البناية شرح الهداية

باب أحكام المرتدين قال: وإذا ارتد المسلم عن الإسلام - والعياذ بالله - عرض عليه الإسلام، فإن كانت له شبهة كشفت عنه؛ لأنه عساه اعترته شبهة فتزاح، وفيه دفع شره بأحسن الأمرين إلا أن العرض على ما قالوا غير واجب؛ لأن الدعوة بلغته. قال: ويحبس ثلاثة أيام، فإن أسلم وإلا قتل. وفي " الجامع الصغير ": المرتد يعرض عليه الإسلام، فإن أبى قتل حرا كان أو عبدا، وتأويل الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب أحكام المرتدين]
م: (باب أحكام المرتدين) ش: أي هذا باب في بيان أحكام المرتدين وهو جمع مرتد، وهو الذي يرتد، أي يرجع عن دين الإسلام إلى الكفر - والعياذ بالله تعالى - ولما فرغ من بيان أحكام الكفر الأصلي شرع في بيان أحكام الكفر الطارئ؛ لأن الطارئ إنما هو بعد وجود الأصلي.
م: (قال: وإذا ارتد المسلم عن الإسلام - والعياذ بالله - عرض عليه الإسلام) ش: وفي أكثر النسخ، وإذا ارتد المسلم عن الإسلام عرض عليه الإسلام م: (فإن كانت له شبهة كشفت عنه) ش: وفي بعض نسخ القدوري كشفت له.
م: (لأنه) ش: أي لأن الذي ارتد م: (عساه) ش: أي لعله م: (اعترته شبهة) ش: وفي بعض النسخ اعترضت له شبهة، يقال عراه أعراه بمعنى إذا أباح م: (فتزاح) ش:، أي تزال من الإزاحة، وفي بعض النسخ: فتزاح عنه أي عن الذي ارتد.
م: (وفيه) ش: أي وفي عرض الإسلام م: (دفع شره) ش: أي دفع شر المرتد م: (بأحسن الأمرين) ش: أراد بهما الإسلام والقتل، وأحسنهما الإسلام م: (إلا أن العرض) ش: أي غير أن عرض الإسلام عليه.
م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ م: (غير واجب، لأن الدعوة بلغته) ش: أي لأنه عذر، ولكن العرض مستحب. وفي الإيضاح ويستحب عرض الإسلام على المرتدين؛ لأن رجاء عوده إلى الإسلام ثبت على ما يجيء.
م: (قال: ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم) ش: فبها ونعمت م: (وإلا قتل) ش: أي وإن لم يسلم بعد ثلاثة أيام قتل. إلى هاهنا كلام القدوري مع شرح المصنف إياه م: (وفي " الجامع الصغير " المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل) ش: مكانه، وذكره في شرحه: في المسلم يرتد أن يقتل م: (حراً كان أو عبداً) ش: وقال فخر الإسلام: ولا يؤخر إلى أن نتمهل؛ لأنه قد ارتد بعد المعرفة، فلا عفو له م: (وتأويل الأول) ش: وهو قوله ثلاثة أيام.

(7/267)


أنه يستمهل فيمهل ثلاثة أيام لأنها مدة ضربت لإيلاء الإعذار، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام، ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك؛ لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرا، فلا بد من مدة يمكنه التأمل، فقدرناه بالثلاثة. ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] من غير قيد الإمهال، وكذا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أنه) ش: أي أن المرتد م: (يستمهل) ش: على صيغة المعلوم من الاستمهال، وهو طلب المهلة. حاصل معناه أنه إذا طلب المهلة م: (فيمهل) ش: على صيغة المجهول من الإمهال م: (ثلاثة أيام؛ لأنها مدة ضربت لإيلاء الإعذار) ش: بكسر الهمزة.
أي لاختيار الأعذار كما في شرط خيار قصة موسى، والعبد الصالح وإن لم يطلب المهلة فالظاهر من حالته أنه متعنت في ذلك، فلا بأس بقتله، إلا أن له يستحب أن يستر؛ لأنه بمنزلة كافر بلغته الدعوة.
فإن قيل تقدير المدة هاهنا بثلاثة أيام نصب الحكم بالرأي فيما لا مدخل للقتل فيه؛ لأنه المقادير. أجيب: بأن هذا من قبيل إثبات الحكم بدلالة النص؛ لأن ورود النص في خيار البيع بثلاثة أيام، وورد فيه لأن التقدير بثلاثة أيام هناك كان للتأمل. والتقدير هاهنا أيضاً للتأمل.
م: (وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك) ش: أي الإمهال أو التأجيل م: (أو لم يطلب. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك؛ لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهراً، فلا بد من مدة يمكنه التأمل. فقدرناه بالثلاثة) .
ش: وقال الكاكي: ومدة الاشتباه ثلاثة أيام عندنا ومالك وأحمد والشافعي في قول.
وفي أصح قوليه إن تاب في الحال وإلا قتل؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه» وهو اختيار ابن المنذر. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يستتاب شهراً. وقال الثوري يستتاب ما رجي عوده. وقال النخغي يستتاب أبداً، وهذا يقتضي أن لا يقتل أبداً، وهو مخالف للسنة والإجماع.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] من غير قيد الإمهال، وكذا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من بدل دينه فاقتلوه» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرجه البخاري في حديث استتابة المرتدين وفيه «من بدل دينه فاقتلوه» .

(7/268)


ولأنه كافر حربي بلغته الدعوة فيقتل للحال من غير استمهال، وهذا لأنه لا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم. ولا فرق بين الحر والعبد لإطلاق الدلائل. وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام؛ لأنه لا دين له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروي عن معاوية بن حيدة، أخرجه الطبراني في الكبير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» أن لا تقبل توبته عن الكفر بعد إسلامه. وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عنها مرفوعاً نحوه سواء.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المرتد م: (كافر حربي بلغته الدعوة فيقتل للحال من غير استمهال) ش: إنما قال كافر حربي؛ لأنه ليس بذمي ولا مستأمن، إذ لا يقبل الجزية، وما طلب الأمان فكان حربياً فيقتل لإطلاق النص. ولأنه بنفس الردة صار محارباً لأهل الإسلام فيقتل، إلا إذا استمهل فيمهل ثلاثة أيام كما مر.
ونقل الناطقي في كتاب " الأجناس " عن كتاب " الارتداد للحبس " فأناب المرتد وعاد إلى الإسلام ثم عاد إلى الكفر حتى فعل ذلك ثلاث مرات، وفي كل مرة طلب من الإمام التأجيل أجله الإمام ثلاثة أيام. فإن عاد إلى الكفر رابعاً ثم طلب التأجيل فإنه لا يؤجله، فإن أسلم وإلا قتل.
وقال الكرخي في " مختصره ": فإن رجع أيضاًَ عن الإسلام يأتي به الإمام بعد ثلاثة استتابات أيضاً. فإن لم يتب قتله ولا يؤجله، وإن هو تاب ضربه ضرباً وجيعاً ولا يبلغ به الحد، ثم يحبسه ولا يخرجه من السجن حتى يرى عليه خشوع التوبة، ويرى من حاله حال إنسان قد أخلص، فإذا فعل ذلك خلى سبيله. فإن عاد بعدما خلى سبيله فعل به مثل ذلك أبداً ما دام يرجع إلى الإسلام، ولا يقتل إلا أن يأبى أن يسلم.
وقال أبو الحسن الكرخي: هذا قول أصحابنا جميعاً أن المرتد يستتاب أبداً. وروي عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لا تقبل توبة بعد المرة الثالثة؛ لأنه مستحق السبي وليس بثابت م: (وهذا) ش: أي قتله للحال من غير إمهال م: (لأنه) ش: أي لأن القتال م: (لا يجوز تأخير الواجب) وهو القتل م: (لأمر موهوم) ش: وهو إسلام المرتد م: (ولا فرق بين الحر والعبد) ش: أي لا فرق في قتل المرتد أن يكون حراً أو عبداً إذا أبى الإسلام م: (لإطلاق الدلائل) ش: هو قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه» وغيرهما من غير فصل بين الحر والعبد. م: (وكيفية توبته) ش: أي توبة المرتد م: (أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام لأنه لا دين له) ش: يعني لو كان له دين كاليهودية والنصرانية يوجب عليه أن يبرأ عن ذلك، ولكن ليس له دين فلأجل هذا يبرأ عن الأديان كلها سوى دين الإسلام بعد أن يأتي بالشهادتين.

(7/269)


ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود. قال: فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره ولا شيء على القاتل. ومعنى الكراهية هاهنا ترك المستحب، وانتفاء الضمان؛ لأن الكفر مبيح للقتل والعرض بعد بلوغ الدعوة غير واجب. وأما المرتدة فلا تقتل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال في شرح الطحاوي: سئل أبو يوسف عن المرتد كيف يستتاب فقال: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. ويقر بما جاء من عند الله من الذي انتحل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وقال: ولم أدخل في هذا الدين قط وأنا بريء منه، أي من الذي ارتد إليه فهي توبة أيضاً.
كذا نقل الشيخ أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف، وقال في شرح الطحاوي: إسلام النصراني أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويبرأ من النصرانية، وإن كان يهودياً يبرأ من اليهودية.
وكذلك إذا كان كل ملة توقف عليها. وأما إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فإنه لا يكون مسلماً بهذا الاسم؛ لأنهم يقولون هذا إلا أنهم إذا فسروا قالوا: رسول الله إليكم، هذا في اليهود والنصارى والذمي بين ظهراني أهل الإسلام.
وأما إذا كان في دار الحرب وحمل عليه رجل من المسلمين فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فهذا دليل الإسلام، أو قال محمد رسول الله، أو قال: دخلت في دار الإسلام، أو قال: دخلت في دين محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فهذا دليل إسلامه، ذكره في كتاب المرتد.

[المرتد إذا قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه]
م: (ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود) ش: لأنه مسلمة للمرتد بعد ما كان عليه إذا تبرأ عما انتقل إليه حصل المقصود، والإقرار بالبعث والنشور مستحب، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره، ولا شيء على القاتل) ش: لأن القتل وجب عليه بالنصوص لمجرد الكفر، فلم يجب الضمان على قاتله لوجود المبيح م: (ومعنى الكراهية هاهنا ترك المستحب) ش: لأن في القتل تفويت الغرض المستحب.
وعند من قال بوجوب العرض يحرم قتله م: (وانتفاء الضمان لأن الكفر مبيح للقتل، والعرض بعد بلوغ الدعوة غير واجب) ش: لأن الكافر إذا بلغته الدعوة لا يجب تجديد العرض عليه، بل يستحب، فكذا هنا.
وفائدة الاستحباب محل قتله العرض م: (وأما المرتدة فلا تقتل) ش: ولكن حتى تسلم سواء كانت حرة أو أمة، ولو قتلها قاتل لم يجب عليه شيء.

(7/270)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقتل لما روينا؛ ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنها جناية مغلظة فتناط بها عقوبة مغلظة، وردة المرأة تشاركها فيها فتشاركها في موجبها. ولنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن قتل النساء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقتل لما روينا؛ ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنها جناية مغلظة فتناط بها عقوبة مغلظة، وردة المرأة تشاركها فيها فتشاركها في موجبها. ولنا «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن قتل النساء»
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقتل) ش: وبه قال مالك وأحمد وأبو الليث والزهري والنخعي والأوزاعي ومكحول وحماد وإسحاق. وهو قول أبي يوسف أولاً، ذكره أبو الليث م: (لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه» ومن تعم الرجال والنساء.
وروى الدارقطني «أن امرأة يقال لها مروان ارتدت فأمر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت» م: (ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنها جناية مغلظة فتناط بها) ش: أي يتعلق بها م: (عقوبة مغلظة) ش: وهو القتل م: (وردة المرأة تشاركها فيها) ش: أي تشارك ردة الرجل في هذه العقوبة م: (فتشاركها في موجبها) ش: وهو القتل؛ لأن الاشتراك في العلة موجب الاشتراك في المعلول، فصار كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وفيه نظر؛ لأنه إثبات ما يندرئ بالشبهات بالرأي.
م: (ولنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن قتل النساء) ش: وروى الجماعة إلا ابن ماجه عن نافع عن ابن عمر «أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهى عن قتل النساء والصبيان» .
وفي لفظ البخاري ومسلم: «فأنكر قتل النساء والصبيان» . وأخرج أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاًَ فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة» .... الحديث، فإذا لم يقتل بالكفر الأصلي فبالطارئ بطريق الأولى كالصبي.
وروى الدارقطني في " سننه " عن عبد الله بن عيسى الجزري حدثنا عقال شعير عن عاصم عن أبي ربيعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقتل المرأة إذا ارتدت» ، قال الدارقطني: وعبد الله هذا كذاب يضع الحديث على عقال وغيره، هذا لا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والجواب عن الحديث الذي اتضح به الشافعي أنه عام متروك الظاهر؛ لأن من بدل دينه من اليهودية إلى النصرانية أو من النصرانية إلى اليهودية أو من الكفر إلى الإسلام، لا يقتل مع وجود التبديل على الرجل المرتد توفيقاً بين الحديثين.

(7/271)


ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء، وإنما عدل عنه دفعا لشر ناجز وهو الحراب، ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية. بخلاف الرجال فصارت المرتدة كالأصلية. قال: ولكن تحبس حتى تسلم لأنها امتنعت عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار، فتجبر على إيفائه بالحبس كما في حقوق العباد. وفي " الجامع الصغير ": وتجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة، والأمة يجبرها مولاها. أما الجبر فلما ذكرنا من المولى لما فيه من الجمع بين الحقين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء) ش: الذي هو من الله إظهار علمه؛ لأن الناس يمتنعون خوفاً من لحوقه، فصاروا في المعنى كالمحورين، وفيه إخلال بالإسلام م: (وإنما عدل عنه) ش: أي عن هذا الأصل م: (دفعاً لشر ناجز) ش: أي واقع م: (وهو الحراب) ش: يقال: ناجزاً مناجزاً، أي يتداخل.
م: (ولا يتوجه ذلك) ش: أي الحرب م: (من النساء لعدم صلاحية البنية) ش: يعني بنيتهن غير صالحة لذلك.
م: (بخلاف الرجال، فصارت المرتدة كالأصلية) ش: كالكافرة الأصلية والكافرة الأصلية لا تقتل، فكذا المرتدة.
وقال الأكمل: ما قيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل مرتدة فقد قيل: إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يقتلها لمجرد الردة، بل؛ لأنها كانت شاخة شاعرة تهجو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان لها ثلاثون ابناً، وهي تحرضهم على قتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بقتلها.
م: (قال: ولكن تحبس حتى تسلم؛ لأنها امتنعت عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار فتجبر على إيفائه) ش: أي إيفاء حق الله تعالى م: (بالحبس كما في حقوق العباد) ش: حيث تحبس لإيفاء ما عليها من الحق.
م: (وفي " الجامع الصغير ") ش: إنما أعاد رواية " الجامع الصغير " لاشتمالها على ذكر الحر والحرة والأمة م: (وتجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة، والأمة يجبرها مولاها، أما الجبر فلما ذكرنا) ش: يعني أنه امتنعت عن إيفاء حق الله بعد الإقرار م: (من المولى) ش: أي وأما الإجبار من المولى م: (لما فيه من الجمع بين الحقين) ش: أي حق الله تعالى وهو الجبر على الإسلام وحق العبد وهو الاستخدام.
وفي " الإيضاح " قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن احتاج المولى إلى خدمتها دفعها القاضي إليه وأمره أن يجبرها إلى الإسلام وأرسل إليها القاضي كل أيام يهددها ويضربها أسواطاً حتى تموت أو تسلم. والصحيح أنه يدفعها إلى المولى احتاج أو استغنى طلب أم لا؛ لأن الحبس

(7/272)


