البناية شرح الهداية

باب تفويض الطلاق فصل في الاختيار
وإذا قال لامرأته: اختاري، ينوي بذلك الطلاق، أو قال لها: طلقي نفسك؛ فلها أن تطلق نفسها ما دامت في مجلسها ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب تفويض الطلاق] [فصل في الاختيار] [قال لامرأته اختاري ينوي بذلك الطلاق]
م: (باب تفويض الطلاق)
ش: أي هذا باب في بيان تفويض الطلاق إلى غيره، ولما ذكر بيان الطلاق بنفسه إذ هو الأصل شرع في بيان الطلاق بالنيابة
م: (فصل في الاختيار)
ش: أي هذا فصل في بيان الاختيار، والاختيار من الخيرة على وزن الغيبة، وهو اسم من قولك: اختاره الله عز وجل، وقال الجوهري الخيار اسم من الاختيار، وقال أيضًا: الاختيار الاصطفاء، وقال تاج الشريعة اختيار الميل إلى الخير وإلى ما هو الأفضل، والأولى. والباب المذكور يشتمل على ثلاثة فصول، فصل في الاختيار، وفصل في الأمر باليد، وفصل في المشيئة، وقدم فصل الاختيار على الفصلين المذكورين لأنه يؤيد بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين-.
م: (وإذا قال لامرأته اختاري) ش: حال كونه م: (ينوي بذلك) ش: أي بقوله اختاري م: (الطلاق أو قال لها: طلقي نفسك فلها أن تطلق نفسها) ش: في الصورتين جميعًا م: (ما دامت في مجلسها ذلك) ش: أي الذي وقع فيه هذا القول من الرجل، وهذا الشرط بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - على ما يأتي. قال الكاكي: ما دامت في مجلسها ذلك يدل على أن المجلس وإن تطاول يومًا أو أكثر لا يبطل خيارها، لأن المجلس قد يطول، وقد يقصر، كذا في " المبسوط ".
فإن قيل: إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - في أن الخيار يقتصر على المجلس خلاف النص، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حين نزلت آية التخيير: " فلا تجيبي حتى تستأمري أبويك» ، وأبواها ليسا بحاضرين في المجلس، فهذا دليل على أن الخيار لا يبطل بالقيام عن المجلس كما قال الشافعي في القديم.
قلنا: إحسان الظن بالصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فرض، لأنا تلقينا الشرع منهم بالقبول فلا يجوز مخالفتهم بلا دليل. وهاهنا لا دليل لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أثبت لها الخيار مطلقًا ومنعها إلى غاية استثمارها لأبويها.

(5/373)


فإن قامت منه أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها لأن المخيرة لها المجلس بإجماع الصحاية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - ولأنه تمليك الفعل منها، ولأن التمليك يقتضي جوابا في المجلس كما في البيع؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن قامت منه) ش: أي من مجلسها م: (أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها، لأن المخيرة لها المجلس بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -) ش: فيه عن عبد الله بن مسعود، رواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: إذا ملكها أمرها فتفرقا قبل أن ينقضي شيء، فلا أمر لها.
وعن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رواه عبد الرزاق أيضًا أخبرنا ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر بن عبد الله قال: إذا خير الرجل امرأته فلم يخير مجلسها ذلك فلا خيار لها.
وعن عمر وعثمان وعبد الله بن عمرو بن العاص رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في " مصنفيهما " حديثنا المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قالا: أيما رجل ملك امرأته أمرها وخيرها ثم افترقا من ذلك المجلس فليس لها خيار، وأمرها إلى زوجها انتهى، وخالف الجماعة وشد الحكم وأبو ثور حيث لم يشترطا فيه المجلس، واختاره ابن المنذر في " الأشراف ".
وفي " المغني ": لا يقتصر على مجلسها ذلك وإن تطاول ما لم يفسخ أو يطأها وهذا قول أحمد أيضًا.
ويروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وهو قول الحسن وقتادة، وقال السروجي: وهذا الخلاف في الأمر باليد. وفي " المغني " وأكثر أهل العلم على أن الخيار على الفور، روي ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر، وبه قال عطاء وجابر بن زيد ومجاهد والشعبي والأوزاعي والنخعي ومالك والشافعي، وهو قول أصحابنا. وقال الزهري وقتادة وأبو عبيد وابن المنذر: على التراخي، وهو رواية عن مالك.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن قوله اختاري وطلقي نفسك م: (تمليك الفعل منها) ش: يعني لا توكيل لها، لأن الوكيل عامل لغيره م: (ولأن التمليك يقتضي جوابًا في المجلس) ش: لأن خطاب، فإذا أخذت في عمل آخر يبطل التفويض، وكذا لو خاضت في كلام آخر يبطل التفويض، قال الله تعالى: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] (النساء: الآية 140) ، علم أن الخوض في عمل آخر بمنزلة الإعراض، وليس بتوكيل، لأن الوكيل من يعمل لغيره، وهي عاملة لنفسها بأن تخلص نفسها عن ذل رق النكاح، بخلاف ما لو قال لأجنبي: طلق امرأتي فإنه توكيل، لأنه أمر لغيره.
م: (كما في البيع) ش: أي كما يقتضي الخطاب جوابًا في البيع، لأن الأصل فيه خيار القبول

(5/374)


لأن ساعات المجلس اعتبرت ساعة واحدة، إلا أن المجلس تارة يتبدل بالذهاب عنه، وتارة بالاشتغال بعمل آخر، إذ مجلس الأكل غير مجلس المناظرة، ومجلس القتال غيرهما، ويبطل خيارها بمجرد القيام؛ لأنه دليل الإعراض بخلاف الصرف والسلم لأنه المفسد هناك الافتراق من غير قبض ثم لا بد من النية في قوله: اختاري؛ لأنه يحتمل تخييرها في نفسها، ويحتمل تخييرها في تصرف آخر غيره، فإن اختارت نفسها في قوله اختاري: كانت واحدة بائنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في المجلس م: (لأن ساعات المجلس اعتبرت ساعة واحدة) ش: لرفع الضرورة، قال الحاكم الشهيد في الكافي: إذا خير الرجل امرأته فلها الخيار في ذلك المجلس، وإن تطاول يومًا أو أكثر م: (إلا أن المجلس) ش: أي غير أن المجلس م: (تارة يتبدل بالذهاب عنه) ش: أي عن المجلس م: (ومرة بالاشتغال بعمل آخر، إذ مجلس الأكل غير مجلس المناظرة، ومجلس القتال غيرهما) ش: أي غير مجلس الأكل، وغير مجلس المناظرة.
والحاصل من هذا الكلام بيان أن انقطاع المجلس تارة يكون سببًا حسيًا وهو نحوها من ذلك المكان، وتارة بسبب حكمي وهو اشتغالها بعمل آخر، ألا ترى أن الرجلين إذا كانا يتناظران في مجلس يكون مجلسهما مجلس النظر، ثم إذا اشتغلا بالأكل يكون مجلسهما مجلس الأكل، ثم إذا اشتغلا بشيء آخر يكون مجلس ذلك الشيء.
م: (ويبطل خيارها بمجرد القيام، لأنه دليل الإعراض) ش: لأنها لو اختارت لما قامت، وكذا إذا اشتغلت بعمل آخر م: (بخلاف الصرف والسلم، لأن المفسد هناك) ش: أي في باب الصرف والسلم م: (بالافتراق من غير قبض، ثم لا بد من النية) ش: أي من نية الطلاق م: (في قوله: اختاري لأنه يحتمل تخييرها في نفسها، ويحتمل تخييرها في تصرف آخر غيره) ش: لا شك أن الاختيار يحتمل وجوهًا أخر سوى اختيار النفس بأن يراد اختاري الكسوة أو النفقة أو الدار للسكنى، فلا بد من نية الطلاق ليزول الاحتمال.
م: (فإن اختارت نفسها في قوله: اختاري كانت واحدة بائنة) ش: قال الكاكي: وهو قول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وقال الشافعي وأحمد: رجعية وهو قول عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في سائر الكنايات، وعند زيد ثلاث، وكأنه حمل على إثم يكون من الاختيار، وبه قال مالك وعمر وابن مسعود حملًا على أدنى ما يكون منه، وهو طلاق رجعي. وجه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أن اختيارها لنفسها إنما يتحقق بزوال ملك الزوج حتى تصير مالكة أمر نفسها لا يختلف بالثلاث والواحدة البائنة، ولهذا قلنا: لو نوى الثلاث بهذا اللفظ لا يقع إلا واحدة بائنة. وقال الترمذي: اختلف أهل العلم في الخيار، فروي عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود أن اختيارها لنفسها طلقة بائنة، وكذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - واحدة بائنة، لكن إن اختارت زوجها فواحدة رجعية، ومثله عن زيد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلا أنه

(5/375)


والقياس أن لا يقع بهذا شيء، وإن نوى الزوج الطلاق لأنه لا يملك الإيقاع بهذا اللفظ فلا يملك التفويض إلى غيره، إلا أنا استحسناه لإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأنه بسبيل من أن يستديم نكاحها أو يفارقها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: إن اختارت نفسها فثلاث، وعنه واحدة بائنة. وقال الترمذي: وذهب أكثر أهل العلم إلى قول عمر وابن مسعود من بعدهم من أهل العلم والوقفة وهو قول الثوري والكوفيين، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، فإن طلقت نفسها ثلاثًا، فليس للزوج أن ينكر لك عند مالك وأكثر أصحابه. وقال ابن جهم وسحنون: له ذلك. وقال طاوس: اختيارها نفسها ليس بطلاق، لأن الطلاق لا يكون إلى النساء. وقال ابن عمر: ومثله قال أبو حنيفة في التخيير لا يقع به الطلاق، وأخطأ في النقل عنه.
فإن قلت: لو قال: لها أمرك بيدك أو طلقي نفسك أو أنت بائن يصح نية الثلاث، وهاهنا لا يصح مع أن فيها لفظ الأمر، مع أن الاختيار متنوع أيضًا، وهو الأدنى والأعلى لما قال زيد بن ثابت.
قلت: أجاب بعضهم بأن الوقوع بلفظ الاختيار على خلاف القياس، وإنما يثبت ذلك بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، والإجماع انعقد بالطلقة الواحدة، بخلاف تلك المسائل. قلت: فيه نظر وقوع تأمل. وأشار شيخ الإسلام بأن الأمر اسم عام يتناول كل شيء، قال الله تعالى: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] أراد به الأشياء كلها، فصلح اسمًا لكل فعل، فإذا نوى الطلاق صار كأنه قال طلاقك بيدك، والطلاق يحتمل العموم والخصوص. فأما اختيار اسم لفعل خاص وهو الخلوص والصفوة وثبوت البينونة، وفيه مقتضى الصفوة، فلم يصح فيه العموم. ثم لو اختارت المرأة زوجها لا يقع به شيء عندنا، وبه قال الشافعي، وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي الدرداء وغيرهم غير علي، «فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - خيرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاخترناه» ولم يكن ذلك طلاقًا. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في رواية تقع رجعية، وبه قال الحسن البصري وربيعة.
م: (والقياس أن لا يقع بهذا) ش: أي يقتضي القياس أن لا يقع بقوله اختاري م: (شيء) ش: كما ذهب إليه طاوس م: (وإن نوى الزوج الطلاق) ش: واصل بما قبله م: (لأنه) ش: أي لأن الزوج م: (لا يملك الإيقاع بهذا اللفظ) ش: أي بقوله - اختاري - م: (فلا يملك التفويض إلى غيره) ش: لأن من لا يملك الشيء كيف يتصرف فيه.
م: (إلا أنا استحسناه) ش: أي قلنا بالاستحسان م: (لإجماع الصحابة) ش: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - م: (ولأنه) ش: أي ولأن الزوج م: (بسبيل من أن يستديم نكاحها أو يفارقها) ش: أي للزوج التصرف في امرأته إن شاء يبقيها بحسب ما يريد، وإن شاء فارقها ولا حجر عليه

(5/376)


فيملك إقامتها مقام نفسه في حق هذا الحكم، ثم الواقع بها بائن؛ لأن اختيارها نفسها بثبوت اختصاصها بها، وذلك في البائن. ولا يكون ثلاثا وإن نوى الزوج ذلك؛ لأن الاختيار لا يتنوع، بخلاف الإبانة لأن البينونة قد تنوع. قال ولا بد من ذكر النفس في كلامه أو في كلامها حتى لو قال لها: اختاري فقالت: قد اخترت فهو باطل؛ لأنه عرف بالإجماع، وهو في المفسرة من أحد الجانبين، ولأن المبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم ولا تعيين مع الإبهام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في ذلك، فإن كان كذلك م: (فيملك إقامتها مقام نفسه في حق هذا الحكم) ش: أراد به حكم استدامة النكاح، وحكم مفارقتها م: (ثم الواقع بها) ش: أي بلفظة اختاري م: (بائن) ش: أي طلقة بائنة م: (لأن اختيارها نفسها بثبوت اختصاصها بها) ش: أي بثبوت اختصاص المرأة نفسها م: (وذلك) ش: أي ثبوت الاختصاص م: (في البائن) ش: أي في وقوع الطلقة الواحدة البائن.
م: (ولا يكون) ش: أي الواقع بلفظ اختاري م: (ثلاثًا) ش: أي ثلاث طلقات م: (وإن نوى الزوج ذلك) ش: أي الثلاث م: (لأن الاختيار لا يتنوع) ش: وفيه نظر، لأنه الأدنى والأعلى كما قال زيد بن ثابت، وقد مر عن قريب م: (بخلاف الإبانة، لأن البينونة قد تتنوع) ش: إلى غليظة وخفيفة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا بد من ذكر النفس في كلامه أو كلامها، حتى لو قال لها اختاري فقالت اخترت فهو باطل) ش: يعني لا يقع شيء م: (لأنه) ش: أي لأن وقوع الطلاق بلفظ الاختيار م: (عرف بإجماع الصحابة) ش: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - م: (وهو في المفسرة من أحد الجانبين) ش: من الزوج والمرأة لا في اللفظة المبهمة من الجانبين جميعًا م: (ولأن المبهم) ش: وهو قولها اخترت م: (لا يصلح تفسيرًا للمبهم) ش: وهو قوله اختاري لأن كل واحد منها مبهم ليس فيه ذكر النفس م: (ولا تعيين مع الإبهام) ش: أي لا يتعين الطلاق مع وجود الإبهام في الجانبين، والكلام الذي يقوم مقام النفس كالتطليقة، والاختيار كذكر النفس.
وفي المحيط ولا بد من ذكر النفس والتطليقة، والاختيار في أحد الكلامين، لأن الاختيار يحتمل المعاني فلا بد له من تفسير وهو ذكر لنفسه أو ما يدل عليها، وعند مالك والشافعي وأحمد وذكر النفس ليس بشرط، وأما عند مالك فأي الكلام صدر منه مع النية يقع به الطلاق وإن لم يشعر به. وأما عند الشافعي وأحمد فلا بد أن يكون في كلامه أو جوابها يصرف الكلام إليه عند عدم ذكر النفس في كلامها أو جوابها ما يصرف الجواب إليه، ولو قال اختاري فقالت فعلت لا يقع شيء، ولو قال اختاري نفسك فقالت فعلت يقع، ومثله في البدائع، وزاد تكرار الاختيار في كلام الزوج، وكذا لو قال اختاري فقالت أبي وأمي وأهلي، والأزواج يقع استحسانًا.
وفي " جوامع الفقه " بخلاف اخترت أختي أو عمتي أو قالت اخترت نفسي وزوجي فالعبرة

(5/377)


ولو قال لها اختاري نفسك فقالت اخترت تقع واحدة بائنة، لأن كلامه مفسر، وكلامها خرج جوابا له فيتضمن إعادته. وكذا لو قال اختاري اختيارة فقالت قد اخترت، لأن الهاء في الاختيارة تنبئ عن الاتحاد، والانفراد واختيارها نفسها هو الذي يتحد مرة ويتعدد أخرى فصار مفسرا من جانبه. ولو قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي يقع الطلاق إذا نوى الزوج، لأن كلامها مفسر، وما نواه الزوج من محتملات كلامه. ولو قال اختاري فقالت أنا أختار نفسي فهي طالق، والقياس أن لا تطلق، لأن هذا مجرد وعد ويحتمله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للسابق. وإن قالت أو زوجي أو عمي بطل. ولو قال لها اختاري فقالت طلقت نفسي تقع بائنة. وفي البدائع قال لها اختاري فقالت اخترت الطلاق يقع واحدة رجعية.

