البناية شرح الهداية

باب خيار العيب وإذا اطلع المشتري على عيب في المبيع فهو بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء رده؛ لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة، فعند فواته يتخير كيلا يتضرر بلزوم ما لا يرضى به، وليس له أن يمسكه ويأخذ النقصان؛ لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن في مجرد العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب خيار العيب]
[اطلع المشتري على عيب في المبيع]
م: (باب خيار العيب) ش: أي هذا باب في بيان أحكام خيار العيب وإضافة الخيار إلى العيب من قبيل إضافة الشيء إلى سببه، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: العيب والعيبة والعاب في معنى واحد نقول عاب المباع أي صار ذا عيب وعبته أنا يتعدى ولا يتعدى فهو معيب ومعيوب أيضا على الأصل ويقول: ما به معابة ومعاب أي عيب، وفي " المبسوط ": العيب ما تخلو عنه أصل الفطرة السليمة.
م: (وإذا اطلع المشتري على عيب في المبيع فهو بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء رده؛ لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة) ش: أي سلامة المعقود عليه م: (فعند فواته) ش: أي فوات وصف السلامة م: (يتخير) ش: أي المشتري م: (كيلا يتضرر بلزوم مالا يرضى به) ش: والضرر مدفوع شرعا.
م: (وليس له) ش: أي للمشتري م: (أن يمسكه) ش: أي المبيع الذي اطلع فيه على عيب م: (ويأخذ النقصان) ش: أي نقصان العيب، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أحد الأمرين؛ لأنه حقه، ونقصان العيب إما الثمن أو الإرث، وليس له ذلك؛ لأن العائب وصف؛ لأن العيب إما أن يكون بما يوجب فوات جزء من المبيع أو تغيره من حيث الظاهر كالعمى والعور والشلل والزمانة والسن الساقطة.
وإما أن يكون بما يوجب النقصان معنى لا صورة كالسعال القديم وارتفاع الحيض في زمانه، والزنا والدفر، والبخر في الجارية، وفي ذلك كله فوات وصف فلا يصح أن يأخذ النقصان.
م: (لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن) ش: لأن الثمن إما أن يقابل بالوصف، والأصل أو بالأول دون الثاني أو بالعكس لا سبيل إلى الأول، والثاني كيلا يؤدي إلى مزاحمة التبع الأصل فتعين الثالث، وإنما قال: م: (في مجرد العقد) ش: احتراز عما إذا كانت الأوصاف مقصودة بالتناول كما إذا ضربت الدابة فاعورت، أو صارت معيبا، أو قطع البائع يد المبيع قبل القبض فإنه يسقط نصف الثمن؛ لأنه صار مقصودا بالتناول، أو حكما بأن يمتنع الرد بحق البائع بالعيب أو بحق الشرع بالجناية فإن لها قسطا من الثمن حينئذ.

(8/99)


ولأنه لم يرض بزواله عن ملكه بأقل من المسمى فيتضرر به، ودفع الضرر عن المشتري ممكن بالرد بدون تضرره، والمراد به عيب كان عند البائع، ولم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض؛ لأن ذلك رضا به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن هذا قلنا: إن من اشترى شاة أو بقرة فحلبها وشرب لبنها، ثم علم بعيبها لا يردها بالعيب، ولكن يرجع بنقصان العيب عندنا، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يردها بالعيب بجميع الثمن، ولكن ذكر في كتبهم أن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في القديم: يثبت له الرد، وقال في الجديد: لا يثبت له الرد.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر على عدم جواز إمساكه يأخذ النقصان، أي ولأن البائع م: (لم يرض بزواله عن ملكه بأقل من المسمى) ش: في العقد م: (فيتضرر به) ش: بزوال ملكه بأقل من المسمى م: (ودفع الضرر) ش: جواب عما يقال: إن المشتري أيضا يتضرر حيث يأخذ المبيع المعيب، فأجاب بقوله: ودفع الضرر م: (عن المشتري ممكن بالرد) ش: أي برد المبيع م: (بدون تضرره) ش: أي تضرر البائع، فإن قيل: البائع إذا باع معيبا فإذا هو سليم البائع يتضرر، لما أن الظاهر أنه نقص الثمن على ظن أنه معيب، ولا خيار له، وعلى هذا فالواجب إما شمول الخيار لهما، أو عدمه لهما. أجيب: بأن المبيع كان في يد البائع وتصرفه وممارسته طول زمانه، تراجع فأنزل عالما بصفة ملكه، فلا يكون له الخيار وإن ظهر بخلافه.
وأما المشتري فإنه ما رأى المبيع فلو ألزمنا العقد مع العيب تضرر من غير علم حصل له فيثبت له الخيار م: (والمراد به عيب كان عند البائع) ش: هذا كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوضح به قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإذا اطلع المشتري على عيب ... إلى آخر هذا من كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمراد به أي بالعيب الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عيب كان عند البائع.
م: (ولم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض؛ لأن ذلك) ش: أي رؤية العيب عند إحدى الحالتين م: (رضا به) ش: أي بالعيب دلالة، والأصل في هذا الباب ما قاله البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويذكر «عن العداء بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كتب لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا ما اشترى محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العداء بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة» . ثم قال في الصحيح: قال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغائلة الزنا والسرقة والإباق، والمشتري هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ترى.
روى ابن شاهين في معجمه عن أبيه قال: حدثنا عبد العزيز بن معاوية القرشي قال: حدثنا عباد بن ليث قال: حدثنا عبد الحميد بن وهب أبو وهب قال: «قال لي العداء بن خالد بن

(8/100)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هوذة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألا أقرئك كتابا كتبه لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبدا أو أمة؛ لأداء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم.» والمشتري: هو العداء كما ترى، وأثبت في الفائق كما في المعجم. وفي " المغرب ": الصحيح أن المشتري كان العداء والبائع هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المشتري رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكره في شروط الخصاف، وشروط الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتابعهما في ذلك الحاكم السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: رواية ابن شاهين - رَحِمَهُ اللَّهُ - تدل على أن المشتري هو العداء.
وكذلك رواه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلفظ: «هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى منه» ... الحديث.
وكذلك رواه النسائي وابن ماجه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وكلهم اتفقوا على أن البائع هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمشتري العداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ووقع عند البخاري بالعكس، فقيل: إن الذي وقع عنده مقلوب وقيل: هو صواب وهو من الرواية بالمعنى؛ لأن اشترى وباع بمعنى واحد، ولزم من ذلك تقديم اسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اسم العداء: وشرحه ابن المعرافي على ما وقع في الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال فيه: البداءة باسم المفضول في الشروط إذا كان هو المشتري، والعداء بفتح العين وتشديد الدال المهملتين ممدود، وكان إسلامه بعد الفتح وبعد حنين، وبقي إلى زمن يزيد بن المهلب وكان يسكن البادية، وقد استقصينا الكلام فيه في شرحنا للبخاري، وقال الخطابي: الداء ما يكون بالرقيق من الأدواء التي يرد بها، كالجنون والجذام والبرص ونحوها من الآفات، والخبثة ما كان خبيث الأصل، مثل أن يسبى من له عهد، ومعنى " الغائلة ": ما يغتال حقك من حيلة، وما يدلس عليك في المبيع من عيب، وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفائق: الغائلة الخصلة التي تغول المال، أي تهلكه من إباق أو غيره ... انتهى.
وتفسير " الداء " فيما رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المرض في الجوف والكبد والرئة، فإن المرض ما يكون في سائر البدن، والداء ما يكون في الجوف من الكبد والرئة، وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: الداء المرض، والغائلة ما يكون من قبل الأفعال كالإباق والسرقة، والخبثة: هي الاستحقاق، وقيل: هي الجنون، كذا في " المبسوط "، والخبثة بكسر الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحدة، وفتح الثاء المثلثة.
وقال ابن التين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحد شراح البخاري: ضبطناه في أكثر الكتب بضم الخاء وكذلك سمعناه، وضبط في بعضها بالكسر، وقال الخطابي: خبثة على وزن خبزة، قيل: أراد بها

(8/101)


قال: وكلما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب؛ لأن التضرر بنقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة والمرجع في معرفته عرف أهله،
قال: والإباق والبول في الفراش والسرقة في الصغير عيب ما لم يبلغ، فإذا بلغ فليس ذلك بعيب حتى يعاوده بعد البلوغ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحرام كما عبر عن الحلال بالطيب، وقيل: المراد الأخلاق الخبيثة كالإباق.
ثم وجه الاستدلال بهذا الحديث أن فيه تنصيصا على أن البيع يقتضي سلامة المبيع من العيب.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أراد بهذا بيان معرفة العيوب؛ لأنه قال أولا: إذا اطلع المشتري على عيب إلى آخره يحتاج إلى معرفة العيوب فبين المعيب بهذا الكلي، وهو قوله م: (وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجارة فهو عيب) ش: هذا ضابط كلي يعلم بها العيوب الموجبة للخيار على سبيل الإجمال م: (لأن التضرر بنقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة، والمرجع في معرفته عرف أهله) ش: وفي " الذخيرة ": ففي كل شيء يرجع إلى أهل الصفة فيما يعدونه عيبا فهو عيب، وإن لم يوجب نقصانا في العين ولا في منافعها.

[العيب في الصغير]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والإباق والبول في الفراش والسرقة في الصغير عيب ما لم يبلغ) ش: هذه الأشياء الثلاثة عيب في الصغير الذي لم يبلغ، فإن أبق الصغير الذي يعقل من مولاه ما دون السفر من المصر إلى القرية أو بالعكس فهو عيب؛ لأنه يفوت المنافع على المولى، وإذا بال في الفراش وهو مميز يأكل وحده، ويشرب وحده فكذلك عيب، وإن سرق درهما من مولاه أو من غيره فكذلك لإخلاله بالمقصود؛ لأنه لا يأمنه على ماله، ويشق عليه حفظ ماله على الدوام، ولا فرق بين سرقته من مولاه وغيره إلا في المأكولات للأكل، فإن سرقها من مولاه فليس بعيب، فإذا وجدت هذه الأشياء من الصغير عند البائع والمشتري في صغره فهو عيب يرد به.
م: (فإذا بلغ فليس ذلك بعيب حتى يعاوده بعد البلوغ) ش: أي حتى يعاوده عند البائع بعد البلوغ ثم عاوده عند المشتري، حاصله: إذا وجد من الصغير أحد هذه الأشياء في صغره، ثم بيع فبلغ في يد المشتري، ثم وجد هذه الأشياء في يده لا يعتبر بذلك عيبا لاختلاف الحالة إلا إذا عاوده بعد البلوغ في يد البائع، ثم باعه فوجد ذلك في يد المشتري يكون ذلك عيبا لاتحاد الحالة. وقد نص في " الكافي " و" المحيط " و" شرح الطحاوي ": على اشتراط المعاودة عند البائع، وفي " الكفاية " و" شرح قاضي خان ": المعاودة في يد البائع ليست بشرط للرد فإن هذه الأفعال في عادة الصبيان فإن امتنع عنها بالبلوغ لم يكن ما سبق عيبا، ولا يرد به، فإن عاوده تبين أنه كان يفعله طبعا لا عادة، وذلك عيب فيرد به.

