البناية
شرح الهداية باب حد الشرب ومن شرب الخمر فأخذ وريحها
موجودة أو جاءوا به سكران، فشهد الشهود عليه بذلك، فعليه الحد، وكذلك إذا
أقر وريحها موجودة؛ لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد. والأصل فيه
قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ومن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب حد الشرب]
[حكم حد الشرب]
(حد الشرب) ش: أي هذا باب في بيان حكم حد الشرب. قدم حد الزنا على الشرب
لما أن دعاء الطبع إلى الزنا أكثر عند فرط الشبق، ولهذا ضربه أشد من ضرب
الشرب. وفي الزنا قتل النفس، وفي شرب الخمر فوات العقل. وكأن العقل كالتابع
للنفس، وأخرج القذف عن حد الشرب لأن الجريمة في الشارب دون القاذف، لأنه
يحتمل أنه صدق في القذف بأن كان المقذوف زانيا، ولهذا كان حد القذف أحق من
الجميع، وتأخير حد السرقة لما أنه شرع لصيانة الأموال، والمال تبع.
م: (ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة) ش: أي والحال أن ريح الخمر موجودة
في فيه م: (أو جاءوا به سكران) ش: أي جاءوا به إلى مجلس القاضي حال كونه
سكران م: (فشهد الشهود عليه بذلك) ش: أي بشرب الخمر م: (فعليه الحد، وكذا
إذا أقر) ش: أن يشرب الخمر م: (وريحها موجودة) ش: أي والحال أن ريحها
موجودة في فيه، ذكره حين الريح بالتأنيث. لأن الريح من الأسماء المذكرة
السماعية م: (لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد) ش: أي والحال أن
العهد لم يتقادم في الحدود إلا في حد القذف مانع عن قبول الشهادة بالاتفاق
على ما يأتي الآن.
م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الباب م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م:
«ومن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه» هذا الحديث رواه جماعة من
الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-، أخرج حديثه أصحاب السنن إلا الترمذي عن أبي سلمة عنه قال: قال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر
فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه» ، ورواه ابن حبان -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه "، وقال معناه إذا استحل ولم يقبل التحريم،
ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وعن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجوه إلا النسائي عن أبي صالح عنه
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر
فاجلدوه» . الحديث. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه
أبو داود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه،
وقال في الخامسة «إن شربها فاقتلوه» ،
(6/349)
فإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحد، وكذلك إذا شهدوا عليه بعدما ذهب ريحها عند أبي
حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد،
فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق، غير أنه مقدر بزمان عنده اعتبارا بحد
الزنا، وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان، والرائحة قد تكون من غيره كما
قيل شعر:
يقولون لي إنكه شربت مدامة ... فقلت لهم لا, بل أكلت السفرجلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن قبيصة ابن ذؤيب أخرج حديثه أبو داواد عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن
عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب
فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة» وفي
صحبة قبيصة خلاف.
وعن جابر أخرج حديثه النسائي مرفوعا: «من شرب الخمر فاجلدوه» . إلى آخره
وعن عبد الله بن عمر وأخرج حديثه الحاكم في المستدرك مرفوعا نحوه. وعن جرير
أخرج حديثه الحاكم أيضا مرفوعا نحوه. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في " معجمه ".
[أقر بعد ذهاب رائحة الخمرهل يحد]
م: (فإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ -. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد) ش: وبه قالت الثلاثة م:
(وكذلك إذا شهدوا عليه بعدما ذهب ريحها عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد
- رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد، فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق، غير أنه
مقدر بالزمان عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (اعتبارا بحد
الزنا) ش: فقدر بشهر؛ لأن ما دونه قريب. م: (وهذا) ش: بمعنى تقدير الزمان
م: (لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان) ش: ولا بد من تقدير زمان، أما إن ذلك
بستة أشهر أو شهر واحد، فعلم في موضع آخر.
م: (والرائحة قد تكون من غيره) ش: أي من غير شرب الخمر؛ م: كما قيل شعر:
يقولون لي إنكه شربت مدامة ... فقلت لهم لا, بل أكلت السفرجلا
(6/350)
وعندهما يقدر بزوال الرائحة، لقول ابن
مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: يروى الثبت بكلمة قد شربت، وهي رواية المطرزي في " المغرب "، وبدونها
وهي رواية الفقهاء، فعلى الأول تسقط همزة الوصل من إنكه في اللفظ، وعن
الثاني تحرك بالكسر بضرورة الشعر، ولا تسقط. ويجوز تحريك همزة الوصل في
الجود والإنصاب.
