل شرط لصحة
التكليف، وكذا صحة الجوارح؛ لأن العجز دونها لازم،
والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحج عند
أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، وقد مر في كتاب الصلاة،
وأما المقعد، فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لارتفاع القلم عنهم إلى وقت البلوغ، وأما العبد فإنه يجب عليه الصلاة
والصوم، ولا يجب الحج لأن الحج لا يتأدى بدون المال غالباً، ولا يملك العبد
شيئا وإن ملك، وفي الصلاة والصوم نفي عن أصل الحرية م: (والعقل شرط لصحة
التكليف) ش: هذا لبيان قوله العقلاء، وقوله: م: (وكذا صحة الجوارح) ش:
لبيان قوله: الأصحاء، أي: وكذا صحة الجوارح شرط؛ لأنه لا تكليف بدون الوسع،
ولهذا لا يجب على من لا صحة له في جوارحه كما بينته الآن مفصلاً م: (لأن
العجز دونها لازم) ش: أي دون الصحة؛ لازم والعاجز لا يجب عليه إلا في ماله
إذا كان له مال مقدار ما يحج به وعنه غيره.
[حكم حج الأعمى والمقعد]
م: (والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحج
عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وبه قال مالك، وأراد بمؤنة
سفره: من يقوده إلى الحج، وأراد بالزاد الذي يكفيه ذهاباً وإياباً،
وبالراحلة النجيب أو النجيبة من الإبل، ولا يشترط الراحلة في أهل مكة ومن
حولها، وقيل: يشترط لأن المشي إلى عرفة أربعة فراسخ، وفيه: حرج ولا يجب
عليه الحج في قوله المشهور، وذكر الحاكم الشهيد في " المنتقى " أنه يلزمه،
وفي " فتاوى قاضي خان "، و " الذخيرة "، أما لو وجد الأعمى زاداً وراحلة،
ولم يجد قائداً لا يلزمه الحج بنفسه في قولهم، وهل يجب الإحجاج عنه بالمال
عند أبي حنيفة لا يجب وعندهما يجب.
م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد فإنه يجب عليه عندهما، وذكر شيخ
الإسلام يلزمه قياساً على الجمعة، وبقولهما قال الشافعي، وأحمد م: (وقد مر
في كتاب الصلاة) ش: أي وقد مر الكلام في هذه المسألة في كتاب الصلاة في باب
الجمعة.
م: (وأما المقعد، فعن أبي حنيفة أنه) ش: أي الحج م: (يجب عليه) ش: وبه قال
الشافعي، وأحمد، وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
-، والمشهور عنه خلاف ذلك، وفي " المفيد ": لا يجب على الصبي، والعبد،
والمجنون، والكافر، والمقعد، والزمن، والأعمى، والمريض، والمحبوس، ومن لا
يملك الزاد والراحلة، فإن وجد الأعمى قائداً، أو المقعد، والزمن من يحمله
إما بملك أو إعارة، أو إجارة لا يجب عليه عند أبي حنيفة، وعندهما يجب على
الأعمى دون المقعد والزمن، وفي " مناسك الكرماني ": لا يجب على المعضوب
بالعين المهملة، والضاد المعجمة وهو الذي لا يستمسك على الراحلة إلا بمشقة
وكلفة عظيمة من كبر سن، أو ضعف بين، أو معللة الشلل والفالج، أو مقطوع
اليدين أو الرجلين، أو كان
(4/143)
لأنه يستطيع بغيره، فأشبه المستطيع
بالراحلة، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب لأنه غير قادر على
الأداء بنفسه، بخلاف الأعمى لأنه لو هدي يؤدي بنفسه فأشبه الضال عنه،
ولا بد من القدرة على الزاد والراحلة، وهو قدر ما يكتري به شق محمل، أو رأس
زاملة، وقدر النفقة ذاهبا وجائيا؛ «لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - سئل عن السبيل إليه، فقال: الزاد والراحلة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محبوساً آيساً من الخلاص، وتجب في أموالهم دون أبدانهم.
وفي الوبري: لو أحج صاحب العلة غيره ثم زالت يقع تطوعاً، وإن أحج غيره ثم
عجز، ومات، لا يجزئه عن حجة الإسلام، ولو حج الفقير [.....] ماشياً سقط عنه
حجة الإسلام، حتى لو استغنى بعد ذلك لا يلزمه ثانيا، ولو أحج غيره لا يسقط
عنه، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجوز، وعن أحمد روايتان.
م: (لأنه يستطيع بغيره، فأشبه المستطيع بالراحلة) ش: أي لأن المقعد يستطيع
أن يؤدي أفعال الحج، بأن يحمله شخص فيؤدي المناسك به، فيصير حينئذ
كالمستطيع بالراحلة.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب لأنه غير قادر على الأداء
بنفسه، بخلاف الأعمى لأنه) ش: أي لأن الأعمى م: (لو هدي) ش: على صيغة
المجهول، أي لو أرشد م: (يؤدي بنفسه فأشبه الضال عنه) ش: أي فأشبه الأعمى
الضال، أي التائه عن الطريق والتهدي إلى المشاعر والمواقيت والمطاف، فإنه
يجب الحج عليه؛ لأنه قادر لسلامته لكنه يحتاج إلى مرشد، وكذلك الأعمى حاصله
لا يسقط عنه، كما لا يسقط عن الضال.