ويروى: تضرب في كل أيام مبالغة في الحمل على الإسلام. قال: ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالا مراعى، فإن أسلم عادت إلى حالها. قالوا هذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لا يزول ملكه؛ لأنه مكلف محتاج فإلى أن يقتل بقي ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص. وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا حتى يقتل. ولا قتل إلا بالحراب وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تصرف فيها، وذا إلى المولى.
فإن قيل: للمولى حق الاستخدام في العبد والأمة جميعاً، فكيف دفعت إليه الأمة دون العبد.
أجيب: بأن العبد إذا أبى يقتل، فلا فائدة في الدفع إلى المولى.
م: (ويروى: تضرب في كل أيام مبالغة في الحمل على الإسلام) ش: وعن الحسن أن المرتدة تضرب كل يوم تسعة وثلاثين سوطا حتى تموت أو تسلم.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته) ش: أي بسبب ردته م: (زوالاً مراعى) ش: أي محفوظاً موقوفاً حتى يتبين حاله. وبه قال الشافعي في الأصح ومالك وأحمد في رواية، وبيانه في قوله م: (فإن أسلم عادت) ش: أي أمواله م: (إلى حالها) ش: أي تبقى ملكاً له كما كانت م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (هذا) ش: أي الذي ذكره القدوري من الزوال المراعى قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي بعض النسخ م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو الأصح م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (لا يزول ملكه) ش: وبه قال الشافعي في قوله، واختاره المزني وأحمد في ظاهر الرواية، وبه قال ابن المنذر وأكثر أهل العلم على أنه لا يزول بمجرد الردة م: (لأنه مكلف محتاج فإلى أن يقتل بقي ملكه) ش: ولا يتمكن من إقامة التكلف وأثر الردة في إباحة دمه لا في زوال ملكه كالمقضي عليه بالقود والرجم وهو معنى قوله م: (كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص) ش: فإن ملكه لا يزول بإباحة دمه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن المرتد م: (حربي مقهور) ش: أما كونه حربياً، فلأنه كافر غير مستأمن والحربي كذلك؛ لأنه كافر غير مستأمن. وأما كونه مقهوراً فلأنه م: (تحت أيدينا حتى يقتل) ش: وقد زالت عصمة نفسه بالردة حتى يستحق القتل، ولذلك إن زالت عصمة نفسه تبعا له م: (ولا قتل إلا بالحراب) ش: فكان القتل هنا مستلزما للحراب، لأن نفس الكفر ليس مبيح له، ولهذا لا يقتل الأعمى والمقعد والشيخ الفاني، وقد تحقق اللزوم بالاتفاق، وهو كونه: من يقتل، فلا بد من لازمه، وهو كونه حربياً (وهذا) ش: أي كونه حربياً

(7/273)


يوجب زوال ملكه ومالكيته، غير أنه مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه، ويرجى عوده إليه فتوقفنا في أمره، فإن أسلم جعل هذا العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم، وصار كأن لم يزل مسلما ولم يعمل السبب.
وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه استقر كفره فيعمل السبب عمله وزال ملكه. قال: وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقهوراً تحت أيدينا م: (يوجب زوال ملكه ومالكيته) ش: بالجر عطفاً على قوله: ملكه؛ لأن المقهور به أمارة المملوكية، فإذا كان مقهوراً ارتفعت مالكيته وارتفاعها مستلزم ارتفاع الملك؛ لأن ارتفاع المالكية مع بقاء الملك بحال.
م: (غير أنه) ش: أي أن المرتد م: (مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه ويرجى عوده إليه) ش: أي على الإسلام، وذلك موجب بقاء المالكيه؛ لأنه حي مكلف يحتاج إلى ما تمكن منه من أداء ما يتكلف به، فبالنظر إلى الأول يزول وبالنظر إلى الثاني لا يزول م: (فتوقفنا في أمره) ش: فقلنا بزوال موقوف.
م: (فإن أسلم جعل هذا العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم) ش: أي في حق بقاء ملكه على ماله، واحترز بقوله في حق هذا الحكم عن جبر عليه وعن بينونة امرأته وعن وجوب تجديد كلمة الشهادة؛ لأن ردته لا تجعل كأنه لم تكن في هذه الأحكام م: (وصار كأن لم يزل مسلماً ولم يعمل) ش: على صيغة المجهول م: (السبب) ش: أي سبب المرتد ونكله وهو الارتداد

[ميراث المرتد إن مات أو قتل على ردته]
م: (وإن مات أو قتل على ردته بدار الحرب وحكم بلحاقه) ش: بدار الحرب م: (استقر كفره فيعمل السبب عمله وزال ملكه) ش: مبتدأ إلى وقت الردة، كما في البيع بشرط الخيار للمشتري. م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين) ش: وقال الأترازي: فلو قال: وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب، فحكم بلحاقه كان أولى؛ لأن حكم الحاكم باللحاق مثل موته، انتهى.
قلت: لم يقل هكذا هنا لا كفاية بما ذكره قبله، قيل إنه تكرار.
قلت: لا؛ لأن الأول لفظه، والثاني لفظ القدوري م: (كان ما اكتسبه في حال ردته فيئاً) ش: يعني غنيمة للمسلمين. م: (وهذا) ش: أي المذكور م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال زفر والحسن، كذا ذكره الكرخي.

(7/274)


وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلاهما لورثته. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلاهما فيء؛ لأنه مات كافرا، والمسلم لا يرث الكافر، ثم هو مال حربي لا أمان له، فيكون فيئا. ولهما أن ملكه في الكسبين بعد الردة باق على ما بيناه، فينتقل بموته إلى ورثته، ويستند إلى ما قبيل ردته، إذ الردة سبب الموت فيكون توريث المسلم من المسلم. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يمكن الاستناد في كسب الإسلام لوجوده قبل الردة. ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها، ومن شرطه وجوده، ثم إنما يرثه من كان وارثا له حالة الردة، وبقي وارثا إلى وقت موته في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا للاستناد. وعنه أنه يرثه من كان وارثا له وقت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما) ش: يعني الكسبان جميعاً م: (لورثته. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلاهما فيء) ش: وبه قال مالك وأحمد م: (لأنه مات كافراً والمسلم لا يرث الكافر ثم هو مال حربي لا أمان له فيكون فيئاً) ش: يعني يوضع في بيت المال ليكون للمسلمين باعتبار أنه مال ضائع.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد م: (أن ملكه في الكسبين بعد الردة باق على ما بيناه) ش: إشارة إلى قوله: لأنه مكلف يحتاج إلى آخره م: (فينتقل بموته إلى ورثته ويستند إلى ما قبيل ردته) ش: هذا جواب عما يقال: هذا توريث المسلم من الكافر، فأجاب بقوله: ويمتد، أي إلى إرسال.
وخرج في " المبسوط " ويستند التوريث إلى ما قبل ردته، فيكون كأنه كسب الردة كسب الإسلام م: (إذ الردة سبب الموت) ش: ولما كان سبب الموت جعل موتاً حكماً، فكان آخر جزء من أجزاء إسلامه آخر جزء من أجزاء حياته حكماً م: (فيكون توريث المسلم من المسلم) ش: بهذه الحيثية.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يمكن الاستناد) ش: أي إسناد التوريث م: (في كسب الإسلام لوجوده) ش: أي لوجود الكسب م: (قبل الردة، ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها) ش: أي لعدم الكسب قبل الردة.
م: (ومن شرطه) ش: أي من شرط إسناد التوريث م: (وجوده) ش: أي وجود الكسب قبل الردة، ليكون توريث المسلم من المسلم؛ لأنا لو قلنا بالتوريث فيما كسب في حال الردة لزم توريث المسلم من الكافر، وذلك لا يجوز م: (ثم إنما يرثه) ش: أي إنما يرث المرتد م: (من كان وارثاً له حالة الردة، وبقي وارثاً إلى وقت موته في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتباراً للاستناد) ش: ذكر هذا الروايات تفريعاً لمسألة القدوري، وهذه الرواية رواية الحسن م: (وعنه أنه يرثه من كان وارثاً له وقت

(7/275)


الردة، ولا يبطل استحقاقه بموته بل يخلفه وارثه؛ لأن الردة بمنزلة الموت، وعنه أنه يعتبر وجود الوارث عند الموت؛ لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه كالحادث قبل انعقاده بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض،
وترثه امرأته المسلمة إذا مات أو قتل على ردته وهي في العدة؛ لأنه يصير فارا، وإن كان صحيحا وقت الردة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الردة) ش: وولد له من علوق حادث وبقي إلى موته يرثه.
ومن حدث بعد ذلك لا يرثه حتى لو أسلم بعض قرابته بعد ردته، وولد من علوق حادث بعد ردته لا يرثه على هذه الرواية م: (ولا يبطل استحقاقه) ش: أي استحقاق الوارث م: (بموته) ش: قبل موت المرتد م: (بل يخلفه وارثه. لأن الردة بمنزلة الموت) ش: في حكم التوريث. ومن مات من الورثة بعد موت مورثه قبل قسمة الميراث لا يبطل استحقاقه، ولكن يخلفه وارثه فيه، وهذا مثله.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة هذه الرواية رواها محمد عن أبي حنيفة م: (أنه يعتبر وجود الوارث عند الموت) ش: سواء كان موجوداً عند الردة أو حدث بعدها. وفي المبسوط هذا أصح م: (لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه) ش: أي تمام السبب م: (كالحادث قبل انعقاده) ش: أي قبل السبب فلا جرم تعتبر زمان الموت؛ لأن السبب يتم به حتى يرثه الولد الحادث بعد الردة قبل القتل أو الموت.
وهذا م: (بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض) ش: بغير الولد الحادث في المشتراة قبل القبض، حيث يكون له حصة من الثمن غير مضمونة، حتى إذا هلك من يد البائع قبل القبض بغير فعل أحد هلك معه العوض وبقي الثمن كله متعلقاً بالأصل، كما كان كذلك لو كان الولد حادثا قبل انعقاد السبب وهو البيع.
قال في " النهاية ": وحاصله أنه على رواية الحسن يشترط الوصفان وهما: كونه وارثاً وقت الردة، وكونه باقياً إلى وقت الموت أو القتل، حتى لو كان وارثاً ثم مات قبل موت المرتد أو جد وارث بعد الردة فإنه لا يرثانه.
وعلى رواية أبي يوسف: يشترط الوصف الأول دون الثاني، وعلى رواية محمد: يشترط الوصف الثاني دون الأول.

[ميراث زوجة المرتد إذا قتل على ردته وهي في العدة]
م: (وترثه) ش: أي ترث المرتد م: (امرأته المسلمة إذا مات) ش: أي المرتد م: (أو قتل على ردته وهي في العدة) ش: الواو فيه للحال م: (لأنه يصير فاراً، وإن كان) ش: أي المرتد والواو للاتصال م: (صحيحاً وقت الردة) ش: لأن الردة سبب الهلاك كالمرض، فأشبه بردته التي حصلت بها بينونة الطلاق في حالة المرض.

(7/276)


والمرتدة كسبها لورثتها؛ لأنه لا حراب منها فلم يوجد سبب الفيء، بخلاف المرتد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويرثها زوجها المسلم إن ارتدت وهي مريضة لقصدها إبطال حقه، وإن كانت صحيحة لا يرثها؛ لأنها لا تقتل فلم يتعلق حقه بمالها بالردة، بخلاف المرتد. قال: وإن لحق بدار الحرب مرتدا وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والطلاق البائن حالة المرض يوجب الإرث إذا كانت في العدة. وفي رواية أبي يوسف: يرث وإن انقطعت العدة؛ لأن العدة تغير قيام السبب وقت الردة، ذكره في " المبسوط ".
فإن قيل: أضاف أبو حنيفة التوريث إلى ما قبل الردة، وذلك مستلزم أن لا يتفاوت الحكم بين المدخول بها وغير المدخول؛ لأن الردة موت، وامرأة الميت ترثه سواء كان مدخولاً بها أو لم تكن.
أجيب: بأن الموت الحقيقي سبب للإرث حقيقة، يستوي فيه المدخول بها وغيرها. وأما الردة فإنها جعلت موتاً حكماً ليكون توريث المسلم، فهي ضعيفة في السببية فلا من تقررها بما هو من آثار النكاح من الدخول وقيام العدة.
م: (والمرتدة كسبها) ش: أي كسب المرتدة م: (لورثتها؛ لأنه لا حراب منها) ش: أي من المرأة. ومعنى هذا أن عصمة المال تبع لعصمة النفس، فالردة لا تزيل عصمة نفسها حتى لا تقتل، فكذا لا تزيل عصمة مالها، فكان الكسبان ملكها فيكون ميراثاً لورثتها. فإذا لم يكن حراب منها م: (فلم يوجد سبب الفيء) ش: فلا يترتب عليه الحكم م: (بخلاف المرتد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن كسبه فيء لكونه محارباً في الحال أو في المآل باللحاق.
وحاصل العرف أن عصمة المال تابعة للنفس، فالمرتدة لا تقتل فلا تسقط عصمة نفسها، فكذا لا تسقط عصمة مالها، بخلاف المرتد فإنه يقتل فتسقط عصمة نفسه، فكذا عصمة ماله لما ذكرنا م: (ويرثها) ش: أي المرتدة م: (زوجها المسلم إن ارتدت وهي مريضة) ش: الواو فيه للحال م: (لقصدها إبطال حقه) ش: أي حق الزوج بقصد الفرار من ميراث الزوج.
م: (وإن كانت) ش: أي المرتدة م: (صحيحة لا يرثها؛ لأنها لا تقتل، فلم يتعلق حقه بمالها بالردة) ش: لأنها ماتت بنفس الردة، فلم يضر فيه على الهلاك لأنها لا تقتل م: (بخلاف المرتد) ش: فلا يكون في حكم الفارة المريضة، فلا يرث زوجها منها، بخلاف المرتد منفصل بقوله: فلم يتعلق حق بمالها.
وفي المرتد يتعلق حقها بماله إذا مات وهي في العدة سواء ارتد في صحته أو في مرضه؛ لأنه مستحق القتل فكان فاراً بالارتداد فورثته.
م: (قال: وإن لحق بدار الحرب) ش: حال كونه م: (مرتداً وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه

(7/277)


وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبقى ماله موقوفا كما كان؛ لأنه نوع غيبة فأشبه الغيبة في دار الإسلام. ولنا أنه صار مرتدا باللحاق من أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الإسلام، لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموتى، فصار كالموت، إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا، فلا بد من القضاء. وإذا تقرر موته ثبتت الأحكام المتعلقة به وهي ما ذكرناها، كما في الموت الحقيقي، ثم يعتبر كونه وارثا عند لحاقه في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن اللحاق هو السبب والقضاء لتقرره بقطع الاحتمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأمهات أولاده) ش: من جميع المال، كذا في شرح الطحاوي م: (وحلت الديون التي عليه) ش: يعني ديونه المؤجلة م: (ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبقى ماله موقوفاً كما كان) ش: في دار الإسلام، ويحفظه الحاكم وبه قال مالك وأحمد. والذي نقله المصنف عن الشافعي وأحمد، وأقواله.
كذا قاله الأكمل: وليس له إلا قولان، أحدهما: ما نقله، والآخر أن ملكه يزول م: (لأنه) ش: أي لأن إلحاقه بدار الحرب م: (نوع غيبة، فأشبه الغيبة في دار الإسلام) ش: فلا يتغير حكم ماله.
م: (ولنا أنه صار مرتداً باللحاق من أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الإسلام) ش: ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] (الأنعام: الآية 122) ، أي كافراً فهديناه م: (لانقطاع ولاية الإلزام) ش: هذا تعليل لقوله: وهم أموات؛ لأنه بإلحاق ينقطع عنه الأحكام كما ينقطع عنه بموته.
وهو معنى قوله م: (كما هي) ش: أي أحكام الإسلام م: (منقطعة عن الموتى فصار) ش: أي المرتد باللحاق م: (كالموت إلا أنه) ش: أي غير أنه م: (لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا فلا بد من القضاء) ش: لترجح جانب عدم العود إلينا م: (وإذا تقرر موته) ش: أي موته الحكمي بالقضاء م: (ثبتت الأحكام المتعلقة به) ش: أي بالمرتد.
م: (وهي ما ذكرناها) ش: أي الأحكام المتعلقة به، ما ذكرناها من عتق مدبريه أو أمهات أولاده وحلول ديونه المؤجلة ونقل كسب الإسلام إلى ورثته م: (كما في الموت الحقيقي) ش: أي كما تثبت هذه الأحكام في الموت الحقيقي.
م: (ثم يعتبر كونه) ش: أي كون وارث المرتد م: (وارثاً عند لحاقه) ش: أي عند لحاق المرتد بدار الحرب م: (في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن اللحاق هو السبب) ش: لزوال ملكه م: (والقضاء لتقرره) ش: أي لتقرير السبب، وقيل: لتقرير اللحاق وهما متفاوتان م: (بقطع الاحتمال) ش: أي احتمال العود إلى دار الإسلام.