قوله إنكه بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الكاف وسكون الهاء، هو أمر من نكه
ينكه بأمره بأن ينكه ليعلم أنه شارب هو أو غير شارب، وأصله من النكهة، وهي
ريح الفم، ونكهته إذا قسمت شممت يحد.
قال الجوهري: واستنكه الرجل نكهة في وجهين نكه ينكه نكها إذا أمره أن ينكه
ليعلم أنه شارب أو غير شارب، وكلامه يدل على أنه يأتي من باب منع يمنع، ومن
باب ضرب، وهو يتعدى ولا يتعدى، والمدامة اسم من أسماء الخمر. وقال
الأترازي: والمدامة بمعنى المدام، وهو الخمر.
قلت: لا يحتاج أن يقال بمعنى الخمر؛ لأن كليهما من أسماء الخمر.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله م: (يقدر) ش:
أي التقادم م: (بزوال الرائحة لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فيه، فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه) ش: هذا عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - غريب بهذا اللفظ.
وروى عبد الرزاق في " مصنفه " ففعلوا ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر
بثمرته فدقت بين حجرين حتى صارت درة، ثم قال: للجلاد اجلد وارفع يدك وأعط
كل عضو حقه.
وعن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتى بسكران قال:
ترتروه واستنكهوه ومزمزوه، ففعلوا ثم عاد به من العدو ودعا بسوط ثم أمر
بخرقة فدقت بين حجرين حتى صارت درة، ثم قال للجلاد: اجلد وارفع يدك وأعط كل
عضو حقه.
قوله: ترتروه أمر من الترترة بتاءين مثناتين من فوق، وهي التحريك، وكذلك
مزمزوه أمر من المزمزة بزاءين معجمتين، قال: صاحب " المغرب " الترترة
التثلثة، والمزمزة التحريك الشديد. قوله استنكهوه، أمر من الاستنكاه، وهو
طلب النكهة، وهي رائحة الفم، وقد مر الكلام فيه آنفا.
وقال أبو عبيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنكر بعض أهل العلم هذا الحديث؛ لأن
الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا بها الرد والإعراض، وعدم التقصي
احتمال للدرء كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(6/351)
ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة على القرب،
وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح
ممكن للمستدل، وإنما يشتبه على الجهال، وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند
محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهما لا
يقام الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حتى أقر ماعز، فكيف يأمر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالتثلثة
والترترة والاستنكاه، حتى يظهر سكره، فلو صح فتأويله أنه جاء رجل مولع
بالشرب مدمن، فاستجازه كذلك، انتهى.
قلت: ليس في حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي به وهو مقر
حتى يضعف هذا بذاك، وإنما أتى به وهو سكران، فقال: ترتروه إلى آخره ليعلم
أنه سكران أم لا؟.
م: (ولأن قيام الأثر) ش: أي أثر الخمر م: (من أقوى دلالة على القرب) ش: أي
على قرب العهد م: (وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره) ش: أي
اعتبار الأثر م: (والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل) ش: هذا جواب عن قوله
والرائحة قد تكون من غيره م: (وإنما يشتبه) ش: أي الأثر م: (على الجهال) ش:
بضم الجيم وتشديد الهاء جمع جاهل، وأراد بالجهال الذين لا يميزون الروائح
م: (وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد كما في حد الزنا على ما مر
تقريره) ش: أن الإنسان لا يكون متهما بالنسبة إلى نفسه.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله م: (لا يقام
الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة، ولا إجماع
إلا برأي ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو وقد شرط) ش: أي ابن
مسعود م: (قيام الرائحة على ما روينا) ش: بمعنى قوله فإن وجدتم رائحة الخمر
فاجلدوه. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيه نظر؛ لأن الإجماع عقد على
ثبوت حد الشرب باتفاق ابن مسعود. ولكن لا دليل على أن الشرط الذي شرطه ابن
مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو قيام الرائحة أجمع عليه الباقون.
وأيضا كلام ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرطية، والشرطية الوجود
تقيد الوجود عند الوجود لا غير.
وجواب الإمام فخر الإسلام: بأن العدم عند العدم ليس من مفهوم الشرط، بل
انتفاء الجمع عليه مدفوع بما ذكرنا أولا. وأيضا ذكر في أول الباب أنه ثابت
بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من شرب الخمر فاجلدوه، انتهى
كلامه.
