البناية شرح الهداية

كتاب السير السير: جمع سيرة، وهي الطريقة في الأمور، وفي الشرع تختص بسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مغازيه. قال: الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين، أما الفرضية فلقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة} [التوبة: 36] (التوبة: الآية 36)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب السير]
م: (كتاب السير) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام م: (السير) ش: وهو م: (جمع سيرة) ش: على ما يذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهي الطريقة) ش: سمي بهذا الكتاب لما فيه من بيان سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والمسلمين، ويقال السيرة فعلة من السيرة، وقد يراد به السير الذي هو قطع المسافة.
وقد يراد به السير في المعاملات، وسميت المغازي سيراً لأن أول أمرها السير إلى العدو؛ لأن المراد بها سير الإمام إلى العدو، ومع الغزاة في المغز أصل السبق حالة السير، إلا أنها غلبت شرعاً على أمور المغازي كالمناسك على أمر الحج، والمغازي جمع غزاة من غزوت العدو وقصدته للقتال غزواً وغزوة وغزاة ومغزاة، وسمي كتاب الجهاد أيضاً لما فيه من بيان المجاهدة مع الأعداء لإعزاز الدين وهدم قواعد المشركين.
وفي " التحفة ": الجهاد شرعاً هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من لا يقبله.
فإن قلت: ما المناسبة بين الكتابين.
قلت: المناسبة بينهما في كون كل منهما إخلاء العالم عن المعاصي، وقدم الحدود لأنها أدنى، والترقي يكون من الأدنى إلى الأعلى، وقيل: قدم الحدود لأنها مقابلة مع المسلمين في الأغلب، والجهاد مع المشركين فقدم ما يخص المسلمين.
السير بكسر السين وفتح الياء جمع سيرة.
م: (في الأمور) ش: خيراً كانت أو شراً، ومنه سيرة العمرين، أي طريقتهما م: (وفي الشرع تختص بسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مغازيه) ش: وقد مر الكلام فيه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين) ش: إلى هنا كلام القدوري في مختصره، ثم شرع المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعبره بقوله م: (أما الفرضية فلقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] (التوبة: الآية 36) ش: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مأموراً في الابتداء بالصفح والإعراض عن المشركين، قال الله تعالى

(7/94)


ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» وأراد به فرضا باقيا، وهو فرض على الكفاية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] (الحجر: الآية 85) .
وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] الحجر: الآية 94) ، ثم أمر بالدعاء والموعظة والمجادلة بالطريق الأحسن.
قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (النحل: الآية 125) ثم أمر بالمجادلة إذا كانت البداية منهم.
فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] (الحج: الآية 39) ، أي أذن لهم بالدفع.
وقال: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] (البقرة: الآية 191) ، ثم أمر بالبداية بالقتال.
قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (التوبة: الآية 5) .
وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] ، (التوبة: الآية 5) .
ولقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (الأنفال: الآية 39) .
ولقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] (البقرة: الآية 216) .
معناه فرض عليكم القتال لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] (البقرة: الآية 183) .
ولقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] (التوبة: الآية 41) .
م: (ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود مطولا في سننه، حدثنا سعيد بن منصور قال أبو معاوية حدثنا جعفر بن برقان عن زيد بن أبي شيبة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله، ولا يكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان: بالأقدار» وقال المنذري في مختصره: زيد بن أبي شيبة في معنى المجهول، وقال عبد الحق: زيد بن أبي شيبة وهو رجل من بني سليم لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان.
م: (وأراد به فرضاً باقياً) ش: هذا تفسير من المصنف لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجهاد فرض ماض» يعني فرضاً دائماً إلى يوم القيامة، م: (وهو فرض على الكفاية) ش: أي الجهاد فرض كفاية.

(7/95)


لأنه ما فرض لعينه، إذ هو إفساد في نفسه، وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد، فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام، وإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه؛ لأن الوجوب على الكل، ولأن في انشغال الكل به قطع مادة الجهاد من الكراع والسلاح فيجب على الكفاية، إلا أن يكون النفير عاما فحينئذ يصير من فروض الأعيان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو بكر الرازي: في شرحه " مختصر الطحاوي ": الجهاد عند أصحابنا فرض على الكفاية مثل غسل الموتى والصلاة عليهم ودفنهم وطلب علم الدين والقيام به وتعليمه.
ويحكى عن ابن شبرمة والثوري أن الجهاد تطوع وليس بواجب. انتهى.
قلت: كذا روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سئل عطاء وعمرو بن دينار أن الغزو واجب، قالا: ما علمناه واجباً، وقالوا: قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] للندب كما في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] (البقرة: الآية 180) ، وعند أكثر أهل العلم فرض على الكفاية إلا ابن المسيب، فإنه قال فرض عين لعمومات في النصوص.
م: (لأنه) ش: أي لأن الجهاد م: (ما فرض لعينه إذ هو إفساد في نفسه) ش: لأنه تعذيب عباده وتخريب بلاده م: (وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد) ش: وإليه الإشارة في قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (الأنفال: الآية 39) م: (فإذا حصل المقصود بالبعض) ش: أي ببعض الناس، والمقصود هو الذي ذكره من إعزاز دين الله ودفع الشر عن عباد الله م: (سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام) ش: فإن البعض إذا قام بها سقط عن الباقين.
م: (وإن لم يقم به أحد) ش: أي بهذا الفرض الذي هو سمي فرض كفاية م: (أثم جميع الناس بتركه، لأن الوجوب على الكل) ش: أي كل الناس م: (ولأن في انشغال الكل به) ش: وفي بعض النسخ في اشتغال الكل به أي اشتغال كل الناس، أي بالجهاد م: (قطع مادة الجهاد من الكراع) ش: والمراد به الخيل هاهنا.
والكراع كراع الشاة والبقرة م: (والسلاح) ش: أي وقطع مادة الجهاد بالسلاح، فإذا انقطعت مادة الجهاد ينقطع الجهاد، فينبغي أن يقوم بعض الناس بالجهاد وبعض بتحصيل أسبابه من التجارة والزراعة والحرف التي يحصل بها آلات الجهاد، فإذا كان الأمر كذلك م: (فيجب على الكفاية) ش: حتى إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
م: (إلا أن يكون النفير عاماً) ش: استثناء من قوله فيجب على الكفاية، أي يجب الجهاد على الكفاية إلا إذا كان النفير عاماً بأن لا يندفع شر الكفارة إذا هجموا ببعض المسلمين م: (فحينئذ يصير من فروض الأعيان) ش: فيفترض على كل واحد.

(7/96)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انفروا خفافا وثقالا} [التوبة: 41] (التوبة: الآية 41) ،
وقال في " الجامع الصغير " الجهاد واجب إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم، فأول هذا الكلام على أن الجهاد يجب على الكفاية، وآخره إلى النفير العام، وهذا لأن المقصود عند ذلك لا يتحصل إلا بإقامة الكل فيفرض على الكل. وقتال الكفار واجب وإن لم يبدءوا للعمومات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيقاتل العبد بدون إذن سيده، والمرأة بدون إذن الزوج م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] (التوبة: الآية 41) ش: أي ركباناً ومشاة، وشباباً وشيوخاً، ومهازيل وسماناً، وصحاحاً ومراضاً، يقال: نفر إلى العدو ونفر أو نفير أي خرج، وقيل خراباً ومتأهلين، وقيل أغنياء وفقراء.
واعترض بأن الآية عامة فما وجه تخصيصه بالنفير العام، فكيف خص به، وأجيب: بأنها لو لم يختص بها لوقع الناس في حرج، ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يخرج مع كثير من أهل المدينة ولو كان فرض عين لم يدع أحداً منهم.

[حكم الجهاد]
م: (وقال في " الجامع الصغير ") ش: أي محمد: م: (الجهاد واجب، إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم، فأول هذا الكلام) ش: أي أول كلام محمد في آخر الكتاب في الجامع الصغير م: (على أن الجهاد يجب على الكفاية) ش: وأراد بأول الكلام قوله: الجهاد واجب، إلا أن المسلمين في سعة.
وذلك لأنه قال: إنهم في سعة، يعني يسع لبعضهم تركه إذا حصلت الكفاية بالآخرين م: (وآخره) ش: أي آخر كلامه أشار م: (إلى النفير العام) ش: لأنه قال: حتى يحتاج إليهم، يعني إذا احتيج إليهم في النفير العام يكون لهم سعة في ترك الجهاد حينئذ م: (وهذا) ش: إيضاح لما قبله من وجوب الجهاد على الكل عند النفير العام.
م: (لأن المقصود عند ذلك) ش: أي عند النفير العام م: (لا يتحصل إلا بإقامة الكل) ش: أي كل الناس، فإن كان كذلك م: (فيفرض) ش: أي الجهاد م: (على الكل) ش: أي على كل الناس.
م: (وقتال الكفار واجب وإن لم يبدؤوا) ش: يعني الكفار الذين امتنعوا عن قبول الإسلام وعن أداء الجزية يجب قتالهم وإن لم يبدؤونا بالقتال. وكذا يجوز قتالهم في الأشهر الحرم، وقال الثوري: لا يجوز قتالهم حتى يبدؤونا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وقال عطاء: لا يجوز في الأشهر الحرم م: (للعمومات) ش: أي للعمومات الواردة في ذلك من الآية والأخبار لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [النساء: 66] وقوله: وَقَاتِلُوا أي الكفار، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» .
فإن قيل: العمومات متعارضة فقوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] (البقرة: الآية 191)

(7/97)


ولا يجب الجهاد على الصبي؛ لأن الصبا مظنة المرحمة، ولا عبد ولا امرأة لتقدم حق المولى والزوج، ولا أعمى ولا مقعد ولا أقطع لعجزهم، فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع، تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى؛ لأنه صار فرض عين وملك اليمين ورق النكاح لا يظهر في حق فروض الأعيان كما في الصلاة والصوم، بخلاف ما قبل النفير، لأن بغيرهما مقنعا فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج. ويكره الجعل ما دام للمسلمين فيء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا يدل على أن قتالهم إنما يجب إذا بدؤونا بالقتال كما قاله الثوري، وأجيب: بأنه منسوخ بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] (الأنفال: الآية 39) ، وبقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] (التوبة: الآية 29) .

