البناية شرح الهداية

كتاب الأيمان
قال: الأيمان على ثلاثة أضرب: اليمين الغموس، واليمين المنعقدة، واليمين اللغو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الأيمان] [تعريف الأيمان وحكمها]
م: (كتاب الأيمان)
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الأيمان وهو جمع يمين، وهو في اللغة القوة، ومنه قَوْله تَعَالَى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] (الحاقة الآية 45) ، أي بالقوة. وفي الشريعة عقد قوي عزم الخالق على الفعل أو الترك، وقال: النفي اليمين تقوية أحد طرفي الجزء بالقسم به، وطرفا الجزء الصدق والكذب.
واليمين على ضربين يمين هي قسم وهو اليمين بالله عز وجل، ويمين هي الشرط والجزاء مثل تعليق الطلاق والعتاق ونحو ذلك بشرط، وهو يمين بعرف أهل الشرع، وأسماؤه ستة: قسم ويمين وحلف وعهد وميثاق وإيلاء ولليمين شرط، وهو كون الحالف مكالفاً، وسبب وهو إرادة تحقيق ما قصده، وركن، وهو اللفظ الذي ينعقد به اليمين، وحكم وهو البر، فما تجب البر فيه والكفارة على قرابة، وإنما قيل فيما يجب فيه البر، لأن من الأيمان ما يجب فيه الحنث على ما يجيء إن شاء الله تعالى.

[أنواع الأيمان]
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (الأيمان على ثلاثة أضرب) . ش: أي على ثلاثة أنواع. م: (اليمين الغموس، واليمين المنعقدة، واليمين اللغو) . ش: قال في " المغرب " الصواب أن يقال على ثلاثة أضرب، وإن كانت الرواية محفوظة بالتاء فعلى تأويل الأقسام. قوله - يمين غموس - قال الأترازي: هذا من إضافة الجزء إلى نوعه، كقولهم علم الطب، فخرج منه الجواب عما يقال إن الموصوف لا يضاف إلى صفته وبالعكس.
وقال الكاكي: الأصح من النحاة اليمين الغموس من صفة لليمين، وما قيل أنه من إضافة الجنس إلى نوعه كعلم الطب غير صحيح لأن الطب ليس بصفة، ثم وجه الانحصار بين الثلاثة أن اليمين لا يخلو إما أن يكون فيها مؤاخذة، أو الثاني الأخير، والأولى إن كانت المؤاخذة في الدنيا فهو المنعقدة. وإن كانت المؤاخذة في العقبى فهو الغموس وفي " الإيضاح ": والأقسام الثلاثة إنما ستأتي في اليمين بالله تعالى.
و" اليمين " في وجوب الحفظ أربعة أنواع: ما يجب فيها البر وهو الحلف على فعل طاعة أو ترك معصية، وذلك فرض عليه، وبالحلف يزداد وكادة، وما لا يجوز حفظها وهو الحلف على ترك طاعة أو فعل معصية، وما لا يخير فيه بين الحنث والبر، والحنث خير من البر فيندب فيه الحنث.
قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف على يمين ورأى غيرها خير منها فليأت بالذي هو خير» .... "

(6/111)


فالغموس: هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه، فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف كاذبا أدخله الله النار» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث وأدنى الأمر الندب، وما ينوي فيه البر والحنث في الإباحة فنحى بينهما، وحفظهما أولى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] المائدة الآية 89، وحفظ اليمين بعد وجوبها بالبر، ومتى حنث في اليمين المنعقدة فعليه الكفارة بالنص وإجماع الأمة.
" والغموس " على وزن فعول للمبالغة، سميت به لأنها تغمس صاحبها في النار، وقيل لأنها تغمس صاحبها في الإثم لأنه تعمد فيها الكذب.

