البناية
شرح الهداية باب الحج عن الغير الأصل في هذا الباب أن
الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو غيرها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الحج عن الغير]
[شروط جواز الحج عن الغير]
م: (باب الحج عن الغير)
ش: لما فرغ عن بيان أفعال الحج بنفسه مع عوارضه، شرع في بيان الحج عن غيره
بطريق النيابة. ولما كان الأصل في التصرفات أن تقع عمن تصدر منه، كان الحج
عن الغير خليقًا أن يؤخر في باب على حدة.
م: (الأصل في هذا الباب) ش: أي في باب الحج عن الغير. م: (أن الإنسان له أن
يجعل ثواب عمله لغيره) ش: خلافًا للمعتزلة، فإنهم قالوا: ليس للإنسان ذلك؛
لأن الثواب هو الجنة وهي لله تعالى، ولا يجوز تمليك ملك الغير، وسيجيء الرد
عليهم. م: (صلاة) ش: يعني سواء كان جعل ثواب عمله لغيره صلاة. م: (أو صوما
أو صدقة أو غيرها) ش: كالحج وقراءة القرآن والأذكار، وزيارة قبور الأنبياء
والشهداء والأولياء والصالحين، وتكفين الموتى، وجميع أنواع البر والعبادة،
مالية كالزكاة والصدقة والعشور والكفارات ونحوها، أو بدنية كالصوم والصلاة
والاعتكاف وقراءة القرآن والذكر والدعاء، أو مركبة منهما كالحج والجهاد.
وفي " البدائع ": جعل الجهاد من البدنيات وفي " المبسوط " جعل المال في
الحج شرط الوجوب، فلم يكن الحج مركبًا من البدل.
قيل: هو أقرب إلى الصواب ولهذا لا يشترط المال في حق المكي إذا قدر على
المشي إلى عرفات. فإذا عمل شخص، ثواب ما عمله من ذلك إلى آخره يصل إليه
وينتفع به، حيًا كان المهدى إليه أو ميتا، ومنع الشافعي ومالك - رحمهما
الله - وصول ثواب القرآن إلى الموتى، وثواب الصلاة والصوم وجميع الطاعات
والعبادات غير المالية وجوزا فيها. ويرد عليهما بما رواه الدارقطني «أن
رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال كان لي
أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال له - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك
وأن تصوم لهما مع صيامك» .
وعن علي بن أبي طالب، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«من مر على المقابر فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إحدى
عشرة مرة ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات» رواه
الدارقطني.
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إنا نتصدق عن موتانا
ونحج عنهم وندعو لهم فهل يصل ذلك إليهم، فقال: " نعم، إنه ليصل إليهم
(4/466)
عند أهل السنة والجماعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطريق إذا أهدي إليه» . رواه أبو حفص الكبير.
وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «اقرءوا على موتاكم سورة يس» رواه أبو داود.
وروى الحافظ اللالكائي في " شرح السنة " عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: يموت الرجل ويدع ولدًا، فترفع له درجات، فيقول: ما هذا يا
رب؟ فيقول سبحانه وتعالى: استغفار ولدك. وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] (محمد: الآية
19) . قال: ويستغفرون لمن في الأرض، وكذا استغفار نوح وإبراهيم -
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. وذكر عبد الحق صاحب " الأحكام " في العاقبة عن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغريق ينتظر دعوة
تلحقه من ابنه وأخيه أو صديق له، فإذا لحقته كان أحب من الدنيا وما فيها» .
ولهذا شرع الدعاء للميتة في صلاة الجنازة.
وفي العاقبة أن يصاد بن غالب قال: رأيت رابعة العدوية العابدة في المنام،
وكنت كثير الدعاء لها، فقالت: يا بشر، هديتك تأتينا في أطباق من نور، عليها
مناديل الحرير. وهكذا يأتينا دعاء الأحياء إذا دعوا لإخوانهم الموتى
فاستجيب لهم. ويقال هذه هدية فلان إليك، ومما يدل على هذا أن المسلمين
يجتمعون في كل عصر وزمان ويقرءون القرآن ويهدون ثوابه لموتاهم. وعلى هذا
أهل الصلاح والديانة من كل مذهب من المالكية والشافعية وغيرهم ولا ينكر ذلك
منكر فكان إجماعًا.
م: (عند أهل السنة والجماعة) ش: خلافًا للمعتزلة وفي مذهب أهل العدل
والتوحيد، أن ليس للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره لأن الثواب نعمة دائمة
خالصة مع التعظيم ومعظم ركنه للتعظيم. وبه فارق أغراض الصبيان والمجانين
والبهائم وتعظيم المستحق لغير المستحق قبيح في العقل. ولو جاز أن يجب
العالم أو التقي أو العادل تعظيمه لحامل أو جاهل أو صبي أو حمار، فإنه صح
تعظيمه عقلًا، وإنكاره مكابرة. ولو جاز هذا فالأنبياء أحق الناس بهبة ثواب
أعمالهم لآبائهم وأمهاتهم. وقد علم خلافه بالتواتر حين «قال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وسائر
أولاده وزوجاته: " إني لا أملك يوم القيامة من الله شيئًا، ولا ينفعكم إلا
أعمالكم.» وقال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا
سَعَى} [النجم: 39] (النجم: الآية 39) .
(4/467)
لما روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «أنه ضحى بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته
ممن أقر بوحدانية الله تعالى وشهد له بالبلاغ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: أما قولهم قبيح عقلًا غير مسلم. بل يجوز في العقل تعظيم غير المستحق
بواسطة محبته له. وباعتبار ذلك استحقق تعظيمه. وأما قولهم قد علم خلافه غير
مسلم، ولئن سلم ذلك لقد شرطه أو بالمنع عن الله تعالى. وأما الجواب عن
الآية فبثمانية أوجه:
الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] (الطور: الآية 21) ، أدخل الأبناء الجنة بصلاح
آبائهم، قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
الثاني: خاصة بقوم إبراهيم وقوم موسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، يعني في
صحف إبراهيم وموسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا
سَعَى} [النجم: 39] للعطف فهذان في صحيفتهما مختص بهما، فأما هذه الأمة
فلقد ما سعيت ما سعى لها غيرها، قاله عكرمة.
الثالث: أن المراد بالإنسان الكافر هنا، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعي
له، قاله الربيع بن أنس بن الفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الخامس: أن معنى ما سعى: ما نوى، قاله أبو بكر الوراق - رَحِمَهُ اللَّهُ
-.
السادس: أن ليس للإنسان الكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا فيثاب عليه
في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير البتة، ذكره الأستاذ أبو إسحاق
الثعلبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
السابع: اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان إلا ما سعى كقوله تعالى:
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] (الإسراء: الآية 7) ، أي فعليها
وكقوله تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] (الرعد: الآية 25) ، أي
وعليهم.
الثامن: ليس إلا سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل
الشيء بنفسه، وتارة لتحصيل سببه لسعيه في تحصيل ولد أو صديق يستغفر الله،
وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة، فيكتب محبة أهل الدين والصلاح فيكون
ذلك سببًا حصل بسعيه حكى هذا أبو الفرج بن الجوزي.
م: (لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه ضحى
بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته ممن أقر بوحدانية الله
تعالى وشهد له بالبلاغ» ش: روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - منهم أبو هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
وروى حديثهما ابن ماجه في " سننه " من طريق عبد الرزاق بإسناده عن عائشة
وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان إذا أراد
(4/468)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يضحي، اشترى كبشين عظيمين أقرنين أملحين موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته
ممن شهد بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وآل محمد» .
وكذلك رواه أحمد في " مسنده " وروى أحمد أيضًا من حديث أبي سلمة عن أبي
هريرة أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
ورواه الطبراني في " الأوسط " من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة فذكره،
ومنهم جابر روى حديثه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي عياش المعافري عن
جابر بن عبد الله قال: «ذبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلما وجههما قال: إني وجهت وجهي
... الآية، " اللهم لك ومنك عن محمد وأمته بسم الله، والله أكبر، ثم ذبح» .
ومنهم أبو رافع حديثه عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وحذيفة بن أسيد عند
الحاكم، وأبو طلحة عند ابن أبي شيبة في " مسنده ". وأنس بن مالك حديثه عند
ابن أبي شيبة أيضًا.
قوله: أملحين؛ الأملح الذي به سواد وبياض، ويقال: كبش أملح، فيه ملحة وهي
بياض بشقه شعرات سود، وقوله أحدهما بالجر وكذا قوله، والآخر وهما بدلان من
قوله بكبشين، ويجوز نصبهما على تقدير يذبح أحدهما؛ لأن قوله ضحى يدل على
الذبح قوله وشهد له بالبلاغ أي شهد للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بتبليغ أوامر الله ونواهيه إلى عباده. وإنما بين الأمة ممن آمن
وشهد؛ لأن الأمة على نوعين: أمة دعوة وإجابة وهم المؤمنون وأمة دعوة لا
إجابة وهم الكافرون.
وذلك لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مبعوثًا إلى
كافة الخلق وهم بأجمعهم أمة له. إلا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ضحى إحدى الشاتين عن أمة المؤمنين لا عن الكافرين لأنهم لا
يستحقون الثواب. وجه الاستدلال به ظاهر؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - جعل من ثوابه لأمته، وهذا يعلم منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن الإنسان يجوز أن
(4/469)
جعل تضحية إحدى الشاتين لأمته
والعبادات أنواع: مالية محضة كالزكاة، وبدنية محضة كالصلاة، ومركبة منهما:
كالحج، والنيابة تجري في النوع الأول في حالتي الاختيار والضرورة، لحصول
المقصود بفعل النائب. ولا تجري في النوع الثاني بحال؛ لأن المقصود وهو
إتعاب النفس لا يحصل به، وتجري في النوع الثالث عند العجز للمعنى الثاني
وهو المشقة بتنقيص المال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينفعه عمل غيره والتأسي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
هو العروة الوثقى.
م: (جعل) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (تضحية
إحدى الشاتين لأمته) ش: أي ثوابها، أي جعل ثوابها لأمة المؤمنين وهذا دليل
صريح على جواز أن يجعل الرجل من ثوابه لغيره، وينتفع به الغير سواء كان
حيًا أو ميتا.
م: (والعبادات أنواع: مالية محضة) ش: أي نوع منها عبادة مالية خالصة. م:
(كالزكاة) ش: وصدقة الفطر، والمقصود منها صرف المال إلى سد خلة المحتاج. م:
(وبدنية محضة) ش: أي نوع مهنا عبادة بدنية محضة. م: (كالصلاة) ش: والمقصود
منها التعظيم بالجوارح، وإتعاب النفس الأمارة بالسوء ابتغاء مرضاة الله. م:
(ومركبة منهما) ش: أي نوع منها عبادة مركبة من المالية والبدنية. م:
(كالحج) ش: وقد ذكرنا في أول الباب أن الصواب أن الحج من العبادات البدنية؛
لأن المال شرط الوجوب.
م: (والنيابة تجري في النوع الأول) ش: وهو العبادة المالية المحضة كالزكاة
فتجوز النيابة فيها. م: (في حالتي الاختيار) ش: أي الصحة. م: (والضرورة) ش:
أي المرض. م: (لحصول المقصود بفعل النائب) ش: وذلك لأن المقصود هو صرف
المال لسد خلة المحتاج، وهو يحصل بفعل النائب؛ لأن المقصود هو صرف المال.
م: (ولا تجري) ش: أي النيابة. م: (في النوع الثاني) ش: وهو العبادة البدنية
المحضة كالصلاة. م: (بحال) ش: أي في الاختيار والضرورة. م: (لأن المقصود
وهو إتعاب النفس لا يحصل به) ش: أي بالنائب. م: (وتجري) ش: أي النيابة. م:
(في النوع الثالث) ش: وهو العبادة المركبة من المال والبدن كالحج. م: (عند
العجز للمعنى الثاني للمشقة بتنقيص المال) ش: إنما قال للمعنى الثاني؛ لأن
الحج يشترط على معنيين: إتعاب النفس وتنقيص المال. فانتفى المعنى الأول عند
العجز فتعين الثاني.
وقال الكاكي: وفي بعض النسخ للمعنى الأول، وهو اعتبار كونه ماليًا، وهذا
أظهر بالنسبة إلى تقدير الكتاب، ولا يجزئ عند القدرة حتى لو حج صحيح رجلًا،
ثم عجز لم يجزه بالإجماع. وفي كتب الشافعية، لو حج المغصوب غيره نظر إن شفي
لم يجزه ذلك قولًا واحدًا عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن مات فيه
قولان في قول يجوز وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قول لا
يجوز.
(4/470)
ولا تجري عند القدرة لعدم إتعاب النفس،
والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت؛ لأن الحج فرض العمر،
وفي الحج النفل تجوز الإنابة حالة القدرة؛ لأن باب النفل أوسع. ثم ظاهر
المذهب أن الحج يقع عن المحجوج عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الأصحاب: وهو الأظهر، ولو كان مرض لا يرجى زواله، فحج غيره فبرأ لا
يجزئه في الأظهر، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في
الأظهر، ولو حج الصحيح قبل العجز ثم عجز لم يجزه بالإجماع.
م: (ولا تجري) ش: أي النيابة. م: (عند القدرة لعدم إتعاب النفس، والشرط
العجز الدائم) ش: أي شرط جواز النيابة في الحج عن الغير هو العجز المستمر
الدائم. م: (إلى وقت الموت) ش: حتى لو قدر المحجوج عنه حج بعد أداء المأمور
بحج ثانيًا فلا يسقط عنه الفرض، كما في الشيخ الفاني إذا قدر على الصوم بعد
أداء الفدية يجب عليه الصوم. م: (لأن الحج فرض العمر) ش: هذا دليل لكون
الشرط هو العجز الدائم، بيانه: أن الحج لما كان فرض العمر. وقدر على أدائه
في أثناء عمره، وجب عليه، وجعل فعل النائب فيما مضى كأن لم يكن.