[الاستطاعة من شروط وجوب الحج]
[ما تتحقق به الاستطاعة في الحج]
م: (ولا بد من القدرة على الزاد والراحلة) ش: هذا شرح قوله في أول الكتاب
إذا قدر على الزاد والراحلة، ثم فسر الزاد، والراحلة بقوله: م: (وهو قدر ما
يكتري به شق محمل) ش: بفتح الميم الأولى، وكسر الثانية، أي جانبيه؛ لأن له
جانبين، ويكفي للراكب أحد جانبيه م: (أو رأس زاملة) ش: الزاملة البعير الذي
يحمل عليه المسافر متاعه وطعامه، ومن زمل الشيء إذا حمله، يقال لها:
بالفارسية - شبد ماري -.
م: (وقدر النفقة) ش: أي ولا بد من قدر النفقة حال كونه م: (ذاهبا وجائيا)
ش: يعني ذاهباً إلى مكة وجائياً إلى وطنه حال كونه م: (راكباً) ش: وفي "
شرح الطحاوي "، و " روضة الناطفي "، وذاهبا وجائياً وراكباً لا ماشيا بنفقة
وسط بلا إسراف ولا تقتير م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -)
ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «سئل عن السبيل
إليه، فقال: الزاد والراحلة» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، روى
(4/144)
وإن أمكنه أن يكتري عقبة فلا شيء عليه،
لأنهما إذا كانا يتعاقبان لم توجد الراحلة في جميع السفر. ويشترط أن يكون
فاضلا عن المسكن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديثه الترمذي، وابن ماجه عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن
جعفر المخزومي عن ابن عمر قال: «قام رجل فقال: يا رسول الله من الحاج،
فقال: " الشعث التفل "، فقام آخر: فقال: أي الحج أفضل؟ فقال: " العج والثج
" فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟. قال: " الزاد والراحلة» ، قال
الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي، وقد تكلم
فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه انتهى.
قال في " الإمام ": وقال النسائي: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال
مرة: ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك الحديث، وعن ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - روى حديثه ابن ماجه من حديث عكرمة عنه أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الزاد والراحلة، يعني قوله: {مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [البقرة: 97] » .
وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى عن ابن عباس قال: «قيل: يا رسول الله الحج
كل عام؟ قال: " لا " قيل: فما السبيل إليه؟ قال: " الزاد والراحلة» وعن أنس
روى حديثه الحاكم في " مستدركه " عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس «في
قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [البقرة: 97] (آل عمران: 97) ، قيل: يا رسول
الله ما السبيل؟ قال: " الزاد والراحلة» قال: صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه.
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - روى حديثها الدارقطني، قالت: «سأل
رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قوله: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [البقرة: 97] ... الآية، قال: " السبيل:
الزاد والراحلة» .
وعن جابر روى حديثه الدارقطني أيضاً، من حديث عمرو بن دينار عن جابر بن عبد
الله بلفظ حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعن ابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - روى حديثه الدارقطني أيضاً من رواية إبراهيم عن حماد بن
أبي سليمان، قال: إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود بنحوه، وعن عبد الله بن
عمرو بن العاص بنحوه.
م: (وإن أمكنه أن يكتري عقبة فلا شيء عليه) ش: أي إن أمكن من يريد الحج أن
يكتري عقبة، أي ركوبة، وأكثر العقبة أن يكتري رجلان بعيراً واحداً يتعاقبان
عليه في الركوب يركب كل واحد مرحلة ويمشي مرحلة، قوله: فلا شيء عليه، أي
فلا حج عليه.
م: (لأنهما) ش: أي لأن الرجلين اللذين يريدان الحج م: (إذا كانا يتعاقبان
لم توجد الراحلة في جميع السفر) ش: والشرط أن تكون الراحلة في جميع السفر
م: (ويشترط أن يكون فاضلا عن المسكن) ش: هذا بيان لقوله في أول الكتاب: إذا
قدروا على الزاد والراحلة، فاضلاً عن المسكن، أي يشترط أن يكون ما قدروا به
من الزاد والراحلة فاضلاً عن مسكنه الذي يسكن فيه.
(4/145)
وعما لا بد منه كالخادم، وأثاث البيت،
وثيابه؛ لأن هذه الأشياء مشغولة بالحاجة الأصلية، ويشترط أن يكون فاضلا عن
نفقة عياله إلى حين عوده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: وهو هناك منصوب على الحال من الزاد والراحلة، انتهى.
قلت: أخذ الأكمل هذا من كلام صاحب " النهاية "، ولكن ما كمل كلامه، فإنه
قال هناك في أول الكلام: فاضلاً عن المسكن حال من الزاد والراحلة سواء،
وكان حقه أن يقال: فاضلين لكن أفرده على تأويل كل واحد منهما، انتهى. قلت:
الأحسن أن يكون فاضلاً هناك منصوباً على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره إذا
قدروا على الزاد والراحلة أن يكون بطريق الملك أو الاستئجار على وجه يفضل
قدر ذلك الملك، والاستئجار عن حاجته الأصلية، فإن المال المشغول بالحاجة
الأصلية في حكم العدم، فلا يكون به مستطيعاً.