(7/278)


وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقت القضاء لأنه يصير موتا بالقضاء. والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف، وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه في حال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته. قال العبد الضعيف عصمه الله: هذه رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه أنه يبدأ بكسب الإسلام، فإن لم يف بذلك يقضي من كسب الردة، وعنه على عكسه، وجه الأول: أن المستحق بالسببين مختلف، وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين، فيقضى كل دين من الكسب المكتسب الذي في تلك الحالة، ليكون الغرم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقت القضاء) ش: أي يعتبر كونه وارثاً وقت القضاء باللحاق م: (لأنه) ش: أي لأن المرتد م: (يصير موتاً بالقضاء) ش: أي بقضاء القاضي واللحاق غلبة م: (والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف) ش: أي على هذا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد، فعند أبي يوسف: يعتبر وجود الوارث وقت القضاء، وعند محمد: وقت اللحاق أو معناه على هذا الذي ذكرناه من عتق المدبر وأم الولد وحلول الدين ونقل الكسب إلى الورثة، لكن إلى ورثته قبل اللحاق أو وقت القضاء على الاختلاف م: (وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه في حال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته) ش: هذا كله قول القدوري.
م: (قال العبد الضعيف -عصمه الله -:) ش: أي المصنف م: (هذه رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) .
وقال الأترازي: إن الشأن م: (يبدأ) ش: في قضاء الذي م: (بكسب الإسلام) ش: وهذه الرواية رواها الحسن عن أبي حنيفة م: (فإن لم يف بذلك) ش: أي فإن لم يكن في كسب الإسلام وفاء بالدين م: (يقضى من كسب الردة. وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة م: (على عكسه) ش: أي يقضى كسب الردة، فإن لم يف يقضى من كسب الإسلام، وهذه الرواية رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة.
م: (وجه الأول) ش: أي وجه المذكور الأول وهو قضاء دين على كل حال من كسب تلك الحال م: (أن المستحق بالسببين مختلف) ش: أحدهما: بالسبب الواقع في حالة الإسلام، والآخر: بالسبب الواقع في حالة الردة مختلف؛ لأن الحد الواقع بالسبب في حالة الإسلام يخالف الدين الواجب بالسبب الواقع في حالة الردة.
م: (وحصول كل واحد من الكسبين) ش: أي من كسب الإسلام وكسب الردة م: (باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضى كل دين من الكسب المكتسب الذي في تلك الحالة ليكون الغرم

(7/279)


بالغنم. وجه الثاني: أن كسب الإسلام ملكه حتى يخلفه الوارث فيه. ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث، فيقدم الدين عليه.
وأما كسب الردة فليس بمملوك له؛ لبطلان أهلية الملك بالردة عنده، فلا يقضى دينه منه إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر، فحينئذ يقضى منه كالذمي إذا مات ولا وارث له يكون ماله لجماعة المسلمين. ولو كان عليه دين يقضى منه كذلك هاهنا. وجه الثالث: أن كسب الإسلام حق الورثة وكسب الردة خالص حقه، فكان قضاء الدين منه أولى، إلا إذا تعذر بأن لم يف به، فحينئذ يقضى من كسب الإسلام تقديما لحقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالغنم) ش: أي بإزاء الغنم.
م: (وجه الثاني) ش: وهو الذي يبدأ فيه بكسب الإسلام م: (أن كسب الإسلام ملكه) ش: أي ملك المرتد وأوضح ذلك بقوله م: (حتى يخلفه الوارث فيه) ش: بضم الفاء؛ لأن حتى للحال. قول فيه: أي في كسب الإسلام م: (ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث) ش: أراد أن الوارث إنما يكون خلفاً عن الميت إذا لم يكن عليه دين، فإذا كان عليه دين م: (فيقدم الدين عليه) ش: أي على الوارث.

[كسب الردة قضاء الدين منه]
م: (وأما كسب الردة فليس بمملوك له لبطلان أهلية الملك بالردة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (فلا يقضى دينه منه، إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر) ش: أراد به كسب الإسلام م: (فحينئذ يقضى منه) ش: أي من كسب الردة كالذمي، جواب سؤال يرد عليه، وهو إن كسب الردة لما لم يكن مملوكاً له كيف يؤدى منه دينه إذا لم يكن له كسب الإسلام؟
فأجاب بقوله: م: (كالذمي) ش: يعني هذا غير بعيد، فإن الذمي م: (إذا مات ولا وارث له) ش: الواو فيه للحال م: (يكون ماله لجماعة المسلمين، ولو كان عليه دين يقضى منه، كذلك هاهنا) ش: أي كذلك الحكم في هذا الوجه.
م: (وجه الثالث) ش: وهو البداءة من كسب الردة، فإن لم يف فمن كسب الإسلام م: (أن كسب الإسلام حق الورثة، وكسب الردة خالص حقه، فكان قضاء الدين منه) ش: أي من كسب الردة م: (أولى إلا إذا تعذر بأن لم يف به) ش: أي كسب الردة م: (فحينئذ يقضى من كسب الإسلام تقديماً لحقه) ش: أي لحق المرتد؛ لأن الدين مقدم على الإرث وفيه بحث من أوجه:
الأول: ما قيل إن هذا ناقض قوله، أما كسب الردة فليس بمملوك؛ لبطلان أهلية الملك بالردة.
والثاني: أن كون سبب الإسلام حق الورثة ممنوع، فإن حقهم إنما يكون متعلقاً بالتركة بعد الفراغ عن حق المورث.
والثالث: أن قضاء الدين من خالص ماله واجب، ومن حق غيره ممتنع، فلا وجه بقوله: فكان قضاء الدين منه أولى.

(7/280)


وقال أبو يوسف ومحمد: تقضى ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه حتى يجري الإرث فيهما، والله أعلم. قال: وما باعه أو اشتراه أو رهنه أو أعتقه أو وهبه أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته فهو موقوف، فإن أسلم صحت عقوده. وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز ما صنع في الوجهين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب عن الأول: بأن المعنى من خلوص الحق هنا أن لا يتعلق حق الغير به كما يتعلق في مال المريض. ثم لا يلزم من كونه خالص حقه كونه ملكاً له، ألا ترى أن كسب المكاتب خالص حقه وليس بملك له، وكذلك الذي إذا مات ولا وارث له على ما ذكرنا.
وعن الثاني: أن الدين إنما يتعلق بماله عند الموت، لا ما زال من قبل، وكسب الإسلام قد زال وانتقل بالردة إلى الورثة، وكسب في الردة هو ماله عند الموت يتعلق الدين به.
وعن الثالث: بأن كسب الإسلام بعرضية أن يكون خالص حقه بالتوبة، فكان أحدهما خالص حقه، والآخر بعرضه، أي يصير خالص حقه، ولا شك أن قضاء الدين من الأول أولى، هذا على طريق أبي حنيفة.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد: تقضى ديونه من الكسبين) ش: أي كسب الإسلام، وكسب الردة م: (لأنهما) ش: أي لأن الكسبين م: (جميعاً ملكه حتى يجري الإرث فيهما، والله أعلم) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وما باعه) ش: أي الذي باعه المرتد م: (أو اشتراه أو رهنه أو أعتقه أو وهبه أو تصرف فيه) ش: أي الذي تصرف فيه م: (من أمواله في حال ردته فهو موقوف) ش: دخل بقوله: ما باعه، والمعطوفات عليه يدخل فيه.
فهو جملة اسمية في محل الرفع على أنها خبر المبتدأ، أعني قوله: وما باعه، والمبتدأ إذا تضمن معنى الشرط تدخل في خبره الفاء على ما عرف في موضعه، وأوضح معنى الموقوف بقوله م: (فإن أسلم صحت عقوده) ش: المذكورة م: (وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت) ش: هذه العقود.
م: (وهذا) ش: أي كون هذه التصرفات موقوفة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما قال المصنف: هذا؛ لأن القدوري لم يذكر الخلاف في هذا الموضع.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز ما صنع في الوجهين) ش: أحدهما: الإسلام، والثاني: أخذ الرجف السلامة من الغرق والقتل واللحاق.

(7/281)


اعلم أن تصرفات المرتد على أقسام: نافذ بالاتفاق: كالاستيلاد والطلاق؛ لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك، وتمام الولاية. وباطل بالاتفاق: كالنكاح والذبيحة؛ لأنه يعتمد الملة ولا ملة له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الشامل ": جمع تصرف المرتد في حالة ردته من بيع وشراء وعتق وتدبير وكتابة ووطء، أو غالبه جائز إن أسلم، وباطل إن لحق السبب فإنه يثبت عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف: يجوز كما يجوز من الصحيح، وعند محمد كما يجوز من المريض.

[تصرفات المرتد]
م: (اعلم أن تصرفات المرتد على أقسام) ش: قسم منها م: (نافذ بالاتفاق كالاستيلاد والطلاق) .
ش: فإن قلنا: كيف يقدم طلاق المرتد وبمجرد الردة تبين المرأة.
قلت: هذا ليس بممنوع، ألا ترى أن المسلم إذا أبان زوجته ثم طلقها في عدتها جاز، فكذا هذا. يمكن ألا تقع البينونة بالردة أصلاً كما إذا ارتد الزوجان معاً طلقهما بعد الردة فلا يرد السؤال.
وفي " المحيط ": أن التفرقة التي تقع بالارتداد يقع بعدها الطلاق، فكان طلاق المرتد واقعاًَ كما لو طلقت بالإبانة بالطلاق البائن م: (لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك) ش: قوله: ولا يفتقر إلى حقيقة الملك، يرجع إلى قوله كالاستيلاد، أي لأن الاستيلاد لا يفتقر إلى حقيقة الملك، بدليل أن الاستيلاد يصح في جارية الابن، وإن لم يكن فيها ملك حقيقة، بل له حق التمليك في مال الابن لدفع حاجته، والاستيلاد من حاجته.
م: (وتمام الولاية) ش: يرجع إلى الطلاق وفيه لف ونشر، أي لأن الطلاق لا يفتقر إلى تمام الولاية، ألا ترى أن العبد يصح طلاقه مع أنه لا ولاية له على نفسه أصلاً. ومن هذا القسم النافذ تسليم الشفعة وقبول الهبة والحجر على عبده المأذون.
م: (وباطل بالاتفاق) ش: أي القسم الثاني من تصرفات المرتد باطل بالاتفاق بين أصحابنا م: (كالنكاح والذبيحة؛ لأنه) ش: أي لأن كل واحد من النكاح والذبيحة م: (يعتمد الملة) ش: بلا اختلاف بين العلماء م: (ولا ملة له) ش: أي للمرتد؛ لأنه ترك ما كان عليه، ولا يقر على ما دخل فيه لوجوب القتل.
فإن قيل: أي شيء يريد بالمسألة إن ردت مسألة الإسلام ينقض بأهل الكتاب، وإن أردته الملة السماوية ينقض بصحة نكاح المشرك والمجوسي فيما بينهم، وليس لهم ملة سماوية أصلاً، لا تقرير ولا حجة فيه. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولدت من نكاح لا من سفاح» .
قلنا: قال الإمام ظهير الدين في فوائده: راجعت الفحول في هذا فلم أجد جواباً شافياً، وكنت في ذلك متملياً حتى هجنت فؤادي.

(7/282)


وموقوف بالاتفاق: كالمعاوضة؛ لأنها تعتمد المساواة، ولا مساواة بين المسلم والمرتد ما لم يسلم. ومختلف في توقفه وهو ما عددناه. لهما أن الصحة تعتمد الأهلية والنفاذ يعتمد الملك، ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطبا. وكذا الملك لقيامه قبل موته على ما قررناه من قبل، ولهذا لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: المعنى من الملة التي تدينون بذلك النكاح المتوارث؛ لأن عند ذلك حصل ما هو الغرض من النكاح وهو التوالد والتناسل، والمرتد والمرتدة ليسا على تلك الملة، فلا يصح نكاحهما؛ لأن المرتد يقتل والمرتدة تحبس، فكيف ينتظم ما هو الغرض من النكاح. بخلاف المجوس والمشركين، فإنهم يدينون بذلك النكاح المتوارث.
م: (وموقوف بالاتفاق) ش: أي القسم الثالث من تصرفات المرتد موقوف باتفاق أصحابنا م: (كالمعاوضة) ش: معناه: أن المرتد إذا فاوض مسلماً يعني شركة المعاوضة، يوقف فإن أسلم نفدت المعاوضة، وإن مات أو قتل أو قضي بلحاقه في دار الحرب بطلت المعاوضة بالاتفاق.
م: (لأنها) ش: أي لأن المعاوضة م: (تعتمد المساواة) ش: وقد علم أن المعاوضة أن يضمن وكالة ونكالة وأن يساويا مالاً وتصرفاً وديناً، فلا تصح بين حر وعبد ذمي وبالغ ومسلم وكافر لعدم التساوي م: (ولا مساواة بين المسلم والمرتد ما لم يسلم) ش: وفي " الكافي " إذا بطلت المعاوضة تصير عناناً يعني شركة عنان. وعند أبي حنيفة تبطل أصلاً؛ لأن في اكتنازه وكالة وهي موقوفة.
م: (ومختلف في توقفه) ش: أي القسم الرابع من تصرفات المرتد مختلف فيه، هل هو نافذ أم باطل أو موقوف، فقال: هذا القسم مختلف في توقيفه، وأشار إلى بيانه بقوله م: (وهو) ش: أي المختلف فيه م: (ما عددناه) ش: من البيع والشراء والإعتاق والهبة ونحو ذلك، فقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: موقوف، إن أسلم جاز ما صنع، وإن مات أو قتل على ردة أو لحق بدار الحرب، بطل ذلك كله. وقال أبو يوسف ومحمد: نافذ، كذا قال الصدر الشهيد في شرح " الجامع الصغير ".
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن الصحة) ش: أي صحة التصرف م: (تعتمد الأهلية والنفاذ يعتمد الملك ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطباً) ش: ألا ترى أن القتل يحسب عليه بارتداده.
ولو كانت أهليته معدومة أو ناقصة لم يجب عليه القتل م: (وكذا الملك) ش: لا شك في بقائه م: (لقيامه قبل موته) ش: أي قيام ملكه قبل موته م: (على ما قررناه من قبل) ش: إشارة إلى قوله لأنه مكلف يحتاج إلى آخره.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل قيام ملكه قبل موته م: (لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه) ش: فلو كان ملكه زائلاً لم يرثه بهذا الوالد.