قلت: قوله ولا كذلك لا دليل على مجرد النفي، وهو لا ينافي الضمان الدليل
قوله يقيد الوجوب عند الوجود لا غير، يعني لا يوجب العدم عند عدمه، فلهذا
يجب الحد عند وجود
(6/352)
فإن أخذها الشهود وريحها يوجد منه أو هو
سكران، فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به
حد في قولهم جميعا؛ لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا والشاهد لا يتهم
به في مثله.
ومن سكر من النبيذ حد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرائحة، ولا ينعدم عند عدمها.
قلت: عدم الحكم عند عدم الرائحة، باعتبار أن عدم الشرط أوجب عدم الحكم، بل
لعدم الإجماع على الحد على ذلك التقدير؛ لأن إجماعهم لا يصح بدون رأي ابن
مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو لم ير الحد عند انقطاع الرائحة.
فإن قلت: إن لم يوجد الإجماع فقد وجد النص، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «من شرب الخمر فاجلدوه» وليس فيه اشتراط الرائحة.
قلت: قد خص منه الشرب اضطرارا أو إكراها، فتمكنت الشبهة، فلا يصح إيجاب
الحرية قوله وهما متنافيين.
قلت: الحديث من قبل الآحاد، ولمثله لا يثبت الحد، والإجماع حجة قطعية،
فيثبت به.
م: (فإن أخذه الشهود وريحها يوجد منه، أو هو سكران فذهبوا به من مصر إلى
مصر فيه الإمام، فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به) ش: بهذا السكران، أي انقطع
ريح الخمر قبل أن يشهد بهذا السكران إلى الإمام م: (حد في قولهم) ش: أي قول
أئمتنا الثلاثة م: (جميعا) ش: يعني بلا خلاف بينهم؛ لأن زوال الرائحة
بالعذر لا يضر، وفي " المحيط " كما لو زالت الرائحة بالمعالجة، والأصل فيه
قوما شهدوا عند عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على عقبة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - بشرب الخمر وهو كان بالكوفة، فحمله عثمان إلى المدينة وأقام عليه
الحد: م: (لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا، والشاهد لا يتهم به في
مثله) ش: يعني في صورة زوال الرائحة بالعذر.
[من سكر من النبيذ]
م: (ومن سكر من النبيذ حد) ش: النبيذ على وزن فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي
يعمل من الأشربة من التمر والنبيذ والعسل والحنطة والشعير والذرة والأرز،
ونحو ذلك من نبذت التمر إذا ألقيت على غلبته الماء لتخرج على حلاوته البتة.
وسواء كان مسكرا أو غير مسكر، فإنه يقال له نبيذ، ويقال للمعتصر من العنب
نبيذ الماء، يقال للنبيذ خمر وما يتخذ من الزبيب شيئان نقيع ونبيذ، فالنقيع
أن ينقع الزبيب في الماء ويترك أياما لتخرج حلاوته إلى الماء، ثم يطبخ أدنى
طبخة، فما دام حلوا يحل شربه، وإذا غلا واشتد وقذف بالزبد يحرم.
وأما النبيذ فهي التي من ماء الزبيب إذا طبخ أدنى طبخة يحل به مادام حلوا،
وإذا غلا واشتد وقذف الزبد عليه على قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله
الآخر يحل شربه ما
(6/353)
لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أقام الحد على أعرابي سكر من النبيذ، وسنبين الكلام في حد السكر ومقدار حده
المستحق عليه إن شاء الله تعالى،
ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها؛ لأن الرائحة محتملة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون السكر.
وعند محمد والشافعي - رحمهما الله لا يحل وما يتخذ من التمر ثلاثة السكر
والنضيخ والنبيذ، فالنبيذ هو ماء التمر إذا طبخ أدنى طبخة يحل شربه في
قولهم ما دام حلوا وإذا غلا واشتد وقذف بالزبد، عن أبي حنيفة وأبي يوسف يحل
شربه للتداوي والتقوي إلا المعدي السكر. وقال محمد والشافعي - رحمهما الله
لا يحل. وإنما قال: ومن سكر من النبيذ قيد بالسكر فيه؛ لأنه شرط بخلاف
الخمر.
فإنه يجب بشرب قطرة منها بدون السكر بالإجماع، والحد في غير الخمر لا يجب
إلا بالسكر، وبه قال النخعي وأبو وائل.
وقال مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يحل في قليله وكثيره كالخمر والسكر ليس بشرب إذا
كان هو المسكر.
م: (لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام الحد على أعرابي سكر من
النبيذ) ش: هذا أخرجه الدارقطني في " سننه " عن سعيد بن ذي لعوة أن أعرابيا
شرب من إداوة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نبيذا فسكر فضربه عمر الحد،
قال الدارقطني: هذا لا يثبت، ورواه العقيلي في كتابه وزاد فيه: فقال
الأعرابي: إنما شربته من إداوتك، فقال عمر: إنما جلدناك على السكر، وأعله
بسعيد بن ذي لعوة وهو مجهول.