وفي " التحفة ": وهذا إذا قدر عليهما، أي على الزاد، والراحلة بطريق الملك
لا بطريق الإباحة والعارية، سواء كانت الإباحة من جهته لا منة له،
كالوالدين، والمولودين، أو من جهة المنة كالأجانب، وبه قال أحمد، وقال
الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن كانت من جهة لا منة له يجب عليه، وإن
كان من جهة الأجنبي فله فيه قولان، أما لو وهبه إنسان مالاً ليحج به لا يجب
عليه القبول عندنا، وبه قال أحمد والشافعي فيه قولان في " الإيضاح ": ذكر
ابن شجاع إذا كان له داراً لا يسكنها، وعبد لا يستخدمه، وما أشبه ذلك يجب
عليه أن يبيعه ويحج به ويحرم عليه الزكاة إذا بلغ نصاباً، انتهى.
قلت: فكذلك قيد بقوله: فاضلاً عن المسكن.
م: (وعما لا بد منه) ش: أي يشترط أيضاً أن يكون الزاد والراحلة فاضلتين عما
لا بد منه م: (كالخادم، وأثاث البيت) ش: قال الجوهري: الأثاث متاع البيت
كالفرش والبسط وآلات الطبخ ونحو ذلك م: (وثيابه) ش: أي الثياب التي يلبسها
هو م: (لأن هذه الأشياء مشغولة بالحاجة الأصلية) ش: والمشغول بالحاجة
الأصلية في حكم العدم، وذكر في " فتاوى قاضي خان " فاضلاً عن فرسه وسلاحه،
وقال بعض العلماء: إن كان الرجل تاجراً يملك ما لو وقع منه الزاد والراحلة
لذهابه وإيابه ونفقة أولاده وعياله من وقت خروجه إلى وقت رجوعه ويبقى بعد
رجوعه رأس مال التجارة التي كان يتجر بها كان عليه الحج وإلا فلا.
وإن كان حراثاً يملك ما يكفي الزاد والراحلة وتبقى له آلات الحراثين من
البقر ونحو ذلك كان عليه الحج، وإلا فلا، هذا كله إذا كان آفاقياً، وأما إن
كان مكياً، أو ساكناً بقرب مكة كان عليه الحج، وإن كان فقيرا لا يملك
الزاد، والراحلة.
م: (ويشترط أن يكون فاضلا عن نفقة عياله) ش: هذا أيضاً بيان لقوله في أول
الكتاب، وعن نفقة عياله م: (إلى حين عوده) ش: العيال جمع عيل، كجياد وجيد،
كذا في " المغرب "، وذكره
(4/146)
لأن النفقة حق مستحق للمرأة. وحق العبد
مقدم على حق الشرع بأمره. وليس من شرط الوجوب على أهل مكة ومن حولهم
الراحلة؛ لأنهم لا تلحقهم مشقة زائدة في الأداء فأشبه السعي إلى الجمعة،
ولا بد من أمن الطريق؛ لأن الاستطاعة لا تثبت دونه. ثم قيل: هو شرط الوجوب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في باب الواو، فيدل على أنه أجوف واوي، يقال: عيال عال عياله عالهم وأنفق
عليهم، وعيال الرجل من عليه نفقته، ولكن قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فاضلاً عن نفقة عياله، ثم تعليله بقوله م: (لأن النفقة حق مستحق للمرأة) ش:
يدل على أن المراد من عياله هو امرأته.
وأيضاً قال: م: (وحق العبد مقدم على حق الشرع بأمره) ش: يدل على ذلك، ولكن
ليس المراد من العيال المرأة وحدها، وقد قال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ
-: فاضلاً عن نفقة عياله، وأولاده الصغار، وإنما كان حق المرأة مقدما على
حق الشرع يعني على حق الله تعالى في أحكام الدنيا لحاجة العبد، وغنى الله -
عز وجل - قوله: بأمره، أي بأمر الشرع، والباء تتعلق بقوله: مقدم ولم يقدر
النفقة بمدة معلومة؛ لأن مدة السفر تختلف باختلاف المواضع فقدروا ذلك
مطلقاً قدر مضيه وعوده.
وقال الكاكي: ثم قدر النفقة مرة شهراً، ومرة سنة على حسب اختلاف المسافة،
وعن أبي يوسف: ونفقة شهر بعد عوده، قال المرغيناني: ليستريح شهراً عن
التكسب، وفي " المحيط ": عن أبي عبد الله، ونفقة يوم بعد رجوعه إلى وطنه؛
لأنه يتعذر عليه التكسب في يوم قدومه، وقال الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
ويحسب نفقة الحقارة.
م: (وليس من شرط الوجوب على أهل مكة ومن حولهم الراحلة؛ لأنهم) ش: أي لأن
أهل مكة، وأهل من كانوا حولها م: (لا تلحقهم مشقة زائدة في الأداء فأشبه
السعي إلى الجمعة) ش: في عدم اشتراط الراحلة م: (ولا بد من أمن الطريق؛ لأن
الاستطاعة لا تثبت دونه) ش: هذا بيان قوله في صدر الكتاب، إذا كان الطريق
آمناً، والمراد من أمن الطريق أن يكون الغالب فيه السلامة، ولو كان بينه
وبين مكة بحر يلزمه الحج عندنا، ولا يلزمه عند أبي يوسف، والشافعي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال عامة أصحابنا: لا يلزمه ذكره في قاضي خان وغيره، وقيل: إن كان التجارة
هو الغالب يجب، وبه قال أحمد، وإسحاق، والإصطخري من أصحاب الشافعي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: والصحيح أنه لا يجب بكل حال، وبه قال بعض أصحاب الشافعي
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأن كل أحد لا يقدر على ركوب البحر والفرات
والدجلة، وسيحون، وجيحون أنهار، وليست ببحار، وقال بعض أصحاب الشافعي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن كان الرجل ممن يعتاد ركوب البحر كالملاحين وأهل
الجزائر لا يمنع الوجوب، وإلا يمنع لصعوبته عليه، وفي " الحلية ": نص في "
الأم " أن البحر مانع من الوجوب.