[قال لها اختاري نفسك فقالت قد اخترت]
م: (ولو قال لها اختاري نفسك فقالت قد اخترت يقع واحدة بائنة، لأن كلامه مفسر، وكلامها خرج جوابًا له) ش: أي لكلام الزوج م: (فيتضمن إعادته) ش: أي يتضمن كلام المرأة إعادة كلام الزوج، لأن الجواب يتضمن إعادة ما في السؤال م: (وكذا) ش: أي وكذا تقع واحدة بائنة.
م: (ولو قال) ش: لامرأته م: (اختاري اختيارة فقالت قد اخترت، لأن الهاء) ش: أي الهاء سماها لتصورها بصورة الهاء، ولكونها عند الوقف م: (في الاختيارة تنبئ عن الاتحاد والانفراد) ش: أما الاتحاد فإنما يكون في اختيارها م: (واختيارها نفسها هو الذي يتحد مرة) ش: بأن قال لها اختاري نفسك بتطليقة م: (ويتعدد أخرى) ش: بأن قال لها اختاري نفسك ما شئت أو بثلاث، وأما الانفراد فلكونها للمرأة م: (فصار مفسرًا من جانبه) ش: بخلاف خيارها الزوج، فإنه لا يتعدد لكونه عبارة عن إيقاع النكاح وهو غير متعدد.
وادعى الأترازي أن في كلام المصنف تناقضًا، لأنه ذكر قبل هذا بقوله - لأن الاختيار لا يتنوع - وهاهنا يشعر كلامه بأنه يتنوع، وأجاب بعضهم بأن لا تناقض، لأن الاختيار هنا غير الاختيار ثمة، لأن الاختيار هنا اختيارها نفسها، وثمة يجوز أن يكون اختيارها زوجها، وحط الأترازي على هذا المجيب بأن الاختيار في الموضعين هو اختيارها نفسها، فالتناقض باق والسياق لهذا المجيب أن يكون مراده في اختياره الذي لا يتنوع مطلق الاختيار، وأما المقيد من أحد الجانبين فيتعدد.
م: (ولو قال لها اختاري، فقالت اخترت نفسي يقع الطلاق إذا نوى الزوج، لأن كلامها مفسر، وما نواه الزوج) ش: أي الذي نواه الزوج وهو الطلاق م: (من محتملات كلامه) ش: أي كلام الزوج، لأن كلامه وهو قوله - اختاري - يحتمل الطلاق بأن يكون مراده النفس.
م: (ولو قال لها اختاري فقالت أنا أختار نفسي فهي طالق، والقياس أن لا تطلق، لأن هذا) ش: أي قول المرأة أختار نفسي م: (مجرد وعد) ش: إن كان مرادها بهذا الاستقبال م: (أو يحتمله) ش: أي أو يحتمل الوعد، لأن الصيغة مشتركة بين الحال والاستقبال، ولا يقع الطلاق بالوعد

(5/378)


فصار كما إذا قال لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي، وجه الاستحسان حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فإنها قلت لا بل أختار الله ورسوله، واعتبره النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جوابا منها ولأن هذه الصيغة حقيقة في الحال، وتجوز في الاستقبال كما في كلمة الشهادة وفي أداء الشهادة، بخلاف قولها أطلق نفسي لأنه تعذر حمله على الحال؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والاحتمال م: (فصار هذا كما إذا قال لها طلقي نفسك، فقالت أنا أطلق نفسي) ش: أي فلا يقع الطلاق قياسًا واستحسانًا، وبه قال الشافعي إلا إذا قال أردت إنشاء الطلاق، فحينئذ يقع.
م: (وجه الاستحسان حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، فإنها قالت لا بل أختار الله ورسوله، واعتبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوابًا منها) ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن ابن شهاب عن أبي سلمة «عن عائشة قالت لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبواي يأمراني بفراقه، قال إن الله تعالى قال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ} [الأحزاب: 28] إلى قوله {أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] (الأحزاب: الآية 28) ، فقلت ففي هذا أستأمر أبواي، فإني أريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدار الآخرة، ثم فعل أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل الذي فعلت» . وفي لفظ لمسلم «بل أختار الله ورسوله» . وروى الأئمة الستة في كتبهم عن مسروق «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت خيرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاخترناه فلم يعدده علينا شيئًا» . وفي لفظ لهما فلم يعد ذلك طلاقًا.
م: (ولأن هذه الصيغة حقيقة في الحال، ويجوز في الاستقبال) ش: قال الأترازي فيه نظر، لأن أهل اللغة قالوا إن صيغة المضارع مشتركة بين الحال والاستقبال، وكلامهم فيما يتعلق بالوضع والمشترك يدل على المعنيين جميعًا بسبيل الحقيقة، لكن يترجح أحد المعنيين بالدليل، وقد دل على إرادة الحال فيما نحن فيه انتهى.
قلت: إطلاق النظر فيه غير مسلم، لأن فيه خلافًا، منهم من قال مثل قول المصنف، ومنهم من قال بالعكس، ومنهم من قال بالاشتراك، وهو قول مرجوح، لأن اللفظ إذا دار بين الاشتراك والمجاز، فالمجاز أولى، لأن الاشتراك مخل بالفهم. ومعنى قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حقيقة في الحال يعني بحسب استعمال الشرع والعرف، ويقال فلان يختار كذا، وأنا أختار كذا، ويقال أنا أملك كذا من العبيد وغيرها، والمراد الحال، وأشار إلى ذلك بقوله. م: (كما في كلمة الشهادة، وفي أداء الشهادة) ش: أي يدل على الحال لفظ أشهد في كلمة الشهادة، وفي أداء الشهادة فإن لفظ أشهد فيها يدلان على الحال شرعًا، فإن الرجل إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يعتبر ذلك منه إيمانًا، لا وعدًا بالإيمان. وكذا الشهادة إذا قال شهد بكذا فلا يعاد إلى المجاز م: (بخلاف قولها) ش: أي قول المرأة م: (أنا أطلق نفسي) ش: في الجواب عن قول الزوج اختاري م: (لأنه تعذر حمله على الحال) ش: لأنه الطلاق ليس من عمل

(5/379)


لأنه ليس بحكاية عن حالة قائمة، ولا كذلك قولها أنا أختار نفسي، لأنه حكاية عن حالة قائمة، وهو اختيار نفسها،
ولو قال لها اختاري اختاري اختاري فقالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة طلقت ثلاثا في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يحتاج إلى نية الزوج. وقالا تطلق واحدة، وإنما لا يحتاج إلى نية الزوج لدلالة التكرار عليه، إذ الاختيار في حق الطلاق هو الذي يتكرر لهما أن ذكر الأولى وما يجري مجراه وإن كان لا يفيد من حيث الترتيب، ولكن يفيد من حيث الإفراد فيعتبر فيما يفيد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القلب، بل إيجاب وإيقاع بنفس هذه الصيغة لأنه إخبار عن معنى ثابت، وهو قوله م: (لأنه ليس حكاية عن حالة قائمة) ش: أي ثابتة، لأن الطلاق يتعلق بالصيغة لا بالقلب، كما ذكرنا، ولهذا لو أراد الطلاق في قلبه لا تطلق. م: (ولا كذلك) ش: أطلق نفسي مثل م: (قولها أنا أختار نفسي) ش: أي ليس مثل قولها أطلق نفسي مثل قولها أنا أختار نفسي، م: (لأنه حكاية عن حالة قائمة وهو اختيار نفسها) ش: لأن الاختيار من عمل القلب، فيكون الذكر باللسان حكاية عن أمر قائم.

[قال لها اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة]
م: (ولو قال لها اختاري اختاري اختاري، فقالت قد اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة طلقت ثلاثًا في قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ولا يحتاج إلى نية الزوج) ش: ولا إلى ذكر النفس م: (وقالا) ش: أي أبي يوسف ومحمد وبه قال الشافعي م: (تطلق واحدة) ش: أي طلقة واحدة م: (وإنما لا يحتاج إلى نية الزوج لدلالة التكرار عليه) ش: أي على الطلاق م: (إذ الاختيار في حق الطلاق، هو الذي يتكرر) ش: دون اختيار الزواج.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن ذكر الأولى وما يجري مجراه) ش: أراد به الوسطى والأخيرة والضمير في مجراه رجع إلى ذكر الأولى م: (وإن كان لا يفيد من حيث الترتيب ولكن يفيد من حيث الإفراد فيعتبر فيما يفيد) ش: أي في الإفراد فيبقى الإفراد، فكأنها قالت اخترت التطليقة الأولى، لأن معنى قولها اخترت اخترت ما صار إلي بالكلمة الأولى، والذي صار إليها بالكلمة الأولى تطليقة، فكأنها صرحت بذلك، وفي ذلك يقع واحدة، فكذا هنا، وهذا لأن الأولى تأنيث الأول، وهو اسم لفرد سابق، والوسطى تأنيث الأوسط، وهو اسم لفرد تقدم عليه مثلما تأخر، والأخيرة اسم لفرد لاحق، فكان لقولها معنيان الفردية والسبق، فلو بطل معنى السبق الذي يقتضي الترتيب بالاتفاق، فبقي الفرد، فصار كقوله اخترت تطليقة الأولى، فوقعت واحدة.
فإن قلت: ينبغي أن يقع هنا شيء، لأنه لا يقع شيء بلفظ اخترت بدون ذكر النفس أو ما يقوم مقامها.
قلت هذا إذا لم يكن في لفظ الزوج ما يدل على تخصيص الطلاق، وهنا ما يدل عليه، وهو تكرار لفظ الاختيار.

(5/380)


وله أن هذا الوصف لغو؛ لأن المجتمع في الملك لا ترتيب فيه، كالمجتمع في المكان، والكلام في الترتيب، والإفراد من ضروراته، فإذا لغا في حق الأصل، لغا في حق البناء. ولو قالت: اخترت اختيارة فهي ثلاث في قولهم جميعا؛ لأنها للمرة، فصار كما إذا صرحت بها. ولأن الاختيارة للتأكيد، وبدون التأكيد تقع الثلاث فمع التأكيد أولى. ولو قالت: قد طلقت نفسي أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة تملك الرجعة، لأن هذا اللفظ يوجب الانطلاق بعد انقضاء العدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (أن هذا) ش: إشارة إلى ذكر الأولى والوسطى والأخيرة م: (الوصف لغو) ش: أي وصف لغو م: (لأن المجتمع في الملك لا ترتيب فيه كالمجتمع في المكان) ش: فإن القوم إذا اجتمعوا في مكان لا يقال هذا أول وهذا آخر، وإنما الترتيب في فعل الأعيان، يقال هذا جاء أولًا وهذا جاء آخرًا م: (والكلام في الترتيب) ش: وهو الأول ( ... ) م: (والإفراد من ضروراته) ش: أي من ضرورات الكلام.
م: (فإذا لغا) ش: أي الكلام م: (في حق الأصل) ش: وهو الترتيب م: (لغا في حق البناء) ش: وهو الإفراد، لأن الترتيب فيه أصل، بدلالة الاشتقاق. وإذا لغا في حقها بقي قولها: اخترت، وهو يصلح جوابًا للكل، فيقع الثلاث، قيل: فيه نظر من وجهين، أحدهما: أنه أطلق الكلام على الأولى والوسطى والأخيرة، وكل مفرد فلا يكون كلامًا، والثاني أن الأولى اسم لفرد سابق، فكان الإفراد أصلًا والترتيب بناء لكونه يفهم من وصفه. والجواب عن الأول أن أهل اللغة ربما يطلقون الكلام على المركب من الحروف المسموعة المتميزة، وإن لم يكن مفيدًا، وهذا على ذلك الاصطلاح، ويجوز أن يكون مجازًا من باب ذكر الكل وإرادة الجزء.
وعن الثاني بأن كلًا من ذلك صفة، وما ذكر عن ذات باعتبار معنى، فيكون الأولى دالة على الفرد السابق، ومعنى السبق هو المقصود.
م: (ولو قالت اخترت اختيارة، فهي ثلاث في قولهم جميعًا) ش: يعني لو قالت المرأة: اخترت اختيارة في جواب قول الرجل اختاري اختاري اختاري فهي ثلاث طلقات في قول أبي حنيفة وصاحبيه م: (لأنها) ش: أي لأن لفظ اختيارة م: (للمرأة، فصار كما إذا صرحت بها) ش: أي بالمرة بأن قالت اخترت نفسي مرة في جواب قوله اختاري ثلاث مرات، فكذا إذا ذكرت اللفظ الذي يدل على المرة.
م: (ولأن الاختيارة للتأكيد) ش: لكونه مصدرًا م: (وبدون التأكيد تقع ثلاثًا، فمع التأكيد أولى) ش: بأن يقع الثلاث م: (وكما لو قالت قد طلقت نفسي أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة) ش: أي فهي طلقة واحدة م: (تملك الرجعة، لأن هذا اللفظ يوجب الانطلاق) ش: أي البينونة م: (بعد انقضاء العدة) ش: لكونه من ألفاظ الصريح، وما يوجب البينونة بعد انقضاء العدة كان عند الوقوع رجعيًا.

(5/381)


فكأنها اختارت نفسها بعد العدة. وإن قال لها أمرك بيدك في تطليقة، أو اختاري تطليقة، فاختارت نفسها فهي واحدة تملك الرجعة؛ لأنه جعل لها الاختيار لكن بتطليقة وهي معقبة للرجعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: إذا لا يكون الجواب مطابقًا للتفويض، لأن المفوض إليها الاختيار، وهو يفيد البينونة.
أشار إلى الجواب بقوله م: (فكأنها اختارت نفسها بعد العدة) ش: فكان مطابقًا من حيث إن الاختيار وجد منها، قيل قوله يملك الرجعة غلط وقع من الكاتب، لأن المرأة إنما تتصرف حكمًا للتفويض، والتفويض بتطليقة بائنة لكونه من الكنايات، فتملك الإبانة لا غير، والأصح أن الرواية فهي واحدة لا يملك الرجعة، لأن روايات " المبسوط " و" الجامع الكبير "، و" الزيادات " وعامة نسخ " الجامع الصغير "، هكذا سوى " الجامع الصغير " لصدر الإسلام، فإنه ذكر فيه مثل ما ذكر في الكتاب. قلت فعلى هذا ينبغي أن يكون المذكور في " الجامع الصغير " لصدر الإسلام سهوًا أيضًا من الكاتب، ويمكن أن يحمل على تعدد الرواية، فيتفق الكل.
م: (وإن قال لها أمرك بيدك في تطليقة أو اختاري تطليقة، فاختارت نفسها فهي واحدة تملك الرجعة؛ لأنه جعل لها الاختيار لكن بتطليقة وهي معقبة للرجعة) ش: قيل: لو كان كذلك كان قوله هذا بمنزلة قوله طلقي نفسك، وقد مر أن قولها: اخترت لا يصلح جوابًا، لقوله طلقي نفسك وأجيب: بأن آخر كلامه لما صار تفسيرًا للأول كان العامل هو المفسر والمفسر هو الأمر باليد والتخيير، وقولها اخترت يصلح جوابًا له كذا في " جامع " قاضي خان.