(7/283)


ولو مات ولده بعد الردة قبل الموت لا يرثه فتصح تصرفاته قبل الموت، إلا أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تصح كما تصح من الصحيح؛ لأن الظاهر عوده إلى الإسلام إذ الشبهة تزاح فلا يقتل، وصار كالمرتد. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تصح كما تصح من المريض؛ لأن من انتحل إلى نحلة، لا سيما معرضا عما نشأ عليه قلما يتركه، فيفضي إلى القتل ظاهرا، بخلاف المرتدة؛ لأنها لا تقتل. ولأبي حنيفة: أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك، وتوقف التصرفات بناء عليه، وصار كالحربي يدخل دارنا بغير أمان فيؤخذ ويقهر، وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله، وكذا المرتد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو مات ولده) ش: أي الولد المولود قبل الردة م: (بعد الردة قبل الموت لا يرثه) ش: فلو لم يكن قائماً بعد الردة لورثة هذا الولد؛ لأنه كان حياً وقت ردة الأب.
ولما كان ملكه قائماً م: (فتصح تصرفاته قبل الموت إلا أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تصح كما تصح من الصحيح) ش: يعني من جمع المال م: (لأن الظاهر عوده إلى الإسلام، إذ الشبهة تزاح) ش: أي تزال وهو من الإزاحة وهي الإزالة م: (فلا يقتل) ش: حينئذ م: (وصار كالمرتد) ش:، حيث لا يقتل.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تصح) ش: أي تصرفاته م: (كما تصح من المريض) ش: يعني من ثلث المال؛ لأنه على شرف الهلاك حقيقة م: (لأن من انتحل إلى نحلة) ش: أي لأن من أثبت إلى دين، وفي " ديوان الأدب " يقال: انتحل فلان قول غيره أو شعر غيره إذا ادعاه لنفسه، والنحلة بكسر النون وسكون الحاء المهملة: الدعوى.
قال الأترازي: وكأنه أراد به هنا من أثبت إلى الدعوى م: (لا سيما) ش: أي خصوصاً حال كونه م: (معرضاًَ عما نشأ عليه) ش: قوله م: (قلما يتركه) ش: جواب من، أي قلما يترك الذي انتحل، أي م: (فيفضي إلى القتل ظاهراً، بخلاف المرتدة؛ لأنها لا تقتل) ش: فلا يعتبر استمرارها على ما انتحلت إليه أولاً، واحتج محمد على أبي يوسف بأنه إذا أمر لوارث بدين لم يجز.
م: (ولأبي حنيفة أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك) ش: إشارة إلى ما ذكروا من تعليل أبي حنيفة بقوله: وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا عند قوله ويزول ملك المرتد م: (وتوقف التصرفات بناء عليه) ش: أي على توقف الملك.
م: (وصار) ش: أي هذا المرتد م: (كالحربي يدخل دارنا) ش: أي دار الإسلام م: (بغير أمان فيؤخذ ويقهر وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله) ش: أي حال الحربي بين الاسترقاق والقتل والمن.
م: (كذا المرتد) ش: وإن ترك بعد، فكذلك هاهنا. وقال الأترازي في قوله: كالحربي إلى حد وسطه؛ لأن الحربي الداخل دارنا بغير أمان فيء، فكيف تتوقف تصرفاته. فلو قال كالحربي

(7/284)


واستحقاقه القتل لبطلان سبب العصمة في الفصلين فأوجب خللا في الأهلية، بخلاف الزاني وقاتل العمد؛ لأن الاستحقاق في ذلك جزاء على الجناية. وبخلاف المرأة لأنها ليست حربية، ولهذا لا تقتل،
فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام مسلما، فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه؛ لأن الوارث إنما يخلفه فيه لاستغنائه. وإذا عاد مسلما احتاج إليه فيقدم عليه. بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي أسر عليها أيضاًَ لكان ذكره أولى. انتهى.
ونقل الأكمل هذا بقوله: واعترض عليه بأن الحربي الذي دخل دارنا بغير أمان يكون فيئاً، فكيف تتوقف تصرفاته. ثم قال: والاعتراض بجواز المن يسقط الاعتراض.
م: (واستحقاقه القتل) ش: جواب عن قولهما: لا خفاء في وجود الأهلية وتقريره لا نسلم وجود الأهلية؛ لأن الصحة تقتضي أهلية كاملة وليست بموجودة في المرتد، كما أنها ليست بموجودة في الحربي؛ لأن كل واحد منهما يتحقق القتل م: (لبطلان سبب العصمة) ش: وزاد بسبب العصمة الإسلام م: (في الفصلين) ش: يعني في فصل الحربي وفصل المرتدة م: (فأوجب) ش: أي بطلان سبب العصمة م: (خللاً في الأهلية) ش:.
فإن قيل: لو كان استحقاق القتل موجباً لخلل في الأهلية أثر في توقف التصرفات، لكان تصرف الزاني المحصن الذي استحق القتل، وقاتل العمد موقوفة لاستحقاقهما القتل.
فأجاب المصنف عن ذلك بقوله: م: (بخلاف الزاني وقاتل العمد؛ لأن الاستحقاق في ذلك جزاء على الجناية) ش: يعني أن الاستحقاق الموجب للخلل هو ما كان باعتبار بطلان سبب العصمة، والزاني والقاتل ليسا كذلك، لأن الاستحقاق فيهما جزاء على الجناية؛ لأن العصمة باقية فيهما لبقاء الإسلام.
م: (وبخلاف المرأة) ش: جواب عن قولهما: وصار كالمرتد م: (لأنها ليست حربية، ولهذا لا تقتل) ش: عندنا إلا إذا لحقت بدارهم فحينئذ تصير حربية والمرتد حربي في الحال لوجوب جزاء المحاربة عليه، فلهذا كانت عقوبة المرتدة كلها جائزة إلا معارضتها، فإنها موقوفة. فإن أسلمت صحت وإلا صارت عناناً. كما قال في المرتد.

م: (فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام) ش: حال كونه م: (مسلماً فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه؛ لأن الوارث إنما يخلفه فيه) ش: أي في ماله م: (لاستغنائه) ش: أي لاستغناء المرتد عنه حيث أدخل دار الحرب م: (وإذا عاد) ش: حال كونه م: (مسلماً احتاج إليه فيقدم عليه) ش: أي على الوارث م: (بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه) ش: سواء كان بسبب يلحقه الفسخ كالبيع والهبة، أو بسبب لا يلحق الفسخ كالإعتاق والتدبير والاستيلاد، فذلك كله

(7/285)


وبخلاف أمهات أولاده ومدبريه؛ لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض، ولو جاء مسلما قبل أن يقضي القاضي بذلك، فكأنه لم يزل مسلما لما ذكرنا.
وإذا وطئ المرتد جارية نصرانية كانت له في حالة الإسلام فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد، فادعاه، فهي أم ولد له، والولد حر وهو ابنه ولا يرثه، وإن كانت الجارية مسلمة، ورثه الابن إن مات على الردة أو لحق بدار الحرب، أما صحة الاستيلاد فلما قلنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مأمن، ولا سبيل للمرتد عليه وهو لا ضمان على الوارث أيضاً؛ لأنه إزالة حين كان له سبيل من الإزالة.
وقال الكرخي في " مختصره ": إن كان المكاتب، أي مكاتب المرتد أدى ما عليه من الكتابة إلى الورثة فيعتق، ثم جاء المرتد، لما عتق المكاتب فلا يفسخ، وإن كان ما أداه قائماً في يد ورثته أخذه المرتد. وقال في شرح الطحاوي: الولاء للمرتد.
م: (وبخلاف أمهات أولاده ومدبريه) ش: حيث لا يفسخ م: (لأن القضاء) ش: أي قضاء القاضي بعثتهم م: (قد صح بدليل مصحح) ش: وهو قضاؤه عن ولايته، فلا يحتمل الفسخ م: (فلا ينقض) ش: ولايته لما جاء إلينا تائباً صار كأنه حياً بعد أن مات، فلو حيا حقيقة بعد الموت وإن كان ذلك بخلاف الولادة لم يكن له على أمهات الأولاد والمدبرين سبيل، فكذا هذا.
م: (ولو جاء مسلماً قبل أن يقضي القاضي بذلك) ش: أي بلحاقه م: (فكأنه لم يزل) ش: بفتح الزاي م: (مسلماً لما ذكرنا) ش: وهو قوله: إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بالقضاء، فلا يعتق عليه شيء من أمهات أولاده ومدبريه.

[وطئ المرتد جاريته النصرانية فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد]
م: (وإذا وطئ المرتد جارية نصرانية، كانت له في حالة الإسلام فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد) ش: أي من حين ارتد م: (فادعاه فهي أم ولد له والولد حر وهو ابنه ولا يرثه) ش: وفي " الكافي " وغيره: فجاءت بولد لسنة فألحقوا السنة بالأكثر، وإنما قيد بالأكثر لأنه لو جاء لأقل من ستة أشهر فالولد يرث من أبيه المرتد، وإن كانت أمه تقر أبيه بتيقن وجوده في البطن قبل الردة فلم ينتقض ما ادعاه وقت الردة فيجعل الولد مسلماً تبعاً للأب، ذكره قاضي خان.
م: (وإن كانت الجارية مسلمة ورثه الابن إن مات) ش: أي الأب م: (على الردة أو لحق بدار الحرب، أما صحة الاستيلاد فلما قلنا) ش: إشارة إلى قوله قبل صحته؛ لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك فصحت دعوته.
واعلم أن دعوة الولد صحيحة على قولهما بلا إشكال؛ لأن عقود المرتد عندهما جائزة، فكذلك دعوته. أما أبو حنيفة فإنه جعل عقوده موقوفة، لكن جعل دعوته صحيحة؛ لأن الاستيلاد لا يفتقر إلى حقيقة الملك، ألا ترى أن العبد المأذون إذا ادعى النسب من الجارية التي من

(7/286)


وأما الإرث فلأن الأم إذا كانت نصرانية والولد تبع له لقربه إلى الإسلام للجبر عليه فصار في حكم المرتد، والمرتد لا يرث المرتد، أما إذا كانت مسلمة فالولد مسلم تبعا لها لأنها خيرهما دينا، والمسلم يرث المرتد. وإذا لحق المرتد بماله بدار الحرب ثم ظهر على ذلك المال فهو فيء، فإن لحق ثم رجع وأخذ مالا وألحقه بدار الحرب فظهر على ذلك المال فوجدته الورثة قبل القسمة رد عليهم؛ لأن الأول: مال لم يجر فيه الإرث. والثاني: انتقل إلى الورثة بقضاء القاضي بلحاقه، وكان الوارث مالكا قديما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تجارته جاز، وكذلك الأب إذا ادعى ولد جارية ابنه يرث بالنسب. وتأويل المرتد أكثر من تأويلهما، فإذا ثبت النسب ثبت التفريع المذكور في إرثه وعدمه.
فإن قلت: كيف جعلتم الصبي تبعاً للمرتد فيما إذا كانت أمه يهودية أونصرانية ولم يجعلوه مسلما تبعا لدار الإسلام.
قلت: تبعية الدار إنما تكون إذا لم يكن معه أحد أبويه. فإذا كان فلاناً، فإن قيل: هذا ينقض بما إذا ارتد الأبوان المسلمان ولهما طفل ولد قبل ردتهما فإنه يبقى مسلماً تبعاً للدار ولا يعتبر مرتداً تبعا لهما. وإن ماتا لا نسلم أنه يبقى تبعاً للدار، بل كان هو مسلماً تبعاً لأبويه، فيبقى على ما كان بعد ردتهما، بخلاف ما يجيء فإن الولد لم يثبت له حكم الإسلام أصلاً، فجعل تبعاً لأبيه المرتد لقربه إلى الإسلام.
م: (وأما الإرث فلأن الأم إذا كانت نصرانية والولد تبع له) ش: أي للأب م: (لقربه إلى الإسلام للجبر عليه) ش: لأنه لا يقر على الردة بل يجبر على الإسلام، ولا تجبر الأم. ولما كان تبعاً لأبيه م: (فصار في حكم المرتد، والمرتد لا يرث المرتد) ش: ولا يرث من أحد لا من المسلم ولا من المرتد.
م: (أما إذا كانت مسلمة فالولد مسلم تبعاً لها؛ لأنها) ش: أي لأن الأم م: (خيرهما ديناً) ش: والولد يتبع خير الأبوين ديناً م: (والمسلم يرث المرتد. وإذا لحق المرتد بماله بدار الحرب ثم ظهر على ذلك) ش: أي غلب على ذلك م: (المال فهو فيء) ش: أي غنيمة لأنه مال حربي، فيكون حكمه حكم سائر أموال أهل الحرب ولا حق للورثة فيه لتباين الدارين.
م: (فإن لحق) ش: أي بدار الحرب م: (ثم رجع) ش: إلى دار الإسلام م: (وأخذ مالاً وألحقه بدار الحرب فظهر على ذلك المال فوجدته الورثة قبل القسمة رد عليهم؛ لأن الأول مال لم يجر فيه الإرث) ش: فهو مال لحربي، وإذا ظهر على مال الحربي فهو فيء لا محالة م: (والثاني) ش: أي المال الثاني م: (انتقل إلى الورثة بقضاء القاضي بلحاقه، وكان الوارث مالكاً قديماً) ش: والمالك القديم إذا وجد ماله في القسمة أخذه مجاناً، فإن لم يكن القاضي حكم بلحاقه والمسألة بحالها ففي ظاهر الرواية رد على الورثة أيضاًَ؛ لأنه شيء لحق بدار الحرب فالظاهر أنه لا يعود، فكان فيئاً ظاهراً. وفي بعض روايات السير يكون فيئاً لا حق للورثة فيه؛ لأن الحق لا يثبت لهم إلا

(7/287)


وإذا لحق المرتد بدار الحرب وله عبد فقضى به لابنه وكاتبه الابن ثم جاء المرتد مسلما فالكتابة جائزة، والكتابة والولاء للمرتد الذي أسلم؛ لأنه لا وجه إلى بطلان الكتابة لنفوذها بدليل منفذ فجعلنا الوارث الذي هو يكون خلفه كالوكيل من جهته وحقوق العقد فيه ترجع إلى الموكل والولاء لمن يقع العتق عنه.
وإذا قتل المرتد رجلا خطأ ثم لحق بدار الحرب، أو قتل على ردته فالدية في مال اكتسبه في حال الإسلام خاصة عند أبي حنيفة. وقالا: الدية فيما اكتسبه في حالة الإسلام والردة؛ لأن العواقل لا تعقل المرتد لانعدام النصرة فتكون في ماله، وعندهما الكسبان جميعا ماله لنفوذ تصرفاته في الحالين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقضاء.
م: (وإذا لحق المرتد بدار الحرب وله عبد فقضى به لابنه وكاتبه الابن ثم جاء المرتد مسلماً فالكتابة جائزة) ش: خلافاً للأئمة الثلاثة.
م: (والكتابة والولاء للمرتد الذي أسلم لأنه لا وجه إلى بطلان الكتابة لنفوذها بدليل منفذ) ش: أو أدبه قضاء القاضي باللحاق م: (فجعلنا الوارث الذي) ش: هو ابن المرتد الذي، م: (هو يكون خلفه) ش: أي خلف أبيه المرتد م: (كالوكيل من جهته) ش: أي من جهة المرتد لأنه لما لحق بدار الحرب صار كأنه سلط أبنه على ماله وجعله خلفاً عنه في التصرف، فلما عاد ثبت حكم الإحياء وبطل حكم الموت ولم يفسخ الكتابة لما ذكرنا، وكان بدل الكتابة لأن أبنه كالوكيل من جهته.
م: (وحقوق العقد فيه) ش: أي في عقد الكتابة م: (ترجع إلى الموكل) ش: لا إلى الوكيل م: (والولاء لمن يقع العتق عنه) ش: ولم يقع إلا عن المرتد الذي أسلم فيكون الولد ولده بخلاف ما إذا أدى بدل الكتابة للوارث، فإن الولاء حينئذ يكون للوارث لوقوع العتق عنه، وبخلاف ما لو رجع بعد عتق المكاتب، فإن الولاء فيه للابن أيضاً.

[قتل المرتد رجلاً خطأ ثم لحق بدار الحرب]
م: (وإذا قتل المرتد رجلاً خطأ ثم لحق بدار الحرب أو قتل على ردته فالدية) ش: أي دية القتيل م: (في مال اكتسبه في حال الإسلام خاصة عند أبي حنيفة. وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد م: (الدية فيما اكتسبه) ش: أي يجب فيما اكتسبه م: (في حالة الإسلام والردة) ش: في بعض النسخ جميعاً، وبقولهما قالت الثلاثة.
وكذا لو كان حياً في دار الإسلام فالدية في ماله م: (لأن العواقل لا تعقل المرتد لانعدام النصرة) ش: لأن العقل بمعنى النصرة، والمسلم لا يلزمه نصرة المرتد م: (فتكون) ش: أي الدية م: (في ماله) ش: أي في مال المرتد القاتل لانعدام النصرة م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (الكسبان جميعاً) ش: أي كسب الإسلام وكسب المرتد م: (ماله) ش: أي مال المرتد م: (لنفوذ تصرفاته في الحالين) ش: أي في حال كسب الإسلام وحال الردة.