[الجهاد على الصبي]
م: (ولا يجب الجهاد على الصبي، لأن الصبا) ش: بكسر الصاد وفتح الباء م: (مظنة المرحمة) ش: قال ابن الأثير: المظنة بكسر الظاء موضع الشيء ومعدنه مفعلة من الظن بمعنى العلم، وكان القياس فتح الظاء، وإنما كسرت لأجل الهاء م: (ولا عبد) ش: أي ولا يجب على عبد م: (ولا امرأة لتقدم حق المولى والزوج ولا أعمى ولا مقعد ولا أقطع لعجزهم) ش: وهذا كله بإجماع الأربعة، وقال صاحب الديوان: المقعد الأعرج.
م: (فإن هجم العدو) ش: من قولهم هجمت على القوم إذا دخلت عليهم، وفي المغرب الهجوم الإتيان بغتة، والدخول من غير آن م: (على بلد وجب على جميع الناس الدفع، تخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد) ش: أي يخرج العبد م: (بغير إذن المولى، لأنه صار فرض عين) ش: على جميع الناس.
م: (وملك اليمين) ش: في العبد والجارية م: (ورق النكاح) ش: في الزوجة م: (لا يظهر في حق فروض الأعيان) ش: وأراد بذلك أن الفروض المعينة مقدمة على حق السيد والزوج م: (كما في الصلاة والصوم) ش: فإنها مقدمة على حقهما.
م: (بخلاف ما قبل النفير، لأن بغيرهما) ش: أي بغير العبد والمرأة م: (مقنعاً) ش: أي كفاية، وهاهنا حق السيد والزوج لعدم الاحتياج إليهما م: (فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج) ش: بغير ضرورة.
م: (ويكره الجعل) ش: بضم الجيم وسكون العين، وهو ما جعل من شيء للإنسان على شيء يفعله، والمراد هنا ما أخرجه الإمام للغزاة على الناس فيما يجعل به التقوي للخروج إلى الحرب م: (ما دام للمسلمين فيء) ش: اسم المال المصاب من الكفار بغير قتال كالخراج.
والجزية والغنيمة ما يصاب منهم بالقتل، يعني إذا كان في بيت المال، لأن بيت المال ما

(7/98)


لأنه يشبه الأجر، ولا ضرورة إليه، لأن بيت المال معد لنوائب المسلمين. فإذا لم يكن فلا بأس بأن يقوي بعضهم بعضا، لأن فيه دفع الضرر الأعلى بإلحاق الأدنى، يؤيده «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ دروعا من صفوان وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس القاعد» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتقوى به الناس للخروج إلى الغزاة يعطيهم الإمام من ذلك المال، لأن بيت المال معد لنوائب المسلمين، ويكره مع وجود ذلك الجعل الذي ذكرناه، لأن فيه شبهة الأجرة، وهو معنى قوله م: (لأنه يشبه الأجر) ش: لأن الجهاد حق الله تعالى، ولا يجوز أخذ الأجرة عليه، فإذا تمحض أجره كان حراماً، وإذا أشبهها كان مكروهاً، وهو إلى الحرام أقرب. م: (ولا ضرورة إليه) ش: أي إلى الجعل م: (لأن بيت المال معد لنوائب المسلمين) ش: والنوائب جمع نائبة، وهي ما ينصب الإنسان أي يترك به من المهمات والحوادث وقد نابه ينوبه نوباً.
م: (فإذا لم يكن) ش: في بيت المال شيء م: (فلا بأس أن يقوي بعضهم بعضا، لأن فيه) ش: أي فيما إذا قوى بعضهم بعضاً م: (دفع الضرر الأعلى) ش: وهو شر الكفرة م: (بإلحاق الأدنى) ش: أي الضرر الأدنى، والمعنى دفع الضرر العام بالنص والخاص مجمل م: (يؤيده) ش: أي يؤيد ذلك م: (أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ دروعاً من صفوان) ش: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي عن شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أبيه صفوان بن أمية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «استعار منه دروعاً يوم حنين، فقال: أغصبت يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة» .
م: (وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس القاعد) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة وإسناده إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولفظه: كان عمر يغزي العزب ويأخذ فرس المقيم ويعطيه للمسافر، وأخرجه ابن سعد في " الطبقات "، ولفظه كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويغزي الفارس عن الفارس القاعد. قوله: غزا من الإغزاء، يقال أغزى الأمير الجيش إذا بعثه إلى العدو، والأعزب الذي لا امرأة له، ووقع في بعض النسخ الأعزب بالألف واللام، ووقع في نسخة شيخنا العزب بدون الألف واللام، وهو الصحيح.
وقال في " المغرب ": رجل عزب بالتحريك لا زوجة له ولا يقال له أعزب وقال ابن الأثير أيضا: يقال: رجل عزب ولا يقال أعزب، وحليلة الرجل امرأته.
والشاخص: اسم فاعل من شخص من مكان على مكان إذا صار في ارتفاع، فإذا صار في حدود فهو حائط، كذا قاله ابن دريد، وشخص الرجل ببصره إذا أحد النظر رافعاً طرفه إلى السماء، ولا يكون الشاخص إلا كذلك، والمراد هنا الأول أعني الذي يذهب إلى العدو.

(7/99)


باب كيفية القتال وإذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصنا دعوهم إلى الإسلام لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام» فإن أجابوا كفوا عن قتالهم؛ لحصول المقصود، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله ... » الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب كيفية القتال]
م: (باب كيفية القتال)
ش: أي هذا باب في بيان كيفية القتال، لما فرغ من بيان فرضية القتال وشرائطه، شرع في بيان كيفيته. م: (وإذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصناً) ش: يقال حاصروا العدو إذا أحاط به وضيق عليه، والمدينة هي البلدة العظيمة من مدن بالمكان إذا أقام به، فعلى هذا هي فعيلة، وقيل مفعلة من قولهم دنيت أي ملكت ولاية يقال لها مدينة، ذكره في " الجمهرة "، والحصن معروف.
وقال الكاكي: والحصن بالكسر كل مكان مجمر محرز لا يتوصل إلى ما في جوفه، فالمدينة أكبر من الحصن م: (دعوهم إلى الإسلام لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قاتل قوماً حتى دعاهم إلى الإسلام» ش: هذا الحديث رواه عبد الرزاق في " مصنفه "، حدثنا سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس قال: «ما قاتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوماً حتى دعاهم» ورواه الحاكم في " مستدركه " وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه أحمد أيضاً في " مسنده " والطبراني في " معجمه "، وفي هذا الباب أحاديث كثيرة، عند أحمد عن ذرين بن سبلة، وعند عبد الرزاق أيضاً عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند الطبراني عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعند أحمد أيضاً عن سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (فإن أجابوا) ش: أي فإن أجابوا إلى الإسلام م: (كفوا عن قتالهم) ش: أي امتنعوا وكف جاء لازماً ومتعدياً، فعلى الأول بفتح الكاف، وعلى الثاني بضمها ويجوز الفتح أيضاً على معنى منعوا أنفسهم عن قتالهم م: (لحصول المقصود) ش: وهو إعلاء كلمة الله تعالى وإظهار الدين في بلاد الكفر، ثم أكد المصنف قوله كفوا عن قتالهم بقوله م: (وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ... الحديث) ش: هذا الحديث روي عن أبي هريرة أخرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني

(7/100)


وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية، به أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمراء الجيوش ولأنه أحد ما ينتهي به القتال على ما نطق به النص وهذا في حق من يقبل منه الجزية ومن لا يقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما بذلوا الجزية لتكون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله» . وفي لفظ مسلم: «حتى يشهد أن لا إله إلا الله ويؤمن بربي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» . وروي عن عمر أيضاً أخرجاه عنه أيضاً، وروي عن جابر أيضاً أخرجه مسلم عن أبي الزيد عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ... بلفظ حديث أبي هريرة، وزاد ثم قرأ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] (الغاشية: الآية 21 - 22) .
وحديث أبي هريرة الأول في قوم لا يوحدون الله عز وجل، أما اليهود والنصارى فما لهم يقروا برسالته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعد التوحيد ولم يبرءوا من دينهم فلا يحكم بإسلامهم لأنهم يقولون: إن محمداً رسول الله إلى العرب دوننا ويدل عليه لفظ مسلم المذكور قوله: «إلا بحقها» قوله: «وحسابهم على الله» يعني فما أسروا في قلوبهم.

[امتناع المحاصرون من الكفار عن قبول الدعوة]
م: (وإن امتنعوا) ش: أي عن الإسلام م: (دعوهم إلى أداء الجزية، به) ش: أي بالدعاء إلى الجزية م: (أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمراء الجيوش) ش: هذه قطعة من حديث مطول أخرجه الجماعة إلا البخاري عن سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ... » الحديث.
وفيه «فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... » الحديث، والجيش - الجند - يسيرون لحرب من جاشت القدر إذا غلت، قاله تاج الشريعة وأخذه من " المغرب ".
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الدعاء إلى الجزية م: (أحد ما ينتهي به القتال على ما نطق به النص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (التوبة: الآية 29) ، م: (وهذا) ش: إشارة إلى الدعاء الذي يدل عليه قوله ادعوهم إلى الجزية م: (في حق من يقبل منه الجزية ومن لا يقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] (الفتح: الآية 16) ش: أي إلى أن يسلموا.
قال م: (فإن بذلوها) ش: بالذال المعجمة، أي فإن قبلوها، أي الجزية، والمراد من البذل القبول على ما يأتي الآن، لأن القتال منهي بمجرد القبول قبل وجود الإعطاء والبذل بالإجماع م: (فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما بذلوا الجزية لتكون

(7/101)


دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا والمراد بالبذل القبول، وكذا المراد بالإعطاء المذكور فيه في القرآن، والله أعلم
ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوى إلى الإسلام إلا أن يدعوه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في وصية أمراء الأجناد: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله» ولأنهم بالدعوى يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي الذراري فلعلهم يجيبون، فنكفى مؤنة القتال. ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الإحراز بالدار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دمائهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا) ش: هذا غريب، وكيف يقول الأترازي وقد صح عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إنما بذلوا الجزية ... إلى آخره.
نعم أخرج الدارقطني في " سننه " عن الحكم عن حسين عن أبي الجنوب عن عبد الله بن عبد الله مولى هاشم قال: قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، ودينه كديننا، ومع هذا هو أيضاً ضعيف، قال الدارقطني أبو الجنوب ضعيف.
م: (والمراد بالبذل) ش: أي في قول القدوري، فإن بذلوها م: (القبول، وكذا المراد بالإعطاء المذكور فيه) ش: قال الأترازي: أي في الجزية، وتذكير الضمير على تأويل المذكور.
قلت: لو قال أي في أداء الجزية لما احتاج إلى التأويل المذكور م: (في القرآن، والله أعلم) ش: هو قوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] .

[قتال من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام]
م: (ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوى إلى الإسلام إلا أن يدعوه) ش: أي يدعو من لم تبلغه الدعوى م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في وصية أمراء الأجناد: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله» ش: وهذا الحديث من حديث بريدة المطول، وقد مر بعضه عن قريب الذي رواه الجماعة غير البخاري.
م: (ولأنهم بالدعوى يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي الذراري فلعلهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال) ش: فنكفى على صيغة المجهول، ومؤنة القتال بالنصب على أنه مفعول ثان م: (ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي) ش:، هو ما رواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا عمر بن ذر بن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له حين بعثه: " لا تقاتل قوماً حتى تدعوهم» ، انتهى.
والدعوة بالفتح إلى الطعام وبالكسر في النسب قال الجوهري: وقيل بالضم في الحرب م: (ولا غرامة لعدم العاصم) ش: يعني لا غرامة بواجبه بفعل قبل الدعوى، وإن كان فيه الإثم لعدم العاصم عن الغرامة.
وقال الكاكي: ولا غرامة للإتلاف من الأموال والدماء - لعدم العصمة - مقومة م: (وهو الدين) ش: أي العاصم وهو الذمي م: (أو الإحراز بالدار) ش: وقال الشافعي يضمن لحرمة

(7/102)


فصار في قتل الصبيان والنسوان،
ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة مبالغة في الإنذار، ولا يجب ذلك لأنه صح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون» «وعهد إلى أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القتال، قلنا الحرمة بالدين أو بالإحراز بالدار ولم يوجد م: (فصار) ش: حكم هذا كالصبيان والنسوان، أي كما لا غرامة م: (في قتل الصبيان والنسوان) ش: فإنه لا قصاص ولا دية وإن كان ورد في قتلهم.

