البناية شرح الهداية

كتاب الرضاع قال: قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل في مدة الرضاع يتعلق به التحريم. وقال الشافعي: لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الرضاع] [عدد الرضعات المحرمات]
م: (كتاب الرضاع) ش: أي هذا كتاب الرضاع، وهو بفتح الراء وهو الأصل، وبكسرها لغة. وقال عياض: الرضاعة بفتح الراء وكسرها فيهما، وأنكر الأصمعي كسرها مع أنها في الصحاح رضع الصبي أمه يرضعها رضاعا، مثل سمع يسمع سماعا، وأهل نجد يقولون: رضع رضاعا بكسر الضاد، وفي المضارع مثل ضرب يضرب ضربا، والمرضع التي لها ابن رضاع، أو ولد رضيع، قاله عياض.
وقال الجوهري: المرأة ترضع ذات ولد رضيع ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت مرضعة، وإنما كان المقصود من النكاح هو التوالد والتناسل، والولد لا بد له من الرضاع، ناسب ذكرنا الرضاع عقيب النكاح.
فإن قلت: الرضاع سبب التحريم، فكان المناسب أن يذكره في المحرمات.
قلت: لما خص الرضاع بمسائل شهادة النساء في الرضاع، ومثل خلط اللبن بالرق، وغير ذلك أفرده بكتاب واحد، والرضاع في الشرع هو مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص، والمص يتناول القليل والكثير، وقوله: ثدي الآدمية احتراز عن ثدي الشاة ونحوها، فإن الرضاع لا يثبت به، والمراد من وقت مخصوص هو مدة الرضاع، وفي تقديرها اختلاف، سيأتي إن شاء الله تعالى.
م: (قال: قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل في مدة الرضاع يتعلق به التحريم) ش: وكذا روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وبه قال الحسن البصري وسعيد بن المسيب، وطاوس، وعطاء ومكحول، والزهري، وقتادة، وعمرو بن دينار، والحكم، وحماد، والأوزاعي، والثوري، ووكيع، وعبد الله بن المبارك، والليث بن سعد ومجاهد، وزاد الشيخ أبو بكر الرازي: عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - والشعبي والنخعي. وقال ابن المنذر: وهو قول أكثر الفقهاء. وقال النووي: وهو قول جمهور العلماء، وحكى أبو بكر الرازي وابن قدامة في " المغني " عن الليث أنه قال: أجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد، كما يفطر الصائم، وهو قول مالك في رواية.
م: (وقال الشافعي: لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات) ش: وبه قال أحمد في ظاهر الرواية، وإسحاق عن أحمد ثلاث، وعنه واحدة. وقال " الرافعي ": وظاهر المذهب وجهان:

(5/256)


لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: كقول أبي حنيفة، والثاني: ثلاث رضعات، واختاره مشايخنا. وقال ثقات: القياس بثلاث رضعات، وهو قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، كذا في شرح " الأقطع ". وقال ابن عبيد، وأبو ثور: إنما تحرم الثلاث من مفهوم لا تحرم المصة والمصتان. ويروى عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت: لا تحرم إلا سبع رضعات. وعن حفصة لا تحرم إلا عشر رضعات.
م: (لقوله) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان» ش: روي هذا الحديث مرفوعًا، قوله: «لا تحرم المصة والمصتان» من حديث ابن أبي ملكية، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرم المصة والمصتان» ، وروي قوله: «ولا إملاجة ولا إملاجتان» من حديث أم الفضل بنت الحارث، قالت: «دخل أعرابي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيتي، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني كانت لي امرأة، فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت الحدثى رضعة أو رضعتين، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» .
وروى ابن حبان في " صحيحه " حديثًا واحدًا نحو رواية المصنف من رواية محمد بن دينار، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان.» وقال الأترازي: قوله: «ولا الإملاجة ولا الإملاجتان» ، هذا من تتمة الحديث على ما ذكره صاحب " الهداية " ولكن ليس هو بمثبت في الأخرى، فركب الحديث، ولهذا لم يثبته الترمذي في جامعه، وأبو داود في سننه على ما روينا: «لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان» انتهى.
قلت: عدم اطلاعه في كتب الحديث، وقصر باعه في هذا الفن، ألجأه إلى هذا الكلام، وكيف يقول: وليس هذا بمثبت في الأصول من كتب الحديث، وقد رواه مسلم كما ذكرنا مفردًا ومشتملًا، ورواه ابن حبان، كما رواه المصنف، وعدم إثبات الترمذي، وأبي داود هذا لا يستلزم نفي أن يكون هذا من الأحاديث المثبتة.
قوله: " الحدثى " في رواية مسلم، بضم الحاء المهملة، تأنيث الأحداث، يريد المرأة التي تزوجها بعد الأولى، والإملاجة بكسر الهمزة وبالجيم من أملجت المرأة الصبي أي أرضعته.
وقال ابن الأثير: ويروى: «لا تحرم الملجة والملجتان» ثم قال: والملج المص، ملج الصبي أمه يملجها ملجًا، وملجها تمليجا إذا رضعها. قلت: الأول من باب نصر ينصر. والثاني: من باب

(5/257)


ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ... (النساء: الآية 23) ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب من غير فصل» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
علم يعلم. قال الكاكي: المصة - مكيدن - وهو فعل الرضع، والإملاجة - شيردادن -، يقال: أملجه أي أرضعه.
قلت: حاصل كلامه يشعر بالفرق بين المصة والإملاجة، فقال: المصة فعل الرضيع، والإملاجة فعل المرأة التي ترضع، لأنه قال بالفارسية: شيردادن، يعني إعطاء اللبن من فعل المرأة.
فإن قلت: ما وجه استدلال الشافعي بالحديث المذكور، فإن مذهبه خمس رضعات مشبعات، والحديث كيف يدل عليه.
قلت: قال الكاكي: وجه تمسك الشافعي بالحديث المذكور أن المصة داخلة في المصتين، كقوله: لا أكلم فلانًا يومًا ويومين، حيث لا ينتهي اليمين إلا بثلاثة أيام، فكأنه قال: لا تحرم المصات، والإملاجتان، فانتفت الحرمة عن أربع رضعات، وثبتت عن الخمس، وهذا ضعيف.
وقيل: وجه تمسكه لا يثبت إلا بنفي مذهبنا، فإذا نفى مذهبنا بهذا الحديث ثبت مذهبه لعدم القائل بالفصل، وقيل: تمسكه بهذا الحديث لنفي مذهبنا، وإثبات مذهبه بحديث عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت: «كان فيما أنزل القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن، وكان ذلك مما يتلى بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نسخ بعده، وكان مكتوبًا على قرطاس بعده، فدخل داجن البيت فأكله» وتمسك في شرح " الوجيز " وغيره من كتبهم بهذا الحديث أيضا.
قلت: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - رواه مسلم بلفظ: «وأنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات، نسخ من ذلك خمس، وصار إلى خمس رضعات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر على ذلك» انتهى.
ورواه ابن ماجه عن عائشة أيضا، ولفظه أنها قالت: «كان مما أنزل الله - عز وجل - من القرآن، ثم سقط: لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس رضعات» . وروى ابن ماجه أيضًا عن عبد الرحمن بن قاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: «لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرًا، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها» .
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ... (النساء: الآية 23) م: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» من غير فصل) ش: أصحابنا استدلوا لمذهبهم بالآية الكريمة، وجه الاستدلال أن الله تعالى جعل علة التحريم فعل الرضاع قل أو كثر. وقال أبو بكر الرازي في " أحكام القرآن ": إذا اقتضى فعل الرضاع استحقاق اسم الأمومة والأخوة بوجود نفس فعل الرضاع، وذلك

(5/258)