[اليمين الغموس]
م: (فالغموس: هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه) . ش: على إثبات شيء أو نفيه، وسواء كان ماضياً أو حالاً، نظير الماضي قول الرجل والله ما فعلت ذلك الأمر، هو عالم بأنه قوله.
ونظير الحال قوله والله إنه زيد مع علمه إنه عمرو، وما أشبهه. وقول المصنف - على أمر ماض - وهو عبارة القدوري، فلذلك اقتصر المصنف عليه، ويشير قوله - على أمر ماض - قيدوا لها الماضي والحال، سواء لأن الغموس لا يتحقق في الحال أيضاً، ولكنه اقتصر على الماضي بناء على الغالب، لأن الماضي شرط، ولهذا صرح صاحب " التحفة " وغيره: أن الغموس يتحقق في الحال أيضا. وفي " شرح الكافي ": اليمين الغموس ليست يمين في الحقيقة، لأن اليمين عقد مشروع، وهذه كبيرة محضة، وهي ضد المشروع، ولكن سمي يميناً مجازاً لارتكاب هذه الكبيرة باستعمال صورة اليمين، وفي البخاري عن عبد الله بن عروة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس» .
م: (فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) . ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «من حلف كاذباً أدخله الله النار» . ش: هذا الحديث غريب بهذا اللفظ، ولكن ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرء مسلم، حرم الله عليه الجنة، وأدخله النار» وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لقي الله وهو عليه غضبان» ، وفي سنن أبي داود من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ مقعده من النار» ، وقال الأترازي: ألزم بها وحبس عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم، وقيل لها مصبورة وإن كان صاحبها هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها أي حبس ووصف بالصبر وأضيف إليه مجازاً.

(6/112)


ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيها الكفارة لأنها شرعت لرفع ذنب هتك حرمة اسم الله تعالى، وقد تحقق بالاستشهاد بالله كاذبا فأشبه المعقودة. ولنا أنها كبيرة محضة، والكفارة عبادة حتى تتأدى بالصوم، ويشترط فيها النية، فلا تناط بها، بخلاف المعقودة؛ لأنها مباحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار) . ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وكذا أهل العلم منهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وسعيد بن المسيب والحسن البصري والأوزاعي والثوري والليث وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الحديث وداود الظاهري.
م: (وقال الشافعي: فيها الكفارة) . ش: وهو قول الزهري ومحمد بن مسلم وعطاء بن أبي رباح. م: (لأنها) . ش: أي لأن الكفارة. م: (شرعت لرفع ذنب هتك حرمة اسم الله تعالى) . ش: فيه تتابع الإضافات. م: (وقد تحقق) . ش: أي الهتك. م: (بالاستشهاد بالله) . ش: أي الحلف بالله حال كونه. م: (كاذباً فأشبه المعقودة) . ش: أي اليمين المعقودة.
م: (ولنا أنها) . ش: أي اليمين الغموس. م: (كبيرة محضة) . ش: لما روى البخاري من حديث عبد الله بن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من الكبائر الإشراك بالله» وقد مضى الآن، ولو كان بها كفارة لذكرها. وقال الكاكي: والجمهور قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خمس من الكبائر لا كفارة فيهن، وعد منها اليمين الفاجرة» ، رواه أبو الفرج.
وقال ابن المنذر: لا نعلم خبراً يدل على ما قال الشافعي من وجوب الكفارة. م: (والكفارة عبادة حتى تتأدى بالصوم، ويشترط فيها النية) . ش: والمشروعات ثلاثة أنواع: عبادة محضة، وسببها مباح، وعقوبة محضة وسببها حرام محض، وكفارات مترددة بين العبادة والعقوبة، ويشترط لها النية كسائر العبادات والنية لا تشترط في العقوبات. م: (فلا تناط بها) . ش: أي فلا تناط الكفارة بالكبيرة يعني أن اليمين الغموس بما كانت كبيرة محضة لم تكن مناطاً لكفارة التي هي عبادة، بدليل أدائها بالصوم.
م: (بخلاف المعقودة) . ش: أي بخلاف اليمين المنعقدة، فإنها ليست بكبيرة. م: (لأنها مباحة) . ش: فجاز أن يناط بها لعبادة. وقال الأكمل: وفيه بحث من وجوه:
الأول: لو كان ما ذكرتم صحيحاً لما وجبت الكفارة على المظاهر لكون الظاهر منكراً من القول وزوراً، وهذا نقص إجمال.
الثاني: ما وجبت بالأدنى وجبت بالأعلى بطريق الأولى.
الثالث: الكبيرة سيئة، والعبادة حسنة وأشباهها إياها مباح بها، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أتبع