م: (ثم قيل: هو) ش: أي الأمن م: (شرط الوجوب) ش: عند البعض، وهو رواية أبي
شجاع
(4/147)
حتى لا يجب عليه الإيصاء، وهو مروي عن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقيل: هو شرط الأداء دون الوجوب، لأن النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة لا غير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أبي حنيفة أنه شرط الوجوب عند البعض، وهو رواية. وقال الشافعي، والكرخي،
وأبو حفص الكبير من أصحابنا م: (حتى لا يجب عليه الإيصاء، وهو مروي عن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هذا ثمرة هذا القول، يعني لما كان أمن
الطريق شرط الوجوب لا تجب عليه الوصية بالحج؛ لأنه لم يجب عليه الحج لعدم
الشرط وهو الأمن.
م: (وقيل: هو) ش: أي أمن الطريق م: (شرط الأداء دون الوجوب) ش: وبه قال
أحمد، وهو الصحيح م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فسر
الاستطاعة بالزاد والراحلة لا غير) ش: يعني لمن يذكر أمن الطريق، فلو كان
شرطاً لبينه؛ لأن تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز. وفي " الإيضاح ": ثم
الفرق بين الزاد والراحلة يتحقق، فإذا عدما لم يثبت الاستطاعة، وأما خوف
الطريق فيعجزه عن الأداء بمانع ومعارض، فلا تنعدم الاستطاعة به، واعتبر هذا
بالمحبوس، فإن المقيد الممنوع عن الشيء لا يكون نظير المريض لا يقدر وعلى
هذا القول يجب عليه الإيصاء.
وفي " القنية " و " المجتبى ": قال الوبري: للقادر على الحج أن يمتنع من
المكس الذي يؤخذ من القافلة، وبه قال الشافعي ومالك، إن كان يسيراً لزمه،
وكذلك لو كان في الطريق خفارة، وقال غير الوبري: يجب الحج، وإن علم أنه
يأخذ منه المكس. قال " صاحب القنية "، و " المجتبى ": وعليه الاعتماد، وفي
" منية المفتي ": لو قتل بعض الحاج فهو عذر في تركه، وقال نجم الأئمة
الحليمي، وأبو الليث: إن كان الغالب في الطريق السلامة تجب، وإن كان خلاف
ذلك لا يجب عليه الاعتماد، ذكره في " القنية "، وفي " مناسك الكرماني " -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان الغالب الانهزام، والخوف، وقطع الطريق لا يجب.
وفي " البدائع " إن كان بينه وبين مكة بحر حاجز، ولا سفينة ثمة، أو عدو
حائل لا يجب. وفي " شرح المهذب " للنووي: شرط الأمن في ثلاثة أشياء، النفس،
والمال، والصبغ في حق النساء، ولا يشترط أن يكون كأمن الحضر، بل يشترط أمن
يليق بالبادية، ويكره بذل المال للمرصدين في المراصد، ولا يجب الحج مع ذلك،
وإن استأجروا من يحضرهم في الطريق وجهان في وجوب الحج.
ويخرج للحج بغير إذن والديه إذا كان الطريق آمناً، وفي ركوب البحر لا يخرج
إلا بإذنهما، وبإذن أحدهما لا يخرج، وإذا كانا كافرين، أو أحدهما مسلم
وكرها خروجه، أو الكافر منهما إن لم يخف الضياع عليه، فإن خافه لا يخرج،
وعند عدم الأبوين: الإذن إلى الجدين من قبل أبويه، والجدة من قبل أمه. وسئل
الكرخي عمن وجب عليه الحج إلا أنه لا يخرج إلا أن القرامطة تدل على الناس
بالبادية، فقال: ما سلمت البادية عن أحد، يعني أن ذلك
(4/148)
قال: ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم
تحج به، أو زوج، ولا يجوز لها أن تحج بغيرهما، إذا كان بينها وبين مكة
مسيرة ثلاثة أيام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليس بعذر، والبادية لا تخلو عن الآفات كقلة الماء، وشدة الحر، وهيجان ريح
السموم، وبه أفتى بعض أصحابنا.
وقال أبو القاسم الصفار - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أشك في سقوط الحج عن
النساء في زماننا، وإنما أشك في سقوطه عن الرجال، والبادية عندي دار الحرب،
وعند أبي حنيفة، وأبي عبد الله البلخي: ليس على أهل خراسان حج، وقال أبو
بكر الإسكاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أقول الحج فريضة في زماننا، قاله سنة
ست وعشرين وثلاثمائة، وأفتى أبو بكر الرازي ببغداد، قيل: سقط الحج عن
الرجال أيضاً في هذا الزمان، وبه قال الوبري، والبرهان الصغير بخوارزم وأبو
الفضل الكرماني بخراسان، وعن الشيخ أبي بكر الوراق أنه خرج حاجاً، فلما
سافر مرحلة قال لأصحابه: ردوني أرتكب سبعمائة كبيرة في مرحلة واحدة، فردوه.