فإن قيل: القدرة على الأصل تبطل الخلف قبل حصول المقصود بالخلف، وقد حصل
بالخلف، وهو حصول المشقة بتنقيص المال.
فالجواب: إن لم نسلك في هذه المسألة مسلك الأصل والخلف وإنما قلنا: إن الحج
مركب من أمرين أحدهما يحتمل النيابة والآخر لا يحتملها. فقولنا بأحدهما عند
القدرة، فلم تجز النيابة، وبالآخر عند العجز فجوزناها لكن شرطنا لكونه
وظيفة العمر أن يكون العجز دائمًا لما مر.
واعترض بيان كونه وظيفة العمر، لا يصلح دليلًا على اشتراط العجز الدائم
لتخلفه عنه، فإنه شرط لجواز الفدية للشيخ الفاني عن الصوم. والصوم ليس
وظيفة العمر. والجواب أن الدليل يستلزم المدلول ولا ينعكس، وكل ما كان
وظيفة العمر يشترط فيه العجز الدائم، ولا يلزم أن كل ما يشترط فيه العجز
الدائم يكون وظيفة العمر.
[الإنابة في حج النفل]
م: (وفي الحج النفل تجوز الإنابة حالة القدرة؛ لأن باب النفل أوسع) ش:
ولهذا تجوز الصلاة النافلة مع القدرة على القيام، لكن للأمر ثواب النفقة
بالاتفاق؛ لأن وقوع النفل عن الأمر بالنص على خلاف القياس، وهو حديث
الخثعمية، وهو ورد في الفرض؛ لأنها قالت: إن فريضة الحج أدركت ... فبقي
النفل على أصل القياس، وقال الفراء في " الذخيرة ": المذهب كراهة النيابة
في النفل، وذكر النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه " أن في النيابة في
الحج للنفل قولين والصحيح جوازها. م: (ثم ظاهر المذهب) ش: كراهة النيابة في
النفل، وذكر النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (أن الحج يقع عن المحجوج عنه)
ش: وهو الأمر هذا في الفرض بالنص على ما يجيء، وأما في نفل، فيقع عن
المأمور بالاتفاق.
(4/471)
وبذلك تشهد الأخبار الواردة في هذا الباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعترض عليه الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال: قال بعضهم في هذا
الموضع الحج النفل يقع عن المأمور بالاتفاق، وللأمر ثواب النفقة، وذلك خلاف
الرواية ألا ترى إلى ما قال الحاكم الجليل الشهيد في " مختصر الكافي " الحج
التطوع عن الصحيح جائز.
ثم قال: وإذا حج الصحيح عن نفسه فهو تطوع، قال: وفي الأصل تكون الحجة عن
الحج. م: (وبذلك) ش: أي وبوقوع الحج عن المحجوج عنه. م: (تشهد الأخبار
الواردة في الباب) ش: أي في الباب الواردة في الحج عن الغير.
فمن جملة الأخبار ما أخرجه ابن ماجه عن محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس،
قال: حدثني حصين بن عون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله،
«إن أبي أدركه الحج، ولا يستطيع أن يحج إلا معترضا فسكت ساعة، ثم قال: حج
عن أبيك» . قال العقيلي قال أحمد بن محمد بن كريب منكر الحديث.
وأخرجه البيهقي عن محمد بن سيرين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أن رجلًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره، قال
البيهقي رواية محمد بن سيرين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
مرسلة، قال صاحب " التنقيح ": قال أحمد وابن معين وابن المديني: لم يسمع
ابن سيرين من ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال وقد روى البخاري
في " صحيحه " حديثًا من رواية ابن سيرين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -.
ومنها ما أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن
أوس عن أبي رزين العقيلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجل من بني عامر، «قال:
يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال:
حج عن أبيك واعتمر.» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، واسم أبي رزين لقيط بن
صبرة، رواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه
"، والحاكم في " مستدركه "، وقال: على شرط الشيخين.
ومنها ما رواه الطبراني من حديث سودة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- «أن رجلًا قال: يا رسول الله أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج فأحج عنه؟ فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أرأيت لو كان على أبيك
دين فقضيته، أكان يجزئ عنه؟ " فقال: نعم، قال: " حج عنه» .
(4/472)
«كحديث الخثعمية فإنه - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال فيه: " حجي عن أبيك واعتمري» . وعن محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الحج يقع عن الحاج، وللآمر ثواب النفقة؛ لأنه عبادة
بدنية، وعند العجز أقيم الإنفاق مقامه كالفدية في باب الصوم.
قال: ومن أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة فأهل بحجة عنهما فهي عن
الحاج ويضمن النفقة؛ لأن الحج يقع عن الآمر حتى لا يخرج الحاج عن حجة
الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها ما أخرجه البيهقي من حديث عطاء الخراساني عن أبي العون بن المحصن
الحنفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن أبي أدركته فريضة الله في الحج، وهو شيخ
كبير لا يتمالك على الراحلة أفتأمرني أن أحج عنه؟ قال: " نعم، حج عنه ".
قال: وكذلك من مات من أهلنا ولم ير [....] ، أفنحج عنه، قال: " نعم وتؤجرون
" قال: ويتصدق عنه ويصام عنه؟ قال: " نعم والصدقة أفضل.» قال البيهقي:
إسناده ضعيف.
م: (كحديث الخثعمية، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه:
«حجي عن أبيك واعتمري» ش: حديث الخثعمية أخرجه الأئمة الستة في كتبهم.
أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والباقون
عن أخيه الفضل بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة من خثعم
قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج، وهو شيخ كبير لا
يستطيع أن يستوي على الراحلة، ظهر البعير، قال: حجي عنه» . وفي رواية
المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهم، فإن حديث الخثعمية ليس فيه ذكر اعتمري،
وهذه اللفظة في حديث أبي رزين العقيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكرناه
الآن، وهذا الحديث يدل صريحًا على جواز الحج عن الغير.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الحج يقع عن الحاج) ش: يعني
المأمور. م: (وللآمر ثواب النفقة؛ لأنه عبادة بدنية) ش: كذا أشار إليه في "
المبسوط: أن الحج غير مركب من البدن، والمال فيه شرط الوجوب وقد ذكرناه. م:
(وعند العجز) ش: عن الحج بنفسه. م: (أقيم الإنفاق مقامه) ش: أي مقام أداء
الأفعال يعني الواجب عليه إذا حج، وإنفاق المال في طريقه فإن عجز عن الأداء
بقي عليه الإمضاء ما يقدر.
وهو الإنفاق في طريقه. م: (كالفدية في باب الصوم) ش: فإنها أقيمت مقام
الصوم، فكذا الإنفاق هاهنا يقوم مقام أداء الأفعال في حق سقوط الأفعال،
وهذا لأن الإنفاق سبب أداء الأفعال، وإقامة السبب مقام المسبب أصل في الشرع
في " النهاية " إلى هذا مال عامة المتأخرين، منهم صدر الإسلام أبو اليسر
والإمام الأسبيجابي وقاضي خان وغيرهم، وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: إن أصل الحج يكون عن الآمر.
[أمره رجلان بأن يحج لكل واحد منهما حجة فأهل
بحجة عنهما]
م: (قال: ومن أمره رجلان بأن يحج لكل واحد منهما حجة فأهل بحجة عنهما فهي
عن الحاج ويضمن النفقة؛ لأن الحج يقع عن الآمر حتى لا يخرج الحاج عن حجة
الإسلام) ش: يجزيه هذا
(4/473)
وكل واحد منهما أمره أن يخلص الحج له من
غير اشتراك، ولا يمكن إيقاعه عن أحدهما لعدم الأولوية فيقع عن المأمور، ولا
يمكنه أن يجعله عن أحدهما بعد ذلك، بخلاف ما إذا حج عن أبويه، فإن له أن
يجعله عن أحدهما؛ لأنه متبرع بجعل ثواب عمله لأحدهما أو لهما، فيبقى على
خياره بعد وقوعه سببا لثوابه، وهنا يفعل بحكم الآمر، وقد خالف أمرهما فيقع
عنه. ويضمن النفقة إن أنفق من مالهما؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الموضع أن الحج في هذه الصورة من وجه يقع للمأمور باعتبار المخالفة ولهذا
لا يخرج الأمر عن حجة الإسلام، ومن وجه يقع للآمر من حيث قطع المسألة وتعين
النفقة وهذا لا يخرج المأمور عن حجة الإسلام أيضًا، وقد صرح الإمام العتابي
وغيره في " شرح الجامع الصغير " أن الحج يقع عن الأمر من وجه، وعن المأمور
من وجه، فلا يخرج عن حجة الإسلام لا المأمور ولا الآمر.
والمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى هذين الوجهين أيضًا حيث قال: أولًا
فهي عن الحاج، ثم قال الحج يقع عن الآمر، يعني يقع عن وجه من وجه آخر. وقال
الأكمل: ذهب الشارحون إلى أن الدليل غير مطابق للمدلول، قوله فهي أي حجة عن
الجميع، ويضمن النفقة ودليله لأن الحج يقع عن الآمر، ولا مطابقة بينهما كما
ترى، ثم نقل عن السغناقي أن هذا التعليل حكم غير مذكور.
قلت: لا فائدة في ذكر تعليل بدون ذكر المعلل، وتحرير الكلام ما ذكرناه
الآن، ثم نقل الأكمل خط الأترازي على الشراح من ثقة، ثم قال أقول بتوفيق
الله في تقرير كلامه أي كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقع عن الآمر،
على ظاهر الرواية حتى لا يخرج الحاج عن حجة الإسلام ولا يمكن إيقاعه عن
الآمر وكيف يمكن!
م: (وكل واحد منهما أمره أن يخلص الحج له من غير اشتراك، ولا يمكن إيقاعه
عن أحدهما لعدم الأولوية) ش: يعني ليس أحدهما أولى من الآخر فلا يقع عنهما
ولا عن أحدهما. م: (فيقع عن المأمور) ش: كلامه لا يخلو عن الإغلاق. م: (ولا
يمكنه أن يجعله لأحدهما بعد ذلك) ش: هذا كأنه جواب عما يقال إذا وقع الحج
للمأمور فيجعل عن أيهما شاء، كما إذا حج عن أبويه، فإن له أن يجعل عن أيهما
شاء أي إن وقع لنفسه؛ لأنه لما لم يهل به على أولوية المأمور به وقع عن
نفسه ولزمه الحج وضمن النفقة.
م: (بخلاف ما إذا حج عن أبويه، فإن له أن يجعله عن أحدهما؛ لأنه متبرع بجعل
ثواب عمله لأحدهما أو لهما، فيبقى على خياره بعد وقوعه سببا لثوابه) ش: كما
كان قبله. م: (وهنا) ش: أي في المذكور في الصورة الأولى. م: (يفعل بحكم
الآمر، وقد خالف أمرهما فيقع عنه) ش: بخلاف ما هناك؛ لأنه متبرع فيه لا
بحكم الآمر فكذلك قيد بالآمر؛ لأنه إذا أدى العمرة عن رجلين أو عن أحدهما
بلا أمر يصح؛ لأنه في الحقيقة جعل ثوابه للغير. م: (ويضمن النفقة إن أنفق
من مالهما؛ لأنه
(4/474)
صرف نفقة الآمر إلى حج نفسه. وإن أبهم
الإحرام بأن نوى عن أحدهما غير عين، فإن مضى على ذلك صار مخالفا لعدم
الأولوية، وإن عين أحدهما قبل المضي. فكذلك عند أبي يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وهو القياس؛ لأنه مأمور بالتعيين. والإبهام يخالفه فيقع عن نفسه،
بخلاف ما إذا لم يعين حجة أو عمرة حيث كان له أن يعين ما شاء لأن الملتزم
هناك مجهول، وهاهنا المجهول من له الحق. وجه الاستحسان أن الإحرام شرع
وسيلة إلى الأفعال لا مقصودا بنفسه. والمبهم يصلح وسيلة بواسطة التعيين
فاكتفى به شرطا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صرف نفقة الآمر إلى حج نفسه) ش: فيضمن لتصرفه في المال في خلال الموضع الذي
أمر بصرفه فيه. م: (فإن أبهم الإحرام بأن نوى عن أحدهما غير عين) ش: يعني
من غير تعيين فلا يخلو عن أمرين إما أن لا يمضي على ذلك أو مضى. م: (فإن
مضى على ذلك) ش: أي على الإبهام. م: (صار مخالفا لعدم الأولوية، وإن عين
أحدهما قبل المضي. فكذلك عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو القياس) ش:
أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو القياس. م: (لأنه مأمور بالتعيين)
ش: من جهة كل منهما. م: (والإبهام يخالفه) ش: أي إبهامه عن أحدهما يصير
مخالفًا. م: (فيقع عن نفسه) ش: كما إذا أمره رجلان كل منهما بشراء عبد هكذا
فاشتراه لأحدهما غير معين يقع الشراء للمأمور، ثم إذا أراد أن يعين أحدهما،
لا يصح فكذا هنا. م: (بخلاف ما إذا لم يعين حجة أو عمرة حيث كان له أن يعين
ما شاء) ش: كان هذا جواب عما يقال إذا أحرم رجل على الإبهام من غير تعيين
حجة ولا عمرة فإنه يصح أن يعين في الحجة والعمرة ما شاء، فلما لا يكون
هاهنا كذلك. وأجاب بخلاف ما إذا.. إلى آخره، ثم بين الفرق بينهما بقوله. م:
(لأن الملتزم هناك مجهول) ش: أي فيما إذا أبهم الإحرام مجهول ومن هم له
الحق معلوم وجهالة الملتزم لا تمنع صحة الأداء كما إذا قال لفلان علي شيء
لأحد يصح الإقرار، ويلزمه البيان ولو قال لأحدهما علي شيء لا يصح الإقرار
لأن جهالة من له الحق تمنع صحة الإقرار. م: (وهاهنا) ش: يعني فيما إذا لم
يعين حجة أو عمرة. م: (المجهول من له الحق) ش: وبينهما فرق.