(6/113)


ولو كان فيها ذنب فهو متأخر متعلق باختيار مبتدأ، وما في الغموس ملازم، فيمتنع الإلحاق بها،
والمنعقدة ما يحلف على أمر في المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، وإذا حنث في ذلك لزمته الكفارة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان} [المائدة: 89] (البقرة: الآية 225) ، وهو ما ذكرنا، ويمين اللغو: أن يحلف على أمر ماض، وهو يظن أنه كما قال والأمر بخلافه، فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السيئة الحسنة تمحها» .
والجواب الأول: أن الكفارة لم تجب بالظهار، بل بالعود الذي هو العزم على الوطء، وهو مباح.
وعن الثاني: بأنه لا يلزم من رفع الأضعف شيء رفع الأقوى به.
وعن الثالث: بأن الحسنة تمحو السيئة المقابلة لها، ومقابلة هذه الحسنة بهذه السيئة ممنوعة، بل المظنون خلاف المقابلة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خمس من الكبائر لا كفارة فيهن» ... الحديث " ولو كان فيها ذنب هذا جواب عما يقال المباح هو ما لا يكون فيه ذنب، والمنعقدة فيها ذنب فلا تكون متأخرة فلا تناط بها العبادة كما ذكرتم.
م: (ولو كان فيها) . ش: أي في المنعقدة. م: (ذنب فهو متأخر) . ش: عن اليمين بالحنث. م: (متعلق باختيار مبتدأ) . ش: ففيما يفعل اختياري. م: (وما في الغموس ملازم) . ش: إنما في الغموس من الذنب ملازم لا يفارقها لا ابتداء ولا انتهاء، فإذا كان كذلك. م: (فيمتنع الإلحاق بها) . ش: أي بالمنعقد فلا يصلح إلحاق الغموس بالمنعقدة قياساً عليها. وقال الأكمل: وفي هذا الجواب تلويح إلى الجواب عن قوله فأشبه المعقود..

[اليمين المنعقدة]
م: (والمنعقدة) . ش: أي اليمين المنعقدة. م: (ما يحلف) . ش: الحالف. م: (على أمر في المستقبل أن يفعله أو لا يفعله) . ش: مثال الفعل والله لأدخلن دارك مثلاً، ومثال عدم الفعل والله لا أكلم فلاناً مثلاً. م: وإذا حنث في ذلك) . ش: أي في إتيانه باليمين المنعقدة. م: (لزمته الكفارة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] [البقرة الآية: 225] ،. م: (وهو ما ذكرنا) . ش: أي المراد من قَوْله تَعَالَى {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ما ذكرنا من قولنا، والمنعقدة ما يحلف على أمر في المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، يعني حقيقة ما نص في الآية ما ذكرنا.. م: (ويمين اللغو: أن يحلف على أمر ماض، وهو) . ش: أي الحال أنه. م: (يظن أنه كما قال) . ش: يعني ظن أن الأمر كما ذكره لقوله والله لقد دخلت الدار، والله ما كلمت زيداً. م: (والأمر بخلافه) . ش: أي والحال أن الأمر بخلاف ما كان يظنه. م: (فهذه اليمين) ش: أي يمين اللغو هذه حكمها م: (نرجو أن لا يؤخذ الله بها) ش: أي بهذه اليمين اللغو م: (صاحبها) . ش: وذلك لأن يمين اليمين اللغو لا حكم لها أصلاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] [البقرة الآية: 225] ، أي لا يؤاخذكم الله بلغو اليمين يحلفه أحدكم بالظن، وفي " الشامل " وعن الشافعي

(6/114)


