البناية شرح الهداية

باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يمكنه) ش: أي ولا يمكن الإمام م: (أن يقيم) ش: أي يقيم حق الله تعالى م: (على نفسه، لأنه لا يفيد) ش: الوجوب الموجوب فائدته، لأنه لا يقع مؤلما، فلا يقع زاجرا. والمقصود من الزاجر الحد، فلا بد أن يكون الزاجر غير المزجور، ولا يقدر القاضي أن يقضي عليه، لأنه هو الذي ولاه القضاء يسقط حق الله تعالى في الدنيا.
م: (بخلاف حقوق العباد، لأنه يستوفيه) ش: أي يستوفي الحق م: (ولي الحق) ش: أي صاحب الحق، واختار لفظ الولي ليتناول الوصي والوكيل م: (إما بتمكينه) ش: أي بتمكين الإمام إياه في أخذ حقه م: (أو بالاستعانة بمنعة المسلمين) ش: أي بقوتهم، يقال فلان في عز ومنعة يمنعه، أي تمنع على من قصده من الأعداء.
م: (والقصاص والأموال منها) ش: أي من حقوق العباد، فالإمام وغيره فيها سواء، لأنه يمكن استيفاء القصاص والمال بمنعة المسلمين، كذا قالوا وفيه تأمل.
م: (وأما حد القذف قالوا) ش: أي قال علماؤنا م: (المغلب فيه حق الشرع) ش: على ما يجيء في بابه إن شاء الله م: (فحكمه) ش: أي فحكم حد القذف م: (كحكم سائر الحدود التي هي حق الله تعالى) ش: يعني لا يؤاخذ به الإمام وتقابل أن يقول لو كان المغلب فيه حق الشرع لوجب أن يحد المستأمن إذا قذف، كما لو زنى وقد تقدم أنه يحد، لأنه حق العبد.
والجواب أن قذف القاذف يشتمل على الحقين لا محالة، فيستعمل بكل منهما بحسب ما يليق به، وما يليق بالحربي أن يكون حق العبد لإمكان الانتفاء وما يليق بالإمام أن يكون حق الله تعالى، لأنه ليس فوقه إمام يستوفيه منه والله أعلم.

[باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها]
[شهد الشهود بحد متقادم]
م: (باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الشهادة على الزنا، وسيأتي حكم الرجوع عن الشهادة قد مر أن ثبوت الزنا عند الإمام إنما يكون بأحد شيئين لا غير، وهما الإقرار والشهادة، وأخر

(6/324)


قال: وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة. وفى " الجامع الصغير ": وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به، وضمن السرقة. والأصل فيه أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو يعتبرها بحقوق العباد وبالإقرار الذي هو أحد الحجتين. ولنا أن الشاهد مخير بين الحسبتين
من أداء الشهادة والستر، فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهادة هاهنا عن الإقرار لقلة ثبوت الزنا بالشهادة وندر، حتى لم ينقل عن السلف ثبوت الزنا عند الإمام بالشهادة إذ رؤيته أربع رجال عدول على الوصف المذكور كالميل في المكحلة، كما في الكلاب في غير غاية القدرة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره "، ثم ذكر المصنف لفظ " الجامع الصغير " بقوله: م: (وفي " الجامع الصغير ": وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به، وضمن السرقة) ش: لاشتماله على زيادة إيضاح على تعديد ما يوجب الحد صريحا من السرقة وشرب الخمر والزنا، وزيادة لفظ الحين الذي استفاد منه بعض المشايخ وقدر ستة أشهر في التقادم وزيادة إثبات الضمان في السرقة.
م: (والأصل) ش: يحل في هذا الباب م: (أن الحدود الخالصة حقا) ش: أي خلوصا حقا كائنا م: (لله تعالى) ش: السرقة وحد الزنا وحد شرب الخمر م: (تبطل بالتقادم، خلافا للشافعي) ش: حيث يقول لا تبطل الشهادة والإقرار بالتقادم، وبه قال مالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعن أحمد مثل قولنا. وقال ابن أبي ليلى: الشهادة والإقرار لا يقبلان بعد التقادم. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف الإقرار لا يبطل بالتقادم إلا الإقرار بشرب الخمر، فإنه يبطل بالتقادم. وقال زفر: التقادم يمنع الإقرار بالحدود اعتبارا لحجة البينة.
م: (وهو) ش: أي الشافعي م: (يعتبرها) ش: أي يعتبر الشهادة م: (بحقوق العباد) ش: حيث لا يمنع التقادم في حقوق العباد م: (وبالإقرار) ش: أي ويعتبرها بالإقرار م: (الذي هو أحد الحجتين) ش: وهما البينة والإقرار.
م: (ولنا أن الشاهد مخير بين الحسبتين) ش: تثنية حسبة بكسر الحاء وسكون السين المهملتين وقال في " المجمل ": الحسبة احتسابك الأجر عند الله تعالى. وقال الكاكي: بين حسبتين، أي أجرين مطلوبين، يقال أحسب بكذا أجرا، والاسم الحسبة، والجمع الحسب، إذ الشهادة والستر وقال الأترازي: كلاهما بالجر على أنهما بدلان من حسبتين.

(6/325)


هيجته، أو لعداوة حركته، فيتهم فيها، وإن كان التأخير فيها لا للستر يصير فاسقا آثما، فتيقنا بالمانع، بخلاف الإقرار، لأن الإنسان لا يعادي نفسه، فحد الزنا وشرب الخمر والسرقة خالص حق الله تعالى، حتى يصح الرجوع عنها بعد الإقرار، فيكون التقادم فيه مانعا، وحد القذف فيه حق العبد، لما فيه من دفع العار عنه، ولهذا لا يصح رجوعه بعد الإقرار، والتقادم غير مانع في حقوق العباد، لأن الدعوى فيه شرط، فيحتمل تأخيرهم على انعدام الدعوى، فلا يوجب تفسيقهم، بخلاف حد السرقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الرفع فيهما أحسن على أن كل واحد منهما خبر لمبتدأ محذوف تقديره أحدهما م: (من أداء الشهادة) ش: والآخر م: (والستر) ش: أما الشهادة فلقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] (الطلاق: الآية2) ، وأما الستر فلما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة» ، ثم إن الشاهد إذا لم يشهد في أول الأمر يحمل أمره على الصلاح، بأن يقول إنه اختار الستر المندوب ولا الحد، ثم بعد ذلك.
م: (فالتأخير) ش: أي تأخير الشهادة م: (إن كان لاختيار الستر فالإقدام) ش: أي إقدامه م: (على الأداء بعد ذلك لضغينة) ش: بالمعجمتين، وهو الحقد م: (هيجته) ش: أي بعينه من هيجت ما هيجت الناقة فانبعث م: (أو لعداوة حركته فيتهم فيها) ش: أي في الشهادة، فلم يقبل م: (وإن كان التأخير فيها) ش: أي في الشهادة م: (لا للستر) ش: أي لأجل الستر عليه م: (يصير فاسقا آثما) ش: لأن تأخير الحد، فإذا كان كذلك م: (فتيقنا بالمانع) ش: من القبول، فلا تقبل، ألا ترى لو طلب المدعي الشهادة في حقوق العباد فأخر الشاهد بلا عذر ثم ادعى لا يقبل لترك الأداء مع الإمكان.
م: (بخلاف الإقرار) ش: حيث لا يبطل بالتقادم م: (لأن الإنسان لا يعادي نفسه) ش: فتنعدم التهمة م: (فحد الزنا وشرب الخمر والسرقة خالص حق الله تعالى، حتى يصح الرجوع عنها بعد الإقرار، فيكون التقادم فيه مانعا، وحد القذف فيه حق العبد، لما فيه من دفع العار عنه، ولهذا) ش: أي ولأجل كونه حد القذف فيه حق العبد م: (لا يصح الرجوع بعد الإقرار والتقادم غير مانع في حقوق العباد، لأن الدعوى فيه) ش: أي في حق العبد م: (شرط فيحتمل تأخيرهم) ش: أي تأخير الشهود والشهادة م: (على انعدام الدعوى، فلا يوجب) ش: أي بأجرتها وتم [ ... ] ، أي تأخير شرائهم م: (تفسيقهم) ش: لعدم الموجب.
م: (بخلاف حد السرقة) ش: جواب عما يقال الدعوى شرط في السرقة كما في حقوق العباد ومع ذلك تمنع التقادم، فيعلم أن القبول بعد التقادم في حقوق العباد لم يكن إلا بشرط الدعوى، فأجاب أولا بالمنع بقوله م: (لأن الدعوى فيه) ش: أي في حد السرقة م: (ليست بشرط للحد) ش: أي لإقامة الحد م: (لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر) ش: من قوله فحد الزنا وشرب الخمر

(6/326)