(7/288)


ولهذا يجري الإرث فيهما عندهما، وعنده ماله المكتسب في الإسلام لنفاذ تصرفه فيه دون المكسوب في الردة لتوقف تصرفه، ولهذا كان الأول ميراثا عنه، والثاني فيئا عنده،
وإذا قطعت يد المسلم عمدا فارتد - والعياذ بالله - ثم مات على ردته من ذلك أو لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فمات من ذلك فعلى القاطع نصف الدية في ماله للورثة، أما الأول فلأن السراية حلت محلا غير معصوم فأهدرت، بخلاف ما إذا قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك؛ لأن الإهدار لا يلحقه الاعتبار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: إيضاح لما قبله م: (يجري الإرث فيهما) ش: أي في كسب الإسلام وكسب الردة م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد.
م: (وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ماله المكتسب في الإسلام) ش: أي مال المرتد هو الذي اكتسبه في الإسلام دون الذي اكتسبه في الردة.
فقوله ماله مبتدأ، وقوله: المكتسب خبره وليس بصفة له إذ المعنى لا يستقيم على تقدير الصفة، وكان حق التركيب أن يقول بضمير الفصل حتى لا يتوهم الصفة كما في قَوْله تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] م: (لنفاذ تصرفه فيه) ش: في كسب الإسلام م: (دون المكسوب في الردة لتوقف تصرفه) ش: في كسب الردة.
م: (ولهذا) ش: إيضاح لقوله وماله الكسب في الإسلام م: (كان الأول) ش: أي كسب الإسلام م: (ميراثاً عنه) ش: أي عن المرتد. م: (والثاني) ش: أي كسب الردة أي كان كسب الردة م: (فيئاً) ش: أي غنيمة م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة.

[قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك]
م: (وإذا قطعت يد المسلم عمداً فارتد - والعياذ بالله - ثم مات على ردته من ذلك) ش: أي من القطع م: (أو لحق بدار الحرب ثم جاء مسلماً فمات من ذلك) ش: أي من القطع م: (فعلى القاطع نصف الدية في ماله للورثة) ش: أي لورثة المقطوع يده م: (أما الأول) ش: أي الوجه الأول وهو: ما إذا مات على ردته م: (فلأن السراية) ش: أي سراية القطع إلى الموت م: (حلت محلاً غير معصوم فأهدرت) ش: يعني هدر اعتبارها فلم يجب دية النفس لأنها فور ما حصل في حال لا قيمة لها.
ولم يجب القصاص في اليد؛ لأن اعتراض الردة صار شبهة، فإذا لم يجب القطع وجبت دية اليد وهي نصف دية النفس؛ لأن قطع اليد حصل في حال عصمة اليد وهي في حالة الإسلام، وإنما كانت الدية في ماله لكون القطع عمداً، أما إذا كان خطأ فقال الحاكم: هي فيء على عاقلته.
م: (بخلاف ما إذا قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك) ش: يعني لا يجب الضمان أصلاً م: (لأن الإهدار لا يحلقه الاعتبار) ش: يعني الجناية إذا صارت هدراً لا يلحقه الاعتبار بعد ذلك،

(7/289)


أما المعتبر فقد يهدر بالإبراء فكذا بالردة. وأما الثاني: وهو ما إذا لحق ومعناه إذا قضى بلحاقه فلأنه صار ميتا تقديرا، والموت يقطع السراية، وإسلامه حياة حادثة في التقدير فلا يعود حكم الجناية الأولى، فإذا لم يقض القاضي بلحاقه فهو على الخلاف الذي نبينه إن شاء الله تعالى. قال: فإن لم يلحق وأسلم ثم مات فعليه الدية كاملة، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. وقال محمد وزفر - رحمهما الله -: في جميع ذلك نصف الدية؛ لأن اعتراض الردة أهدر السراية فلا ينقلب بالإسلام إلى الضمان. كما إذا قطع يد مرتد فأسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعني إذا لم يقطع معتبراً ابتداء لا يتغلب معتبراً بعد ذلك؛ لأن غير الموجب لا يتغلب موجباً م: (أما المعتبر فقد يهدر بالإبراء، فكذا بالردة) ش: أي فكذا يهدر بالردة، وكذا بالإعتاق وبالبيع أيضاً، حتى لو قطع عبد يد إنسان ثم باعه المولى ثم رد عليه نصيبه ثم مات فلا يضمن البائع ضمان النفس؛ لأنه لما باعه فقد أبرأه عن ضمان السراية من حيث البيع.
م: (وأما الثاني) ش: أي الوجه الثاني م: (وهو ما إذا لحق) ش: بدار الحرب م: (ومعناه إذا قضى بلحاقه فلأنه) ش: أي فلأن المرتد اللاحق م: (صار ميتاً تقديراً) ش: من حيث الحكم لا من حيث الحقيقة م: (والموت يقطع السراية) ش: لأن القاضي لما قضى بالحلف صار ميتاً حكماً كما ذكرنا.
م: (وإسلامه) ش: بعد ذلك م: (حياة حادثة في التقدير) ش: لأنها نفس أخرى م: (فلا يعود حكم الجناية الأولى) ش: وأورد الولوالجي في فتاواه في هذا الفصل عن أبي يوسف روايتين في رواية يضمن دية النفس، وفي رواية لا يضمن.
وأما إذا عاد مسلماً بعد اللحاق قبل قضاء القاضي ثم مات من ذلك فقال فخر الإسلام في شرح " الجامع الصغير ": لا نص فيه.
ثم قال: وهو على الاختلاف يعني عند محمد يجب نصف الدية. وعند صاحبيه يجب دية النفس كاملة وإليه أشار المصنف بقوله م: (فإذا لم يقض القاضي بلحاقه فهو على الخلاف الذي نبينه إن شاء الله تعالى) ش: أشار به إلى المسألة التي تلي قوله وإذا لم يقض.... إلى آخره وهو قوله:
م: (قال: فإن لم يلحق) ش: أي دار الحرب م: (وأسلم ثم مات فعليه الدية كاملة، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله) .
م: (وقال محمد وزفر - رحمهما الله -: في جميع ذلك نصف الدية) ش: أي فيما إذا مات على ردته أو لحق ثم جاء مسلماً أو لم يلحق وأسلم م: (لأن اعتراض الردة أهدر السراية، فلا ينقلب بالإسلام إلى الضمان) ش: لأنه بعد الارتداد صار مباحاً لو قتله قاتل لا يجب عليه شيء، فصارت الردة مهدرة كما في قوله من القطع، وصار م: (كما إذا قطع يد مرتد فأسلم) ش: سواء مات من

(7/290)


ولهما أن الجناية وردت على محل معصوم وتمت فيه فيجب ضمان النفس، كما إذا لم يتخلل الردة، وهذا لأنه لا معتبر بقيام العصمة في حال بقاء الجناية. وإنما المعتبر قيامها في حال انعقاد السبب، وفي حال ثبوت الحكم، وحالة البقاء بمعزل من ذلك كله، وصار كقيام الملك في حال بقاء اليمين.
وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالا فأخذ أسيرا بماله وأبى أن يسلم فقتل، فإنه يوفى مولاه ومكاتبه، وما بقي فلورثته، وهذا ظاهر على أصلهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطع أو لم يمت، حيث لا يجب ضمان النفس في الأول، ولا ضمان اليد في الثاني بناء على الأصل المار أن المهدر لا يلحقه الاعتبار.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الجناية وردت على محل معصوم وتمت فيه) ش: أي في محل معصوم كأنه كان في الحالين مسلماً م: (فيجب ضمان النفس) ش: وهو الدية الكاملة م: (كما إذا لم يتخلل الردة) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة م: (وهذا لأنه لا معتبر بقيام العصمة في حال بقاء الجناية، وإنما المعتبر قيامها) ش: أي قيام العصمة م: (في حال انعقاد السبب) ش: وهو ضمان الجناية م: (وفي حال ثبوت الحكم) ش: يوجب الضمان م: (وحالة البقاء بمعزل من ذلك كله) ش: أي من حال انعقاد السبب من حال ثبوت الحكم، ولا يعتبر بقاء العصمة في هذه الحالة، كما لا يعتبر بنقصان الحول في الزكاة. وقال ابن دريد: أي من هدر الأمر بمعزل، أي ليفسخ.
م: (وصار كقيام الملك في حالة بقاء اليمين) ش: يعني إذا قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار عتق أعاد على عدم الملك عند اليمين أو عند الجناية ثم يعتق.
وفرق بين الردة والبيع بأن الردة ليست بإبراء ولا مستلزم؛ لأنها وضعت لتبديل الدين، وتصح من غير إبراء؛ لأنه إذا مات على الردة لم يجب الضمان لهدر دمه بالردة، بخلاف بيع العبد المجني عليه؛ لأن البيع وضع لقطع ملكه والضمان بدل ملكه. فإذا قطع الأصل قصداً فقد قطع التبدل أيضاً، فصار كالإبراء.
ولم يذكر في الكتاب ما إذا ارتد يقتل أو مات المقطوع يده بالسراية مسلماً، فقال في " الشامل " إن كان عمداً فلا شيء عليه؛ لأن القاتل مات، وإن كان خطأ فعلى عاقلته دية النفس؛ لأن الجناية انعقدت موجبة للفعل؛ لأن الجاني كان مسلماً يوم الجناية لا جرم لو كانت الجناية في حال ردته كانت في ماله.

[ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالاً فأخذ أسيراً بماله]
م: (وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالاً فأخذ أسيراً بماله وأبى) ش: أي امتنع م: (أن يسلم فقتل فإنه) ش: أي فإن الحكم أن م: (يوفى) ش: على صيغة المجهول من وفاة حقه بالتشديد إذا أعطاه واف م: (مولاه ومكاتبه) ش: أي بدل الكتابة من ماله م: (وما بقي) ش: بعد ذلك م: (فلورثته) ش: أي فلورثة المكاتب م: (وهذا ظاهر على أصلهما) ش: أي هذا المذكور من الحكم

(7/291)


لأن كسب الردة ملكه إذا كان حرا فكذا إذا كان مكاتبا. وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلأن المكاتب إنما يملك أكسابه بالكتابة، والكتابة لا تتوقف بالردة، فكذا أكسابه. ألا ترى أنه لا يتوقف تصرفه بالأقوى وهو الرق، فكذا بالأدنى بطريق الأولى.
وإذا ارتد الرجل وامرأته - والعياذ بالله - ولحقا بدار الحرب، فحبلت المرأة في دار الحرب، وولدت ولدا، وولد لولدهما ولد، فظهر عليهم جميعا فالولدان فيء؛ لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهر على أصل أبي يوسف ومحمد م: (لأن كسب الردة ملكه) ش: أي ملك المرتد م: (إذا كان حراً فكذا إذا كان مكاتباً) ش: يكون كسباً له.
م: (وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني هذا مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن كسب الردة لا يكون للمرتد عنده إذا كان حراً، وهاهنا جعله ملكاً للمكاتب، ويحتاج أبو حنيفة إلى الفرق بين المرتد الحر والمكاتب حيث لم يجعل كسبه ملكاً له إذا كان حراً، وجعله ملكاً له إذا كان مكاتباً، ووجه الفرق ما ذكره بقوله م: (فلأن المكاتب إنما يملك أكسابه بالكتابة) ش: أي بعقد الكتابة.
م: (والكتابة) ش: أي والكتابة م: (لا تتوقف بالردة) ش: أي لا يبطل بها؛ لأنه لا يبطل بحقيقة الموت، فكذا بالموت حكماً بلحوقه في دار الحرب فتكون مكاتبة كمكاتبة الإسلام وجعل كأنه في دار الإسلام، إذ قيام ملك المولى في رقبته يمنع ضرورته حربياً ويجعل في حكم الردة، وفي دار الإسلام. كذا في جامع شمس الأئمة وقاضي خان.
وإذا لم يتوقف عقد الكتابة بالردة م: (فكذا أكسابه) ش: الحاصلة لا تتوقف، واستوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه لا يتوقف تصرفه بالأقوى وهو الرق، فكذا بالأدنى) ش: وهو الردة م: (بطريق الأولى) ش: وإنما كان الرق أقوى من الردة في المانعية عن التصرف؛ لأن بعض تصرفات المرتد نافذ بالإجماع كالاستيلاد والطلاق، وعندهما عامة تصرفاته نافذة كالبيع والشراء وغيرهما، فأما العبد فممنوع من التصرفات كلها ثم لما يتوقف تصرفات المكاتب مع كونه رقيقاً لم يتوقف تصرفه أيضاً مع أنه مرتد أولى.

[ارتد الرجل وامرأته ولحقا بدار الحرب فحبلت المرأة في دار الحرب]
م: (وإذا ارتد الرجل وامرأته - والعياذ بالله - ولحقا بدار الحرب فحبلت المرأة في دار الحرب) ش: وقيد الحبل بدار الحرب وقع اتفاقاً.
وإن حبلت في دار الإسلام فكذلك الحكم م: (وولدت ولداً وولد لولدهما ولد فظهر) ش: بضم الظاء، أي فغلب م: (عليهم جميعاً فالولدان فيء) ش: أي الولد وولد الولد غنيمة م: (لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها) ش: لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية فيكون فيئاً كما يجيء م:

(7/292)


ويجبر الولد الأول على الإسلام، ولا يجبر ولد الولد. وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجبر تبعا للجد وأصله التبعية في الإسلام، وهي رابعة أربعة مسائل كلها على الروايتين والثانية صدقة الفطر، والثالثة جر الولاء، والأخرى الوصية للقرابة، قال: وارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد عند أبي حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويجبر الولد الأول على الإسلام) ش: بإجماع الأئمة الأربعة بعد أن يصير محرراً تبعاً لأبيه م: (ولا يجبر ولد الولد) ش: لأن الأولاد يتبعون الآباء في الدين، والأحفاد لا يتبعون الأجداد.
م: (وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن ولد الولد م: (يجبر) ش: على الإسلام م: (تبعاً للجد) ش: لأن الجد له حكم الأب في إنكاح الصغير والصغيرة، ولهذا لا يكون لهما الخيار بعد البلوغ، وكذلك في بيع مال الصغير، فكذا في تبعية الإسلام م: (وأصله التبعية في الإسلام) ش: أي أصل الخلاف التبعية في الإسلام م: (وهي) ش: أي التبعية في الإسلام م: (رابعة أربعة مسائل) ش: أي أربع مسائل، حاصل معناه إحدى أربع مسائل. والفرق بين رابع ثلاثة وبين رابع أربعة، هو أن معنى الأول: يصير الثلاثة أربعة.
ومعنى الثاني: أحدهما لا يحصل الحاصل بحال فلا يتحقق معنى التصيير م: (كلها على الروايتين) ش: أي كل هذه الأربعة على الروايتين، أحدهما ظاهر الرواية، والأخرى رواية الحسن فالجد فيها على رواية كالأب، وفي ظاهر الرواية.
م: (والثاني) ش: أي المسألة الثانية م: (صدقة الفطر) ش: ولا في ظاهر الرواية لا يؤدي الجد صدقة الفطر عن ابن أبيه. وفي رواية الحسن يؤديها إذا لم تكن لابن الابن مالكاً لأب لكن إذا كان الأب فقيراً.
م: (والثالثة) ش: أي المسألة الثالثة م: (جر الولاء) ش: قال الحاكم الشهيد في " الكافي " قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجر الجد الولاء، يعني إذا أعتق الجد والحافد معتق والأب رقيق لا يجر ولاء الحافد إلى مواليه. وعلى رواية الحسن يجر الجد الولاء لأب إذا أعتق. ونقل الحاكم في " الكافي " عن الشعبي أنه إذا أعتق الجد جر الولاء.
م: (والأخرى) ش: أي المسألة الأخرى وهي الرابعة م: (الوصية للقرابة) ش: فإذا وصى لقرابته أو لأقربائه لا يدخل في الوصية الوالد؛ لأن الله تعالى جعله أقرب من القرابة، قال الله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ، ثم الجد لا يدخل أيضاً على رواية الحسن؛ لأنه كالأب. وعلى ظاهر الرواية يدخل لأنه ليس كالأب.
م: (قال: وارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد) ش: يعني إذا ارتد يصير مرتداً م: (عند أبي حنيفة