(5/382)


فصل في الأمر باليد وإن قال لها: أمرك بيدك ينوي ثلاثا فقالت: قد اخترت نفسي بواحدة فهي ثلاث؛ لأن الاختيار يصلح جوابا للأمر باليد لكونه تمليكا كالتخيير والواحدة صفة الاختيار، فصارت كأنها قالت اخترت نفسي بمرة واحدة، وبذلك يقع الثلاث.
ولو قالت قد طلقت نفسي واحدة، أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بائنة؛ لأن الواحدة نعت لمصدر محذوف، وهو في الأولى الاختيارة، وفي الثانية التطليقة إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الأمر باليد] [قال لها أمرك بيدك]
م: (فصل في الأمر باليد)
ش: فصل الأمر باليد عن فصل الاختيار، لأن ذلك مؤيد بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين.
م: (وإذا قال لها: أمرك بيدك) ش: وهذه من مسائل " الجامع الصغير " م: (ينوي ثلاثًا) ش: أي حال كونه ينوي ثلاث تطليقات قيد بثلاث، لأنه لم ينو ثلاثًا يقع واحدة بائنة عندنا، ورجعية عند الشافعي وأحمد وعند أبي ليلى ومالك يقع ثلاث ولا يصدق قضاء إذا نوى واحدة، وكذا الخلاف لو نوى الطلاق فقط، ولو نوى ثنتين يقع واحدة عندنا خلافًا لمالك والشافعي وأحمد م: (فقالت قد اخترت) .
ش: وفي بعض النسخ اخترت بدون لفظ قد م: (نفسي بواحدة) ش: أي بطلقة واحدة م: (فهي ثلاث) ش: أي بلا خلاف بين الأئمة الأربعة م: (لأن الاختيار) ش: أي قولها اخترت نفسي م: (يصلح جوابا للأمر باليد) ش: أي لقوله: أمرك بيدك م: (لكونه) ش: أي لكون قوله أمرك بيدك م: (تمليكًا) ش: لأنه مالك لأمرها فيملكها ما هو مملوك له، فيصح قياسًا واستحسانًا م: (كالتخيير) ش: أي كما في قوله لها اختاري تمليك لها م: (والواحدة) ش: أي الواحدة التي في قولها اخترت نفسي بواحدة. وهو مبتدأ، وهو قوله م: (صفة الاختيار) ش: خبره، أي صفة الاختيار المقدرة، لأن الواحدة صفة فلا بد لها من موصوف، وهو لفظ الاختيار، والتقدير اخترت نفسي باختيارة واحدة م: (فصارت كأنها قالت اخترت نفسي بمرة واحدة، وبذلك) ش: أي بقوله مرة واحدة م: (يقع الثلاث) ش: لأنها إنما تصير مختارة بمرة واحدة، وإذا وقع الثلاث ويجيء مزيد الكلام فيه.

[قالت قد طلقت نفسي واحدة أو اخترت]
م: (ولو قالت قد طلقت نفسي واحدة أو اخترت) ش: أي أو قالت اخترت م: (نفسي بتطليقة فهي واحدة بائنة) ش: وهاتان المسألتان جوابهما واحد، ثم علل ما ذكره من المسائل بقوله م: (لأن الواحدة نعت لمصدر محذوف، وهو) ش: أي المصدر المحذوف م: (في الأولى) ش: أي في الصورة الأولى أو في المسألة الأولى، وهو قولها اخترت نفسي بواحدة، أي باختيارة واحدة م: (الاختيارة، وفي الثانية التطليقة) ش: هو قولها قد طلقت نفسي بواحدة، أي بتطليقة واحدة م: (إلا

(5/383)


أنها تكون بائنة، لأن التفويض في البائن ضرورة ملكها أمرها، وكلامها خرج جوابا له فتصير الصفة المذكورة في التفويض مذكورة في الإيقاع، وإنما تصح نية الثلاث في قوله: أمرك بيدك؛ لأنه يحتمل العموم والخصوص، ونية الثلاث نية التعميم، بخلاف قوله: اختاري، لأنه يحتمل العموم، وقد حققناه من قبل.

ولو قال لها أمرك بيدك اليوم وبعد غد لم يدخل فيه الليل، ولو ردت الأمر في يومها بطل أمر ذلك اليوم وكان الأمر بيدها بعد غد، لأنه صرح بذكر الوقتين بينهما وقت من جنسهما لم يتناوله الأمر؛ إذ ذكر اليوم بعبارة الفرد لا يتناول الليل، فكانا أمرين، فبرد أحدهما لا يرتد الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنها) ش: أي إلا أن التطليقة الواحدة م: (تكون بائنة، لأن التفويض في البائن) ش: أي لأن التفويض كائن في البائن، فقوله في البائن خبر أن م: (ضرورة ملكها أمرها) ش: أي لضرورة أنه ملكها أمرها، فإن تمليكها إياها أمرها يقتضي البينونة لكون الأمر باليد من ألفاظ الكناية.
م: (ولكلامها) ش: أي وكلام المرأة م: (خرج جوابًا له) ش: أي للتفويض أو الكلام الزوج م: (فتصير الصفة المذكورة في التفويض) ش: يعني البينونة في التفويض م: (مذكورة في الإيقاع) ش: أي في إيقاع المرأة، لكون كلامها مطابقًا لكلامه، م: (وإنما تصح نية الثلاث) ش: أشار به إلى الفرق بين الأمر باليد والاختيار، حيث يصح في الأول نية الثلاث، ولا يصح في الثاني، فقال: إنما تصح نية الثلاث م: (في قوله: أمرك بيدك، لأنه) ش: أي لأن أمرك بيدك م: (يحتمل العموم والخصوص) ش: فالعموم في الثلاث، والخصوص في واحدة، لأن الأمر اسم عام يصلح اسما لكل فعل، فإذا سوى الطلاق صار كناية عن قوله: طلاقك بيدك، والطلاق مصدر يحتمل العموم والخصوص.
م: (ونية الثلاث نية التعميم، بخلاف قوله: اختاري، لأنه يحتمل العموم) ش: لأن الاختيار هو الخصوص، وإنه لا يتنوع، وقد مر فيما مضى، أشار إليه بقوله م: (وقد حققناه من قبل) ش: أشار به إلى ما ذكره في فصل الاختيار، بقوله إذ الاختيار لا يتنوع.

[قال لها أمرك بيدك اليوم وبعد غد]
م: (ولو قال لها: أمرك بيدك اليوم وبعد غد لم يدخل فيه الليل) ش: حتى لو اختارت في الليل لا يقع شيء م: (ولو ردت الأمر في يومها بطل أمر ذلك اليوم، وكان الأمر بيدها بعد غد، لأنه صرح بذكر الوقتين) ش: يعني اليوم وبعد غد، م: (بينهما وقت من جنسهما) ش: يعني الغد م: (لم يتناوله الأمر) ش: فإنها لو اختارت نفسها في الغد لا تطلق م: (إذ ذكر اليوم بعبارة الفرد لا يتناوله الليل) ش: هذا دليل قوله لم يدخل في الليل، وفيه تلبيس، وإن كان ظاهرًا م: (فكانا أمرين) ش: أي فكان الوقتان اللذان بينهما وقت فاصل أمرين م: (فبرد أحدهما لا يرتد الآخر) ش: يعني إذا ارتد الأمر في اليوم لا يكون ذلك ردًّا فيما بعد.

(5/384)


وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هما أمر واحد بمنزلة قوله أنت طالق اليوم وبعد غد. قلنا الطلاق لا يحتمل التأقيت، والأمر باليد يحتمله، فيتوقت الأمر بالأول، ويجعل الثاني أمرا مبتدأ.
ولو قال أمرك بيدك اليوم وغدا يدخل الليل في ذلك، فإن ردت الأمر في يومها لا يبقى الأمر في يدها في الغد، لأن هذا أمر واحد؛ لأنه لم يتخلل بين الوقتين المذكورين وقت من جنسهما لم يتناوله الكلام، وقد يهجم الليل ومجلس المشورة لا ينقطع، فصار كما إذا قال أمرك بيدك في يومين. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال زفر هما) ش: يعني الأمر الذي بيدها اليوم، والأمر الذي بيدها غدا م: (أمر واحد) ش: لأنها إذا ردت الأمر في اليوم لا يبقى الأمر بعدها في الغد أيضا، وذلك م: (بمنزلة قوله أنت طالق اليوم وبعد غد) ش: تكون طلقة واحدة لاثنتين، لكون أحدهما معطوفا على الآخر من غير تكرار لفظ الأمر.
م: (قلنا: الطلاق لا يحتمل التأقيت) ش: فكان الطلاق اليوم طلاقا غدا وبعد غد وغيره م: (والأمر باليد يحتمله) ش: أي يحتمل التأقيت م: (فيتوقت الأمر بالأول) ش: أي لكون الأمر موقتا بالوقت الأول، وهو اليوم، حتى يخرج ذلك بمجيء الليل م: (ويجعل الثاني) ش: أي الوقت الثاني، وهو قوله وبعد غد م: (أمرا مبتدأ) ش: أي أمر آخر ابتداء، وقال الشيخ أبو المعين النسفي في " شرح الجامع الصغير والكبير": ذكر إبراهيم بن رستم، أنه لو قال أنت طالق اليوم وغدا طلقت واحدة. ولو قال أنت طالق اليوم وبعد غد طلقت طلاقين، فعلى هذه الرواية لا يصح قياس زفر مسألة الأمر باليد على مسألة الطلاق.

[قال أمرك بيدك اليوم وغدا]
م: (ولو قال أمرك بيدك اليوم وغدا يدخل الليل في ذلك) ش: لأن الليل المتوسط يدخل تحت الأمر م: (فإن ردت الأمر في يومها لا يبقى الأمر في يدها في الغد، لأن هذا أمر واحد، لأنه لم يتخلل بين الوقتين المذكورين) ش: وهذا اليوم والغد م: (وقت من جنسهما لم يتناوله الكلام وقد يهجم الليل) ش: أي يدخل من قولك زحمت على القوم للمجلس، وكون الغد قريبا إذا دخلت عليهم هذا لبيان الليل المتخلل بين اليوم والغد لا يكون قاطعا للمجلس، وكون
الغد قريبا من اليوم حيث لم يدخل بينهما زمان قاطع، فلم يجعلهما كما لو قتل، فكان الغد ملحقا باليوم، لأن الأصل في العطف وقوع الشركة فيهما فيما تم به المعطوف عليه من غير أن يتفرد العطف بخبر آخر.
م: (ومجلس المشورة لا ينقطع) ش: الواو للحال والمشورة، بفتح الميم وضم الشين المعجمة المشورى وجاء فيها فتح الميم وسكون الشين م: (فصار كما إذا قال أمرك بيدك في يومين) ش: حيث يدخل الليل فيهما.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ش: رواية أبي يوسف عنه في " الأمالي " وكذا قال

(5/385)


أنها إذا ردت الأمر في اليوم لها أن تختار نفسها غدا، لأنها لا تملك رد الأمر كما لا تملك رد الإيقاع. وجه الظاهر أنها إذا اختارت نفسها اليوم لا يبقى لها الخيار في الغد، فكذا إذا اختارت زوجها برد الأمر؛ لأن المخير بين الشيئين لا يملك إلا اختيار أحدهما. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا قال أمرك بيدك اليوم، وأمرك بيدك غدا أنهما أمران لما ذكر لكل وقت خبرا على حدة، بخلاف ما تقدم.
وإن قال أمرك بيدك يوم يقدم فلان، فقدم فلان ولم تعلم بقدومه حتى جن الليل، فلا خيار لها؛ لأن الأمر اليد مما يمتد فيحمل اليوم المقرون به على بياض النهار، وقد حققناه من قبل، فيتوقف به ثم ينقضي بانقضاء وقته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شمس الأئمة السرخسي في " المبسوط ": م: (أنها إذا ردت الأمر في اليوم لها أن تختار نفسها غدا، لأنها لا تملك رد الأمر كما لا تملك رد الإيقاع) ش: بيانه أن الزوج لو قال لها طلقتك يقع الطلاق، ولا تملك المرأة رد الإيقاع، فكذلك لا تملك رد الأمر باليد م: (ووجه الظاهر أنها إذا اختارت نفسها اليوم لا يبقى لها الخيار في الغد، فكذا إذا اختارت زوجها برد الأمر) ش: لأنها خيرت بين شيئين اختيارها نفسها واختيار زوجها، فإذا اختارت نفسها اليوم خرج الاختيار من يدها في الغد م: (وذلك لأن المخير بين شيئين لا يملك إلا اختيار أحدهما) ش: لأنه لا يملكها جميعا بل يملك أحدهما.
م: (وعن أبي يوسف أنه إذا قال: أمرك بيدك اليوم، وأمرك بيدك غدا أنهما أمران لما ذكر لكل وقت خبرا على حدة) ش: حتى إذا ردت الأمر اليوم كان لها أن تختار نفسها غدا، لأنه لما ذكر لكل وقت خبر عرف أنه لم يرد اشتراك الوقتين في خبر الواحد.
وقال شمس الأئمة: هذه هي الرواية الصحيحة، وجعل قاضي خان هذه الرواية، أصل الرواية ولم يذكر خلاف أحد م: (بخلاف ما تقدم) ش: أراد به قوله أمرك بيدك اليوم وغدا يفيد أن التكرار في الاختيار لم يوجد فلم يتجدد الأمر.