(8/102)


ومعناه إذا ظهرت عند البائع في صغره، ثم حدثت عند المشتري في صغره فله أن يرده؛ لأنه عين ذلك، وإن حدثت بعد بلوغه لم يرده؛ لأنه غيره، وهذا؛ لأن سبب هذه الأشياء يختلف بالصغر والكبر، فالبول في الفراش في الصغر لضعف المثانة وبعد الكبر لداء في الباطن، والإباق في الصغر لحب اللعب، والسرقة لقلة المبالاة، وهما بعد الكبر لخبث في الباطن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد أوضح المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - المذكور بقوله م: (ومعناه) ش: أي ومعنى ما قاله القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله: فإذا بلغ إلى آخره م: (إذا ظهرت) ش: أي الأشياء المذكورة م: (عند البائع في صغره ثم حدثت عند المشتري في صغره فله أن يرده؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الذي حدث من هذه الأشياء م: (عين ذلك) ش: أي عين ذلك الذي حدث عند البائع.
م: (وإن حدثت بعد بلوغه) ش: يعني عند المشتري م: (لم يرده؛ لأنه غيره) ش: أي غير الذي حدث عند البائع م: (وهذا) ش: إشارة إلى إيضاح بيان الفرق بين الحالتين المذكورتين م: (لأن سبب هذه الأشياء) ش: أي الإباق والبول في الفراش والسرقة م: (يختلف بالصغر والكبر، فالبول في الفراش في الصغر لضعف المثانة، وبعد الكبر لداء في الباطن، والإباق في الصغر لحب اللعب، والسرقة لقلة المبالاة وهما) ش: أي الإباق والسرقة م: (بعد الكبر لخبث في الباطن) ش: وفي المبسوط الإباق في الصغر سببه سوء الأدب، وحب اللعب، وبعد البلوغ سببه التمرد وقله المبالاة بالمولى، والسرقة قبل البلوغ لقلة التأمل في عواقب الأمور وبعد البلوغ سببها التمرد.
ولهذا يجب على البالغ ما لا يجب على الصبي، وفي " الإيضاح " السرقة والبول في الفراش قبل أن يأكل وحده ويشرب وحده ليس بعيب؛ لأنه لا يعقل ما يفعل وبعد ذلك عيب ما دام صغيرا، وكذا الإباق.
وفي " الذخيرة " إن كانت السرقة أقل من عشرة دراهم عيب؛ لأن الإنسان لا يأمن السارق على مال نفسه. وفي ذلك العشرة وما دونها سواء، وقيل: ما دون الدراهم وهو فلس أو فلسان ليس بعيب وإباق ما دون السفر عيب عند المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كإباق مدة السفر، لكن تكلموا هل يشترط الخروج من المدينة، فقيل: شرط حتى لو أبق من محلة إلى محلة لا يكون عيبا ومن القرية إلى المصر إباق ... وكذا على العكس، والبول في الفراش إنما يكون عيبا إذا كان صغيرا ابن خمس سنين.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأظهر في البول اعتبار الاعتبار إذا كان في غير أوانه، وأما في الصغير فلا، وقدره في " التهذيب " بما دون سبع سنين كذا في " شرح الوجيز "، وهو ظاهر قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندنا الكل عيب عند اتحاد الحالتين في المعاودة سواء

(8/103)


والمراد من الصغير من يعقل، فأما الذي لا يعقل فهو ضال لا آبق فلا يتحقق عيبا. قال: والجنون في الصغر عيب أبدا ومعناه إذا جن في الصغر في يد البائع، ثم عاوده في يد المشتري فيه أو في الكبر يرده؛ لأنه عين الأول؛ إذ السبب في الحالين متحد وهو فساد الباطن، وليس معناه أنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري؛ لأن الله تعالى قادر على إزالته، وإن كان قلما ما يزول فلا بد من المعاودة للرد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان ذلك قبل البلوغ أو بعده.
م: (والمراد من الصغير من يعقل) ش: أي المراد من قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الصغير عيب الصغير الذي يعقل، وقال في " التحفة " الصغير: الذي لا يعقل وحده ليس فيه عيب من الأشياء المذكورة، ويفهم منه الذي يعقل هو الذي يأكل وحده.
م: (فأما الذي) ش: أي وأما الصغير الذي م: (لا يعقل فهو ضال لا آبق فلا يتحقق عيبا) ش: يعني لا يترتب عليه حكم الآبق؛ لأنه ضال أي تائه م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (والجنون في الصغر عيب أبدا) ش: كذا قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومعناه) ش: أي معنى ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا جن في الصغر في يد البائع، ثم عاوده في يد المشتري فيه) ش: أي في الصغر م: (أو في الكبر) ش: أي أو عاوده في الكبر م: (يرده؛ لأنه عين الأول) ش: الذي وجد عند البائع.
م: (إذ السبب في الحالين متحد) ش: أي في الحال الذي كان عند المشتري وليس مراده محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن عين الجنون لا تزول بل أراد سببه وهو الفساد المتمكن فيكون عيبا أبدا، ففي أي وقت ظهر فهو بذلك السبب فلم يكن عيبا حادثا، وفي المحيط تكلموا في مقدار الجنون قيل ساعة عيب، وقيل: أكثر من يوم وليلة، وقيل: المطبق دون غيره.
وقال الإسبيجابي في ظاهر الجواب: إنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري، وقيل: تشترط بلا خلاف بين المشايخ في عامة الروايات م: (وهو فساد الباطن) ش: في فحل العقل بل معدن العقل، قيل: القلب وشعاعه إلى الدماغ، والجنون انقطاع ذلك الشعاع من الدماغ، والذي قاله المحققون - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - العقل جوهر مضيء خلقه الله تعالى في هذه الدماغ، وجعل نوره في القلب يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة م: (وليس معناه أنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري؛ لأن الله تعالى قادر على إزالته) ش: ولم يكن من ضرورة وجوده يوما بعاريته أبدا م: (وإن كان قلما يزول، فلا بد من المعاودة للرد) ش: أي لأجل الرد، وقد ذكر آنفا ما قاله المشايخ من الاختلاف فيه، ومال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى قول من يشترط المعاودة كما صرح به.
فإن قلت: قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل الجنون

(8/104)


قال: والبخر والدفر عيب في الجارية؛ لأن المقصود قد يكون الاستفراش وهما يخلان به، وليس بعيب في الغلام؛ لأن المقصود هو الاستخدام، ولا يخلان به إلا أن يكون من داء؛ لأن الداء عيب:

قال: والزنا وولد الزنا عيب في الجارية دون الغلام؛ لأنه يخل بالمقصود في الجارية وهو الاستفراش وطلب الولد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عيب إذا جن مرة واحدة فهو عيب لازم أبدا يدل أيضا على أنه لم يشترط فيه المعاودة في يد المشتري فكيف يقول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس معناه إلى آخره.
قلت: لا يلزم من عدم ذكره اشتراط المعاودة في هذا الموضع أنه لا يشترطها أصلا، فإنه قال: وإن طعن المشتري بإباق أو جنون ولا يعلم القاضي ذلك فإنه لا يستحلف البائع حتى يشهد شاهدان أنه قد أبق عند المشتري، أو جن عنده، وقد اشترط المعاودة في الجنون كما ترى في اشتراطه في الإباق.

[العيوب في الجارية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره " م: (والبخر) ش: بفتحتين رائحة متغيرة من الفم وكل رائحة ساطعة فهو بخر مأخوذ من بخار القدر أو بخار الدخان وهذا البخور الذي يبخر به من ذلك، كذا في " الجمهرة " م: (والدفر) ش: بالدال المهملة وفتح الفاء نتن ريح الإبط، وفي " الجمهرة ": الدفر النتن، يقال رجل أدفر وامرأة دفراء، ويقال للمرأة يا دافر معدول، وقد سمعت دفر الشيء ودفره بسكون الفاء وفتحها.
وأما الذفر بالذال المعجمة فهو حدة من طيب أو نتن وربما خص به الطيب فقيل مسك أذفر، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السماع هاهنا بالدال غير المعجمة، وفي " شرح الوجيز " المراد من البخر الذي عيب هو الناشئ عن تغير المدة دون ما يكون بفلج في الأسنان، فإن ذلك يزول بتنظيف م: (عيب في الجارية؛ لأن المقصود قد يكون الاستفراش، وهما) ش: أي البخر والدفر م: (يخلان به) ش: أي بالاستفراش م: (وليس بعيب في الغلام) ش: أي وليس كل واحد من الدفر والبخر بعيب في الغلام م: (لأن المقصود هو الاستخدام ولا يخلان به) ش: أي لا يخل البخر والدفر بالاستخدام. وفي " الغاية " وقيل إذا كان العبد أمرد يكون البخر فيه عيبا، والأصح أن الأمرد وغيره سواء، كذا في " خلاصة الفتاوى ".
م: (إلا أن يكون) ش: كل واحد من البخر والدفر م: (من داء؛ لأن الداء عيب) ش: في نفسه، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - البخر والدفر عيبان في الغلام أيضا.

م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والزنا وولد الزنا عيب في الجارية دون الغلام؛ لأنه يخل بالمقصود في الجارية وهو الاستفراش وطلب الولد) ش: يعني كون الجارية ولد

(8/105)


ولا يخل بالمقصود في الغلام وهو الاستخدام إلا أن يكون الزنا عادة له على ما قالوا؛ لأن اتباعهن يخل بالخدمة.
قال: والكفر عيب فيهما؛ لأن طبع المسلم ينفر عن صحبته، ولأنه يمتنع صرفه في بعض الكفارات فتختل الرغبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزنا يخل بمقصود المولى وهو الاستيلاد، فإن ولده يعير بأمه إذا كانت والد الزنا م: (ولا يخل بالمقصود في الغلام وهو الاستخدام) ش:.
م: (إلا أن يكون الزنا عادة له) ش: أي للغلام بأن زنى أكثر من مرتين م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ م: (لأن اتباعهن) ش: من إضافة المصدر إلى المفعول أي؛ لأن اتباع الغلام البنات م: (يخل بالخدمة) ش: أي بخدمة مولاه، وفيه إضمار قبل الذكر، ولكن القرينة وهي ذكر الزنا أدل على النساء؛ لأن الزنا لا يكون إلا بهن.
فإن قلت: إذا وجده سارقا فله الرد لعدم أمانته على ماله، ففي الزنا لم يكن عيبا لعدم أمانته على الجواري والخدم.
قلت: إذا كن مستورات يمكنهن حفظ أنفسهن، وإذا شغله المولى بالعمل وبما لا يتفرغ لذلك الأمر، وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الزنا ليس بعيب في الغلام في معنى المال، وإن كان عيبا في معنى الدين.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ": لو اشترى عبدا فوجده زانيا لا يكون عيبا؛ لأن فيه زيادة قوة وزيادة القوة لا تكون عيبا، ألا ترى أنه لو اشترى عبدا فوجده عنينا فله أن يرده.
وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشترى عبدا على أنه خصي فإذا هو فحل لزمه ذلك، أما إذا اشتراه على أنه فحل فإذا هو خصي لم يلزمه، وفي " العيون " قال هشام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سمعت أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لو أن رجلا اشترى عبدا قد احتلم أو جارية حاضت ولم يختتن العبد، ولم تخفض الجارية قال: إن كان مولدا فهو عيب وإن كان جلبا فليس بعيب.