قال: وأسند تضعيفه عن البخاري، وقال في " التنقيح ": سعيد هذا مجهول.
فإن قلت: قوله حد غير معلوم ما هو من حيث الكمية.
قلت: وعد بيانه بقوله م: (وسنبين الكلام في حد السكر ومقدار حده المستحق
عليه إن شاء الله تعالى) ش: ويأتي بيانه في هذا الباب عن قريب.
[من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها]
م: (ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها) ش: أي تقيأ الخمر م:
(لأن الرائحة) ش: قال الأترازي: يرد عليه تعليله هذا إشكال؛ لأنه قال قبل
هذا والتمييز بين الروائح ممكن للمستدلة قطع الإجماع أن الاحتمال هنا سكر.
ثم قال: وتكلف بعضهم في توجيه ذلك، فقال الاحتمال في نفس الروائح قبل
الاستدلال والاحتمال، كمن لم يعاينه والتمييز بعد الاستدلال على وجه
الاستقصار.
(6/354)
وكذا الشرب قد يقع عن إكراه واضطرار. فلا
يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا؛ لأن السكر من المباح
لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أيضا: والتمييز ممكن لمن عاين الشرب والإكمال لمن لم يعاينه، وفيه
نظر؛ لأن من عاين الشرب بنى الأمر على عيان وتعين لا على استدلال ويجيء.
وتخمين صاحب " الهداية " ثبت التمييز في صورة الاستدلال لا صورة العيان،
فقد وقع. إذ كلام هذا الشارح عن [....] ، انتهى.
قلت: أراد بقوله وتكلف بعضهم فإنه كذا ذكره في شرحه والأكمل أيضا أخذ كلامه
هذا، وذكره في شرحه وذكر الجوابين واستحسن الجواب الثاني. وقال في وجه حسنه
لاشتماله على تغير تفسير المستدل.
فإنه يدل على أن المستدل هو من معه دليل، وهو معاينة الشرب، والجاهل هو من
ليس معه ذلك، ثم قال: ويجوز أن يكون قوله لأن الرائحة م: (محتملة) ش: على
مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وكذا الشرب قد يقع عن إكراه واضطرار) ش: على قولهما، فلا يلزم بشيء،
وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجة أيضا، فإنه لم يحده بوجود
الرائحة، ولا يثبت بمثله الحد كالبنج ولبن الرماك، وبه قالت الثلاثة.
وفي " النهاية " وهو مخالف لما ذكر الإمام المحبوبي في " جامعه "، وعن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من زال عقله بالبنج إن علم أنه بنج فحينئذ
لا يقع طلاقه وعتاقه، وإن لم يعلم يقع، ثم قال: والسكر من هذه الأشربة،
وأشار إلى الأشربة المتخذة من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة والشهد والعسل
والفرصاد وغيرهما حرام بالإجماع؛ لأن السكر من البنج حرام لأنه مأكول غير
مشروب، فمن المشروب أول بعض المشايخ، قالوا في زماننا الفتوى على ما إذا
سكر من البنج يقع طلاقه ويحد [....] لغو هذا الفصل فيما بين الناس.
م: (فلا يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا؛ لأن السكر من
المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك) ش: هذا مخالف لما ذكره المحبوب من
قوله؛ لأن السكر من البنج حرام مع أنه مأكول غير مشروب، وقد ذكرناه الآن
بما فيه الكفاية.
وقال الأكمل: هذا ليس بصحيح؛ لأن رواية المحبوبي تدل على أن السكر الحاصل
من البنج حرام لا على أن البنج حرام. وكلام المصنف يدل على أن البنج مباح،
ولا يأتي بينهما، انتهى.
قلت: فيما قاله تقوية لمن يولع بالبنج، وفيه من الفساد مالا يخفى. وقال في
أشربته
(6/355)
وكذا شرب المكره لا يوجب الحد ولا يحد حتى
يزول عنه السكر تحصيلا لمقصود الانزجار،
وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطا لإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - يفرق على بدنه، كما في حد الزنا على ما مر، ثم يجرد في المشهور
من الرواية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخاصة وشرب البنج للتدواي، ولا بأس به فإن ذهبت بعقله لم يحل، وإن سكر منه
لم يحد عندهما، خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: ينبغي اليوم أن يفتى بقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قطعا لمادة
الفساد.