[قتال من بلغته الدعوة]
م: (ويستحب أن يدعو) ش: أي الإمام أو رأس الجيش أو السرية م: (من بلغته الدعوة مبالغة في الإنذار) ش: لأنها ربما تنفع فانتقلت ميال إلى النجاس م: (ولا يجب ذلك) ش: أي دعاء من يلقنه الدعوة م: (لأنه صح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون» ش: هذا أخرجه البخاري عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أساله عن الدعاء قبل القتال.
قلت: إنما كان ذلك في أول الإسلام قد «أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تستقى من الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث، حدثني عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكان في ذلك الجيش» .
وقال المنذري في " حواشيه ": غارون بتشديد الراء، هكذا قيده غير واحد، وقال الفارسي: أظنه غادون بالدال المهملة المخففة، فإن صحت رواية الراء فوجهه أنهم ذو غرة، أي أتاهم الجيوش على غرة منهم، فإن الغار هو الذي يغر غرة فلا وجه له هنا، هذا الذي قاله فيه تكلف، فإن معنى غارون هنا غافلون.
قال الجوهري وغيره: الغار الغافل، والغرة الغفلة، وبنو المصطلق بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المهملة وكسر اللام، وفي آخره قاف، وهو لقب من الصلاة، وهو رفع الصوت، وأصله مصتلق، فأبدلت التاء من الطاء لأجل الصاد، واسمه خزيمة بن سعد بن عمرو ابن ربيعة بن حارثة بطن من خزاعة.
م: (وعهد إلى أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغير على أبنى صباحاً ثم يحرق) ش: هذا أخرجه أبو داود وابن ماجه عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عرق «عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عهد إليه فقال: أغير على أبنى صباحاً وحرق» قوله عهد إلى أسامة أي أوصاه، وأسامة بن زيد بن حارثة مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمه أم أيمن حاضنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسامة وأيمن أخوان، ومات أسامة بالمدينة، ولما مات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان أسامة ابن عشرين سنة، وأُبْنَى بضم الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح النون مقصور على وزن حبلى، ويقال أبني بالياء آخر الحروف المضمومة مع ضم الهمزة.

(7/103)


والغارة لا تكون بدعوة. فإن أبوا ذلك استعانوا بالله عليهم وحاربوهم، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث سليمان بن بريدة: «فإن أبوا ذلك فادعهم إلى إعطاء الجزية إلى أن قال: فإن أبوها فاستعن بالله عليهم وقاتلهم» ولأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه فيستعان بالله في كل الأمور، قال: ونصبوا عليهم المجانيق كما نصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الطائف وحرقوهم، لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأترازي: موضع بالشام وهو فلسطين، والأصح أنه عن فلسطين بين الرملة وعسقلان م: (والغارة لا تكون بدعوة) ش: لأن فيها ستر الأمر والإسراع والغارة اسم مصدر للإغارة الذي هو مصدر أغار الثعلب إذا أسرع في العدو.
م: (فإن أبوا ذلك) ش: أي فإن امتنعوا عن الجزية م: (استعانوا بالله عليهم وحاربوهم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (في حديث سليمان بن بريدة: «فإن أبوا ذلك فادعهم إلى إعطاء الجزية ... إلى أن قال: فإن أبوها فاستعن بالله عليهم وقاتلهم» ش: قد تقدم حديث سليمان بن بريدة عن قريب، وهو حديث طويل، وفيه «فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم
» الحديث.
م: (ولأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه) ش: أي المهلك وهو اسم فاعل من التدمير والأصوب المدمر أعداءه كما في قَوْله تَعَالَى: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36] (الفرقان: الآية 36) .
م: (فيستعان بالله في كل الأمور) ش: فيستعان على صيغة المجهول، وأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث سليمان بن بريدة بالاستعانة أيضاً، حيث قال «فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» .
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ونصبوا عليهم المجانيق) ش: وهو جمع منجنيق م: (كما نصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الطائف) ش: هكذا ذكر الترمذي في الاستئذان مفصلا ولم يصل سنده، فقال: ففيه حديث وكيع عن رجل عن ثور بن يزيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نصب المنجنيق على الطائف» قال قتيبة قلت لوكيع: من هذا الرجل؟ قال صاحبكم عمر بن غارون، ورواه أبو داود في " المراسيل " عن مكحول أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصب على الطائف.
ورواه ابن سعد في " الطبقات " عن مكحول وزاد أربعين يوماً، ورواه العقيلي في " الضعفاء " مستنداً عن محمد من حديث عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن أبي صادق عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنجنيق فنصب على حصن الطائف» ويقال قدم بالمنجنيق يزيد بن ربيعة، وقيل غيره.
م: (وحرقوهم) ش: كلام القدوري في " مختصره "، وعلله المصنف بقوله م: (لأنه عليه

(7/104)


- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحرق البويرة. وأرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم، لأن في جميع ذلك إلحاق الكبت والغيظ بهم وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعا،
ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر، لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام، وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص، ولأنه قلما يخلو حصن عن مسلم، فلو امتنع باعتباره لانسد بابه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أحرق البويرة) ش: وهذا أخرجه الأئمة الستة عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع نخل بني النضير وحرق وهي البويرة» .... الحديث.
م: (وأرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم، وأفسدوا زروعهم) ش: كل ذلك من كلام القدوري، وقال الشافعي - في قول، وأحمد - في رواية - لا يفعلون ذلك إلا إذا كان الكفار يفعلون ذلك، وعلل المصنف بقوله م: (لأن في جميع ذلك إلحاق الكبت) ش: وهو الذل والهوان.
وقال الأترازي: يقال كبته الله أي أهلكه، والمعنى الملائم ما ذكرناه م: (والغيظ بهم وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعاً) ش:.

م: (ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر، لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب) ش: بالذال المعجمة وتشديد الباء، يقال ذب عنه يذب ذباً إذا منع عنه م: (عن بيضة الإسلام) ش: أي عن مجتمع الإسلام.
وفي " المغرب " مجتمع أهل الإسلام يسمى أهل الإسلام بيضة تشبيهاً لبيضة النعامة وغيرها، لأن تلك مجتمع الولد م: (وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص) ش: وفي الرمي عليهم دفع ضرر عام فيحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
وروي عن الحسن بن زياد أنه إذا كان فيهم مسلم تاجر مستأمن أو أسير أو من أسلم منهم أنه لا يجوز، لأن قتل المسلم حرام، وقتل الكافر مباح، والمحرم مع المبيح إذا اجتمعا، فالرجحان للمحرم، وإن قتل المسلم لا يجوز الإقدام عليه، وقتل الكافر يجوز تركه، ألا ترى أن للإمام أن لا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين، فكان مراعاة جانب المسلمين أولى، ورد عليه بأن قتالهم فرض بالنص، فلو كان هذا العارض معتبراً للآدمي إلى سد باب الجهاد، فلا يجوز ذلك لأنه ماض إلى يوم القيامة.
م: (ولأنه قلما يخلو حصن من مسلم، فلو امتنع باعتباره) ش: أي فلو امتنع الرمي باعتبار المسلم التاجر أو الأسير م: (لانسد بابه) ش: أي باب الجهاد فلا يعتد به، تحقيقه أن الرمي إليهم

(7/105)


وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم لما بينا، ويقصدون بالرمي الكفار، لأنه إن تعذر التمييز فعلا فلقد أمكن قصدا، إذ الطاعة بحسب الطاقة، وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة، لأن الجهاد فرض، والغرامات لا تقرن بالفروض، بخلاف حالة المخمصة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جائز وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم، فكذا إذا كان مسلماً، والجامع كون من لا يجوز قتله فيهم.

م: (وإن تترسوا) ش: أي وإن استتروا، يقال تترس بالترس إذا توقى م: (بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لانسد باب الجهاد، وقال الشافعي: إذا فعلوا ذلك لم يجز أن يبدأهم بالرمي.
فإن بدؤونا جاز الرمي، ويقال للرامي اجتهد في إصابة المشرك وتجنب المسلم، وبقوله قال مالك وأحمد، وعن الشافعي لا يجوز ذلك إذا لم يأت بضرب المسلم.
م: (ويقصدون بالرمي الكفار؛ لأنه إن تعذر التمييز فعلا فقد أمكن قصداً إذ الطاعة بحسب الطاقة) ش: لأن الله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها م: (وما أصابوه منهم) ش: أي وما أصاب المسلمين من صبيان المسلمين وأسراهم الذين تترس المشركون بهم م: (لا دية عليهم ولا كفارة) ش: أي لا يجب عليهم الدية ولا الكفارة.
وعند الشافعي تجب الكفارة قولاً واحداً، وفي الدية فقولان، وفي " التهذيب " لو رمي في غير حال الضرورة وهو يعلم أنه مسلم يجب القود، وإن ظنه كافراً فلا قود وتجب الكفارة، وفي الدية قولان: وعن المزني: إن علم أنه مسلم ورمى للضرورة يجب الدية، قال أبو إسحاق إن قصده لزمته الدية علم أنه مسلم أو لا، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس في الإسلام دم مفرج» بالجيم، وقيل بالحاء المهملة أي مبطل دمه، وإن لم يقصده بعينه، بل رمى إلى الصف لم يلزمه الدية، كذا في " شرح الوجيز ".
م: (لأن الجهاد فرض، والغرامات لا تقرن بالفروض) ش: أي الإتيان بالفروض، لا يقرن به الغرامات، لأن الفرض مأمور به، وسبب الغرامات عدوان محض منهي عنه وبين الأمرين منافاة.
فإن قلت: هذا تعليل في مقابل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس في الإسلام دم مفرج» ، والتعليل في مقابلة النص باطل.
قلت: هذا عام خص منه البغاة وقطاع الطريق، فتخص صورة النزاع بما قلنا.
م: (بخلاف حالة المخمصة) ش: هذا جواب عما قاس عليه الحسن، وقال إطلاق الرمي

(7/106)


لأنه لا يمتنع مخافة الضمان لما فيه من إحياء نفسه، أما الجهاد فمبني على إتلاف النفس فيمتنع حذر الضمان.
ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كان عسكرا عظيما يؤمن عليه، لأن الغالب هو السلامة، والغالب كالمتحقق. ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها، لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة، وتعريض المصاحف على الاستخفاف فإنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين وهو التأويل الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لضرورة إقامة الجهاد لا ينفي الضمان كتفاؤل حال الغير حالة المخمصة لمكان الضرورة، ويجب الضمان، تقدير الجواب أن حالة المخمصة بخلاف هذا م: (لأنه) ش: أي لأن صاحب المخمصة م: (لا يمتنع) ش: عن أكل مال الغير م: (مخافة الضمان) ش: أي لأجل الخوف عن الغرامة م: (لما فيه) ش: أي في أكل مال الغير م: (من إحياء نفسه) ش: وهو منعة عظيمة يتحمل بسببها بدل الضمان م: (أما الجهاد فمبني على إتلاف النفس) ش: أي نفس الكفار، وقد يكون فيهم مسلمون م: (فيمتنع) ش: أي عن الجهاد الفرض م: (حذر الضمان) ش: أي لأجل قدرة عن الضمان، وهو منصوب على أنه مفعول له وذا عن الجواز كما لا يجوز وجوب الدية.
والكفارة على الإمام فيما إذا مات الزاني من جلده أو رجمه، ولو وجب لامتنع عن القضاء ولا يتقلده أحد، ويجوز أن يكون المعنى أن الجهاد مبني على إتلاف النفس مطلقاً، لأن المجاهد إما أن يقتل وقد يصارف المسلم أو يقتل، فلو ألزمنا الضمان امتنع من الجهاد والفرض، لكونه خاسراً في الحالتين، بخلاف ما إذا لم يضمن.