ومن اللغو أن يقول والله إنه لزيد وهو يظنه زيدا وإنما هو عمرو. والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم} [المائدة: 89] .... الآية (البقرة: الآية 225) ، إلا أنه علقه بالرجاء للاختلاف في تفسيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اللغو اليمين التي لم يقصدها في الماضي والمستقبل. وهو إحدى الروايتين عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " التحفة " قال الشافعي فيمين اللغو هي اليمين التي تجري على لسان الحالف من غير قصد، مثل قوله لا والله، بلى والله، أو كان بغير القرآن، فجرى على لسانه اليمين.
وقال الكاكي: وعن محمد يمين اللغو هو قول الرجل لا والله وبلى والله في كلامه، وهو مروي عن عائشة موقوفاً ومرفوعاً. وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية قال الشافعي وأحمد ومحمد في رواية. وقال الشافعي في رواية مثلها ذكرها صاحب " التحفة "، وهو قول محمد في رواية. وعن مالك أن اللغو هو اليمين الغموس، كذا نقل عن الشافعية. وقال إبراهيم النخعي: لغو اليمين أن يحلف ناسياً على ماض أو مستقبل. وقال الشعبي ومسروق: لغو اليمين أن يحلف على معصية، ويتركها، فيكون لاغياً ليمينه. وقال سعيد بن جبير: لغو اليمين أن يحرم على نفسه ما أحل الله له من قول أو عمل.

[يمين اللغو]
م: (ومن اللغو) . ش: أي ومن يمين اللغو. م: (أن يقول الرجل والله إنه لزيد، وهو) . ش: أي والحال. م: (يظنه زيداً وإنما هو عمرو) . ش: وكذا إذا رأى طائراً من بعد فظنه غراباً فقال والله إنه غراب فإذا هو حمام. م: (والأصل فيه) . ش: أي في اللغو اليمين (قَوْله تَعَالَى. م: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} [المائدة: 89] الآية [البقرة الآية: 225] {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وقد مر تفسيره الآن. م: (إلا أنه علقه بالرجاء) . ش: أي غير أن محمداً علقه بالرجاء. قال الكاكي: هذا جواب عن سؤال مقدر، ذكره في " المبسوط ".
فإن قيل ما معنى تعلق محمد بنفي المؤاخذة بالرجاء وعدم المؤاخذة في اللغو منصوص وما عزاه بالنص فهو مقطوع به قلنا نعم، ولكن صورة مالك اليمين مختلف فيها بالرجاء نفي المؤاخذة في اللغو بالصورة التي ذكرها، وذلك غير معلوم بالنص، مع أنه لم يرد بذلك اللفظ التعليق بالرجاء أراد به التعظيم والتبرك بذكر اسم الله تعالى، كما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مر بالمقابر، فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» .
وما ذكر الاستثناء بمعنى المثل فإنه كان يتعين بالموت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] الآية، ولكن معنى الاستثناء مما ذكر من الاختلاف في تفسير على ما ذكرناه وعلى ما نذكره إن شاء الله تعالى.

(6/115)


قال: والقاصد في اليمين والمكره والناسي سواء، حتى تجب الكفارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأترازي قوله - الآية - علقه بالرجاء، هذا جواب سؤال مقدر بأن يقال كيف علق القدوري عدم المؤاخذة بالرجاء في قوله فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها وعدم المؤاخذة مقطوع بالنص في اللغو، قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] [البقرة الآية 225] .
فأجاب عنه وقال نعم، لكن. م: (للاختلاف في تفسيره) . ش: أي في تفسير اللغو، فأورث شبهة، فلهذا لم يقطع القول بعدم المؤاخذة فيما فسره من اللغو، وقد اقتدى القدوري بمحمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - انتهى. قلت: هذا كما رأيت فاعل قوله علقه لمحمد بن الحسن على ما ذكر الكاكي، وعلى ما ذكره الأترازي والقدوري، فتأمل أيما صواب.
وقال الزجاج في تفسير اللغو: يقال لغوت لغواً ولغوت الغي لغواً، مثل للغي ورحت التكلم بحرث الحو والحي محواً، ويقال لغيت في الكلام ألغي لغواً لغي إذا أتيت بلغو، أو كل ما لا خير فيه مما يريم فيه اللغي ورقة التكلم، أو يكون غير محتاج إليه في الكلام فهو لغو ولغا.
قال الزجاج: وقال الجوهري: لغا يلغو لغواً، أي قال باطلاً، ونباح الكلب لغو أيضاً، ولغي بالكسر لغى والأغية اللغو، وروى الزمخشري عن مجاهد هو الرجل يحلف على الشيء ويرى أنه كذلك، وليس كما ظن، وروي أن الحسن سئل عن لغو اليمين، وعنده الفرزدق قال: يا أبا سعيد دعني أجب عنك، فقال وليت بمأخوذ ويغلو بقوله: [إذا لم تغمد عاقدات العزائم] .
ذكره في تفسير سورة المائدة. وقال أيضاً في سورة البقرة اللغو الساقط الذي لا يعتد به في كلام وغيره، ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل لغو. وقال شمس الأئمة السرخسي في أصوله قال علماؤنا: اللغو ما يكون خالياً عن الفائدة اليمين شرعاً ووصفاً، فإن فائدة اليمين إظهار الصدق من الخبر، فإذا أضيف إلى خبر ليس فيه احتمال الصدق كان خالياً عن فائدة اليمين، وكان لغواً.