وقد ذكرناه الآن بخلاف ما إذا أحرم عن أحد أبويه حيث يصح، وإن كان من له
الحق مجهولًا؛ لأن ذلك ليس بحكم الآمر ليراعي شرائط الإمساك. م: (وجه
الاستحسان) ش: هو قول أبي حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. م:
(أن الإحرام شرع وسيلة إلى الأفعال) ش: يعني ليس بمقصود بنفسه، بل هو وسيلة
يقصد به الأداء ولهذا لا يصح قبل أشهر الحج. م: (لا مقصودا) ش: أي ليس بشرع
مقصود. م: (بنفسه والمبهم يصلح وسيلة بواسطة التعيين) ش: لأنه شرط فيراعى
وجوده لا بصيغة التعيين كالوضوء للصلاة وإن لم يقع بها. م: (فاكتفى به) ش:
أي بالإحرام المبهم. م: (شرطا) ش: أي من حيث الشرطية للأداء.
فإن قيل: الإحرام بمنزلة التكبير في الصلاة وفيه جهة الركنية، فينبغي أن
يكون بمنزلة الشروع في الأفعال.
(4/475)
بخلاف ما إذا أدى الأفعال على الإبهام؛ لأن
المؤدي لا يحتمل التعيين فصار مخالفا. قال: فإن أمره غيره أن يقرن عنه
فالدم على من أحرم؛ لأنه وجب شكرا لما وفقه الله تعالى من الجمع بين
النسكين، والمأمور هو المختص بهذه النعمة؛ لأن حقيقة الفعل منه، وهذه
المسألة تشهد بصحة المروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحج يقع عن
المأمور. وكذلك إن أمره واحد بأن يحج عنه، والآخر بأن يعتمر عنه، وأذنا له
بالقران، فالدم عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: هو بمنزلة الوضوء عندنا ولهذا يجوز أن يكون قبل أشهر الحج.
م: (بخلاف ما إذا أدى الأفعال على الإبهام) ش: هذا متصل بقوله: فاكتفى به
شرطا، يعني إذا أهل عن أحدهما، ثم عين أحدهما قبل المضي، صح تعيينه بخلاف
ما إذا عين أحدهما بعد المضي، وهو قوله بخلاف ما إذا أدى الأفعال على
الإبهام؛ لأنه إذا أدى ثم عين، فإنه يقع ابتداء، ثم التعيين يرد على ما مضى
ويحمل، فلا يفيد شيئا، وهو معنى قوله. م: (لأن المؤدي لا يحتمل التعيين
فصار مخالفا) ش: لأن ما مضى فات لا يعتمد التعيين كما ذكرنا.
م: (فإن أمره غيره) ش: وفي بعض النسخ قال: فإن أمره غيره، أي قال محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن أمر رجل غيره. م: (أن يقرن) ش: بضم الراء من باب
نصر ينصر مفرد له عنه. م: (فالدم) ش: أي الدم القران. م: (على من أحرم) ش:
أي وهو القارن. م: (لأنه وجب شكرا لما وفقه الله تعالى من الجمع بين
النسكين) ش: أي الحج والعمرة.
م: (والمأمور هو المختص بهذه النعمة؛ لأن حقيقة الفعل منه) ش: ولكن يقع
القران على الآمر. وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول وفي
أصح قوليه يجب دم القران من الآمر لأن مقتضى إحرامه أمره به، وكأنه القارن
بنفسه.
م: (وهذه المسألة تشهد بصحة المروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحج
يقع عن المأمور) ش: لكون الدم عليه، وفيه نظر؛ لأن جميع الدماء في مال
الحاج إلا دم الإحصار، فإنه في مال المحجوج عنه، وقيل: لا تدل هذه المسألة
عليه؛ لأن سائر الأفعال من الرمي وغيره يوجد منه حقيقة، ويقع شرعًا عن
الآمر، ووجوب هذا الدم من باب إقامة النسك وإقامة المناسك عليه حقيقة، وإن
انتقل إلى الآمر حكمًا.
م: (وكذلك إن أمره واحد) ش: أي وكذلك وجود الدم على المأمور إن أمره واحد.
م: (بأن يحج عنه، والآخر) ش: أي وأمره شخص آخر. م: (أن يعتمر عنه، وأذنا
له) ش: أي أذن الاثنان كلاهما. م: (بالقران، فالدم عليه) ش: أي على
المأمور، وإنما قيد بالإذن؛ لأنه إذا لم يوجد الإذن منهما بالقران ومع هذا
قران، يكون مخالفًا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قيل: وجوب الدم عليه، لا يتوقف على إذنهما لما أنه على تقرير عدم الإذن
يلزمه الدم
(4/476)
لما قلنا.
ودم الإحصار على الآمر، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال
أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على الحاج؛ لأنه وجب للتحلل دفعا لضرر
امتداد الإحرام، وهذا الضرر راجع إليه، فيكون الدم عليه، ولهما أن الآمر هو
الذي أدخله في هذه العهدة فعليه خلاصه، فإن كان يحج عن ميت فأحصر، فالدم في
مال الميت عندهما خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم قيل: هو من ثلث
مال الميت؛ لأنه صلة كالزكاة وغيرها، وقيل من جميع المال؛ لأنه وجب حقا
للمأمور، فصار دينا.
ودم الجماع على الحاج؛ لأنه دم جناية وهو الجاني عن اختيار ويضمن النفقة،
معناه: إذا جامع قبل الوقوف حتى فسد حجه؛ لأن الصحيح هو المأمور به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضًا، ولأن القران أفضل، فكيف يكون مخالفًا. قلنا: فائدة التقييد بالإذن
لدفع وهم وجوب الدم على الآمر كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
الأصح. م: (لما قلنا) ش: وهو أن المأمور مختص بهذه النعمة.
[دم الإحصار يلزم الأصيل أم النائب في الحج]
م: (ودم الإحصار على الآمر) ش: لأنه هو الذي أوقع فيه. م: (وهذا) ش: أي
وجوب الدم على الآمر، عند إحصار المأمور. م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما
الله -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على الحاج؛ لأنه) ش: أي لأن
الدم. م: (وجب للتحلل دفعا لضرر امتداد الإحرام، وهذا الضرر راجع إليه) ش:
أي إلى الحاج. م: (فيكون الدم عليه) ش: أي على الحاج. م: (ولهما) ش: أي
ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. م: (أن الآمر هو الذي أدخله في هذه
العهدة فعليه خلاصه) ش: واعترض على قوله: أن الآمر هو الذي أدخله في هذه
العهدة، بأن الآمر إذا أمر بالقران، فهو الذي أدخل المأمور في عهدة الدم،
ولا يجب وعليه واجب، بأن دم القران نسك فيه، وقد وقع الآمر النفقة بمقابلة
جميع ما كان من المناسك، وهو من جملتها، بخلاف دم الإحصار فإنه ليس بنسك،
ولم يكن معلومًا عند الآمر أيضًا.
م: (فإن كان يحج عن ميت) ش: أي فإن كان الرجل يحج عن ميت. م: (فأحصر،
فالدم) ش: أي دم الإحصار. م: (في مال الميت عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة
ومحمد - رحمهما الله -. م: (خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن
عنده على الحاج. م: (ثم قيل: هو من ثلث مال الميت؛ لأنه صلة) ش: الصلة هي
التي لا تكون في مقابلة عوض مالي. م: (كالزكاة وغيرها) ش: يعني النذور
وغيرها من الكفارات فإنها من الثلث. م: (وقيل من جميع المال) ش: يعني وتجب
من جميع مال الميت. م: (لأنه) ش: أي لأن الدم. م: (وجب حقا للمأمور) ش:
يعني لإدخال الآمر في هذه العهدة دينًا على الميت والدين محل جميع المال.
م: (فصار دينا) ش: على الآمر.
[دم الجماع يلزم الأصيل أم النائب في الحج]
م: (ودم الجماع على الحاج؛ لأنه دم جناية وهو الجاني) ش: أي الحاج هو
الجاني. م: (عن اختيار ويضمن النفقة، معناه) ش: أي معنى قوله يضمن النفقة.
م: (إذا جامع قبل الوقوف بعرفة حتى فسد حجه؛ لأن الصحيح) ش: أي لأن الحج
الصحيح. م: (هو المأمور به) ش: وبه قال الشافعي -
(4/477)
بخلاف ما إذا فاته الحج حيث لا يضمن النفقة
لأنه ما فاته باختياره. أما إذا جامع بعد الوقوف لا يفسد حجه ولا يضمن
النفقة لحصول مقصود الآمر. وعليه الدم في ماله لما بينا، وكذلك سائر دماء
الكفارات على الحاج لما قلنا.
ومن أوصى بأن يحج عنه فأحجوا عنه رجلا، فلما بلغ الكوفة مات
أو سرقت نفقته وقد أنفق النصف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم عليه المضي في هذه الحجة الفاسدة؛ لأنه لا يخرج عن
إحرام الحج إلا بأفعال الحج لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، من غير فصل
بين الجائز والفاسد وعليه الحج من قابل وليسقط الحج عن الميت حتى يحج
المأمور في السنة الثانية على وجه الصحة قضاء للأول وللشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في قضاء الحج في السنة الثانية قولان:
أحدهما: أنه عليه الآمر. وأصحهما: أنه عن الأجير، فعلى هذا يلزمه حجة أخرى
سوى القضاء للمستأجر، فيقضي عن نفسه ثم يحج عن المستأجر، ويلبث من حج عنه
كذا في " شرح الوجيز ".
م: (بخلاف ما إذا فاته الحج حيث لا يضمن النفقة لأنه ما فاته باختياره. أما
إذا جامع بعد الوقوف لا يفسد حجه ولا يضمن النفقة لحصول مقصود الآمر.
وعليه) ش: أي على المأمور. م: (الدم في ماله لما بينا) ش: وهو قوله لأنه دم
جناية. م: (وكذلك) ش: أي وكذلك وجوب الدم في. م: (سائر دماء الكفارات على
الحاج لما قلنا) ش: وهو أنه دم جناية ومن هذا علم أن الدماء ثلاثة أنواع:
دم نسك كالقران والتمتع، ودم جناية كجزاء الصيد ونحوه، ودم مؤنة كدم
الإحصار.
[الوصية بالحج]
م: (ومن أوصى بأن يحج عنه) ش: وفي بعض النسخ قال: ومن أوصى، أي قال محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " الوصية فيه خلاف، قال ابن المنذر
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأشراف ". قال محمد بن سيرين وحماد بن أبي
سليمان، وداود بن أبي هند، وحميد الطويل، وعثمان البتي، ومالك، وأبو ثور -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يحج عن الميت من ثلث ماله إذا أوصى.
قلت: وهو قول أصحابنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهو قول ابن عباس وأبي
هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ويكون من ماله إذا كان ثلثه يكفي. وقال
الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - وطاوس -
رَحِمَهُ اللَّهُ - والزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وإسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخرج من
رأس ماله من غير وصية.
لكن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: من ميقاته، وقال أحمد: من بلده أو
من حيث أيسر هذا في الحج الفرض، وقال النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي
ذئب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحج أحد عن أحد ذكره النووي - رَحِمَهُ
اللَّهُ -. م: (فأحجوا عنه رجلا، فلما بلغ الكوفة مات) ش: إنما قال: بلغ
الكوفة؛ لأن محمدًا وضع المسألة في الخراساني.
م: (أو سرقت نفقته وقد أنفق النصف) ش: الواو فيه للحال وقيد النصف اتفاقي،
حتى لو أنفق
(4/478)
يحج عن الميت من منزله بثلث ما بقي. وهذا
عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يحج عنه من حيث مات الأول.
فالكلام هاهنا في اعتبار الثلث، وفي مكان الحج. أما الأول فالمذكور قول أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج عنه
بما بقي من المال المدفوع إليه إن بقي شيء وإلا بطلت الوصية اعتبارا بتعيين
الموصي؛ إذ تعيين الوصي كتعيينه. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج
عنه بما بقي من الثلث الأول؛ لأنه هو المحل لنفاذ الوصية. ولأبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قسمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثلث أو السدس فالحكم كذلك. م: (يحج عن الميت من منزله بثلث ما بقي) ش: من
المال الذي بقي. م: (وهذا) ش: أي هذا المذكور. م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -. وقالا: يحج عنه من حيث مات الأول) ش: وهو الذي أحجوا
عنه.
صورة المسألة رجل له أربعة آلاف درهم، أوصى بأن يحج عنه فمات، وكان مقدار
الحج ألف درهم، فدفعها الوصي إلى من يحج عنه فتوفي في الطريق، قال أبو
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يؤخذ ثلث ما بقي من التركة، وهو ألف درهم، فإن
سرقت ثانيًا، يؤخذ ثلثه مرة أخرى هكذا.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يؤخذ ثلث ما بقي من ثلث جميع المال
وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث درهم. فإن سرقت ثانيًا لا يؤخذ مرة أخرى.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا سرقت الألف التي دفعها أولا بطلت
الوصية، فإن بقي منها شيء يحج به لا غير؛ لأن تعيين الوصي كتعيين الموصي
لكونه نائبًا عنه ولو أفردها الموصي ثم هلكت، بطلت الوصية فكذلك هذا، ولأبي
يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوصية فعل يعادها بثلث الثلث.
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قسمة الوصي وعزله لا يصح إلا بالتسليم
إلى الوجه الذي سماه الموصي؛ لأنه لا خصم له لينقبض ولم يوجد التسليم إلى
ذلك الوجه فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل، وفي ذلك يحج من ثلث ما بقي
فكذا في هذا.
م: (فالكلام هاهنا) ش: في موضعين أحدهما. م: (في اعتبار الثلث) ش: والأخرى.