[إخراج النساء والمصاحف مع المسلمين في الجهاد]
م: (ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كان عسكراً عظيماً يؤمن عليه) ش: أي على العسكر أو على إخراج النساء والمصاحف م: (لأن الغالب هو السلامة والغالب كالمتحقق، ويكره إخراج ذلك في سرية) ش: وهي عدد قليل يسيرون بالليل ويسكنون بالنهار، ذكره في " المبسوط ".
وقال محمد في " السير الكبير ": أفضل ما يبعث في السرية أدناه ثلاثة، ولو بعث بما دونه جاز، وعن أبي حنيفة أقل السرية مائة، وقال الحسن بن زياد من قول نفسه أقل السرية أربعمائة، وأقل الجيش أربعة آلاف.
وفي " فتاوى قاضي خان " ذكر قول الحسن قول أبي حنيفة م: (لا يؤمن عليها) ش: أي على السرية لقلتهن م: (لأن فيه) ش: أي في إخراج ذلك م: (تعريضهن) ش: أي تعريض النساء م: (على الضياع والفضيحة، وتعريض المصاحف على الاستخفاف، فإنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين) ش: أي لأجل غيظهم لهم م: (وهو التأويل الصحيح) ش: أي تعريض المصاحف على الاستخفاف وهو التأويل الصحيح.

(7/107)


لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو» .
ولو دخل مسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد، لأن الظاهر عدم التعرض، والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن كالطبخ والسقي والمداواة، فأما الشواب فإقامتهن في البيوت أدفع للفتنة، ولا يباشرن القتال، لأنه يستدل به على ضعف المسلمين إلا عند الضرورة ولا يستحب إخراجهن للمباضعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو» ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو، ويخاف أن يقال له لعدو» .
واعلم أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - حمل الحديث على الجيش الصغير الذي لا يؤمن معه ضياعه والشافعية، معنى ذلك وأخذ المالكية بإطلاقه، وقال القرطبي ولا فرق بين الجيش والسرايا عملاً بإطلاق الحديث، وهو إن كان يقبله العدو له في الجيش العظيم نادراً فشأنه وسقوطه ليس بنادر.
قلت: الظاهر مع المالكية على ما لا يخفى، والمراد بالقرآن في الحديث المصحف، وقد جاء مفسراً في بعض الأحاديث، وأشار إليه البخاري بقوله باب السفر بالمصحف إلى أرض العدو، وفي " المحيط " ويكره إدخال المصاحف وكتب الفقه في سرية، ذكره في " السير الكبير "، وإنما قيد التأويل بالصحيح احترازاً عما قيل: إن النهي كان في ابتداء الإسلام لقلة المصاحف كيلا ينقطع عن أيدي الناس، فأما الآن فقد كثرت فلا بأس بإخراجها مطلقاً، وكذا قال أبو الحسن العمي والطحاوي.
قلت: هذا ظاهر لا يخفى.

م: (ولو دخل المسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوماً يوفون بالعهد، لأن الظاهر عدم التعريض، والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن كالطبخ والسقي والمداواة) ش: أي مداواة الجرحى م: (وأما الشواب فإقامتهن في البيوت ادفع للفتنة) ش: وإن كانوا يريدون المباضعة فيخرج بالإماء لا بالحرائر.
م: (ولا يباشرن) ش: أي العجائز م: (القتال، لأنه يستدل به) ش: أي بقتال العجائز م: (على ضعف المسلمين إلا عند الضرورة) ش: وقد روي «أن أم سليم قاتلت يوم خبير ووضعت شارة على بطنها حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مقامها خير من مقام فلان وفلان» ، أي من المنهزمين.
م: (ولا يستحب إخراجهن) ش: أي إخراج النساء الشواب م: (للمباضعة) ش: للجماع م:

(7/108)


والخدمة، فإن كانوا لا بد من خروجهن فبالإماء دون الحرائر. ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن مولاه لما بينا، إلا أن يهجم العدو على بلد للضرورة.
وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يمثلوا؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا» ، والغلول السرقة من المغنم، والغدر الخيانة ونقض العهد، والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول، ولا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا مقعدا ولا أعمى، لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب فلا يتحقق منه، ولهذا لا يقتل يابس الشق، والمقطوع اليمنى، والمقطوع يده ورجله من خلاف، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الشيخ والمقعد والأعمى؛ لأن المبيح عنده الكفر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(والخدمة، فإن كانوا لا بد من خروجهن فبالإماء) ش: أي فيخرج الإماء جمع أمة م: (دون الحرائر) ش: جمع حرة.
م: (ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن مولاه لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لتقدم حق الولي والزوج م: (إلا أن يهجم العدو على بلد للضرورة) ش: هذا استثناء من قوله ولا تقاتل المرأة يعني عند الضرورة، وعند الضرورة يقاتلان، الجهاد حينئذ يصير فرض عين.

[محرمات الجهاد ومكروهاته]
م: (وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يمثلوا؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا» ش: هذا في حديث سليمان بن بريدة وقد تقدم بعضه، وفيه: «اغزوا ولا تغدورا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا» م: (والغلول السرقة من المغنم، والغدر الخيانة ونقض العهد، والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر كأن القائل يقول هذا الحديث يدل على تحريم المثلة، وحديث العرنيين يدل على إباحتها؟ فأجاب بقوله وحديث العرنيين منسوخ بالنهي المتأخر عن حديث العرنيين.
والدليل على تأخر النهي ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن عمران بن حصين أنه قال: «ما قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعد ماشل الأركان محطياً على الصدقة وينهانا عن المثلة» وتخصيصه بالذكر في خطبته يدل على تأكد الحرمة، والمثلة من مثلت بالرجل أمثل به مثلاً ومثلة إذا سودت وجهه أو قطعت أنفه أو ما أشبه ذلك ذكره في " الفائق ".
م: «ولا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً فانياً ولا مقعداً ولا أعمى» ش: هذا كله من كلام القدوري في مختصره، وعلله المصنف بقوله م: (لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب، فلا يتحقق منه، ولهذا لا يقتل يابس الشق) ش: أي المفلوج، ويراد باليبس بطلان حسه وذهاب حركته لا أنه ميت حقيقة، كذا في " المغرب " م: (والمقطوع اليمين، والمقطوع يده ورجله من خلاف، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الشيخ والمقعد والأعمى؛ لأن المبيح عنده الكفر) ش:

(7/109)


والحجة عليه ما بينا، وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الصبيان والذراري، وحين رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة مقتولة قال هاه، ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت؟!»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي المبيح للقتل عند الشافعي الكفر، هذا في قول عن الشافعي.
وفي قول آخر كقولنا، وبه قال مالك وأحمد وفي شرح " الوجيز " وفي الشيوخ الضعفاء والعميان والزمنى ومقطوعة الأيدي والرجل قولان، في قول: يجوز قتلهم، وبه قال أحمد في رواية، وفي قول: لا يجوز م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي م: (ما بينا) ش: وهو قوله لا يقتل يابس الشق.
فإن قلت: احتج الشافعي بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم ... » الحديث يروى عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: المراد من الشيوخ الذين يقاتلون توفيقاً بين الحديثين، أو من له رأي في الحرب كما قتل دريد بن الصمة يوم أوطاس وهو ابن مائة وعشرين سنة، لأنه كانوا يأخذون برأيه في الحرب، وقتله ربيعة بن رفيع من المسلمين.
م: (وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الصبيان والذراري» ش: هذا حديث غريب بهذا اللفظ ولم يتكلم أحد من الشراح فيه غير أن بعضهم قالوا المراد بالذراري النساء مجازاً باعتبار السبب، إذ النساء سبب لحصول الذراري، ولا يمكن جريه على حقيقته بدليل عطفه على الصبيان.
قلت: هذا التكلف كله لأجل قول المصنف، وقد صح ولم يصح بهذا اللفظ، وإنما الذي صح ما رواه الجماعة، إلا ابن ماجه عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقتوله فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النساء والصبيان» وفي لفظ الشيخين «فأنكر قتل النساء والصبيان» .
م: «وحين رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة مقتولة قال هاه، ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي بإسنادهما إلى رياح بن الربيع قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلا فقال: انظر على ما اجتمع هؤلاء، فجاء فقال: امرأة قتيل.
فقال ما كانت هذه لتقاتل، وعلى المقدمة خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فبعث رجلاً فقال: قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا صبياً» وأخرجه أحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وفي لفظه فقال: «هذه ما كانت لتقاتل» . ورياح بالياء آخر الحروف، ويقال بالباء الموحدة.

(7/110)


قال: إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب، أو تكون المرأة ملكة لتعدي ضررها إلى العباد، وكذا يقتل من قاتل من هؤلاء دفعا لشره، ولأن القتال مبيح حقيقة.
ولا يقتلوا مجنونا، لأنه غير مخاطب إلا أن يقاتل فيقتل دفعا لشره، غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة لتوجه الخطاب نحوه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الدارقطني: ليس في الصحابة أحد يقال له رياح إلا هذا مع اختلاف فيه، وقال ابن ماكولا: رياح بالياء الموحدة ابن ربيع حنظة الكاتب له صحبة، روى عنه المدفع بن صفي، وقيل فيه: رياح بالياء المعجمة بنقطتين من تحتها، قوله: هاه كلمة تنبيه، والهاء في آخرها ليسكت.
م: (قال: إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره " استثناء من قوله: «ولا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً فانياً ولا أعمى ولا مقعداً» إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب.
وقد نقل المصنف قوله: «ولا تقتلوا امرأة....» إلى آخره، ثم تكلم ما ذكره بعده ثم نقل إسناده بقوله إلا أن يكون إلى آخره، وقال أبو بكر الرازي في كتاب " المرتد " من " شرح الطحاوي "، وأما الشيخ الفاني فأنا أقتله إذا كان ذا رأي في الحرب أو كان كامل العقل، ومثله يقتله إذا ارتد، والذي لا تقتله هو الشيخ الفاني الذي خرف وزال عن حدود العقلاء المميزين.
فهذا حينئذ يكون بمنزلة المجنون والصبي، فلا يقتل إذا كان حربياً، ولا إذا ارتد، وأما الذميون فهم بمنزلة الشيوخ ويجوز قتلهم إذا رأى الإمام ذلك، كما يقتل سائر الناس بعد أن يكونوا عقلاء، ويقتلهم إذا ارتدوا، كذا في " شرح الطحاوي ".
م: (أو تكون المرأة ملكة) ش: هذا أيضاً من جملة كلام القدوري، ذكره بعد قوله: إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب م: (لتعدي ضررها) ش: أي لتعدي ضرر المرأة الملكة م: (إلى العباد) ش: باعتبار حكمها م: (وكذا يقتل من قاتل من هؤلاء) ش: أشار به إلى الشيخ الفاني والأعمى والمقعد والمرأة م: (دفعاً لشره) ش: أي يقتل القاتل من هؤلاء لأجل دفع شره عن المسلمين م: (ولأن القتال مبيح حقيقة) ش: أي لأن قتال هؤلاء مبيح لقتالهم من حيث الحقيقة لكفرهم وإيذائهم.