[القاصد في اليمين والمكره والناسي سواء]
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (والقاصد في اليمين والمكره والناسي سواء) . ش: الناس هو الذي أراد أن يتكلم بكلام، فجري على لسانه اليمين وهو خاطئ حقيقة، كذا ذكره في التقويم، وقيل الناسي هو الذي يذهل عن التلفظ باليمين ثم يذكر أنه تلفظ باليمين ناسياً.
وفي بعض النسخ ذكر " الخاطئ " مكان الناسي. م: (حتى تجب الكفارة) . ش: بيان نتيجة كون القاصد في اليمين والمكره والناسي سواء يعني لا فرق في وجوب الكفارة على هؤلاء جميعاً. م:

(6/116)


لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق واليمين» . والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) . ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق واليمين» . ش: هذا الحديث ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هكذا وبعض الفقهاء يجعل عوض اليمين العتاق، ومنهم صاحب الخلاصة والغزالي في " الوسيط " وغيرهما، وكلاهما غريب، وإنما الحديث النكاح والطلاق، والرجعة. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن حبيب بن أردك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق والرجعة» انتهى.
وقد غلط النووي الغزالي في " تهذيب الأسماء واللغات "، فقال: وقد وقع هذا الحديث في " الوسيط " النكاح والطلاق والعتاق، وليس بصواب، وإنما الصواب الرجعة.
قلت: فيه نظر، روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده حدثنا بشر بن عمر حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز اللعب في ثلاث، الطلاق والنكاح والعتاق» [....
.] وروى الطبراني من حديث فضالة بن عبيد بلفظ: «ثلاثة لا يجوز اللعب فيهن الطلاق والنكاح والعتاق» .
وفيه ابن لهيعة كما مر وما قيل الكلام أن لفظ الحديث هو الذي رواه أبو داود والترمذي كما مر ورواه الترمذي وصححه الحاكم وليس فيه لفظ اليمين، وشراح " الهداية " كلهم سكتوا عن هذا غير أن الأترازي قال في شرحه: لنا ما روى أصحابنا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال ثلاث....
. إلى آخره، ولو سكت مثل غيره لكان أوجه.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في ذلك) . ش: أي فيما ذكر من يمين المكره والناسي فإنه يقول لا ينعقد يمينهما، واحتج بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وأجاب أصحابنا عنه بأنه ليس المراد منه حقيقة الخطأ والنسيان، والإكراه، لأنها ليست بمرفوعة حقيقة بدليل وقوعها حساً، وإنما المراد منه الحكم وهو إما حكم الدنيا أو حكم الآخرة، والأول بدليل وجوب الكفارة والدية في القتل الخطأ، وهو من أحكام الزنا. وكذا يجب الغسل مما إذا جامع المكره على الزنا يفسد حجه وصومه، وذلك من أحكام الدنيا فتعين الثاني هو رفع الإثم.
فإن قلت: لا يثبت الكفر مع الإكراه فينبغي أن لا ينعقد اليمين به كالنوم والجنون، وأن لا