م: (وفي مكان الحج) ش: ففي كل منهما اختلاف. م: (أما الأول) ش: أي الموضع
الأول، وهو الذي فيه الوصية بالثلث. م: (فالمذكور) ش: وفيما قيل. م: (قول
أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج
عنه بما بقي من المال المدفوع إليه إن بقي شيء وإلا بطلت الوصية اعتبارا
بتعيين الموصي؛ إذ تعيين الوصي كتعيينه) ش: أي كتعيين الوصي لأنه قام
مقامه.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج عنه بما بقي من الثلث الأول)
ش: مع ما بقي من المال المفرد. م: (لأنه) ش: أي لأن الثلث. م: (هو المحل
لنفاذ الوصية. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قسمة
(4/479)
الوصي وعزله المال لا يصح إلا بالتسليم إلى
الوجه الذي سماه الموصي؛ لأنه لا خصم له ليقبض، ولم يوجد التسليم إلى ذلك
الوجه فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل، فيحج بثلث ما بقي.
وأما الثاني فوجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو القياس، أن القدر
الموجود من السفر قد بطل في حق أحكام الدنيا، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» الحديث، وتنفيذ
الوصية من أحكام الدنيا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوصي، وعزله المال، لا يصح إلا بالتسليم إلى الوجه الذي سماه الموصي) ش:
وهو الحج. م: (لأنه لا خصم له ليقبض، ولم يوجد التسليم إلى ذلك الوجه فصار
كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل، فيحج بثلث ما بقي) ش: وفي ذلك يحج من ثلث
ما بقي فكذلك في هذا.
م: (وأما الثاني) ش: أي وأما الكلام في الثاني وهو مكان الحج. م: (فوجه قول
أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو القياس، أن القدر الموجود من السفر قد
بطل في حق أحكام الدنيا) ش: استدل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله.
م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث
... » الحديث) ش: هذا الحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع
به أو ولد صالح يدعو له» قوله الحديث يجوز بالنصب على تقدير إقرار الحديث
بتمامه، ويجوز بالرفع أي الحديث بتمامه قوله عمله أراد عملًا ودخل فيه ولا
يتمه، وإذا بطل عمله في أحكام الدنيا.
م: (وتنفيذ الوصية من أحكام الدنيا) ش: وجب الاستئناف. ألا ترى أنه لو أحرم
ثم مات ينقطع ذلك الإحرام حتى لا شيء عليه عندنا وعند الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في قول شيء عليه.
واعترض عليه بأن الحديث الذي استدل به أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ظاهره متروك؛ لأنه يقتضي أن يكون غير هذه الثلاثة من الأعمال منقطعًا، وليس
كذلك؛ لأنه يثاب عليها، وما هو كذلك لا يكون منقطعًا.
أجيب: بأن الأعمال كلها على ثلاثة أنواع، أعمال عملها فمضت، وأعمال لم يشرع
فيها فهي معدومة، وأعمال شرع فيها ولم يتمها. والطرفان لا يوصفان
بالانقطاع.
أما الأول: فلأن الماضي لا يتحمل الانقطاع، لكن يحتمل البطلان بما يحبط
ثوابه. نعوذ بالله من ذلك.
وكذلك الثاني؛ لأنه غير موجود وهذا لأن الانقطاع عبارة عن تفرق أجزائه
والماضي بجميع أجزائه لا يتصور ذلك. وكذلك الذي لم يوجد بجميع أجزائه،
فتعيين الذي شرع ولم يتمه تنفذ الوصية من أحكام الدنيا وهو ليس من الثلاث.
(4/480)
فبقيت الوصية من وطنه كأن لم يوجد الخروج.
وجه قولهما وهو الاستحسان أن سفره لم يبطل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ
يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:
100] الآية (النساء: الآية 100) وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
-: «من مات في طريق الحج، كتب له حجة مبرورة في كل سنة» .
وإذا لم يبطل سفره اعتبرت الوصية من ذلك المكان. وأصل الاختلاف في الذي يحج
بنفسه، وينبني على ذلك المأمور بالحج. قال: ومن أهل بحجة عن أبويه يجزئه أن
يجعله عن أحدهما. لأن من حج عن غيره بغير إذنه فإنما يجعل ثواب حجه له،
وذلك بعد أداء الحج فلغت نيته قبل أدائه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فبقيت الوصية من وطنه كأن لم يوجد الخروج. وجه قولهما) ش: أي قول أبي
يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. إنما أخر تعليلهما
وقدم تعليل أبي يوسف، وكان يقتضي الحال العكس، يشير بذلك إلى أنه اختار
قولهما استحسانًا.
والمأخوذ في الثلث استحسانًا، ولهذا ذكر القياس أولًا، ثم قال: وهو
الاستحسان أي قولهما. م: (وهو الاستحسان أن سفره لم يبطل؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] (النساء: الآية 100)) ش: الكلام في إعراب الآية
مثل الكلام في قوله الحديث. م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «من مات في طريق الحج، كتب له حجة مبرورة في كل سنة» ش: هذا الحديث بهذا
اللفظ غريب. وروى الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأوسط " وأبو يعلى
الموصلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " من حديث أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «من خرج حاجًا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة. ومن خرج معتمرًا
فمات، كتب له أجر العمرة إلى يوم القيامة. ومن خرج غازيًا في سبيل الله
فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» .
م: (وإذا لم يبطل سفره) ش: أي عمله. م: (اعتبرت الوصية من ذلك المكان) ش:
لأن الثواب لم يبطل. م: (وأصل الاختلاف) ش: المذكور. م: (في الذي يحج
بنفسه) ش: فمات في الطريق وأوصى بأن يحج عنه، فعند أبي حنيفة يحج من وطنه
وعندهما من حيث مات فيه. م: (وينبني على ذلك) ش: أي ذلك الاختلاف. م:
(المأمور بالحج) ش: إذا مات في بعض الطريق، فعنده يحج من وطنه وعندهما من
موضع مات فيه. م: (قال: ومن أهل بحجة عن أبويه يجزئه أن يجعله عن أحدهما)
ش: وذلك لأنه يجعل الثواب لأحدهما، وإنما يحصل الثواب بعد الأداء فنفلوا
ميتة عنها قبل الأداء.
فبعد ذلك، إذا جعل ثواب حجته لأحدهما جاز. م: (لأن من حج عن غيره بغير إذنه
فإنما يجعل ثواب حجه له، وذلك) ش: أي جعل ثواب حجه له. م: (بعد أداء الحج
فلغت نيته قبل أدائه) ش: لعدم
(4/481)
وصح جعله ثوابه لأحدهما بعد الأداء، بخلاف
فالمأمور على ما قررنا من قبل، والله تعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثواب قبل الأداء. م: (وصح جعله ثوابه لأحدهما بعد الأداء) ش: أي لأحد
الأبوين، أي بعد الأداء، وكذا صح إذا جعل لهما جميعًا.
م: (بخلاف المأمور) ش: أي بالحج إذا أهل بحجة عن أبويه حيث لا يجوز أن يجعل
أحدهما لأنه بحكم الآمر. م: (على ما قررنا من قبل) ش: أي عند قوله ومن أمره
رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة.
[الحاج عن الغير إذا نوى الإقامة بمكة لحاجة
نفسه] 1
فروع: الحاج عن الغير إذا نوى الإقامة بمكة لحاجة نفسه لا لحج الميت إن
أقام أقل من خمسة عشر يومًا، فهو مسافر بحاله ونفقته في مال الميت، وفي
أكثر من ذلك من مال نفسه إذا وصل إلى مكة قبل الحج بيوم أو يومين، لم يذكر
ما حاله.
وفي " النوادر " عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لو أقام في أيام العشر
فنفقته في مال الميت، قيل ذلك ينفق من مال نفسه إلى أن ترتحل أيام العشر لو
أوصى بمال معين يبلغ ذلك حجا. فالموصي بالخيار إن شاء دفع كل سنة بحجة، وإن
دفع إلى رجال في سنة، وهذا أفضل. ولو حج المأمور ماشيًا كان مخالفًا، ولو
حج على حمار كره ذلك والبعير أفضل.
ولو مرض المأمور في الطريق، لم يجز أن يدفع النفقة إلى غيره إلا بإذن
الآمر. ولو ضاع المال قبل إحرامه يجوز لوصي الميت أو ورثته أن يستردوا
المال منه ما لم يحرم. ولو أحرم حين أراد الأخذ منه فله أن يأخذه ويكون
إحرامه عن الميت. فإن استرد فنفقته إلى بلده من مال الميت. وإن استرده
بجناية ظهرت منه، فالنفقة في ماله لو استرد لجهالته بأمر المناسك أو لضعف
رأي فيه فالنفقة في مال الميت. استأجر المأمور من مخدوم وهو محله ممن لا
يخدم نفسه فأجره من مال الميت. وإلا فمن ماله.
ولا بأس بخلط المأمور نفع نفقته مع الرفقة أمر بذلك الميت أم لا. ولو أنكر
الموصي أو الورثة حجه، فالقول قوله مع يمينه إلا إذا كان للميت دين على
إنسان. وقال: حج عني بهذا المال، فحج عنه بعد موته لا يصدق إلا ببينة ولو
رجع عن الطريق وقال: منعت لم يصدق ويضمن جميع النفقة إلا إذا كان أمرًا
ظاهرًا.
(4/482)
باب الهدي الهدي أدناه شاة، لما روي أن
النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، «سئل عن الهدي، فقال: " أدناه
شاة» قال: وهو من ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم؛ لأنه - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما جعل الشاة أدنى، لا بد أن يكون له أعلى وهو
البقر والجزور. ولأن الهدي ما يهدى إلى الحرم ليتقرب به فيه. والأصناف
الثلاثة سواء في هذا المعنى. ولا يجوز في الهدايا إلا ما يجوز في الضحايا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الهدي]
[أنواع الهدي]
م: (باب الهدي) ش: أي هذا باب في بيان الهدي، وأنواعه، ولما ذكر الهدي في
كتاب الحج في مواضع كثيرة، من وجوه كثيرة، من نسك وجزاء ومؤنة، شرع في
بيانه مع أنواعه. وفي " ديوان الأدب "، الهدي ما يهدى للبيت، والهدي ما
يهدى إلى الحرم من النعم من شاة أو بقرة أو بعير. وفي المشارق وأهل الحجاز
[.....] .
م: (الهدي أدناه شاة، لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
سئل عن الهدي، فقال: " أدناه شاة» ش: قال مخرج الأحاديث: هذا غريب، ولم
أجده إلا من كلام عطاء. رواه البيهقي في " المعرفة " من طريق الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج أن عطاء قال:
أدنى ما يهراق من الدماء في الحج، وغيره شاة. وقد ذكر الأترازي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - الحديث المذكور وسكت عنه.
م: (وهو) ش: أي الهدي. م: (من ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم؛ لأنه -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما جعل الشاة أدنى، لا بد أن يكون له
أعلى وهو البقر والجزور) ش: وفيه تأمل في موضعين: الأول قوله جعل الشاة
أدنى، فالحديث الذي ذكره، لم يثبت عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- فضلًا أن يجعل أدناه شاة، والثاني قوله لا بد أن يكون له أعلى فيه ما
فيه؛ لأن كون الأعلى من هذين الصنفين من أين يؤخذ؟ والأحسن أن تؤخذ هذه
الثلاثة من حديث البخاري عن ابن حمزة نصر بن عمران الضبعي، قال سألت ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن المتعة وأمرني بها، وسألته عن الهدي
فقال: فيه جزور أو بقرة أو شاة ... الحديث.
م: (ولأن الهدي ما يهدى إلى الحرم ليتقرب به فيه) ش: أي بالهدي في الحرم.
م: (والأصناف الثلاثة سواء في هذا المعنى) ش: أي في معنى التقرب، وقيل في
معنى الإهداء في الحرم. م: (ولا يجوز في الهدايا إلا ما يجوز في الضحايا)
ش: يعني يجوز الثني فصاعدًا من الأنواع الثلاثة.
ولا يجوز الجذع إلا من الضأن، ويشترط أن يكون سالمًا من العيب كما في
الأضحية والجذع من البهائم قبل الثني. والثني من الغنم ما تمت له سنة وطعن
في الثانية، ومن البقر ما طعن في الثالثة، ومن الإبل ما طعن في السادسة،
والجذع من الضأن ما طعن في الشهر السابع.
(4/483)
لأنه قربة تعلقت بإراقة الدم، كالأضحية
فيتخصصان بمحل واحد. والشاة جائزة في كل شيء إلا في موضعين: من طاف طواف
الزيارة جنبا، ومن جامع بعد الوقوف بعرفة فإنه لا يجوز فيهما إلا بدنة. وقد
بينا المعنى فيما سبق.
ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران؛ لأنه دم نسك، فيجوز الأكل منها
بمنزلة الأضحية، وقد صح: أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
أكل من لحم هديه وحسا من المرقة.» ويستحب له أن يأكل منها لما روينا.
وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا. ولا يجوز الأكل من
بقية الهدايا؛ لأنها دماء كفارات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الزهري: لا يجوز الجذع من الضأن، وعن الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
يجزئ الجذع من الجميع، وعن أنس والحسن بن أبي الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
يجزئ الجذع من الإبل عن ثلاثة، وعن عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عن سبعة.
م: (لأنه) ش: أي لأن الهدي. م: (قربة تعلقت بإراقة الدم، كالأضحية
فيتخصصان) ش: أي الهدي والأضحية. م: (بمحل واحد) ش: وفي بعض النسخ بمكان
واحد، يعني يقعان موقعًا واحدًا، وينزلان منزلا واحدا، أي حكمًا واحدا يجوز
هنا ما يجوز هناك ولا يجوز هنا ما لا يجوز ثمة؛ لأن كلًا منهما لزمه إراقة
الدم. م: (والشاة جائزة في كل شيء إلا في موضعين: من طاف طواف الزيارة
جنبا، ومن جامع بعد الوقوف بعرفة، فإنه لا يجوز فيهما إلا بدنة. وقد بينا
المعنى فيما سبق) ش: أي في الفصل الأول والثاني في باب الجنايات.
[الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران]
م: (ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران؛ لأنه دم نسك، فيجوز الأكل
منها بمنزلة الأضحية) ش: وبه قال عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " المبسوط " ويستحب الأكل. وقال مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: لا يأكل من فدية الأذى وجزاء الصيد وما نذره للمساكين ويأكل مما
سواه.
وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يأكل من الجميع. رواه سعيد بن
منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يأكل من
هدي التطوع لا غير.
م: (وقد صح: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل من لحم
هديه وحسا من المرقة) ش: صح هذا في حديث جابر - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطويل
الذي رواه مسلم وغيره أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر من
كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها يعني
عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قوله حسا» بالحاء والسين المهملتين من حسوت المرق حسوًا إذا
شربه. م: (ويستحب له أن يأكل منها) ش: أنث الضمير لإرادة الهدايا أي من هدي
التطوع وهدي المتعة والقران جعلهما واحدا. م: (لما روينا) ش: وهو قوله وقد
صح ... إلخ.
[الصدقة من هدي التطوع والمتعة والقران]
م: (وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا) ش: يعني يتصدق
بالثلث ويطعم الثلث ويدخر الثلث. م: (ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا؛
لأنها دماء كفارات) ش: مثل دماء
(4/484)
وقد صح «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - لما أحصر بالحديبية وبعث الهدايا على يد ناجية الأسلمي قال
له: " لا تأكل أنت ورفقتك منها شيئا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفارات والنذور، وهدي الإحصار وهدي التطوع إذا لم يبلغ محله.
أما إذا بلغ التطوع محله، فيجوز منه الأكل، والمراد من هدي التطوع في المتن
في قوله، ويجوز الأكل من هدي التطوع هو الذي بلغ محله لأنها دماء كفارات.
م: (وقد صح " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر
بالحديبية وبعث الهدايا على يدي ناجية الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال له: «لا تأكل أنت ورفقتك منها شيئا» . ش: روى هذا الحديث أصحاب السنن
الأربعة من حديث ناجية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وليس فيه قوله: لا تأكل
أنت ورفقتك منها شيئا.
وهو في أحاديث أخرى منها ما رواه مسلم وابن ماجه عن قتادة عن سنان بن سلمة
- رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ذؤيبا
الخزاعي أبا قبيصة حدثه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كان يبعث بالبدن معه، ثم يقول " إن عطبت منها شيئًا فخشيت عليه موتًا
فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد
من أهل رفقتك» . ومنها ما أخرجه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده "
والطبراني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في معجمه عن شريك عن ليث عن شهر بن
حوشب عن عمرو بن خارجة اليماني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «بعث النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معي هديًا وقال: " إذا عطبت منها
شيئًا فانحره، ثم اضرب نعله في دمه، ثم اضرب صفحته ولا تأكلها أنت ولا أهل
رفقتك وخل بينه وبين الناس» .
وزاد فيه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بهدي تطوع، وقال أبو عمر بن عبد
البر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إسناد عمرو اليماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - روى
عنه شهر بن حوشب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث معي رسول الله بهدي تطوعًا،
فقال: «إن عطب منه شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه، ثم اضرب به على صفحته،
وخل بينه وبين الناس» . كذا ذكره أبو عمر بغير [....] ، ولم يزد على قول
عمرو اليماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكره الذهبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
تجريد الصحابة. وقال عمرو اليماني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى عنه شهر
بن حوشب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه بهدي» ولم يزد على هذا شيئا.
ومنها ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من رواية
أبي التياح الضبعي عن موسى بن سلمة الهذلي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - «قال بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بست
عشرة
(4/485)
ولا يجوز ذبح هدي التطوع والمتعة والقران
إلا في يوم النحر.
قال: وفي الأصل: يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر، وذبحه يوم النحر أفضل.
وهذا هو الصحيح؛ لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا، وذلك يتحقق
بتبليغها إلى الحرم فإذا وجد ذلك جاز ذبحها في غير يوم النحر، وفي أيام
النحر أفضل؛ لأن معنى القربة في إراقة الدم فيها أظهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بدنة مع رجل وأمره فيها، قال فمضى ثم رجع، فقال يا رسول الله كيف أصنع بما
أبدع علي منها؟ قال: " انحرها ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعله على صفحتها
ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» ، هذا لفظ مسلم.
وفي رواية له، بعث ثماني عشرة بدنة مع رجل، وهذا رواه أبو داود - رَحِمَهُ
اللَّهُ - «قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فلانًا الأسلمي، وبعث معه بهدي ثماني عشرة بدنة» وناجية بالنون والجيم
المكسورة، ابن جندب بن عمير الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معدود في
أهل الحجاز بما في أهل المدينة، وذكر ابن عفير أن اسمه كان ذكوان فسماه
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناجية، والتاء فيه للمبالغة،
مات بالمدينة في خلافة معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[مكان ووقت ذبح الهدي]
م: (ولا يجوز ذبح هدي التطوع والمتعة والقران إلا في يوم النحر) ش: ذكر في
" شرح الأقطع ". قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أحرم جاز الذبح،
ولنا في هدي المتعة والقران قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] (الحج: الآية: 28) عطف، ولا قضاء التفث على الأكل
من بهيمة الأنعام التي نحروها، وقضاء التفث مختص بيوم النحر فيكون النحر
كذلك، واعترض بأن ثم للتراخي فربما يكون الذبح قبل يوم النحر.
وقضاء التفث فيه واجب، وأجيب بأن موجب ثم في التراخي يتحقق بالتأخير ساعة،
فلو جاز الذبح بقتل يوم النحر، جاز قضاء التفث بعده بساعة وليس كذلك.
والبائس الذي يناله بأس أي شدة في الفقر والتفث الأخذ من الشارب وتقليم
الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والأخذ من الشعر كأنه الخروج من الإحرام
إلى الإحلال.
[ذبح دم التطوع قبل يوم النحر]
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وفي الأصل) ش: أي في
المبسوط. م: (يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر) ش: لأن القربة في هدي
التطوع بوصوله إلى الحرم فلا يشترط الزمان. م: (وذبحه) ش: أي ذبح دم
التطوع. م: (يوم النحر أفضل. وهذا هو الصحيح؛ لأن القربة في التطوعات
باعتبار أنها هدايا، وذلك يتحقق بتبليغها إلى الحرم. فإذا وجد ذلك) ش: أي
تبليغ الهدايا إلى الحرم. م: (جاز ذبحها في غير يوم النحر، وفي أيام النحر
أفضل؛ لأن معنى القربة في إراقة الدم فيها) ش: أي في أيام النحر. م: (أظهر)
ش: لأنها خصت بالهدايا والضحايا، والأخص منها الهدايا فيكون لها زيادة شرف.
(4/486)
أما دم المتعة والقران فلقوله تعالى:
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] (الحج: الآية 28) ، وقضاء التفث يختص
بيوم النحر، ولأنه دم نسك فيختص بيوم النحر كالأضحية. ويجوز ذبح بقية
الهدايا في أي وقت شاء. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا في
أيام النحر اعتبارا بدم المتعة والقران؛ فإن كل واحد منهما دم جبر عنده.
ولنا أن هذه دماء كفارات فلا تختص بيوم النحر؛ لأنها لما وجبت لجبر النقصان
كان التعجيل بها أولى لارتفاع النقصان به من غير تأخير، بخلاف دم المتعة
والقران؛ لأنه دم نسك. قال: ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم لِقَوْلِهِ
تَعَالَى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]
(المائدة: الآية 95) ، فصار أصلا في كل دم هو كفارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أما دم المتعة والقران فلقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:
29] (الحج: الآية 28) ، وقضاء التفث يختص بيوم النحر) ش: وجه الاستدلال
بهذه الآية قد ذكره آنفًا وما فيها من المعنى. م: (ولأنه) ش: أي ولأن دم
المتعة والقران. م: (دم نسك) ش: أي قربة. م: (فيختص بيوم النحر) ش: حتى حل
التناول منه. م: (كالأضحية، ويجوز ذبح بقية الهدايا في أي وقت شاء. وقال
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا في أيام النحر اعتبارا بدم
المتعة والقران؛ فإن كل واحد منهما) ش: أي من دم المتعة ودم القران. م: (دم
جبر عنده) ش: هذا مخالف لما ذكره في كتبهم.
فإنه ذكر في " الوجيز " وشرحه و" التتمة " وغيرها، أن الدم الواجب في
الإحرام إما لارتكاب محظور أو جزاء ترك مأمور ولا يختص بزمان، فيجوز في يوم
النحر وغيره، وإنما الضحايا هي التي تختص بالحرم وأيام التشريق. وفي " شرح
المجمع " مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لا يختص بيوم النحر
والضحايا والهدايا والدماء، وفي وقت ذبح الهدي وجهان، الصحيح أنه يختص بيوم
النحر، كالأضحية، والثاني لا يختص بزمان كدماء الجبر، وقد ذكر المصنف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - الخلاف معه في بقية الهدايا. والصحيح من مذهبه ما
ذكرناه أن دماء الجبر أن لا يختص بيوم النحر. م: (ولنا أن هذه) ش: أي بقية
الهدايا. م: (دماء كفارات فلا تختص بيوم النحر؛ لأنها لما وجبت لجبر
النقصان كان التعجيل بها أولى لارتفاع النقصان به من غير تأخير، بخلاف دم
المتعة والقران؛ لأنه دم نسك) ش: أي قربة.
م: (قال: ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم) ش: وفي بعض النسخ قال: ولا
يجوز، أي قال القدوري، ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم، وبه قال الشافعي
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح.
وقال في القديم [....] في الحل يجوز ذبحه في الحل، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما يجب من الفدية بالإحرام لا
يختص بمكان كما لا يختص بزمان. م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى في جزاء الصيد:
{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) ، فصار
ذلك) ش: أي جزاء الصيد. م: (أصلا في كل دم هو كفارة) ش: إذ لا فرق بين
الكفارات ولا تفاوت في معنى الجزاء والزجر، وإذا
(4/487)
ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان ومكانه
الحرم. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «منى كلها منحر، وفجاج
مكة كلها منحر» .
ويجوز أن يتصدق بها على مساكين الحرم وغيرهم خلافا للشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - لأن الصدقة قربة معقولة، والصدقة على كل فقير قربة. قال: ولا يجب
التعريف بالهدايا؛ لأن الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان ليتقرب بإراقة دم فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجب وجوب التبليغ في البعض بالنص وجب في غيره بدلالة النص.
م: (ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان ومكانه الحرم. قال - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «منى كلها منحر، وفجاج مكة كلها منحر» ش: هذا
الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد الليثي عن عطاء بن أبي
رباح عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل المزدلفة
موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر» . وأخرجه أبو داود أيضًا من حديث أبي هريرة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف وكل
فجاج مكة منحر وكل جمع موقف» .
هذا رواه محمد بن المنكدر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال ابن
معين: محمد بن المنكدر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يسمع من أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وقال أبو زرعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يلق أبا
هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله منحر بفتح الميم اسم المكان الذي
ينحر فيه الهدايا. وفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع بين الجبلين. وهذا من
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيان الحكم لا الحقيقة.
م: (ويجوز أن يتصدق بها على مساكين الحرم وغيرهم) ش: أي وغير مساكين الحرم.
م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده يجب صرفها على مساكين
الحرم لأن المقصود التوسعة على فقراء مكة حتى لو فرق القارن على دخول مكة
لحمها على غير مساكين الحرم لا يجوز. م: (لأن الصدقة قربة معقولة) ش: لأنها
لسد خلة المحتاج. م: (والصدقة على كل فقير قربة) ش: فلا يختص بها فقير لأن
التصدق قربة في كل مكان، فلا يختص مكان بخلاف الإراقة، فإنه لا يكون إلا في
مكان مخصوص أو زمان مخصوص.
م: (ولا يجب التعريف بالهدايا) ش: وفي بعض النسخ قال: ولا يجب التعريف
بالهدايا، أي قال القدوري: ولا يجب الإتيان بالهدايا إلى عرفات، وللتعريف
معاد التنبه بأهل عرفة، والذهاب بالهدايا إلى عرفات والوقوف بها، فتعريف
الهدايا إعلامها بعلامة مثل التقليد والإشعار، والكل ليس بواجب لقول عائشة
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: تعرف
وإن شئت فلا. م: (لأن الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان ليتقرب بإراقة دم فيه)
ش: أي في ذلك
(4/488)
لا عن التعريف فلا يجب. فإن عرف بهدي
المتعة فحسن؛ لأنه يتوقت بيوم النحر، فعسى أن لا يجد من يمسكه، فيحتاج إلى
أن يعرف به، ولأنه دم نسك، فيكون مبناه على التشهير بخلاف دماء الكفارات؛
لأنه يجوز ذبحها قبل يوم النحر على ما ذكرنا. وسببها الجناية، فيليق بها
الستر.
قال: والأفضل في البدن النحر وفي البقر والغنم الذبح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] (الكوثر: الآية 2) ، قيل في
تأويله: الجزور. وقال الله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]
(البقرة: الآية 67) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المكان وهو الحرم. م: (لا عن التعريف) ش: يعني لا ينبئ على التعريف. م:
(فلا يجب) ش: لعدم معنى التعريف فيه. م: (فإن عرف بهدي المتعة) ش: يريد به
إخراجه إلى عرفات. م: (فحسن) ش: لأن فيه زيادة اشتهار دون السنة في
الواجبات الإشهار، ولهذا ليس رفع الصوت بالتلبية.