م: (ولا يقتلوا مجنوناً لأنه غير مخاطب، إلا أن يقاتل فيقتل دفعاً لشره، غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان) ش: دفعاً لشرهما م: (وغيرهما) ش: أي وغير الصبي والمجنون م: (لا بأس بقتله بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة لتوجه الخطاب نحوه) ش: بالعقل والبلوغ، وكذلك الرهابين إذا قاتلوا حيث يباح قتلهم جزاء على قتالهم.
وفي " السير الكبير ": لا يقتل الراهب في صومعة ولا أهل الكنائس الذي لا يخالطون

(7/111)


وإن كان يجن ويفيق فهو في حال إفاقته كالصحيح. ويكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وصاحبهما في الدّنيا معروفا} [لقمان: 15] (لقمان: الآية 35) ، ولأنه يجب عليه إحياؤه بالإنفاق عليه فيناقضه الإطلاق في إفنائه، فإن أدركه امتنع عليه حتى يقتله غيره، لأن المقصود يحصل بغيره من غير اقتحامه المأثم، وإن قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلا بقتله لا بأس به، لأن مقصوده الدفع، ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه ولا يمكنه دفعه إلا بقتله يقتله لما بينا، فهذا أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الناس، فإن خالطوا يقتلون كالقسيس وغيره، وكذلك الراهب إن دل على عورة المسلمين جاز قتله م: (وإن كان) ش: أي المجنون م: (يجن ويفيق فهو في حال إفاقته كالصحيح) ش: يعني يقتل حال إفاقته سواء وجد منه القتال أو لا لكونه مقاتلاً مخاطباً، ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة.
م: (ويكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله) ش: بنصب اللام م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] (لقمان: الآية 35) ش: وفي السير الكبير: المراد الأبوان المشركان بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] (لقمان الآية 35) ، وليس من المعروف أن يقتله أن يتركهما حرزاً للسباع، وروي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منع أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قتل أبيه يوم بدر، ولا خلاف عليه.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الابن م: (يجب عليه إحياؤه) ش: أي إحياء أبيه م: (بالإنفاق عليه) ش: والإنفاق سبب الإحياء م: (فيناقضه الإطلاق في إفنائه) ش: أي تناقض الإحياء إطلاقاً وقتل بإفنائه ولزوم المناقض لا يجوز، وقال الأترازي: الإطلاق في إفنائه، أي إفناء الأب م: (فإن أدركه) ش: أي فإن أدرك الابن أباه في الحرب م: (امتنع عليه) ش: أي امتنع الابن عن قتل أبيه وانتفاء عليه بأن يعالجه فيضرب قوائم فرسه ونحو ذلك.
م: (حتى يقتله غيره) ش: أي غير الابن لئلا يلحقه مأثم بمباشرة قتل أبيه، وفي " الذخيرة ": لو ظفر عليه قتل أبيه لا ينبغي أن يقصده بالقتل، ولا ينبغي أن يمكنه من الرجوع حتى لا يعود حرباً علينا، ولكنه يلحقه إلى موضع يتمسك به حق غيره فيقتله، م: (لأن المقصود) ش: أي من يقتله م: (يحصل بغيره) ش: أي بغير الابن م: (من غير اقتحامه الإثم) ش: أي من غير دخوله في الإثم بقتل أبيه.
م: (وإن قصد الأب قتله) ش: أي قتل ابنه م: (بحيث لا يمكنه دفعه) ش: أي بحيث لا يمكن الابن دفع أبيه عنه م: (إلا بقتله لا بأس به) ش: أي يقتله حينئذ م: (لأن المقصود الدفع) ش: عن نفسه م: (ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه) ش: وقد قصد قتل ابنه م: (ولا يمكنه دفعه إلا بقتله يقتله لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأن مقصوده الدفع م: (فهذا أولى) ش: لأنه كان هكذا في الأم والجد والجدة، ولو كان المشرك حالا أن يبتدئ بالقتل، وعند الشافعي يكره أن يقتل ذا

(7/112)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحم محرم من الكفار، وفي الرحم غير المحرم وجهان، في وجه يكره، والثاني لا يكره، وقول مالك وأحمد كقولنا.
وفي " شرح الطحاوي ": وما سوى السوء الدين من ذوي الرحم المحرم فلا بأس بقتله، هذا في الكافر، وأما في أهل الخوارج والبغي فكل ذي رحم محرم كالأب سواء، وأما في الرحم في باب الزنا فإن البداية بالشهود شرط، فلو كان الشاهد هو الولد فلا بأس بأن يرمي ولا يقصد القتل.

(7/113)


باب الموادعة ومن يجوز أمانه وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكّل على الله} [الأنفال: 61] (الأنفال: الآية 61) ، «ووادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الموادعة ومن يجوز أمانه]
م: (باب الموادعة ومن يجوز أمانه)
ش: أي هذا باب في بيان جواز الموادعة أي المصالحة، وسميت المصالحة بالموادعة لأنها مشاركة من الودع، وهو الترك بأن يدع كل واحد فريقي المسلمين والكافرين القتال مع الآخر، وذكر ترك القتال بعد ذكر القتال ظاهر، لأن ترك الشيء يقتضي وجود ذلك الشيء سابقاً لا محالة. قوله: ومن يجوز أمانه، أي في بيان من يجوز أمانه.
م: (وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهم، وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به) ش: أي بالصلح درءاً عليه.
قوله: أن يصالح أهل الحرب، وفي بعض النسخ: وكان في ذلك مصلحة فعلى النسخة الأولى لفظ مصلحة منصوب بأنه خبر كان، وعلى النسخة الأخرى مرفوع لأنه اسم كان وخبره قوله: في ذلك، وقيد بقوله مصلحة لأنه إذا لم يكن مصلحة لا يجوز المصلحة بأن يكون المسلمين ضعف.
أو كانت الموادعة خيراً للمسلمين ذكره الكرخي في مختصره م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] م: (الأنفال: الآية 61) ش: أي وإن مالوا للصلح، يقال: جنح له وإليه إذا مال، وفي السلم ثلاث لغات فتح السين وكسرها وفتحها جميعاً، وهي مما يذكر ويؤنث ولذلك قيل {فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] .
فإن قيل: هذه الآية منسوخة في قول ابن عباس بقوله: فاقتلوا الذين لا يؤمنون، وفي قول مجاهد بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (التوبة: الآية 5) ، فكيف جاز الاحتجاج بها؟ أجيب: بأن هذه الآية محمولة على ما إذا كانت في المصالحة مصلحة للمسلمين بدليل آية أخرى وهي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] (محمد: الآية 35) ، وبدليل الآية الموجبة للقتال والألزم التناقص لما أن موجب الأمر بالقتال مخالف الأمر بالمصالحة، فلا بد من التوفيق بينهما، وهو بما ذكرنا بدليل موادعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة على ما ذكر في الكتاب. وقال في " الكشاف ": إن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يحاربوا إلى الهدنة أبداً.
م: (ووادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين)

(7/114)


ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرا للمسلمين لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به، ولا يقتصر الحكم على المدة المروية لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها، بخلاف ما إذا لم تكن خيرا لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: الحديث رواه أحمد في مسنده مطولاً من حديث محمد بن إسحاق، وفيه «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق الهدي مع سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل إلى أن قال: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض..» الحديث.
وقال الأترازي: فيه نظر، أي في الذي ذكره صاحب الهداية، لأن الصلح عند أصحاب المغازي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادعهم على ترك القتال سنين، هكذا ذكره المعتمر ابن سليمان في كتابه عن أبيه انتهى.
قلت: كلامه يدل على أن عشر سنين غير صحيح ولم يطلع في كتب الحديث، فهذا من رواية أحمد عشر سنين، وفي سيرة ابن هشام عشر سنين، وفي سنن أبي داود عشر سنين، وفي مغازي الواقدي عشر سنين، نعم وقع في رواية البيهقي في " دلائل النبوة " سنتين من رواية موسى ابن عتبة.
وكذلك في رواية ابن عائد عن محمد بن شعيب أن مدة الصلح كانت سنتين بعد ذلك، قال أبو الفتح العميري: أهل النقل يختلفون في تجريد المعرة بعشر سنين.
وقال السهيلي في " الروض الأنف " اختلف العلماء هل يجوز الصلح إلى أكثر من عشر سنين؟ رجحه المشائعين أن منع الصلح هو الأصل، بدليل آية القتال، وقد ورد التحديد بالعشر في حديث ابن إسحاق فحصلت الإباحة في هذا القدر، ويبقى الزائد على الأصل انتهى، وهذا هو التحقيق في تجريد الكلام في هذا المقام، فإن أحداً من الشراح لم يسلك فمنهم من سكت عنه بالكلية.
م: (ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيراً للمسلمين، لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به) ش: أي بالموادعة، وإنما ذكر الضمير باعتبار معنى الصلح، وكذا الكلام في تذكير الضمير في قوله إذا كان خيراً م: (ولا يقتصر الحكم على المدة المروية) ش: يعني عشر سنين، لأن مدة الموادعة تدور مع المصلحة وهي قد تزيد وقد تنقص م: (لتعدي المعنى) ش: وهو دفع الشر م: (إلى ما زاد عليها) ش: أي على المدة المروية م: (بخلاف ما إذا لم تكن خيراً) ش: متصل بقوله إذا كان خيراً، يعني لا يجوز الصلح إذا لم يكن خيراً للمسلمين م: (لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى) ش: أما صورة فظاهر حيث ترك القتال.

(7/115)


وإن صالحهم مدة ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم الإمام وقاتلهم؛ «لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة،» ولأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهادا وإيفاء العهد ترك الجهاد صورة ومعنى، ولا بد من النبذ تحرزا عن الغدر، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في العهود وفاء لا غدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما معنى فلأنه لما لم يكن فيه مصلحة للمسلمين لم يكن في تلك الموادعة دفع الشر فلم يحصل الجهاد معنى أيضاً.

[صالح الإمام أهل الحرب مدة معينة]
م: (وإن صالحهم مدة) ش: أي وإن صالح الإمام أهل الحرب مدة معينة م: (ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم) ش: من النبذ وهو الطرح، والمراد بالنبذ نقض العهد وهو م: (الإمام) ش: ينقضه لأنه إنما أخبرهم طرحه إليهم، ولا بد من بلوغ خبر النبذ إلى جميعهم احترازاً عن الغدر، ومتى علم المسلمون أن القوم لم يعلموا بذلك لم يجز لهم أن يغيروا عليهم حتى تمضي المدة المذكورة.
وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادع قريشاً فلما أراد النبذ بعث إلى مكة ينادي بنقض الصلح على ما يجيء. م: (وقاتلهم لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة) ش: كانت هذه الموادعة في يوم الحديبية، وكان فيها: من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فدخلت خزاعة في عهد محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ودخلت بنو بكر في عقد قريش فمكثوا في الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهراً، ثم إن بني بكر وبني خزاعة قاتلوهم، وجاء الخبر بذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أمر الناس فتجهزوا، «فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا رسول الله ألم تكن بينك وبينهم مدة، قال: " ألم يبلغك ما صنعوا» ، رواه البيهقي في " دلائل النبوة " ورواه ابن أبي شيبة مرسلاً، وفيه «فقال أبو بكر: ما قاله الآن فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنهم غدروا فنقضوا العهد فأنا عاد منهم ... » الحديث.
م: (ولأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهاداً وإيفاء العهد ترك الجهاد) ش: أي إيفاء العهد المنقوض ترك الجهاد م: (صورة ومعنى) ش: أما صورة فظاهر، لأنه فيه ترك القياس، وأما معنى فلعدم دفع الشر، وهو ترك الجهاد من حيث المعنى م: (ولا بد من النبذ تحرزاً عن الغدر، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: في العهود وفاء لا غدر) ش: ليس هذا الحديث من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما هو من كلام عمرو ابن عيينة وله قصة، رواه أبو داود والنسائي الترمذي عن شعبة أخبرني أبو الفيض عن سليم بن عامر رجل من حمير قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا هو عمرو بن عيينة وأرسل معاوية إليه فسأله فقال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عهده ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» ، فرجع معاوية

(7/116)


ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جمعهم ويكتفى في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، لأن بذلك ينتفي الغدر،
قال: وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم؛ لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه، بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق ولا منعة لهم، حيث لا يكون هذا نقضا للعهد. ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم، لأنه بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد، لأنه باتفاقهم معنى، وإن رأى الإمام موادعة أهل الحرب وأن يأخذوا على ذلك مالا فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالناس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. م: (ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جمعهم ويكتفى في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، ولأن بذلك ينتفي الغدر) ش: قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] (الأنفال: الآية 58) ، أي على سواء منكم ومنهم في العلم بذلك فعرفنا أن لا يحل قتالهم قبل النبذ وقبل أن يعلموا بذلك ليعودوا إلى ما كانوا عليه من التحصين وكان ذلك للتحرز عن الغدر. قوله: خيانة أي نقضاً للعهد.