(7/293)


ومحمد - رحمهما الله - ويجبر على الإسلام ولا يقتل، وإسلامه إسلام، ولا يرث أبويه إن كانا كافرين. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ارتداده ليس بارتداد وإسلامه إسلام. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله - إسلامه ليس بإسلام وارتداده ليس بارتداد، لهما في الإسلام أنه تبع لأبويه فيه فلا يجعل أصلا، ولأنه يلزمه أحكاما يشوبها المضرة فلا يؤهل له. ولنا فيه أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم في صباه، وصحح النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إسلامه وافتخاره بذلك مشهور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومحمد - رحمهما الله -) ش: وبه قال مالك وأحمد م: (ويجبر على الإسلام ولا يقتل. وإسلامه) ش: أي وإسلام الصبي الذي يعقل م: (إسلام) ش: أي معتد به م: (ولا يرث أبويه إن كانا كافرين. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ارتداده ليس بارتداد) ش: يعني ليس بمعتبر م: (وإسلامه إسلام. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: إسلامه ليس بإسلام، وارتداده ليس بارتداد) ش: يعتبر كلاهما لا يعتبر لأن م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي م: (في الإسلام أنه تبع لأبويه فيه) ش: أي في الإسلام م: (فلا يجعل أصلاً) ش: لأنه مولى عليه في الإسلام، فلا يكون أصلاً له بنفسه م: (ولأنه) ش: أي ولأن الصبي م: (يلزمه أحكام يشوبها) ش: من الشوب وهو الخلط، يقال شاب الماء اللبن وهي جملة من الفعل والمفعول، وقوله م: (المضرة) ش: فاعل الجملة لحرمان الميراث ونحوه. والصبي أهل الوجه لا المضرة، فلا يعتبر إسلامه بلزوم المضرة، ولأن قول الصبي غير ملتزم، ألا ترى أنه لو طلق أو علق أو باع أو اشترى لا يجوز، فكذا إذا أسلم أو ارتد م: (فلا يؤهل له) ش: أي فلا يجعل الصبي أهلاً للإسلام.
م: (ولنا فيه) ش: أي في اعتداد الصبي م: (أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم في صباه وصحح النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: وعن عروة، أن عمره كان حين أسلم سبع سنين أو ثماني سنين. وروى ابن سعد في الطبقات بإسناده عن مجاهد، قال: أول من صلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ابن عشر سنين. وعن محمد بن عبد الرحمن بن زرارة قال: أسلم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ابن تسع سنين ولم يعبد وثناً.
وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": وروي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم علي وهو ابن ثماني سنين، وروي عنه أيضاً أنه أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة ولم يصح هذا. وقال: والنصوص عن أحمد صحة إسلام الصبي ابن سبع سنين، فقال إذا بلغ الغلام سبع سنين جاز إسلامه، ويجبر على الإسلام إذا كان أحد أبويه مسلماً، فإن رجع عن الإسلام انتظر به حتى يبلغ. فإن أسلم وإلا قتل.
م: (إسلامه، وافتخاره بذلك مشهور) ش: أي وافتخار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بإسلامه مشهور

(7/294)


ولأن الصبي أتى بحقيقة الإسلام وهي التصديق والإقرار معه؛ لأن الإقرار عن طوع دليل على اعتقاده على ما عرف، والحقائق لا ترد، وما يتعلق به سعادة أبدية ونجاة عقباوية، وهي من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي، ثم يبتنى عليه غيرها، فلا يبالي بشوبه، ولهم في الردة أنها مضرة محضة، بخلاف الإسلام على أصل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه تعلق به أعلى المنافع على ما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الصبي أتى بحقيقة الإسلام وهي التصديق والإقرار معه) ش: وهو ركن الإيمان؛ لأن الإيمان هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان، فلذا حصل ذلك والحجر عن الإيمان كفر م: (لأن الإقرار عن طوع دليل على اعتقاده على ما عرف) ش: في علم الكلام م: (والحقائق لا ترد) ش: لأن الشرع ما يسقط اعتبار حقيقة في موضع ما بغير ضرورة، بخلاف الأقارير والطلاق؛ لأن الشرع أسقط اعتبار حقيقتهما ببعض الأعذار م: (وما يتعلق به سعادة أبدية) ش: يجوز أن يكون معطوفاً على التصديق، أي هو التصديق وهو ما يتعلق. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره قوله هو الحكم الأصلي على تقدير أن يكون بغير واو.
ويجوز أن يكون وما يتعلق به مبتدأ، وقوله سعادة أبدية خبره وهو الأولى، وهو جواب عن قولهما ولأنه يلزمه أحكام تشوبها المضرة.
وعورض بأنه لو صح إسلامه بنفسه وقع فيئاً؛ لأنه لا نفل في الإيمان. ومن ضرورة كونه فرضاً أن يكون مخاطباً به وهو غير مخاطب بالاتفاق، فإذا لم تكن بصحيحة فرضاً لم تصح، بخلاف سائر العبادات، فإنه يتردد بين الفرض والنفل.
والجواب لا نسلم أن من ضرورة كونه فرضاً أن يكون مخاطباً، فإن المسافر إذا حضر جمعة وصلى فرضاً وليس بمخاطب به، ومن صلى في أول الوقت وقع فرضاً وليس بمخاطب عندنا في ذلك الوقت.
م: (ونجاة عقباوية) ش: نسبته إلى عقبى، وعقبى كل شيء م: (وهي) ش: أي السعادة الأبدية م: (من أجل المنافع) ش: أي من أعظمها م: (وهو الحكم الأصلي) ش: أي الموضوع له م: (ثم يبتنى عليه غيرها) ش: مثل حرمان الميراث م: (فلا يبالي بشوبه) ش: لأن المنظور إليه في التصرفات الموضوعة الأصلية.
وقال تاج الشريعة: المراد من الحكم الأصلي ما وضع ذلك الشيء لأجله، وأما ما ذكر من لزوم أحكام تشوبها المضرة فكذلك [....] .
م: (ولهم) ش: أي لأبي يوسف وزفر والشافعي م: (في الردة أنها) ش: أي أن الردة م: (مضرة محضة) ش: أي من التصرفات الضارة المحضة م: (بخلاف الإسلام على أصل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه تعلق به) ش: أي بالإسلام م: (أعلى المنافع) ش: لأنه منفعة محضة م: (على ما مر)

(7/295)


مر. ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أنها موجودة حقيقة، ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام، إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له ولا يقتل؛ لأنه عقوبة، والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم، وهذا في الصبي الذي يعقل، ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده؛ لأن إقراره لا يدل على تغيير العقيدة، وكذا المجنون والسكران الذي لا يعقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وهو قوله: وهي من أجل المنافع، والمقصود به فوز السعادة الأبدية. ومذهب أبي يوسف وهو القياس في الردة.
م: (ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أنها) ش: أي أن الردة م: (موجودة حقيقة، ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام، إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له) ش: واعترض بأن هذا اعتبار بما هو مضرة محضة بما هو منفعة محضة، وذلك جمع بين السببين بالقياس فرق الشارع بينهما، ومثله فاسد على ما عرف في الأصول.
وأجيب: بأن هذا قياس فيها لوجود شيء آخر وتحققه في عدم جواز الرد ولا نسلم أن الشارع فرق بينهما م: (ولا يقتل لأنه) ش: أي لأن القتل، م: (عقوبة، والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم) ش: أي لأجل الترحم عليهم.
قيل في هذا التعليل نظر؛ لأنه سقط عقوبة القتل من الصبي المرتد باعتبار الرحمة بصباه، وما أسقط عقوبة النار مخلداً فإنه ذكر في " الأسرار " و " المبسوط " وجامع التمرتاشي: أنه يعاقب بالردة يوم القيامة. وأحال التمرتاشي هذه الرواية إلى التبصرة وفيه تأمل.
م: (وهذا) ش: أي وهذا الخلاف م: (في الصبي الذي يعقل، ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده؛ لأن إقراره لا يدل على تغيير العقيدة) ش: لعدم تمييزه م: (وكذا) ش: أي لا يصح ارتداد م: (المجنون والسكران الذي لا يعقل) ش: وقال في شرح الطحاوي: ارتداد السكران لا يكون ارتداداً، ولا تبين منه امرأته.
وروي عن أبي يوسف أنه قال: تبين امرأته وعقوده نافذة، وطلاقه واقع إلا على قول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يقع طلاقه.

[الشهادة على الردة] 1
فروع: تقبل الشهادة على الردة من عدلين باتفاق أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالفهم إلا الحسن، فإنه قال لا يقبل في القتل إلا أربعة قياساً على الزنا. وقيل المرتد إلى الإمام عند عامة أهل العلم إلا عند الشافعي في وجه في العبد إلى سيده، ومن أصاب حداً ثم ارتد ثم أسلم إن لم يلحق بدار الحرب أقيم عليه الحد، وإن لحق ولي، وبه قال الثوري ومالك وأحمد في رواية. وقال الشافعي وأحمد: أقيم عليه الحد سواء ألحق بدار الحرب أو لا.
ولا تقبل توبة الساحر في رواية، وبه قال مالك وأحمد ولا تقبل توبة الزنديق. وقال مالك

(7/296)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأحمد في رواية وقال الشافعي وأحمد في رواية: تقبل توبة كل مرتد سواء كان كفره مما سقط هو به وأهله، أو مما نيط به أهله كالزندقة والتعطيل.
ثم للسحر حقيقة وله تأثير في آلام الأجسام. وقال بعض أصحاب الشافعي وبعض الظاهرية: لا تأثير له في الجسم ولا حقيقة له، وإنما هو تخييل وتعليمه حرام، وكذا تعلمه بلا خلاف من أهل العلم. ولو اعتقد إباحته كفر. وعن أصحابنا ومالك وأحمد يكفر الساحر لتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو لا، ويقتل. وكذا روي عن عمر وعثمان وابن عمر وجنيد بن عبد الله وأحمد بن كعب وقيس بن سالم وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فإنهم قتلوه بدون الاستتابة. وعن الشافعي لا يقتل ولا يكفر إلا إذا اعتقد إباحته.
وأما الكاهن: هو الساحر، وقيل هو العراف الذي يحدث ويحرض، وقيل هو الذي له وذي من الجن يأتيه بالأخبار. وقال أصحابنا: إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر، وإن اعتقد أنه لا يحل لم يكفر. وعند الشافعي إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل بالتيمن يكفر. وعند أحمد حكمه حكم الساحر، في رواية يقتل لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اقتلوا كل ساحر وكاهن، وبالله التوفيق.

(7/297)


باب البغاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب البغاة]
م: (باب البغاة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام البغاة، وهو جمع باغ كقضاة جمع قاض، من البغي وهو الخروج عن طاعة الإمام. وأصل البغي الطلب، قال: ما كنا نبغي، أي ما كنا نطلب ما لا يجوز شرعاً. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البغي التعدي، وبغي الموالي ظلم، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشرع فهو بغي.
وفي كتاب أهل الشرع الخروج عن طاعة الإمام. وقال الأترازي: المراد من البغاة الخوارج، ولهذا ذكر هذا الباب في المبسوط بيان الخوارج. وقال في فصول الأستروشني لا بد من معرفة أهل البغي.
فأهل البغي هم الخارجون على إمام الحق بغير حق. بيانه أن المسلمين إذا اجتمعوا على إمام، وصاروا آمنين به، فخرج عليه طائفة من المؤمنين، فإن فعلوا الظلم ظلمهم، فهم ليسوا من أهل البغي، وعليه أن يترك الظلم وينصفهم.
ولا ينبغي للناس أن يعينوه؛ لأن فيه إعانة على الظلم، وأن لا يعينوا تلك الطائفة على الإمام أيضاً؛ لأن فيه إعانة لهم على خروجهم على الإمام، وإن لم يكن ذلك لظلم ظلمهم، ولكن ادعوا الحق والولاية فقالوا: الحق معنا فهم أهل البغي، فعلى كل من يقوى على القتال أن ينصروا إمام المسلمين على هؤلاء الخارجين لأنهم ملعونون على لسان صاحب الشرع.
فإنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها» فإن كانوا تكلموا بالخروج لكن لم يعزموا على الخروج بعد فليس للإمام أن يتعرض لهم؛ لأن العزم على الجناية لم يوجد بعد، كذا ذكر في واقعات الإمام اللاسي.
وذكر العلامي في تهذيبه قال بعض المشايخ: لولا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما درئنا القتال مع أهل القبلة، وكان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وممن تبعه من أهل العدل وخصمه ومن تبعه من أهل البغي وفي زماننا الحكم للقبلة، ولا ندري العادلة والباغية كلهم يطلبون الدنيا، إلى هنا لفظ كتاب الفصول.
وقال الكاكي: ثم اعلم أن طاعة الإمام الحق هو الذي أجمع عليه المسلمون أو من ثبتت إمامته بعد إمام الحق واجب وكل من خرج عليه قتاله لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم وأجمعت الأمة على قتال البغاة.

(7/298)


وإذا تغلب قوم من المسلمين على بلد وخرجوا من طاعة الإمام دعاهم إلى العود إلى الجماعة وكشف عن شبهتهم؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل كذلك بأهل حروراء قبل قتالهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأكثر الفقهاء على عدم جواز تكفيرهم. وفي " المحيط " في تكفير أهل البدع كلام، فبعض العلماء لا يكفرون أحداً منهم وبعضهم يكفرون البعض، وهو أن كل بدعة تخالف دليلاً قطعياً فهو كفر، وكل بدعة لا تخالف دليلاً قطعياً يوجب العلم فهو بدعة ضلالة، وعليه اعتمد جماعة أهل السنة والجماعة.
م: (وإذا تغلب) ش: مرة قومهم تغلب على بلد كذا أي استولى عليه قهراً م: (قوم من المسلمين على بلد وخرجوا من طاعة الإمام دعاهم) ش: أي الإمام م: (إلى العود إلى الجماعة وكشف عن شبهتهم) ش: وقال الطحاوي في مختصره: وإذا ظهرت جماعة من أهل القبلة داعية وقاتلت عليه وصار لها منعة ليست عما دعاها إلى الخروج. فإن ذكرت ظلماً أنصفت من ظالمها وإلا دعيت إلى الرجوع عن البدعة.
وقال أبو بكر الرازي في شرحه: وإنما سئلت عن ذلك لجواز أن يكون خروجها للامتناع من ظلم جرى عليها أو على غيرها.
وإن كانوا ممتنعين من الظلم فهم محقون لا يجب قتالهم، بل يجب معاونتهم؛ لأنهم حينئذ خرجوا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا علم أن خروجهم لم يكن لظلم لحقهم أو لحق غيرهم دعوا إلى الجماعة والدخول في طاعة الإمام.
والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] ..... الآية (الحجرات: الآية 9) فاستفدنا من هذه الآية حكمين، أحدهما: ما كان لنا طمع في استصلاحهم ورجوعهم فعلينا أن ندعوهم ونستصلحهم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، والثاني: أنهم إذا لم يجيبوا إلى الصلح والرجوع وأظهروا البغي وجب علينا قتالهم.
م: (لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل كذلك بأهل حروراء قبل قتالهم) ش: هذا رواه النسائي في سننه الكبرى. وفي خصائص علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أخبرنا عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا عكرمة بن عمار حدثني أبو سهيل كمال الحنفي حدثني عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار وكانوا ستة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين، ابرد بالصلاة دعني أكلم هؤلاء القوم، فقال: إني أخفهم عليك.
فقلت: كلا، فلبست ثيابي ومضيت حتى دخلت عليهم في دار وهم مجتمعون فيها، فقالوا: مرحباً بك يا بن عباس، ما جاء بك، فقلت: أتيتكم من عند أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصهره، وعليهم نزل القرآن فهم أعلم بتأويله منكم