[قال أنت طالق يوم يقدم فلان فقدم ليلا]
م: (إن قال أمرك بيدك يوم يقدم فلان فقدم فلان ولم تعلم بقدومه حتى جن الليل) ش: أي أظلم، يقال له جن عليه الليل جنونا، ويقال واجنه الليل وأجنه بمعنى، وإجنان الليل ادلهامه، وقال ابن السكيت: ويروى جنون الليل، أي سده ما يستره من ظلمته م: (فلا خيار لها، لأن الأمر باليد مما يمتد فيحمل اليوم المقرون به) ش: أي بالأمر باليد م: (على بياض النهار) ش: فحينئذ لا يبقى لها الخيار بعد الغروب لانقضاء مدة الأمر.
وقال الرافعي: إذا قال أنت طالق يوم يقدم فلان، فقدم ليلا لا تطلق، ومنهم من حكم بوقوعه وحمل اليوم على مطلق الزمان كقولنا، وإذا لم يعلم بقدومه حتى جن الليل خرج وقت خيارها فلا يبقى بعده م: (وقد حققناه من قبل) ش: أي في آخر فصل إضافة الطلاق إلى الزمان م: (فيتوقت به) ش: أي فيتوقت الأمر باليد ببياض النهار م: (ثم ينقضي بانقضاء وقته) ش: أي ثم

(5/386)


وإذا جعل أمرها بيدها أو خيرها فمكثت يوما لم تقم فالأمر في يدها ما لم تأخذ في عمل آخر، لأن هذا تمليك التطليق منها؛ لأن المالك من يتصرف برأي نفسه، وهي بهذه الصفة والتمليك يقتصر على المجلس، وقد بيناه من قبل. ثم إذا كانت تسمع فيعتبر مجلسها ذلك، وإن كانت لا تسمع فمجلس علمها وبلوغ الخبر إليها؛ لأن هذا تمليك فيه معنى التعليق فيتوقف على ما رواه المجلس ولا يعتبر مجلسه؛ لأنه لازم في حقه، بخلاف البيع، لأنه تمليك محض لا يشوبه التعليق.
وإذا اعتبر مجلسهما فالمجلس تارة يتبدل بالتحول، ومرة بالأخذ في عمل آخر على ما بيناه في الخيار، ويخرج الأمر من يدها بمجرد القيام؛ لأنه دليل الإعراض، إذ القيام يفرق الرأي بخلاف ما إذا مكثت يوما لم تقم ولم تأخذ في عمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينقضي وقت الأمر باليد بانقضاء بياض النهار.
م: (وإذا جعل أمرها بيدها) ش: يعني إذا قال أمرك بيدك م: (أو خيرها) ش: أي أو قال لها اختاري نفسك م: (فمكثت يوما لم تقم فالأمر في يدها) ش: يعني فلها الخيار في المجلس م: (ما لم تأخذ في عمل آخر) ش: لأن الأخذ في عمل آخر دليل الإعراض م: (لأن هذا) ش: أي جعل الأمر باليد م: (تمليك التطليق منها) ش: أي من المرأة، وليست بإبانة م: (لأن المالك من يتصرف برأي نفسه، وهي) ش: أي المرأة م: (بهذه الصفة) ش: أي بتصرف معرفته برأي نفسها م: (والتمليك يقتصر على المجلس وقد بيناه من قبل) ش: يعني في فصل الاختيار في قوله التمليكات تقتضي جوابا في المجلس كما في البيع.
م: (ثم إن كانت تسمع) ش: يعني هذا الذي ذكرنا فيها إذا كانت المرأة حاضرة تسمع م: (فيعتبر مجلسها ذلك، وإن كانت غائبة لا تسمع فمجلس علمها) ش: أي فيعتبر حينئذ مجلس علمها م: (وبلوغ الخبر إليها لأن هذا) ش: أي الأمر باليد م: (تمليك فيه معنى التعليق) ش: لأنه تعليق بالطلاق باختيارها نفسها م: (فيتوقف على ما وراء المجلس ولا يعتبر مجلسه) ش: أي مجلس الزوج حتى إذا قام بعد أن جعل إليها الأمر لا يبطل خيارها.
م: (لأنه) ش: أي لأن التعليق م: (لازم في حقه) ش: ولهذا ليس له أن يرجع ويفسخ الخيار م: (بخلاف البيع) ش: حيث يعتبر مجلس البائع والمشتري، حتى إنه أيهما قام عن المجلس قبل قبول الآخر بطل البيع م: (لأنه) ش: أي: لأن البيع م: (تمليك محض لا يشوبه التعليق) ش: وبهذا إذا رجع أحدهما عن كلامه قبل قبول الآخر فله ذلك.

م: (وإذا اعتبر مجلسهما فالمجلس تارة يتبدل بالتحول) ش: إلى مجلس آخر م: (ومرة بالأخذ في عمل آخر، على ما بيناه في الخيار) ش: وهو قوله أن مجلس الأكل غير مجلس المناظرة، ومجلس القتال غيرهما م: (ويخرج الأمر من يدها بمجرد القيام لأنه دليل الإعراض، إذ القيام يفرق الرأي بخلاف ما إذا مكثت يوما ولم تقم) ش: أي حال كونها لم تقم عن مجلسها م: (ولم تأخذ في عمل

(5/387)


آخر؛ لأن المجلس قد يطول وقد يقصر فيبقى إلى أن يوجد ما يقطعه أو يدل على الإعراض، وقوله: مكثت يوماً ليس للتقدير به، وقوله ما لم تأخذ في عمل آخر يراد به عمل يعرف أنه قطع لما كان فيه، لا مطلق العمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آخر، لأن المجلس قد يطول وقد يقصر فيبقى) ش: أي المجلس م: (إلى أن يوجد ما يقطعه أو يدل على الإعراض) ش: وقطع المجلس بقيامها عنه، والإعراض يأخذها في عمل آخر، سواء كان دينيا أو دنياويا، وكان القياس أن يكون لها الخيار أبدا لإطلاق الأمر، ولكنه ترك وأخذ بالاستحسان لإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بقولهم للمخيرة المجلس.
م: (وقوله) ش: أي قول " الجامع الصغير " م: (مكثت يوما ليس للتقدير به) ش: أي ليس لتقدير الخيار باليوم بل المراد منه المكث الدائم، سواء كان قليلا أو كثيرا، ما لم يوجد ما يدل على الإعراض، وفي " المغني " للحنابلة: الأمر باليد لا يقتصر على المجلس بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حتى الكل، وقال ابن قدامة: لا نعرف له مخالفا في ذلك، فيكون إجماعا، ولأنه توكيل في الطلاق فيكون على التراخي كما لو جعله في يد أجنبي.
قلت: دعواه الإجماع غير صحيح، لأن قول جماعة من الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أن لها الخيار ما دامت، فمن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وجابر وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ومن التابعين: إبراهيم، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وطاوس، والشعبي، وأحرز ذلك كله ابن أبي شيبة في "مصنفه".
وقال أصحابنا: هم إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وعدم علمه مخالفا لعلي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لا يستلزم عدم علم غيره، لأن إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إلى خلاف ذلك مع عدم شهرة ما نسب إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وقوله أنه توكيل غير صحيح، لأنه تمليك عند الأئمة، وقوله كما لو جعله في يد أجنبي باطل، لأنه يقتصر على المجلس في الأجنبي أيضاً، إلا إذا كان وكيلا عنه.
م: (وقوله) ش: أي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (ما لم تأخذ في عمل آخر يراد به عمل يعرف به أنه قطع لما كان فيه) ش: أي قطع المجلس الذي كان المجلس واقعا فيه ذكر الشيء، واللام في لما زائدة، كما في قَوْله تَعَالَى {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] (النمل: الآية 72) أي ردفكم م: (لا مطلق العمل) ش: أي ليس مراد محمد مطلق العمل، حتى لو لبست ثيابها من غير قيام أو أكلت أو شربت أو قرأت قليلا من القرآن أو ما أشبه ذلك، ما هو من عمل الفرقة، فكانت هي على خيارها، وهذا كما يكون في قوله أمرك بيدك، يكون في قوله اختاري، وفي قوله طلقي نفسك.

(5/388)


ولو كانت قائمة فجلست فهي على خيارها؛ لأنه دليل الإقبال فإن القعود أجمع للرأي، وكذا إذا كانت قاعدة فاتكأت أو متكئة فقعدت؛ لأن هذا انتقال من جلسة إلى جلسة، فلا يكون إعراضا كما إذا كانت محتبية، فتربعت. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا رواية " الجامع الصغير "، وذكر في غيره أنها إذا كانت قاعدة فاتكأت، لا خيار لها؛ لأن الاتكاء إظهار التهاون بالأمر، فكان إعراضا، والأول هو الأصح، ولو كانت قاعدة فاضطجعت، ففيه روايتان عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولو قالت: ادع أبي أستشيره أو شهودا أشهدهم فهي على خيارها؛ لأن الاستشارة لتحري الصواب والإشهاد للتحرز عن الجحود والإنكار، فلا يكون دليل الإعراض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كانت قائمة فجلست بعد قوله لها أمرك بيدك]
م: (ولو كانت قائمة فجلست فهي على خيارها، لأنه دليل الإقبال، فإن القعود أجمع للرأي) ش: للتمكن منه م: (وكذا إذا كانت قاعدة فاتكأت أو متكئة) ش: أي أو كانت متكئة م: (فقعدت، لأن هذا انتقال من جلسة إلى جلسة فلا يكون إعراضا كما إذا كانت محتبية فتربعت) ش: يقال احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه بعمامة أو يديه.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (هذا) ش: أي هذا الذي قلنا من كونها على خيارها فيما إذا كانت قاعدة فاتكأت م: (رواية " الجامع الصغير ") ش: لأن الاتكاءة نوع جلسة، فكأنها كانت متربعة، فاجتبأت أو كانت مجتبئة فتربعت م: (وذكر في غيره) ش: أي في غير " الجامع الصغير "، وهي رواية الأصل م: (أنها إذا كانت قاعدة فاتكأت لا خيار لها، لأن الاتكاء إظهار التهاون بالأمر، فكان إعراضا) .
ش: وذكر المرغيناني: لو كانت قاعدة فاتكأت، قال الحلواني: لا يبطل خيارها في ظاهر الرواية.
وفي " الذخيرة " عن أبي يوسف يبطل م: (والأول هو الأصح) ش: أي رواية " الجامع الصغير " أصح من رواية غيره.
م: (ولو كانت قاعدة فاضطجعت ففيه روايتان عن أبي يوسف) ش: في رواية الحسن بن زياد عنه، قال لا يبطل خيارها. وفي رواية الحسن بن أبي مالك: ويبطل، وبه قال زفر، وفي " المحيط، وهو ظاهر الرواية.
م: (ولو قالت: ادع أبي) ش: أي لو قالت المرأة لخادمها أو لأحد ادع أبي، أي اطلبه م: (استشره) ش: أي: اطلب منه الرأي في أمري م: (أو شهودا) ش: أي أو قالت ادع لي شهودا م: (أشهدهم فهي على خيارها، لأن الاستشارة لتحري الصواب والإشهاد للتحرز عن الجحود والإنكار، فلا يكون دليل الإعراض) ش: الأشياء دلالة على الإعراض، لأنها من إثبات الاختيار.
وفي " الذخيرة " والمرغيناني إن لم تجد أحدا يدعو لها الشهود فقامت بنفسها ولم تنتقل

(5/389)


وإن كانت تسير على دابة أو في محمل فوقفت فهي على خيارها، وإن سارت بطل خيارها؛ لأن سير الدابة ووقوفها مضاف إليها. والسفينة بمنزلة البيت؛ لأن سيرها غير مضاف إلى راكبها، ألا ترى أنه لا يقدر على إيقافها وراكب الدابة يقدر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لتدعو بالشهود، قيل لا يبطل خيارها لعدم ما يدل على الإعراض، وقيل يبطل لتبدل المجلس.
م: (وإن كانت تسير على دابة أو في محمل فوقفت فهي على خيارها، وإن سارت بطل خيارها، لأن سير الدابة ووقوفها مضاف إليها) ش: لأنها تجري حسب سوق الراكب ومسيرها دليل الإعراض، وإذا قادها الجمال وهما فيه لا يبطل، ولا يبطل بالنزول عن الدابة، بخلاف القعود عن القيام، وكذا لو كانت قائمة فركبت أو راكبة فانتقلت إلى دابة أخرى بطل، ولو أخبرت بالسفينة ينبغي أن تقول اخترتها م: (والسفينة بمنزلة البيت) ش: يعني أنها إذا سارت لا يبطل خيارها م: (لأن سيرها غير مضاف إلى راكبها، ألا ترى أنه لا يقدر على إيقافها، وراكب الدابة يقدر) ش: لأن السفينة لا يجريها راكبها، بل تجري براكبها، قال الله تعالى {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] (هود: الآية 42) فلم يدل على إعراض المرأة، ولكن كلما يبطل في البيت يبطل الخيار في السفينة، سواء كان عمل الدنيا أو عمل الدين.

(5/390)


فصل في المشيئة ومن قال لامرأته: طلقي نفسك ولا نية له، أو نوى واحدة فقالت: طلقت نفسي فهي واحدة رجعية، وإن طلقت نفسها ثلاثا وقد أراد الزوج ذلك وقعن عليها، وهذا لأن قوله: طلقي، معناه افعلي فعل التطليق، وهو اسم جنس فيقع الآخر مع احتمال الكل، كسائر أسماء الأجناس، فلهذا تعمل فيه نية الثلاث، وينصرف إلى الواحدة عند عدمها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في المشيئة] [طلقت نفسها ثلاثا وقد أراد الزوج ذلك]
م: (فصل في المشيئة) ش: أي هذا فصل في بيان المشيئة، قال الجوهري: المشيئة الإرادة، قال ابن الأثير: المشيئة مهموزة الإرادة، وقد شئت المشيئة إشاءة، ويقال المشيئة مصدر كالمسير والمجيء.
قلت: مصدر في الأصل، ولكنه استعمل استعمال الاسم، وهو اسم للوجود، وعند أهل السنة والفرق بين المشيئة والإرادة أن المشيئة عامة، والإرادة ليست كذلك، حتى لو قال الزوج شئت طلاقك ونوى يقع، بخلاف قوله أردت طلاقك فلا يقع، ولو نواه لأنه لا يبني عن الوجود.
م: (ومن قال لامرأته: طلقي نفسك ولا نية له) ش: أي والحال أنه لا ينوي الطلاق، م: (أو نوى واحدة فقالت: طلقت نفسي، فهي واحدة رجعية، وإن طلقت نفسها ثلاثا وقد أراد الزوج ذلك) ش: أي والحال أن الزوج أراد الثلاث م: (وقعن عليها) ش: أي وقعت الثلاث على المرأة، سواء طلقت نفسها ثلاثا جملة أو متفرقة، ولو نوى ثنتين لا يصح، وفيه خلاف الشافعي ومالك وأحمد، وعن الظاهرية لا يجوز إيقاعها، وتوكيل غيره بالطلاق ولا إضافة الطلاق إلى الزمان المستقبل، وقال الأكمل: ترجم الفعل بالمشيئة وكان الابتداء فيه بمسألة فيما ذكر المشيئة أولى.
وقال الأترازي: النظر إلى المشيئة ليس من المسألة التي ابتدأها ذكر المشيئة، ثم أجاب بقوله المشيئة، وإن كانت غير مذكورة لفظا مذكورة معنى، لأن قوله: طلقي نفسك تفويض الطلاق إليها بمشيئتها واختيارها، ولهذا يقتصر على المجلس، انتهى.
قلت: فيه بعد جدا، والفقهاء لا يراعون هذه الأشياء، لأن مقصودهم بيان المسائل بالدلائل مع قطع النظر عن التركيب الوضعي.
م: (وهذا) ش: أي وقوع الواحدة في المسألة الأولى والثلاث في المسألة الثانية م: (لأن قوله: طلقي معناه افعلي فعل التطليق، وهو) ش: أي التطليق م: (اسم جنس) ش: لأنه مصدر يحتمل أدنى الجنس وكله م: (فيقع الآخر) ش: وهو الواحدة م: (مع احتمال الكل كسائر أسماء الأجناس، ولهذا) ش: أي ولأجل أن التطليق اسم جنس م: (تعمل فيه) ش: أي في قوله طلقي م: (نية الثلاث) ش: لأنه يحتمل ويقع بالنية م: (وينصرف إلى الواحدة) ش: أي الطلقة الواحدة م: (عند عدمها) ش: أي

(5/391)


وتكون الواحدة رجعية؛ لأن المفوض إليها صريح الطلاق، وهو رجعي، ولو نوى الثنتين لا يصح؛ لأنه نية العدد إلا إذا كانت الزوجة أمة؛ لأنه جنس في حقها.
وإن قال لها: طلقي نفسك فقالت: أبنت نفسي طلقت، ولو قالت: قد اخترت نفسي لم تطلق؛ لأن الإبانة من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه لو قال أبنتك ينوي به الطلاق، أو قالت أبنت نفسي فقال الزوج: قد أجزت ذلك بانت، فكانت موافقة للتفويض في الأصل، إلا أنها زادت فيه وصفا، وهو تعجيل الإبانة فيلغو الوصف الزائد ويثبت الأصل، كما إذا قالت طلقت نفسي تطليقة بائنة، وينبغي أن تقع تطليقة رجعية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عند عدم النية م: (وتكون الواحدة رجعية، لأن المفوض إليها صريح الطلاق، وهو رجعى) ش: وصريح الطلاق يعقب الرجعة.
م: (ولو نوى الثنتين لا يصح) ش: وقال زفر والشافعي ومالك وأحمد يصح م: (لأنه نية العدد) ش: أي لأن ما نواه نية العدد والثنتان غير عدد، لأن العدد ما له كل شيئان م: (إلا إذا كانت الزوجة أمة) ش: أي إلا إذا كانت امرأته أمة م: (لأنه) ش: أي لأن الثنتين، وإنما ذكر الضمير باعتبار المذكور والتقدير، لأن لفظ الثنتين م: (جنس في حقها) ش: أي في حق الأمة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طلاق الأمة ثنتان» .