ولأن الحرمة وإن كانت لشبهة البعضية الثابتة بنشوز العظم، وإنبات اللحم، لكنه أمر مبطن، فتعلق الحكم بفعل الإرضاع، وما رواه مردود بالكتاب أو منسوخ به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقتضي وجوب التحريم بقليل الفعل وكثيره لصدق إطلاق اسم الأم عليه، وهذا لأن كل حق يتعلق بعلة في الشرع يثبت الحكم بوجوده، لا تعدد فيه، وقيل لابن عمر: إن ابن الزبير يقول: لا بأس بالرضعة والرضعتين، فقال: قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير.
وقال أبو بكر بن العربي: الرضاع وصف ثبت بنفس الفعل، وهذا معلوم عربية، وشرعًا. قال عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، ارتبط التحريم بالرضاع مطلقًا، من غير تقييد بخمس، أو سبع، أو عشر، أو نحو ذلك، فمن قدره بعدد لا يدل القرآن عليه فقد رفع حكم الآية بأمر مضطرب، لا يعول عليه.
واستدل أصحابنا أيضًا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم، من حديث ابن عباس، ومن حديث عائشة، وقد تقدم الكلام فيه في أول كتاب النكاح. قوله: - من غير فصل - يعني بين القليل والكثير في الكتاب والحديث، روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حرم من الرضاع ما حرم من الولادة» متفق عليه.
وفي البخاري ومسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم» وفي لفظ: «ما يحرم من النسب» من غير تقييد بعدد كالقرآن.
م: (ولأن الحرمة وإن كانت لشبهة البعضية) ش: هذا دليل معقول، يتضمن جواب سؤال مقدر، تقديره أن يقال: لما كان التحريم باعتبار إنشاز العظم، وإنبات اللحم، وذلك يحصل بالكثير دون القليل، وتقدير الجواب: أن الحرمة وإن كانت باعتبار شبهة البعضية الحاصلة من اللبن م: (الثابتة بنشوز العظم وإنبات اللحم) ش: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرضاع أنشز العظم وأنبت اللحم» والإنشار بالراء الإحياء، قال الله تعالى: {إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] (عبس: الآية 22) ، والمعنى في الحديث: نشره، كأنه أحياه، ويروى بالزاي، يقال: نشز الشيء إذا ارتفع.
م: (لكنه أمر مبطن) ش: فيه خفاء، والرضاع سبب ظاهر م: (فتعلق الحكم) ش: أي حكم الحرمة م: (بفعل الإرضاع) ش: يعني بمجرد الإرضاع م: (وما رواه) ش: أي ما رواه الشافعي من قوله: «لا تحرم المصة» ... الحديث م: (مردود بالكتاب) ش: لأن العمل بالكتاب أقوي على تقدير أن يكون الكتاب قبله م: (أو منسوخ به) ش: أي بالكتاب إن كان بعده. وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال: قوله: «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان» كان ذلك، فأما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم، فيجعل ذلك منسوخًا، حكاه عنه أبو بكر الرازي، ومثله روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وقال ابن بطال: أحاديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مضطربة، فوجب تركها والرجوع

(5/259)


وينبغي أن يكون في مدة الرضاع لما نبين. ثم مدة الرضاع ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: سنتان، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثلاثة أحوال؛ لأن الحول حسن للتحول من حال إلى حال، ولا بد من الزيادة على الحولين لما نبين فقدر به. ولهما قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] (الأحقاف: الآية15) ، ومدة الحمل أدناها ستة أشهر، فبقي الفصال حولان. وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا رضاع بعد حولين» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طبع الصبي م: (وينبغي أن يكون في مدة الرضاع على ما نبين) ش: أي ينبغي أن يكون الرضاع الذي يتعلق به التحريم في مدة الرضاع لا بعدها، وفي مدتها اختلاف، وسنبينه إن شاء الله تعالى. م: (ثم مدة الرضاع ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ش: وعند بعضهم: تثبت حرمة الرضاع في جميع العمر م: (وقالا: سنتان) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: ومدة الرضاع سنتان م: (وهو قول الشافعي) ش: أي قولهما قول الشافعي، وبه قال أحمد.
م: (وقال زفر: ثلاثة أحوال) ش: أي مدة الرضاع ثلاث سنين، واختلفت المالكية بعد الحولين إلى شهرين، وفي " المختصر ": أيام يسيرة، وقال عبد الملك: شهر ونحوه. وفي " المبسوط " عنه: يقدر بزيادة الشهور. وفي " الحاوي ": مثل نقصان الشهور. قال أبو الوليد: يحرم بعد الحولين إلى ثلاثة شهور. وذكر الداودي عنه: يحرم بعد سنتين، وعند البصري: أربع سنين، وقيل خمسة عشر سنة، وقيل: عشرون سنة، وقيل: أربعون سنة، وقيل: سنة، وقيل: جميع العمر كما ذكرنا. م: (لأن الحول حسن للتحول) ش: هذا دليل زفر، أي الحول صالح للتحول، أي للتغير م: (من حال إلى حال) ش: باعتبار حولان الحول الموجب لتغيير الطباع، كما في أجل العنين، والزكاة لاشتمال الحول على الفصول الأربعة. م: (ولا بد من الزيادة على الحولين) ش: لأن الرضيع لا يحصل فطامه في ساعة واحدة، بل يفطم بالتدريج على وجه ينسى اللبن، ويتعود بالطعام.
ولا بد من زيادة مدة م: (لما نبين) ش: يعني في وجه قول أبي حنيفة م: (فقدر) ش: على صيغة المجهول، أي فتقدر الزيادة م: (به) ش: أي بالحول، فيصير ثلاثة أحوال. م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف، ومحمد م: (قَوْله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] (الأحقاف: الآية 15) ، ومدة الحمل أدناها ستة أشهر، فبقي الفصال حولان) ش: لأنه تعالى قال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ولا رضاع بعد الفصال.
م: (وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا رضاع بعد حولين» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع إلا في حولين» .

(5/260)


وله هذه الآية ووجهه أنه تعالى ذكر شيئين، وضرب لهما مدة، فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين، لا أنه قام، والمنقص في أحدهما، فبقي الثاني على ظاهره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه ابن عدي ولفظه: «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين» .
وقال صاحب " التنقيح ": والصحيح وقفه على ابن عباس، ولم أر أحدًا رواه بعد حولين إلا المصنف، فكأنه نقله عن " المبسوط " هكذا.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (هذه الآية) ش: يعني قَوْله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15] م: (ووجهه) ش: أي وجه الاستدلال بها م: (أنه ذكر شيئين) ش: يعني الحمل والفصال م: (وضرب لهما مدة) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: ثلاثون شهرا، فكل ما كان كذلك م: (فكانت) ش: أي المدة م: (لكل واحدة منهما لكمالها، كالأجل المضروب للدينين) ش: بأن قال: جعلت الدين الذي على فلان، والدين الذي على فلان سنة، يفهم منه تقدير المدة في كل واحد من الدينين م: (إلا أنه قام) ش: وحديث الإملاجة والإملاجتان لا يصح، لأنه يرويه مرة عن ابن الزبير عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومرة عن عائشة، ومرة عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقط.
وفي " المبسوط ": فأما حديث عائشة فضعيف جدًّا أنه إذا كان متلوًّا بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلماذا ما يتلى، لأن نسخ التلاوة بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجوز، وما ذكر أن الداجن دخل البيت، فأكل القرطاس غير قوي، لأنه يقوي مذهب الروافض، فإنهم يقولون: إن الصحابة تركوا كثيرًا من القرآن بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكتبوه في المصاحف، وهو قول باطل بالإجماع.
وقيل: عجب من الشافعية لا يعلمون بقراءة ابن مسعود في صوم الكفارة، ويعلمون برواية عائشة والقرآن لا يثبت بخبر الواحد، والعمل بالقراءة الشاذة لا يجوز.
م: (المنقص في أحدهما) ش: يعني الحمل وهو حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا يبقى الولد في بطن أمه أكثر من سنتين، ولو بفلكة مغزل م: (فبقي الثاني) ش: وهو الفصال م: (على ظاهره) ش: وهو ثلاثون شهرًا، وهو عدم النص.
فإن قلت: هذا خبر الواحد، فلا يجوز تفسير الكتاب به.
قلت: أجيب بأن الكتاب مؤول، قال فخر الإسلام: وعامة أهل التفسير ذكروا أن المضروب

(5/261)


ولأنه لا بد من تغيير الغذاء، لينقطع الإنبات باللبن، وذلك بزيادة مدة يتعود الصبي فيها غيرة فقدرت بأدنى مدة الحمل، لأنها مغيرة، فإن غذاء الجنين يغاير غذاء الرضيع، كما يغاير غذاء الفطيم، والحديث محمول على مدة الاستحقاق، وعليه يحمل النص المقيد بحولين في الكتاب. قال: وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا رضاع بعد الفصال»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للدينين يتنوع عليهما بقدر الإمكان، فلم يكن دلالة الكتاب على ما استدل به المصنف قطعية، ويؤيده ما روي أن رجلا تزوج امرأة، فولدت لستة أشهر، فجيء بها إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فشاور في رجمها، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إن خاصمتكم بكتاب الله تعالى - خصمتكم، قالوا: كيف، قال: إن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] (الأحقاف: الآية 15) ، وقال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] (البقرة: الآية 233) ، فحمله ستة أشهر، وفصاله حولان، فتركها، وإذا لم يكن دلالتها على ذلك كذلك لم يلزم التفسير.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر، أي ولأن الشأن م: (لا بد من تغيير الغذاء) ش: في الرضيع م: (لينقطع الإنبات باللبن) ش: ويحصل بغيره إبقاء لحياته م: (وذلك) ش: أي تغيير الغذاء يكون م: (بزيادة مدة يتعود الصبي فيها) ش: أي في تلك المدة م: (غيره) ش: أي غير اللبن، لأن القطع عن اللبن دفعة غير أن يتعود يهلك، وهذا هو الذي وعزاه المصنف لزفر، لقوله: لما تبين لكن زفر قيد بسنة كما في العنين، وأبو حنيفة قدرها: بأدنى مدة الحمل، لأنها مغيرة، فإن الولد في بطن الأم ستة أشهر يبقي، ويتغذى بغذاء الأم، وبعد الانفصال غذاؤه اللبن، ويصير أصلًا في الغذاء بالطعام.
م: (والحديث) ش: وهو قوله: «لا رضاع بعد الحولين» م: (محمول على مدة الاستحقاق) ش: أي الرضاع المستحق، حتى لا تستحق نفقة على الأب بعد ذلك. وقالوا: إن تمام الرضاع في حق استحقاق الأجر على الأب مقدر بحولين، حتى لو طلق امرأته وطلبت الإرضاع بعد الحولين وأبى الزوج لا يجبر على ذلك، ولو دفع ذلك في الحولين يجبر على الإعطاء م: (وعليه يحمل النص المقيد بحولين في الكتاب) ش: أي على استحقاق الصبي الرضاع يحمل قوله حولين كاملين، بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} [البقرة: 233] (البقرة: الآية 233) ، وذلك لأن الرضاع لو كان حرامًا بعد الحولين لم يزل الرضاع في زوال الحرمة الثابتة شرعًا. م: (قال: وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا رضاع بعد الفصال» ش: هذا الحديث رواه الطبراني في