م: (لأنه) ش: أي لأن هدي المتعة. م: (يتوقت بيوم النحر) ش: يعني لا يحل من
مكة أي هديه. م: (فعسى أن لا يجد من يمسكه، فيحتاج إلى أن يعرف به) ش: أي
إلى أن يأخذه معه إلى عرفات. م: (ولأنه دم نسك) ش: أي ولأن الهدي المتعة
قربة. م: (فيكون مبناه على التشهير) ش: لما ذكرنا أن السنة في الواجبات
الإشهار. م: (بخلاف دماء الكفارات؛ لأنه يجوز ذبحها قبل يوم النحر على ما
ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله لأنها وجبت لجبر النقصان، كان التعجيل بها أولى
لارتفاع النقصان به. م: (وسببها) ش: أي وسبب دماء الكفارة. م: (الجناية،
فيليق بها الستر) ش: لأن الجناية نوع معصية فالستر فيها أحسن.
[الأفضل في ذبح البدن والبقر والغنم في الهدي]
م: (قال: والأفضل في البدن النحر، وفي البقر والغنم الذبح) ش: الذي هو قطع
الأوداج، وعن الليث الذبح قطع الحلقوم من باطن عند التفصيل وهو أظهر وأسلم،
قاله في " المغرب ".
والنحر في اللبة مثل الذبح في الحلق. اللبة المنحر هو الصدر والنحر هو
الوضع الذي ينحر فيه الهدي. م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] (الكوثر: الآية 2)) هذا دليل لقوله: والأفضل في
البدن النحر.
م: (قيل في تأويله) ش: أي في تأويل قوله وانحر. م: (الجزور) ش: أي نحر
الجزور والبعير ذكرًا كان أو أنثى، إلا أن اللفظة يريد بقوله هي الجزور،
وإن أردت ذكرًا والجمع جزور أو جزائر، وإنما قال قيل في تأويله بصيغة
المجهول؛ لأنه ورد فيه معان كثيرة، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معنى
انحر ضع يدك على نحرك في الصلاة. وعن بعض الصحابة وجه نحرك إلى القبلة، وعن
عطاء أمر أن يستوي بين السجدتين جالسًا حتى يبدو غيره، وقيل انحر هواك
ونفسك وشيطانك في الصلاة.
م: (وقال الله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] (البقرة:
الآية 67)) ش: هذا دليل لقوله وفي البقر والغنم الذبح وذكر هذا الدليل لذبح
البقر، وذكر الدليل لذبح الغنم بقوله. م: (وقال الله تعالى:
(4/489)
وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ} [الصافات: 107] (الصافات: الآية 107) ، والذبح ما أعد للذبح، وقد
صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر الإبل وذبح البقر
والغنم» ثم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قياما أو أضجعها، وأي ذلك فعل فهو
حسن، والأفضل أن ينحرها قياما لما روينا: «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - نحر الهدايا قياما» . وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
كانوا ينحرونها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ش: (الصافات: الآية 107)
وجه الاستدلال به أن الله لما أمر إبراهيم بذبح ولده إسماعيل، ورأى منهما
الصدق والامتثال لأمره من عليهما بقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
[الصافات: 107] (الصافات: الآية: 107) ، وكان كبشا من الجنة.
م: (والذبح) ش: بكسر الذال. م: (ما أعد للذبح) ش: فعلم منه أن الغنم تذبح.
م: (وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر الإبل وذبح
البقر والغنم) ش: ذكر هنا إذا صح «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه نحر الإبل وذبح البقر والغنم، أما نحر الإبل فقد صح في
حديث جابر الطويل، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثة وستين بدنة، ثم أعطى
عليًا - رضي الله عنه - فنحر ما غير» وأما ذبح البقر فقد ذكر مخرج الأحاديث
حديث البخاري ومسلم «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت فدخل علينا
يوم النحر بلحم بقر، فقلت ما هذا، قالوا ذبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أزواجه» .
قلت: هذا لا يدل قطعًا أنه ذبح البقرة بيده الكريمة يومئذ؛ لأنه يحتمل
قطعًا أن يكون أمر بذبحها، بل الظاهر هذا، كما يقال: بنى الأمير هذا القصر،
معناه أنه هو الذي أمر ببنائه، وأما ذبح الغنم فأخرجه الأئمة الستة في
كتبهم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «ضحى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين فرأيته واضعًا قدميه على
صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده اليمنى» ولم أر أحدًا من شراح " الهداية "
حرر هذا الموضع كما ينبغي، بل منهم من قال: هذا ظاهر، قلت: ليت شعري من أين
هذا الظهور.
[كيفية ذبح الهدي]
م: (ثم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قياما) ش: الهدايا جمع هدية، صفة الإبل
وقيامًا حال من الإبل بمعنى قائمات، لما روى البخاري عن أنس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر
بيده سبع بدن قيامًا» . م: (أو أضجعها) ش: أي أناخها وأبركها لما روي أن
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان ينحر بدنة قائمًا وربما ينحرها
باركة.
م: (وأي ذلك فعل فهو حسن) ش: أي الأمرين من الاضطجاع والقيام فعل حسن لما
ذكرنا وفعل ذلك أيضًا من الصحابة. م: (والأفضل أن ينحرها قياما «لما روي:
أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر الهدايا قيامًا» ش: الحديث
أخرجه البخاري ومسلم عن أنس. «قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الظهر بالمدينة أربعًا ونحن معه إلى أن قال: ونحر رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع بدنات قيامًا» مختصر.
م: (وأصحابه - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - كانوا ينحرونها
قياما معقولة اليد اليسرى) ش: هذا رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، أخبرني عبد الرحمن بن
(4/490)
قياما معقولة اليد اليسرى، ولا يذبح البقر
والغنم قياما؛ لأن في حالة الاضطجاع الذبح أبين، فيكون الذبح أيسر، والذبح
هو السنة فيهما. قال: والأولى أن يتولى ذبحها بنفسه إذا كان يحسن ذلك؛ لما
روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة في حجة
الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه، وولى الباقي عليا،» ولأنه قربة والتولي في
القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع، إلا أن الإنسان قد لا يهتدي لذلك
ولا يحسنه، فجوزنا تولية غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سابط أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينحرون
البدنة معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها قيل هذا مرسل ليس
بصحيح، فإن المخبر عن عبد الرحمن بن سابط هو ابن جريج - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - والحديث من مسند جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما ذكره أصحاب
الأطراف، واعترض على المصنف بأنه لو استدل على عقل يدها اليسرى بعقل النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكان أولى من أن يستدل عليه بعقل
الصحابة، قلت: هذا اعتراض باطل؛ لأن المصنف لم يذكر ذلك حتى يستدل، وعقل
اليد لما يذكره المصنف إلا من تمام الحديث.
م: (ولا يذبح البقر والغنم قياما؛ لأن في حالة الاضطجاع الذبح أبين) ش: أي
موضع الذبح المحصر بخلاف ما إذا كانت قيامًا. م: (فيكون الذبح) ش: في حالة
الاضطجاع. م: (أيسر، والذبح هو السنة فيهما) ش: أي في البقر والغنم والواو
فيه للحال. م: (قال: والأولى أن يتولى الذبح بنفسه إذا كان يحسن ذلك) ش: أي
الذبح. م: (لما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق
مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه، وولى الباقي عليا - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -» -) ش: صح هذا الحديث من حديث جابر الطويل - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ساق مائة بدنة
في حجة الوداع، إلى المنحر فنحر ثلاثة وستين بيده ثم أعطى عليًا، فنحر ما
غبر» وقد ذكرناه. م: (ولأنه) ش: أي ولأن ذبح الهدي. م: (قربة) ش: أي يقرب
إلى الله تعالى. م: (والتولي) ش: أي بنفسه.
م: (في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع) ش: لأن الشخص إذا تولى حاجة
بنفسه يدل على تواضعه ومسكنته. م: (إلا أن الإنسان) ش: استثناه من قوله:
والتولي. م: (قد لا يهتدي لذلك) ش: أي للذبح بنفسه. م: (ولا يحسنه) ش: أي
الذبح. م: (فجوزنا تولية غيره) ش: لأنه إذا لم يحسن ربما يعذب الحيوان
ويجعله ميتة.
وقد قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
يكره أن يتولى ذلك غيره إلا عند العجز، واستحب الجمهور استقبال القبلة بها،
وكان ابن عمر وابن سيرين -
(4/491)
قال: ويتصدق بجلالها وخطامها ولا يعطي أجرة
الجزار منها
قال: «لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: " تصدق بجلالها وبخطامها، ولا يعطي أجرة الجزار منها» . ومن ساق
بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها لأنه جعلها
خالصة لله تعالى، فما ينبغي أن يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه،
إلى أن يبلغ محله، إلا أن يحتاج إلى ركوبها، لما روي «أنه - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: " اركبها ويلك» ،
وتأويله أنه إن كان عاجزا محتاجا، ولو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما
نقص من ذلك وإن كان لها لبن لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يكرهان ما ليس يستقبل به القبلة ولو استناب
يهوديًا أو نصرانيًا يجوز، ولكنه يكره، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ
- وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقع
قربة.
م: (ويتصدق بجلالها) ش: وفي بعض النسخ قال ويتصدق، أي قال القدوري -
رَحِمَهُ اللَّهُ - ويتصدق بجلها وهو جمع جل وهو ما يلبس على الدابة. م:
(وخطامها) ش: بكسر الخاء المعجمة وهو الزمام، وهو ما يجعل في عنق البعير.
م: (ولا يعطي أجرة الجزار منها) ش: أي من الهدايا.
هذا الحديث رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنة، وأقسم جلالها وجلودها وأمرني أن لا
أعطي الجزار منها شيئًا» ويجوز أن يتصدق على الجزار منها شيئا سوى أجرته
عند الأكثر وإن أعطى شيئا منها [....] ؛ لأنه إتلاف أو معاوضة.
[ركوب الهدي]
م: (ومن ساق بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها) ش:
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وقال عروة ومالك وأحمد وإسحاق وداود - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جميعًا -:
يركبها من غير ضرورة. وقال الماوردي من الشافعية يركبها من غير حاجة إلا
أنه يهزلها الركوب، ومن هذا حمل متاعه عليها عند الحاجة وأوجب بعضهم
ركوبها. وتلك في الثانية أو الثالثة. رواه البخاري ومسلم وأبو داود
والنسائي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (لأنه جعلها خالصة لله تعالى، فلا ينبغي أن يصرف شيئا من عينها أو
منافعها إلى نفسه، إلى أن يبلغ محله، إلا أن يحتاج إلى ركوبها، «لما روي أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: "
اركبها ويلك ") » ش: هو حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما
ذكرناه الآن قوله ويلك، هنا كلمة ترحم ولهذا جاء في رواية ويحك، ومعناه
اركبها لئلا يفضي مشيك إلى الهلاك.
م: (وتأويله) ش: أي تأويل الحديث المذكور. م: (أنه إن كان عاجزا محتاجا) ش:
إلى الركوب وليس معه ما يكره. م: (ولو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما
نقص من ذلك) ش: أي من ركوبه ويتصدق به على الفقراء، وبه قال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن انتفاع الأغنياء بها تعلق ببلوغها المحل، فإذا لم
يبلغ، وجب التصدق على الفقراء. م: (وإن كان لها لبن لم يحلبها لأن اللبن
متولد منها
(4/492)
يحلبها؛ لأن اللبن متولد منها، فلا يصرفه
إلى حاجة نفسه، وينضح ضرعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن. ولكن هذا إذا
كان قريبا من وقت الذبح، فإن كان بعيدا منه يحلبها ويتصدق بلبنها كي لا يضر
ذلك بها. وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثله أو بقيمته؛ لأنه مضمون عليه.
ومن ساق هديا فعطب، فإن كان تطوعا فليس عليه غيره؛ لأن القربة تعلقت بهذا
المحل وقد فات، وإن كان عن واجب فعليه أن يقيم غيره مقامه؛ لأن الواجب باق
في ذمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلا يصرفه إلى حاجة نفسه) ش: وبه قال الشافعي وفي منعهم إلا أن يفضل عن روي
الولد أو يموت الولد، فحينئذ له أن يحلبها لأن ترك الحلب يضر بها.
م: (وينضح) ش: أي ترش من باب ضرب. م: (ضرعها بالماء البارد حتى ينقطع
اللبن) ش: وجوز الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
شرب لبنها بعد كفاية فصلها.
وفي " شرح النووي " لبن الهدي المنذور يجوز شربه عند الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - مع أنه قد زال ملكه للفقراء، ولا يجوز بيعه بلا خلاف عندهم، وفي
" الإمام " روى ابن أبي العوام الحافظ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في فضائل أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جهة إسحاق بن أبي إسرائيل، قال حدثنا يحيى
بن اليماني، قال حدثنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمار عن إبراهيم
- رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إذا در اللبن من البدنة، فإذا نفحه بالماء لما
يتقلص، وإن جز وبرها أو صوفها تصدق به أو بقيمته إن استهلكه. وفي " المبسوط
" يتصدق بولد الهدي أو بذبحه معها، فإن باعه تصدق بثمنه، ويسري حكم الهدي
إلى أولادها، وعليه الأئمة. وقال أشهب: إذا باع ولد الهدي، فعليه بدله
كبير.
وقال ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن نحره في الطريق، أبدله ببعير في
مناخ البدنة لا ينفره، وفساد هذين القولين لا يحتاج إلى بيان. م: (ولكن هذا
إذا كان قريبا من وقت الذبح) ش: هذا إشارة إلى قوله لم يحلبها. م: (فإن كان
بعيدا منه) ش: أي من وقت الحج. م: (يحلبها ويتصدق بلبنها كي لا يضر ذلك) ش:
أي عدم الحلب. م: (بها) ش: أي بهدي البدنة.