[قال لها طلقي نفسك فقالت أبنت نفسي]
م: (وإن قال لها طلقي نفسك، فقالت: أبنت نفسي، طلقت) ش: أي رجعية، لأن المفوض رجعي، وقد أتت بزيادة وصف وهو البينونة، فيلغو ذلك م: (ولو قالت قد اخترت نفسي لم تطلق؛ لأن الإبانة من ألفاظ الطلاق) ش: فصلحت جوابا لقول الرجل طلقي نفسك، بخلاف ما إذا قالت اخترت نفسي، لأن الاختيار ليس من ألفاظ الطلاق.
م: (ألا ترى) ش: أشار به إلى إيضاح الفرق بين المسألتين م: (أنه) ش: أي أن الزوج م: (لو قال) ش: أي لامرأته م: (أبنتك ينوي به الطلاق، أو قالت: أبنت نفسي فقال الزوج قد أجزت ذلك، بانت) ش: أي بانت المرأة بتطليقة بائنة م: (فكانت موافقة للتفويض في الأصل) ش: أي كانت المرأة موافقة لتفويض الرجل بقولها أبنت نفسي في أصل الطلاق دون وصفه، وهو البينونة فيثبت الأصل بموافقتها، ويلغو الأصل لمخالفتها، وهو معنى قوله: م: (إلا أنها زادت فيه) ش: أي في التفويض، ويجوز أنه يقال في الجواب م: (وصفا، وهو تعجيل الإبانة فيلغو الوصف الزائد) ش: وهو البينونة م: (ويثبت الأصل) ش: وهو وقوع الطلاق الرجعي.
م: (كما إذا قالت) ش: في جواب طلقي نفسك م: (طلقت نفسي تطليقة بائنة) ش: فإنها زادت وصفا فيلغو الوصف ويثبت الأصل م: (وينبغي أن تقع تطليقة رجعية) ش: يعني في قولها أبنت نفسي في جواب قول الرجل طلقي نفسك، وإنما قال بلفظ ينبغي؛ لأن هذه المسألة من خواص " الجامع الصغير "، ومحمد لم ينص فيه على الرجعي، بل قال هي طالق.

(5/392)


بخلاف الاختيار لأنه ليس من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه لو قال لامرأته: اخترتك، أو اختاري ينوي الطلاق لم يقع، ولو قالت ابتداء اخترت نفسي فقال الزوج أجزت لا يقع شيء إلا أنه عرف طلاقا بالإجماع إذا حصل جوابا للتخيير، وقوله طلقي نفسك ليس بتخيير فيلغو، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه لا يقع شيء بقولها: أبنت نفسي؛ لأنها أتت بغير ما فوض الزوج إليها، إذ الإبانة تغاير الطلاق.
وإن قال لها: طلقي نفسك فليس له أن يرجع عنه؛ لأن فيه معنى اليمين؛ لأنه تعليق الطلاق بتطليقها، واليمين تصرف لازم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولفظ محمد في " الجامع الصغير " عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل يقول لامرأته: طلقي نفسك، فتقول أبنت نفسي، قال: هي طالق.
م: (بخلاف الاختيار) ش: متعلق بقوله لأن الإبانة من ألفاظ الطلاق م: (لأنه) ش: أي لأن لفظ معنى الاختيار م: (ليس من ألفاظ الطلاق) ش: ثم أوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه لو قال لامرأته: اخترتك أو اختاري نوى الطلاق لم يقع، ولو قالت ابتداء) ش: أي من أول الأمر م: (اخترت نفسي فقال الزوج: قد أجزت لا يقع شيء) ش: لأنه ليس من ألفاظ الطلاق، م: (إلا أنه عرف طلاقا) ش: استثناه من قوله بخلاف الاختيار، لأنه ليس من ألفاظ الطلاق، والاستثناء منقطع بمعنى لكن م: (بالإجماع) ش: أي بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كما مر بيانه م: (إذا حصل جوابا للتخيير) ش: بأن يقول اختاري، فتقول هي اخترت نفسي.
م: (وقوله: طلقي نفسك ليس بتخيير) ش: بأن يقول اختاري م: (فيلغو) ش: ولا يصلح قولها اخترت جوابا له م: (وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه لا يقع شيء بقولها أبنت نفسي، لأنها أتت بغير ما فوض الزوج إليها إذ الإبانة تغاير الطلاق) ش: لأنها تحصل بدون الطلاق، فيكون مغايرا له، فما أتت بما فوض إليها، وكذا في سائر ألفاظ الكنايات، وبه قال ابن خيران من أصحاب الشافعي.

[قال لها طلقي نفسك]
م: (وإن قال لها: طلقي نفسك فليس له أن يرجع عنه) ش: إذا طلقت نفسها بعد إذنها يقع الطلاق، وبه قال مالك وابن خيران من أصحاب الشافعي، وعند الشافعي وأحمد يملك الرجوع، لأن فيه معنى التوكيل والتمليك، وباعتبار التوكيل صح الرجوع كما في سائر التوكيلات، وباعتبار التمليك يصح الرجوع قبل القبول، كما في سائر التمليكات م: (لأن فيه) ش: أي في قوله طلقي نفسك م: (معنى اليمين، لأنه تعليق الطلاق بتطليقها) ش: فيكون يمينا، لأن الطلاق مما يحلف، وفي كل تعليق يعني اليمين لما فيه من المنع والحمل م: (واليمين تصرف لازم) ش: لا يقع الرجوع بإجماع الصحابة، لأن اليمين يعقد للزجر والحل على وجه التأكيد، فلو طلبت الرجوع ما أفادت فائدتها.

(5/393)


ولو قامت عن مجلسها بطل؛ لأنه تمليك، بخلاف ما إذا قال لها: طلقي ضرتك؛ لأنه توكيل وإنابة فلا يقتصر على المجلس ويقبل الرجوع. وإن قال لها طلقي نفسك متى شئت، فلها أن تطلق نفسها في المجلس وبعده؛ لأن كلمة "متى" عامة في الأوقات كلها، فصار كما إذا قال: في أي وقت شئت،
وإذا قال لرجل: طلق امرأتي، فله أن يطلقها في المجلس وبعده، وله أن يرجع؛ لأنه توكيل واستعانة فلا يلزم ولا يقتصر على المجلس، بخلاف قوله لامرأته: طلقي نفسك؛ لأنها عاملة لنفسها، فكان تمليكا لا توكيلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو قامت عن مجلسها بطل) ش: أي قوله طلقي نفسك م: (لأنه تمليك) ش: لأنها تتصرف لنفسها لا لغيرها، فيقتصر على المجلس م: (بخلاف ما إذا قال لها طلقي ضرتك، لأنه توكيل وإنابة، فلا يقتصر على المجلس ويقبل الرجوع) ش: لأن فيه نوع سند على الموكل، وفي ذلك ضرر عليه، فيجوز دفع ذلك الضرر عن نفسه بالرجوع.
م: (وإن قال لها طلقي نفسك متى شئت فلها أن تطلق نفسها في المجلس وبعده) ش: أي بعد المجلس، ولا خلاف للأئمة الأربعة فيه م: (لأن كلمة "متى" عامة في الأوقات كلها) ش: فلا يملك الرجوع، خلافا للشافعي وأحمد م: (فصار كما إذا قال في أي وقت شئت) ش: أي فصار هذا كما إذا قال لها طلقي نفسك في أي وقت شئت، فيعم.
وقال الأترازي: هذه من مسائل القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لفظه بعينه، إلا أنها وقعت مكررة في " الهداية "، لأن صاحب " الهداية، ذكرها بعد هذا قريبا من ورقة عند قوله: إذا قال لها أنت طالق إذا شئت، وذكر ثمة وضع " الجامع الصغير "، وذكر هنا وضع القدوري كان ينبغي أن يذكرهما في موضع إما هنا، وإما ثمة.
فإن قال القائل التمليك في هذه الصورة موجود أولا، فإن كان الثاني لا يقدر على الطلاق، وليس كذلك، وإن كان الأول يقتصر على المجلس لكونه لازم التملك، وأجيب: بأن الاقتصار على المجلس من أحكامها التمليك، وقد يتأخر المانع كما في شرط الاختيار، وهي تطليقة تخصص العلة وموضعه الأصول.

[قال لرجل طلق امرأتي]
م: (وإذا قال لرجل طلق امرأتي فله أن يطلقها في المجلس وبعده، وله أن يرجع، لأنه توكيل واستعانة، فلا يلزم ولا يقتصر على المجلس) ش: أما جواز التطليق للوكيل فلأنه أقامه مقام نفسه، وأما جواز ذلك بدون قيد المجلس، فلأن الوكيل أجنبي وقد يقدر على أن يعين الوكيل في المجلس، وقد لا يقدر، فلم يقتصر على المجلس، وأما جواز رجوعه عن ذلك، فظاهر من كلام المصنف م: (بخلاف قوله لامرأته طلقي نفسك، لأنها عاملة لنفسها، فكان تمليكا لا توكيلا) ش: فليس له الرجوع عن قوله.

(5/394)


ولو قال لرجل طلقها إن شئت، فله أن يطلقها في المجلس خاصة، وليس للزوج أن يرجع. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا والأول سواء؛ لأن التصريح بالمشيئة كعدمه؛ لأنه يتصرف عن مشيئته، فصار كالوكيل بالبيع إذا قيل له بعه إن شئت. ولنا أنه تمليك؛ لأنه علقه بالمشيئة، والمالك هو الذي يتصرف عن مشيئته، والطلاق يحتمل التعليق، بخلاف البيع؛ لأنه لا يحتمل.

ولو قال لها: طلقي نفسك ثلاثا، فطلقت واحدة فهي واحدة؛ لأنها ملكت إيقاع الثلاث، فتملك إيقاع الواحدة ضرورة. ولو قال لها: طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء، عند أبي حنيفة. وقالا: تقع واحدة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو قال لرجل طلقها إن شئت، فله أن يطلقها في المجلس خاصة، وليس للزوج الرجوع، وقال زفر: هذا) ش: أي هذا الحكم م: (والأول) ش: أي القول الأول، وهو قوله لأجنبي: طلق امرأتي بدون ذكر مشيئة م: (سواء) ش: في الحكم، وبه قال أصحاب الشافعي م: لأن التصريح بالمشيئة كعدمه) ش: لأنها لغو م: (لأنه) ش: أي لأن الرجل الذي قال له طلق امرأتي إن شئت م: (يتصرف عن مشيئته) ش: لا محالة م: (فصارت) ش: أي حكم هذا م: (كالوكيل بالبيع) ش: يعني إذا وكل رجلا يبيع شيئا م: (إذا قيل له) ش: يعني إذا قال له م: (بعه إن شئت) ش: يكون توكيلا لا تمليكا، ولا يخرج كلامه ذكر المسألة عن التوكيل، فكذا هذا.
م: (ولنا أنه) ش: أي قول الزوج للرجل م: (تمليك، لأنه علقه بالمشيئة، والمالك هو الذي يتصرف عن مشيئته، والطلاق يحتمل التعليق) ش: على وجه الشرط يصح ذكر المشيئة، ويعتبر لازما: (بخلاف البيع) ش: أي بخلاف التوكيل بالبيع، لأنه ذكر المشيئة على وجه الشرط فلا يمشي م: (لأنه) ش: أي لأن البيع م: (لا يحتمله) ش: أي لا يحتمل الشرط، يعني ليس من مقتضيات البيع فلا يصح ذكر المشيئة، وبدون ذكر المشيئة لا يصير لازما، وبقولنا قال الثوري والليث وقيل الوكيل يتصرف عن مشيئته واختياره.
قلنا: نشأ ذلك الاختيار عن عدم نفاذ الأمر عليه، لعدم الأولوية لا من الصيغة، لأن الصيغة مذمة إذا صدرت من ذي ولاية، فمتى قال الأجنبي إن شئت، فالمشيئة جاءت من الصيغة صريحا، وأثبت خاصية الملكية، فكان هذا الكلام تمليكا لا إلزاما.

[قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة]
م: (ولو قال لها: طلقي نفسك ثلاثا، فطلقت واحدة، فهي واحدة) ش: بالاتفاق، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال مالك: لا يقع شيء، لأنها أتت بغير ما فوض إليها، م: (لأنها ملكت إيقاع الثلاث) ش: أي ثلاث تطليقات بمقتضى كلامه م: (فتملك إيقاع الواحدة ضرورة) ش: لأن من يملك الكل يملك أجزاءه.
م: (ولو قال لها طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) وبه قال زفر ومالك م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (تقع واحدة) ش: وبه

(5/395)


لأنها أتت بما ملكته وزيادة، فصار كما إذا طلقها الزوج ألفا. ولأبي حنيفة أنها أتت بغير ما فوض إليها، فكانت مبتدأة، وهذا لأن الزوج ملكها الواحدة، والثلاث غير الواحدة، لأن الثلاث اسم لعدد مركب مجتمع، والواحد فرد لا تركيب فيه، فكانت بينهما مغايرة على سبيل المضادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الشافعي وأحمد م: (لأنها) ش: أي لأن المرأة م: (أتت بما ملكته وزيادة) ش: عطفا على قوله: بما وهذا لأن الواحدة موجودة في الثلاث، فصارت كما إذا قالت طلقت نفسي واحدة وواحدة وواحدة، وكما إذا قال لها طلقي نفسك، فطلقت نفسها وضرتها، أو قال لعبده أعتق نفسك فأعتق نفسه وصاحبه، وكذا لو قال لأجنبي بع عبدي هذا فباعه مع عبد آخر، فالذي فوض إليها يقع، وما زاد على ذلك لغو.
م: (فصار كما إذا طلقها الزوج ألفاً) ش: فإن الثلاث الذي يفوض إليها شرعاً يقع، والثاني لغو لأنه لا يملكه شرعاً م: (ولأبي حنيفة أنها أتت بغير ما فوض إليها، فكانت مبتدأة) ش: في كلامها لا مجيبة لكلام الزوج م: (وهذا) ش: أشار به إلى توضيح ذلك بقوله م: (لأن الزوج ملكها الواحدة، والثلاث غير الواحدة، لأن الثلاث اسم لعدد مركب مجتمع، والواحد فرد لا تركيب فيه، فكانت بينهما) ش: أي بين الواحدة والثلاث م: (مغايرة على سبيل المضادة) ش: لأن الواحدة ليست بمركبة، والثلاث مركب من الآحاد، والثلاث عدد، والواحدة ليس بعدد، بخلاف قولها واحدة وواحدة وواحدة، لأنها بالكلام الأول تكون ممتثلة لما فوض إليها، وفي الكلام الثاني والثالث مبتدأة، وكذا لو ردت على نفسها وضرتها.
فإن قيل: فكذلك هنا بقولها طلقت نفسي متمثلة لو اقتصرت عليه، وتكون مبتدأة بقولها ثلاثاً فتلغو الزيادة.
قلنا: الطلاق متى قرن بالعدد كان الوقوع بالعدد وإلا لم يقع الثلاث على غير الموطوءة بقوله أنت طالق ثلاثاً، والحال أنه يقع ثلاثاً بالإجماع، وكذا لو ماتت قبل قولها ثلاثاً لا يقع الثلاث.
فإن قيل: قد ذكر من " المبسوط " أول فصل الأمر باليد أن الزوج إذا قال لها أمرك بيدك ونوى الواحدة وهي طلقت نفسها ثلاثاً يقع واحدة عندنا، خلافاً لابن أبي ليلى، فعلى ما ذكره أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ينبغي أن لا يقع شيء، لأنها أتت بغير ما فوض إليها، لأن الثلاث غير الواحدة.
قلنا: التفويض لم يتعرض لشيء فقد يكون خاصاً، وقد يكون عاماً، فإذا نوى فقد نوى تفويضاً خاصاً، وهو غير مخالف للظاهر، فلما وقعت ثلاثاً فقد وقعت فيما هو أصل للتفويض، وهو لا يكون أقل من الواحدة، فتقع الواحدة.

(5/396)


بخلاف الزوج؛ لأنه يتصرف بحكم الملك، وكذا هي في المسألة الأولى؛ لأنها ملكت الثلاث، أما هاهنا لم تملك الثلاث وما أتت بما فوض إليها فتلغى، وإن أمرها بطلاق تملك الرجعة فيه فطلقت بائنة، أو أمرها بالبائن فطلقت رجعية وقع ما أمر به الزوج، فمعنى الأول، أن يقول لها الزوج طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة، فتقول: طلقت نفسي واحدة بائنة فتقع رجعية؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: مذهبنا أن الواحدة لا عين العشرة ولا غيرها، فينبغي أن يقع من حيث إنها لا غير الثلاث.
قلنا: المغايرة بين أسماء الأعداد أصلها ونفسها فوق المغايرة بين ألفاظ العموم والخصوص جرى مجرى المجاز بين العام والخاص، ولا يجري بين أسماء الأعداد، لأنها بمنزلة الإعلام، فيقال ستة ضعف ثلاثة بغير تنوين للعلمية والتأنيث، ولا يجوز إطلاق لفظ الثلاث على غيرها لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، فعلم أن المغايرة بينهما ثابتة من كل وجه.
وأما قولنا لا غيرها فباعتبار عدم تصور الأكثر منها بدل الأول منه، وهذا الاعتبار لا يقدح ثبوت المغايرة بينهما بحسب العرف والاستعمال، مع أن الواحد في العشرة الموجودة، وأما الثلاث هاهنا فمعدوم، والواحد الموجود غير الثلاث المعدوم لا محالة.
م: (بخلاف الزوج لأنه يتصرف بالملك) ش: أي بحكم الملك م: (وكذا هي) ش: أي المرأة م: (في المسألة الأولى) ش: أي وكذا تصرفت المرأة بحكم الملك في المسألة الأولى، وهي فيما إذا طلقت نفسها واحدة.
وقد قال لها طلقي نفسك ثلاثاً م: (لأنها ملكت الثلاث) ش: فكانت مالكة للواحدة لأن الثلاث تدل على الواحدة تضمناً، بخلاف ما إذا أمرها بالواحدة وقد بانت بالثلاث، لأن الواحدة لا دلالة لها على الثلاث لا حقيقة ولا مجازاً، لعدم التضمن والالتزام، فكانت المرأة مخالفة، فلم يقع شيء.
م: (أما هاهنا) ش: أي في قوله طلقي نفسك واحدة فطلقت ثلاثاً م: (لم تملك الثلاث، وما أتت بما فوض إليها، فتلغى) ش: لعدم الموافقة بين قوله وجوابها م: (وأن أمرها بطلاق تملك الرجعة فيه) ش: أي وإن أمر الزوج امرأته بأن تطلق نفسها بطلاق حال كونها تملك الرجعة فيه م: (فطلقت بائنة) ش: أي فطلقت نفسها طلقة بائنة م: (أو أمرها بالبائن) ش: أي أو أمرها بأن تطلق نفسها طلقة بائنة م: (فطلقت رجعية) ش: أي طلقت رجعية م: (وقع ما أمر به الزوج، فمعنى الأول) ش: وهو قوله بطلاق تملك م: (أن يقول لها الزوج طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة، فتقول طلقت نفسي واحدة بائنة فتقع رجعية) ش: بالنصب عطفاً على الحال من الضمير الذي وقع، أو من المجرور، أعني قوله بالصفة، أي تقع الطلقة بالصفة التي عينها الزوج بائنة.

(5/397)


لأنها أتت بالأصل وزيادة وصف، كما ذكرنا فيلغو الوصف ويبقى الأصل. ومعنى الثاني أن يقول لها طلقي نفسك واحدة بائنة فتقول: طلقت نفسي واحدة رجعية فتقع بائنة؛ لأن قولها "واحدة رجعية"، لغو منها؛ لأن الزوج لما عين صفة المفوض إليها فحاجتها بعد ذلك إلى إيقاع الأصل دون تعيين الوصف، فصار كأنها اقتصرت على الأصل فيقع بالصفة التي عينها الزوج بائنا أو رجعيا.

وإن قال لها طلقي نفسك ثلاثا إن شئت، فطلقت واحدة لم يقع شيء؛ لأن معناه إن شئت الثلاث، وهي بإيقاع الواحدة ما شاءت الثلاث فلم يوجد الشرط. ولو قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت، فطلقت ثلاثا، فكذلك عند أبي حنيفة؛ لأن مشيئة الثلاث ليست بمشيئة للواحدة كإيقاعها. وقالا: تقع واحدة؛ لأن مشيئة الثلاث مشيئة للواحدة، كما أن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا كله تعسف، ولو قال بائنة منصوب على أنه صفة الواحدة لسلم من هذا التعسف تقع رجعية.
م: (لأنها أتت بالأصل) ش: أي بأصل الطلاق م: (وزيادة وصف) ش: أي وأتت أيضاً بزيادة وصف، وهو قولها: بائنة م: (كما ذكرنا) ش: عند قوله لأنها أتت بما ملكت وزيادة م: (فيلغو الوصف) ش: وهو البينونة م: (ويبقى الأصل) ش: أي أصل الطلاق.
م: (ومعنى الثاني) ش: وفي بعض النسخ م: (ومعنى الثانية) ش:، أي المسألة الثانية م: (أن يقول لها طلقي نفسك واحدة بائنة، فتقول) ش: بالنصب أيضاً عطف على أن تقول م: (طلقت نفسي واحدة رجعية فتقع بائنة؛ لأن قولها واحدة رجعية لغو منها؛ لأن الزوج لما عين لها صفة المفوض إليها فحاجتها بعد ذلك إلى إيقاع الأصل دون تعيين الوصف، فصار كأنها اقتصرت على الأصل، فيقع بالصفة التي عينها الزوج بائناً أو رجعياً) ش: لأن الزوج فوض إليها ذات الطلاق مع الوصف، وأنها أتت بما فوض إليها وخالفت في الوصف، فثبت الأصل دون الوصف.

[قال لها طلقي نفسك ثلاثاً إن شئت فطلقت واحدة]
م: (وإن قال لها طلقي نفسك ثلاثاً إن شئت فطلقت واحدة لم يقع شيء) ش: وبه قال الشافعي ومالك م: (لأن معناه إن شئت الثلاث، وهي بإيقاع الواحدة ما شاءت الثلاث، فلم يوجد الشرط) ش: لأن قوله إن شئت شرط، فلا بد له من الجزاء، أو لم يذكر بعد فكان جزاؤه ما ذكر قبل الشرط، والمذكور قبل الشرط ثلاث، فصار كما إذا قال إن شئت الثلاث، وبإيقاع الواحدة ما شاءت الثلاث، بل شاءت الواحدة ولم يوجد الشرط، فلم يقع شيء.
م: (ولو قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت، فطلقت ثلاثاً فكذلك عند أبي حنيفة) ش: أي لم يقع شيء وبه قال أصحاب الشافعي م: (لأن مشيئة الثلاث ليست بمشيئة للواحدة كإيقاعها) ش: أي كإيقاع الواحدة فيما لو قال لها طلقي نفسك واحدة فطلقت ثلاثاً لم يقع شيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لما بيناه م: (وقالا: تقع واحدة، لأن مشيئة الثلاث مشيئة للواحدة، كما أن

(5/398)


إيقاعها إيقاع للواحدة فوجد الشرط.
ولو قال لها أنت طالق إن شئت فقالت شئت إن شئت، فقال الزوج: شئته ينوي الطلاق بطل الأمر، لأنه علق طلاقها بالمشيئة المرسلة، وهي أتت بالمعلقة فلم يوجد الشرط، وهي اشتغلت بما لا يعنيها، فخرج الأمر من يدها، ولا يقع الطلاق بقوله شئت، وإن نوى الطلاق، لأنه ليس في كلام المرأة ذكر الطلاق، ليصير الزوج شائيا طلاقها، والنية لا تعمل في غير المذكور، حتى لو قال: شئت طلاقك يقع إذا نوى، لأنه إيقاع مبتدأ؛ إذ المشيئة تنبئ عن الوجود، بخلاف قوله: أردت طلاقك؛ لأنه لا ينبئ عن الوجود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إيقاعها) ش: أي إيقاع الثلاث م: (إيقاع للواحدة فوجد الشرط) ش: وترتب عليه الجزاء، وهو وقوع الواحدة.

[قال لها أنت طالق إن شئت فقالت شئت إن شئت فقال الزوج شئته ينوي الطلاق]
م: (ولو قال لها أنت طالق إن شئت، فقالت شئت إن شئت، فقال الزوج: شئته ينوي الطلاق بطل الأمر) ش: يعني لا يقع الطلاق م: (لأنه علق طلاقها بالمشيئة المرسلة) ش: يعني غير المعلقة بشيء م: (وهي) ش: أتت بالمعلقة يعني المرأة أتت بالمشيئة المعلقة بمشيئة الزوج م: (فلم يوجد الشرط وهي) ش: أي المرأة م: (اشتغلت بما لا يعنيها) ش: بمخالفتها زوجها م: (فخرج الأمر من يدها) ش: لوجود دليل الإعراض.
م: (ولا يقع الطلاق بقوله شئت وإن نوى الطلاق، لأنه ليس في كلام المرأة ذكر الطلاق ليصير الزوج شائياً طلاقها، والنية لا تعمل في غير المذكور) ش: لأن النية تعمل في الملفوظ لا في غيره، والطلاق ليس بمذكور إلا في قوله: شئت إن شئت، فلا يقع شيئاً. م: (حتى لو قال: شئت طلاقك يقع إذا نوى، لأنه إيقاع مبتدأ، إذ المشيئة تنبئ عن الوجود) ش: لأنها مأخوذة من الشيء، والشيء اسم للوجود، فكان قوله - شئت - بمعنى أوجدت، بخلاف الطلاق بإيقاعه م: (بخلاف قوله أردت طلاقك لأنه) ش: أي لأن لفظ أردت م: (لا ينبئ عن الوجود) ش: لأن معنى الإرادة عبارة عن الطلب، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحمى رائدة الموت» ، أي طالبة.
وقال الأكمل: فإن قيل ذهب علماؤنا في أصول الدين أن الإرادة والمشيئة واحدة، فما هذه التفرقة؟ فالجواب: يجوز أن يكون بينهما تفرقة بالنسبة إلى العباد، والتسوية بالنسبة إلى الله تعالى، لأن ما يطلبه تعالى يوجد كما يوجد ما شاء، بخلاف العباد، انتهى.
قلت: هذا الذي ذكره من " الفوائد الظهيرية ".

(5/399)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكاكي: فإن قيل لأن الله تعالى طلب الإيمان من فرعون وأبي جهل، وأمثالهما بالأمر، ولم يوجد منهم، وطلب التقوى من جميع المؤمنين ولم يوجد من أكثرهم، قلنا: الطلب من الله تعالى على نوعين: طلب التكليف، وطلب لا تعلق له باختيار العبد، وهو المسمى بالمشيئة والإرادة والوجود من لوازمها، إذ لو لم يكن ملزم العجز، وهو منزه عنه، بخلاف العباد.
قال شيخي العلامة: هذا ما أشير إليه في عامة الكتب في بيان هذه المسألة، ولكنه مشكل، لأن ما ذكروه يشير إلى أن الإيجاد هو المغني الأصلي للمشيئة، وليس كذلك، فإن المشيئة مفسرة في أكثر كتب اللغة بالإرادة لا بالإيجاد، ومستعملة في القرآن والحديث، وفي تراكيب كلام الناس بمعنى الإرادة دون الإيحاء، قال الله تعالى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] (النساء: الآية 48) {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] (الشورى: الآية8) ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» وأطال الكلام. وملخصه أن القائل يقول شئت طلاقك لا يرى الإيقاع جعل الذي هو بمعنى الوجود مصدراً، وأخذ منه الفعل، لأن المشيئة مصدر شاء بمعنى أراد فهذا الطريق يحتمل أن يكون المشيء بمعنى الإيجاد، وشئت بمعنى أوجدت، فلأن الإيجاد محتمل هذا اللفظ لا يوجد، فيحتاج إلى النية، بخلاف الإرادة فإنها لا تحتمل معنى الإيجاد فلا يقع به الطلاق وإن نوى، لأن النية لم تصادف محلاً، كما في قولك هويت طلاقك وأجبت الطلاق.
وفي " المبسوط " ولو قال لها شيئي الطلاق ينوي به الطلاق، فقالت شئت فهي طالق، وإن لم يكن له نية لا تطلق.
ولو قال لها أريدي الطلاق أو أهوى الطلاق، فقالت قد فعلت، كان باطلاً وإن نوى، لأن الإرادة من العبد نوع ثمن، فلو قالت ثمنية لا يقع، وهذا لأن المشيئة في صفات المخلوقين ألزم من الإرادة والهوى لغة، ألا ترى أن المشيئة لا تذكر مضافة إلى غير العقلاء وقد تذكر الإرادة، قال الله تعالى {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] (الكهف: الآية 77) ، وليس إلى الجدار إرادة، وفيه تأمل.
قال الأترازي: هذا الذي قالوه من الفرق بين الإرادة والمشيئة ضعيف، لأن من أهل اللغة كالجوهري وصاحب " الديوان "، وغيرهما، لم يفرقوا بينهما.
قال الجوهري في " الصحاح " في كتاب الألف المهموزة: المشيئة هي الإرادة.
وقال في باب الدال: الإرادة هي المشيئة، وكذا قال في " الديوان "، وقد صرح أصحابنا في كتب الكلام أن لا فرق عند أهل السنة بين الإرادة والمشيئة وقول شمس الأئمة أن المشيئة لا تذكر