(5/262)


ولأن الحرمة باعتبار النشر، وذلك في المدة إذ الكبير لا يتربى به، ولا يعتبر الفطام قبل المدة إلا في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا استغنى عنه، ووجهه انقطاع النشر بتغير الغذاء،
وهل يباح الإرضاع بعد المدة؟ فقيل: لا يباح؛ لأن إباحته ضرورية لكونه جزء الآدمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معجمه بإسناده إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد حلم» رواه عبد الرزاق مرفوعًا، ثم رواه موقوفًا. وقال العقيلي في كتابه: هو الصواب، ورواه الطيالسي في " مسنده " من حديث جابر نحوه. وفي إسناده حزام بن عثمان، وأعله ابن عدي به بعد أن رواه، ونقل عن الشافعي وابن معين - رحمهما الله تعالى - أنهما قالا: الرواية عن حزام حرام.
م: (ولأن الحرمة باعتبار النشر وذلك) ش: أي النشر م: (في المدة) ش: لأن الحرمة في الرضاعة باعتبار الصغير لا يتغذى بغيره م: (إذ الكبير لا يتربى به) ش: أي باللبن عادة، بوجوب تغذيته بغيره م: (ولا يعتبر الفطام قبل المدة) ش: يعني إذا فطم لا يعتبر م: (إلا في رواية عن أبي حنيفة) ش: رواه الحسن عنه م: (إذا استغنى عنه) ش: أي عن اللبن.
م: (ووجهه) ش: أي وجه ما روي عن أبي حنيفة م: (انقطاع النشر بتغير الغذاء) ش: أي انقطاع النشر الصالح باللبن، يعني أن نشر الصبي باللبن ينقطع بعد استغنائه بالطعام، لتغير غذائه؛ لأن غذاءه كان لبنًا فصار طعامًا، فلا تثبت الحرمة برضاع اللبن بعد ذلك، ولهذا قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث أبي هريرة: «الرضاع ما فتق الأمعاء، وكان ذلك قبل الطعام» وفي " الواقعات ": الفتوى على ظاهر الرواية، لا يعتبر الطعام قبل المدة.

[يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب]
م: (وهل يباح الإرضاع بعد المدة، قد قيل: لا يباح؛ لأن إباحته ضرورية) ش: أي لأن إباحة اللبن في المدة لضرورة الولد، والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، فلا يباح بعد المدة لزوال الضرورة م: (لكونه جزء الآدمي) ش: أي لكون اللبن جزء الآدمي، والانتفاع به حرام، لأن الآدمي وجزءه لا يجوز أن يكون مبتذلًا مهانًا، وسواء كان الإرضاع من الأم، أو من الأجنبية.
وقال التمرتاشي: واختلف المشايخ في الانتفاع باللبن للدواء، قيل: لم يجز، وقيل: يجوز إذا علم أنه يزول به الرمد، وفي " الذخيرة " و" الروضة ": فطمت في السنتين، واستغنت بالطعام، ثم رضعت في المدة من امرأة أخرى لا يكون رضاعًا، وإن لم تستغن كان رضاعًا، ذكره الخصاف في

(5/263)


قال: ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، للحديث الذي روينا، إلا أم أخته من الرضاع، فإنه يجوز أن يتزوجها، ولا يجوز أن يتزوج أم أخته من النسب؛ لأنها تكون أمه، أو موطوءة أبيه بخلاف الرضاع،
ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب، لأنه لما وطئ أمها حرمت عليه، ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رضاعه.
وفي " إملاء بشر بن الوليد ": هو رضاع. وفي عمدة الفتاوى ": إن خيف عليه الهلاك لفطام قبل سنتين ونصف يطالب بالأجرة. وفي " المحيط ": الرضاع بعد الفطام لا يحرم عند أبي يوسف، وعند محمد: لا اعتبار بالفطام في الحولين، بل ذلك عنده محرم. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر: لا رضاع بعد مضي المدة، قاله الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: «ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» للحديث الذي روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وقد ذكره في أوائل كتاب النكاح، واستثني من هذا العموم صورتين:
إحداهما: هو قوله: م: (إلا أم أخته من الرضاع، فإنه يجوز أن يتزوجها، ولا يجوز أن يتزوج أم أخته من النسب؛ لأنها تكون أمه، أو موطوءة أبيه) ش: أي لأن أم أخته من النسب تكون أمه إذا كانت الأخت لأب م: (بخلاف الرضاع) ش: لأن المعنى المذكور لم يذكر فيه.

م: (ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب) ش: هذه هي الصورة الثانية المستثناة م: (لأنه لما وطئ أمها) ش: أي لأن الأب لما وطئ أم أخت ابنه م: (حرمت) ش: أي أخت الابن م: (عليه) ش: أي الأب بالمصاهرة م: (ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع) .
ش: واعلم أن المصنف لو قال في المسألة الأولى: أم أخته وأخيه لكان أولى؛ لأن الحكم في الوجهين واحد، وكذا لو قال في هذه المسألة: أخت ولده ليشمل الذكر والأنثى لكان أولى. وقال الأترازي: وقد سنح في خاطري إنشاء سطر لضبط المسألة.
وما هذا تزوج أم أختك من رضاع ... ومن نسب محرمة فراع
وأخت ابن رضاعي حلال ... وما نسب يجوزها اتساع
واعلم أن كل ما لا يحرم من النسب لا يحرم بالرضاع كما ذكرنا في الصورتين، وهاهنا صور أخر تجوز من الرضاع دون النسب:
الأولى: يجوز أن يتزوج أم عمه من الرضاع دون النسب.
الثانية: يجوز له أن يتزوج بجدة ولده من الرضاع دون النسب.

(5/264)


وامرأة أبيه، أو امرأة ابنه الرضاع لا يجوز أن يتزوجها، كما لا يجوز ذلك من النسب لما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالثة: يجوز له أن يتزوج بعمة ابنه من الرضاع دون النسب.
الرابعة: يجوز لها أن تتزوج بأب أخيها من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب.
الخامسة: يجوز له أن يتزوج أم خاله من الرضاع دون النسب.
السادسة: يجوز لها أن تتزوج بأخ ابنتها من الرضاع دون النسب. وجمع بعض فقهاء بخارى المسائل التي تفارق حكم الرضاع حكم النسب، فقال مرتجزًا:
يفارق الإرضاع حكم النسب ... في خمسة مسطورة في الكتب
أم أخ, وأم أخت سيدي ... وأم أم الابن فافقه سيدي
وهكذا وقعت أخت الولد ... فاقتبس العلم لكيما تهتدي
وأم عم, ثم أم عمة ... فافقه مقالي, لا لقيت عمه
وأم خال ثم أم خالة ... والحق لا يخفى من الجهالة
نكاحهن في الرضاع واقع ... وما عداه فالدليل مانع
وقال شيخنا: واستثنى بعضهم (من) ش: قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أربع مسائل، استثناها الرافعي في الشرح، وزادها بعضهم إلى ثلاث مسائل أخرى، وقد نظم بعض الفضلاء المسائل الأربعة التي استثناها الرافعي في بيتين، وذيلت عليها بالمسائل الثلاثة الأخرى في بيتين آخرين، والبيتين هما:
أربع في الرضاع هن حلال ... وإذا ما نسبتهن حرام
جدة ابن, وأخته ثم ... أم لأخيه, وحافر والسلام
والذي زاد شيخنا هو قوله:
عزز بأم عم, وخال, وأخ ... ابن فتلك سبع تمام
وهي ليست بواردات على النص، ولا الشافعي وهو الأم.