لأن الدعوى ليست بشرط للحد، لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر، وإنما شرطت للمال، ولأن الحكم يدار على كون الحد حقا لله، فلا يعتبر وجود التهمة في كل فرد، ولأن السرقة تقام على الاستسرار على غرة عن المالك، فيجب على الشاهد إعلامه، وبالكتمان يصير فاسقا آثما، ثم التقادم، كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء عندنا، خلافا لزفر رحمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والسرقة خالص حق الله تعالى.
م: (وإنما شرطت) ش: أي الدعوى وتذكير الفعل على تأويل الادعاء م: (للمال) ش: أي لأجل المال، فلما لم تكن الدعوى شرطا للحد كان تأخير الشهادة مانعا ًيقومها، لأنه وقع بلا عذر م: (ولأن الحكم) ش: جواب آخر م: (يدار على كون الحد حقا لله تعالى) ش: تقديره أن المعنى المبطل للشهادة في التقادم في الحدود الخالصة حقا لله تعالى ثمة هو الصفة والعداوة، وذلك أمر باطن لا يطلع عليه، فيدار مدار الحكم على كون الحد حقا لله تعالى، سواء وجد ذلك المعنى في كل فرد أو لا.
كما أدير الرخصة على السفر من غير توقف على وجود المشقة في كل فرد من أفراده م: (فلا يعتبر وجود التهمة في كل فرد) ش: من أفراد الحد. حاصله صورة التقادم قائمة مقام التهمة، سواء، وجدت التهمة أو لا، كما في السفر، وقد ذكرناه.
م: (ولأن السرقة) ش: جواب آخر، وتقديره أن السرقة م: (تقام على الاستسرار) ش: لأنها توجد في ظلمة الليالي غالبا م: (وعلى غرة) ش: أي غفلة م: (عن المالك) ش: فلا يكون المسروق منه عارفا بالشهادة حتى يستشهد بالشاهد م: (فيجب على الشاهد إعلامه) ش: بشهادته م: (وبالكتمان يصير فاسقا آثما) ش: فرد شهادته، بخلاف حد القذف، فإن القذف يكون في النهار الشهادة غالبا، فيعرف المقذوف الشاهد ويراه، فإذا لم يعلمه لا يصير فاسقا.
م: (ثم التقادم كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء) ش: أي في ابتداء الأمر لا خلاف م: (يمنع الإقامة) ش: أي إقامة الحد م: (بعد القضاء عندنا، خلافا لزفر) ش: فقيده لا يمنع وأوضح ذلك بقوله م: (حتى لو هرب) ش: أي الزاني م: (بعدما ضرب بعض الحد، ثم أخذ بعدما تقادم الزمان لا يقام عليه الحد، لأن الإمضاء) ش: أي الاستيفاء م: (من القضاء في باب الحدود) ش: كان الإمضاء تتمة للقضاء، ولهذا كان تفويضا إلى الإمام.
وهذا لأن القضاء إما أن يكون الإعلام من له الحق بحقه أو لتمكينه من الاستيفاء، وذلك لا يتصور في حقوق الله تعالى فيكون المعتبر في حقوق الله تعالى النيابية بحقيقة الاستيفاء، فكان التقادم قبل الاستيفاء بعد القضاء كالتقادم قبل القضاء.

[حد التقادم في الشهادة بالزنا]
م: (واختلفوا) ش: أي العلماء، م: (في حد التقادم، وأشار) ش: أي محمد م: (في " الجامع

(6/327)


الله - حتى لو هرب بعدما ضرب بعض الحد، ثم أخذ بعدما تقادم الزمان لا يقام عليه الحد، لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود.

واختلفوا في حد التقادم، وأشار في " الجامع الصغير " إلى ستة أشهر، فإنه قال: بعد حين، وهكذا أشار الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقدر في ذلك وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قدره بشهر، لأن ما دونه عاجل، وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغير " إلى ستة أشهر. فإنه قال بعد حين) ش: والحين ستة أشهر. وقال فخر الإسلام: لم يرد به الأمر اللازم م: (وهكذا أشار الطحاوي) ش: أي إلى ستة أشهر، لأن اسم الحين عند الإطلاق ينصرف إلى ستة أشهر، كما في مسألة لا أكلمه حينا.
م: (وأبو حنيفة لم يقدر في ذلك) ش: أي في حد التقادم لم يقدر شيئا. لأن نصب التقادير بالرأي متعذر، لأن العقل لا اهتداء له في ذلك م: (وفوضه) ش: أي فوض أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حد التقادم م: (إلى رأي القاضي في كل عصر) ش: لما أن التقادم يختلف بالأحوال والأعصار فيفوض إلى رأي القاضي كل عصر.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قدره) ش: أي التقادم م: (بشهر، لأن ما دونه) ش: أي ما دون الشهر م: (عاجل) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه أدنى العجال شرعا، بدليل أن من حلف ليقضي حق فلان عاجلا يقع عليه ذلك ما دون الشهر.
وقال الكاكي: وما وجدت هذه الرواية في كتب أصحابنا المشهورة م: (وهو) ش: أن تقدير التقادم بشهر م: (رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الأصح) ش: أي تقدير التقادم بشهر هو الأصح.
ونقل الناطفي في " الأجناس ": عن " نوادر المعلى " قال أبو يوسف: جهدنا على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يوقت في ذلك شيئا فأبى.
وقد ذكر في " المجرد " وقال أبو حنيفة: لو سأل القاضي الشهود متى زنى بها، فقالوا أقل من شهر أقيم الحد، وإن قالوا: شهرا أو أكثر [ ... ] .
وروي عنه الحد، قال أبو العباس الناطفي: وقد قدره على هذه الرواية بشهر، وهو قول أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي قلنا من تقدير التقادم بشهر م: (إذا لم يكن بينهم) ش: أي بين الشهود م: (وبين القاضي مسيرة شهر، أما إذا كان) ش: بينهم وبين القاضي مسافة شهر (تقبل شهادتهم، لأن المانع بعدهم عن الإمام، فلا تتحقق التهمة) ش: لأنهم معذورون م: (والتقادم في حد الشرب كذلك) ش: أي حد التقادم في حد الشرب كذلك بشهر م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -

(6/328)


رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله وهو الأصح وهذا إذا لم يكن بين القاضي وبينهم مسيرة شهر، أما إذا كان تقبل شهادتهم؛ لأن المانع بعدهم عن الإمام فلا تتحقق التهمة، والتقادم في حد الشرب كذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يقدر بزوال الرائحة على ما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى
وإذا شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة فإنه يحد، وإن شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع، والفرق أن بالغيبة تنعدم الدعوى وهي شرط في السرقة دون الزنا وبالحضور يتوهم دعوى الشبهة ولا معتبر بالموهوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعندهما يقدر بزوال الرائحة على ما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى) ش: أي في باب حد الشرب.

[شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة]
م: (وإن شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة، فإنه يحد) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا لا يحد، وهو القياس، كذا ذكره أبو الليث في شرحه " للجامع الصغير "، لأنهما إذا حضرت ربما جاءت الشبهة دارئة للحد، والحدود تندرئ بالشبهات، وعلى قول الآخر، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله - يحد الرجل، والآن يأتي الكلام وإن شهد فيه.
م: (وإن شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع والفرق) ش: أي من المسألتين م: (أن بالغيبة) ش: أي بغيبة المرأة التي قالوا إن فلانا زنى بفلانة م: (تنعدم الدعوى وهي) ش: أي الدعوى م: (شرط في السرقة دون الزنا) ش: يعني لاشتراط الدعوى في الزنا، ألا ترى أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رجم ماعزا بالإقرار بالزنا لغائبة م: (وبالحضور) ش: أي وبحضور المرأة الغائبة م: (يتوهم دعوى الشبهة) ش: بأن قالت تزوجني، أو كنت أمته، ولا يعتبر الموهوم جواب سؤال، وهو أن يقال ينبغي أن لا يحد الرجل، لأنها لو حضرت ربما يدعي النكاح، فيصير شبهة، فأجاب بقوله.
م: (ولا معتبر بالموهوم) ش: لأنه يحتمل أن يدعي، ويحتمل أن لا يدعي، فعلى تقدير الدعوى تصير شبهة، وإذا كانت غائبة كان المكاتب الثابت عند غيبتها وجود شبهة الشبهة، وهو المعنى الموهوم، والمعتبر الشبهة دون شبهة الشبهة، لئلا يسد باب إقامة الحد.
فإن قيل: إذا كانت بين الشريكين وأحدهما غائب لا يستوفى القصاص لإجمال العفو عن الغائب.
الجواب: أنه إذا حضر، ففي سقوط القصاص بحقيقة العفو لا بشبه العفو، فإذا كان غائبا يكون احتمال العفو شبهة، فاعتبرت الشبهة فيما نحن فيه إذا حضرت المرأة وادعت النكاح كان شبهة، فإذا غابت واحتمل الشبهة وذلك شبهة الشبهة، فلا يعتبر، لأنه وهم.
م: (وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد لاحتمال أنها امرأته أو أمته، بل هو الظاهر) ش: أي بل كون المرأة امرأته هو الظاهر، لأن ظاهر حال المسلم أن لا يزني والشهود لا

(6/329)


وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد؛ لاحتمال أنها امرأته أو أمته، بل هو الظاهر، وإن أقر بذلك حد، لأنه لا يخفى عليه أمته أو امرأته، وإن شهد اثنان أنه زنى بفلانة فاستكرهها وآخران أنها طاوعته درئ الحد عنهما جميعا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يحد الرجل خاصة لاتفاقهما على الموجب: وتفرد أحدهما بزيادة جناية، وهو الإكراه بخلاف جانبها، لأن طواعيتها شرط تحقق الموجب في حقها، ولم يثبت لاختلافهما وله أنه اختلف المشهود عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفصلون بين زوجته وأمته وبين غيرهما إلا بالمعرفة، فلم يعرفوها، فلم يمكن إقامة الحد بشهادتهم. فلو قال المشهود عليه أن الذي رأوها معي ليست بامرأتي ولا أمتي لم يحد أيضا، لأن الشهادة قد بطلت، ثم هذه اللفظة ليست بإقرار منه بالزنا، فلا يحد، ولو كان الإقرار إقرارا فحد الزنا لا يقام بالإقرار مرة.
م: (وإن أقر بذلك حد) ش: أي وإن أقر بالزنا بامرأة لا يعرفها حد م: (لأنه لا يخفى عليه امرأته أو أمته) ش: أي لا يخفى عليه امرأته أو أمته عن غيرها، وليس بمتهم في إقراره على نفسه، فيحد م: (وإن شهد اثنان أنه زنى بفلانة فاستكرهها) ش: باشرها، أي زنى بها وهي مكرهة م: (وآخران) ش: أي شهد آخران م: (أنها) ش: أي أن المرأة م: (طاوعته درئ الحد عنهما جميعا) ش: ومعنى درئ دفع، وهو على صيغة المجهول من الدرء، وهو الدفع. قال الله تعالى {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران: 168] (آل عمران: الآية 168) ، أي ادفعوا م: (عند أبي حنيفة، وهو قول زفر) ش: وبه قالت الثلاثة.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (الحد على الرجل خاصة لاتفاقهما على الموجب) ش: بكسر الجيم، أي لاتفاق الفريقين، أعني شاهدي الطواعة وشاهد الإكراه على موجب الحد في حقه، أي في حق الرجل، وموجب الحد هو الزنا عن طوع م: (وتفرد أحدهما) ش: بجر الدال عطفا على قوله لاتفاقهما، أي لتعداد تفرد أحد الفريقين، أراد بأحد الفريقين شاهدي الإكراه م: (بزيادة جناية، وهو الإكراه) ش: والضمير راجع إلى الزيادة والتذكير بالنظر إلى الخبر م: (بخلاف جانبها) ش: أي جانب المرأة م: (لأن طواعيتها شرط تحقق الموجب في حقها ولم يثبت) ش: أي شرط تحقق الموجب في حقها وهو طوعها م: (لاختلافهما) ش: أي لاختلاف الفريقين، وفي بعض النسخ لاختلافهم.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه اختلف المشهود عليه) ش: قال الكاكي: أي المشهود به. وقد صرح به في " الكافي ".
وفي " الفوائد الجنازية ": أراد بالمشهود عليه المشهود به، وعلى بمعنى الباء، كما في قَوْله تَعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] (الأعراف: الآية 105) ، أي جدير بأن أقول

(6/330)


لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما، ولأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لهما، وإنما يسقط الحد عنهما بشهادة شاهدي الإكراه، لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها، فصارا خصمين في ذلك.
وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران أنه زنى بها بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا، لأن المشهود به فعل الزنا، وقد اختلف باختلاف المكان، ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة ولا يحد الشهود خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لشبهة الاتحاد نظرا إلى اتحاد الصورة والمرأة.
وإن اختلفوا في بيت واحد حد الرجل والمرأة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على الله، ذكره في " التفسير ".
وقال الكاكي: يمكن أن يجري على حقيقته، لأن المشهود عليه في القتل القدير اثنان. وإن كان واحدا إذ الطائعة غير المكرهة، ولكن تعليل قوله م: (لأن الزنا فعل واحد) ش: حقيقة بأن عنه ظاهرا، لأن الزنا فعل واحد: (يقوم بهما) ش: أي بالرجل والمرأة، وهو فعل حقيقة. وإن كان اثنان حكما، وقد اختلف في جانبها فيكون مختلفا في جانبه ضرورة.
م: (ولأن شاهدي الطواعية) ش: دليل آخر، وتقريره لأن شاهدي الطواعية م: (صارا قاذفين لهما) ش: لعدم نصاب الشهادة، والقاذف خصم، ولا شهادة للخصم. وكان ينبغي إقامة الحد على شاهدي الطواعية م: (وإنما يسقط الحد عنهما بشهادة شاهدي الإكراه، لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها) ش: لوجود حقيقة الزنا، لكن لا يأثم بسبب الإكراه م: (فصارا خصمين في ذلك) ش: أي صار شاهدي الطواعية بسبب قذفيهما خصمين في شهادتهما.

[شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران بالبصرة]
م: (وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران) ش: أي وشهد اثنان آخران م: (أنه زنى بها بالبصرة درئ الحد عنهما) ش: جميعا م: (لأن المشهود به فعل الزنا، وقد اختلف باختلاف المكان ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة، ولا يحد الشهود خلافا لزفر) ش: فإن عنده يحد الشهود حد القذف.
وبه قال الشافعي في قول الشهيد الاتحاد هذا دليل لنا لا لزفر، يريد شبهة اتحاد المشهود به، تقديره أن الشهادة دائرة به في الحدود بالحديث، وقد وجدت، لأنهم شهدوا، ولهم أهلية كاملة، ولهم عذر كامل على زنا واحد صورة في زعمهم نظرا إلى اتحاد صورة النسبة الحاصلة منهم واتحاد المرأة، وإنما جاء الاختلاف بذكر المكان فثبت م: (لشبهة الاتحاد) ش: في المشهور به، فيندرئ الحد م: (نظرا إلى اتحاد الصورة والمرأة) ش: أي اتحاد صورة نسبة الزنا واتحاد المرأة. قال في " المختلف ": وعلى هذا الخلاف إذا شهد القاذف الفاسق بذلك.

م: (وإن اختلفوا) ش: أي الشهود م: (في بيت واحد حد الرجل والمرأة) ش: هذا إذا كان البيت صغيرا، فاختلفوا وقال اثنان: إنه زنى في هذه الزاوية من البيت، وقال آخرون: إنه زنى في

(6/331)


معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا في زاوية. وهذا استحسان. والقياس أن لا يحد لاختلاف المكان حقيقة. وجه الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية، والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب، أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه من في المقدم في المقدم، ومن في المؤخر في المؤخر، فيشهد بحسب ما عنده.
وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة بالنخيلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزاوية الأخرى فيه، وهو معنى قوله م: (معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا في رواية، وهذا استحسان) ش: أي حد الرجل والمرأة فيما إذا اختلف الشهود في البيت الصغير م: (والقياس أن لا يحد) ش: أي أحدهما، وهو قول زفر والشافعي ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لاختلاف المكان حقيقة) ش: فاختلف المشهود به، وهو الزنا كما في الدارين.
م: (وجه الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية والانتهاء) ش: أي انتهاء الفعل م: (في زاوية أخرى بالاضطراب) ش: ينتقلان إلى الزاوية الأخرى، بخلاف ما إذا كان البيت كبيرا لا يحتمل التوفيق، حيث لا يقبل شهادتهم، إذا لم يقبل شهادة الشهود لا يحدون حد القذف للشبهة، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه) ش: أي يظن الواقع م: (من في المقدم) ش: أي من كان في مقدم البيت يظنه م: (في المقدم، ومن كان في مؤخر البيت) ش: يظنه م: (في المؤخر، فيشهد كل بحسب ما عنده) ش: أي بحسب ما ثبت عنده.
فإن قيل: في التوفيق احتيال للإقامة، وقد أمرنا بالاختيار للدرء.
قلنا: هذا احتيال بقول الشهادة والتوفيق في الحدود مشروع، والشهادة حجة مجرى تصحيحا بحسب صحتها مهما أمكن، ثم إذا قبلت كان من ضرورة قبولها وجوب الحد.
فإن قيل: الاختلاف في هذه المسألة مسكوت عنه، والاختلاف في المكان في الزاوية منصوص عليه فكيف يقاس ذلك عليه.
قلنا: التوفيق مشروع فيما إذا كان الاختلاف منصوصا عليه بأن شهد اثنان بأنه زنى بامرأة بيضاء، وآخر بامرأة سوداء، أو شهد اثنان بأن عليها ثوبا أحمر، أو آخران بأن عليها ثوبا أصفر. وكذلك لو اختلفوا في الطول والقصر، أو في السمن والهزل، ولكن هذا يشكل على قول أبي حنيفة في مسألة الإكراه والطواعية، لما أن التوفيق يمكن بأن يكون لابتداء الفعل بالإكراه وانتهائه بالطوع. كذا في قاضي خان وغيره. أجيب بأن الإكراه أسقط، سواء كان أول الفعل أو آخره، لأنه بالنظر إلى الابتداء لا يجب، وبالنظر إلى الانتهاء يجب، فلا يجب بالشك.

[شهد أربعة أنه زنى بامرأة واختلفوا في المكان والزمان]
م: (وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة بالنخيلة) ش: بضم النون وفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وباللام والهاء اسم موضع قريب من الكوفة. ومن قال بفتح الباء الموحدة وكسر الجيم فقد صحف، لأن نخيلة على وزن فعيلة اسم مكان، حي من اليمن سمي بنخيلة امرأة من

(6/332)