[بدء الكفار بالخيانة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن بدءوا بخيانة قاتلهم) ش: أي الإمام م: (ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك) ش: أي نقض العهد م: (باتفاقهم لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه) ش: أي نقض العهد م: (بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم) ش: أي من أهل دار الحرب م: (فقطعوا الطريق) ش: في دار الإسلام م: (ولا منعة لهم) ش: أي والحال أنهم لا قوة لهم ولا شوكة م: (حيث لا يكون هذا نقضاً للعهد) ش: لا في حقهم ولا في حق غيرهم، كذا في نقض العهد في دارنا.
م: (ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضاً للعهد في حقهم دون غيرهم) ش: من أهل الحرب منهم م: (لأنه) ش: أي لأن فعلهم هذا م: (بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد) ش: في حق جميعهم لوجود الرضى منهم، وهو معنى قوله: م: (لأنه باتفاقهم معنى) ش: أي باتفاق الكل.
م: (وإن رأى الإمام موادعة أهل الحرب) ش: إنما كرر هذا بعد أن بين حكم موادعة أهل الحرب لأن القدوري لم يذكر الموادعة على المال ولم يذكر الموادعة مع المرتدين أيضاً.
وذكر ذلك كله في " الجامع الصغير "، فكذلك كرر موادعة الحرب وذكر الموادعة على المال بقوله م: (وأن يأخذ على ذلك مالاً) ش: أي وإذا رأوا أيضاً أن يأخذوا مالاً في الموادعة م: (فلا

(7/117)


بأس به؛ لأنه لما جازت الموادعة بغير المال، فكذا بالمال، لكن هذا إذا كان بالمسلمين حاجة، أما إذا لم يكن لا يجوز لما بينا من قبل، والمأخوذ من المال يصرف مصارف الجزية، هذا إذا لم ينزلوا بساحتهم بل أرسلوا رسولا لأنه في معنى الجزية. أما إذا أحاط الجيش بهم ثم أخذوا المال فهو غنيمة بخمسها ويقسم الباقي بينهم؛ لأنه مأخوذ بالقهر معنى،
وأما المرتدون فيوادعهم الإمام حتى ينظر في أمرهم؛ لأن الإسلام مرجو منهم فجاز تأخير قتالهم طمعا في إسلامهم. ولا يأخذ عليه مالا؛ لأنه لا يجوز أخذ الجزية من أهل الردة لما بينا. ولو أخذه لم يرده لأنه مال غير معصوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأس به لأنه لما جازت الموادعة بغير المال، فكذا بالمال) ش: وهو أولى، أي فكذا يجوز بالمال.
م: (لكن هذا إذا كان بالمسلمين حاجة، أما لم يكن) ش: أي الحاجة م: (لا يجوز) ش: لأنه يشبه الأجر م: (لما بينا من قبل) ش: أشار به إلى قوله أنه ترك الجهاد صورة ومعنى، هكذا فسر الأكمل.
وقال الكاكي: لما بينا من قبل، وهو أنه لا يحل قتالهم قبل النبذ. وقال الأترازي: قوله: لما بينا من قبل إشارة إلى ما ذكر قبل هذا محظور بقوله: لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى. ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى قوله لأنه نسبة الأجر قبل باب كيفية القتال بخمسة خطوط، وكتب شيخي بخطه في هذا إشارة إلى أنه ترك الجهاد صورة ومعنى م: (والمأخوذ من المال) ش: منهم على الموادعة م: (يصرف مصارف الجزية، هذا إذا لم ينزلوا بساحتهم، بل أرسلوا رسولاً) ش: أي بدارهم للحرب ولا خمس فيه م: (لأنه في معنى الجزية أما إذا أحاط الجيش بهم ثم أخذوا المال فهو غنيمة بخمسها) ش: أي يخرج الخمس منها م: (ويقسم الباقي بينهم) ش: أي بين جيش المجاهدين القائمين م: (لأنه مأخوذ بالقهر معنى) ش: أي من حيث المعنى، لأنه مأخوذ بعد الفتح بالقتال.

[موادعة المرتدون]
م: (وأما المرتدون فيوادعهم الإمام) ش: إذا طلبوا ذلك وجاء الإسلام منهم فيؤخر القتل عنهم م: (حتى ينظر في أمرهم، لأن الإسلام مرجو منهم فجاز تأخير قتالهم طمعاً في إسلامهم) ش: قال الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير ": هذا إذا غلبت المرتدون على مدينة وصارت دارهم دار الحرب يدل على ما ذكره الفقيه وضع المسألة في مختصر الكرخي بقوله: غلب المرتدون على دار من دور الإسلام فلا بأس بموادعتهم عند الخوف.
م: (ولا يأخذ عليه مالاً) ش: أي ولا يأخذ الإمام على ما فعل من موادعتهم مالاً (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا يجوز أخذ الجزية من أهل الردة لما بينا) ش: أي في باب الجزية م: (ولو أخذه لم يرده) ش: أي ولو أخذ الإمام المال منهم لم يرده م: (لأنه مال غير معصوم) ش: لأن مالهم في المسلمين إذا ظهروا على ذلك، بخلاف ما إذا أخذ من أهل البغي حيث يرده عليهم

(7/118)


ولو حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون إليهم لا يفعل الإمام لما فيه من إعطاء الدنية وإلحاق المذلة بأهل الإسلام إلا إذا خيف الهلاك، لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق يمكن. ولا ينبغي أن يباع السلاح لأهل الحرب، ولا يجهز إليهم؛ «لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعدما وضعت الحرب أوزارها، لأنه ليس بفيء إلا أنه لا يرده حال الحرب لئلا يكون إعانة على المعصية.

[حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون]
م: (ولو حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون لا يفعل الإمام لما فيه من إعطاء الدنية) ش: أي النقيصة م: (وإلحاق المذلة بأهل الإسلام) ش: فلا يجوز ذلك م: (إلا إذا خيف الهلاك) ش: إذا كان المسلمون يخافون على أنفسهم الهلاك فلا بأس بذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات م: (لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق يمكن) ش: وهذا لا يجري على عمومه، فإنه لم يكن دفع الهلاك عن نفسه إلا بإجراء كلمة الكفر ينبغي أن يجب ولا يجب بل هو مرخص به.
وكذا لو كره يقتل نفسه أو يقتل غيره لا يجب عليه بل الصبر عن قتل الغير واجب، حتى لو صبر في الصورتين كان شهيداً فعلم أن المراد بأي طريق كان سوى المشيات التي للإباحة في مباشرتها شرعاً.
م: (ولا ينبغي أن يباع السلاح لأهل الحرب ولا يجهز إليهم) ش: أي لا يحتمل إليهم التجار الجهاز وهو المتاع يعني السلاح. وفي " الجامع الصغير ": يكره بيع السلاح من أهل الفتنة م: (لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم) ش: هذا حديث غريب بهذا اللفظ.
وروى البيهقي في " سننه " والبزار في " مسنده " والطبراني في " معجمه " من حديث بحر بن كنيز السقاء عن عبيد الله القطبي عن أبي رجاء عن عمران بن حصين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع السلاح في الفتنة» .
وقال البيهقي: رفعه وهم، والصواب موقوف. وقال البزار: لا نعلم أحداً يرويه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا عمران بن حصين، والقبطي ليس بالمعروف، وابن كنيز ليس بالقوي، وقد رواه مسلم ابن ذرين عن أبي رجاء عن عمران موقوفاً.

(7/119)


ولأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين فيمنع من ذلك، وكذا الكراع لما بينا، وكذا الحديد لأنه أصل السلاح، وكذا بعد الموادعة لأنها على شرف النقض أو الانقضاء فكانوا حربا علينا، وهذا هو القياس في الطعام والثوب إلا أنا عرفناه بالنص، «فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن فيه) ش: أي في بيع السلاح لأهل الحرب م: (تقويتهم على قتال المسلمين فيمنع من ذلك) ش: أي من بيعه م: (وكذا الكراع) ش: أي وكذا بيع الكراع منهم لا ينبغي ولا يجهز إليهم، والكراع الخيل م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله لأن فيه تقويتهم.
م: (وكذا الحديد) ش: أي وكذا لا ينبغي أن يباع الحديد منهم م: (لأنه أصل السلاح) ش: وقال فخر الإسلام البزدوي في شرح " الجامع الصغير " بيع ما لا يقاتل به إلا بصفة لا بأس به كما كرهنا بيع المزامير وأبطلنا بيع الخمر ولم يجز بيع العنب بأساً، ولا يبيع الخشب وما أشبه ذلك.
وقال الفقيه أبو الليث في شرحه " للجامع الصغير ": ليس هذا كما قالوا في بيع العصير ممن يجعله خمراً، إلا أن العصير ليس بآلة للمعصية.
وإنما يصير آلة للمعصية بعدما يصير خمراً، وأما هاهنا فالسلاح آلة الفتنة في الحال، فإذا كان هكذا يكره من يعرف بالفتنة فبإشارة هذا يعلم أن بيع الحديد منهم لا يكره، لأن نفسه ليس بآلة للمعصية كالعصير، انتهى.
قلت: هذا الذي قاله مثل ما قاله فخر الإسلام، وهذا هو التحقيق، إلا أن ظاهر الرواية بخلاف ذلك.
ألا ترى أن الحاكم قد نص على تسوية الحديد والسلاح، وإليه ذهب المصنف، حيث قال: وكذا الحديد لأنه أصل السلاح، لكن يرد عليه بيع الخشب ممن يتخذه آلة الفناء، حيث لا يكره بيع العصير ممن يتخذه خمراً.
م: (وكذا بعد الموادعة) ش: أي كما لا يباع السلاح والكراع منهم قبل الموادعة فكذلك بعد الموادعة م: (لأنها) ش: أي لأن الموادعة م: (على شرف النقض أو الانقضاء) ش: بتبدل المصلحة أو الانقضاء أو على شرف القضاء مدة الموادعة م: (فكانوا حرباً علينا) ش: أي بعد ذلك م: (وهذا هو القياس) ش: يعني كان القياس م: (في الطعام) ش: أي في بيع الطعام منهم.
م: (والثوب) ش: أي وكذا بيع الثوب منهم، وحمل ذلك إليهم أن يكون مكروهاً م: (إلا أنا عرفناه بالنص) ش: أي عرفنا جواز ذلك بالنص، وفسر النص بقوله م: (فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه) ش: أي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ لم يتكلم أحد من الشراح في حديث ثمامة هذا كيف يخرجه، ومن رواه وما قصته.