[حكم لبن الفحل]
م: (وامرأة أبيه، أو امرأة ابنه من الرضاع لا يجوز أن يتزوجها، كما لا يجوز ذلك في النسب لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . وعند الشافعي: يجوز تزوج حليلة الابن من الرضاع، قوله: وامرأة أبيه صورته امرأة تزوج بها زوج المرضعة، ثم فارقها فإنها لا تحل

(5/265)


وذكر الأصلاب في النص لإسقاط اعتبار التبني على ما نبينه. ولبن الفحل يتعلق به التحريم، وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية على زوجها، وعلى آبائه وأبنائه، ويصير الزوج الذي نزل له منه اللبن أبا للرضيعة، وفي أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لبن الفحل لا يحرم، لأن الحرمة بشبهة البعضية، واللبن بعضها لا بعضه. ولنا ما ورينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لولده أن يتزوجها كما لا يجوز ذلك في النسب لما روينا، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
م: (وذكر الأصلاب في النص) ش: هذا جواب عما يقال: إنه تعالى حرم حليلة الابن من الصلب، وحليلة الابن من الرضاع ينبغي أن لا تحرم، لأن هذا ليس من صلبه فأجاب بقوله: وذكر الأصلاب في النص، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) م: (لإسقاط اعتبار التبني) ش: فإن حليلة الابن المتبنى كانت حرامًا في الجاهلية.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون لإسقاط حليلته من الرضاع، أو لإسقاطهما جميعًا، وما وجه ترجيح جانب حليلة الابن المتبنى في الإسقاط.
أجيب: بأن حرمة الحليلة من الرضاع ثابتة بالحديث المشهور، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع» الحديث، فحملناه على حليلة الابن المتبنى، لئلا يلزم التدافع بين موجب الكتاب والسنة المشهورة.
م: (على ما نبينه) ش: في فصل المحرمات م: (ولبن الفحل يتعلق به التحريم) ش: الإضافة في لبن الفحل من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ لأن سبب اللبن هو الفحل، وقوله: يتعلق به التحريم قول عامة أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ومالك وأحمد - رحمهما الله تعالى -.
وفي " المبسوط ": قال بعض العلماء - وهو داود، وابن علية -: لم يتعلق به التحريم، وهو أحد قولي الشافعي، ولكن ذكر في شرح " الوجيز ": ويتعلق بلبن الفحل التحريم عند عامة العلماء. وعن بعض الصحابة خلافه، واختاره أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، رواه عن الشافعي، لأن النص ذكر حرمة الرضاع في جانب النساء، ولأن الحرمة لا تثبت في حق الرجال بحقيقة فعل الإرضاع منه، حتى لو نزل له لبن، فأرضع به صبيًّا لا تثبت الحرمة، فلأن لا تثبت بإرضاع زوجته أولى، وفي شرح " الأقطع ": روي عن سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي. أن لبن الفحل لا يحرم.
م: (وهو أن ترضع المرأة صبية، فتحرم هذه الصبية على زوجها، وعلى آبائه وأبنائه، ويصير الزوج الذي نزل لها منه اللبن أبًا للرضيعة، وفي أحد قولي الشافعي: لبن الفحل لا يحرم؛ لأن الحرمة لشبهة البعضية، واللبن بعضها لا بعضه، ولنا ما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .

(5/266)


والحرمة بالنسب من الجانبين، فكذا بالرضاع، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ليلج عليك أفلح؛ فإنه عمك من الرضاعة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم بالولادة» فقد ألحقه بالنسب.
وأشار إلى وجه الاستدلال بالحديث المذكور بقوله: م: (والحرمة بالنسب) ش: تثبت م: (من الجانبين) ش: أي من جانبي الرجل والمرأة م: (فكذا بالرضاع) ش: أي فكذا بسبب الرضاع الحاصل بسبب الحرمة من الجانبين.
فإن قيل: الحرمة هنا تثبت باللبن، واللبن منها لا منه، ولهذا يتحقق نزول اللبن من البكر.
قلنا: اللبن منه أيضًا، لأن سببه الولادة، وهو الإحبال وهو نسبه، فتثبت الحرمة بينهما كما في النسب، ونزول اللبن بلا إصابة الفحل نادر، فلا عبرة به.
م: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: ليلج عليك أفلح؛ فإنه عمك من الرضاعة) ش: الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «دخل عليّ أفلح بن أبي القعيس فاستترت منه، فقال: تستترين مني وأنا عمك، قلت: من أين؟، فقال: أرضعتك امرأة أخي، قالت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، فدخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحدثته فقال: " إنه عمك، فليلج عليك» وجه الاستدلال به أن العم من الرضاع لا يكون إلا باعتبار لبن الفحل.
وفي " المبسوط ": قوله: ليلج أمر للغائب من الولوج بالجيم، وهو الدخول، وأصله ليولج، لأنه من ولج يلج، ولو جاز فأصل يلج يولج، فحذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة، فحذفت فصار يلج، وكذا حذفت من سائر تصرفات هذه المادة وعليك بكسر الكاف؛ لأنه خطاب لعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، قوله: أفلح بالرفع فاعل فلح، وأفلح بفتح الهمزة وسكون الفاء وبالحاء المهملة على الرجل الذي هو ابن أبي القعيس كما هو المذكور في الحديث المذكور، وهذا في رواية لمسلم هكذا أفلح بن أبي القعيس، وهكذا في أكثر الروايات.
وفي " الصحيحين " أيضًا والنسائي من طريق مالك «أن أفلح أخا أبي القعيس، جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة، وفي رواية لمسلم والنسائي قالت: استأذن عليّ عمي من الرضاعة أبو الجعد، فرددته» . قال هشام: إنما هو أبو القعيس، والصواب: أنه أفلح كنيته أبو الجعد، وهو أخو أبي القعيس، قال القرطبي في " المفهم " هو الصحيح، وما سوى ذلك وهم، ولا يعرف لأبي القعيس، ولا لأخيه أفلح ذكر إلا في هذا الحديث، ويقال: إنهما في الأشعريين.
ووقع في رواية الترمذي هكذا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: جاء عمي من

(5/267)


ولأنه سبب لنزول اللبن منها فيضاف إليه في موضع الحرمة احتياطا،
ويجوز أن يتزوج الرجل بأخت أخيه من الرضاع، لأنه يجوز أن يتزوج بأخت أخيه من النسب، وذلك مثل الأخ من الأب إذا كانت له أخت من أمه جاز لأخيه من أبيه أن يتزوجها، وكل صبيين اجتمعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرضاعة يستأذن علي ... الحديث، هكذا وقع منهما من غير تعريف له باسم أو كنية، أو غيرهما. وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في تفسير رواية الترمذي: جاء عمي من الرضاعة، اختلف في كيفية ثبوت العمومة لأفلح هذا، فزعم بعضهم ممن رأي أن لبن الفحل لا يحرم بالنسبة إلى الفحل، والراجح أن أفلح هذا رضع مع أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فكان عمًّا لعائشة من الرضاعة، ولهذا أخطأ برده الأحاديث الصحيحة.
والصواب أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ارتضعت من امرأة أبي القعيس، وأفلح أخو أبي القعيس، فصار عمًّا من الرضاعة، كما ثبت مصرحًا به في الصحيحين من رواية عراك، عن عروة، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «استأذن عليّ أفلح، أخو أبي القعيس» الحديث، وأطنب شيخنا الكلام في هذا الحديث.
وذكر فيه فوائد، منها أنه قد يستدل بقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ولم يرضعني الرجل على أنه لو كان للرجل لبن فأرضع أنه يحرم، وهو قول الكرابيسي من أصحاب الشافعي، والصحيح أنه لا يتعلق به حرمة، ولكن قد نص الشافعي في " البويطي " على أنه إذا نزل للرجل لبن فأرضعه صبية كره له نكاحها.
م: (ولأنه) ش: أي لأن الزوج م: (سبب لنزول اللبن منها، فيضاف إليه في موضع الحرمة احتياطًا) ش: أي إلى الزوج لا يقال: إنه إضمار قبل الذكر، لأن الشهوة تقوم مقام الذكر كما في قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] (ص: الآية 32) ، أي الشمس؛ لأن الموضع موضع الحرمة، فيجعل كأن البعضية حصلت بين الرضيع وبين الزوج.

م: (ويجوز أن يتزوج الرجل بأخت أخيه من الرضاع؛ لأنه يجوز أن يتزوج بأخت أخيه من النسب، وذلك مثل الأخ من الأب إن كانت له أخت من أمه جاز لأخيه من أبيه أن يتزوجها) ش: أوضح الأترازي كلام المصنف بقوله: هذا مثل أن يرضع زيد من أم عمرو، فيجوز لعمرو أن يتزوج أخت زيد نسبًا، وإن كان زيد أخاه من الرضاع، كما في النسب، ذلك مثل الأخوين لأب، ولأحدهما أخت من أمه من غير أمها جاز للأخ الآخر أن يتزوج أخته، لأن هذه أجنبية في حق الأخ لأب، وعلى هذا أخت الأخت من الرضاع، وأخت الأخت من النسب، وكان ينبغي أن يقول: أخت أخيه، أو أخته من الرضاع، ويقول: أخت أخيه، وأخته من النسب، لكن اكتفى بذكر الأخ لظهور ذلك.
م: (وكل صبيين) ش: أراد بهما الصبي والصبية بطريق التغليب، كما في العمرين لأبي بكر

(5/268)