م: (وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثله) ش: لأنه من ذوات الأمثال. م: (أو
بقيمته) ش: أي أو يتصدق بقيمته؛ لأن دفع القيمة في حقوق الله تعالى جائزة.
م: (لأنه مضمون عليه) ش: أي لأن اللبن مضمون على نفسه لأنه جزء من أجزاء
الهدي، وقد لزمته الإراقة بجميع أجزائه وبالحلب والصرف إلى حاجة نفسه عجز
عن الإراقة فيه، وكان عليه التصدق كما لو عجز عن إراقة الكل.
[الحكم لو ساق هديا فعطب أو هلك]
م: (ومن ساق هديا فعطب) ش: أي هلك. م: (فإن كان تطوعا فليس عليه غيره؛ لأن
القربة تعلقت بهذا المحل وقد فات) ش: كما إذا نذر أن يتصدق بدراهم معينة،
فهلكت قبل الصرف إلى الفقراء لا يلزمه شيء إلا حسن لأن الواجب كان في العين
لا في الذمة. م: (وإن كان) ش: الهدي. م: (واجبًا فعليه أن يقيم غيره مقامه؛
لأن الواجب باق في ذمته) ش: لأن الواجب هنا في الذمة لا في العين
(4/493)
وإن أصابه عيب كبير يقيم غيره مقامه؛ لأن
المعيب بمثله لا يتأدى به الواجب، فلا بد من غيره، وصنع بالمعيب ما شاء؛
لأنه التحق بسائر أملاكه. وإذا عطبت البدنة في الطريق، فإن كان تطوعا نحرها
وصبغ نعلها بدمها وضرب بها صفحة سنامها، ولا يأكل هو ولا غيره من الأغنياء
بذلك أمر رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ناجية الأسلمي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والمراد بالنعل قلادتها، وفائدة ذلك أن يعلم الناس
أنه هدي، فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء، وهذا لأن الإذن بتناوله معلق
بشرط بلوغه محله، فينبغي أن لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما لم يذبحه في الحرم، لا يسقط عنه ما في الدية، فلزمه غيره كما إذا عزل
دراهم الزكاة، فهلكت قبل الصرف إلى الفقراء، يلزمه إخراجها ثانيا.
قال النووي: لو نذر هديًا معينا فتعبت، لا يلزمه إبداله، وهو قول عبد الله
بن الزبير وعطاء والحسن البصري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - والنخعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - والزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال، وقال أبو
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه إبداله ولا يجوز للمهدي ولا لسائقه ولا
للغني أن يأكل من هذا الهدي، ويجوز للفقراء من غير الرفقة. وفي الفقراء
الرفقة وجهان أصحهما لا يجوز ويترك جزرًا للسباع.
م: (وإن أصابه عيب كبير) ش: أراد بالكبير ما يكون مانعًا في الأضحية. وقال
في قاضي خان: العيب الكبير أن يذهب أكثر من ثلثي الأذن على قول أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى قولهما إن ذهب أكثر من نصف الأذن يمنع. م: (يقيم
غيره) ش: أي غير العيب. م: (مقامه؛ لأن المعيب بمثله لا يتأدى به الواجب،
فلا بد من غيره، وصنع بالمعيب ما شاء؛ لأنه التحق بسائر أملاكه) .
ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يجب دفع المعيب مع بدله، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ
-. م: (وإذا عطبت البدنة في الطريق) ش: أراد إذا قر من العطب. م: (تضمن) ش:
أي الهلاك بدليل قوله نحرها. م: (فإن كان تطوعا نحرها وصبغ نعلها بدمها
وضرب بها صفحة سنامها، ولا يأكل هو ولا غيره من الأغنياء بذلك أمر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناجية الأسلمي) ش: قد تقدم
حديثه في هذا الباب، قال في " الجنازية " هذه المسألة مكررة في الظاهر ورد
بأن الأول في الهدي، وهذه في البدنة وخصها بالذكر بعدما دخلت في ذلك
العموم، كما هو رواية من ذكر الأصول على الإبهام ثم الشروع في بيان
تفاصيلها، أو نقول ذلك ذكر في الأولى أنه هذا عليه غيره أم لا وفصل بين
الواجب والتطوع في حق هذا الحكم ولم يبين أنه ما إذا يفعل بالذي عطب
فأعادها لبيان ما يفعل به.
في هذا الحكم فصل أيضًا بين التطوع والواجب، غير أنه أعاد قوله وإن كانت
واجبة أقام غيره تأكيدًا. م: (والمراد بالنعل قلادتها، وفائدة ذلك) ش: أي
وفائدة صبغ النعل بالدم. م: (أن يعلم الناس أنه هدي، فيأكل منه الفقراء دون
الأغنياء، وهذا لأن الإذن بتناوله معلق بشرط بلوغه محله، فينبغي أن لا
(4/494)
يحل قبل ذلك أصلا إلا أن التصدق على
الفقراء أفضل من أن يتركه جزرا للسباع، وفيه نوع تقرب. والتقرب هو المقصود.
فإن كانت واجبة أقام غيرها مقامها، وصنع بها ما شاء؛ لأنه لم يبق صالحا لما
عينه وهو ملكه كسائر أملاكه. ويقلد هدي التطوع والمتعة والقران؛ لأنه دم
نسك، وفي التقليد إظهاره وتشهيره فيليق به، ولا يقلد دم الإحصار ولا دم
الجنايات؛ لأن سببها الجناية والستر أليق بها، ودم الإحصار جائز فيلحق
بجنسها. ثم ذكر الهدي ومراده البدنة؛ لأنه لا يقلد الشاة عادة، ولا يسن
تقليدها عندنا لعدم فائدة التقليد على ما تقدم، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحل قبل ذلك أصلًا، إلا أن التصدق على الفقراء أفضل من أن يتركه جزرًا
للسباع) ش: بفتح الجيم والزاي. وهو اللحم الذي يأكله السباع. هكذا نقل عن
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. م: (وفيه نوع تقرب) ش: أي وفي التصدق
على الفقراء نوع تقرب إلى الله تعالى. م: (والتقرب هو المقصود) ش: وبأكل
الفقراء يحصل التقرب الذي هو المقصود، ولا يجوز للمهدي ولا لسائقه ولا
للغني أن يأكل من هذا الهدي، ويجوز للفقراء من غير الرفقة فإن كانت واجبة
وفي فقراء الرفقة وجهان عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصحهما لا يجوز،
ويترك جزرًا للسباع، ويمنع الفقراء الحاضرون المحتاجون إليه من الرفقة. م:
(فإن كانت واجبة) ش: عطف على قوله فإن كانت تطوعًا. م: (أقام غيرها مقامها،
وصنع بها) ش: أي بالبدنة التي عطبت. م: (ما شاء؛ لأنه لم يبق صالحا لما
عينه وهو ملكه كسائر أملاكه) ش: وتذكير الضمير في هذه الألفاظ باعتبار
الهدي. م: (ويقلد هدي التطوع والمتعة والقران؛ لأنه دم نسك، وفي التقليد
إظهاره وتشهيره فيليق به) ش: الضمائر في هذه الألفاظ الثلاثة يرجع إلى دم
نسك. وفي " المحيط " ويقلد دم النذر لأنه دم نسك وعبادة، وفي إظهار هذه
الدماء إظهار الشعائر مع موافقة السنة.
[تقليد دم الإحصار والجنايات]
م: (ولا يقلد دم الإحصار ولا دم الجنايات؛ لأن سببها الجناية والستر أليق
بها) ش: أي بدم الجنايات.
م: (ودم الإحصار جائز) ش: كان هذا جواب عما يقال وكيف لا يقلد دم الإحصار
وهو غير جناية فأجاب بقوله: ودم الإحصار جائز. م: (فيلحق بجنسها) ش: أي
يلحق دم الإحصار بجنس وبالجنايات لأنه جابر كهي يعني لا تقلد هؤلاء كما لا
تقلد هي، فقيل: إنه روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قلد
هدايا الإحصار وأجيب بأنه كان قلدها للمتعة، فلما أحصرت بقيت كما كانت فبعث
إلى مكة على حالها. م: (ثم ذكر الهدي) ش: أي ثم ذكر القدوري الهدي في قوله:
ومن ساق الهدي فعطبت. م: (ومراده البدنة؛ لأنه لا يقلد الشاة عادة، ولا يسن
تقليدها عندنا) ش: وفي بعض النسخ ولا يسن تقليده بتذكير الضمير على تأويل
الهدي. م: (لعدم الفائدة في تقليدها) ش: لأن الشاة لا تكون مسبية بل يكون
صاحبها معها يحفظها بخلاف الإبل والبقر، فإنهما تحلبان، فقلدنا صيانة على
أيدي من يطمع فيها وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (على ما
تقدم) ش: يعني قبل باب القران حيث قال: هناك تقليد الشاة غير معتاد.
(4/495)
مسائل منثورة هل عرفة إذا وقفوا في يوم
وشهد قوم أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم، والقياس أن لا يجزيهم اعتبارا بما
إذا وقفوا يوم التروية، وهذا لأنه عبادة تختص بزمان ومكان، فلا يقع عبادة
دونهما. وجه الاستحسان أن هذه شهادة قامت على النفي وعلى أمر لا يدخل تحت
الحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مسائل منثورة في الحج]
م: (مسائل منثورة) ش: أي هذه مسائل منثورة أي متفرقة أو مسائل شتى قاله
الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي لم تدخل في الأبواب. وقال الأكمل: من عادة
المصنفين أن يذكروا في آخر الكتاب ما شذ وندر من مسائل في الأبواب السالفة
في فصل على حدة، تكثيرًا للفائدة ويترجموا عنه بمسائل منثورة أو مسائل شتى
أو مسائل متفرقة أو مسائل لم تدخل في الأبواب.
م: أهل عرفة إذا وقفوا في يوم وشهد قوم أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم) ش:
هذه المسألة من خواص " الجامع الصغير "، قوله أجزأهم أي وقوفهم حتى يتم
حجهم به. صورة المسألة أن يشهد قوم أنهم رأوا هلال ذي الحجة في ليلة؛ لأن
اليوم الذي وقفوا فيه اليوم العاشر. م: (والقياس أن لا يجزيهم اعتبارا بما
إذا وقفوا يوم التروية) ش: يعني قياسًا على ما إذا وقفوا، يوم التروية وهو
يوم الثامن من ذي الحجة. وشهد الشهود أنهم وقفوا في هذا اليوم، يعني يوم
التروية حيث لا يجوز ثم أوضح وجه القياس بقوله. م: (وهذا لأنه) ش: أي لأن
الوقوف. م: (عبادة تختص بزمان ومكان فلا يقع عبادة دونهما) ش: أي دون
الزمان والمكان المعهودين، ويوجه المقيس عليه. قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
- والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
رواية وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح أنه يجزيهم فكذا هذا.
م: (وجه الاستحسان أن هذه شهادة قامت على النفي) ش: ولكن بقي جواز وقوفهم
وجواز حجهم فلا يقبل؛ لأن المقصود من النية الإثبات. وبالنفي لا يحيط العلم
ولا شهادة بدون العلم.
فإن قيل: لو ادعت امرأة أن زوجها قال لها أنت طالق، وادعى الزوج أنه استثنى
بعد ذلك، فشهدوا على أنه لا استثنى يقبل، وكذا لو ادعت أنه لو قال: المسيح
ابن الله، وقال الزوج: إنه وصل ذلك بقوله قول النصارى تقبل الشهادة أنه لم
يقل قول النصارى. وهذا معنى قول.
قلنا: هذه الشهادة قامت على أمر شاهد معاين وهو هلال ذي الحجة قلنا وهو
السكوت.
فإن قيل: هنا أيضًا قامت على أمر معين وهو هلال ذي الحجة.
قلنا: لا كذلك؛ لأن رواية الهلال لا تدخل تحت الحكم.
م: (وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم) ش: أي وقامت أيضًا هذه الشهادة على أمر لا
يدخل تحت
(4/496)
لأن المقصود منها نفي حجهم، والحج لا يدخل
تحت الحكم فلا تقبل، ولأن فيه بلوى عاما لتعذر الاحتراز عنه، والتدارك غير
ممكن، وفي الأمر بالإعادة حرج بين، فوجب أن يكتفى به عند الاشتباه، بخلاف
ما إذا وقفوا يوم التروية؛ لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه
في يوم عرفة، ولأن جواز المؤخر له نظير، ولا كذلك جواز المقدم. قالوا:
ينبغي للحاكم أن لا يسمع هذه الشهادة ويقول قد تم حج الناس فانصرفوا؛ لأنه
ليس فيها إلا إيقاع الفتنة. وكذا إذا شهدوا عشية عرفة برؤية الهلال، ولا
يمكنه الوقوف في بقية الليل مع الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حكم القاضي؛ لأن البر من باب المنازعات، فصار كأنهم عهدوا بأنه لم يصل، فلا
يجب على القاضي شيء. م: (لأن المقصود منها نفي حجهم، والحج لا يدخل تحت
الحكم فلا تقبل) ش: أي الشهادة، وذلك لما ذكرنا. م: (ولأن فيه) ش: للزوجة
بأن من الاستحسان أي في الخطأ في عرفة أو في الوقوف يوم عرفة أو في عدم
جواز الحج. م: (بلوى عاما لتعذر الاحتراز عنه) ش: لأن تغيير هذا اللفظ
يتعذر.
م: (والتدارك غير ممكن، وفي الأمر بالإعادة حرج بين، فوجب أن يكتفى به عند
الاشتباه) ش: فيجعل عفوًا لئلا يكون تكليفًا بما ليس في الوسع. م: (بخلاف
ما إذا وقفوا يوم التروية؛ لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه
في يوم عرفة) ش: يعني بالوقوف فيها. م: (ولأن جواز المؤخر له نظير) ش:
كقضاء الصلاة وقضاء الصيامات فيجزيهم الوقوف يوم النحر. م: (ولا كذلك جواز
المقدم) ش: فإنه لا نظير له في الشرع، فلا يجزيهم الوقوف بيوم التروية.