م:
[الإكراه يدرأ الحد]
(وكذا شرب المكره شرب المكره لا يوجب الحد) ش: لعدم اختياره م: (ولا يحد
حتى يزول عنه السكر تحصيلا لمقصود الانزجار) . ش: لأنه إذا حد في حال السكر
لا يجيء بألم الحد، حتى يؤيده ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه
جلس سكران إلى حين يصح، فلما صح حده وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطا) ش: أي حد الخمر كيف ما شربها
قليلا كان أو كثيرا بعد أن كان عن طوع سكر أو لم ينكر بسكر، ولو شرب قطرة
وحد السكر بضم السين، وفي غير الخمر ثمانون سوطا، والحد في الخمر غير موقوف
على السكر بالإجماع، وفي غيرها من السكران موقوف على السكر عندنا، خلافا
للأئمة الثلاثة على ما يجيء في الأشربة إن شاء الله تعالى م: (لإجماع
الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي على الثمانين.
وروى البخاري في " صحيحه " من حديث السائب بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- وقال: كنا نؤتي بالشارب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وإمرة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصدرا من خلافة عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر
إمرة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجلد أربعين، حتى إذ عتو وسقوا جلد
ثمانين ولا ينكر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد ثمانين بحضرة رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكر عليه أحد منهم فحمل
الإجماع.
به قال مالك وأحمد - رحمهما الله في رواية واختارهم ابن المنذر - رَحِمَهُ
اللَّهُ -. وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله في رواية أربعون، فلو ضرب
قريبا من ذلك بأطراف الثياب والنعال. كفى على أصح الوجهين عنه ولو رأى
الإمام أن يجلده ثمانين جاز على الظهر.
م: (يفرق على بدنه) ش: أي يفرق الثمانون على بدنه م: (كما في حد الزنا على
ما مر) ش: في فصل كيفية الحد م: (ثم يجرد في المشهور من الرواية) ش: أي ثم
يجرد المحدود عن ثيابه في جميع الحدود والتعزير إلا الإزار احترازا عن كشف
العورة إلا حد القذف، فإنه يضرب، وعليه ثيابه إلا الحشو والفرو، فإن ذلك
ينزع، وسيجيء بيانه في بابه إن شاء الله تعالى.
(6/356)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجرد
إظهارا للتخفيف؛ لأنه لم يرد به نص، ووجه المشهور أنا أظهرنا التخفيف مرة،
فلا يعتبر ثانيا،
وإن كان عبدا فحده أربعون سوطا؛ لأن الرق منصف على ما عرف ومن أقر بشرب
الخمر والسكر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف؛ لأنه لم
يرد به نص) ش: أي لعدم ورود النص بذلك. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ
-: وقال بعضهم في شرحه، أي نص قاطع فيه نظر؛ لأنه لا حاجة إلى التقييد
بالقطع؛ لأنه لم يرد بالتحرير نص أصلا في كتب الحديث.
قلت: أراد بقوله قال بعضهم الكاكي فإنه قال: لم يثبت بالنص؛ لأنه لم يرد به
النص القاطع، كذا قيل، وهو أيضا به إلى غيره، وأما الأكمل فإنه قال: يرد به
نص، أي بالحد نص قاطع أو بالتجريد نص، وبقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قالت الثلاثة.
م: (وجه المشهور) ش: أي من الرواية م: (أنا أظهرنا التخفيف مرة) ش: يعني من
حيث العد، حيث لم يجعله مائة كما في الزنا م: (فلا يعتبر ثانيا) ش: من حيث
الصفة بترك التجريد. وقال الأكمل فيه بحث من وجهين الأول أنه ليس لأحد
المجتهدين التصرف في المقدرات الشرعية، والثاني أن الثمانين تغليظ لا
تخفيف؛ لأنه روي أنهم ضربوا في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالأكمام وبالأيدي وغير ذلك، ثم جلد أربعين، فالتقدير بعد ذلك
تغليظ لا تخفيف.
والجواب أن قوله إنا أظهرنا للتخفيف، هذا كلام عن السلف المجتمعين،
والتخفيف إنما هو باعتبار أن الله تعالى جاز له أن يقدر حد الشرب مائة كحد
الزنا، إذ هو الفاعل المختار، وحيث لم ينص على مقدار معين كان تخفيفا منه،
ولما جعله الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بحد من أظهر التخفيف، فلم
يقدروا، انتهى.
وأما من أظهر التخفيف الذي كان ثانيا بترك التنصيص، وإليه أشار بقوله درءا
لطائفة.