على ثدي واحد لم يجز لأحدهما أن يتزوج بالأخرى، هذا هو الأصل، لأن أمهما واحدة، فهما أخ وأخت،
ولا تتزوج المرضعة أحدا من ولد التي أرضعت، لأنه أخوها، ولا ولد ولدها، لأنه ولد أخيها، ولا يتزوج الصبي المرضع أخت زوج المرضعة؛ لأنها عمته من الرضاع. وإذا اختلط اللبن بالماء، واللبن هو الغالب تعلق به التحريم، وإن غلب الماء لم يتعلق به التحريم، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، فيغلب المذكر على المؤنث، والأخف على الأثقل م: (اجتمعا على ثدي واحد) ش: لآدمية كيفما كان م: (لم يجز لأحدهما أن يتزوج بالأخرى) ش: لأنهما أخ وأخت لأب وأم من الرضاعة، فلا يجوز كما في النسب، هذه المسالة من مسائل القدوري، ولفظ القدوري على ثدي واحد على كورة واحدة صفة لثدي، والمراد ثدي المرأة كما قدمنا. وفي بعض النسخ " وقع على ثدي واحدة "، بإضافة الثدي إلى واحدة، وبتأنيث الواحدة على تقدير امرأة واحدة، وهكذا شرحه الأترازي؛ لأن في نسخة " على ثدي واحدة، وكذا قال في " النهاية " على ثدي واحدة، كذا حتى لو اجتمعا على ضرع بهيمة واحدة لم يحرم أحدهما على الآخر، فكان هو بمنزلة طعام أكلاه من إناء واحد.
م: (هذا هو الأصل) ش: أي اجتماع الصبيين على ثدي امرأة واحدة هو الأصل في باب الحرمة م: (لأن أمهما) ش: أي أم الصبيين م: (واحدة فهما) ش: أي الصبيان م: (أخ وأخت) ش: والأخت حرام على الأخ من النسب والرضاع جميعًا.

[تتزوج المرضعة أحدًا من ولد التي أرضعت]
م: (ولا تتزوج المرضعة أحدًا) ش: المرضعة بفتح الضاد، أي لا تتزوج الصبية المرضعة م: (من ولد التي أرضعت) ش: أي من ولد المرأة التي رضعت الصبية، وقال الكاكي: المرضعة بفتح الضاد، هكذا عن الثقات، وبصيغة الفاعل غير صحيح يعرف بالتأمل. وقال السغناقي: المرضعة بصيغة اسم المفعول، وبالرفع على الفاعلية، ونصب أحدًا على المفعولية، هذا هو الأصح من النسخ. وفي نسخة أخرى: ولا تتزوج المرضعة أحدًا من ولد التي أرضعت، بعكس الأولى في الفاعلية والمفعولية، وهذا أيضًا صحيح، فإن كلاهما بخط شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
م: (لأنه أخوها) ش: أي لأن الأحد الذي ولد ولد التي أرضعتها م: (لأنه ولد أخيها) ش: كما في النسب م: (ولا يتزوج الصبي المرضع) ش: بفتح الضاد م: (أخت زوج المرضعة، لأنها عمته من الرضاع) ش: كما لا يجوز في النسب.
م: (وإذا اختلط اللبن بالماء، واللبن هو الغالب) ش: أي والحال أن اللبن هو الغالب على الماء م: (تعلق به التحريم) ش: لأن الحكم للغالب م: (وإن غلب الماء لم يتعلق به التحريم، خلافًا للشافعي) ش: فإن عنده على الأصح يتعلق به التحريم إذا كان مقدار خمس رضعات من اللبن وبه قال أحمد، وكذا الخلط بالدواء، أو بلبن بهيمة، أو بكل مائع أو جامد، واعتبر مالك أن يكون اللبن مستهلكًا في

(5/269)


هو يقول: إنه موجود فيه حقيقة، ونحن نقول: المغلوب غير موجود حكما، حتى لا يظهر بمقابلة الغالب، كما في اليمين،
وإن اختلط بالطعام لم يتعلق به التحريم، وإن كان اللبن غالبا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: إذا كان اللبن غالبا يتعلق به التحريم. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قولهما فيما إذا لم تمسه النار حتى لو طبخ بها لا يتعلق به التحريم في قولهم جميعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جميع ذلك، لعدم تعلق التحريم به.
م: (هو يقول: إنه) ش: أي الشافعي يقول: إن اللبن م: (موجود فيه حقيقة) ش: غاية ما في الباب أن اللبن هالك، يعني لفوات منفعته بغلبة الماء، فدارت الحرمة بين الثبوت وعدمه، فتغلب الحرمة احتياطًا. م: (ونحن نقول: المغلوب غير موجود حكمًا، حيث لا يظهر لمقابلة الغالب، كما في اليمين) ش: بأن حلف لا يشرب اللبن، فشرب لبنًا مغلوبًا بماء لا يحنث. لكن للخصم أن يجيب عنه ويقول: إن الأيمان مبنية على العرف، فلا يحنث، لأنه في العرف لا يسمى المغلوب لبنًا، أما الحرمة فمبنية على وجود اللبن، ولكن الأولى أن نقول: إن الحرمة لا تتعلق بصورة الإرضاع، ووجود اللبن كما في " الكبير " بالإجماع، بل يتعلق باعتبار إنشاز العظم، وإنبات اللحم، والمغلوب لا يحصل الإنشاز والإنبات، لأنه لا يحصل التغذي به. فإن قيل: يشكل هذا بما لو وقعت قطرة دم، أو خمر في جب من ماء، حيث ينجسه، وإن كان الماء غالبًا حقيقة.
قلنا: لما لم يكن الماء كثيرًا شرعًا بأن لم يكن عشرًا في عشر لم يكن غالبًا حكمًا، فتعارضتا فرجحنا حجة النجاسة احتياطيًا، كذا نقل عن العلامة حميد الدين الضرير. قال الكاكي: لكن سمعت شيخي العلامة مولانا عبد العزيز - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن الرجحان الذاتي، إنما يكون راجحًا سابقًا على الرجحان الحالي، إذا لم يكن في الحادثة نص، وقد وجد النص هاهنا، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» ... " الحديث. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا بلغ الماء قلتين
» الحديث، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء طهور» ... " الحديث، فلا يعتبر الرجحان الذاتي؛ لأنه يثبت بالاجتهاد، ولا اختيار للاجتهاد في مقابلة النص.

[اختلط لبن الرضاع بالطعام]
م: (وإن اختلط بالطعام لم يتعلق به التحريم، وإن كان اللبن غالبًا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ش: كلمة إن واصلة بما قبله، وذكر في شرح " الطحاوي ": أن اللبن إذا كان غالبًا بحيث يتقاطر من الطعام، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لا يكون رضاعًا، خلافًا لصاحبيه.
م: (وقالا: إذا كان اللبن غالبًا يتعلق به التحريم. قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد م: (فيما إذا لم تمسه النار) ش: أي فيما لم تمس اللبن النار م: (حتى لو طبخ فيها) ش: أي طبخ اللبن بالنار م: (لا يتعلق به التحريم في قولهم جميعًا) ش: لأنه لا

(5/270)


لهما أن العبرة للغالب، كما في الماء إذا لم يغيره شيء في حاله. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الطعام أصل، واللبن تابع له في حق المقصود، فصار كالمغلوب،
ولا معتبر بتقاطر اللبن من الطعام عنده هو الصحيح؛ لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل، وإن اختلط بالدواء واللبن غالب، تعلق به التحريم، لأن اللبن يبقى مقصودا فيه، إذ الدواء لتقويته على الوصول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتغير بالطبخ من غيره عن طعمه وصفته، وذكر خواهر زاده: أن على قول أبي حنيفة: إنما لا يثبت إذا أكل لقمة لقمة، أما إذا حشاه حشوًا يثبت به، وقيل: إذا وصل اللبن إلى حلقه معقودًا فلا خلاف فيه، وإذا تناول الثريد فلا خلاف فيه، وفي كتاب الرضاع للخصاف: إذا ثردت له خبزًا في لبنها حتى يشرب الخبز ذلك اللبن، أو لت به سويقًا فأطعمته إياه إن كان طعم اللبن يوجد، فهذا رضاع، وذكر صاحب " الأجناس " أنه قولهما. وفي " الرافعي ": ولو ثردت في اللبن طعامًا، أو عجنت به دقيقًا وخبزت تعلق به الحرمة. وفي العجن: والخبز وجه عن القاضي حسين.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن العبرة للغالب، كما في الماء) ش: أي كما إذا خلط بالماء اللبن، وهو الغالب م: (إذا لم يغيره شيء عن حاله) ش: يعني إذا لم يغير اللبن شيئًا عن حاله بالطبخ، كما إذا خلط لبن المرأة بالماء، واللبن هو الغالب.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة م: (أن الطعام أصل، واللبن تابع له في حق المقصود) ش: وهو الأكل بالوصول إلى المعدة، ولهذا يؤكل ولا يشرب، وغير المائع يستتبع المائع م: (فصار) ش: أي اللبن م: (كالمغلوب) ش: فيه نظر، لأن المغلوب غير موجود حكمًا، أما ما لم يكن مغلوبًا ويكون كالمغلوب، فلا نسلم أنه ليس بموجود. والجواب: أن هذه مناقشة لفظية تندفع يجعل الكاف زائدة.