م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (والكفر عيب فيهما) ش: أي في الغلام والجارية م: (لأن طبع المسلم ينفر عن صحبته) ش: أي عن صحبة الكافر؛ لأن المسلم قلما يرغب في صحبة الكافر وينفر عنه؛ فكان الكفر سببا لنقصان الثمن لفتور الرغبة، وسواء كان الكافر نصرانيا أو يهوديا أو مجوسيا م: (ولأنه) ش: دليل آخر، أي ولأن الكافر م: (يمتنع صرفه في بعض الكفارات) ش: مثل كفارة اليمين والظهار عند بعض الناس وفي كفارة القتل يمنع بالإجماع فإذا كان كذلك م: (فتختل الرغبة) ش: وهي سبب لنقصان الثمن.

(8/106)


فلو اشتراه على أنه كافر فوجده مسلما لا يرده؛ لأنه زوال العيب، وعند الشافعي يرده؛ لأن الكافر يستعمل فيما لا يستعمل فيه المسلم وفوات الشرط بمنزلة العيب.
قال: فلو كانت الجارية بالغة لا تحيض أو هي مستحاضة فهو عيب؛ لأن ارتفاع الدم واستمراره علامة الداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو أطلق العقد فبان أنه كافر لا خيار له؛ لأن ظاهر الحال لا يدل على الكفر أو الإسلام، كما لو ظن العدل فبان الفسق، وقال أصحابه: هذا إذا كان كفرا يقر عليه، فإذا كانت الجارية مرتدة فله الخيار.
وفي " شرح الوجيز " لو وجد الجارية كتابية أو وجد العبد كافرا أي كفر كان فلا رد إن كان قريبا من بلاد الكفر بحيث لا تقل فيه الرغبات، وإن كان في بلاد الإسلام حيث تقل الرغبات وتنقص قيمته فله الرد.
م: (فلو اشتراه على أنه كافر فوجده مسلما لا يرده؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الإسلام م: (زوال العيب، وعند الشافعي يرده؛ لأن الكافر يستعمل فيما لا يستعمل فيه المسلم وفوات الشرط بمنزلة العيب) ش: وفي نسخة شيخنا؛ لأنه زوال العيب فصار كما لو اشتراه معيبا فإذا هو سليم فلا يرده، وبه قال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت له الخيار؛ لأنه وجده بخلاف شرطه، وله في هذا الشرط غرض فربما قصد أن يستخدمه في المحقرات من الأمور، ولأن الأولى بالمسلم أن يتبعه الكافر. وكان السلف يستعبدون العلوج.
والجواب أن هذا أمر راجع إلى الديانة ولا عبرة به في المعاملات.

م: (قال: فلو كانت الجارية بالغة لا تحيض أو هي مستحاضة فهو عيب) ش: قيد بقوله: بالغة؛ لأن عدم الحيض في الصغيرة ليس بعيب بالإجماع، ولو كانت كبيرة قد بلغت سن الإياس فهو غير عيب بإجماع الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أيضا.
م: (لأن ارتفاع الدم واستمراره علامة الداء) ش: قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الحيض مركب في بنات آدم فإذا لم تحض في أوانه فالظاهر أنه إنما لا تحيض لداء فيها والداء عيب، ولو ادعى المشتري الانقطاع في يده لا تسمع منه الخصومة ما لم يدع ارتفاع الحيض بسبب الداء أو الحبل، فإن ادعى لسبب الحبل تراها النساء، فإن قلن: هي حبلى يحلف البائع أن ذلك لم يكن عنده، وإن قلن: ليست بحبلى لا يمين على البائع، وإن ادعى المشتري ارتفاع الحيض بسبب الداء نريها لاثنين من الأطباء المسلمين، فإن ثبت العيب يحلف البائع كما تقدم، وإن لم يثبت لا يحلف.
والمرجع في معرفة الحبل قول النساء، وفي معرفة الداء قول الأطباء، وفي " فتاوى الفضلي ": العيب الذي لا يثبت إلا بقول الأطباء ما لم يتفق عدلان منهم لا يثبت العيب في حق سماع

(8/107)


ويعتبر في الارتفاع أقصى غاية البلوغ وهو سبع عشرة سنة فيها، عند أبي حنيفة ويعرف ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخصومة.
وقال الشيخ أبو المعين النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الكبير ": وإن كان العيب خفيا لا يطلع عليه إلا الأطباء يثبت بقول واحد عدل منهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] (النحل: الآية 43) ، وهم أهل الذكر في هذا الباب، وكذا إذا كان لا يطلع عليه إلا النساء يثبت بقول واحدة منهن موصوفة بالعدالة، والثنتان أحوط، وقال صاحب " التحفة ": إذا كان العيب باطنا لا يعرفه إلا الخواص من الناس، كالأطباء والنخاسين فإنه يعرف ذلك ممن له بصارة في ذلك الباب.
فإن اجتمع على ذلك العيب رجلان مسلمان أو قال ذلك رجل مسلم عدل فإنه يقبل قوله، ويثبت العيب في حق إثبات الخصومة، ثم بعد هذا يقول القاضي للبائع: هل حدث عندك هذا العيب فإن قال: نعم، قضى عليه بالرد، وإن لم يكن عليه بينة استحلف البائع فإن حلف لم يرد عليه، وإن نكل قضي عليه بالرد إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء، وإن كان العيب مما لا يطلع عليه الرجال ويطلع عليه النساء فإنه يرجع إلى قول النساء، فترى امرأة مسلمة عدل والثنتان أحوط، فإذا شهدت على العيب ففي هذه المسألة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، وكذا عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، في رواية فرق أبو يوسف بينهما إذا كان المبيع في يد البائع أو في يد المشتري.
فقال: إن كان في يد البائع رد المبيع بشهادتها فيثبت العيب لقولها، والعيب الموجود عند البائع يفسخ به البيع، وإن كان بعد القبض أقبل قولها في إثبات الخصومة، ولا أقبل في حق الرد على البائع؛ لأن المبيع دخل في ضمان المشتري فلا أنقل الضمان إلى البائع بقول النساء، ولكن أثبت حق الخصومة ليثبت الاستحلاف
وفي رواية قال: إن كان العيب مما لا يحدثه مثله يفسخ بقولها؛ لأن العيب قد يثبت بشهادتهن، وقد علمنا كون العيب عند البائع يتعين فيثبت حق الفسخ، وإن كان عيبا يحدث مثله لم يثبت حق الفسخ بقولهن، وأما عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية قال: لا يفسخ بقولهن وفي رواية يفسخ قبل القبض وبعده بقولهن؛ لأن قولها فيما لا يطلع عليه الرجال كالبينة.
م: (ويعتبر في الارتفاع) ش: أي ارتفاع الحيض م: (أقصى غاية البلوغ وهو سبع عشرة سنة فيها) ش: أي في الجارية م: (عند أبي حنيفة) ش: وعندهما خمس عشرة سنة م: (ويعرف ذلك)

(8/108)


بقول الأمة، فترد إذا انضم إليه نكول البائع قبل القبض وبعده، هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي ارتفاع الحيض م: (بقول الأمة) ش: قال الإمام العتابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما يعرف ذلك عند المنازعة بقول الأمة؛ لأنه لا يقف على ذلك غيرها ويحلف المولى مع ذلك؛ لأنه ما سلمها بحكم المبيع وما بها هذا العيب.
وإن نكل يرد من كونه، هذا إذا كان بعد القبض، وإن كان قبل القبض يحلفه بالله ما بها هذا العيب الذي يدعيه المشتري في الحال، وهذا على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-: في مسألة البكارة إذا اشترى جارية على أنها بكر، فقال المشتري: ليست ببكر وقال البائع: هي بكر في الحال، فإن القاضي يري النساء، فإن قلن: هي بكر لزم المشتري من غير يمين البائع؛ لأن شهادتهن تأيدت بمؤيد، وهو أن الأصل هو البكارة، وإن قلن: هي ثيب لم يثبت حق الفسخ للمشتري بشهادتهن؛ لأن شهادتهن ضعيفة، وحق الفسخ حق قوي، وبشهادتهن يثبت للمشتري حق الخصومة في توجيه النهي على البائع فيحلف البائع بالله لقد سلمها بحكم المبيع وهي بكر إن كان بعد القبض.
وإن كان قبل القبض يحلف بالله أنها بكر. روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها ترد على البائع بشهادتهن من غير يمين البائع.
م: (فترد) ش: أي الأمة م: (إذا انضم إليه) ش: أي إلى قولها م: (نكول البائع) ش: أي امتناع البائع عن اليمين مع قولها بأنها لا تحيض أو هي مستحاضة م: (قبل القبض وبعده، هو الصحيح) ش: قيد بقوله -الصحيح- احترازا عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده يرد بقول الأمة قبل القبض وبشهادة القائلة، وعما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: إن كانت الخصومة قبل القبض يفسخ العقد بقول النساء. اعلم أن المشتري إذا ادعى انقطاع الحيض فالقاضي يسأله عن مدة الانقطاع فإن ادعاه في مدة قصيرة لا تسمع دعواه وإن ادعاه في مدة مديدة يسمع دعواه.
والمديدة مقدرة بثلاثة أشهر عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأربعة أشهر، وعند أبي حنيفة وزفر بسنتين، فإذا عرفت المدة فما دونها قصيرة ثم بعد ذلك إن كان القاضي مجتهدا يقضي بما أدى إليه اجتهاده، إن لم يكن مجتهدا يأخذ بما اتفق عليه أصحابنا وهو سنتان، وفي " الفوائد الظهيرية ": لو شهد للمشتري شهود لا يقبل شهادتهم على الانقطاع بخلاف الاستحاضة حيث يقبل عليها؛ لأنها مما يمكن الاطلاع عليها وانقطاع الدم على وجه يعد عيبا لا يمكن الاطلاع عليه.
ولو أنكر البائع الانقطاع في الحال هل يستحلف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أم لا؟ وعندهما يستحلف

(8/109)


قال: وإذا حدث عند المشتري عيب واطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان ولا يرد المبيع؛ لأن في الرد إضرارا بالبائع؛ لأنه خرج عن ملكه سالما ويعود معيبا فامتنع، ولا بد من دفع الضرر عنه فتعين الرجوع بالنقصان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه بعيبه؛ لأنه رضي بالضرر.
قال: ومن اشترى ثوبا فقطعه فوجد به عيبا رجع بالعيب؛ لأنه امتنع الرد بالقطع فإنه عيب حادث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[حدث عند المشتري عيب واطلع على عيب كان عند البائع]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا حدث عند المشتري عيب) ش: سواء كان بآفة سماوية أو غيرها م: (واطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان) ش: أي بنقصان العيب بأن يقوم المبيع سليما عن العيب القديم ومعيباته، فما كان بينهما من عشر أو ثمن أو سدس أو غير ذلك يرجع به على البائع م: (ولا يرد المبيع؛ لأن في الرد إضرارا بالبائع؛ لأنه خرج عن ملكه سالما ويعود معيبا فامتنع) ش: أي الرد م: (ولا بد من دفع الضرر عنه) ش: أي عن المشتري م: (فتعين الرجوع بالنقصان) ش: لأن المشتري لم يرض بالمعقود عليه إلا سليما، فلو لم يكن له حق الرجوع لتضرر حقه بإيجاب نقصان العيب، وبقولنا: قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في رواية، وقال مالك وأحمد -رحمهما الله- في رواية، وابن أبي ليلى: رد البيع ورد معه نقصان العيب الحادث.
فإن قيل: أين قولكم الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن؟
أجيب: بأنها إذا صارت مقصودة بالتناول حقيقة أو حكما كان لها حصة من الثمن وهاهنا كذلك م: (إلا أن يرضى البائع أن يأخذه بعيبه؛ لأنه رضي بالضرر) ش: والرضا إسقاط لحقه بخلاف ما إذا كان المبيع عصيرا فتخمر في يدي المشتري، ثم اطلع على عيب في العصير فلا يرد للبائع حيث لا يكون للبائع أخذ الخمر، ويرد الثمن وإن وجد منه الرضا بالاختلاف يمنع؛ لأن الامتناع ثمة حق الشرع لما فيه من تمليك الخمر، وتملكها فلا يرتفع بتراضي المتعاقدين، كما لو تراضيا على الخمر ولكن يأخذ المشتري نقصان العصير ما يقوم الشراء بلا عيب ويقوم مع العيب وينظر إلى التفاوت، فإن كان التفاوت مقدار عشر القيمة يرجع بعشر الثمن، وإن كان أقل أو أكثر فبقدره.