[حد العبد]
م: (وإن كان) ش: أي المحدود م: (عبدا فحده أربعون سوطا؛ لأن الرق) ش:
أظهرنا التخفيف [ ... ] درءا لطائفة، وإن كان م: (أي المحدود التخفيف) ش:
عبد يحده أربعون؛ لأن الرق م: (منصف على ما عرف) ش: في فصل كيفية الحد
وإقامته. وقال الأترازي: على ما عرف، أي في أصول الفقه م: (ومن أقر بشرب
الخمر والسكر) ش: بفتحتين هو بنقع التمر إذا غلا ولم يطبخ، كذا فسره
الناطفي في " الأجناس " وقال في الخمر السكر كل شراب أسكر. وقال في " ديوان
الأدب ": السكر خمر النبيذ. وقال في " المجمل " السكر شراب. وقال في "
المغرب " السكر عصير الرطب، والمراد هنا ما ذكر الناطفي، وإنما خصه بالذكر
مع أن الحكم سائر الأشربة كذلك، حيث يصح رجوعه؛ لأن السكر كان الغالب في
بلادهم. قال الأترازي: ولا يروى السكر بضم السين؛ لأن شرب الخمر محال،
اللهم إلا إذا قيل إنه معطوف على الشرب لا على الخمر، على أن معنى أقر بشرب
الخمر أو أقر بالسكر فذلك صحيح من حيث العربية، لكن إلا
(6/357)
ثم رجع لم يحد؛ لأنه خالص حق الله تعالى،
ويثبت الشرب بشهادة شاهدين، ويثبت بالإقرار مرة واحدة. وعن أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يشترط الإقرار مرتين، وهو نظير الاختلاف في السرقة،
وسنبينها هناك إن شاء الله تعالى.
م: ولا يقبل فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأن فيها شبهة البدلية وتهمة
الضلال والنسيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السماع لم يقع إلا على الأول ولكن الإقرار بالسكر لا يخلو إما أن يكون بعد
زوال السكر، أو حال السكر، فالأول لا يجوز للتقادم. والثاني أيضا لا يجوز؛
لأن السكر لا يحل يحد بإقرار وهي مسألة آخر الكتاب. ورأيت في نسخة العلامة
البرهاني - رَحِمَهُ اللَّهُ - بفتحتين. وكتب نسخة بخط شيخي وكتب على
الحاشية، والرواية الصحيحة في الكتب السكر بفتح السين. ويروى بضم السين، ثم
قال هكذا أفادني شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ثم رجع لا يحد؛ لأنه خالص حق الله تعالى) ش: لأنه لا يكذب له في
الرجوع، وهو خالص حق الله تعالى، فصار كالرجوع في الإقرار بالزنا م: (ويثبت
الشرب بشهادة شاهدين، ويثبت بالإقرار مرة واحدة) ش: وهذا قول أبي حنيفة
ومحمد وعامة أهل العلم.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ
- م: (أنه يشترط الإقرار مرتين) ش: في مجلسين اعتبارا لعدم الإقرار بعد
المشهود م: (وهو نظير الاختلاف في السرقة، وسنبينها هناك إن شاء الله
تعالى) ش: أي سنبين هذه المسألة في السرقة إن شاء الله تعالى
[شهادة النساء في حد الشرب]
(ولا يقبل فيه) ش: أي في حد الشرب م: (شهادة النساء مع الرجال) ش: ولا نعلم
فيه خلافا.
م: (لأن فيها) ش: أي في شهادة النساء مع الرجال م: (شبهة البدلية وتهمة
الضلال والنسيان) ش: ذكر هذه الأشياء الثلاثة إشارة إلى ما في قَوْله
تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]
(البقرة الآية 282) إلى قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
[البقرة: 282] ، من رجالكم أي من أهل ملتكم.
أما شبهة البدلية، فلأن الله تعالى أثبت شهادتين مع الرجال عند عدم محض
الرجال وما يكون عند عدم شيء آخر يكون كالبدل عنه، كما في التيمم والوضوء
والماء.
قال: شبهة البدلية دون حقيقة البدلية؛ لأن شهادة النساء في المواضع التي
جازت شهادتين يجوز من غير ضرورة العجز عن إشهاد الرجال، بخلاف سائر
الأبدال. وأما تهمة الضلال فلأن الله تعالى قال: {أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] (البقرة الآية 282) أي: أن لا تصدق إحداهما
فتذكر إحداهما الأخرى، أن لا تهتدي إحداهما للشهادة، ومن ضل الطريق إذا لم
يهتد إليه، فتذكر الأخرى. وأما النسيان فيؤخذ من تذكير إحداهما الأخرى.