(7/299)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون، فانتحى لي نفر منهم.
قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن عمه وختنه وأول من آمن به، قالوا: ثلاث، قلت: ما هي، قالوا: إحداهن أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] .
قلت: هذه واحدة. قالوا: وأما الثانية فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفاراً فقد حلت لنا نساؤهم وأموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت علينا دماؤهم، قلت: هذه أخرى، قالوا: وأما الثالثة فإنه محا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيء غير هذا، قالوا: حسبنا هذا، قلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله عز وجل وحدثتكم من سنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يرد قولكم هذا أترجعون. قالوا: اللهم نعم.
قلت: أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله - عز وجل - فأنا أقرأ عليكم أن الله تعالى حكم الرجال في أرنب ثمنه ربع درهم، قال الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] . وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] أنشدكم أتعلمون حكم الرجال في حق دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات بينهم أفضل، أو في حكم أرنب ثمنه ربع درهم وفي بضع امرأة؟ قالوا: بلى هذا أفضل، قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم.
قلت: وأما قولكم إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فتستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم، لئن فعلتم لقد كفرتم، وإن قلتم: ليست أمنا فقد كفرتم، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج، أخرجت من هذه الأخرى، قالوا: اللهم نعم.
قلت: وأما قولكم إنه محا نفسه من إمرة المؤمنين «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فقال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله.
فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، يا علي اكتب محمد بن عبد الله،» فرسول الله خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك محواً من النبوة، أخرجت من هذه الأخرى، فقالوا: اللهم نعم، فرجع منهم ألفان، وبقي سائرهم فقاتلوا على ضلالتهم، فقتلهم

(7/300)


ولأنه أهون الأمرين، ولعل الشر يندفع به فيبدأ به، ولا يبدأ بقتال حتى يبدؤوه، فإن بدؤوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم. قال العبد الضعيف: هكذا ذكره القدوري في مختصره. وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده أن عندنا يجوز أن يبدأ بقتالهم إذا تعسكروا واجتمعوا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز حتى يبدؤوا بالقتال حقيقة؛ لأنه لا يجوز قتل المسلم إلا دفعا وهم مسلمون،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المهاجرون والأنصار.
ورواه ابن عبد الرزاق في " مصنفه " وقال في آخره فرجع منهم عشرون ألفاً وبقي أربعة آلاف فقتلوا على ضلالتهم، وحروراء بفتح الحاء المهملة تمد وتقصر قرية بالكوفة كان لها اجتماع الخوارج فنسبوا إليها، يقال: فلان حروري من الحرورية.
م: (ولأنه) ش: كشف شبههم مع دعوتهم إلى الجماعة م: (أهون الأمرين) ش: أحدهما: الدعوة إلى الجماعة، والآخر القتال م: (ولعل الشر يندفع به) ش: أي بكشف شبههم مع دعوتهم إلى الجماعة. في " المبسوط ": الأحسن أن يقدم ذلك على القتال؛ لأن الكي آخر الدواء م: (فيبدأ به) ش: أي بكشف الشبهة مع الدعوة م: (ولا يبدأ) ش: أي الإمام م: (بقتال) ش: البغاة م: (حتى يبدؤوه، فإن بدؤوه) ش: أي بالقتال م: (قاتلهم حتى يفرق جمعهم) .
م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (هكذا ذكره القدوري في مختصره، وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده أن عندنا يجوز أن يبدأ) ش: أي الإمام م: (بقتالهم) ش: أي بقتال البغاة م: (إذا تعسكروا واجتمعوا) ش: الإمام خواهر زاده هو الإمام أبو بكر محمد الحسين البخاري، وسمي خواهر زاده؛ لأنه كان ابن أخت القاضي الإمام أبي ثابت قاضي سمرقند صاحب " الذخيرة " و " المبسوط " و " الإيضاح ".
وكان خواهر زاده إماماً كاملاً في الفقه بحراً غزيراً صاحب التصانيف ومبسوطه أطول المباسيط، مات في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وهي السنة التي توفي فيها شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكانت وفاة القدوري سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: البدء بقتالهم م: (حتى يبدؤوا بالقتال حقيقة) ش: وبه قال مالك وأحمد وأكثر أهل العلم م: (لأنه لا يجوز قتل مسلم) ش: وفي بعض النسخ لا يحل قتل المسلم م: (إلا دفعاً) ش: لقتالهم م: (وهم مسلمون) ش: أي البغاة مسلمون بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات: 9] (الحجرات: الآية 9) ، أي إحدى الطائفتين من المؤمنين، وقد

(7/301)


بخلاف الكافر؛ لأن نفس الكفر مبيح عنده. ولنا أن الحكم يدار على الدليل وهو الاجتماع والامتناع، وهذا لأنه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم وربما لا يمكنه الدفع، فيدار الحكم على الدليل ضرورة دفع شرهم.
وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح، ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك، ويحدثوا توبة دفعا للشر بقدر الإمكان. والمروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من لزوم البيت محمول على حال عدم الإمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سمى البغاة مؤمنين م: (بخلاف الكافر؛ لأن نفس الكفر مبيح عنده) ش: أي عند الشافعي، يعني أن علة إباحة القتال وهي الكفر عنده، وعندنا العلة هو الخراب.
م: (ولنا أن الحكم يدار على الدليل) ش: أي دليل القتال م: (وهو الاجتماع والامتناع) ش: يعني إذا اجتمعوا فصارت لهم منعة دفعهم بالقتال.
م: (وهذا) ش: يعني دوران الحكم على الدليل م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم، وربما لا يمكنه الدفع) ش: أي دفعهم بحصول الشوكة لهم والقوة على المؤمنين، فإذا كان الأمر كذلك م: (فيدار الحكم على الدليل) ش: أي دليل قتالهم وهو شجرهم واجتماعهم م: (ضرورة) ش: أي لأجل الضرورة م: (دفع شرهم) ش: وفي " المبسوط " و " الإيضاح ": فحالهم في ذلك كحال المرتدين وأهل الحرب الذين بلغتهم الدعوة.
ولهذا يجوز قتالهم بكل ما يجوز قتال أهل الحرب به كالرمي بالنبل والمنجنيق وإرسال الماء والنار عليهم والبيان بالنبل؛ لأن قتالهم حينئذ فرض كقتال أهل الحرب والمرتدين. وعند الأئمة الثلاثة قتالهم بالمنجنيق وإرسال الماء والنار لا يجوز إلا إذا لم يندفعوا بدونه.

[إعانة الإمام الحق على قتال البغاة]
م: (وإذا بلغه) ش: أي الإمام م: (أنهم) ش: أي أن البغاة م: (يشترون السلاح ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم) ش: أي الإمام م: (ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك) ش: أي حتى يمتنعوا عما قصدوه، ويقلعوا بضم الياء من الإقلاع وهو الامتناع، ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقلعوا عن المعاصي قبل أن يأخذكم الله» م: (ويحدثوا توبة) بضم الياء، أي يحدثوا توبة عما هم فيه م: (دفعاً للشر بقدر الإمكان) ش: أي لأجل دفع شرهم بحسب إمكانهم.
م: (والمروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من لزوم البيت محمول على حال عدم الإمام) ش: بيان ذلك أن الشيخ أبا الحسن الكرخي قال في مختصره: قال الحسن بن زياد وقال أبو حنيفة: إذا وقعت الفتنة بين المسلمين فينبغي للرجل أن يعتزل الفتنة ويلزم بيته ولا يخرج في الفتنة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من فر من الفتنة أعتق الله رقبته من النار» .
وقال المصنف: هذا محمول على حال عدم الإمام الداعي إلى القتال، أما إذا كان المسلمون مجتمعين على إمام كانوا آمنين به وإسلامه، فخرج عليه طائفة من المؤمنين فحينئذ يجب على كل

(7/302)


أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب عند الغناء والقدرة، فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع موليهم دفعا لشرهم كي لا يلتحقوا بهم. وإن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم لاندفاع الشر دونه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز ذلك في الحالين؛ لأن القتال إذا تركوه لم يبق قتلهم دفعا، وجوابه ما ذكرناه أن المعتبر دليله لا حقيقته، ولا يسبى لهم ذرية ولا يقسم لهم مال؛ لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الجمل: ولا يقتل أسير ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من يقوى على القتال أن يقاتلهم نصرة لإمام المسلمين.
أشار إليه بقوله: م: (أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ... الآية (الحجرات: الآية 9) فإن الأمر للوجوب م: (عند الغناء) ش: بفتح الغين المعجمة وبالمد، وهو الكفاية م: (والقدرة) ش: بالجر عطفاً على ما قبله، ويجوز أن يكون العطف للتفسير.
فإن قلت: روي عن ابن عمر وغيره من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قعودهم وترك الإعانة.
قلت: هو أيضاً محمول، ولكن على عدم قدرتهم على القتال، والعاجز لا يلزمه الحضور.
م: (فإن كانت لهم فئة) ش: أي جماعة غير المصدرين للقتال م: (أجهز) ش: على صيغة المجهول من أجهزت م: (على جريحهم) ش: إذا أسر عن قتله وقد تممت عليه، يعني كان مجروحاً أشرف على الموت قيمة م: (واتبع موليهم) ش: على صيغة المجهول أيضاً وبكسر اللام وسكون الياء.
وهو الذي يولي ويهرب خوفاً بنفسه م: (دفعاً لشرهم) ش: أي لأجل دفع شر البغاة م: (كي لا يلتحقوا) ش: أي الجريح والمولي م: (بهم) ش: أي لبغاة فيميلان إليهم م: (وإن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم) ش: وكلا اللفظين أيضا على صيغة المجهول م: (لاندفاع الشر دونه) ش: أي دون إجهاز جريحهم واتباع موليهم.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز ذلك في الحالين) ش: أي فيما إذا كانت لهم فئة، وإن لم يكن لهم فئة م: (لأن القتال إذا تركوه لم يبق قتلهم دفعاً) ش: للشر؛ لأن شرهم قد اندفع فلا حاجة إلى الامتناع، وهذا لأنه قتال على وجه الدفع، فصار كقتال غير الخوارج.
م: (وجوابه) ش: أي جواب الشافعي م: (ما ذكرناه أن المعتبر دليله) ش: أي دليل القتال وهو الإجماع م: (لا حقيقته) ش: أي لا حقيقة القتال، وبقولنا قال مالك وبعض أصحاب الشافعي: م: (ولا يسبى لهم ذرية ولا يقسم لهم مال لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الجمل: ولا يقتل أسير ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال) ش: يوم الجمل هو اليوم الذي كان فيه وقعة عائشة مع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

(7/303)


وهو الذي يقتدى به في هذا الباب. وقوله في الأسير: تأويله إذا لم يكن لهم فئة، فإن كانت يقتل الإمام الأسير، وإن شاء حبسه لما ذكرنا، ولأنهم مسلمون والإسلام يعصم النفس والمال، ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز، والكراع على هذا الخلاف. له أنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به إلا برضاه. ولنا أن عليا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذلك أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قتل يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين بويع لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالمدينة بالخلافة يوم قتل عثمان، بايعه من كان في المدينة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم وفيهم طلحة وزيد.
وذكر أنهما بايعاه كارهين غير طائعين، فخرجا من مكة ومعهما عائشة إلى البصرة يطالبون بدم عثمان، وبلغ علياً ذلك فخرج من المدينة إلى العراق، وبعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة يستنصر أهلها بالمسير معه، فقدموا عليه فأنزلهم البصرة فلقي طلحة والزبير وعائشة ومن معهم من أهل البصرة وغيرهم، فوقع بينهم قتال عظيم، فظنوهم قتل يومئذ طلحة والزبير وغيرهما، وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألف قتيل، وإنما سمي يوم الجمل؛ لأن عائشة كانت يومئذ على جمل يسمى عكرا.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبدة بن سليمان عن جرير عن الضحاك أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما هزم طلحة والزبير وأصحابهما أمر منادياً فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر، ولا يفتح باب، ولا يقل قرح، ولا مال. قوله: ولا يكشف ستر أي لا يسبى نساؤهم وهو القدوة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وهو الذي يقتدى به في هذا الباب) ش: أي في باب قتال الخوارج م: (وقوله) ش: أي قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (في الأسير) ش: أي: ولا يقتل أسير م: (تأويله) ش: أي تأويل كلامه م: (إذا لم يكن لهم فئة، فإن كانت يقتل الإمام الأسير، وإن شاء حبسه لما ذكرنا) ش: أي عند قوله ويحبسهم إلى قوله دفعاً لشرهم، وعند الأئمة الثلاثة: لا يقتل الأسير بل يحبسه م: (ولأنهم) ش: أي ولأن البغاة م: (مسلمون، والإسلام يعصم النفس والمال) ش: للحديث المشهور.
م: (ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه) ش: أي إلى سلاحهم لأجل القتال م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: وبه قال أحمد في رواية م: (والكراع على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف الذي بيننا وبين الشافعي، يعني: يجوز استعمال الكراع وهو الجمل عند الحاجة عندنا. وقال الشافعي وأحمد في رواية: لا يجوز، وبقولنا قال مالك وأحمد في رواية.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به إلا برضاه. ولنا: أن علياً -

(7/304)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة، وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك ولأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة. ففي مال الباغي أولى. والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى. ويحبس الإمام أموالهم ولا يردها عليهم، ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها عليهم، أما عدم القسمة فلما بينا. وأما الحبس فلدفع شرهم بكسر شوكتهم، ولهذا يحبسها عنهم: وإن كان لا يحتاج إليها إلا أنه يبيع الكراع؛ لأن حبس الثمن أنظر وأيسر. وأما الرد بعد التوبة فلاندفاع الضرورة ولا استغنام فيها.
قال: وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانيا. لأن ولاية الأخذ له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة) ش: وروى ابن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا وكيع عن مطرف عن مسند عن ابن الحنفية أن علياً قسم يوم الجمل في العسكر ما أجافوا عليه من كراع وسلاح م: (وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك) ش: يعني كانت قسمته قسمة انتفاع لدفع الحاجة، لا قسمة تمليك، ولهذا لما وضعت الحرب أوزارها ردها إليهم.
م: (ولأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى، والمعنى فيه) ش: أي المعنى المبيح في استعمال أسلحة أهل البغي وكراعهم م: (إلحاق الضرر الأدنى) ش: وهو ضرر صاحب السلاح وصاحب الكراع م: (لدفع الضرر الأعلى) ش: وهو الضرر العام الواقع على عامة المسلمين، فيحتمل الأدنى لدفع الأعلى م: (ويحبس الإمام أموالهم ولا يردها عليهم ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها عليهم، أما عدم القسمة فلما بينا) ش: إشارة إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يؤخذ مال.
قال الأكمل: قلت: ليس بذلك، بل إشارة إلى قوله: لأنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به م: (وأما الحبس فلدفع شرهم بكسر شوكتهم) ش: كي لا يستعينوا بها علينا م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كسر شوكتهم م: (يحبسها عنهم، وإن كان لا يحتاج إليها إلا أنه) ش: أي أن الإمام م: (يبيع الكراع؛ لأن حبس الثمن أنظر) ش: للمالك م: (وأيسر) ش: للحافظ؛ لأن إبقاءه يحتاج إلى النفقة والخدمة.
م: (وأما الرد بعد التوبة فلاندفاع الضرورة ولا استغنام فيها) ش: يعني أموال أهل البغي لا يبيعها لعصمتها، فلا يقسم لأجل هذا بين أهل العدل، لكنها تجر ضرورة دفع الشر، فإذا اندفعت الضرورة بتوبتهم ردت إليهم.