عند طلوع الشمس، وأربعة أنه زنى بها عند طلوع الشمس بدير هند درئ الحد عنهم جميعا، أما عنهما فلأنا تيقنا بكذب أحد الفريقين من غير عين، وأما عن الشهود فلاحتمال صدق كل فريق، وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا، وهي بكر درئ الحد عنهما، وعنهم؛ لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة، ومعنى المسألة أن النساء نظرن إليها، فقلن: إنها بكر، وشهادتهن حجة في إسقاط الحد، وليس بحجة في إيجابه، فلهذا سقط الحد عنهما، ولا يجب عليهم. وإن شهد أربعة على رجل بالزنا وهم عميان أو محدودون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولد عمرو بن الغوث أخي الأزد بن الغوث م: (عند طلوع الشمس وأربعة) ش: أي وشهد أربعة أخرى م: (أنه زنى بها عند طلوع الشمس بدير هند درئ الحد عنهم جميعا أما عنهما) ش: أي عن الرجل والمرأة.
م: (فلأنا تيقنا بكذب أحد الفريقين) ش: أو من هذا الفريق من غير تعيين أحد الفريقين بعين م: (من غير عين) ش: أي أحد الفريقين، لأنه يحتمل أن يكون الكذب من هذا الفريق من غير تعيين أحدهما، وأحدهما لا محالة كاذب، لأنه لا يتصور الزنا في ساعة واحدة من شخص واحد في مكانين متباعدين لكنه لم يتميز الكاذب من الصادق لما ذكرنا، فلهذا درئ الحد عنهما م: (وأما عن الشهود) ش: أي وأما درئ الحد عن الشهود م: (فلاحتمال صدق كل فريق) ش: أي لاحتمال كل واحد من الفريقين أن يكونوا هم الصادقون، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسقط حد القذف عن الشهود.
م: (وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وهي بكر) ش: أي والحال أنها بكر م: (درئ الحد عنهما وعنهم) ش: أي دفع الحد عن الرجل والمرأة، وبه قال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعند مالك يجب الحد عليها، لأنه لا يعتبر قول النساء في الحدود عنهما، أي درئ الشهود أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة) ش:
م: (ومعنى المسألة أن النساء نظرن إليها فقلن: إنها بكر وشهادتهن حجة في إسقاط الحد وليس بحجة في إيجابه) ش: أي في إيجاب الحد م: (فلهذا) ش: أي فلأجل هذا المعنى وهو أن شهادتهن حجة في إسقاط الحد، وليس بحجة في إيجابه م: (سقط الحد عنهما) ش: أي عن الرجل والمرأة م: (ولا يجب) ش: أي حد القذف م: (عليهم) ش: أي على الشهود وفي " الكافي " للحاكم الشهيد. وكذا إذا خرجت المرأة رتقاء، وتقبل في الرتقاء والعذراء أو الأشياء التي يعمل فيها بقول النساء قول امرأة واحدة. وفي " الفوائد الظهيرية " وعلى هذا لو شهد بزنا رجل، وهو محجوب لا يحد هؤلاء الشهود أيضا، لأن الحد إنما يجب على القاذف لنفي العار والشان عن المقذوف، وإنه منفي ينتفي عنه لمكان الجب.
م: (وإن شهد أربعة على رجل بالزنا وهم عميان) ش: أي والحال أنهم عميان م: (أو محدودون)

(6/333)


في قذف أو أحدهم عبد أو محدود في قذف، فإنهم يحدون ولا يحد المشهود عليه. لأنه لا يثبت بشهادتهم المال، فكيف يثبت الحد وهم ليسوا
من أهل الشهادة، والعبد ليس بأهل للتحمل والأداء، فلم تثبت شبهة الزنا، لأن الزنا يثبت بالأداء، وإن شهدوا بذلك وهم فساق أو ظهر أنهم فساق لم يحدوا؛ ولأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل، وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق، ولهذا لو قضى القاضي بشهادة فاسق ينفذ عندنا ويثبت بشهادتهم شبهة الزنا، وباعتبار قصور في الأداء لتهمة الفسق يثبت شبهة عدم الزنا فلهذا امتنع الحدان، وسيأتي فيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناء على أصله أن الفاسق ليس من أهل الشهادة، فهو كالعبد عنده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي والحال أنهم محدودون م: (في قذف أو أحدهم) ش: أي أحد الشهود م: (عبد أو محدود في قذف فإنهم) ش: أي فإن الشهود م: (يحدون، ولا يحد المشهود عليه. لأنه لا يثبت بشهادتهم) ش: أي بشهادة هؤلاء م: (المال، فكيف يثبت الحد) ش: أي فكيف يثبت الحد الذي يندرئ بالشبهة م: (وهم ليسوا) ش: أي والحال أنهم ليسوا م:

[أهلية الشهادة]
(من أهل الشهادة، والعبد ليس بأهل للتحمل) ش: أي تحمل الشهادة م: (والأداء) ش: أي ولا من أهل أداء الشهادة م: (فلم تثبت شبهة الزنا، لأن الزنا يثبت بالأداء) ش: أي يثبت عند القاضي بأداء الشهادة عند عدم الإقرار.
م: (وإن شهدوا بذلك وهم فساق) ش: بضم الفاء وتشديد السين جمع فاسق م: (أو ظهر أنهم فساق) ش: يعني شهدوا، فبعد الشهادة ظهر أنهم فساق م: (لم يحدوا؛ لأن الفاسق من أهل التحمل والأداء، وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق، ولهذا) ش: أي ويكون من أهل التحمل والأداء وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق.
ولهذا لو قضى القاضي بشهادته ينفذ عندنا، والدليل على أنه من أهل الأداء قَوْله تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وفائدة الثبت أي تثبتوا، فلو لم يكن للفاسق شهادة، يقال فلا تقبلوا ولم يقل ذلك، بل قال فتبينوا، وفائدة التثبيت القبول عند ظهور الصدق لرجحانه عند القاضي بالتأمل في الدان، مثل هذا الفاسق هل يكذب في العادة أم لا؟
وقال الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير " م: (ولو قضى القاضي بشهادة الفاسق جاز) ش: يعني م: (عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا، وباعتبار قصور في الأداء لتهمة الفسق يثبت بشبهة عدم الزنا) ش: الفسق جاز، يعني عندنا الزنا م: (فلهذا) ش: أي فلأجل ذلك م: (يمنع الحدان) ش: أي حد الزنا على المشهود عليه وحد القذف على المشهود.
م: (وسيأتي فيه) ش: أي في حكم هذه المسألة. م: (خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بناء على أصله أن الفاسق ليس من أهل الشهادة فهو كالعبد عنده) ش: أي الفاسق في شهادته كالعبد عند الشافعي، ويحد الشهود حد القذف عندنا، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في روايته ومالك.

(6/334)


وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا؛ لأنهم قذفة، إذ لا حسبة عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف باعتبارها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[نقص عدد الشهود عن أربعة]
م: (وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره "، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي القول الآخر لا حد عليهم.
وقال الكاكي: حدوا، أي عند طلب المشهود عليه الحد ذكره البزدوي لاختلاف الأئمة فيه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] م: (لأنهم قذفة) ش: أي لأن الذين نقصوا عن الأربعة قذفة جمعه قاذف، كسرقة جمع سارق م: (إذ لا حسبة) ش: لإقامة الحد م: (عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف باعتبارها) ش:. ش: أي باعتبار الحسبة، لأن الشاهد مخير بين حسبتين على ما مر في أول الباب.
وهنا لم يوجد حسبة الستر، فذاك ظاهر، ولم يوجد حسبة، إذ الشهادة أيضا فتعين القذف، فلزم الحد، ولأن الله تعالى جعل نصاب الشهادة في الزنا أربعة، فإذا نقص العدد عنها صاروا قذفة فيحدون حد القذف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] (النور: الآية 4) .
واعلم أن في قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتهم " قذفه " أثرا أخرجه الحاكم في " المستدرك " في (فضائل المغيرة بن شعبة) عن أبي عتاب سهل بن حماد عن أبي كعب عن عبد العزيز بن أبي بكرة. قال: كنا جلوسا عند باب الصغير الذي في المسجد، أبو بكرة وأخوه نافع وشبل بن معبد فجاء المغيرة بن شعبة يمشي في ظلال المسجد، والمسجد يومئذ من قصب، والمغيرة يومئذ أمير البصرة أمره عليها عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فانتهى إلى أبي بكرة يسلم عليه، فقال له أبو بكرة: أيها الأمير ليس لك ذلك، اجلس في بيتك وابعث إلي من شئت، فتحدث معه، قال يا أبا بكرة: ولا بأس ثم دخل المغيرة من باب الأصغر حتى تقدم إلى باب أم جميل امرأة من قيس فدخل عليها فقال أبو بكرة: والله لا أصبر على هذا، ثم بعث غلاما له فقال أبو بكرة له: ارق الغرفة وانظر من الكوة، فذهب فنظر فلم يلبث أن رجع، فقال: وجدتهما في لحاف واحد، فقال أبو بكرة للقوم قوموا معي، فقاموا، فبدأ أبو بكرة فنظر ثم استرجع. ثم قال لأخيه: انظر فنظر فقال له: ما رأيت؟ قال الزنا محصنا، ثم قال لهما انظرا، فنظرا، فقالا مثل ذلك، فقال: أشهد الله عليكم؟ قالوا: نعم. ثم كتب أبو بكرة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما رأى فبعث عمر أبا موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أميرا على البصرة وأمره أن يرسل إليه المغيرة ومعه، أبو بكرة وشهوده. فلما قدم أبو موسى أرسل بالمغيرة وأبي بكرة وشهوده: وقال للمغيرة: ويل لك إن كان مصدوقا عليك وطوبى لك إن كان مكذوبا عليك، فلما قدموا على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال لأبي بكرة: هات ما عندك، قال:

(6/335)


وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم، ثم وجد أحدهم عبدا أو محدودا في قذف، فإنهم يحدون، لأنهم قذفة إذ الشهود ثلاثة، وليس عليهم ولا على بيت المال أرش الضرب، وإن رجم فديته على بيت المال، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: أرش الضرب أيضا على بيت المال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أشهد أني رأيت الزنا محصنا، ثم تقدم أخوه نافع، فقال نحو ذلك، ثم تقدم شبل بن سعد البجلي، فقال نحو ذلك، ثم تقدم زياد فقال له: ما رأيت؟ قال: رأيتهما في لحاف وسمعت نفسا عاليا، ولا أدري ما وراء ذلك، فكبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفرح إذ نجا المغيرة وضرب القوم الحد إلا زيادا، انتهى وسكت عنه.
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة: أنهم نظروا إليه كما ينظرون إلى المرود في المكحلة، فجاء زياد فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء رجل لا يشهد إلا بالحق، فقال رأيت مجلسا فسحا وانتهارا: فجلدهم عمر الحد.
قال أبو نعيم: هؤلاء الذين شهدوا أخوة لأم اسمها سمية وزياد بن [ ... ] كان سمي زياد ابن أهيلة، انتهى، الانتهار: من النهر وهو النفس العالي.
م:

[الشهادة على الشهادة]
(وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم) ش: يعني جلد وكان غير محصن، فجرحته السياط م: (ثم وجد أحدهم) ش: أي أحد الشهود م: (عبدا أو محدودا في قذف، فإنهم يحدون، لأنهم قذفة إذ الشهود ثلاثة) ش: لأن الشهود في الزنا إذا كانوا أقل من أربعة يجب عليهم حد القذف لقصور عدم الشهادة.
ويجب الحد على العبد والمحدود، وكذلك إذا وجد أحد الشهود أعمى م: (وليس عليهم) ش: أي على الشهود: (ولا على بيت المال أرش الضرب) ش: ومعرفة الأرش أن يقوم المحدود عبدا سليما من هذا الأمر ويقوم وبه هذا الأثر، فينظر أما ينقص بما ينقص به القيمة، فينقص من الدية مثله.
م: (وإن رجم) ش: بأن كان محصنا، ثم ظهر أحد الشهود؛ عبدا أو محدودا في قذف م: (فديته على بيت المال) ش: هذا بالاتفاق، لأن القاضي أخطأ في قضائه للعامة من حيث الضمان في مالهم م: (وهذا) ش: أي المذكور من الفصلين م: (عند أبي حنيفة، وقالا: أرش الضرب أيضا على بيت المال) ش: والحربي إذا قذف مسلما يجب عليه بالاتفاق، وحد الخمر لا يجب عليه بالاتفاق، وحد الزنا والسرقة يجب عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يجب عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، والذمي يجب عليه جميع الحدود، إلا حد الخمر، وقد مر في باب الوطء الذي يوجب الحد.

(6/336)


قال العبد الضعيف عصمه الله: معناه إن كان جرحه، وعلى هذا الخلاف إذا مات من الضرب، وعلى هذا إذا رجع الشهود لا يضمنون عنده، وعندهما يضمنون. لهما أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب إذ الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع فينتظم الجارح وغيره، فيضاف إلى شهادتهم فيضمنون بالرجوع، وعند عدم الرجوع تجب على بيت المال، لأنه ينتقل فعل الجلاد إلى القاضي، وهو عامل للمسلمين، فتجب الغرامة في مالهم، فصار كالرجم والقصاص. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الواجب هو الجلد وهو ضرب مؤلم غير جارح، ولا مهلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه) ش: أي معنى كلام محمد في " الجامع الصغير " أرش الضرب أيضا على بيت المال م: (إن كان جرحه) ش: أي الضرب لأنه إذا لم يخرج لا يجب شيء على أحد.
كذا ذكر السغناقي م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (إذا مات) ش: أي المجلود م: (من الضرب) ش: يجب دية النفس في بيت المال عندهما إذا ظهر بعض الشهود، عبدا أو محدودا في قذف أو أعمى. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب شيء.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الخلاف المذكور م: (إذا رجع الشهود) ش: بعد الجرح بالجلد أو الموت والجلد م: (لا يضمنون عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصلا لا ضمان النفس ولا ضمان الأرش م: (وعندهما يضمنون) ش: أرش الجراحة إن لم يمت المجلود والدية إن مات.
م (ولهما) . ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب) ش: يعني بغير قيد السلامة م: (إذ الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع) ش: أي عن وسع الضارب م: (فينتظم الجارح وغيره) ش: أي يشمل الضرب الجارح وغير الجارح م: (فيضاف) ش: أي الجرح أو الهلاك م: (إلى شهادتهم) ش: أثبتوا الجلد م: (فيضمنون بالرجوع) ش: لأنه ظهر كذبهم في شهادتهم م: (وعند عدم الرجوع يجب) ش: أي الضمان م: (على بيت المال، لأنه ينتقل فعل الجلاد إلى القاضي) ش: لأنه أخطأ في قضائه. ولا يرجع إلى الشهود لأنهم ما رجعوا، والقاضي إذا أخطأ في قضائه يجب الضمان على من وقعت منفعته القضاء لأجله، وقد وقعت المنفعة العامة، لأن منفعة الحد وهي خلاف العالم عن الفساد يقع للعامة م: (وهو) ش: أي القاضي م: (عامل للمسلمين فتجب الغرامة في مالهم) ش: ومالهم بيت مال المسلمين م: (فصار كالرجم والقصاص) ش: أي قصاص الجرح أو الهلاك بالحد على تقدير عدم رجوع الشهود بأن نظر بعضهم عبدا أو محدودا كالرجم والقصاص، يعني في الرجم والقصاص يجب الغرامة في بيت المال، وكذا في الجرح أو الموت بالجلد.
م: (ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الواجب هو الجلد، وهو ضرب مؤلم غير جارح ولا مهلك)

(6/337)


فلا يقع جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب، وهو قلة هدايته فاقتصر عليه، إلا أنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح كيلا يمتنع الناس عن الإقامة مخافة الغرامة.
وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنا لم يحد؛ لما فيها من زيادة الشبهة ولا ضرورة إلى تحملها، فإن جاء الأولون فشهدوا على المعاينة في ذلك المكان لم يحد أيضا، معناه شهدوا على ذلك الزنا بعينه؛ لأن شهادتهم قد ردت من وجه برد شهادة الفروع في عين هذه الحادثة إذ هم قائمون مقامهم في الأمر والتحميل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: ألا ترى أن الجلد لا يقام في الحر أوالبرد الشديد ولا على المريض حتى يبرأ كيلا يقع متعلقا ولا بسوط له ثمرة كيلا يقع جارحا
م: (ولا يقع) ش: أي الضرب حال كونه م: (جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب، وهو قلة هدايته) ش: في عمله، أي المعنى في الضارب قلة هدايته في عمله وترك احتياطه م: (فاقتصر عليه) ش: أي فاقتصر الجرح أو الهلاك على الضارب من غير أن يضاف إلى الشهود أو القاضي، إلا أنه استثني من قوله فاقتصر عليه.
وهذا جواب عما يقال لما اقتصر عليه كان ينبغي أن يجب الضمان عليه، وهو القياس. فأجاب عنه بقوله م: (إلا أنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح) ش: وهو الاستحسان م: (كيلا يمتنع الناس عن الإقامة) ش: أي عن إقامة الحدود م: (مخافة الغرامة) ش: أي لأجل الخوف عن الغرامة، وقيد الصحيح احترازا عما روي في " مبسوط " فخر الإسلام:
ولو قال قائل: يجب الضمان على الجلاد فله وجه، لأنه ليس بمأمور بهذا الوجه، لأنه أمر بضرب مؤلم لا جارح ولا كاسر ولا قابل، فإذا وجد الضرب على هذه الوجوه فقد وقع فعله متعديا فيجب عليه الضمان، والله أعلم.

م: (وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنا لم يحد) ش: أي الرجل م: (لما فيها) ش: أي في شهادة الفروع م: (من زيادة الشبهة) ش: يعني لما فيها من شبهة زاده على الأصل لم يكن فيه، فإن الكلام إذا تداولته الآلة يمكن فيها زيادة ونقصان م: (ولا ضرورة إلى تحملها) ش: أي على تحمل زيادة الشبهة، لأن الحدود لدرئها لا لإثباتها.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول محمد ومالك وأحمد. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح يقبل إذا كان بشرائط كشهادة الأصول.
م: (فإن جاء الأولون) ش: أي الأصول بعدما شهد الفروع م: (فشهدوا على المعاينة في ذلك المكان) ش: يريد به ذلك الزنا بعينه م: (لم يحد أيضا معناه) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك المكان م: (شهدوا على ذلك الزنا بعينه، لأن شهادتهم) ش: أي شهادة الأصول م: (قد ردت من وجه برد شهادة الفروع في عين هذه الحادثة؛ إذ هم قائمون مقامهم بالأمر والتحميل) ش: أي الفروع

(6/338)


ولا يحد الشهود، لأن عددهم متكامل، وامتناع الحد عن المشهود عليه لنوع شبهة، وهي كافية لدرء الحد لا لإيجابه.
وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم، فكلما رجع واحد حد الراجع وحده وغرم ربع الدية، أما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، فيكون الفائت بشهادة الراجع ربع الحق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب القتل دون المال، بناء على أصله في شهود القصاص، وسنبينه في الديات إن شاء الله تعالى. وأما الحد فمذهب علمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحد لأنه إن كان الراجع قاذف حي فقد بطل بالموت، وإن كان قاذف ميت فهو مرجوم بحكم القاضي، فيورث ذلك شبهة. ولنا أن الشهادة إنما تنقلب قذفا بالرجوع، لأن به تفسخ شهادته، فجعل للحال قذفا للميت، وقد انفسخت الحجة فينفسخ ما يبتنى عليه، وهو القضاء في حقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قائمون مقام الأصول.
وهذا التعليل تعليل لرد شهادة الأصول ليست لرد شهادة الفروع، فإن هذا في الحقوق المالية، فإن ثمة يقبل شهادة الأصول بعد رد شهادة الفروع.
والجواب أن المال يثبت بالشبهة، بخلاف المحدود م: (ولا يحد الشهود) ش: أي الأصول والفروع لا يحدون م: (لأن عددهم متكامل) ش: والأهلية أيضا موجودة م: (وامتناع الحد عن المشهود عليه لنوع شبهة) ش: وهي شبهة البدلية الزمان والمكان، لاحتمال الزيادة والنقصان في الفروع وشبهة الرد في الأصول م: (وهي كافية لدرء الحد لا لإيجابه) ش: أي شبهة كافية لإسقاط الحد، لا لإيجاب الحد، يعني أن الشبهة ليست لموجبة الحد، ولكنها مسقطة له.

[شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم ثم رجعوا عن الشهادة]
م: (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم) ش: أي الرجل م: (فكلما رجع واحد منهم حد الراجع وحده وغرم ربع الدية، أما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، فيكون الفائت بشهادة الراجع ربع الحق، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب القتل) ش: أي قتل الراجع م: (دون المال بناء على أصله) ش: أي أصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في شهود القصاص) ش: يعني إذا رجعوا بعد القصاص، فيقتلون عنده، فكذا هنا إذا رجعوا بعد الرجم يقتلون، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ليلى وهو قول الحسن البصري أيضا. م: (وسنبينه في الديات إن شاء الله تعالى) ش: قال الأترازي: هذه حوالة ليس لها رواج إن شاء ذكر ذلك العام. م: (وأما الحد فمذهب علمائنا الثلاثة. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - 0 لا يحد، لأنه إن كان الراجع قاذف حي، فقد بطل بالموت، وإن كان قاذف ميت فهو مرجوم بحكم القاضي فيورث ذلك شبهة) ش: إشارة إلى كون الميت مرجوما بحكم القاضي.
م: (ولنا أن الشهادة إنما تنقلب قذفا بالرجوع، لأن به) ش: أي بالرجوع م: (تفسخ شهادته فجعل للحال) ش: أي في الحال م: (قذفا للميت، وقد انفسخت الحجة) ش: وهي الشهادة م: (فينفسخ ما يبتنى عليه، وهو القضاء في حقه) ش: والضمير في عليه يرجع إلى الحجة على تأويل الكلام قاله

(6/339)


فلا يورث الشبهة، بخلاف ما إذا قذفه غيره، لأنه غير محصن في حق غيره، لقيام القضاء في حقه، فإن لم يحد المشهود عليه حتى رجع واحد منهم حدوا جميعا وسقط الحد عن المشهود عليه. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حد الراجع خاصة، لأن الشهادة تأكدت بالقضاء، فلا تنفسخ إلا في حق الراجع، كما إذا رجع بعد الإمضاء، ولهما أن الإمضاء من القضاء، فصار كما إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أيضا: وقوله وهو راجع إلى ما هو عبارة عن القضاء، والضمير في حقه راجع إلى المراجع، يعني أن القضاء تفسخ في حق الراجع، لأن القضاء مبني على الشهادة، وقد انفسخت شهادة الراجع بالرجوع م: (فلا يورث الشبهة) ش: أي كونه وجوبا بانقضاء القاضي لا يورث الشبهة وفي سقوط حق القذف عن الراجع، لأن القضاء انفسخ في حقه.
م: (بخلاف ما إذا قذف الميت غير الراجع، لأنه) ش: أي لأنه الرجوع م: (غير محصن في حق غيره) ش: أي غير الراجع م: (لقيام القضاء في حقه) ش: أي في حق الراجع، فصار لقيام القضاء بشبهة في حقه، فلم يحد، فظهر الفرق م: (فإن لم يحد المشهود عليه حتى رجع واحد منهم حدوا جميعا) ش: يعني حد الشهود كلهم.
واعلم أن رجوع الشهود لا يخلو، إما أن يكون بعد القضاء والإمضاء أو بعد القضاء قبل الإمضاء أو قبل القضاء والإمضاء.
فهذه فصول ثلاثة، وقد ذكر الفصل الأول وشرع هنا في الفصل الثاني، وهو ما إذا رجع بعد القضاء والإمضاء، وهو قوله فإن لم يحد المشهود عليه، وهو ما إذا رجع بعد القضاء قبل الإمضاء يحدون كلهم م: (وسقط الحد عن المشهود عليه) ش: في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله: في القول الأخر.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حد الراجع خاصة، لأن الشهادة تأكدت بالقضاء، فلا تنفسخ إلا في حق الراجع) ش: لا في حق غيره م: (كما إذا رجع بعد الإمضاء) ش: وبه قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا، وهو قول زفر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد قوليه لا يحد الراجع.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله م: (أن الإمضاء من القضاء) ش: أي أن إمضاء الحد بمنزلة القضاء بدليل أن الإمضاء لا يجوز إلا بمحضر من القاضي، ولهذا تجعل لإثبات الحادثة في الشهود كالارتداد والفسق والجنون و [....] والموت والغيبة، وهذا بعد القضاء قبل الإمضاء، كالحادثة قبل القضاء.
فإذا كان الإمضاء في القضاء كالرجوع قبل القضاء فيحدون جميعا.
وهو معنى قوله م: (فصار كما إذا رجع واحد منهم قبل القضاء، ولهذا) ش: أي ولأجل أن

(6/340)


رجع واحد منهم قبل القضاء، ولهذا سقط الحد عن المشهود عليه.
ولو رجع واحد منهم قبل القضاء حدوا جميعا. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحد الراجع خاصة، لأنه لا يصدق على غيره. ولنا أن كلامهم قذف في الأصل، وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به، فإذا لم يتصل به بقي قذفا، فيحدون، فإن كانوا خمسة فرجع أحدهم فلا شيء عليهم، لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق، وهو شهادة الأربعة، فإن رجع آخر حد وغرما ربع الدية. أما الحد فلما ذكرنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإمضاء من القضاء في باب الحدود م: (يسقط الحد عن المشهود عليه) ش: إذا رجع واحد قبل القضاء وقبل الإمضاء كما يسقط إذا رجع قبل القضاء.

[رجع شاهد واحد من الشهود الأربعة قبل القضاء والإمضاء]
م: (ولو رجع واحد منهم) ش: هذا هو الفصل الثالث، وهو ما إذا رجع م: (قبل القضاء والإمضاء) ش: أي لو رجع شاهد واحد من الشهود الأربعة قبل القضاء والإمضاء م: (حدوا جميعا) ش: أي يحدون كلهم.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحد الراجع خاصة، لأنه) ش: أي لأن الراجع م: (لا يصدق على غيره) ش: يعني أن رجوعه حجة على نفسه لا غيره باتصال.
م: (ولنا أن كلامهم قذف في الأصل) ش: يعني لكونه صريحا فيه م: (وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به) ش: أي بكلامه م: (فإذا لم يتصل به) ش: أي فإذا لم يتصل القضاء بكلامهم م: (بقي قذفا فيحدون) ش: لقصور عددهم م: (وإن كانوا خمسة) ش: هذا عطف على أصل المسألة، وهو قوله وإذا شهد أربعة بالزنا م: (فرجع أحدهم) ش: يعني بعد الرجم، لأنه وضع المسألة في ذلك م: (فلا شيء عليهم) ش: أي لا الحد ولا الدية، لا على الشهود ولا على الراجع، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح ومالك وأحمد - رحمهما الله.
وعن مالك لا يجب الدية بالرجوع أصلا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه يجب خمس الدية م: (لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق، وهو شهادة الأربعة، فإن رجع آخر) ش: أي من الأربعة م: (حد) ش: أي الراجع الأول وهو الخامس والراجع الثاني من الأربعة م: (وغرما ربع الدية) ش: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن قالا تعمدنا الكذب وجب عليهما القود. وإن قال: لا أخطأنا وجب عليهما فسقطهما في الدية وغرما ربع الدية.
م: (أما الحد فلما ذكرنا) ش: إشارة إلى قوله ولنا أن الشهادة إنما تقلب قذفا بالرجوع. وقال الأترازي: فإن قلت: حين رجع الواحد من الخمسة لا شيء عليه أصلا، فعند ذلك كيف يجب عليه الحد والغرامة برجوع الآخر؟.
قلت: إنما لم يجب عليه شيء وقت رجوعه لمانع مع وجود السبب، والمانع بقاء الحجة الكاملة. فلما رجع آخر زال المانع، فعمل السبب عمله.

(6/341)


وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، والمعتبر بقاء من بقي لا رجوع من رجع على ما عرف.
وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فزكوا فرجم فإذا الشهود مجوس أو عبيد فالدية على المزكين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه: إذا رجعوا عن التزكية، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله هو على بيت المال. وقيل هذا إذا قالوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، والمعتبر بقاء من بقي، لا رجوع من رجع على ما عرف) ش: أي في كتاب الشهادات.