وفي التفسير: " الضلال ": النسيان، فالمعنى على هذا من أضل، أي تضل إحداهما
الشهادة، أي تنسى فتذكرها الأخرى، فعلى هذا يكون قوله: والنسيان بالعطف على
الضلال عطف تفسير، كذا قاله شيخي العلامة.
(6/358)
والسكران الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا
لا قليلا ولا كثيرا، ولا يعقل الرجل من المرأة، وقال العبد الضعيف: وهذا
عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: هو الذي يهذي ويختلط كلامه؛
لأنه هو السكران في العرف، وإليه مال أكثر المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإذا كان كذلك صارت البدلية والنسيان شبهة، فلم يسمع شهادتين في باب
الحدود؛ لأنها تندرئ بالشبهات كالشهادة لا تسمع في باب الحدود، يؤيده ما
روي عن الزهري أنه قال: مضت السنة من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في باب الحدود
والقصاص.
[صفة السكران الذي يحد]
م: (والسكران الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا) ش: قال الجوهري: المنطق
الكلام، وقد نطق منطقا وأنطقه غيره م: (لا قليلا ولا كثيرا) ش: أي: لا
منطقا قليلا ولا منطقا كثيرا م: (ولا يعقل الرجل من المرأة) ش: وفي الفوائد
الظهيرية: ولا يعرف الأرض من السماء.
م: (وقال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا) ش: أي
المذكور في حد السكران م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما
بين الخلاف بقوله لأن المذكور أولا من مسائل " الجامع الصغير " ولم يذكر
فيه الخلاف.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (هو) ش: أي
السكران م: (الذي يهذي) ش: بفتح الياء وسكون الهاء وكسر الذال المعجمة. قال
الجوهري: هذا في منطقه يهذي ويهذو هذوا وهذيا. قلت: الهذيان كلام محيط
مختلط من غير أن يفيد شيئا م: (ويخلط كلامه) ش: يصلح أن يكون تفسيرا مميزا
لقوله: يهذي م: (لأنه) ش: أي لأن الهذي يهذي ويخلط كلامه م: (هو السكران في
العرف) ش: أي في عرف الناس وعادتهم، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك وأبو ثور
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وإن كان نصف كلامه هذيانا، ونصفه مستقيما فليس
بسكران م: (وإليه) ش: أي إلى قولهما م: (مال أكثر المشايخ - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ -) ش: كذا في " المبسوط " واختاره للفتوى.
وعن بشر بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سألت أبا يوسف: من السكران
الذي عليه الحد؟ قال: يستقرأ أن يقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
[الكافرون: 1] ولا يقدر عليه.
فقلت له: غير هذه السورة، وربما أخطأ فيه الصاحي، قال: لأن الله تعالى بين
الذي عجز عن قراءة هذه السورة سكران؛ لأن واحد من الصحابة صلى بالناس قبل
تحريم الخمر وكان سكران، وقرأ هذه السورة، بخلاف ما أنزلت، فنزل قَوْله
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ، فثبت أنه إذا عجز
عن قراءة هذه السورة عرف أنه سكران.
كذا ذكره الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يدل عليه ما حدثه الترمذي
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في " جامعه " بإسناده إلى [أبي سلمة بن] عبد الرحمن
السلمي «عن علي بن أبي طالب رضي الله
(6/359)
وله أنه يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها درءا
للحد، ونهاية السكر أن يغلب السرور على العقل فيسلبه التمييز بين شيء وشيء
وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو، والمعتبر في القدح المسكر في حق الحرمة
ما قالاه بالإجماع أخذا بالاحتياط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طعاما،
فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] {لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] ونحن نعبد ما تعبدون. قال فأنزل الله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] » (النساء:
الآية43) .
وقال الكاكي: وحكي أن أئمة بلخ اتفقوا على استقراء هذه السورة، ثم إن بعض
الشرطة أتى بسكران إلى أمير بلخ، فأمر الأمير أن يقرأ هذه السورة، فقال
السكران له: اقرأ أنت سورة الفاتحة، فلما قال الأمير: الحمد لله، قال
السكران: قف أخطأت من وجهين.
أحدهما: أنك تركت التعوذ عند افتتاح القراءة.
والثاني: تركت التسمية وهي آية من أول الفاتحة عند بعض الأئمة والقراء،
فخجل الأمير وجعل يضرب الشرطي ويقول له: أمرتك أن تأتيني بسكران فأتيتني
بمقرئ بلخ.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها درءا
للحد) ش: أي دفعا له، ألا ترى أن في الزنا يعتبر المخالطة كالميل في
المكحلة، وفي السرقة يعتبر الأخذ من الحرز التام فكذا هنا اعتبر أقصى غايات
السكر، وهو أن يبلغ مبلغا لا يعرف الأرض من السماء والرجل من المرأة.