(6/117)


وسنبين ذلك في الإكراه إن شاء الله تعالى،
ومن فعل المحلوف عليه مكرها أو ناسيا فهو سواء؛ لأن الفعل الحقيقي لا ينعدم بالإكراه وهو الشرط. وكذا إذا فعله وهو مغمى عليه أو مجنون لتحقق الشرط حقيقة. ولو كانت الحكمة رفع الذنب، فالحكم يدار على دليله وهو الحنث لا على حقيقة الذنب، والله تعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يسلم صحة القياس لعدم المماثلة بين [المكره] والمغمى عليه، لأن النوم والجنون نافيان التكليف بخلاف الإكراه ولهذا أباح الخمر للمكره، ويحرم عليه قتل النفس والزنا، وذلك آية الخطاب.. م: (وسنبين ذلك في الإكراه إن شاء الله تعالى) . ش: إن أراد به ما ذكره في كتاب الإكراه بقوله - وكذا اليمين والظهار لا يعمل فيهما لعدم احتمالهما الفسخ.

م: (ومن فعل المحلوف عليه مكرهاً أو ناسياً فهو سواء) . ش: يعني إذا حلف لا يفعل شيئاً وكان طائعاً في الحلف ثم فعله وهو مكره أو ناس يحنث وبه قال مالك والشافعي في قول وأحمد في رواية. وقال الشافعي في الأصح وأحمد في رواية: لا يحنث للحديث المذكور، وهو أنه قد مر. وكذا عندنا على ما يجيء إذا فعل المحلوف عليه وهو مغمى عليه أو مجنون لتحقق الشرط حقيقة، وقد وجد وهو الفعل الحق لأنه لا ينعدم بالإكراه.
فإن قلت: اليمين يقوى بها الحالف على الفعل أو الترك، وهو من الأفعال الاختيارية، فكيف يكون الناسي فيه كالقاصد.
قلت: ذلك هو القياس، وقد ترك بالنص لا يقال النص معارض بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» .... " الحديث [
... ]
م: (لأن الفعل الحقيقي) . ش: الذي يوجد حسا. م: (لا ينعدم بالإكراه وهو الشرط) . ش: أي وجود الفعل الحقيقي، وهو الشرط وقد وجد. م: (وكذا إذا فعله وهو مغمى عليه أو مجنون) . ش: هذا ذكره المصنف تفريعاً لعله القدوري، لأنه قوله ومن فعل المحلوف عليه مكرهاً أو ناسياً فهو سواء للفظ القدوري، يعني إذا حلف وهو صحيح العقل ثم فعل المحلوف عليه في حال الإغماء أو الجنون يجب عليه الكفارة. م: (لتحقق الشرط حقيقة) . ش: الشرط هو الحنث وقد تحقق حقيقة الشروط.. م: (ولو كانت الحكمة رفع الذنب) . ش: هذا جواب عما يقال الحكم في شرع الكفارة رفع الذنب، لأنها ستارة كاسمها، ولا ذنب للمجنون والمغمى عليه فعلاً لعدم الفهم فينبغي أن لا يحنث ولا يجب عليهما الكفارة.
فأجاب بقوله - ولو كانت الحكمة - أي مشروعية الكفارة رفع الذنب على تقدير التسليم. م: (فالحكم) . ش: أي حكم الكفارة. م: (يدار على دليله) . ش: أي دليل الذنب. م: (وهو الحنث في اليمين لا على حقيقة الذنب) . ش: كما في الاستبراء، فإنه يجب على المشتري لوجود دليل الشغل، وإن لم يوجد حقيقة الشغل.

(6/118)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الأكمل: ولقائل أن يقول إقامة الدليل مقام المدلول لدوران الحكم عليه إنما يكون إذا كان المدلول أمراً خفياً عن الأصل فيدور عليه.
وإن لم يتصور المدلول في بعض الصور كما ذكرت من شغل الرحم، والمدلول وهو الذنب في هذه الصورة عند الحنث محقق الظاهر، فلا يصح إقامة الدليل مقام المدلول.

(6/119)