[تبين عدم أهلية الشهادة بعد إقامة الحد]
م: (وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فزكوا) ش: على صيغة المجهول من التزكية من زكى نفسه إذا مدحه وتزكية الشهود الوصف بكونهم أزكياء م: (فرجم) ش: أي الرجل م: (فإذا الشهود عبيد أو مجوس، فالدية على المزكين عند أبي حنيفة) ش: وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه إذا رجعوا) ش: أي المزكون م: (عن التزكية) ش:.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال صاحب " الهداية " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معناه إذا رجعوا عن التزكية، أي معنى قوله فالدية على المزكين، قال ويدل على صحة تأويله ما نص عليه الحاكم في " الكافي " إذا شهد الشهود على رجل بالزنا والإحصان، فزكاهم يعني زعموا أنهم أحرار ورجم ثم وجدوهم عبيدا قال: لا حد على الشهود، فإن رجع المزكون عن شهادتهم ضمنوا.
قلت: فإن لم يقولوا إنهم أحرار، وقالوا هم عدول ثم وجدوا عبيدا قال: لا ضمان على المدعين، وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله فإن لم يقولوا إنهم أحرار وقالوا هم عدول ثم وجدوا عبيدا، قالا: لا ضمان على المزكين، وإلى هاهنا لفظ الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معناه إذا رجعوا عن التزكية بأن قالوا قلنا هم أحرار مسلمون مع علمنا بحالهم أنهم عبيد، وكذا في نسخ الشروح، فعلى هذا ينبغي أن لا يذكر في الكتب قوله. وقيل هذا إذا قالوا تعمدنا من غير أن يقال، وقيل لأن قوله وقيل يقضي أن يكون معنى الرجوع عن التزكية التي توجب الضمان عنده في قول آخر سوى التعمد وليس كذلك.
فإن المزكي إذا قال أخطأت في التزكية لا يضمن بالإجماع، وإنما الخلاف فيما إذا [قال] : تعمدت ذلك مع علمي بحالهم، وذكره في " جامع قاضي خان "، وإليه أشار في " المبسوط ". وقال تاج الشريعة: معناه إذا رجعوا عن التزكية بأن قالوا تعمدنا التزكية مع علمنا أنهم مجوس، حتى لو قالوا أخطأنا لا يضمنون.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله م: (هو على بيت المال) ش: أي الضمان على بيت المال م: (وقيل هذا) ش: عند أبي حنيفة، أي وجوب الضمان م: (إذا قالوا) ش:

(6/342)


تعمدنا التزكية مع علمنا بحالهم. لهما أنهم أثنوا على الشهود خيرا، فصار كما إذا أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه، وله أن الشهادة إنما تصير حجة عاملة بالتزكية، فكانت التزكية في معنى علة العلة، فيضاف الحكم إليها، بخلاف شهود الإحصان لأنه محض الشرط، ولا فرق بينهما إذا شهدوا بلفظة الشهادة أو أخبروا، وهذا إذا أخبروا بالحرية والإسلام، أما إذا قالوا: هم عدول وظهروا عبيدا لا يضمنون، لأن العبد قد يكون عدلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي المزكون م: (تعمدنا التزكية مع علمنا بحالهم) ش: أما إذا قالوا أخطأنا فلا يجب عليهم الضمان. قال الإمام السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في شرحه " للجامع الصغير " إذا قالوا علمنا أنهم مجوس ومع هذا زكيناهم. أما إذا قالوا أخطأنا، فلا يجب عليهم الضمان، لأنهم يأتون على القاضي والقاضي [....] لا ضمان عليه، فكذا هاهنا، وإنما وجب الضمان عليهم إذا تعمدوا لأنهم أظهروا علة التلف.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف [ومحمد]- رحمهما الله م: (أنهم) ش: أي أن المزكين م: (أثنوا على الشهود خيرا) ش: قيل حيث أثبتوا بذلك شرط الحجة، وهي العدالة م: (فصار كما لو أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه) ش: فلا يضمنون شيئا، وبه قال الثلاثة، فإذا لم يضمنوا شيئا وجب الضمان على بيت المال، وله أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (وله أن الشهادة إنما تصير حجة وعاملة بالتزكية) ش: إذ الشهادة في الحدود لا توجب شيئا بلا تزكية م: (فكانت التزكية في معنى علة العلة) ش: لأن التزكية بعمله للعلة، والعمل للعلة علة العلة، والحكم يضاف إلى علة العلة، كما يضاف إلى العلة.
ألا ترى أن حفر البئر لما كان هو الذي لعلة يجعل فقد علة المار للوقوع في البئر، فيضاف الحكم إليه عند تعذر إضافته إلى الفعل م: (فيضاف الحكم إليها) ش: أي إلى علة العلة، فصار المزكون كالشهود إذا رجعوا م: (بخلاف شهود الإحصان، لأنه محض الشرط) ش: حاصله أن الشهادة على الإحصان شرط محض، وعلامة معرفة الحكم الزنا الصادر بعده وجود الإحصان.
ولا حاجة لثبوت الزنا إلى شهود الإحصان، لأن الزنا ثبت بشهود الزنا قبل الإحصان، ولكن لا يثبت الزنا بشهود الإحصان ما لم يزكوا، فظهر الفرق بين التزكية وشهادة الإحصان.
م: (ولا فرق بينهما إذا شهدوا بلفظة) ش: أي المزكون بلفظ م: (الشهادة أو أخبروا) ش: بأن قالوا نشهد بأنهم أحرار أو قالوا هم أحرار م: (وهذا) ش: أي وجوب الضمان على المزكين على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا أخبروا بالحرية والإسلام) ش: أي فيما إذا أخبروا بحرية الشهود وإسلامهم، ثم ظهر الشهود مجوسا أو عبيدا.
م: (أما إذا قالوا هم عدول وظهروا عبيدا لا يضمنون، لأن العبد قد يكون عدلا) ش: أيضا بتركه محظور دينه. واعلم أن زكاة المزكي شرط عند أبي حنيفة، خلافا لهما، ذكره في " المختلف "،

(6/343)


ولا ضمان على الشهود؛ لأنه لم يقع كلامهم شهادة، ولا يحدون حد القذف؛ لأنهم قذفوا حيا وقد مات فلا يورث عنه، وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر القاضي برجمه، فضرب رجل عنقه ثم وجد الشهود عبيدا فعلى القاتل الدية. وفي القياس يجب القصاص؛ لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق. وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل، فأورث شبهة، بخلاف ما إذا قتله قبل القضاء؛ لأن الشهادة لم تصر حجة بعد، ولأنه ظنه مباح الدم معتمدا على دليل مبيح، فصار كما إذا ظنه حربيا، وعليه علامتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يشترط العدد في المزكي عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله، خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويشترط الإتيان في سائر الحقوق والأربعة في الزنا، ويجوز شهادة رجل وامرأتين على الإحصان.
كذا قال الحاكم م: (ولا ضمان على الشهود) ش: لأنه يقع كلامهم بشهادة فيه، نظرا لما تقدم أن كلام كل منهم يصير شهادة باتصال القضاء، وقد اتصل به القضاء، فما وجه قوله م: (لأنه لم يقع كلامهم شهادة) ش: والجواب إذ القضاء لما أظهر خطأه بيقين، صار كأن لم يكن، فلا يتصل القضاء بكلامهم، فلا يصير شهادة. م: (ولا يحدون) ش: أي الشهود م: (حد القذف؛ لأنهم قذفوا حيا، وقد مات فلا يورث عنه) ش: أي لا يورث حد القذف عن الميت، لا يقال لم يجعل قذفا للميت للرجال بطريق الانقلاب كما في صورة الرجوع عن الشهادة؛ لأنا نقول عليه الانقلاب للرجوع عن الشهادة. فالجواب فلم يوجد.
فإن قيل: لم لا يكون ظهورهم عبيدا أو مجوسا للانقلاب كالرجوع إن انقلاب صيرورة الشهادة قذفا وكلامهم لم يقع شهادة.
م: (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر القاضي برجمه فضرب رجل عنقه ثم وجد الشهود عبيدا فعلى القاتل الدية) ش: في ماله م: (وفي القياس يجب القصاص؛ لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق. وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل، فأورث شبهة) ش: كنكاح الفاسد يكون شبهة أسواط الحد.
م: (بخلاف ما إذا قتله قبل القضاء) ش: حيث يجب القضاء لعدم الشبهة لأن القضاء هو المورث للشبهة لم يوجد، أشار إليه بقوله م: (لأن الشهادة لم تصر حجة بعد، ولأنه ظنه) ش: عطف على قوله أن القضاء صحيح ظاهر وقت القتل، أي ظن الذي قتله م: (مباح الدم معتمدا على دليل مبيح، فصار كما إذا ظنه حربيا وعليه علامتهم) ش: أي كما إذا ظن المسلم والغازي أو الشخص حربيا، وعليه علامتهم، أي علامة أهل الحرب. فقتله عمدا، ثم ظهر أن المقتول ليس بحربي لا يجب القصاص بشبهة ظنه مباح الدم.

(6/344)


ويجب الدية في ماله لأنه عمد، والعواقل لا تعقل العمد، ويجب ذلك في ثلاث سنين؛ لأنه وجب بنفس القتل، وإن رجم ثم وجدوا عبيدا فالدية على بيت المال؛ لأنه امتثل أمر الإمام فنقل فعله إليه، ولو باشره بنفسه يجب الدية في بيت المال لما ذكرنا، وكذا هذا بخلاف ما إذا ضرب عنقه؛ لأنه لم يأتمر بأمره. وإذا شهدوا على رجل بالزنا، وقالوا: تعمدنا النظر قبلت شهادتهم؛ لأنه يباح النظر لهم ضرورة تحمل الشهادة فأشبه الطبيب والقابلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويجب الدية في ماله لأنه عمد والعواقل) ش: الجمع جمع عاقلة م: (لا تعقل العمد، ويجب ذلك في ثلاث سنين؛ لأنه وجب بنفس القتل) ش: لا بالإقرار، وكل شيء يجب بنفس القتل تكون الدية في ثلاث سنين.
م: (وإن رجم) ش: على بناء الفاعل معطوف على قوله فضرب عنقه، أي وإن رجم ذلك الرجل المذكور المشهود عليه بالزنا بعد قضاء القاضي بالرجم وفي لفظ " المبسوط " الرجم بالحجارة. ولفظ صاحب " الوجيز ": وإن كان هذا الرجل قتله رجما م: (ثم وجدوا) ش: أي الشهود م: (عبيدا فالدية على بيت المال؛ لأنه امتثل أمر الإمام فينقل فعله إليه) ش: أي نقل فعل هذا الذي رجعه إلى الإمام م: (ولو باشره) ش: الإمام الرجم م: (بنفسه يجب الدية في بيت المال لما ذكرنا) ش: عند قوله فيما مضى قبل، وزفه بقوله لأنه انتقل فعل الجلاد القاضي وهو عامل للمسلمين، فيجب الغرامة في مالهم.
م: (وكذا هذا) ش: أي كذا حكم هذا، وأشار به إلى فعل الرجم م: (بخلاف ما إذا ضرب عنقه؛ لأنه لم يأتمر بأمره) ش: أي أمر الإمام؛ لأنه أمر بالرجم دون القتل، فلم ينتقل فعله إليه. م: (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا وقالوا تعمدنا النظر) ش: أي إلى فرج الزاني والزانية م: (قبلت شهادتهم) ش: وبه قال الشافعي في المنصوص ومالك وأحمد - رحمهما الله، ولو قالوا تعمدنا النظر للتلذذ لا يقبل إجماعا.
وفي " جامع السرخسي " قال بعض العلماء: لا تقبل شهادتهم، وبه قال الإصطخري من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لإقرارهم [....] على أنفسهم، إذ النظر إلى عورة الغير فسق م: (لأنه يباح النظر لهم ضرورة تحمل الشهادة) ش: لأنهم كلفوا على إقامة الشهادة على أنهم رأوه كالميل في المكحلة، والرشاء في البئر، والقلم في المحبرة.
م: (فأشبه الطبيب والقابلة) ش: أي أشبه نظر شهود الزنا إلى فرج الزانية لضرورة في ذلك، كما ينظر الطبيب والقابلة إلى الفرج، وهذا لأن الطبيب يجوز أن ينظر موضع العورة لضرورة المداواة، وقال في " خلاصة الفتاوى ": لا يجوز النظر إلى العورة إلا عند الضرورة. وهي الاحتقان والحيان والمداواة والولادة والبكارة في البالغة والرد بالعيب، والمرأة في حق المرأة أولى، وإن لم يوجد ستر ما وراء موضع الضرورة.