(7/120)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه البيهقي في " دلائل النبوة " من طريق ابن إسحاق حدثني سعيد المقبري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر قصة إسلام ثمامة بلفظ الصحيحين، وفي آخره فقال: «إني والله ما صبوت. ولكني أسلمت وصدقت محمداً وآمنت به، وايم الذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة وكانت ريف مكة ما بقيت حتى يأذن فيها محمد وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش فكتبوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يحمل إليهم حمل الطعام ففعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . مختصر ليس في الصحيحين من حيث ثمامة أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لثمامة أن يرد الميرة على أهل مكة.
وذكره ابن هشام في أواخر السيرة، وفيه: «والله لا يصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خرج إلى اليمامة فمنع أهلنا أن يحملوا إلى مكة شيئاً فكتبوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا، فكتب إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخلي بينهم وبين الحمل» .
ورواه الواقدي أيضاً مطولاً، وفيه: وكتب يعني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ثمامة أن خل بين قريش وبين المسيرة، فلما جاءه الكتاب قال: سمعاً وطاعة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مختصر.
قلت: ثمامة بضم الثاء المثلثة من قوله: مرات يمير من قار أهلها أي أتاهم بالميرة، أي بالطعام.

(7/121)


فصل إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة فردا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة صح أمانهم ولم يجز لأحد من المسلمين قتالهم، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة فردا أو جماعة]
م: (فصل)
ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الأمان. ولما كان الأمان نوعاً من الموادعة لما فيه ترك القتال كالموادعة، ذكره في فصل على حدة.
م: (إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة فردا أو جماعة) ش: أي أو أمن في جماعة م: (أو أهل حصن) ش: أي أو أمن أهل حصن م: (أو مدينة) ش: أي أو أمن أهل مدينة م: (صح أمانهم) ش: أي صح أمان جماعة الكفار وأهل الحصن، والمصدر مضاف إلى مفعوله وطرأ ذكر الفاعل م: (ولم يجز لأحد من المسلمين قتالهم) ش: وسواء كان الرجل الحر الذي أمنهم أعمى أو شيخاً أو مريضاً، وإذا كان عبداً فيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى.
م: (والأصل فيه) ش: أي في حكم الأمان م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم» ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «ما كتبنا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا القرآن، وما في هذه الصحيفة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حرم....» الحديث، وفيه: «وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم
» الحديث. وأخرج البخاري نحوه عن أنس.
وأخرج مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمدينة حرم ... » الحديث، وفيه: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» .
وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم» .
وروي أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم، ويجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم» .
قوله: تتكافأ دماؤهم أي تتساوى في القصاص والديات، لا فضل للشريف على وضيع

(7/122)


أي أقلهم وهو الوحد، ولأنه من أهل القتال فيخافونه، إذ هو يعد من أهل المنعة فيتحقق الأمان منه لملاقاته محله، ثم يتعدى إلى غيره، ولأن سببه لا يتجزأ، وهو الإيمان، وكذا الأمان لا يتجزأ فيتكامل كولاية الإنكاح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذا قال أبو عبيد، قوله: ليسعى بذمتهم، الذمة العهد والأمان، ولهذا سمى المعاهد ذمياً، لأنه قد أعطي الأمان على ماله ودمه للجزية التي تؤخذ منه، ومنه قول سلمان الفارسي: ذمة المسلمين واحدة.
وفسر المصنف أدناهم بقوله: م: (أي أقلهم، وهو الواحد، ولأنه) ش: لا أقل منه، وإنما فسره بالأقل احترازاً عن تفسير محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حيث فسره بالعبد لأنه أدنى المسلمين، فجعل الأدنى هاهنا من الدناءة، وجعله غيره من الدنو.
قوله: وهم يد على من سواهم، أي كلمتهم ونصرتهم واحدة على جميع الملل المحاربة لهم يتعاونون على ذلك، ولا يخذل بعضهم بعضاً.
قوله: ويرد عليهم أقصاهم، معناه إذا دخل العسكر أرض الحرب فوجه الإمام السرايا فيما غنمت من شيء جعل لها ما سمي لها دون ما بقي على العسكر، لأنهم رد للسرايا.
قوله: ويجير، من أجرت فلاناً على فلان إذا حميته منه ومنعته ولاية، أي ولأن كل واحد من الرجل والمرأة م: (من أهل القتال) ش: أما الرجل فظاهر، وأما المرأة بأن تخرج للمداواة والخبز والطبخ، وذلك منها جهاداً، وبمالها أو بعبيدها.
فإن قلت: ما تقول في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هاه ما كانت هذه تقاتل» ، قاله لما رأى امرأة مقتولة؟ قلت: معناه ما تقاتل بنفسها.
م: (فيخافونه إذ هو يعد من أهل المنعة، فيتحقق الأمان منه) ش: الضمير المنصوب في فيخافونه، وقوله: إذ هو، وفي قوله منه كلها ترجع إلى ما ترجع الضمير الذي في قوله م: (لملاقاته محله) ش: أي لملاقاة الأمان، ومحله هو الحر الخائف م: (ثم يتعدى إلى غيره) ش: أي ثم يتعدى الأمان على غيره الذي أمن من المسلمين، كما في شهادة رمضان، فإن الصوم يلزم من شهد بالهلال ثم يتعدى منه إلى غيره م: (ولأن سببه) ش: أي سبب الأمان م: (لا يتجزأ وهو الإيمان) ش: أي التصديق بالقلب.
م: (وكذا الأمان لا يتجزأ) ش: فإذا تحقق من بعض، فأما أنه يبطل أو يكمل لا يجوز الأول بعد تحقق السبب فتحقق الثاني، وهو معنى قوله م: (فيتكامل) ش: أي ينفر، وكل مسلم به لكان سببه في حقه م: (كولاية الإنكاح) ش: فيما إذا وجد الإنكاح من أحد الأولياء المساوية في الدرجة صح النكاح في حق الكل، لأن سبب ولايته وهو القرابة غير متجزئ فلا تجزأ الولاية

(7/123)


قال: إلا أن يكون في ذلك مفسدة فينبذ إليهم، كما إذا أمن الإمام بنفسه ثم رأى المصلحة في النبذ، وقد بيناه.
ولو حاصر الإمام حصنا وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة ينبذ الإمام الأمان لما بينا ويؤدبه الإمام لافتياته على رأيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكذلك هاهنا.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: واعلم أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - استدل بالمفعول على وجهين جعل المناط في أحدهما كون من يعطي الأمان ممن يخافونه. وفي الآخر الإيمان، فالأول يقتضي عدم جواز أمان العبد المحجور والتأخير والأسير، والثاني يقتضي جوازه. ولو جعلها علة واحدة بخلاف الواو عن الثاني لتقع العلة لقوله ثم يتعدى إلى غيره كان أولى، ويمكن أن يجعل الأول علة، والآخر شرطاً، أو سماه مسبباً مجاوزاً، والشيء ينفى على عدمه عند عدم شرطه.
م: (قال: إلا أن يكون في ذلك مفسدة) ش: استثنى من قوله صح أمانهم، أي إلا أن يكون في الأمان فساد في حق المسلمين م: (فينبذ إليهم) ش: أي يعلمهم بالنبذ م: (كما إذا أمن الإمام نفسه ثم رأى المصلحة في النبذ) ش: أي يعلم الإمام أهل الحرب بالنبذ دفعاً للضرر عنهم م: (وقد بيناه) ش: أي في أول فصل الموادعة عند قوله: وإن صالحهم مدة ثم رأى نقض الصلح أنفع إليهم.

[حاصر الإمام حصناً وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة]
م: (ولو حاصر الإمام حصناً وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة) ش: أي والحال أن فيه فساد م: (ينبذ الإمام الأمان لما بينا) ش: أي في فصل الموادعة كما ذكرناه، إلا أن قاله الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - قبل قوله: نبذ.
قوله ولو حاصر الإمام حصناً وأمن واحد من الجيش تكرار محض، لأنه علم ذلك من قوله لأن يكون فيه مفسدة، انتهى.
قلت: أراد بهذا القائل، ألا ترى حيث قال هذا وأقول هذا تكرار محض لا محالة، لأنه علم ذلك من قوله إلا أن يكون في ذلك مفسدة.
قال الأكمل: بعد نقله هذا عنه، وأقول: يجوز أن يكون ذلك قبل أن يحاصر الإمام.
وهذا بعده، ويجوز أن يكون إعادة تمهيداً أو توطئة لقوله م: (ويؤدبه الإمام لافتياته على رأيه) ش: أي يؤدب الإمام ذلك الواحد من الجيش لافتياته، أي لسبقه على رأي الإمام. قال في المجمل الافتيات افتعال من الفوت وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من يؤتمر، يقال الافتيات على فلان أي لا يعمل شيء دون أمره.

(7/124)


بخلاف ما إذا كان فيه نظر، لأنه ربما تفوت المصلحة بالتأخير فكان معذورا.
ولا يجوز أمان ذمي لأنه متهم بهم، وكذا لا ولاية له على المسلمين، قال: ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم لأنهما مقهوران تحت أيديهم ولا يخافونهما، والأمان يختص بمحل الخوف، ولأنهما يجبران عليه فيعرى الأمان عن المصلحة، ولأنهم كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجرا فيتخلصون بأمانه فلا ينفتح لنا باب الفتح. ومن أسلم دار الحرب ولم يهاجر إلينا لا يصح أمانه لما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأصل الافتيات الافتوات، لأنه من الفوت أجوف واوي، فقلبت الواو ياء بتحركها وانكسار ما قبلها.
م: (بخلاف ما إذا كان فيه نظر) ش: أي بخلاف ما إذا كان في أمان هذا الواحد من الجيش نظر للمسلمين ومصلحة لهم من حيث لا يؤدبه الإمام م: (لأنه) ش: أي لأن هذا الواحد لو انتظر إلى رأي الإمام م: (ربما تفوت المصلحة بالتأخير) ش: أي بتأخير الأمان م: (فكان) ش: هذا الواحد م: (معذوراً) ش: في الإقدام على الإمام.