[ما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر]
م: (قال: وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانياً) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وابن الماجشون المالكي وابن القاسم لا يعتبر ذلك. وعلى من أخذ منه الزكاة الإعادة، وبه قال أبو عبيد؛ لأن الأخذ ممن لا ولاية له م: (لأن ولاية الأخذ له) ش: أي

(7/305)


باعتبار الحماية ولم يحمهم، فإن كانوا صرفوه في حقه أجزأ من أخذ منه لوصول الحق إلى مستحقه. وإن لم يكونوا صرفوه في حقه فعلى أهله فيما بينهم وبين الله - تعالى - أن يعيدوا ذلك؛ لأنه لم يصل إلى مستحقه. قال العبد الضعيف: قالوا لا إعادة عليهم في الخراج؛ لأنهم مقاتلة، فكانوا مصارف، وإن كانوا أغنياء، وفي العشر إن كانوا فقراء فكذلك؛ لأنه حق الفقراء، وقد بيناه في الزكاة. وفي المستقبل يأخذه الإمام؛ لأنه يحميهم فيه لظهور ولايته.
ومن قتل رجلا وهما من عسكر أهل البغي ثم ظهر عليهم فليس عليهم شيء؛ لأنه لا ولاية لإمام العدل حين القتل. فلم ينعقد موجبا كالقتل في دار الحرب. وإن غلبوا على مصر فقتل رجل من أهل المصر رجلا من أهل المصر عمدا ثم ظهر على المصر، فإنه يقتص منه. وتأويله:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإمام م: (باعتبار الحماية ولم يحمهم) ش: ألا ترى إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن كنت لا تحمهم فلا تجبهم.
م: (فإن كانوا) ش: أي أهل البغي إن كانوا م: (صرفوه) ش: الذي أخذوه م: (في حقه) ش: أي في الجهة التي عينها الشارع له م: (أجزأ من أخذ منه، لوصول الحق إلى مستحقه، فإن لم يكونوا صرفوه في حقه فعلى أهله فيما بينهم وبين الله - تعالى - أن يعيدوا ذلك؛ لأنه لم يصل إلى مستحقه) ش: لأن سقوط المطالبة قضاء لا يوجب سقوطها ديانة.
م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (لا إعادة عليهم في الخراج) ش: ديانة أيضاً؛ لأنهم محل الخراج م: (لأنهم مقاتلة، فكانوا مصارف، وإن كانوا أغنياء، وفي العشر إن كانوا فقراء فكذلك) ش: لا إعادة عليهم م: (لأنه) ش: أي لأن العشر م: (حق الفقراء) ش: من أهل الإسلام وهذا أوجه م: (وقد بيناه في الزكاة) ش: أي وقد بينا الحكم المذكور قبل فصل في الفضة م: (وفي المستقبل يأخذه الإمام) أي في الحول إلا فيء يأخذ الإمام العشر والخراج م: (لأنه) ش: أي لأن الإمام م: (يحميهم فيه) ش: أي في المستقبل من الزمان م: (لظهور ولايته) ش: حينئذ.

[المقتول من عسكر أهل البغي]
م: (ومن قتل رجلاً وهما) ش: أي والحال أنهما م: (من عسكر أهل البغي ثم ظهر عليهم) ش: بضم الظاء، أي غلب عليهم م: (فليس عليهم شيء) ش: أي لا يجب على القاتل دية ولا قصاص. وقالت الأئمة الثلاثة: يؤخذ بموجب الجناية، أي جناية كانت بعموم الآية والأخبار م: (لأنه لا ولاية لإمام العدل حين القتل، فلم ينعقد موجباً كالقتل في دار الحرب) ش: لعدم الولاية م: (وإن غلبوا) ش: أي البغاة م: (على مصر فقتل رجل من أهل المصر رجلاً من أهل المصر عمداً ثم ظهر على المصر) ش: أي غلب عليه بأن رفعت عنها أيدي البغاة م: (فإنه يقتص منه) ش: أي من القاتل م: (وتأويله) ش: أي تأويل قوله: يقتص منه، وإنما قال المصنف: وتأويله؛ لأن المسألة التي ذكرها من مسائل " الجامع الصغير "، ولم يذكر فيه، أي لم يجر على أهله أحكامهم، وإنما ذكر هذا فخر

(7/306)


إذا لم يجر على أهله أحكامهم وأزعجوا قبل ذلك، وفي ذلك لا تنقطع ولاية الإمام فيجب القصاص.
وإذا قتل رجل من أهل العدل باغيا فإنه يرثه، فإن قتله الباغي وقال: قد كنت على حق، وأنا الآن على حق ورثه، وإن قال: قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يرث الباغي في الوجهين، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصله أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم؛ لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم، والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: إنه يجب، وعلى هذا الخلاف إذا تاب المرتد وقد أتلف نفسا أو مالا. له أنه أتلف مالا معصوما. أو قتل نفسا معصومة فيجب الضمان اعتبارا بما قبل المنعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإسلام البزدوي في شرحه " للجامع الصغير " ونقله المصنف منه هكذا حيث قال م: (إذا لم يجر على أهله) ش: أي أهل المصر م: (أحكامهم) ش: أي أحكام البغاة الذين غلبوا عليه.
م: (وأزعجوا قبل ذلك) ش: أي أزعج أهل البغي قبل إجراء أحكامهم على أهل المصر وأزعجوا على صيغة المجهول من أزعجه أي قلعه من مكانه م: (وفي ذلك) ش: أي وفيما لم يجر أحكامهم م: (لا تنقطع ولاية الإمام فيجب القصاص) ش: لأن استيلاءهم كان بعارض، وبقاء ولاية الإمام.

[قتل رجل من أهل العدل باغياً]
م: (وإذا قتل رجل من أهل العدل باغياً فإنه يرثه، فإن قتله الباغي) ش: أي وإن قتل الباغي رجلاً من أهل العدل م: (وقال: قد كنت على حق وأنا الآن على حق ورثه، وإن قال: قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه، وهذا) ش: أي المذكور من الأحكام م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يرث الباغي في الوجهين) ش: أي فيما إذا قال: كنت على حق، وفيما إذا قال: كنت على باطل م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قول أبي يوسف، وهو قول الشافعي في القديم.
م: (وأصله) ش: أي وأصل هذا الخلاف م: (أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم؛ لأنه مأمور بقتالهم دفعاً لشرهم، والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا) ش: وبه قال أحمد م: (ويأثم) ش: لأنه قتل نفساً.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: إنه يجب) ش: الضمان. وبه قال مالك م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي المذكور م: (إذا تاب المرتد وقد أتلف نفساً) ش: أي والحال أنه قد أتلف نفساً م: (أو مالاً) ش: لا يجب الضمان عندنا، وعلى قول الشافعي في القديم يجب م: (له) ش: أي للشافعي م: (أنه أتلف مالاً معصوماً أو قتل نفساً معصومة فيجب الضمان اعتباراً بما قبل المنعة) ش:

(7/307)


ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ورواه الزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنه أتلف عن تأويل فاسد، والفاسد منه ملحق بالصحيح إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع، كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي قياس ما إذا تلف قبل أن يكون لهم منعة.
م: (ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ورواه الزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي روى محمد بن مسلم الزهري إجماع الصحابة على أنه لا يضمن الباغي إذا قتل العادل.
وقال الأترازي: ذكر أصحابنا في كتبهم لفخر الإسلام وغيره عن الزهري أنه قال: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوافرون فاتفقوا على أن كل مال استحل بتأويل القرآن فهو موضوع، وكل مال استحق بتأويل القرآن فهو موضوع، وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع. وما كان قائماً يرد. انتهى.
قلت: روى عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا معمر عن الزهري أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت بالحرورية فتزوجت، ثم إنها رجعت إلى أهلها ثانية.
قال الزهري: فكتب إليه أما بعد فإن الفتنة الأولى مارت وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن شهد بدراً كريماً فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حداً في فرج استحلوه، بتأويل القرآن ولا قصاص في دم استحلوه بتأويل القرآن. ولا يرد مال استحلوه بتأويل القرآن إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد على صاحبه، وإن رأى أن يرد على زوجها وأن يحل من افترى عليها، انتهى.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الباغي م: (أتلف عن تأويل فاسد، والفاسد منه) ش: أي من التأويل م: (ملحق بالصحيح) ش: أي بالتأويل الصحيح م: (إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع) ش: أي إلى التأويل يتعلق بقوله: ملحق بالصحيح، أي في دفع الضمان، بيانه أن الخوارج يستحلون دماء المسلمين بالمعصية صغيرة كانت أو كبيرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] (الجن: الآية 23) ، وتأويلهم هذا وإن كان فاسداً لكن اعتبر في دفع الضمان لما روي عن الزهري آنفاً.
وقال في " تحفة الفقهاء ": هذا إذا أتلفوا في حال المنعة، فأما إذا أتلفوا مالهم ونفوسهم قبل ظهور المنعة أو بعد الانهزام فإنهم يضمنون لأنهم من أهل دار الإسلام، ثم قال: هذا جواب الحكم، وبمعنى أن يضمن كل واحد من الفريقين للآخر ما أتلف من الأنفس والأموال؛ لكونها معصومة في هذه الحالة إلا بطريق الدفع م: (كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم) ش: يعني بعدما أسلموا.

(7/308)


وهذا لأن الأحكام لا بد فيها من الإلزام أو الالتزام، ولا التزام لاعتقاد الإباحة عن تأويل، ولا إلزام لعدم الولاية لوجود المنعة، والولاية باقية قبل المنعة، وعند عدم التأويل ثبت الالتزام اعتقادا. بخلاف الإثم لأنه لا منعة في حق الشارع، إذا ثبت هذا فنقول قتل العادل الباغي قتل بحق فلا يمنع الإرث. ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قتل الباغي العادل أن التأويل الفاسد إنما يعتبر في حق الدفع. والحاجة هاهنا إلى استحقاق الإرث فلا يكون التأويل معتبرا في حق الإرث. ولهما فيه أن الحاجة إلى دفع الحرمان أيضا، إذ القرابة سبب الإرث فيعتبر الفاسد فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أشار به إلى قوله: والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم م: (لأن الأحكام) ش: أي أحكام الشرع في حق الدنيا م: (لا بد فيها من الإلزام أو الالتزام) ش: يعني الباغي م: (ولا التزام لاعتقاد الإباحة عن تأويل) ش: أي الالتزام منه لتأويله الفاسد أن يقال: العادل مباح، ويجوز إراقة دمه لأن من عصى الله صغيرة أو كبيرة فقد كفر م: (ولا إلزام لعدم الولاية) ش: أي ولا إلزام على الباغي لعدم ولاية الإمام م: (لوجود المنعة) ش: أي منعة أهل البغي الحرب، بخلاف ما قبل ظهور المنعة.
م: (والولاية) ش: جواب عن قول الثاني اعتباراً بما قبل المنعة، أي ولاية الإمام م: (باقية قبل المنعة) ش: عليهم كما كانت م: (وعند عدم التأويل ثبت الالتزام اعتقاداً) ش: أي من حيث الاعتقاد.
م: (بخلاف الإثم) ش: حيث يثبت سواء كانت لهم منعة أو لم تكن م: (لأنه لا منعة في حق الشارع) ش: ومنعتهم في حق الشارع كالمنعة فلا يكون وجود منعتهم دفعاً للإثم م: (إذا ثبت هذا) ش: أشار به إلى قوله: لأن الأحكام لا بد فيها ... إلى آخره، م: (فنقول: قتل العادل الباغي قتل بحق فلا يمنع الإرث) ش: لأن حرمان الإرث جزاء فعل محظور فلا يعطى بمباح.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قتل الباغي العادل: أن التأويل الفاسد إنما يعتبر في حق الدفع) ش: أي في حق دفع الضمان م: (والحاجة هاهنا إلى استحقاق الإرث فلا يكون التأويل معتبراً في حق الإرث) ش: حاصل هذا الكلام أن التأويل الفاسد يعتبر في حق دفع لا في حق استحقاق الميراث فيحرم الإرث؛ لأنه قتله بغير حق.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (فيه) ش: أي في قتل الباغي العادل م: (أن الحاجة إلى دفع الحرمان أيضاً) ش: أي في دفع الحرمان عن الإرث أيضاً يعني كما أن تأويله يعتبر في حق دفع الضمان يعتبر أيضاً في دفع الحرمان أيضاً م: (إذ القرابة) ش: أي لأن القرابة م: (سبب الإرث فيعتبر الفاسد) ش: أي التأويل الفاسد م: (فيه) ش: أي في دفع الحرمان من شرطه استثناء من قوله: يعتبر الفاسد.

(7/309)


إلا أن من شرطه بقاؤه على ديانته، فإذ قال: كنت على الباطل لم يوجد الدافع فوجب الضمان. قال ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عساكرهم؛ لأنه إعانة على المعصية، وليس ببيعه بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرفه من أهل الفتنة بأس؛ لأن الغلبة في الأمصار لأهل السلاح، وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع ما لا يقاتل به إلا بصنعة، ألا ترى أنه يكره بيع المعازف ولا يكره بيع الخشب، وعلى هذا الخمر مع العنب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا أن من شرطه) ش: أي من شرط الإرث م: (بقاؤه) ش: أي بقاء الباغي م: (على ديانته) ش: يكون مصراً على دعواه، فإذا رجع فقد بطلت ديانته وهو معنى قوله م: (فإذا قال: كنت على الباطل لم يوجد الدافع) ش: أي الضمان م: (فوجب الضمان) ش: لعدم الدافع.
م: (قال: ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عساكرهم) ش: أي عساكر أهل الفتنة م: (لأنه إعانة على المعصية) ش: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] (المائدة: الآية 2) م: (وليس بيعه) ش: أي بيع السلاح م: (بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرفه من أهل الفتنة بأس) ش: بالرفع اسم ليس م: (لأن الغلبة في الأمصار لأهل السلاح) ش: وأهل الفتنة فيها قليل، وتقييده بالكوفة باعتبار أن البغاة خرجوا منها أولاً فالحكم في غيرها كذلك.
م: (وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع ما لا يقاتل به إلا بصنعة) ش: متجددة، فإنه لا بأس من أهل الفتنة.
وأوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه يكره بيع المعازف) ش: جمع معزف بكسر الميم وهو ضرب من الطنابير تتخذ به أهل اليمن م: (ولا يكره بيع الخشب) ش: أي الذي يتخذ منه المعزف م: (وعلى هذا) ش: أي الحكم م: (الخمر مع العنب) ش: حيث لا يجوز بيع الخمر ويجوز بيع عصير العنب.
والفرق لأبي حنيفة بين كراهية بيع السلاح من أهل الفتنة وعدم كراهة بيع العصير ممن يتخذه خمراً أن الضرر هنا يرجع إلى العامة وهناك يرجع إلى الخاصة.
فروع: يكره أن يبعث برؤوس البغاة أو الحربي إلى الأماكن إلا إذا كان في ذلك وهن لهم فلا بأس به.
قتلى أهل العدل في الحرب شهداء يفعل بهم ما يفعل بالشهداء، وقتلى أهل البغي لا يصلى عليهم سواء كانت لهم فئة أو لا، هو الصحيح، ولكن يغسلون ويكفنون. وإذا أغاروا مستدلين بنصوص غير متأولين على مدينة وقاتلوا وقتلوا الأنفس وأخذوا أموالاً أخذوا بالجميع، وكذا إذا خرج جماعة لا منعة لهم، ولا خلاف فيه لأهل العلم.
ولو استعان أهل البغي بأهل الحرب وأودع أهل البغي أهل الحرب فأعانهم أهل الحرب على

(7/310)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أهل العدل يسبون ويقتلون لأنهم نقضوا العهد.
ولو طلب أهل البغي الموادعة أجيبوا إن كان خيراً لنا، ولا يأخذ الإمام منهم شيئاً.
ولو نصب أهل البغي قاضياً للقضاء إن كان من أهل العدل يجوز بلا خلاف، وإن كان ممن لا يستحل لا يجوز عندنا ويجوز عند الشافعي وأحمد.
ولو كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل كتاباً يقبل بلا خلاف، والأولى أن لا يقبل كسراً لمواليهم. وعندنا كل متسلط إذا تم تسليطه يصير سلطاناً فيصح تقليده القضاء ويصح منه ما يصح من السلطان العادل، وبالله الرحمة، وهو ولي التوفيق.

(7/311)