[اشتراط الزوج أو المحرم للمرأة في الحج]
م: (قال: ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم تحج به، أو زوج) ش: وفي أكثر
النسخ، قال: ويعتبر، أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويعتبر في
المرأة.. إلخ، وسواء كانت المرأة شابة، أو عجوزة، قاله في قاضي خان،
والولوالجي، وصفة المحرم كل من لا تجوز مناكحتها على التأبيد بأي وجه كانت
الحرمة بقرابة أو رضاع أو صهرية؛ لأن الحرمة تزيل التهمة، والعبد والحر
والذمي فيه سواء، إلا أن يكون مجوسياً يفسد نكاحها فلا يسافر بها معه، ولا
يجب عليها أن تتزوج ليحج معها، كما لا يجب على الفقير اكتساب المال لأجل
الحج.
وقال محب الدين الطبري: وافق أبو حنيفة في اشتراط المحرم، أو الزوج أصحاب
الحديث، وهو قول النخعي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وابن
حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأحد قولي الشافعي، وقال ابن المنذر: والمحرم لها
من السبيل، وقال البغوي من الشافعية: المنقول باشتراط المحرم أولى، واتفقوا
على أنها لا تخرج بغير محرم في غير الفرض، وقال ابن سيرين: تخرج مع رجل من
المسلمين، وقال حماد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس أن تسافر مع قوم صالحين
بغير محرم.
م: (ولا يجوز لها أن تحج بغيرهما) ش: أي بغير المحرم والزوج يعني بغير واحد
منهما، ولا يشترط كونهما معاً م: (إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة
أيام) ش: وقيل أقل من ذلك يجوز على ما يجيء عن قريب.
قيل: لما سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السبيل فسره
بالزاد والراحلة، ولم يذكر المحرم، فلو كان شرطاً لذكره.
وأجيب: بأن السائل كان رجلا.
(4/149)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز
لها الحج إذا خرجت في رفقة، ومعها نساء ثقات لحصول الأمن بالمرافقة. ولنا
قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تحجن امرأة إلا ومعها
محرم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: جاء في الحديث: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» .
وأجيب: بأن المراد به حضور الجماعة، ولم يرد الحج، بدليل سياق الخبر،
وبيوتهن خير لهن.
وقيل: جازت لها الهجرة إلى دار الإسلام بلا محرم، فينبغي أن يجوز الحج.
وأجيب: بأن خوفها في القيام في دار الحرب أكثر من خوف الطريق.
م: (وقال الشافعي: يجوز لها الحج إذا خرجت في رفقة، ومعها نساء ثقات لحصول
الأمن بالمرافقة) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " شرح الوجيز
": هل يشترط أن يكون مع واحدة منهن محرم، فيه وجهان، نعم وبه قال القفال،
وأصحهما: لا، وإن لم تجد نساء ثقات لم يكن لها الحج، هذا ظاهر المذهب،
ورواه قولان: أحدهما: أن تخرج مع المرأة الواحدة، ذكره في " الإملاء "،
واختار جماعة من الأئمة أن عليها أن تخرج وحدها إذا كان آمنا، وحكي هذا عن
الكرابيسي، وهو قول الأوزاعي.
وأما في حج النفل فالأصح أن لا تخرج مع النساء وحدها، وفي السروجي: وقال
الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول تخرج مع نساء ثقات ولا تخرج مع
واحدة وإن أمنت. وفي قول: تخرج مع واحدة، وفي قول: تخرج وحدها، وقال مالك -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " المدونة ": تخرج بلا محرم مع رجال مؤتمنين،
وفي المرأة الواحدة المأمونة لا يشترط المحرم، ولا الزوج.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا تحجن امرأة إلا ومعها محرم» ش:
هذا الحديث رواه البزار في " مسنده "، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم
عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع معبداً مولى ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا تحج امرأة إلا ومعها محرم " فقال رجل: يا نبي الله إني
اكتتبت في غزوة كذا، وامرأتي حاجة، قال: " ارجع فحج معها» ورواه الدارقطني
في سننه " عن حجاج عن ابن جريج به، ولفظه: قال: «لا تحجن امرأة إلا ومعها
ذو محرم» .
(4/150)
ولأنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة،
وتزداد بانضمام غيرها إليها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة أن تحج إلا مع زوجها أو
محرم» ، وأخرج البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسافر امرأة ثلاثاً إلا ومعها زوج أو ذو
محرم» وأخرجا عن أبي هريرة مرفوعا: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم
الآخر أن تسافر يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها» وفي لفظ لمسلم: "
ثلاثاً "، وفي لفظ له: " فوق ثلاث "، وفي لفظ له: " ثلاثة أيام فصاعداً "،
وأخرجا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعاً: «لا تسافر
المرأة إلا مع ذي محرم» ولم يوقت فيه شيئاً.