م: (ولا معتبر بتقاطر اللبن من الطعام عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (هو الصحيح، لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل) ش: قيد بالصحيح احترازًا عما قيل: إن الرضاع إنما لا يثبت بالطعام إذا لم يتقاطر اللبن عند حمل اللقمة، أما إذا تقاطر منه اللبن يثبت به التحريم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لأن القطرة من اللبن إذا دخلت حلق الصبي كافية لإثبات الحرمة، والصحيح عدم ثبوت الحرمة بكل حال، وعلله المصنف بقوله: لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل، لأن الأصل في الباب التغذي، فيكون اللبن تابعًا له في حق المقصود.
م: (وإن اختلط) ش: أي اللبن م: (بالدواء واللبن غالب) ش: أي والحال أن اللبن هو الغالب م: (تعلق به التحريم؛ لأن اللبن يبقى مقصودًا فيه، إذ الدواء لتقويته) ش: أي لتقوية اللبن م: (على الوصول) ش: أي ما لا يصل بانفراده.
فإن قلت: إذا كان الدواء لتقويته على الوصول وجب أن يستوي الغالب والمغلوب؛ لأن وصول قطرة منه يحرم. قلت: النظر هاهنا إلى المقصود، فإذا كان غالبًا كان القصد إلى التغذي به،

(5/271)


وإذا اختلط اللبن بلبن الشاة، وهو الغالب تعلق به التحريم، وإن غلب لبن الشاة لم يتعلق به التحريم اعتبارا للغالب، كما في الماء،
وإذا اختلط لبن امرأتين تعلق التحريم بأغلبهما عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الكل صار شيئا واحدا، فيجعل الأقل تابعا للأكثر في بناء الحكم عليه. وقال محمد وزفر - رحمهما الله -: يتعلق التحريم بهما، لأن الجنس لا يغلب الجنس، فإن الشيء لا يصير مستهلكا في جنسه وإنما يصير مستهلكا في غير جنسه لاتحاد المقصود. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا روايتان، وأصل المسألة في الأيمان،
وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيّا تعلق به التحريم لإطلاق النص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والدواء لتقويته على الوصول، وإن كان مغلوبًا على القصد إلى التداوي واللبن لتقوية الدواء، يشير إلى هذا بقوله: وإذا خلط، دون اختلط، وقوله: لأن اللبن يبقى مقصودًا.
م: (وإذا اختلط اللبن بلبن شاة، وهو الغالب) ش: أي إذا اختلط لبن المرأة بلبن شاة، ولبن المرأة غالب م: (يتعلق به التحريم، باعتبار الغالب، كما في الماء) ش: أي كما إذا اختلط بالماء، حيث يعتبر الغلبة.

[إذا اختلط لبن امرأتين تعلق التحريم بأغلبهما]
م: (وإذا اختلط لبن امرأتين تعلق التحريم بأغلبهما عند أبي يوسف؛ لأن الكل صار شيئًا واحدًا، فيجعل الأقل تابعًا للأكثر في بناء الحكم عليه) ش: وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
م: (وقال زفر ومحمد: يتعلق التحريم بهما) ش: أي يتعلق التحريم بالمرأتين م: (لأن الجنس لا يغلب الجنس، فإن الشيء لا يصير مستهلكًا في جنسه، وإنما يصير مستهلكًا في غير جنسه لاتحاد المقصود) ش: أي لاتحاد مقصودهم، فلا ينتفي القليل، ويتعلق به التحريم م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في هذا روايتان) ش: في رواية، كما قال أبو يوسف، وبه قال الشافعي في قول. وفي رواية كما قال محمد، وهو قول زفر والشافعي في قول. وفي " الغاية ": وقول محمد أظهر وأحوط فيه، وفي " الرافعي ": اختلط لبن امرأتين، وغلب أحدهما، فإن علقنا الحرمة بالمغلوب تثبت الحرمة منهما، وإلا اختصت بالتي غلب لبنها.
م: (وأصل المسألة في الإيمان) ش: أي فيما إذا حلف أن لا يشرب من لبن هذه البقرة وانخلط لبنها بلبن بقرة أخرى فشربه، فهو على الخلاف المذكور، فعند محمد يحنث، لأن الجنس لا يغلب على الجنس، وعندهما: لا يحنث.

[نزل للبكر لبن فأرضعت صبيا]
م: (وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيًّا تعلق به التحريم لإطلاق النص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، مطلق لا فصل فيه بين البكر والثيب، وهذا الاختلاف فيه للأئمة الأربعة. عن الشافعي وجه أنه لا يتعلق به التحريم، وبه قال أحمد في رواية، لأنه قادر، فأشبه لبن الرجل، ولكن نص الشافعي أنه يتعلق به التحريم.

(5/272)


ولأنه سبب للنشوء فتثبت به شبهة البعضية. وإذا حلب لبن المرأة بعد موتها فأوجر به الصبي تعلق به التحريم، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يقول: الأصل في ثبوت الحرمة، إنما هو المرأة، ثم تعدى إلى غيرها بواسطتها، وبالموت لم تبق محلّا لها، ولهذا لا يوجب وطئها حرمة المصاهرة. ولنا أن السبب هو شبهة الجزئية، وذلك في اللبن، لمعنى الإنشاز والإنبات، وهو قائم باللبن، وهذه الحرمة تظهر في حق الميتة دفنا وتيمما. أما الحرمة في الوطء لكونه ملاقيا لمحل الحرث، وقد زال بالموت فافترقا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المغني ": نزل للبكر لبن من غير وطء فأرضعت به طفلًا، ثبت به الحرمة، وبه قال مالك، والثوري، والشافعي، وأصح الروايتين عن ابن حنبل. وقال أبو بكر بن المنذر: وهذا قول كل من يحفظ عنه. م: (ولأنه) ش: أي ولأن لبن البكر م: (سبب للنشوء، فتثبت به شبهة البعضية) ش: ويتعلق به الحرمة للاحتياط.
م: (وإذا حلب لبن المرأة بعد موتها، فأوجر به الصبي) ش: على صيغة المجهول من الوجر، وهو الدواء الذي يصب في وسط الفم، يقال: أوجرته الدواء وجرة، واحد المفعولين وأوجر الصبي، قام مقام الفاعل، والآخر هو الصبي، أي أوجر لبن المرأة الصبي، ويجوز أن يرفع الصبي بالفعل على ترك المفعول الآخر وهو اللبن، أي أوجر الصبي اللبن.
م: (تعلق به التحريم خلافًا للشافعي، هو) ش: أي الشافعي م: (يقول: الأصل في ثبوت الحرمة) ش: أي حرمة الرضاع م: (إنما هو المرأة ثم يتعدى إلى غيرها بواسطتها، وبالموت لم يبق محلًّا لها) ش: أي للحرمة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم المحل بالموت م: (لا يوجب وطئها) ش: أي وطء الميتة م: (حرمة المصاهرة) ش: وقيد بقوله: بعد موتها؛ لأنه لو حلب قبل الموت لا يتأتى خلاف الشافعي، فإن عنده على الأظهر يتعلق به التحريم كمذهبنا، وبقولنا قال مالك وأحمد.
م: (ولنا أن السبب) ش: أي سبب الحرمة م: (هو شبهة الجزئية) ش: بسبب الرضاع م: (وذلك) ش: أي السبب، وهو شبهة الجزئية م: (في اللبن) ش: أي حاصل في رضاع اللبن م: (لمعنى الإنشاز والإنبات، وهو) ش: أي المعنى المذكور م: (قائم باللبن، وهذه الحرمة) ش: جواب عما قال الخصم: إنها بالموت لم تبق محلًّا:، بيانه أن الحرمة بسبب الرضاع م: (تظهر في حق الميتة دفنًا) ش: أي من حيث جواز الدفن م: (وتيممًا) ش: أي من حيث جواز التيمم، وهو مصدر من يمم، يقال: يممت المريض، فتيمم إذا مسحت وجهه ويديه، ويقال أيضًا: يممت الميت، وصورته: كانت الصغيرة المرضعة ذات زوج، فزوجها يصير محرمًا للميتة، لأن الميتة أم امرأته، فيجوز له دفنها وتيممها.
م: (أما الحرمة في الوطء) ش: جواب عن قوله: ولهذا لا يوجب حرمة المصاهرة بالوطء إنما تثبت م: (لكونه) ش: أي لكون الوطء م: (ملاقيًا لمحل الحرث) ش: لتثبت به الجزئية م: (وقد زال) ش: أي محل الحرث م: (بالموت فافترقا) ش: أي الرضاع والوطء يعني لا يقاس ذلك على هذا بعد الموت

(5/273)


وإذا احتقن الصبي باللبن لم يتعلق به التحريم. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يثبت به الحرمة، كما يفسد به الصوم، ووجه الفرق على الظاهر أن المفسد في الصوم إصلاح البدن، ويوجد ذلك في الدواء، فأما المحرم في الرضاع معنى النشر، ولا يوجد ذلك في الاحتقان، لأن المغذي وصوله من الأعلى، وإذا نزل للرجل لبن فأرضع صبيا لم يتعلق به التحريم، لأنه ليس بلبن على التحقيق، فلا يتعلق به النشوء والنمو، وهذا لأن اللبن إنما يتصور ممن يتصور منه الولادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لوجود الفارق.