(6/345)


وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم، معناه أن ينكر الدخول بعد وجود سائر الشرائط؛ لأن الحكم بثبات النسب منه حكم بالدخول عليه، ولهذا لو طلقها يعقب الرجعة والإحصان يثبت بمثله. فإن لم تكن ولدت منه وشهد عليه بالإحصان رجل وامرأتان رجم، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فالشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال، وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إنه شرط في معنى العلة؛ لأن الجناية تتغلظ عنده، فيضاف الحكم إليه، فأشبه حقيقة العلة، فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء، فصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا، فلا تقبل لما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه]
م: (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم. معناه أن ينكر الدخول بعد وجود سائر الشرائط) ش: أي شرائط الإحصان م: (لأن الحكم بثبات النسب منه حكم بالدخول عليه) ش: أي على الرجل م: (ولهذا) ش: أي ولأجل الحكم بالدخول عليه م: (لو طلقها يعقب الرجعة) ش: أي الطلاق تعقب الرجعة له أن يراجعها بعد الطلاق، والطلاق قبل الدخول لا يعقب الرجعة م: (والإحصان يثبت بمثله) ش: أي بمثل هذا الدليل الذي دل ظاهرا، وفيه شبهة.
م: (فإن لم يكن ولدت منه وشهد عليه بالإحصان رجل وامرأتان رجم، خلافا لزفر والشافعي) ش: ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى م: (فالشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال، وزفر يقول إنه) ش: أي الإحصان م: (شرط في معنى العلة) ش: فلا تقبل شهادة النساء فيه؛ لأن شهادة النساء لا مدخل لها في باب الحدود م: (لأن الجناية تتغلظ عنده) ش: بيانه أن علة حد الزنا هو الزنا، لكنه يتغلظ عند وجود الإحصان. ولهذا يجب الرجل الذمي هو أقطع العقوبات فكان الإحصان شرطا في معنى العلة، فلا تقبل شهادتهن على علة الحكم، فلا تقبل أيضا على شرطه وهو الإحصان؛ لأنه في معناها لتغلظ الجناية عنده، وهو معنى قوله لأن الجناية تتغلظ عنده، أي عند زفر أيضا م: (فيضاف الحكم إليه) ش: أي إلى الإحصان م: (فأشبه حقيقة العلة) ش: قال الأكمل: ترتب على ذلك أمران:
أحدهما: ما ذكره في الكتاب، وهو قوله: م: (فلا تقبل شهادة النساء فيه) ش: حفيا لا للدرء أي لدفع الحد.
والثاني: أن شهود الإحصان إذا رجعوا بعد الرجم يضمنون عنده؛ لأن شهود العلة يضمنون بالرجوع بالاتفاق.
م: (فصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا فلا تقبل) ش: يعني أن الزاني لو كان مملوكا لذمي، وهو مسلم فشهد شاهدان ذميان أنه، أي أن مولاه الذي أعتقه قبل الزنا لم يرجم م: (لما ذكرنا) ش: أي لأن الإحصان شرط في معنى بعلة.

(6/346)


ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة، وأنها مانعة من الزنا على ما ذكرنا، فلا يكون في معنى العلة، وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه الحالة، بخلاف ما ذكر؛ لأن العتق يثبت بشهادتهما، وإنما لا يثبت بسبق التاريخ؛ لأنه ينكره المسلم أو يتضرر به المسلم، فإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون عندنا، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو فرع ما تقدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة) ش: بعضها ليس في موضع كالحرية والعقل وبعضها فرض عليه كالإسلام، وبعضها مندوب إليه كالنكاح الصحيح والدخول بالمنكوحة م: (وإنها) ش: أي وإن الخصال الحميدة م: (مانعة من الزنا، فلا تكون في معنى العلة، وهذا كما إذا شهدوا به) ش: أي بالإحصان م: (في غير هذه الحالة) ش: أراد بهذه الحالة ما بعد الزنا. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني لو شهد رجل وامرأتان أن فلانا تزوج هذه المرأة ودخل بها قبلت شهادتهم، فكذلك هاهنا.
م: (بخلاف ما ذكر) ش: أي بخلاف ما ذكر زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بشهادة الذمية على ذمي أنه أعتق عبده قبل الزنا م: (لأن العتق يثبت بشهادتهما) ش: أي بشهادة الذميين م: (وإنما لا يثبت بسبق التاريخ) ش: يعني يثبت العتق، لكن لا يثبت سابقا على الزنا م: (لأنه ينكره المسلم) ش: أي لأن سبق التاريخ ينكر المسلم لا يثبت شهادة الكافر بل الذمية، ولأن المسلم يتصور سبق التاريخ من حيث تغليظ العقوبة عليه، فلا يجوز أن يتضرر المسلم بشهادة الكفار. كذا في " المبسوط " وهو معنى قوله م: (أو يتضرر به المسلم) ش: أما شهادة النساء في غير الحدود مقبولة وإن تضرر به المسلم.
م: (فإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون عندنا، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ضمان شهود الإحصان ثلاثة أوجه:
أحدها: لا ضمان عليهم، وهو قولنا.
والثاني: يحنث [....] وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والثالث: إذا رجعوا مع الشهود على الزنا إن شهدوا بالإحصان قبل ثبوت الزنا لم يضمنوا، وإن شهدوا بعد ثبوت الزنا ضمنوا. وفي قدر ما يضمنون من الدية وجهان. وجه: يضمنون بضمان الدية، الثاني: ثلث الدية، كذا في " الحلية ".
م: (وهو فرع ما تقدم) ش: أي عدم الضمان عليه شهود الإحصان عندنا إذا رجعوا ووجوب الضمان عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيان على ما قلنا إنه في معنى العلة عنده، وشرط محصن عندنا لا يتعلق به الوجود، بل هو علامة معرفة حكم الزنا الصادر بعد.
فروع: وفي الإحصان يكفي الشهود أن يقولوا أدخل بها زوجها. وقال محمد -رحمه

(6/347)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله لا بد أن يقولوا جامعها أو باضعها، كذا في التأمل.
وكذا لو أنكر الإحصان بعد ثبوت الزنا فشهد أنه تزوج بامرأة ودخل بها ثبت إحصانه حتى يرجم، كما لو قال وطئها أو جامعها عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله، وبه قالت الثلاثة. وقال محمد: لا يثبت إحصانه فلا يرجم، كما لو شهد أنه أقر بها أو أتاها.
ولو شهد أربعة أنه زنى بامرأة وأربعة أخرى مرة أخرى فرجم ورجع الفريقان ضمنوا ديته بالإجماع وحدوا للقذف عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه قال أحمد: وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحدون، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولو شهدوا على الزنا وأقره مرة به حد عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قالت الأئمة الثلاثة؛ لأن البينة وقعت معتبرة، فلا تبطل بالإقرار، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله لا يحد، وهو الأصح.
وإذا أقر أربع مرات لا يحد عندنا، خلافا للشافعي ومالك وأحمد - رحمهما الله، فإن عندهم يحد القاضي إذا أمر بالرجم أو بالجلد هل يسعى مع ممن لم يعاين الشهادة أو سبب وجوب الرجم أو الجلد، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله يسعى، وعند محمد لا يسعى لمن لم يشاءها، وأفتى فقهاؤنا وراءهم بقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعلة الفساد على القضاء، فلا يؤمنون على الخصوص في الحدود التي تندرئ بالشبهات، وقد فصل بعض المشايخ في ذلك، فقال القضاة أربعة:
عالم عادل، وهذا واجب الطاعة، فيجب الائتمار.
وعادل: وهذا يسأل عن كيفية ثبوت ما ثبت عنده، فإذا أخبر بما يوافق الشرع قبل قوله وعمل به.
وظالم عالم، وظالم جاهل. وهذان لا يقبل قولهما، ولا يلتفت إليهما.
وقيل يسأل الثالث عن ثبوت الحكم عنده، فإن وافق مقتضى عمله عمل به، وإن ظهر فيه أنه ظلمه ترك.

(6/348)