وقال المنذري: ليس في هذه الروايات تباين، ولا اختلاف، فإنه يحتمل أن يكون
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالها في مواطن مختلفة بحسب
الأسئلة، ويحتمل أن يكون ذلك كله تمثيلاً لأقل الأعداد، واليوم الواحد أول
العدد، وأقله الاثنان أول الكثير، والثلاث أول الجمع، وكأنه أشار أن مثل
هذا في كل الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير محرم، فكيف بما زاد؟ وقد أورد
الأترازي بحديث أبي هريرة المذكور سؤالاً وهو: أنه يدل على أن خروجها إلى
السفر بغير محرم لا يجوز، ثم أجاب بما تلخيصه بأن الأحاديث إن كانت مؤخرة
التزمه نسخ ما دون الثلاث، وإن كانت مقدمة يبقى العمل أيضاً إلى آخر ما
ذكر.
قلت: دعوى النسخ لا تصح لعدم العلم بالتاريخ، والجواب ما ذكرناه.
م: (ولأنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة، وتزداد بانضمام غيرها إليها) ش:
فإن المبتوتة إذا اعتدت في بيت الزوج بحيلولة جاز لم يكن انضمامها إليها
فتنة، أجيب بأن انضمام المرأة إليها يعينها على ما يراد بمباشرتها وتعليمها
ما عسى تعجز عنه بفكرها، وإنما لم يكن في المعتدة كذلك؛ لأن الإقامة موضع
أمن، وقدرة على دفع الفتنة.
وقال الأكمل: وفيه نظر؛ لأن مثلها لا يعد ثقة، والكلام فيها؛ ولأن جواب
المسند يناقض جواب المنع، والأولى أن يقال: من ناقصات دين وعقل لا يؤمن أن
تنخدع فيكون عليها في الإفساد، ويتوسط في التطمين، والتمكين فتعجز عن دفعها
في السفر، وهذا المعنى معدوم في الحضر لإمكان الاستعانة.
وأورد الكاكي إشكالاً في قوله: يخاف عليها أي الفتنة، وهو أنه يشكل على هذا
سفر المهاجرة؛ لأن لها الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام بغير محرم، مع
أن الهجرة ليست من أركان الدين والحج منها، فينبغي أن يجوز لها الحج بغير
محرم بالطريق الأولى.
قلت: قد مر جوابه عن قريب مختصراً، ونعيده هنا فنقول: المهاجرة لا [....]
السفر، ولكنها تقصد النجاة، ألا ترى أنها إذا وصلت إلى حي من المسلمين من
دار الحرب صارت آمنة ليس لها بعد ذلك أن تسافر بغير محرم؛ ولأنها مضطرة
هناك لخوفها على نفسها، ألا ترى أن
(4/151)
ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية، وإن كان معها
غيرها، بخلاف ما إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام؛ لأنه يباح لها
الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العدة لا تمنعها من الخروج هناك لو كانت معتدة لم يكن لها أن تخرج للحج،
وتأثير فقد المحرم في المنع من السفر كتأثير العدة، فإذا منعت من الخروج
لسفر الحج بسبب العدة فكذلك بسبب فقدان المحرم.
م: (ولهذا تحرم الخلوة) ش: أي ولأجل زيادة الفتنة بانضمام المرأة إليها
تحرم الخلوة على الزوج م: (بالأجنبية) ش: أي بالمرأة الأجنبية م: (وإن كان
معها غيرها) ش: أي مع الأجنبية غير الأجنبية.
فإن قلت: إذا شهد على الزوج بطلاق امرأته ثلاثا، قلتم يحال بينها وبينه
بامرأة ثقة حتى تزكي الشهود، وكذا قلتم بالحيلولة بثقة في الطلقات الثلاث
إذا اعتدت في بيت الزوج فما جعلتم انضمام المرأة إلى المرأة فتنة؟
أجيب بأن الإقامة بموضع أحسن من الأمنية تقدره على دفعه في مثله، بخلاف
السفر فإنه مظنة العجز عن الدفع مع أن النص فرق بينهما.
م: (بخلاف ما إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام) ش: هذا متصل
بقوله: ولا يجوز لها أن تخرج بغيرهما، يعني يباح لها الخروج بدونهما، أي
بدون الزوج والمحرم م: (لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم)
ش: فإن قلت: ما تقول في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور
عن قريب.
أجاب الأترازي: بأن الخبر الذي يكون معمولاً به بوجهين أولى بالأخذ من
الخبر الذي يكون معمولاً به من وجه، أراد أن الخبر الذي فيه الثلاث معمول
به بالوجهين، يعني في الثلاث وفيما دونه معمول به من وجه، وقيل: فيما دون
مسافة القصر اضطراب كثير. وقال المرغيناني: اختلف فيما دون مسافة القصر،
قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكره لها أن تسافر يوماً، وهكذا عن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: روى البخاري من حديث عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يوشك أن تخرج الظعينة
من الحيرة تؤم البيت لا محرم معها، لا تخاف إلا الله " قال عدي: رأيت
الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، ولم يذكر لها
محرماً ولا زوجاً» والحيرة بكسر الحاء المهملة قرية بقرب الكوفة، والنسبة
إليها حيري، وحاري على غير قياس، والجو بضم الجيم، وكسرها الذمام.