وإذا لم يبلغ هذا المبلغ في غير الخمر من سائر الأشربة المحرمة لا يحد؛ لأن
السكر تناقص في النقصان شبهة العدم، بخلاف الخمر حيث لم يشترط فيها السكر
أصلا؛ لأن حرمتها غليظة قطعية؛ لأنها اجتهادية.
م: (ونهاية السكر أن يغلب السرور على العقل، فيسلبه التمييز بين شيء وشيء
وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو) ش: يعني إذا كان يميز بين الأشياء،
عرفنا أنه مستعمل لعقله مع غاية من السرور، فلا يكون ذلك نهاية في السرور
وفي النقصان شبهة العدم، والحدود تندرئ بالشبهات بالزمان.
م: (والمعتبر في القدح المسكر) ش: يعني في الأشربة المحرمة غير الخمر
المعتبر في القدح الذي يحصل به السكر م: (في حق الحرمة ما قالاه) ش: أي قال
أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - هو الذي يهذي ويخلط كلامه.
حاصل الكلام المبلغ في السكر هو الذي قالاه، وأشار بقوله م: (بالإجماع
أخذا) ش: أي أن
(6/360)
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر ظهور
أثره في مشيته وحركاته وأطرافه وهذا مما يتفاوت، فلا معنى لاعتباره، ولا
يحد السكران بإقراره على نفسه لزيادة احتمال الكذب في إقراره، فيحتال
لدرئه؛ لأنه خالص حق الله تعالى، بخلاف حد القذف؛ لأن فيه حق العبد،
والسكران فيه كالصاحي عقوبة عليه، كما في سائر تصرفاته، ولو ارتد السكران
لا تبين منه امرأته؛ لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق مع السكر، وهذا
قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله وفي ظاهر الرواية تكون ردة، والله أعلم
بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبا حنيفة درأ الحد م: (بالاحتياط) ش: فاعتبر في إيجاب الحد النهاية، إذ
الاحتياط في الدرء واعتبر في حق الشرب ما قالاه؛ لأن الاحتياط فيه م:
(والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر) ش: يعني السكر م: (ظهور أثره) ش: أي
أثر المسكر م: (في مشيته) ش: بكسر الميم م: (وحركته وأطرافه) ش: أي في يديه
ورجليه. وقال الأترازي وصاحب " الهداية " في هذا الكلام فخر الإسلام
البزدوي قال في شرح " الجامع الصغير " إذا ظهر أثره في مشيته وأطرافه
وحركاته فهو السكران. ولنا فيه نظر؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوجب
الحد في شرب النبيذ المسكر به جنسه، وإن قيل: وهو المذكور في كتبهم، ولا
يعتبر السكر أصلا.
م: (وهذا) ش: أي الذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (مما يتفاوت) ش:
لأن كم من صاح يتمايل ويلزق في مشيته، وكم من سكران ثابت في مشيته ولا
يتمايل م: (فلا معنى لاعتباره) ش: أي لاعتبار ما قاله؛ لأنه لا يكون دليلا
م: (ولا يحد السكران بإقراره على نفسه) ش: يعني بالحدود الخالصة حقا له
تعالى، نحو حد الزنا والشرب والسرقة م: (لزيادة احتمال الكذب في إقراره) ش:
لأن الإقرار خبر محتمل الكذب. فإذا صدر من سكران فهذا زيادة احتمال كذبه،
فإذا كان كذلك م: (فيحتال لدرئه) ش: لأن الحدود يحتال لدرئها لا لإثباتها
م: (لأنه خالص حق الله تعالى) ش: إلا أنه يضمن المروق؛ لأنه حق العبد.
م: (بخلاف حد القذف؛ لأن فيه حق العبد) ش: إلا أنه يحد حد القذف إذا صح م:
(والسكران فيه) ش: أي في حق العبد م: (كالصاحي عقوبة عليه، كما في سائر
تصرفاته) ش: كالقصاص أقر على نفسه أو بطلاق أو بعتاق صح إقراره.
م: (ولو ارتد السكران لا تبين منه امرأته) ش: في الاستحسان وفي القياس تبين
كذا في " المبسوط " م: (لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق) ش: الاعتقاد
م: (مع السكر، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله، وفي ظاهر الرواية:
تكون ردة) ش: لأن كلامه هذا هذيان لا إقرار له والله أعلم بالصواب.
(6/361)
|