م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى ثوبا فقطعه فوجد به عيبا رجع بالعيب) ش: وبه قال الشافعي وأحمد -رحمهما الله- في رواية خلافا لمالك وأحمد -رحمهما الله- في رواية، وابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عندهم يرد المبيع ويرد معه نقصان العيب الحارث.
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الثياب م: (امتنع الرد بالقطع فإنه) ش: أي فإن القطع م: (عيب حادث) ش: لا يقال: البائع يتضرر برده معيبا والمشتري لعدم رده فكان الواجب ترجيح جانب المشتري

(8/110)


فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك كان له ذلك؛ لأن الامتناع لحقه وقد رضي به، فإن باعه المشتري لم يرجع بشيء؛ لأن الرد غير ممتنع برضا البائع فيصير هو بالبيع حابسا للمبيع فلا يرجع بالنقصان، فإن قطع الثوب وخاطه أو صبغه أحمر، أو لت السويق بسمن، ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه؛ لامتناع الرد بسبب الزيادة؛ لأنه لا وجه إلى الفسخ في الأصل بدونها؛ لأنها لا تنفك عنه ولا وجه إليه معها؛ لأن الزيادة ليست بمبيعة، فامتنع أصلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في دفع ضرره؛ لأن البائع غره بتدليس العيب؛ لأنا نقول: المعصية لا تمنع عصمة المال كالغاصب إذا صنع الثوب فكان في شرع الرجوع بالعيب نظر إليهما.
وفي إلزام الرد بالعيب الحادث إضرار للبائع لا لفعل باشره، وفي عدم الرد، وإن كان إضرارا للمشتري، لكن لعجزه لما باشره فاعتبر ما هو الأنظر لهما.
م: (فإن قال البائع أنا أقبله كذلك كان له ذلك؛ لأن الامتناع) ش: أي امتناع الرد كان م: (لحقه) ش: أي لحق البائع م: (وقد رضي به) ش: أي بالثوب المعيب فكان إسقاطا لحقه، فإن قيل: ما الفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا اشترى بعيرا فنحره، فلما شق بطنه وجد أمعاءه فاسدة فإنه لا يرجع فيه بنقصان العيب عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟
أجيب بأن النحر إفساد للمالية لصيرورة البعير به عرضة للنتن والفساد، ولهذا لا يقطع يد السارق بسرقته فيختل معنى قيام البيع.
م: (فإن باعه المشتري) ش: يعني بعد القطع م: (لم يرجع بشيء) ش: علم به أو لا، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأصح م: (لأن الرد غير ممتنع برضا البائع) ش: لأنه جاز أن يقول البائع: كنت أقبله كذلك فلم يكن الرد ممتنعا برضا البائع م: (فيصير هو) ش: أي المشتري م: (بالبيع حابسا للمبيع فلا يرجع بالنقصان) ش: إذ ذاك لإمكان رد البيع وأخذ الثمن لولا البيع م: (فإن قطع الثوب) ش: الذي اشتراه م: (وخاطه أو صبغه أحمر) ش: قيد بالأحمر لتكون الزيادة في المبيع بالاتفاق؛ لأن السواد، نقصان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما زيادة كالحمرة م: (أو لت السويق بسمن، ثم اطلع على عيب، رجع بنقصانه لامتناع الرد بسبب الزيادة؛ لأنه لا وجه إلى الفسخ في الأصل) ش: أي الثوب أو السويق م: (بدونها) ش: أي بدون الزيادة م: (لأنها لا تنفك عنه) ش: أي؛ لأن الزيادة لا تنفك عن الأصل.
م: (ولا وجه إليه) ش: أي إلى الفسخ م: (معها) ش: أي مع الزيادة م: (لأن الزيادة ليست بمبيعة فامتنع أصلا) ش: أي فامتنع الرد بالكلية، وفي " الفوائد الظهيرية " و" المبسوط " الأصل في جنس هذه المسائل أن في كل موضع يكون البيع قائما على ملك المشتري فعليه الرد برضا البائع، فإذا أخرجه عن ملكه لا يرجع بالنقصان وفي كل موضع يكون المبيع قائما ولا يمكنه الرد، وإن رضي به البائع فإذا أخرجه عن ملكه يرجع بالنقصان لامتناع الرد بالزيادة.

(8/111)


وليس للبائع أن يأخذه؛ لأن الامتناع لحق الشرع لا لحقه، فإن باعه المشتري بعد ما رأى العيب رجع بالنقصان؛ لأن الرد ممتنع أصلا قبله، فلا يكون بالبيع حابسا للمبيع، وعن هذا قلنا: إن من اشترى ثوبا فقطعه لباسا لولده الصغير وخاطه، ثم اطلع على عيب لا يرجع بالنقصان، ولو كان الولد كبيرا يرجع؛ لأن التمليك حصل في الأول قبل الخياطة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: يشكل بالزيادة المتصلة المتولدة في البيع كالسمن والجمال فإنها لا تمنع الرد بالعيب في ظاهر الرواية، قلنا: ثم فسخ العقد في الزيادة متمكن؛ لأن الزيادة تبع محض باعتبار التولد والتفرع منه والاتصال به.
وحاصله أن الزيادة نوعان: متصلة ومنفصلة، والمتصلة نوعان: متولدة منه كما ذكرنا وهي لا تمنع الرد، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومتصلة غير متولدة منه: كالصنع والخياطة واللت والغرس والبناء وهي تمنع الرد بالاتفاق، وعند الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا تمنع كالسمن والجمال.
والمنفصلة نوعان: متولدة منه كاللبن والتمر والأرش والولد والعقر وهي تمنع الرد لتعذر الفسخ عليها؛ لأن العقد لم يرد عليها ولا وجه للفسخ عليها لانقطاع التبعية بالانفصال، ويكون هو بالخيار إن شاء ردهما جميعا، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن قبل القبض وبعده، ورد المبيع خاصة بحصته من الثمن، يقسم الثمن على قيمته يوم العقد وعلى قيمة الزيادة وقت القبض. وغير متولدة منه: كالكسب وهي لا تمنع الرد بل يفسخ العقد في الأصل دون الزيادة، وتسليم الزيادة للمشتري مجانا، وبه قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكذا قالا في المتولدة المنفصلة؛ لإمكان الفسخ على الأصل بدونها والزيادة للمشتري. وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إن كانت الزيادة ولدا رده مع الأصل، وإن كان ثمرة أمسكها ورد الأصل، ولو هلكت الزيادة بآفة سماوية يثبت له الرد كأنها لم تكن، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل الحكم بالأرش.
م: (وليس للبائع أن يأخذه) ش: أي المبيع مع الزيادة م: (لأن الامتناع لحق الشرع) ش: أي امتناع الرد لحق الشرع بشبهة الربا م: (لا لحقه) ش: أي لا لحق البائع م: (فإن باعه المشتري) ش: أي الثوب المصبوغ أو المخيط م: (بعد ما رأى العيب رجع بالنقصان؛ لأن الرد ممتنع أصلا قبله) ش: أي قبل بيع المشتري للزيادة الحادثة فيه بفعل المشتري.
م: (فلا يكون) ش: أي المشتري م: (بالبيع حابسا للمبيع) ش: فيرجع بالنقصان م: (وعن هذا قلنا) ش: أي عن الوجه الذي قلنا وفي بعض النسخ وعلى هذا قلنا، وهو أن المشتري إذا كان حابسا للمبيع لا يرجع بنقصان العيب م: (إن من اشترى ثوبا فقطعه لباسا لولده الصغير وخاطه، ثم اطلع على عيب لا يرجع بالنقصان، ولو كان الولد كبيرا يرجع) ش: بالنقصان م: (لأن التمليك حصل في الأول قبل الخياطة) ش: لأنه بالقطع للصغير صار واهبا للثوب له مسلما إليه، وصار الأب

(8/112)


وفي الثاني بعدها بالتسليم إليه.
قال: ومن اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه، أما الموت فلأن الملك ينتهي به والامتناع حكمي لا بفعله، وأما الإعتاق فالقياس فيه أن لا يرجع؛ لأن الامتناع بفعله فصار كالقتل. وفي الاستحسان يرجع؛ لأن العتق إنهاء الملك؛ لأن الآدمي ما خلق في الأصل محلا للملك، وإنما يثبت الملك فيه مؤقتا إلى الإعتاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قابضا عنه، وحق الرد الذي هو الحق الأصلي صار باطلا بالقطع فبطل البدل وهو الرجوع بالنقصان؛ لأنه صار حابسا للمبيع.
م: (وفي الثاني) ش: وهو صورة كون الولد كبيرا م: (بعدها) ش: أي بعد الخياطة م: (بالتسليم إليه) ش: أي إلى ولده الكبير فيكون له الرجوع بالنقصان؛ لأنه بمجرد القطع لا يكون مسلما إليه؛ لأن الأب لا يصير قابضا عن ولده الكبير فلما خاطه خاطه على ملك نفسه فامتنع الرد بالخياطة رد الشرع لا بالهبة والتسليم فصار وجوه الهبة والتسليم وعدمها سواء فيرجع بالنقصان؛ لأنه لم يكن حابسا للمبيع.
قال شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكر الخياطة وعدم ذكرها في هذا الموضع سواء؛ لأن حق الرد المتبع بوجود القطع قبل الخياطة.

[اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب]
م: (قال: ومن اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه) ش: هذه مسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - و" الجامع الصغير " أيضا م: (أما الموت فلأن الملك ينتهي به والامتناع حكمي) ش: أي امتناع الرد يثبت حكما للموت م: (لا بفعله) ش: أي لا بفعل المشتري كالبيع والقتل م: (وأما الإعتاق فالقياس فيه أن لا يرجع؛ لأن الامتناع بفعله) ش: أي امتناع الرد بفعل المشتري م: (فصار كالقتل) ش: فإن المشتري إذا قتل العبد الذي اشتراه ثم اطلع فيه على عيب فإنه لا يرجع، وبالقياس قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الكافي " وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولكن ذكر في كتبهم أنه يرجع وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما قلنا في الاستحسان، فإن قيل يشكل على هذا إذا صبغه أحمر حيث يرجع بالنقصان، ولا شك أن الصبغ بفعله: أجيب: نعم ذلك بفعله لكن امتناع الرد بسبب وجود الزيادة في البيع بسبب ذلك الفعل فكان الامتناع لحق الشرع، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورد بأنه حينئذ يجب أن يقول الامتناع حكمي لا بفعله الذي يوجب الزيادة، والحق أن يقال في الجواب عدم الرد في الصنع بما حصل من فعله من وجود الزيادة لا بفعله.
م: (وفي الاستحسان يرجع؛ لأن العتق إنهاء الملك) ش: أي إتمامه م: (لأن الآدمي ما خلق في الأصل محلا للملك، وإنما يثبت الملك منه مؤقتا إلى الإعتاق) ش: أي إلى وقت الإعتاق، والمؤقت

(8/113)


فكان إنهاء فصار كالموت، وهذا؛ لأن الشيء يتقرر بانتهائه فيجعل كأن الملك باق والرد متعذر، والتدبير والاستيلاد بمنزلته؛ لأن تعذر النقل مع بقاء المحل بالأمر الحكمي. وإن أعتقه على مال لم يرجع بشيء؛ لأنه حبس بدله وحبس البدل كحبس المبدل، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يرجع؛ لأنه إنهاء للملك، وإن كان بعوض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى وقت ينتهي بانتائهه م: (فكان) ش: أي الإعتاق م: (إنهاء فصار) ش: أي انتهاؤه م: (كالموت) ش: أي كانتهائه بالموت.
م: (وهذا) ش: أي جواز الرجوع بنقصان العيب عند الانتهاء م: (لأن الشيء يتقرر بانتهائه فيجعل كأن الملك باق والرد متعذر) ش: فصار حابسا م: (والتدبير والاستيلاد بمنزلته) ش: أي بمنزلة الإعتاق م: (لأن) ش: أي؛ لأن الشأن م: (تعذر النقل) ش: أي إلى ملك البائع م: (مع بقاء المحل) ش: احتراز عن الموت والإعتاق م: (بالأمر الحكمي) ش: يعني لا بفعل المشتري.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله بالأمر الحكمي احتراز عن القتل، فإن قيل كيف يكون التدبير والاستيلاد كالإعتاق وهو منه دونهما؟
أجيب: أن الإنهاء يحتاج إليه لتقرير الملك يجعل ما لم يكن كائنا وهاهنا الملك متقرر فلا حاجة إليه.
م: (وإن أعتقه على مال) ش: أي فإن أعتق العبد الذي اشتراه على مال ثم وجد به عيبا م: (لم يرجع بشيء؛ لأنه) ش: أي المشتري م: (حبس بدله) ش: أي بدل المبيع وأزال ملكه عنه بعوض م: (وحبس البدل كحبس المبدل) ش: فصار كالمبيع. وفي المبيع لا يرجع فكذا هاهنا م: (وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يرجع) ش: وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وفي " شرح الأترازي " بخطه، ونقل الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه " للجامع الصغير " عن الأمالي قال: إذا اشترى عبدا فأعتقه على مال أو كاتبه أو قتله ثم وجد به عيبا لا يرجع بشيء في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرجع بنقصان العيب وهذا موضع تأمل.
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الإعتاق م: (إنهاء للملك، وإن كان بعوض) ش: يعين منه للملك سواء كان بعوض أو غير عوض. ولهذا ثبتت الولاية في الوجهين. ولو أبق ثم علم بالعيب لم يرجع بالنقصان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما دام حيا وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرجع.

(8/114)


قال: فإن قتل المشتري العبد، أو كان طعاما فأكله لم يرجع بشيء، عند أبي حنيفة. أما القتل فالمذكور ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرجع؛ لأن قتل المولى عبده لا يتعلق به حكم دنياوي، فصار كالموت حتف أنفه، فيكون إنهاء. ووجه الظاهر أن القتل لا يوجد إلا مضمونا، وإنما يسقط الضمان هاهنا باعتبار الملك فيصير كالمستفيد به عوضا، بخلاف الإعتاق؛ لأنه لا يوجب الضمان لا محالة، كإعتاق المعسر عبدا مشتركا، وأما الأكل فعلى الخلاف، عندهما يرجع، وعنده لا يرجع استحسانا، وعلى هذا الخلاف إذا لبس الثوب حتى تخرق لهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وجه لتحقق العجز في الحال.

م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن قتل المشتري العبد أو كان) ش: أي الذي اشتراه كان م: (طعاما فأكله لم يرجع بشيء عند أبي حنيفة، أما القتل فالمذكور) ش: أي في القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرجع) ش: ورأي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه في رواية التتابع، وبه قال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن قتل المولى عبده لا يتعلق به) ش: أي لا يتعلق بقتل م: (حكم دنياوي) ش: من القصاص والدية م: (فصار كالموت حتف أنفه فيكون إنهاء) ش: للملك؛ لأن المقتول ميت بأجله كذا في " المبسوط ".
م: (ووجه الظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أن القتل لا يوجد إلا مضمونا) ش: لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ليس في الإسلام دم مفرح» أي مبطل وهو بالحاء المهملة، وقال ابن الأثير: ويروى بالجيم، ولهذا لو باشره في ملك غيره كان مضمونا.
م: (وإنما يسقط الضمان هاهنا) ش: أي قتل المولى عبده م: (باعتبار الملك فيصير) ش: أي المولى م: (كالمستفيد به) ش: أي ملك العبد م: (عوضا) ش: وهو سلامة نفسه على اعتبار العمد، وسلامة الدية على اعتبار الخطأ فصار كأنه أخذ عوضا بإزالة ملكه بالقتل كما لو باع وأخذ الثمن م: (بخلاف الإعتاق؛ لأنه لا يوجب الضمان لا محالة كإعتاق المعسر عبدا مشتركا) ش: لا ضمان عليه، فعلم أن الإعتاق لا يقتضي الضمان.
م: (وأما الأكل فعلى الخلاف، عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (يرجع) ش: بنقصان العيب م: (وعنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لا يرجع استحسانا) ش: أي من حيث الاستحسان م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور م: إذا لبس الثوب) ش: الذي اشتراه م: حتى تخرق) ش: وتمزق ثم اطلع على عيب عند البائع فعند أبي حنيفة ليس له الرجوع بنقصان العيب خلافا لأبي يوسف ومحمد والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وفي " الخلاصة " و" الفتوى " على قولهما وأجمعوا أنه لو أتلف الطعام أو الثوب بسبب آخر ليس له حق الرجوع كذا في " شرح الطحاوي " م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد -

(8/115)


أنه صنع في المبيع ما يقصد بشرائه ويعتاد فعله فيه فأشبه الإعتاق، وله أنه تعذر الرد بفعل مضمون منه في المبيع فأشبه البيع والقتل، ولا معتبر بكونه مقصودا، ألا ترى أن البيع مما يقصد بالشراء ثم هو يمنع الرجوع، فإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب، فكذا الجواب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الطعام كشيء واحد، فصار كبيع البعض، وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الكل، وعنهما أنه يرد ما بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض. ومن اشترى بيضا أو بطيخا أو قثاء أو خيارا أو جوزا فكسره فوجده فاسدا، فإن لم ينتفع به رجع بالثمن كله؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله- م: (أنه) ش: أي أن المشتري م: (صنع في المبيع ما يقصد بشرائه) ش: وهو الأكل والشرب.
م: (ويعتاد فعله فيه) ش: أي في المبيع، فلا يمنع من الرجوع بنقصان العيب م: (فأشبه الإعتاق) ش: من حيث إنه إنهاء للملك بخلاف الإحراق والاستهلاك.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه تعذر الرد بفعل مضمون منه في المبيع فأشبه البيع والقتل) ش: أي بيع الشيء الذي اشتراه، وقتل العبد الذي اشتراه م: (ولا معتبر بكونه مقصودا) ش: أي بكون الأكل أو اللبس، وهذا جواب عن قولهما إنه صنع في البيع ما يقصد بشرائه تقريره أنه لا يعتبر بكون الأكل أو اللبس مقصودا م: (ألا ترى أن البيع مما يقصد بالشراء) ش: لأنه تصرف مشروع قد يقصد بالشراء م: (ثم هو يمنع الرجوع) ش: أي بالنقصان.
م: (فإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب فكذا الجواب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني لا يرد ما بقي، ولا يرجع بالنقصان م: (لأن الطعام كشيء واحد) ش: ولهذا رؤية بعضه كرؤية كله م: (فصار كبيع البعض) ش: دون البعض م: (وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الكل) ش: أي فيما أكل وفيما لم يأكل فأكل الكل لا يمنع الرجوع بالعيب عندهما فأكل البعض أولى.
م: (وعنهما) ش: أي وعن أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (أنه يرد ما بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض) ش: فهو قادر على الرد في البعض كما قبضه ويرجع بنقصان العيب فيما أكله، وفي " المجتبى ": أكل بعضه يرجع بنقصان عيبه ويرد ما بقي، وبه يفتى.
ولو أطعم ابنه الصغير أو الكبير أو امرأته أو مكاتبه أو عتيقه لا يرجع بشيء، ولو أطعمه عبده أو مدبره أو أم ولده يرجع؛ لأن ملكه باق اشترى دقيقا وخبز بعضه وظهر أنه مر رد ما بقي ورجع بنقصان ما خبز وهو المختار. ولو كان سمنا ذائبا فأكله ثم أقر البائع أنه كان وقعت فيه فأرة رجع بالنقصان عندهما وبه يفتى.
م: (ومن اشترى بيضا أو بطيخا أو قثاء أو خيارا أو جوزا فكسره فوجده فاسدا فإن لم ينتفع به) ش: أي بالمبيع كالقرع إذا وجده مرا أو البيضة إذا وجدها مذرة م: (رجع بالثمن كله) ش: كذا في

(8/116)