قلت: حديث عدي هذا يدل على الوقوع، ولا يدل على الجواز بوجه من وجوه
الدلالة
(4/152)
وإذا وجدت محرما لم يكن للزوج منعها، وقال
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أن يمنعها؛ لأن في الخروج تفويت حقه.
ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض، والحج منها، حتى لو كان الحج نفلا
له أن يمنعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمطابقته، ولا بالتزامه؛ لأنه ورد في معرض الثناء على الزمان بالأمن
والعدل، وذكر خروج المرأة على ذلك بلا خفير لبيان الاستدلال عليه، ولا
يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ لأنا نقول: ما أخره بل بين حرمة
خروجها في عدة أحاديث صحيحة ثابتة؛ ولأن الظعينة هي المودع، والمرأة
الراكبة، والغالب أنها لا تسافر في هذا السفر البعيد مع هودجها، وحملها إلا
ومعها من يحملها على جملها، ويركبها هودجها، ويخدمها ويخدم جملها، والغالب
كالمتحقق.
فإن قلت: احتج الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما روي عن عمرة بنت عبد
الرحمن أنها قالت: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأخبرت أن أبا
سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخبر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثة أيام إلا
ومعها محرم» فالتفتت إلينا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالت: ما كلهن
لها محرم، وعن ابن عمر أنه سافر مع مولاة ليس هو بمحرم لها، ولا لها محرم،
وما ورد من الخبر في نهي المرأة عن السفر محمول على الأسفار المباحة، فإنه
لا يجوز السفر المباح لها عندنا بلا محرم في وجه، وفي وجه سفر الحج، والأول
أصح عند الراويين من أصحابه.
قلت: قال الكاكي وغيره: والعجب من الشافعي أنه لم يعمل بالأحاديث الصحاح
المشهورة، ويعمل بأثر عائشة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مع
شذوذهما، وعدم دلالتهما على عدم اشتراط المحرم، مع أن الأثر غير حجة عنده،
وأثر عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يدل على تعجبها، وأثر ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يحتمل أن يكون قبل بلوغ الخبر إليه، وحملهم
الحديث على الأسفار المباحة بعيد، لما روي من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: " انطلق حج مع امرأتك ".
م: (وإذا وجدت محرما لم يكن للزوج منعها) ش: وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو
ثور، وإسحاق، وهو قول إبراهيم النخعي، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-: لا يمنعها على القول بالفور، وفي القول بالتراخي قولان. وقال ابن المنذر
في " الأشراف ": لا نعلم أنهم يختلفون أنه ليس له منعها.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أن يمنعها) ش: في أظهر القولين
م: (لأن في الخروج) ش: أي في خروج المرأة إلى سفرها م: (تفويت حقه) ش: أي
حق الزوج.
م: (ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض) ش: ألا ترى أنه لا يمنعها من
صيام رمضان، والصلوات م: (والحج منها) ش: أي من الفرائض م: (حتى لو كان
الحج نفلا له أن يمنعها) ش: ولهذا
(4/153)
ولو كان المحرم فاسقا، قالوا: لا يجب
عليها؛ لأن المقصود لا يحصل به ولها أن تخرج مع كل محرم إلا أن يكون
مجوسيا؛ لأنه يعتقد إباحة مناكحتها، ولا عبرة بالصبي والمجنون؛ لأنه لا
تتأتى منهما الصيانة. والصبية التي بلغت حد الشهوة بمنزلة البالغة، حتى لا
يسافر بها من غير محرم، ونفقة المحرم عليها؛ لأنها تتوسل به إلى أداء الحج.
واختلفوا في أن المحرم شرط الوجوب، أو شرط الأداء على حسب اختلافهم في أمن
الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان له أن يحللها من ساعته، ولكن لا يؤخر تحليلها إلى ذبح الهدي، ويحللها
من ساعته، وعليها هدي لتعجيل الإحلال، وعمرة، وحجة لصحة الشروع، بخلاف حجة
الإسلام فإنه هناك لا يتحلل إلا بالهدي، وتحليله لها إن سماها، ويصنع بها
ما يحرم عليها في الإحرام من قص ظفرها، ولا يكون التحلل بالنهي، ولا بقوله:
حللتك.
م: (ولو كان المحرم فاسقا، قالوا) ش: أي علماؤنا م: (لا يجب عليها) ش: أي
لا يجب الحج على المرأة م: (لأن المقصود) ش: حفظها عن الوقوع في سوء، وهو
م: (لا يحصل به) ش: أي بالفاسق لاحتمال الفتنة منه م: (ولها) ش: أي للمرأة
م: (أن تخرج مع كل محرم) ش: يعني سواء كان حراً أو عبداً، مسلماً أو ذمياً،
لأن الذمي يحفظ محارمه، وإن كن مسلمات م: (إلا أن يكون) ش: أي المحرم م:
(مجوسيا؛ لأنه يعتقد إباحة مناكحتها) ش: ولا يؤمن عليها.
م: (ولا عبرة بالصبي ولا بالمجنون؛ لأنه لا تتأتى منهما الصيانة) ش: لأنهما
لا يصونان أنفسهما، فكيف يصونان غيرهما م: (والصبية التي بلغت حد الشهوة)
ش: احترز به عن الصبية التي لا يشتهى مثلها؛ لأنها تسافر بها من غير محرم
م: (بمنزلة البالغة، حتى لا يسافر بها من غير محرم) ش: لأنه يطمع فيها، ولا
يؤمن من وقوع الفساد عليها.