[احتقن الصبي باللبن]
م: (وإذا احتقن الصبي باللبن) ش: من الحقنة، وهو دواء يجعل في خريطة من أدم يقال لها المحقنة، ويعطى المريض من أسفله، وهي معروفة بين الناس، وفي " المغرب ": احتقن بالضم غير جائز، وإنما الصواب: حقن أو عولج بالحقنة م: (لم يتعلق به التحريم) ش: أي لم يتعلق بالاحتقان التحريم، هذا هو ظاهر الرواية عن أصحابنا، ولهذا لم يذكر الخلاف في " الجامع الصغير "، وقد ذكر الكرخي المسألة، ولم يحك الخلاف، وكذا لا يتعلق التحريم بالإقطار في الإحليل، والأذن، والجائفة، وبه قال الشافعي في الجديد، ومالك، وأحمد.
م: (وعن محمد أنه يثبت به الحرمة، كما يفسد به الصوم) ش: وبه قال الشافعي في القديم، وهو اختيار المزني، وكذا قال الشافعي في قوله القديم في الإقطار في الإحليل، وفي الأذن، وفي الجائفة إذا وصل إلى الجوف، والضمير في " أنه "، وفي " به " في الموضعين يرجع إلى الاحتقان الذي يدل عليه قوله: احتقن.
م: (ووجه الفرق على الظاهر) ش: أي على ظاهر الرواية عن أصحابنا م: (أن المفسد في الصوم إصلاح البدن، ويوجد ذلك) ش أي إصلاح البدن م: (في الدواء، وأما المحرم) ش: بكسر الراء المشددة م: (في الرضاع معنى النشر، ولا يوجد ذلك في الاحتقان؛ لأن المغذى) ش: بضم الميم وفتح الغين المعجمة والذال المشددة اسم فاعل من الغذاء م: (وصوله من الأعلى) ش: أي من أعلى البدن، يعني إلى الأعضاء العليا، وبالحقنة يصل اللبن إلى الأعضاء السفلى، لا إلى العليا، فلا يحصل معنى الغذاء، فلا يثبت التحريم بخلاف الصوم، فإن المفسد فيه وصول ما فيه إصلاح البدن إلى الجوف، وقد حصل هذا المعنى في الحقنة، فيفسد الصوم.
م: (وإذا نزل للرجل لبن، فأرضع به صبيًا لم يتعلق به التحريم) ش: ولا خلاف للأئمة الأربعة فيه وعن الكرابيسي من أصحاب الشافعي: أنه يثبت به التحريم، وقد ذكرناه مرة م: (لأنه) ش: أي لأن لبن الرجل م: (ليس بلبن على التحقيق) ش: كدم السمك ليس بدم على التحقيق، فصار كما لو نزل من ثدي البكر ماء أصفر، فلا يتعلق به شيء. وفي " المغني ": ولبن الخنثى كلبن الرجل م: (فلا يتعلق به النشوء والنمو، وهذا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه ليس بلبن، أي على التحقيق م: (لأن اللبن إنما يتصور ممن يتصور منه الولادة) ش: فالرجل لا يتصور منه الولادة، فلا يتعلق به التحريم.

(5/274)


وإذا شرب صبيان من لبن شاة لم يتعلق به التحريم؛ لأنه لا جزئية بين الآدمي والبهائم، والحرمة باعتبارها. وإذا تزوج الرجل صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج؛ لأنه يصير جامعا بين الأم والبنت رضاعا، وذلك حرام، كالجمع بينهما نسبا، ثم إذا لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها، لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها، وللصغيرة نصف المهر، لأن الفرقة وقعت لا من جهتها والارتضاع، وإن كان فعلا منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شرب صبيان من لبن شاة]
م: (وإذا شرب صبيان من لبن شاة لم يتعلق به التحريم؛ لأن لا جزئية بين الآدمي والبهائم، والحرمة باعتبارها) ش: أي باعتبار الجزئية.
م: (وإذا تزوج الرجل صغيرة، وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج) ش: فيفسخ النكاح، وبه قال الشافعي وأحمد، وحكي عن مالك أنه إذا لم يدخل بالكبيرة بطل نكاحها، ويثبت نكاح الصغيرة؛ لأن الفرقة جاءت منها، وببطلان نكاحها لم يبق الجمع، وعن الأوزاعي أنه إذا لم يدخل بالكبيرة يثبت نكاحها، ويبطل نكاح الصغيرة م: (لأنه يصير جامعًا بين الأم والبنت رضاعًا) ش: أي من حيث الرضاع م: (وذلك) ش: أي الجمع بين الأم والبنت م: (حرام كالجمع بينهما) ش: أي بين الأم والبنت م: (نسبًا) ش: أي من حيث النسب.
م: (ثم إذا لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها) ش: أي للكبيرة، سواء قصدت الفساد أو لا، وجاز أن يتزوج الصغيرة مرة أخرى؛ لأنها ربيبة ولم يدخل بأمها، ولا يتزوج الكبيرة؛ لأنها أم امرأته م: (لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها، وللصغيرة نصف المهر؛ لأن الفرقة وقعت لا من جهتها) .
فإن قيل: يشكل بمسألة الصغيرة ارتد أبوها ولحقا بدار الحرب بانت، ولا يقضي لها بشيء من المهر، ولم يوجد الفعل منها.
قلنا: لما حكمنا بارتدادها تبعًا لهما صارت في الحكم كأنها ارتدت، والردة بحظور الإباحة لها محال، فلا تبقى مستحقة النظر، فلا يحل نصف المهر، أما الارتضاع لا حاصر له، فلا يسقط المهر.
فإن قيل: يشكل بقتل الرجل امرأة رجل قبل الدخول، فإنه يقضى على الزوج بالمهر، ولا يرجع على القاتل بشيء، مع أن القتل محظور.
قلنا: وجب بالقتل قصاص أو دية، وللزوج نصيب فيما هو الواجب بالقتل، فلا يتضاعف حقه بالتضمين. أما الزوج فيما نحن فيه لا نصيب له في شيء، فيضمن من أتلف نصف المهر، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (والارتضاع) ش: جواب عما يقال: العلة للفرقة الارتضاع، وهي فعلها، فلا تضاف الفرقة إليها. وأجاب بقوله: والارتضاع أي ارتضاع الصغيرة م: (وإن كان فعلًا منها) ش: أي من

(5/275)


لكن فعلها غير معتبر في إسقاط حقها، كما إذا قتلت مورثها ويرجع به الزوج على الكبيرة إن كانت تعمدت به الفساد، وإن لم تتعمد فلا شيء عليها، وإن علمت بأن الصغيرة امرأته، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرجع في الوجهين، والصحيح ظاهر الرواية؛ لأنها وإن أكدت ما كان على شرف السقوط وهو نصف المهر، وذلك يجري مجرى الإتلاف، لكنها مسببة فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغيرة م: (لكن فعلها غير معتبر) ش: شرعًا م: (في إسقاط حقها كما إذا قتلت مورثها) ش: لم تحرم من الميراث بلا خلاف م: (ويرجع به) ش: أي ينصف المهر م: (الزوج على الكبيرة إن كانت تعمدت به الفساد، وإن لم تتعمد) ش: بأن قصدت دفع الهلاك عنها جوعًا.
م: (فلا شيء عليها، وإن علمت بأن الصغيرة امرأته) ش: أي امرأة زوجها. وفي " المبسوط ": يعتبر تعمد الفساد بأن قصده مع العلم بأن الرضاع يحرمها على الزوج في الشرع، فلو لم تعلم ذلك أخطأت، أو لم تعلم النكاح، أو لم تعلم بأن الرضاع يفسد النكاح، أو أرادت الخير بأن خافت على الرضيع الهلاك من الجوع لا يرجع به عليها، والقول فيه قولها، إن لم يظهر منها تعمد الفساد، ولأنه شيء في باطنها، لا يقف عليه غيرها، فيقبل قولها باليمين.
فإن قيل: يشكل هذا بصغيرتين تحت رجل، ولرجل آخر امرأتان، فأرضعت كل واحدة منهما الصغيرتين، حتى بانتا على الزوج، ولم يغرما شيئًا وإن تعمدت الفساد.
قلنا: فعل الكبيرة فيما نحن فيه مستقل بالإفساد، وأما فعل كل واحدة من الكبيرتين هناك غير مستقل بالإفساد، فلا تضاف الفرقة إلى كل واحدة، لأن الفساد باعتبار الجمع بين الأختين والأجنبية قائمة بهما، فلا تعدو إلى المرأتين، فلا يعتبر تعديها، وهنا باعتبار الجمع بين الأم والبنت، والأمية قائمة بالمرضعة، يعتبر تعديها لأنها مخاطبة.
م: (وعن محمد أنه) ش: أي أن الزوج م: (يرجع في الوجهين) ش: أي فيما إذا تعمدت الفساد، أو لم تتعمد، وبه قال زفر، والشافعي، وأحمد م: (والصحيح ظاهر الرواية، لأنها) ش: أي الكبيرة م: (وإن أكدت) ش: أي الكبيرة م: (ما كان على شرف السقوط، وهو نصف المهر) ش: كتقبيل ابن الزوج إذا بلغت حدًّا تشتهي م: (وذلك) ش: أي تأكيد ما كان على شرف السقوط م: (يجري مجرى الإتلاف) ش: في إيجاب الضمان م: (لكنها) ش: أي لكن الكبيرة م: (مسببة فيه) ش: أي في الإتلاف غير مباشرة.
قال الأترازي: ما كان يحتاج صاحب " الهداية " إلى أن يقول بكلمة الاستدراك بين اسم إن وخبرها، لأنه لا يصح أن يقال: إن زيدًا لكنه منطلق، وهذا لأن قوله: مسببة يقع خبر إن في قوله: لأنها، وإن أكدت ما كان على شرف السقوط، إما لأن الإرضاع هذا وقع بيانًا لكون الكبيرة مسببة، أي صاحبة سبب، لا علة، يعني أن الكبيرة لما كانت مسببة لأحد المعنيين.