فإن قلت: له نظير آخر أيضًا، ألا ترى أن صلاة الفطر تقدم عن وقتها يوم
عرفة.
قلت: هذا أمر مثبت بخلاف القياس، فلا يقاس عليه.
م: (قالوا) ش: أي العلماء وأصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م:
(ينبغي للحاكم أن لا يسمع هذه الشهادة ويقول قد تم حج الناس فانصرفوا؛ لأنه
ليس فيها) ش: أي في هذه الشهادة. م: (إلا إيقاع الفتنة) ش: قال - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها» . وعن محمد
- رَحِمَهُ اللَّهُ - جاز للشهود أن يقضوا مع الإمام، ويجوز حجهم. م: (وكذا
إذا شهدوا) ش: وفي بعض النسخ وكذلك أي وكذلك الحكم في عدم قبول شهادتهم أو
شهدوا. م: (عشية عرفة برؤية الهلال) ش: صورته أن الشهود شهدوا في الطريق
قبل أن يلحقوا عرفات عقبة عرفات وقالوا إن كنا رأينا الهلال، يعني هلال ذي
الحجة، وهذا اليوم هو التاسع.
م: (ولا يمكنه) ش: أي والحال أن الإمام لا يمكنه. م: (الوقوف في بقية الليل
مع سائر الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة) ش: ويقفون من الغد بعد
الزوال؛ لأنهم لما شهدوا وقد تعذر الوقوف، صار كأنهم شهدوا بعد الوقوف، فلا
تسمع وإن كان يلحق الوقوف مع أكثر الناس
(4/497)
قال: ومن رمى في اليوم الثاني الجمرة
الوسطى والثالثة ولم يرم الأولى، فإن رمى الأولى ثم الباقيتين فحسن؛ لأنه
راعى الترتيب المسنون. ولو رمى الأولى وحدها أجزأه) لأنه تدارك المتروك في
وقته، وإنما ترك الترتيب. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزيه ما
لم يعد الكل؛ لأنه شرع مرتبا، فصار كما إذا سعى قبل الطواف أو بدأ بالمروة
قبل الصفا. ولنا أن كل جمرة قربة مقصودة بنفسها، فلا يتعلق الجواز بتقديم
البعض على البعض، بخلاف السعي؛ لأنه تابع للطواف؛ لأنه دونه، والمروة عرفت
منتهى السعي بالنص فلا تتعلق بها البداية.
قال: ومن جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة.
وفي الأصل: خيره بين الركوب والمشي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولكن لا تلحقه الضعفة، فإن وقف جاز، وإلا فات الحج؛ لأنه ترك الوقوف مع
العلم والقدرة، وإنما المعتبر قدرة الأكثر لا قدرة الأقل.
[رمى في اليوم الثاني الجمرة الوسطى والثالثة]
م: (ومن رمى في اليوم الثاني) ش: وفي أكثر النسخ قال: ومن رمى أي قال محمد
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ". م: (الجمرة الوسطى والثالثة)
ش: أي الجمرة الثالثة. م: (ولم يرم الأولى) ش: أي الجمرة الأولى. م: (فإن
رمى الأولى ثم الباقيتين) ش: أي الجمرتين الباقيتين. م: (فحسن) ش: لمراعاة
الترتيب المسنون وهو معنى قوله. م: (لأنه راعى الترتيب المسنون. ولو رمى
الأولى وحدها أجزأه؛ لأنه تدارك المتروك في وقته، وإنما ترك الترتيب) ش:
ولا يضره لأنه سنة.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزيه ما لم يعد الكل؛ لأنه شرع
مرتبا، فصار كما إذا سعى قبل الطواف أو بدأ بالمروة قبل الصفا. ولنا أن كل
جمرة قربة مقصودة بنفسها، فلا يتعلق الجواز بتقديم البعض على البعض، بخلاف
السعي؛ لأنه تابع للطواف؛ لأنه دونه) ش: لانفصاله من البيت، ولكنه من جنسه
فيعاد تحقيقًا للتبعية. م: (والمروة عرفت منتهى السعي بالنص) ش: وهو قوله -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الصفا والمروة من شعائر الله
فابدءوا بما بدأ الله تعالى» فبدأ بالصفا، فلم يعتبر البداية بالمروة وهو
معنى قوله. م: (فلا تتعلق بها البداية) ش: لا يقال: كل صلاة مقصودة بنفسها
أيضًا لتعلق جوازها بغيرها، ومع هذا وجب الترتيب عندكم، ولأنا نقول ثبت ذلك
بالنص، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من نام عن صلاة أو
نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» .
[جعل على نفسه أن يحج ماشيا]
م: (قال: ومن جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى يطوف طواف
الزيارة) ش: وعند الشافعي ومالك - رحمهما الله -، يلزمه المشي إلى أن يتحلل
التحلل الثاني، وهو الرمي ثم لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شيء من
الكتب من أي موضع يبدأ بالمشي من النذر قيل من بيته وهو الأصح، وبه قال
أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه هو المراد عرفًا، ولهذا كان
الأفضل أن يحرم من بيته، وقيل من الميقات وبه قال عامة أصحاب الشافعي -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه يحرم من الميقات وقيل من أي موضع يحرم فيه.
م: (وفي الأصل) ش: أي في " المبسوط ". م: (خيره بين الركوب والمشي) ش: لأن
الحج راكبًا
(4/498)
وهذا إشارة إلى الوجوب، وهو الأصل؛ لأنه
التزم القربة بصفة الكمال، فتلزمه بتلك الصفة، كما إذا نذر الصوم متتابعا.
وأفعال الحج تنتهي بطواف الزيارة، فيمشي إلى أن يطوفه. ثم قيل: يبتدئ المشي
من حين يحرم، وقيل من بيته لأن الظاهر أنه هو المراد، ولو ركب أراق دما
لأنه أدخل نقصا فيه، قالوا: إنما يركب إذا بعدت المسافة وشق عليه المشي،
وإذا قربت والرجل ممن يعتاد المشي ولا يشق عليه ينبغي أن لا يركب.
ومن باع جارية محرمة قد أذن لها في ذلك فللمشتري أن يحللها ويجامعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أفضل ويكره ماشيًا. م: (وهذا إشارة إلى الوجوب) ش: أي وفي " الجامع الصغير
" أشار إلى وجوب المشي، وفي بعض النسخ وهذا إشارة إلى الوجوب. أي قوله: "
لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة " أشار إلى وجوب المشي؛ لأنه إخبار عن
المجتهد، وإخباره يعتبر بإخبار الشرع؛ لأنه نائبه في بيان الأحكام. م: (وهو
الأصل) ش: أي الوجوب هو الأصل. م: (لأنه التزم القربة بصفة الكمال، فتلزمه
بتلك الصفة، كما إذا نذر بالصوم متتابعا) ش: يلزمه متتابعًا، ولكن إذا حج
راكبًا يجزيه، لكن يلزمه الجزاء، فإذا ركب في الكل والأكثر يلزمه الدم، وفي
الأقل تلزمه الصدقة بقدره من الكل من قيمة الشاة الوسط.
[أفعال الحج تنتهي بطواف الزيارة]
م: (وأفعال الحج) ش: يريد بالأفعال الأركان، لا مطلق الأفعال، فإن رمي
الجمار وغيره من أفعاله. م: (تنتهي بطواف الزيارة، فيمشي إلى أن يطوفه) ش:
أي طواف الزيارة؛ لأنه آخر الأركان في الحج. م: (ثم قيل: يبتدئ المشي من
حين يحرم) ش: وعليه فتوى فخر الإسلام والإمام العتابي وغيرهما، وهو الصحيح.
م: (وقيل من بيته) ش: أي يمشي من بيته. م: (لأن الظاهر أنه هو المراد) ش:
وقد ذكرنا هذا عن قريب بما فيه من الخلاف. م: (ولو ركب أراق دما لأنه أدخل
نقصا فيه) ش: أي في جعله على نفسه أن يحج ماشيا، وبه قال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول عند العجز.
م: (قالوا) ش: أي قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يشير به إلى بيان
التوفيق بين رواية الأصل وبين رواية " الجامع الصغير "، ونقل فخر الإسلام
البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير " عن الفقيه أبي جعفر
الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (إنما يركب إذا بعدت المسافة وشق عليه
المشي، وإذا قربت) ش: أي المسافة والحال أن. م: (والرجل ممن يعتاد المشي
ولا يشق عليه المشي ينبغي أن لا يركب) ش: وبهذا يحصل التوفيق بين روايتي
الأصل و" الجامع الصغير ".
[باع جارية محرمة فهل للمشتري أن يجامعها]
م: (ومن باع جارية محرمة قد أذن) ش: البائع. م: (لها في ذلك) ش: أي في
الإحرام. م: (فللمشتري أن يحللها ويجامعها) ش: وقال الأترازي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وفي بعض نسخ " الجامع الصغير " أو يجامعها بلفظ، أو قال فخر
الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير " يحتمل أن يكون عن
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الأولى من الرواية تدل على أن
التحليل بأدنى محظورات الإحرام مثل قص الشعر وقلم الظفر والتطيب ونحو ذلك.
والثانية تدل على أن
(4/499)
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له
ذلك؛ لأن هذا عقد سبق ملكه، فلا يتمكن من فسخه، كما إذا اشترى جارية
منكوحة. ولنا أن المشتري قائم مقام البائع. وقد كان للبائع أن يحللها، فكذا
للمشتري، إلا أنه يكره ذلك للبائع لما فيه من خلف الوعد، وهذا المعنى لم
يوجد في حق المشتري، بخلاف النكاح؛ لأنه ما كان للبائع أن يفسخه إذا باشر
بإذنه، فكذا لا يكون ذلك للمشتري. وإذا كان له أن يحللها، لا يتمكن من ردها
بالعيب عندنا، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتمكن لأنه ممنوع عن غشيانها،
وذكر في بعض النسخ أو يجامعها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التحليل بالواقعة، وقال في كتاب " المناسك " للمشتري أن يجامعها ولم يرد
على ذلك، وهذا مذهبنا.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له ذلك) ش: أي ليس للمشتري أن
يحللها وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. م: (لأن هذا
عقد سبق ملكه) ش: أي لأن إذن البائع لها بالإحرام عقد سبق ملك المشتري. م:
(فلا يتمكن من فسخه) ش: لأن المشتري نزل منزلة البائع. م: (كما إذا اشترى)
ش: أي اشترى رجل. م: (جارية منكوحة) ش: يعني مزوجة، فليس له فسخ النكاح؛
لأنه عقد سبق ملكه. م: (ولنا أن المشتري قائم مقام البائع. وقد كان للبائع
أن يحللها) ش: لأن منافعها كانت مملوكة وخذله بعد الإذن. م: (فكذا للمشتري)
ش: أن يحللها. م: (إلا أنه يكره ذلك) ش: أي التحلل. م: (للبائع لما فيه من
خلف الوعد) ش: حيث وجد فيه الإذن. م: (وهذا المعنى) ش: أي خلف الوعد. م:
(لم يوجد في حق المشتري، بخلاف النكاح) ش: جواب عما قاله زفر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -. م: (لأنه ما كان للبائع أن يفسخه) ش: أي أن يفسخ النكاح.
م: (إذا باشر بإذنه) ش: أي بإذن المولى، وإنما لم يكن له أن يفسخ إذا كان
بإذنه لما أن النكاح حق الزوج.
فقد تعلق حقه بإذن المالك، فلا يتمكن المالك من فسخه، وإن بقي ملكه لتعلق
حق العبد به كالراهن ليس له ولاية الاستماع بالمرهون لتعلق حق المرتهن به،
والمشتري قام مقامه بعد الشراء.
م: (فكذلك لا يكون ذلك) ش: أي حق الفسخ. م: (للمشتري) ش: أما هاهنا فقد
اجتمع في الجارية حقان، حق الله في الإحرام، وحق المشتري في الاستمتاع،
فيقدم حق العبد لحاجته على حق الله لغناه. م: (وإذ كان له) ش: أي للمشتري.
م: (أن يحللها، لا يتمكن من ردها بالعيب عندنا) ش: لأن عيب الإحرام لا
يرتفع بالتحلي. م: (وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتمكن لأنه ممنوع عن
غشيانها) ش: أي من وطئها، وهذا عيب عنده فيرد به. م: (وذكر في بعض النسخ)
ش: أي ذكر محمد في بعض نسخ " الجامع الصغير ". م: (أو يجامعها) ش: يعني
بكلمة أو، وذلك في قوله: " ومن باع جارية محرمة أذن له في ذلك " فللمشتري
أن يحللها ويجامعها. وذكر فيه بواو العطف وقد بينا هذا هناك مفصلًا.
(4/500)
والأول يدل على أنه يحللها بغير الجماع بقص
شعر أو بقلم ظفر، ثم يجامع، والثاني يدل على أنه يحللها بالمجامعة؛ لأنه لا
يخلو عن تقديم مس يقع به التحلل، والأولى أن يحللها بغير المجامعة تعظيما
لأمر الحج، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والأول) ش: أي قوله أن يحللها ويجامعها بواو العطف. م: (يدل على أنه
يحللها بغير الجماع بقص شعرها أو بقلم ظفر، ثم يجامع، والثاني) ش: هو قوله
أو يجامعها بكلمة أو. م: (يدل على أنه يحللها بالمجامعة؛ لأنه لا يخلو عن
تقديم مس يقع به التحلل، والأولى أن يحللها بغير المجامعة تعظيما لأمر
الحج، والله أعلم بالصواب) ش: وماله إليه صاحب " الهداية " بقوله، والأول
ولم ير بعضهم الجواز للمجامعة الواقعة عن تقديم شيء يقع به التحلل فيصيبها
بعد التحلل.
تم المجلد الرابع من تجزئة المحقق
يليه المجلد الخامس أوله: " كتاب النكاح "
(4/501)
|