لأنه ليس بمال فكان البيع باطلا، ولا يعتبر في الجوز صلاح قشره على ما قيل لأن ماليته باعتبار اللب. وإن كان ينتفع به مع فساده لم يرده؛ لأن الكسر عيب حادث، ولكنه يرجع بنقصان العيب دفعا للضرر بقدر الإمكان، وقال الشافعي: يرده؛ لأن الكسر بتسليطه. قلنا: التسليط على الكسر في ملك المشتري لا في ملكه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" جامع قاضي خان " أيضا.
وفي " المبسوط ": وكذلك الفاكهة إذا وجدها فاسدة بعد الكسر فإن كان لا يساوي شيئا يرجع بكل الثمن؛ لأنه تبين بطلان المبيع م: (لأنه ليس بمال فكان البيع باطلا) ش: لعدم المالية، إذ المال ما ينتفع به في الحال أو في ثاني الحال فإذا كان لا ينتفع به أصلا لا يكون محلا للبيع فبطل البيع وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واختاره المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا إذا كسره ولم يعلم بالعيب، أما لو كسره وهو عالم بالعيب صار راضيا به فبطل حقه من كل وجه.
م: (ولا يعتبر في الجوز صلاح قشره على ما قيل) ش: أشار به إلى الجواب عما قال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذا كان لقشر الجوز قيمة بأن كان في موضع معتبرا الحطب فيه يرجع بحصة اللب ويصح العقد في قشره بحصة من الثمن.
لأن العقد في القشر صادف محله وقال: يرده أولا بقوله ولا يعتبر إلى آخره ثم علله بقوله م: (لأن ماليته) ش: أي؛ لأن مالية الجوز قبل الكسر م: (باعتبار اللب) ش: دون القشر.
م: (وإن كان ينتفع به مع فساده لم يرده؛ لأن الكسر عيب حادث ولكنه يرجع بنقصان العيب دفعا للضرر بقدر الإمكان) ش: من الجانبين م: (وقال الشافعي يرده) ش: أي إذا كسر مقدار ما لا بد منه للعلم بالعيب، وفي كتبهم فيه قولان في قول لا يرده وهو اختيار المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قول الرد، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس له الرد ولا الأرش؛ لأنه ليس من البائع تلبيس فإنه لا يعلم باطنه.
قلنا: إن المشتري إنما بذل الثمن في مقابلة التسليم فلا يمكن أن يلزم جميع الثمن في مقابلة العيب؛ لأنه إضرار به، ولو كان كسر زيادة على مقدار ما لا بد منه، للشافعي طريقان: أظهرهما أنه لا يجوز له الرد قولا واحدا وهو قولنا؛ لأن الكسر عيب.
والثاني أنه على القولين، وعلى قول من يقول له الرد: هل يغرم أرش الكسر؟ فيه قولان أحدهما يغرم، والثاني لا يغرم؛ لأنه معذور إذ البائع سلطه عليه.. كذا في " شرح الوجيز " م: (لأن الكسر بتسليطه) ش: أي بتسليط البائع فصار كأنه فعله ورضي به.
م: (قلنا: التسليط على الكسر في ملك المشتري لا في ملكه) ش: أي في ملك البائع؛ لأنه بالبيع

(8/117)


فصار كما إذا كان ثوبا فقطعه، ولو وجد البعض فاسدا وهو قليل جاز البيع استحسانا؛ لأنه لا يخلو عن قليل فاسد، والقليل ما لا يخلو عنه الجوز عادة كالواحد والاثنين في المائة، وإن كان الفاسد كثيرا لا يجوز ويرجع بكل الثمن؛ لأنه جمع بين المال وغيره فصار كالجمع بين الحر وعبده.
قال: ومن باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه بعيب، فإن قبل بقضاء القاضي بإقرار، أو بينة، أو بإباء يمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يبق ملكه فلم يكن التسليط إلا في ملك المشتري وذلك هدر لعدم ولايته عليه م: (فصار كما إذا كان) ش: المبيع م: (ثوبا فقطعه) ش: ثم وجده معيبا فإنه يرجع بالنقصان بالإجماع، وإن حصل التسليط منه لكونه هدرا، هذا إذا وجد الكل فاسدا م: (ولو وجد البعض فاسدا) ش: والبعض صحيحا م: (وهو قليل) ش: أي الفاسد قليل م: (جاز البيع استحسانا؛ لأنه) ش: أي أن الكثير من الجوز م: (لا يخلو عن قليل فاسد) ش: فهو كالتراب في الحنطة، فلو فسد البيع باعتبار فات بيعه عادة، وفي القياس يجوز؛ لأنه كالخمر والميتة بضم إلى المال.
ثم بين القليل من الكثير بقوله م: (والقليل ما لا يخلو عنه الجوز عادة، كالواحد والاثنين في المائة) ش: وجعل الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير ": في الجوز الخمسة أو الستة أو نحو ذلك في المائة تعفوا، وفي " الذخيرة ": اشترى مائة بيضة فوجد فيها واحدا أو اثنين أو ثلاثة مذرة لا يرجع بشيء وجعل الثلاثة في المائة قليلا، ولو اشترى عشرة جوزا فوجد فيها خمسة خاوية اختلف المشايخ فيه.
قيل: يجوز العقد في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن بالإجماع، وقيل: يفسد في الكل بالإجماع؛ لأن الثمن لم يفصل، وقيل: العقد فاسد في الكل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه يصير كالجمع بين الحي والميت في البيع وعندهما يصح في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن وهو الأصح؛ لأن هذا بمعنى الثمن المفصل عندهما، فإن الثمن ينقسم على الأجزاء لا على القيمة.
م: (وإن كان الفاسد كثيرا لا يجوز) ش: أي في الكل م: (ويرجع بكل الثمن؛ لأنه جمع بين المال وغيره) ش: وذلك مفسد للعقد م: (فصار كالجمع بين الحر وعبده) ش: حيث يفسد في الكل.

[باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه بعيب]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه) ش: أي على المشتري م: (بعيب) ش: كان قبله.
م: (فإن قبل) ش: أي الرد م: (بقضاء القاضي بإقرار) ش: منه بالعيب م: (أو بينة) ش: قامت عليه عند القاضي من جهة المشتري الثاني لما أنكر المشتري الأول قبوله بالرد م: (أو بإباء يمين) ش: أي وبامتناعه عن اليمين يعني لما عجز الخصم عن إقامة البنية وتوجه على المشتري الثاني اليمين فأبى عن اليمين وحكم القاضي عليه بالنكول.

(8/118)


له أن يرده على بائعه؛ لأنه فسخ من الأصل فجعل البيع كأن لم يكن، غاية الأمر أنه أنكر قيام العيب لكنه صار مكذبا شرعا بالقضاء، ومعنى القضاء بالإقرار أنه أنكر الإقرار فأثبت بالبينة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ففي هذه الصور الثلاثة م: (له) ش: أي للمشتري الأول م: (أن يرده) ش: أي المبيع بالعيب م: (على بائعه؛ لأنه) ش: أي؛ لأن المبيع م: (فسخ من الأصل) ش: أي فسخ من كل وجه؛ لأنه تعذر اعتباره.
م: (فجعل البيع كأن لم يكن) ش: أي فجعل البيع الثاني كالمعدوم، والبيع الأول قائم فله الخصومة والرد بالعيب م: (غاية الأمر) ش: هذا جواب عما يقال من جهة زفر أنه لما أنكر العيب لم يكن له حق الخصومة؛ لأنه متناقض في كلامه، تقرير الجواب أن غاية أمر المشتري م: (أنه أنكر قيام العيب) ش: أي أنكر الإقرار بقيام العيب م: (لكنه صار مكذبا شرعا) ش: أي من حيث الشرع م: (بالقضاء) ش: أي بقضاء القاضي، ولما صار مكذبا بالقضاء ارتفعت المناقضة وصار كمن اشترى شيئا واقتران البائع باع ملك نفسه ثم جاء إنسان واستحقه بالبينة لا يبطل حقه في الرجوع على البائع بالثمن.
م: (ومعنى القضاء بالإقرار) ش: هذا تأويل من المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لمعنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير "، فإن قبله بقضاء القاضي بإقرار وهذا في القدوري أيضا ولكن لفظه: فإن قبله بقضاء القاضي فقط، وليس فيه بإقرار، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه م: (أنه أنكر الإقرار فأثبت بالبينة) ش: وإنما احتاج إلى هذا التأويل؛ لأنه إذا لم ينكر إقراره بعد الإقرار لا يحتاج إلى القضاء بل يرد عليه بإقراره بالعيب وحينئذ ليس له أن يرده على بائعه؛ لأنه أقاله.
وفي " الفوائد " قال بعض مشايخنا: الجواب في فضل البينة، والنكول محمول على ما إذا كان المشتري ساكتا فإن البينة على الساكت مسموعة، والساكت يستحلف أيضا؛ لأنه يترك منكرا.
أما إذا أنكر المشتري الأول أن يكون هذا العيب عنده ثم كان بالبينة أو النكول فعلى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس له أن يخاصم بائعه لمكان التناقض، وعلى قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - له ذلك لتكذيب القاضي إياه بالبينة وعامتهم قالوا: إن سبق منه جحود نصا بأن قال وما بها هذا العيب وإنما حدث عندك ثم أقر به ذلك وأبى القبول، فالقاضي له جبره على القبول ولم يكن له أن يخاصم بائعه.
وفي " الكافي ": قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعتبر فسخا في حق البائع الأول حتى لا يرد عليه؛ لأن القاضي مضطر إلى القضاء، وهذا الاضطرار جاء بإقراره أو بنكوله فانتقل فعل

(8/119)


وهذا بخلاف الوكيل بالبيع إذا رد عليه بعيب بالبينة حيث يكون ردا على الموكل؛ لأن البيع هناك واحد والموجود هاهنا بيعان، فيفسخ الثاني ولا ينفسخ الأول. وإن قبل بغير قضاء القاضي ليس له أن يرده؛ لأنه بيع جديد في حق ثالث، وإن كان فسخا في حقهما والأول ثالثهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاضي إليه؛ لأن فعل المكره ينتقل إلى المكره بكسر الراء وإذا انتقل صار كأنه باشر بنفسه.
قلنا: فعل المكره إنما ينتقل إذا صلح آلة للمكره كما في القتل فإنه يمكنه أن يأخذه ويضربه عليه والقاضي لا يصلح آلة له في حق القضاء بالفسخ؛ لأن الفسخ يكون بالكلام، والكلام لا ينتقل إلى المكره؛ لأن التكلم بلسان الغير لا يتصور.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: أن يرده من حيث المعنى إذ تقديره والبيع الأول قائم بنفسه فلم ينفسخ بفسخ بيع الثاني م: (بخلاف الوكيل بالبيع) ش: بان جواب عما يقال: إذا رد المبيع بعيب على الوكيل بالبينة كان ذلك ردا على الموكل، وفيما نحن فيه على المشتري ليس ردا على البائع تقريره أن هذا بخلاف الوكيل بالبيع وكل شخصا ببيع عبده مثلا فإنه م: (إذا رد عليه بعيب بالبينة) ش: أي إذا رد على الوكيل بعيب بالبينة أو بالنكول م: (حيث يكون ردا على الموكل؛ لأن البيع هناك) ش: أي في مسألة الوكيل م: (واحد) ش: أي بيع واحد، فكان القضاء عليه بالرد ردا على الموكل. م: (والموجود هاهنا) ش: أي في مسألة بيع المشتري.
م: (بيعان فيفسخ الثاني) ش: أي فيفسخ البيع الثاني م: (ولا ينفسخ الأول) ش: أي البيع الأول، فلأجل هذا لم يكن الرد على المشتري الأول ردا على بائعه م: (وإن قبل بغير قضاء القاضي) ش: عطف على قوله فإن قبل بقضاء القاضي أي فإن قبل المشتري الأول بغير قضاء القاضي بل قبل برضا م: (ليس له أن يرده) ش: على بائعه م: (لأنه) ش: أي لأن الرد بالتراضي م: (بيع جديد في حق ثالث) ش: وهو إقالته م: (وإن كان فسخا في حقهما والأول) ش: أي البائع الأول م: (ثالثهما) ش: أي ثالث اثنين وهما المشتري الأول الذي هو البائع الثاني والمشتري الثاني.
ولهذا يتحدد الشفيع حق الشفعة؛ لأنه ثالثهما فصار كأن المشتري الأول اشتراه ثانيا ما باع فلا يكون له حق الخصومة، لا في الرد ولا في حق الرجوع بالنقصان. كذا في " الكافي ".
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يرده كما في الرد بالقضاء، فإن قلت: هذا يشكل بمسألة ذكرها في " المحيط ": وهو من اشترى دينارا بدرهم وقبض الدينار وباعه من ثالث ووجد به عيبا فرده على المشتري الأول بغير قضاء كان له أن يرده على بائعه.
قلت: لا يشبه الصرف العروض؛ لأن الرد في العروض جعل بيعا جديدا في حق الثالث وهو البائع الأول وهاهنا لا يمكن أن يجعل بيعا جديدا؛ لأن النقود لا تتعين في المعقود، فكان