(5/276)


إما لأن الإرضاع ليس بإفساد النكاح وضعا، وإنما يثبت ذلك باتفاق الحال، أو لأن فساد النكاح ليس بسبب لإلزام المهر، بل هو سبب لسقوطه، لأن نصف المهر يجب بطريق المتعة على ما عرف، لكن من شرطه إبطال النكاح،
وإذا كانت مسببة يشترط فيه التعدي كحفر البئر، ثم إنما تكون متعدية إذا علمت بالنكاح، وقصدت بالإرضاع الفساد، أما إذا لم تعلم بالنكاح، أو علمت بالنكاح، ولكنها قصدت دفع الجوع والهلاك عن الصغيرة دون الإفساد لا تكون متعدية؛ لأنها مأمورة بذلك، ولو علمت بالنكاح، ولم تعلم بالفساد لا تكون متعدية أيضا، وهذا هاهنا اعتبار الجهل دفع قصد الفساد لا لدفع الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إما أن الإرضاع ليس بإفساد النكاح وضعًا) ش: لأن وضعه لتربية الصغير م: (وإنما يثبت ذلك) ش: أي إنما يثبت فساد النكاح بالإرضاع م: (باتفاق الحال) ش: بأن تقع الكبيرة والصغيرة اتفاقًا في ملك رجل واحد، لا قصدًا في ذلك. م: (وقوله: أو لأن إفساد النكاح) ش: عطف على قوله: إما لأن الإرضاع ليس بإفساد النكاح، وهو القسم الثاني، لا من التفصيلية م: (ليس بسبب لإلزام المهر) ش: لأنه غير مضمون بالإتلاف، لكنه غير متقوم في نفسه؛ لأنه ليس بملك عين، ولا منفعة على التحقيق، ولهذا لا يقدر على بيعه وهبته وإجارته م: (بل هو سبب لسقوطه) ش: أي لسقوط المهر م: (لأن نصف المهر) ش: جواب سؤال مقدر، بأن يقال: كيف قلت: إن فساد النكاح ليس بسبب لإلزام المهر، ويجب على الزوج نصف مهر الصغيرة؟ فأجاب بقوله: لأن نصف المهر م: (يجب بطريق المتعة على ما عرف) ش: في باب المهر أن المتعة تجب بالمهر ابتداء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] لأن المعقود عليه عاد إليها سالمًا م: (لكن من شرطه) ش: أي من شرط وجوب المتعة م: (إبطال النكاح) ش: فكانت مباحة لا بشرط.

[علمت المرضعة بالنكاح وقصدت بالإرضاع الإفساد]
م: (وإذا كانت) ش: أي الكبيرة م: (مسببة يشترط فيه التعدي كحفر البئر) ش: فإنه له حفرها في ملكه لا يضمن ما وقع فيها. ولو حفرها في الطريق، أو في ملك غيره يضمن ما وقع فيها م: (ثم إنما تكون متعدية إذا علمت بالنكاح، وقصدت بالإرضاع الإفساد، أما إذا لم تعلم بالنكاح، أو علمت بالنكاح، لكنها قصدت دفع الجوع والهلاك عن الصغيرة، دون الإفساد لم تكن متعدية، لأنها مأمورة بذلك) ش: لأنه يكون حينئذ فرضًا عليها، وتكون مأجورة بالإرضاع لدفع الهلاك.
م: (ولو علمت بالنكاح ولم تعلم بالفساد، لا تكون متعدية أيضًا) ش: والقول قولها كما ذكرناه م: (وهذا) ش: أي القول بأن علمها بالنكاح، وبفساده بالإرضاع م: (هاهنا اعتبار الجهل) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، بأن يقال: كيف يكون جهل الكبيرة بفساد النكاح بالإرضاع عذرًا، والجهل ليس بعذر في دار الإسلام؟.
فأجاب بقوله: وهذا اعتبار الجهل م: (لدفع قصد الفساد) ش: الذي يصير به الفعل تعديًا م: (لا لدفع الحكم) ش: وهو وجوب الضمان، تقديره أن الحكم الشرعي، وهو وجوب الضمان يعتمد

(5/277)


ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات، وإنما يثبت بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يثبت بشهادة امرأة واحدة إذا كانت موصوفة بالعدالة؛ لأن الحرمة حق من حقوق الشرع، فيثبت بخبر الواحد، كمن اشترى لحما فأخبره واحد أنه ذبيحة المجوسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعدي، والتعدي إنما يحصل بقصد الفساد، والقصد إلى الفساد إنما يتحقق عند العلم بالفساد، وإذا انتفى العلم بالفساد انتفى الفساد، فكان اعتبار الجهل لدفع قصد الفساد، لا لدفع الحكم.
فإن قلت: قصد الفساد يستلزم دفع الحكم، فكان اعتبار الجهل لدفع الحكم.
قلت: لزم أن يكون ضمانًا ضمنًا، فلا يعتبر به.

[شهادة النساء المنفردات في الرضاع]
م: (ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء المنفردات) ش: يعني وحدهن. وقال الشافعي: تقبل شهادة أربع منهن، وهو قول عطاء، وفي " الغاية ": وقال الشافعي: يثبت بشهادة أربع من النساء، ورجل وامرأتين، وتقبل بشهادة مرضعة إن لم تطلب، أجرة ولا ذكرت هاهنا، وكذا إذا قالت أرضعته في الأصح، ذكره النووي في " المنهاج "، وفي " الرافعي ": يثبت الرضاع بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وكذا بشهادة أربع نسوة، ولا يثبت بما دون أربع نسوة، وقبل أحمد شهادة المرضعة.
وفي " المغني ": شهادة الواحدة مقبولة في الرضاع عند أحمد، وهو قول طاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز، وعنه شهادة امرأتين، وعنه شهادة امرأة واحدة وتستحلف مع شهادتها وتفارق، وإن كانت كاذبة لم يحل عليها حول حتى تبيض ثدياها بالبرص، وفي الوبري قال الشافعي: يفرق شهادة امرأة واحدة. وقال مالك: تثبت بقول شاهدين، ويمنع من النكاح ابتداء، ويفرق بينهما لو كانت تناكحا.
م: (وإنما يثبت) ش: أي الرضاع م: (بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين) ش: وهو مذهب عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، ذكره في " المغني "، وفي " المحيط ": هو قول عمر، وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
م: (وقال مالك: يثبت بشهادة امرأة واحدة إذا كانت موصوفة بالعدالة، لأن الحرمة حق من حقوق الشرع، فيثبت بخبر الواحد، كمن اشترى لحمًا فأخبره واحد أنه ذبيحة المجوسي) ش: فإنه ينبغي للمسلم أن لا يأكل منه، ولا يطعم غيره، لأن المخبر خبره بحرمة العين، وبطلان الملك، فتعينت الحرمة مع بقاء الملك، ثم لما تثبت الحرمة مع بقاء الملك لا يمكنه الرد على بائعة، ولا أن يحبس الثمن على بائعه.
قلت: هذا الذي ذكره أنه مذهب مالك ليس بمذهب مالك، وإنما هو مذهب أحمد، ومذهب مالك ما ذكرناه الآن.

(5/278)


ولنا أن ثبوت الحرمة لا تقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح، وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، بخلاف اللحم؛ لأن حرمة التناول ينفك عن زوال الملك، فاعتبر أمرا دينيّا والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن ثبوت الحرمة لا تقبل الفصل) ش: هكذا شأن الحرمة المؤبدة؛ فإنها لا تقبل الفصل م: (عن زوال الملك في باب النكاح) ش: يعني إذا ثبت حرمة الرضاع يزول ملك النكاح لا محالة، لأن حرمة النكاح مع ملك النكاح لا يجتمعان، فيلزم من إثبات حرمة الرضاع إبطال ملك النكاح م: (وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، بخلاف اللحم؛ فإن حرمة التناول تنفك عن زوال الملك) ش: لأن الحرمة مع ملك اليمين يجتمعان، كما في الخمر م: (فاعتبر) ش: ذلك م: (أمرًا دينيًّا) ش: فيقبل فيه خبر الواحد.

(5/279)