(5/400)


وكذا إذا قالت شئت إن شاء أبي، أو شئت إن كان كذا - الأمر لم يجئ بعد - لما ذكرنا أن المأتي به مشيئة معلقة، فلا يقع الطلاق ويبطل الأمر.
وإن قالت قد شئت إن كان كذا الأمر قد مضى طلقت؛ لأن التعليق بشرط كائن منجز. ولو قال لها أنت طالق إذا شئت، أو إذا ما شئت، أو متى شئت؛ أو متى ما شئت فردت الأمر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مضافة إلى غير العقلاء فيه نظر؛ لأن ابن السكيت أنشد في الإصلاح:
يا مرحباً هجمار عفراء إذا أتى قربة ... لما شاء من الشعير والحشيش والماء.
وشرحه أبو محمد بن الحسن بن عبد الله السيراني الزيرج، وهو مشهور عند أهل اللغة، وإسناد الإرادة إلى الحمى مجاز، وكلامنا في الحقيقة، ولا نسلم أن المشيئة لا تستعمل في مثل ذلك مجازاً، وقد فسروا الإرادة بتخصيص أحد المقدورين بالوجود، فتكون هي أيضاً مبنية على الوجود، ثم يقع الطلاق بقوله شئت طلاقك بالاتفاق، فينبغي أن يقع بقوله أردت طلاقك أيضاً، لأنهما مترادفان، سواء في المعنى، يؤيده ما ذكره في " خلاصة الفتاوى " بقوله وقال في " المنتقى " وفي " القياس " كل ذلك سواء. انتهى.
والحاصل أن لا نتبع كلام شمس الأئمة الذي في الأصل وقد ذكرناه، م: (وكذا إذا قالت شئت إذا شاء أبي، أو شئت إن كان كذا، المر لم يجيء بعد) ش: أي وكذا لا يقع الطلاق أيضاً في هاتين الصورتين، قوله: (الأمر لم يجيء بعد) نحو قولها شئت إذا دخل إلى الدار ونحوه م: (لما ذكرنا أن البائن به مشيئة معلقة) ش: والزوج فوض إليها بمشيئة مرسلة، فبطل الأمر من يدها م: (فلا يقع الطلاق، ويبطل الأمر) ش: لأنها خالفت زوجها فيما فوض إليها.

[قال لها أنت طالق إذا شئت]
م: (وإن قالت قد شئت إن كان كذا الأمر قد مضى طلقت) ش: يعني إذا علقت مشيئتها بأمر ماض، بأن قالت إن كان أبي في الدار، وهو في الدار يقع الطلاق م: (لأن التعليق بشرط كائن منجز) ش: يعني في الحال لا تعليق، كقوله أنت طالق إن كانت السماء فوقنا.
فإن قيل: يرد على هذا حلف الرجل وقال هو يهودي إن فعل كذا، وهو يعلم أنه فعل حيث لا يحكم بكفره، فلو كان التعليق بشرط كان تحقيقاً لكان كافراً، وأجيب: بأنه لا يرد لأنه لا يكفر على ما روي عن محمد بن مقاتل الرازي أنه يكفر فاطرد الأصل، ولئن سلمنا أنه لا يكفر على ما روي عن ابن شجاع.
وعن أبي يوسف أيضاً فنقول إنما لا يكفر، لأن الكفر إنما يكون بتبديل الاعتقاد، وهو بهذا الكلام لم يقصد تبديل الاعتقاد بل قصد أن يصدق في مقالته، أو نقول هذا وأمثاله كناية عن اليمين عرفاً، فيحمل عليهما تحامياً عن تكفير المسلم.
م: (ولو قال لها أنت طالق إذا شئت، أو إذا ما شئت، أو متى شئت، أو متى ما شئت؛ فردت الأمر

(5/401)


لم يكن ردا، ولا يقتصر على المجلس، أما كلمة متى ومتى ما؛ فلأنهما للوقت، وهي عامة في الأوقات كلها، كأنه قال في أي وقت شئت، فلا يقتصر على المجلس بالإجماع، ولو ردت الأمر لم يكن ردا؛ لأنه ملكها الطلاق في الوقت الذي شاءت، فلم يكن تمليكا قبل المشيئة حتى يرتد بالرد، ولا تطلق نفسها إلا واحدة، لأنها تعم الأزمان دون الأفعال، فتملك التطليق في كل زمان، ولا تملك تطليقا بعد تطليق.
وأما كلمة: إذا وإذا ما، فهما "ومتى" سواء عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كانت تستعمل للشرط كما تستعمل للوقت، لكن الأمر صار بيدها، فلا يخرج بالشك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يكن رداً) ش: فلها أن تطلق نفسها واحدة بعد ذلك م: (ولا يقتصر على المجلس) ش: بالإجماع، حتى إذا قامت من المجلس أو أخذت في عمل آخر أو كلام آخر، فلها أن تطلق نفسها واحدة لا غير، ثم شرع في بيان كيفية الأمر في هذه الصور المذكورة بقوله م: (أما كلمة: متى ومتى ما؛ فلأنهما للوقت، وهي عامة في الأوقات كلها) ش: أي كلمتا متى ومتى ما عامة، فتعم الأوقات كلها، وليست لتعميم الفعل، فلم يكن ردها رداً، لأن الزوج فوض إليها الطلاق في أي وقت شاءت م: (كأنه قال في أي وقت شئت فلا يقتصر على المجلس بالإجماع) ش: لعموم الوقت.
م: (ولو ردت الأمر لم يكن رداً؛ لأنه ملكها الطلاق في الوقت الذي شاءت) ش: فأي وقت شاءت تطلق نفسها فيه م: (فلم يكن تمليكاً قبل المشيئة حتى يرتد بالرد، ولا تطلق نفسها إلا واحدة لأنها) ش: لأن كلمة متى م: (تعم الأزمان دون الأفعال، فتملك التطليق في كل زمان) ش: لعموم متى في الأزمان م: (ولا تملك تطليقاً بعد تطليق) ش: حاصلة لا تملك إلا تطليقة واحدة متى شاءت لأنا قلنا متى لتعميم الوقت، لا لتعميم الفعل.

[قال لها أنت طالق كلما شئت]
م: (وأما كلمة: إذا وإذا ما،؛ فهما ومتى سواء عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كانت تستعمل للشرط كما تستعمل للوقت، لكن الأمر صار بيدها فلا يخرج بالشك) ش: فإن قلت: يحمل على الشرط هنا تصحيحاً للرد.
قلت: إنما يحمل على الشرط إذا صدر الرد ممن وجب أن صدر عنه التعليق، لأن إرادة الشرط تختص بمن كان التعليق منه لا بمن صدر الرد منه، فلهذا لا يحمل على الشرط تصحيحاً للرد.
فإذا قلت: في قوله: إذا شئت ومتى شئت ينبغي أن لا يبقى لها المشيئة بعد القيام عن المجلس أو إذا انقطع المجلس بقوله لا أشاء، لأن المفوض إليها مشيئة واحدة حتى لا يبقى لها المشيئة مرة أخرى بعد قوله شئت واحدة، كما في قوله إن شئت فأنت طالق، فقالت لا أشاء، قيل في جوابه: الثابت بها مشيئة واحدة في حق الحنث، لأن الحنث تعليق بإيجاد مشيئة واحدة، لأن البر تعلق بنفي مشيئة نكرة، فإن قوله: إن شئت - يقتضي مشيئة، فالبر بمعنى هذه المشيئة،

(5/402)


وقد مر من قبل. ولو قال لها أنت طالق كلما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة بعد واحدة حتى تطلق نفسها ثلاثا؛ لأن كلمة "كلما" توجب تكرار الأفعال، إلا أن التعليق يصرف إلى الملك القائم، حتى لو عادت إليه بعد زوج آخر فطلقت نفسها لم يقع شيء؛ لأنه ملك مستحدث. وليس لها أن تطلق نفسها ثلاثا بكلمة واحدة؛ لأنها توجب عموم الانفراد لا عموم الاجتماع. فإن كان كذلك فلا تملك الإيقاع جملة وجمعا.
ولو قال لها: أنت طالق حيث شئت، أو أين شئت؛ لم تطلق حتى تشاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنكرة في النفي تعم. وفي الإثبات تخص، وإذا كانت النكرة تعم في النفي فإنما يتم البر بنفي المشيئة، ولم يوجد فتبقى اليمين.
م: (وقد مر من قبل) ش: يعني في فصل إضافة الطلاق إلى الزمان في قوله: أنت طالق إذا لم أطلقك.
م: (ولو قال لها أنت طالق كلما شئت، فلها أن تطلق نفسها واحدة بعد واحدة، حتى تطلق نفسها ثلاثاً) ش: هذه من مسائل الجامع الصغير، وصورتها فيه: محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل قال لامرأته أنت طالق كلما شئت، قال لها أن تطلق نفسها وإن قامت من مجلسها وأخذت في عمل آخر أو كلام آخر واحدة بعد واحدة، حتى تطلق نفسها ثلاثاً م: (لأن كلمة "كلما" توجب تكرار الأفعال) ش: والدليل عليه قَوْله تَعَالَى م: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} [النساء: 56] (النساء: الآية 56) فلما كان كذلك لها مشيئة بعد مشيئة إلى أن تستوفي الثلاث.
م: (إلا أن التعليق) ش: أي غير أن التعليق، وهو قوله أنت طالق كلما شئت م: (يصرف إلى الملك القائم) ش: يعني في عصمته م: (حتى لو عادت إليه بعد زوج آخر فطلقت نفسها لم يقع شيء؛ لأنه ملك مستحدث) ش: يعني متجدد بعد الملك القائم بالزواج الأول م: (وليس لها) ش: أي لهذه المرأة التي قال لها زوجها أنت طالق كلما شئت م: (أن تطلق نفسها ثلاثاً بكلمة واحدة لأنها) ش: أي لأن كلمة "كلما" م: (توجب عموم الانفراد) ش: أي فرداً لا جملة م: (لا عموم الاجتماع) ش: أي لا توجب عموم الاجتماع بأن تطلق نفسها ثلاثاً بكلمة واحدة بأن تقول طلقت نفسي ثلاثاً.
م: (فإن كان) ش: يعني كلمة "كلما" م: (كذلك فلا تملك) ش: أي المرأة م: (الإيقاع) ش: أي إيقاع الطلاق م: (جملة وجمعاً) ش: قيل: معناهما واحد، وقيل: أراد بالجملة أن تقول: طلقت نفسي ثلاثاً، وأراد بالجمع أن تقول: طلقت وطلقت، والأول أصح.

[قال لها أنت طالق حيث شئت]
م: (ولو قال لها أنت طالق حيث شئت، أو أين شئت لم تطلق حتى تشاء) ش: لأنه علق وقوع الطلاق في الحقيقة بالشرط، لأن حيث وأين من الظروف المكانية، ولا تعلق للطلاق بالمكان، لأن الواقع في مكان واقع في جميع الأمكنة، فيصير ذكر المكان لغواً، فبقي الطلاق معلقاً للشرط

(5/403)


وإن قامت من مجلسها فلا مشيئة لها، لأن كلمة "حيث" و"أين" من أسماء المكان، والطلاق لا تعلق له بالمكان فيلغو ويبقى ذكر مطلق المشيئة، فيقتصر على المجلس بخلاف الزمان؛ لأن له تعلقا به، حتى يقع في زمان دون زمان، فوجب اعتباره خصوصا وعموما. وإن قال لها أنت طالق كيف شئت طلقت تطليقة تملك الرجعة، ومعناه قبل مشيئة المرأة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تشبيهاً فلا يقع حتى تشاء، فكأنه قال: أنت طالق، إن شئت. م: (وإن قامت من مجلسها فلا مشيئة لها) ش: كما في قوله: أنت طالق إن شئت م: (لأن كلمة "حيث" و"أين" من أسماء المكان) ش: كلمة حيث للمكان اتفاقاً. وقال الأخفش: وقد ترد للزمان، ويلزم الإضافة إلى الجملة الاسمية كانت أو فعلية، وندرت إضافتها إلى المفرد، وإن اتصلت بما الكافة ضمنته معنى الشرط وكلمة أين سؤال عن المكان.
وإن قلت: أين زيد؟ فإنما تسأل عن مكانه (والطلاق لا تعلق له بالمكان فيلغو) ش: أي يلغو ذكر حيث وأين م: (ويبقى ذكر مطلق المشيئة) ش: فكأنه قال: أنت طالق إن شئت م: (فيقتصر على المجلس) ش: كما في قوله: أنت طالق إن شئت.
فإن قلت: إذا ألغى ذكر المكان فيبقى قوله: أنت طالق إن شئت، فينبغي أن يقع الطلاق، كما لو قال: أنت طالق دخلت الدار، فإنه يقع الطلاق الساعة فمن أين فيهما معنى الشرط؟
قلت: قالوا: إن حيث وأين يفيدان ضرباً من التأخير، وحروف الشرط أيضاً تفيدان ضرباً من التأخير، فيشتركان في معنى التأخير، فيجعلان مجازاً عن حرف الشرط.
فإن قلت: إذا جعلا مجازاً عن إذا، فلا يبطل بالقيام عن المجلس، فلم يجعلا مجازاً عن إذا؟
أجيب: بأن جعلهما مجازاً عن أن أولى، لتمحضها في معنى الشرط، فكانت أصلاً في الباب، والاعتبار بالأصل أولى من غيره.
م: (بخلاف الزمان؛ لأن له تعلقاً به) ش: أي لأن للطلاق تعلقاً بالزمان، لأن الزمان جزء داخل في ماهية الفعل، ليدل فعل الطلاق على الزمان م: (حتى يقع في زمان دون زمان) ش: يعني يقع في زمان مستقبل دون زمان ماض م: (فوجب اعتباره) ش: أي اعتبار الزمان م: (خصوصاً) ش: كما لو قال: أنت طالق وغداً م: (وعموماً) ش: لو قال: أنت طالق في أي وقت شئت، وانتصابهما على التمييز من اعتباره، وعامله الفعل، أعني وجب. م: (وإن قال لها: أنت طالق كيف شئت طلقت تطليقة تملك الرجعة) ش: قوله: تملك الرجعة، جملة من الفعل والفاعل والمفعول وقعت صفة لقوله: تطليقة. وقوله م: (ومعناه) ش: أي معنى قول محمد، لأنه ذكر المسألة في " الجامع الصغير ". وقال: طلقت تطليقة تملك الرجعة فيها م: (قبل مشيئة المرأة) ش: أما

(5/404)


فإن قالت: قد شئت واحدة بائنة أو قالت ثلاثا. وقال الزوج: ذلك نويت فهو كما قال؛ لأن عند ذلك تثبت المطابقة بين مشيئتها وإرادته. أما إذا أرادت ثلاثا والزوج أراد واحدة بائنة أو على القلب تقع واحدة رجعية، لأنه لغا تصرفها لعدم الموافقة، فبقي إيقاع الزوج،
وإن لم تحضره النية تعتبر مشيئتها - فيما قالوا - جريا على موجب التخيير. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في الأصل هذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لا يقع ما لم توقع المرأة فتشاء رجعية أو بائنة أو ثلاثا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا شاءت المرأة الواحدة البائنة أو الثلاث يقع ذلك إذا نواه الزوج وهو معنى قوله: م: (فإن قالت: قد شئت واحدة بائنة) ش: يعني عقيب قوله: أنت طالق كيف شئت م: (أو قالت) ش: أي أو قالت شئت م: (ثلاثاً) ش: طلقات م: (وقال الزوج ذلك نويت) ش: أي والحال قال الزوج: نويت ما قالته المرأة من البينونة بالواحدة وبالثلاث م: (فهو كما قال) ش: أي فالأمر كما قال الزوج م: (لأن عند ذلك) ش: أي لأن عند قول الزوج ذلك نويت م: (تثبت المطابقة بين مشيئتها وإرادته) ش: أي بين مشيئة المرأة وإرادة الزوج، فيكون الواقع على ما ذكر م: (أما إذا أرادت ثلاثاً) ش: أي ثلاث طلقات م: (والزوج أراد واحدة بائنة) ش: أي وأراد الزوج طلقة واحدة بائنة م: (أو على القلب) ش: بأن أرادت المرأة واحدة بائنة، وأراد الزوج ثلاثاً م: (يقع واحدة رجعية لأنه ألغى تصرفها لعدم الموافقة) ش: أي المطابقة بين قولها وقول الزوج م: (فبقي إيقاع الزوج) ش: يعني في قوله: أنت طالق كيف شئت، لأنه أصل الطلاق، فلا يعتد بوصفه.