(8/120)


وفي "الجامع الصغير": وإن رد عليه بإقراره بغير قضاء بعيب لا يحدث مثله لم يكن له أن يخاصم الذي باعه، وبهذا يتبين أن الجواب فيما يحدث مثله وفيما لا يحدث سواء، وفي بعض روايات البيوع: إن فيما لا يحدث مثله يرجع بالنقصان للتيقن بقيام العيب عند البائع الأول.
قال: ومن اشترى عبدا، فقبضه، فادعى عيبا، لم يجبر على دفع الثمن حتى يحلف البائع، أو يقيم المشتري البينة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البيع الثاني لم يكن في حقه.
م: (وفي " الجامع الصغير ": وإن رد عليه) ش: أي على المشتري الأول م: (بإقراره بغير قضاء) ش: أي بغير قضاء القاضي بالرد م: (بعيب) ش: أي بسبب عيب م: (لا يحدث مثله) ش: كالأصبع الزائدة أو الناقصة م: (لم يكن له أن يخاصم الذي باعه) ش: صورته في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل اشترى من رجل عبدا ثم باعه من آخر فوجد به الآخر عيبا لا يحدث مثله فرده على بائعه وقبل منه عبدا بغير قاض قال: ليس له أن يرده على البائع الأول أبدا.
قال المصنف: م: (وبهذا) ش: أي بوضع المسألة في " الجامع الصغير " في العيب الذي لا يحدث مثله م: (يتبين أن الجواب فيما يحدث مثله) ش: كالقروح والأمراض م: (وفيما لا يحدث) ش: كالأصبع الزائدة كما ذكرنا م: (سواء) ش: في الخصومة مع البائع إذا قبله بغير قضاء وذلك؛ لأنه لم يتمكن من الرد فيما لا يحدث مع التيقن بوجوده عند البائع الأول كان أولى أن لا يتمكن من الرد فيما يحدث مثله مع احتمال أنه حدث عند المشتري بهذا هو فائدة وضع الجامع وهو الصحيح.
م: (وفي بعض روايات البيوع) ش: أي بيوع الأصل م: (أن فيما لا يحدث مثله يرجع بالنقصان للتيقن بقيام العيب عند البائع الأول) ش: والصحيح رواية " الجامع الصغير "؛ لأن الرد بغير قضاء إقالة معتمد التراضي فيكون بمنزلة بيع جديد في حق غيرهما وهو البائع الأول فلا يعود الملك المستفاد من جهة البائع الأول لتخاصمه.

[اشترى عبدا فقبضه فادعى عيبا]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير: م: (ومن اشترى عبدا فقبضه فادعى عيبا لم يجبر على دفع الثمن حتى يحلف البائع أو يقيم المشتري البينة) ش: صورة المسألة في " الجامع الصغير " محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل اشترى من رجل عبدا بألف درهم وقبض العبد ثم جاء البائع يخاصمه في الثمن فقال: قد كنت دلست لي هذا العيب قال: لا يجبر على دفع الثمن حتى يشهد الشهود أو يستحلفه.
فإن قال: شهودي بالشام قال: يقال له ادفع الثمن وإن شئت أستحلف لك وادفع الثمن.

(8/121)


لأنه أنكر وجوب دفع الثمن حيث أنكر تعين حقه بدعوى العيب، ودفع الثمن أولا ليتعين حقه بإزاء تعين المبيع، ولأنه لو قضى بالدفع فلعله يظهر العيب فينتقض القضاء فلا يقضي به صونا لقضائه، فإن قال المشتري: شهودي بالشام استحلف البائع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى هنا لفظ " الجامع " فأخذ المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا ونقله بالعبارة المذكورة ثم علل المسألة بقتله.
م: (لأنه أنكر) ش: أي؛ لأن المشتري أنكر م: (وجوب دفع الثمن) ش: أي وجوب تسليم الثمن على نفسه لما ادعى العيب م: (حيث أنكر) ش: أي المشتري م: (تعين حقه بدعوى العيب) ش: لأن حقه في التسليم لا في العيب.
م: (ودفع الثمن أولا) ش: يعني وجوب دفع الثمن أولا إنما هو م: (ليتعين حقه) ش: أي حق البائع م: (بإزاء تعين المبيع) ش: فحيث أنكر تعين حقه في المبيع؛ لأن حقه في التسليم، فقد أنكر علة وجوب دفع الثمن أولا وفي إنكار العلة إنكار للمعلول، فانتصب خصما ولا بد حينئذ من حجة وهي إما بينة أو يمين البائع، فإن قيل: في هذا التعليل فساد الوضع؛ لأن صفة الإنكار تقتضي إسناد اليمين إليه لا إقامة البينة.
فالجواب: أن الاعتبار بالمعنى لا بالصورة وهو فيه مدعى يدعي ما يوجب دفع وجوبه دفع الثمن أولا كان في الصورة منكرا.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر ولأن القاضي م: (لو قضى بالدفع) ش: أي بدفع الثمن م: (فلعله يظهر العيب فينتقض القضاء فلا يقضي) ش: أي بالدفع م: (به صونا لقضائه) ش: أي حفظا لقضائه عن النقض وهاهنا سؤال وهو أن الموجب للجبر موجود وهو البيع مع القبض وما ادعاه المشتري من العيب موهوم، والموهوم لا يعارض المتحقق.
والجواب عنه يفهم من تقرير الدليل الثاني على ما لا يخفى على الفطن، ولكن توضيحه زيادة للبيان وهو وإن كان ما ادعاه المشتري موهوما لكن فيه صيانة القضاء عن النقض؛ لأنه يمكن أن يقيم المشتري البينة بعد الجبر على العيب فيلزم بطلان القضاء في عدم الجبر صون القضاء عن النقض.
وسعي الإنسان في نقض ما تم من جهته مردود، ولهذا لو عجل زكاة ماله قبل الحول إلى الساعي لا يسترد لاحتمال أنه يكون زكاة ببقاء المال في يده، ولأن الموجب للجبر لا نسلم أنه متحقق إذ الموجب للجبر البيع مع قبض الحق، وهاهنا قبض الحق غير متعين لإنكاره.
م: (فإن قال المشتري: شهودي بالشام استحلف البائع) ش: يعني إذا طلب من المشتري إقامة البينة على ما ادعاه فقال: شهودي غيب في الشام استحلف البائع ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأنه

(8/122)


ودفع الثمن يعني إذا حلف ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأن في الانتظار ضررا بالبائع، وليس في الدفع كثير ضرر به؛ لأنه على حجته، أما إذا نكل ألزم العيب؛ لأنه حجة فيه.
قال: ومن اشترى عبدا فادعى إباقا لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أمر على خطر، أو يكون أم لا يكون فلا يؤخر الواجب بل يحلف البائع.
فإن قال: بالله لقد سلمته إليك بحكم البيع وما به هذا العيب أجبر المشتري على دفع الثمن وهو معنى قوله: م: (ودفع الثمن، يعني إذا حلف ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأن في الانتظار ضررا بالبائع) ش: لأن التأخير لا إلى غاية يجري مجرى الإبطال.
م: (وليس في الدفع كثير ضرر به) ش: جواب عما يقال إن في إلزام المشتري دفع الثمن ضررا له، وتقرير الواجب ليس في دفع الثمن إلى المشتري كثير ضرر به بالمشتري م: (لأنه على حجته) ش: يعني بسبيل من إقامة البينة عند حضور شهوده.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه بحث من وجهين: الأول: ما قيل في بقاء المشتري على حجته بطلان قضاء القاضي.
والثاني: أن الانتظار وإقامة الحجة بعد الدفع مؤقتان بحضور الشهود فكيف كان أحدهما ضررا والآخر دونه.
والجواب: عن الأول أن القاضي هاهنا قد قضى بأداء الثمن إلى حضور الشهود لا مطلقا فلا يلزم البطلان.
وعن الثاني: بأنه في دعوى غيبة الشهود متهم لجواز أن يكون ذلك مماطلة فلا يسمع قوله في حق غيره، م: (أما إذا نكل) ش: أي البائع عن اليمين م: (ألزم العيب؛ لأنه) ش: أي؛ لأن النكول م: (حجة فيه) ش: أي في ثبوت العيب قيل هذا احتراز عن النكول في الحدود والقصاص فإنه ليس بحجة وكذا النكول ليس بحجة في الأشياء الستة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قولهم في بيان هذه المسألة؛ لأن المشتري على حجته دليل أن إقامة البينة بعد حلف المدعى عليه معتبرة.
وفي " خلاصة الفتاوى " لو أقام المدعي البينة بعدما حلف المدعى عليه فقيل وكذلك لو قال المدعي للمدعى عليه: احلف وأنت بريء، أو قال: إذا حلفت فأنت بريء، فحلف ثم أقام هو البينة تقبل، أما إذا قال المدعي: لا بينة لي فحلف المدعى عليه ثم أتى هو بالبينة تقبل في رواية الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها لا تقبل.