م: (ونفقة المحرم عليها) ش: أي على المرأة م: (لأنها تتوسل به) ش: أي
بالمحرم م: (إلى أداء الحج) ش: وبه قال أحمد، وقال صاحب " التحفة ": إذا لم
يخرج المحرم إلا بنفقة منها هل تجب عليها نفقته، ذكر في شرح القدوري -
رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما تجب عليها نفقته؛ لأنها لا تتمكن من الحج إلا
بالمحرم، كما لا تتمكن إلا بالزاد والراحلة، وذكر في " شرح الطحاوي " -
رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يجب عليها نفقته، ولا يجب عليها الحج. وفي "
التجريد ": قال أبو حفص - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب عليها الحج حين يخرج
المحرم بمال نفسه، وفي القدوري: تنفق على محرمها للحج بها، وفي المرغيناني:
لا تجب نفقة المحرم، أو الزوج عليها، وفي " المبسوط ": عن محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - لا تجب نفقة المحرم عليها، وفي " القنية ": كل من قال: المحرم
يمنع الوجوب، هو الصحيح لقوله: لا تجب نفقة المحرم عليها، وعند الشافعي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجب الحج عليها حتى تجد رفيقاً محرماً أو نسوة
ثقات، ولو بأجرة على الأظهر.
م: (واختلفوا في أن المحرم شرط الوجوب، أو شرط الأداء على حسب اختلافهم في
أمن الطريق)
(4/154)
وإذا بلغ الصبي بعدما أحرم، أو أعتق العبد
فمضيا لم يجزهما عن حجة الإسلام؛ لأن إحرامهما انعقد لأداء النفل فلا ينقلب
لأداء الفرض. ولو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف، ونوى حجة الإسلام جاز،
والعبد لو فعل ذلك لم يجزئه؛ لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي اختلف العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيه، فقال: وجود المحرم،
أو الزوج شرط الأداء، فعليها أن تتزوج، ونفقة المحرم عليها، وكذا قال
القاضي أبو حازم عبد الحميد: هو شرط الأداء في رواية أبي شجاع عن أبي حفص
الكبير، والكرخي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط الوجوب، ذكره في "
المحيط "، وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الوصية، ومن شرائط وجوب الحج عليها
خلوها عن العدة، أي عدة كانت، وعند أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا
تخرج في عدتها عن وفاة درجتين، وتخرج في الطلاق البائن.
[حكم بلوغ الصبي وعتق العبد بعد شروعهما في
الحج]
م: (وإذا بلغ الصبي بعدما أحرم، أو أعتق العبد فمضيا) ش: على حجهما م: (لم
يجزهما عن حجة الإسلام؛ لأن إحرامهما انعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء
الفرض) .
ش: فإن قيل: الإحرام شرط عندنا بمنزلة الوضوء للصلاة والصبي إذا توضأ قبل
البلوغ ثم بلغ بالسن تجوز به الصلاة.
قلنا: الإحرام يشبه الوضوء من حيث إنه مفتاح الحج، كما أن الوضوء مفتاح
الصلاة، ونية سائر أعمال الحج من حيث إنه يفعل في أعمال الحج فيكون من هذه
الوجوه ركنا، والأخذ في العبادات بالاحتياط أصل، كذا في " جامع شمس الأئمة
".
وفي " المبسوط ": لو بلغ بعد الإحرام قبل الوقوف، أو الطواف لم يجزئه عن
حجة الإسلام عندنا، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجزئه، وكذا
بناء على ما مضى في كتاب الصلاة، إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره
يجزئه عنه، وجعله كأنه بلغ قبل أدائها، وهاهنا أيضاً نجعله كأنه بلغ قبل
مباشرة الإحرام فتجزئه عن الفرض.
م: (ولو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف ونوى حجة الإسلام جاز) ش: يعني لو
جدد إحرامه بعد البلوغ قبل الوقوف، ونوى حجة الإسلام جاز عن حجة الإسلام م:
(والعبد لو فعل ذلك) ش: أي تجديد الإحرام بعد العتق قبل الوقوف م: (لم
يجزئه) ش: أي عن حجة الإسلام م: (لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية)
ش: ولهذا لو أحصر لا يلزمه قضاء، ولا دم، ولو تناول شيئاً من محظوراته لا
يلزمه شيء، فإذا كان إحرامه غير لازم انفسخ بتجديد الإحرام للفرض لكونه
محتملاً للفسخ، كمن باع عبداً بألف ومائة تنفسخ الأولى ضرورة لا محالة،
وتجديد الثاني لأن البيع كان محتملاً للفسخ.
(4/155)
أما إحرام العبد لازم فلا يمكنه الخروج منه
بالشروع في غيره، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أما إحرام العبد لازم) ش: لأنه من أهل اللزوم لكامل الأهلية فلا يقبل
إحرامه لفضل الانفساخ م: (فلا يمكنه الخروج منه بالشروع في غيره) ش: للزوم
أجزائه، ولهذا لو أصاب صيداً لزمه الصيام لكونه جانياً على إحرامه، فإذا
كان كذلك لا يتمكن من بعد العتق من فسخ ذلك الإحرام.
(4/156)
|