[الزوج خيرها في وصف الطلاق بقوله كيف شئت]
م: (وإن لم تحضره النية) ش: يعني إذا لم ينو الزوج شيئاً م: (تعتبر مشيئتها) ش: فيقع ما شاءت سواء شاءت الواحدة البائنة أو الثلاث م: (فيما قالوا) ش: أي فيما قال المتأخرون م: (جريا على موجب التخيير) ش: لأن الزوج خيرها في وصف الطلاق بقوله: كيف شئت، فيجري على موجب تخييره، وإنما قال المصنف فيما قالوا: لأنه لم يرد فيه نص من المتقدمين.
قال الأترازي: والظاهر أنه يقع الرجعي إذا لم ينو الزوج شيئاً على إشارة الجامع الصغير، لأنه وقع الواحدة البائنة أو الثلاث بمشيئتها إذا نوى الزوج، فعلم أنه إذا لم ينو شيئاً لا يقع البائن والثلاث، فبقي إيقاع أصل الطلاق، وهو الرجعي.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي المصنف: م: (قال في الأصل) ش: أي قال محمد في المبسوط م: (هذا قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ش: أي المذكور من الأحكام المذكورة قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إنما قال المصنف ذلك لأن محمداً - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر الخلاف في الجامع الصغير، وإنما ذكره في الأصل م: (وعندهما لا يقع ما لم توقع المرأة) ش: يعني: لا يقع شيء ما لم تشأ المرأة م: (فتشاء) ش: أي المرأة م: (رجعية) ش: أي تطليقة رجعية م: (أو بائنة) ش: أو تشاء بائنة م: (أو ثلاثاً) ش: أي أو تشاء ثلاث تطليقات، والحاصل أنها مخيرة بين هذه الأشياء.

(5/405)


وعلى هذا الخلاف العتاق. لهما أنه فوض التطليق إليها على أي صفة شاءت، فلا بد من تعليق أصل الطلاق بمشيئتها لتكون لها المشيئة في جميع الأحوال، أعني قبل الدخول أو بعده. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كلمة "كيف" للاستيصاف، يقال كيف أصبحت، والتفويض في وصفه يستدعي وجود أصله، ووجود الطلاق بوقوعه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: كيف يباح لها أن تطلق نفسها ثلاثا، والزوج لا يسعه أن يطلقها ثلاثا.
أجيب: بأنه يجوز أن يكون المراد بقوله: إن شاءت نفسها ثلاثا بمشيئة القدرة لا بمشيئة الإباحة، كما في قوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] على أنه روي عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن ذلك يباح لها في التخيير، وفي " الفوائد الظهيرية ": لو طلقت نفسها ثلاثا على قولهما أو ثنتين على قول أبي حنيفة لا يكره، لأنها مضطرة إلى ذلك، لأنها لو فرقت خرج الأمر من يدها، بخلاف ما لو أوقع الزوج ذلك.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (العتاق) ش: يعني إذا قال لعبده أنت حر كيف شئت يعتق عبده في الحال ولا مشيئة له، وعندهما: لا يعتق قبل المشيئة، وبه قال الشافعي.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أنه فوض التطليق إليها على أي صفة شاءت، فلا بد من تعليق أصل الطلاق بمشيئتها) ش: لأنه إذا لم يتعلق أصله لا يقع كيف شاءت، لأن الوصف لا يتحقق بدون الأصل م: (لتكون لها المشيئة في جميع الأحوال) ش: يعني سواء كان م: (أعني قبل الدخول أو بعده) ش: وقد فسره بقوله: أعني قبل الدخول وبعده، فلا يقع الطلاق بدون مشيئتها عندهما، كما في قوله: أنت طالق إن شئت أو كم شئت أو حيث شئت أو أين شئت.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن كلمة كيف للاستيصاف) ش: أي للسؤال عن وصف الشيء م: (يقال: كيف أصبحت؟) ش: أي: صحيح أم بك تشويش، وهو اسم ويستعمل على وجهين: أحدهما: أن يكون شرعا نحو كيف تضع، والثاني: هو الغالب فيه أن يكون استفهاما حقيقة، نحو كيف زيدا، وغير حقيقي نحو قَوْله تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] (البقرة: الآية 28) ، فإنه خرج مخرج التعجب، فإنه كان وضع كيف لسؤال الحال، لأن الذات كان لوصف الطلاق في البينونة والعدد متعلقا بالمشيئة دون أصله، ولكن في غير المدخول بها، لا مشيئة لها بعد وقوع أصل الطلاق، لحصول البينونة. وفي المدخول بها يقع ما شاءت إذا وافقت نية الزوج، وإذا خالفت يقع الطلاق الرجعي.
م: (والتفويض في وصفه) ش: أي وصف الطلاق م: (يستدعي وجود أصله) ش: أي أصل الطلاق، لأن الوصف قائم به م: (ووجود الطلاق بوقوعه) ش: أي بوقوع الطلاق.

(5/406)


وإن قال لها أنت طالق كم شئت أو ما شئت، طلقت نفسها ما شاءت، لأنهما يستعملان للعدد، فقد فوض إليها أي عدد شاءت، فإن قامت من المجلس بطل، وإن ردت الأمر كان ردا، لأن هذا أمر واحد، وهو خطاب في الحال، فيقتضي الجواب في الحال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لما كان تفويضاً في وصفه إلى مشيئتها، فيجب أن يكون في مستقبله في إثبات ما شاءت بلا نية الزوج، كما في سائر التفويضات.
أجيب: بأن أبا بكر الرازي ذكر أن لها المشيئة في إثبات وصف البينونة أو الثلاث بلا نية الزوج، وما ذكر في الكتاب قول الجصاص.

[قال لها أنت طالق كم شئت أو ما شئت]
م: (وإن قال لها أنت طالق كم شئت، أو ما شئت؛ طلقت نفسها ما شاءت؛ لأنهما) ش: أي لأن كم وما م: (يستعملان للعدد، وقد فوض إليها أي عدد شاءت) ش: أما كم فإنه كناية عن العدد لا على سبيل التعيين، ألا ترى إلى قولهم: كم درهماً عندك، وكم غلام ملكت في الاستفهامية والخبرية، فوقعت عامة لإبهامها، كان لها أن تطلق إن شاءت واحدة، وإن شاءت ثنتين، وإن شاءت ثلاثاً.
م: (فإن قامت من المجلس بطل) ش: أي لا يقع شيء، لأن هذا تمليك والتمليكات تقتصر على المجلس، فإذا وجد دليل إعراض من القيام عن المجلس، ومن الاشتغال بعمل آخر به، حيث يقع المجلس بطلت مشيئتها، ولم يقع بعد ذلك شيء بمشيئتها م: (وإن ردت الأمر كان رداً، لأن هذا أمر واحد) ش: هذا احتراز عن كلما وقوله م: (وهو خطاب في الحال) ش: احتراز عن إذا ومتى، يعني "إذا" تمليك في الحال؛ لأنه ليس في كلامه ذكر الوقت م: (فيقتضي الجواب في الحال) ش: لا يقال: إن كم تستعمل في العدد والواحد ليس بعدد، فينبغي أن يملك الواحد، لأنا نقول أن الواحد أصل العدد، وفي الفرق يستعمل في العدد، ألا ترى لو قيل: كم معك استفهام الجواب عن الواحد.
فإن قيل: كلمة ما تستعمل للعدد، وتستعمل للوقت، كقوله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] (مريم: الآية 31) فوقع الشك في تفويض العدد، فلا يثبت العدد بالشك.
أجيب: بأن هذا معارض بمثله، فأما لو عملنا بمعنى الوقت لا يبطل بالقيام عن المجلس. ولو علمنا بمعنى العدد يبطل، فوقع الشك بكونه مما وراء المجلس فلا يثبت بالشك، ثم رجحنا جانب العدد بأصل آخر، وهو أن التفويض بمعنى التمليك، والتمليكات تقتصر على المجلس، وإنما يكون لو كانت معمولاً، وبمعنى العدد لا بمعنى الوقت. قال الأكمل: فيه نظر، لأن فيه معنى التعليق، فيتوقف على ما وراء المجلس، فيتعارض جهتا الترجيح. والجواب أنه تمليك فيه معنى التعليق، والأول كالأصل، فالترجيح به أولى.

(5/407)


وإن قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت، فلها أن تطلق نفسها واحدة أو ثنتين، ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالا: تطلق ثلاثا إن شاءت؛ لأن كلمة "ما" محكمة في التعميم، وكلمة من قد تستعمل للتمييز فيحمل على تمييز الجنس، كما إذا قال كل من طعامي ما شئت، أو طلق من نسائي من شئت. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كلمة (من) حقيقة للتبعيض، (ما) للتعميم، فيعمل بهما، وفيما استشهدا به ترك التبعيض لدلالة إظهار السماحة أو لعموم الصفة، وهي المشيئة، حتى لو قال من شئت كان على هذا الخلاف. والله تعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت]
م: (وإن قال لها: طلقي نفسك من ثلاث ما شئت، فلها أن تطلق نفسها واحدة أو ثنتين، ولا تطلق ثلاثاً عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالا: تطلق ثلاثاً إن شاءت؛ لأن كلمة "ما" محكمة للتعميم، وكلمة "من" قد تستعمل للتمييز) ش: أي للبيان، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] (الحج: الآية 30) ، وقد تكون لغيرهما، فإذا عرفت ذلك قد اجتمع في كلامه المحتمل والمحكم، فيحمل المحتمل على المحكم، كما هو الأصل، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (فيحمل على تمييز الجنس) ش: أي يجعل بيان العموم لعموم الجنس، أي لتمييز الطلاق من سائر الأشياء في التفويض، أو هو صلة، كذا في المبسوط.
م: (كما إذا قال كل من طعامي ما شئت) ش: يعم الإذن م: (أو طلق من نسائي من شئت) ش: فله أن يطلق من شاء من نسائه م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن كلمة من حقيقة للتبعيض) ش: فيه نظر، لأن من تأتي بخمسة عشر معنى الغالب عليها ابتداء الغاية، حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه م: (و"ما" للتعميم) ش: أي كلمة ما للتعميم م: (فيعمل بهما) ش: لأن الأصل أن يعمل بحقيقة الكلام ما لم يدل دليل المجاز. وقال الأترازي: لا يقال ينبغي على هذا أن لا تطلق نفسها واحدة، لأن الواحدة ليس فيها معنى العموم أصلاً، وهي بعض حرف، لأنا نقول لما ملكت الثنتين بحكم الأمر ملكت الواحدة أيضاً، وهذا ما سنح به خاطري في هذا المقام. قلت: سبق لهذا غيره، لأن الأكمل سأل هذا، وأجاب بقوله بأنه يتناول الواحدة دلالة.
م: (وفيما استشهدا به) ش: هذا جواب عن قول أبي يوسف، ومحمد مستشهدين بقوله، كما إذا قال: كل من طعامي تقريره أن فيه قام الدليل على إرادة المجاز، وهو أنه م: (ترك التبعيض) ش: بدليل خارجي، وهو قوله م: (بدلالة إظهار السماحة) ش: لأن في العرف يراد بمثل هذا الكلام إظهار السماحة والكرم، وذلك بالعموم م: (أو لعموم الصفة، وهي المشيئة) ش: لأن النكرة إذا وصفت بصفة عامة تعم م: (حتى لو قال من شئت) ش: يعني لو قال: طلق من نسائي من شئت م: (كان على هذا الخلاف) ش: المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه، ثم عنده إن طلقت نفسها ثلاثاً لا يقع.

(5/408)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فروع: لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً، إلا أن تشائي واحدة، فشاءت واحدة يقع واحدة عند أبي يوسف. وقال محمد: لا يقع شيء ولو قال: طلقها إن شاء الله وشئت، أو قال: أنت طالق إن شاء الله وفلان أو شئت ما شاء الله وفلان لا يقع بالمشيئة شيء. ولو قال: إن شئت وشاء فلان يقع بمشيئتها. ولو قال: إن شئت فأنت طالق، إن شئت أو متى شئت أو حين شئت، فلها مشيئتان مشيئة في الحال ومشيئة في عموم الأحوال.
ولو قال لامرأتيه: إن شئتما فأنتما طالقتان فشاءت إحداهما أو شاء بإطلاق إحداهما لا يقع لعدم وجود الشرط. ولو قال: طلقها ثلاثاً، فطلقها أحدهما واحدة، والآخر ثنتين وقع الثلاث. ولو قال لها إن شئت فأنت طالق ثم قال لأخرى طلاقك مع طلاق هذا يقع عليهما بمشيئة الأولى إن نوى الزوج وإلا لم يقع. ولو قالت أنت طالق واحدة إن شئت فقالت: شئت نصف واحدة لم تطلق عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولو قالت طلقني وطلقني وطلقني، فقال الزج: طلقت فهي ثلاث، ولو قالت: طلقني طلقني طلقني بغير واو فطلق الزوج، فإن نوى واحدة فواحدة، وإن نوى ثلاثاً فثلاثاً.
وفي " الأشراف " لابن المنذر: اختلفوا في الرجل يملك أمر امرأتي رجلين يشترط اجتماعهما على الطلاق، قاله الحسن والأوزاعي والثوري ومالك والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال زفر: ينفرد أحدهما به، فإن طلق إحداهما ثلاثاً والأخرى واحدة يقع واحدة عندنا، وبه قال أحمد وابن راهويه، واختاره عند مالك وأصبغ من المالكية. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقع شيء. وقال الزهري: هي طالق والله أعلم بالصواب.

(5/409)