[أمان الذمي]
م: (ولا يجوز أمان ذمي لأنه متهم بهم) ش: لأنه من جملتهم وإن حضر لمعونة المسلمين، وهو متهم في حقنا لأنه في تقوية الكفر. وعن مالك: يصح أمانه لأن له ذمة، فكان تابعاً للمسلمين والمشهور عنه أنه لا يصح م: (وكذا لا ولاية له على المسلمين) ش: لأنه لأمانه ولاية وهي نفاذ قول على الغير، ولا ولاية للكافر على أهل الإسلام، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (النساء: الآية 141) ، فلا يصح أمانه.
م: (قال: ولا أسير ولا تاجر) ش: أي ولا يصح أيضاً أمان أسير ولا أمان تاجر م: (يدخل عليهم) ش: أي على أهل الحرب م: (لأنهما مقهوران تحت أيديهم) ش: لأن الأمان لدفع الخوف م: (ولا يخافونهما) ش: أي ولا يخاف أهل الحرب من الأسير والتاجر م: (والأمان يختص بمحل الخوف) ش: والأسير والتاجر ليسا بمحل الخوف لأنهما مقهوران.
م: (ولأنهما) ش: أي ولأن الأسير والتاجر م: (يجبران عليه) ش: أي على الأمان إذا احتاجوا إليه م: (فيعرى الأمان عن المصلحة) ش: لأن الأمان شرع لمصلحة المسلمين ولا مصلحة في أمان حصل عن إكراه مفسد للتراضي.
م: (ولأنهم) ش: أي ولأن أهل الحرب م: (كلما اشتد الأمر عليه) ش: من ضيق الحصار وشدة الحال م: (يجدون أسيراً أو تاجر فيتخلصون) ش: عند الشدائد م: (بأمانه) ش: أي بأمان الأسير أو التاجر م: (فلا ينفتح لنا باب الفتح) ش: لأنه ينسد بالأمان فيؤدي إلى سد ركن الجهاد.
م: (ومن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا لا يصح أمانه لما بينا) ش: أشار به إلى قوله والأمان

(7/125)


ولا يجوز أمان العبد المحجور عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يأذن له مولاه في القتال. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح وهو قول الشافعي، وأبو يوسف - رحمهما الله - معه في رواية، ومع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أمان العبد أمان، رواه أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنه مؤمن ممتنع فيصح أمانه اعتبارا بالمأذون له في القتال، وبالمؤبد من الأمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يختص بمحل الخوف

[أمان العبد المحجور عليه]
م: (ولا يجوز أمان العبد المحجور عليه) ش: من القتال م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يأذن له مولاه في القتال. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح وهو قول الشافعي) ش: وبه قال محمد ومالك وأحمد م: (وأبو يوسف - رحمهما الله - معه) ش: أي مع محمد م: (في رواية) ش: وهي رواية الكرخي م: (ومع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية) ش: وهي رواية الطحاوي وهو الظاهر عنه، واعتمد عليه في " المبسوط ".
م: (لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أمان العبد أمان» رواه أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا الحديث غريب، واسم أبي موسى عبد الله بن قيس. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حديثاً طويلاً عن فضيل بن يزيد الرقاشي وفيه أجاز عمر أمانه، أي أمان العبد.
وروى البيهقي بإسناد ضعيف عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعاً: «ليس للعبد من الغنيمة إلا خرثي من المتاع وأمانه جائز، وأمان المرأة جائز إذ هي أعطت القوم الأمان» . قوله: خُرْثِيّ من المتاع بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الثاء المثلثة وتشديد الياء آخر الحروف.
قال ابن الأثير: الخرثي: أثاث البيت ومتاعه، واستدل الأترازي لمحمد بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ويسعى بذمتهم أدناهم» وأدنى المسلمين العبد فيصح أمان العبد كيف بأن لإطلاق الحديث.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن العبد م: (مؤمن ممتنع) ش: يعني ذو قوة وامتناع، يعني له بنية صالحة للقتال م: (فيصح أمانه اعتباراً بالمأذون له في القتال) ش: والجامع على كلمة الله ودفع شر الكفار م: (وبالمؤبد من الأمان) ش: يعني واعتبار بالمؤبد بالباء الموحد، يعني عقد الذمة، فإن الحربي إذا عقد الذمة مع العبد وقبل الجزية وقبل العبد منه هذا العقد صح، وهذا العقد والقبول من العبد ويصير ذمياً بالاتفاق حتى يجري عليه أحكام أهل الذمة من المنع عن الخروج إلى دار الحرب وقصاص قاتله وغير ذلك.

(7/126)


فالإيمان لكونه شرطا للعبادة والجهاد عبادة، والامتناع لتحقق إزالة الخوف به والتأثير إعزاز الدين وإقامة المصلحة في حق جماعة المسلمين، إذ الكلام في مثل هذه الحالة، وإنما لا يملك المسابقة لما فيها من تعطيل منافع المولى ولا تعطيل في مجرد القول. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه محجور عن القتال فلا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه فلم يلاق الأمانة محله، بخلاف المأذون له في القتال، لأن الخوف منه متحقق، ولأنه إنما لا يملك المسابقة لما أنه تصرف في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فالإيمان) ش: مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، أي شرطه يعني شرط الإيمان في قولنا، ولأنه مؤمن يصح أمانه م: (لكونه) ش: أي لكون الإيمان م: (شرطاً للعبادة والجهاد عبادة والامتناع) ش: أي الامتناع شرط أيضاً م: (لتحقق إزالة الخوف به) ش: أي بالامتناع م: (والتأثير) ش: يعني في صحة قياس المحجور على المأذون له، وقيل: معنى العلة الجامعة في قياس العبد المحجور على المأذون له م: (إعزاز الدين وإقامة المصلحة في حق جماعة المسلمين، إذ الكلام في مثل هذه الحالة) ش: أي حالة المصلحة وهو الأمان في الحر.
فإذا وجد في المحجور عليه صح تعديته إليه كما في سائر الأقيسة م: (وإنما لا يملك المسابقة) ش: جواب عما يقال: الأصل في الجهاد هو المسابقة، وهي المضاربة بالسوء وهؤلاء يملكه، فكذا لا يملك الأمان أيضاً. وتقرير الجواب أنه لا يملك المسابقة م: (لما فيها) ش: أي في المسابقة م: (من تعطيل منافع المولى) ش: وهو لا يملك ذلك م: (ولا تعطيل) ش: أي لمنافعه م: (في مجرد القول) ش: وهو ظاهر.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن العبد م: (محجور عن القتال، فلا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه) ش: أي لأن أهل الحرب سراي العبد م: (فلم يلاق الأمان محله) ش: ومحله الخوف. وقال الأكمل: قوله ولأبي حنيفة أنه محجور عن القتال يصح أن يكون ممانعة.
وتقريره لا نسلم وجود الامتناع، لأن الامتناع إنما يكون لإزالة الخوف وهم لا يخافونه وأن يكون معاوضة وهو الظاهر من كلام المصنف. تقريره أنه محجور عن القتال لا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه، وفيه نظر، فإن الخوف أمر باطني لا دليل على وجوده ولا على عدمه، فإن الكفار من أين يعلمون أنه عبد محجور عليه حتى لا يخافونه.
والجواب: أن ذلك يعلم بترك المسابقة، فإنهم لما أرادوا شيئاً مقتدراً على القتال مع المقاتلين ولا يحمل سلاحاً ولا يقاتلهم علموا أنه ممنوع من ذلك ممن له المنع. ولو قال المصنف: إنه ممنوع عن القتال والأمان نوع قتال لكان أسهل إثباتاً لمذهب أبي حنيفة فتأمل. م: (بخلاف المأذون له في القتال، لأن الخوف منه متحقق) ش: فصح أمانه م: (ولأنه) ش: أي ولأن العبد المحجور وهو عطف على قوله لأنهم لا يخافونه م: (إنما لا يملك المسابقة لما أنه تصرف في

(7/127)


حق المولى على وجه لا يعرى عن احتمال الضرر في حقه، والأمان نوع قتال، وفيه ما ذكرناه لأنه قد يخطئ، بل هو الظاهر، وفيه سد باب الاستغنام، بخلاف المأذون لأنه رضي به والخطأ نادر لمباشرته القتال، وبخلاف المؤبد لأنه خلف عن الإسلام فهو بمنزلة الدعوة إليه، ولأنه مقابل بالجزية، ولأنه مفروض عند مسألتهم ذلك، وإسقاط الفرض يقع فافترقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق المولى على وجه لا يعرى عن احتمال الضرر في حقه) ش: أي في حق المولى م: (والأمان نوع قتال، وفيه ما ذكرناه لأنه قد يخطئ) ش: أي لأن العبد قد يخطئ في القتال لعدم ممارسته بأمر الحرب م: (بل هو الظاهر) ش: لأن اشتغاله بخدمة المولى يمنعه عن التعلم بأدب الحرب.
م: (وفيه) ش: أي وفي الأمان م: (سد باب الاستغنام) ش: أي على المسلمين وذلك ضرر في حقهم، فإذا كان ممنوعاً الضرر للمولى، فكيف يصح منه ما يضر المولى والمسلمين، توضيحه أن أمانه لو صح يحرم القتال بالاستغنام بعد ذلك، والاستغنام الكتاب مال مباح فيعد صحة الأمان لا يبقي للمولى استعمال عبده في الاستغنام وهو ضرر للمولى لا محالة.
م: (بخلاف المأذون لأنه رضي به) ش: أي بخلاف أمان المأذون، لأن المولى رضي له أي بأمانه م: (والخطأ نادر) ش: أي الخطأ من المأذون نادر م: (لمباشرته) ش: أي لمباشرة المأذون م: (القتال) ش: لأنه لما باشره عرف مصلحة الأمان فكان الخطأ نادراً. م: (وبخلاف المؤبد) ش: أي الأمان المؤبد وهو عقد الذمة، وهو جواب قول محمد وبالمؤبد بالأمان م: (لأنه) ش: أي لأن الأمان المؤبد م: (خلف عن الإسلام) ش: أي من حيث إنه ينتهي به القتال المطلوب به السلام الحربي م: (فهو بمنزلة الدعوة إليه) ش: أي إلى الإسلام، وهي نفع للمسلمين لا ضرر فصح ذلك الأمان كذلك.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الأمان المؤبد م: (مقابل بالجزية) ش: وفيه نفع للمسلمين م: (ولأنه) ش: أي ولأن الأمان المؤبد م: (مفروض) ش: أي فرض م: (عند مسألتهم) ش: أي مسألة أهل الحرب م: (ذلك) ش: أي الأمان. وقال الأترازي: هنا يعني إذا طلب الحربي الإسلام عليه من المحجور يفترض عليه الفرض.
وقال الأكمل: ولأنه مفروض عند مسألتهم ذلك، يعني أن الكفار إذا طلبوا عقد الذمة يفترض عليه - على الإمام - إجابتهم إليه م: (وإسقاط الفرض يقع) ش: وقال تاج الشريعة: إذا طلبوا يفترض على الإمام إجابتهم، فيكون العبد مسقطاً لفرض، وإسقاط الفرض يقع لكونه منجياً من العذاب ولا كذلك الأمان. لأنه ليس فيه إسقاط الفرض م: (فافترقا) ش: أي افترق أمان العبد المحجور عليه عن القتال، وأمان المأذون له بالقتال أو افترق الأمان المؤقت من المحجور عليه عن القتال الأمان والمؤبد منه.

(7/128)


ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح كالمجنون،
وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال، فعلى الخلاف، وإن كان مأذونا له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[أمان الصبي]
م: (ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح) ش: أي أمانه م: (كالمجنون) ش: في عدم صحة أمانه، وبه قالت الثلاثة. وقال الناطقي في " الأجناس " ناقلاً عن " السير الكبير " قال محمد: الغلام الذي راهق وهو يقبل الإسلام ويضمن جاز أمانه، ثم قال: وهذا قوله. وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلا يجوز.
وقال في كتابه " النهي ": لا يجوز أمان الصبي المراهق ما لم يبلغ، عند أبي حنيفة، وعند محمد يجوز إذا كان يقبل الإسلام وصفاته.
م: (وإن كان) ش: أي الصبي م: (يعقل وهو محجور عن القتال، فعلى الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور في العبد المحجور، فعند أبي حنيفة لا يصح أمانه، وعند محمد يصح، وبه قال مالك وأحمد في وجه، وبقول أبي حنيفة قال الشافعي وأحمد في وجه.
م: (وإن كان) ش: أي الصبي م: (مأذوناً له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق) ش: أي باتفاق أصحابنا وليس على الخلاف، لأنه تصرف دائر بين النفع والضرر كالبيع، فيملكه الصبي بعد الإذن.
فائدة: وألفاظ الأمان للحربي: لا تخف ولا توجل " أو مترس " بالفارسية يعني: لا تخف، ولكم عهد الله وذمة الله، أو يقال فاسمع الكلام، ذكره في " السير الكبير ".

(7/129)