م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير: م: (ومن اشترى عبدا فادعى إباقا لم

(8/123)


يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده، والمراد التحليف على أنه لم يأبق عنده؛ لأن القول وإن كان قوله ولكن إنكاره إنما يعتبر بعد قيام العيب به في يد المشتري، ومعرفته بالحجة. فإذا أقامها حلف بالله تعالى لقد باعه وسلمه إليه، وما أبق عنده قط. كذا قال في الكتاب، وإن شاء حلفه بالله ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي أو بالله ما أبق عندك قط، أما لا يحلفه بالله لقد باعه وما به هذا العيب، ولا بالله لقد باعه وسلمه، وما به هذا العيب؛ لأن فيه ترك النظر للمشتري، ولأن العيب قد يحدث بعد البيع قبل التسليم وهو موجب للرد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده) ش: صورة المسألة فيه محمد عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في رجل باع من رجل عبدا فقال المشتري: بعتني آبقا وكذبه البائع، قال: لا أحلف البائع على الإباق حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده، فإذا أقام على ذلك البينة استحلف البائع بالله لقد باعه وقبضه وما أبق قط ... انتهى.
وضع المسألة في الإباق والحكم في جميع العيوب التي لا تشاهد عند الخصومة كذلك نحو السرقة والبول على الفراش والجنون إلا أن المعاودة في يد المشتري شرط في العيوب الثلاثة والحالة واحدة، وهل تشترط المعاودة في الجنون؟ فيه كلام قد مر في أول الباب.
م: (والمراد التحليف على أنه لم يأبق عنده) ش: أي المراد من قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة يحلف البائع على أن العبد لم يأبق عند البائع يعني لا يحلف البائع ولا يتوجه عليه الخصومة ما لم يثبت العيب عند المشتري أولا بالحجة م: (لأن القول وإن كان قوله ولكن إنكاره) ش: أي إنكار البائع م: (إنما يعتبر بعد قيام العيب به) ش: أي بالمبيع م: (في يد المشتري) ش: لأن السلامة أصل والعيب عارض.
م: (ومعرفته) ش: أي معرفة قيام العيب م: (بالحجة، فإذا أقامها حلف بالله تعالى لقد باعه وسلمه إليه وما أبق عنده قط. كذا قال في الكتاب) ش: أي في " الجامع الصغير "، وقد مر عن قريب.
وقال المصنف: م: (وإن شاء حلفه بالله ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي) ش: أي ليس للمشتري حق الرد عليك أيها البائع بالسبب الذي يدعيه المشتري م: (أو بالله) ش: أو حلفه بالله م: (ما أبق عندك قط) ش: يعني أو حلفه القاضي بهذا الوجه فيقول البائع: بالله ما أبق قط وإنما قال: عندك؛ لأن القاضي يخاطب البائع كذلك فإذا حلف أضاف إلى نفسه.
م: (أما لا يحلفه بالله لقد باعه وما به هذا العيب، ولا بالله لقد باعه وسلمه وما به هذا العيب؛ لأن فيه ترك النظر للمشتري؛ ولأن العيب قد يحدث بعد البيع قبل التسليم وهو موجب للرد والأول

(8/124)


والأول ذهول عنه، والثاني يوهم تعلقه بالشرطين فيتأوله في اليمين عند قيامه وقت التسليم دون البيع، ولو لم يجد المشتري بينة على قيام العيب عنده وأراد تحليف البائع بالله ما نعلم أنه أبق عنده يحلف على قولهما. واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة. لهما أن الدعوى معتبرة حتى يترتب عليها البينة، فكذا يترتب التحليف، وله على ما قاله البعض أن الحلف يترتب على دعوى صحيحة وليست تصح إلا من خصم، ولا يصير خصما فيه إلا بعد قيام العيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذهول عنه) ش: أي التحليف بقوله: بالله لقد باعه وما به هذا العيب غفلة عن حدوث العيب بهذا البيع قبل التسليم، فلأجل هذا لا يحلف بهذا الوجه؛ لأن العيب ربما لا يكون عند البائع ثم يحدث قبل التسليم وهو موجب للرد، فإذا حلف على العيب لم يكن عند البائع يتضرر المشتري؛ لأن البائع صادق في حلفه فلا يحنث.
م: (والثاني) ش: أي التحليف بالله لقد باعه وسلمه وما به هذا العيب م: (يوهم تعلقه) ش: أي تعلق العيب م: (بالشرطين) ش: يعني البيع والتسليم م: (فيتأوله) ش: أي البائع م: (في اليمين) ش: ويقول: لم يكن البيع م: (عند قيامه) ش: أي عند قيام المعيب م: (وقت التسليم دون البيع) ش: يعني لم يكن العيب عند الحالتين بل عند التسليم فحسب. فإذا حلف على هذا الوجه يكون صادقا ولا يحنث إذ بانتفاء الجزء لا ينتفي الكل فيتضرر المشتري، وإنما قال: يوهم إشارة إلى أن تأويل البائع ذلك في يمينه ليس بصحيح ولكنه يوهم لذلك.
م: (ولو لم يجد المشتري بينة على قيام العيب عنده وأراد تحليف البائع بالله ما نعلم أنه أبق عنده) ش: أي عند المشتري م: (يحلف على قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد على العلم؛ لأنه تحليف على فعل الغير فيحلف البائع بالله ما يعلم أن هذا العبد جن عند هذا المشتري ولا أبق ولا سرق ولا بال على فراش. كذا ذكر في الجامع الكبير قولهما. ولم يذكر قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة) ش: فقيل يحلف عنده أيضا، وقيل: لا يحلف وهو الأصح م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الدعوى معتبرة حتى يترتب عليها البينة.. فكذا يترتب التحليف) ش: أي صحة التحليف تترتب على إقامة البينة من المشتري. فكذا يصح التحليف.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على ما قاله البعض) ش: أي بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (أن الحلف يترتب على دعوى صحيحة وليست تصح) ش: على الدعوى الصحيحة م: (إلا من خصم ولا يصير) ش: أي المشتري م: (خصما فيه) ش: أي فيما ذكرنا م: (إلا بعد قيام العيب) ش: عند نفسه، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يشترط لترتب البينة على الدعوى كونها صحيحة، بل تقوم البينة فيما لا دعوى فيه أصلا كالحدود، وكذا تصح إقامة البينة على أنه وكيل أو وارث فلان بلا دعوى.

(8/125)


وإذا نكل عن اليمين عندهما يحلف ثانيا للرد على الوجه الذي قدمناه. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا كان الدعوى في إباق الكبير يحلف ما أبق منذ بلغ مبلغ الرجال؛ لأن الإباق في الصغر لا يوجب رده بعد البلوغ.
قال: ومن اشترى جارية وتقابضا فوجد بها عيبا فقال البائع: بعتك هذه وأخرى معها، وقال المشتري: بعتنيها وحدها فالقول قول المشتري؛ لأن الاختلاف في مقدار المقبوض فيكون القول للقابض، كما في الغصب. وكذا إذا اتفقا على مقدار المبيع واختلفا في المقبوض لما بينا.
قال: ومن اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا فإنه يأخذهما أو يدعهما؛ لأن الصفقة تتم بقبضهما فيكون تفريقا قبل التمام، وقد ذكرناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا نكل) ش: أي البائع م: (عن اليمين عندهما يحلف ثانيا للرد) ش: وهذه اليمين تسمى يمين الرد، فإن حلف برئ، وإن نكل يثبت العيب عند البائع فيرد عليه م: (على الوجه الذي قدمناه) ش: أي يحلف على الثبات على ما قدمه من قوله بالله: ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي أو بالله ما أبق عندك قط، وفي بعض النسخ يحلف ثانيا للرد إلى آخره.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هو المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا كان الدعوى في إباق الكبير يحلف ما أبق منذ بلغ مبلغ الرجال؛ لأن الإباق في الصغر لا يوجب رده بعد البلوغ) ش: وذلك؛ لأن اتحاد الحالة شرط في العيوب الثلاثة فلا يلزم الرد من وجودها عند المشتري في الكبر إذا كان وجودها عند البائع في الصغر، فإذا حلف البائع مطلقا يكون فيه ترك النظر للبائع؛ لأنه يمنع عن اليمين مطلقا إذا وجدت هذه العيوب عنده في الصغر.

م: (قال: ومن اشترى جارية وتقابضا) ش: أي قبض البائع الثمن والمشتري الجارية م: (فوجد بها عيبا فقال البائع: بعتك هذه وأخرى معها، وقال المشتري: بعتنيها وحدها، فالقول قول المشتري؛ لأن الاختلاف في مقدار المقبوض فيكون القول للقابض) ش: لأنه أعرف بما قبضه م: (كما في الغصب) ش: فإنه إذا اختلف الغاصب والمغصوب منه فقال المغصوب منه: غصبت مني غلامين. وقال الغاصب: غلاما واحدا فالقول للغاصب؛ لأنه القابض م: (وكذا إذا اتفقا) ش: أي المتعاقدان م: (على مقدار المبيع واختلفا في المقبوض) ش: بأن كان المبيع جاريتين فاختلفا فقال البائع: قبضتهما وقال المشتري: ما قبضت إلا إحداهما فالقول قول المشتري م: (لما بينا) ش: أن في الاختلاف في مقدار المقبوض القول قول القابض.

[اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا فإنه يأخذهما أو يدعهما) ش: أي يأخذهما جميعا أو يتركهما جميعا، وليس له أن يأخذ السليم خاصة م: (لأن الصفقة تتم بقبضهما فيكون) ش: أي قبض أحدهما م: (تفريقا قبل التمام) ش: وهو لا يجوز م: (وقد ذكرناه) ش: يعني قبل باب خيار العيب بقوله؛ لأن الصفقة تتم مع خيار العيب بعد القبض وإن كانت لا تتم قبله.

(8/126)


وهذا؛ لأن القبض له شبه بالعقد فالتفريق فيه كالتفريق في العقد. ولو وجد بالمقبوض عيبا اختلفوا فيه، ويروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرده خاصة، والأصح أنه يأخذهما أو يردهما؛ لأن تمام الصفقة تعلق بقبض المبيع وهو اسم للكل فصار كجنس المبيع، لما تعلق زواله باستيفاء الثمن لا يزول دون قبض جميعه، ولو قبضهما ثم وجد بأحدهما عيبا يرده خاصة خلافا لزفر وهو يقول فيه تفريق الصفقة، ولا يعرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي التفريق في القبض لا يجوز م: (لأن القبض له شبه بالعقد) ش: من حيث إن القبض يثبت ملك التصرف وملك اليد كما أن العقد يثبت ملك رقبة والغرض من ملك الرقبة ملك التصرف وملك اليد م: (فالتفريق فيه) ش: أي في القبض م: (كالتفريق في العقد) ش: ولو قال: بعت منك هذين العبدين فقال: قبلت أحدهما لم يصح فكذا هذا.
م: (ولو وجد بالمقبوض عيبا) ش: أي لو وجد المشتري بالمقبوض عيبا فيما إذا اشترى عبدين فقبض أحدهما ووجد فيه عيبا م: (اختلفوا) ش: أي المشايخ م: (فيه) ش: أي في حكمه، والصحيح أنه لا يرد المقبوض خاصة، يعني إن شاء ردهما جميعا أو أخذهما، كما يجيء الآن.
م: (ويروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرده) ش: المقبوض م: (خاصة) ش: لأن الصفقة تمت فيه م: (والأصح أنه يأخذهما أو يردهما؛ لأن تمام الصفقة تعلق بقبض المبيع وهو اسم للكل) ش: أي لكل ما وقع عليه العقد م: (فصار) ش: أي تمام الصفقة م: (كحبس المبيع لما تعلق زواله) ش: أي زوال حبس المبيع م: (باستيفاء الثمن لا يزول) ش: أي حق الحبس م: (دون قبض جميعه) ش: أي جميع الثمن، وقوله لا يزول جواب لما م: (ولو قبضهما) ش: أي العبدين مثلا م: (ثم وجد بأحدهما عيبا يرده) ش: أي المقبوض م: (خاصة، خلافا لزفر) ش: فإن عنده ليس له إلا أن يردهما.
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كذا ذكر قولهما في " الإيضاح " وكذا ذكر شمس الأئمة البيهقي قول زفر في الكفاية، وكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الكافي " قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: على قول زفر يردهما إن شاء.
ولكن قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " كتاب التقريب ": قال أصحابنا: إذا اشترى عبدين صفقة واحدة فوجد بأحدهما عيبا بعد القبض رده خاصة.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يرد المعيب في الوجهين، وعلل لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن العقد صح فيهما، والعيب وجد بأحدهما فصار كما بعد القبض، وذكر صاحب " التحفة " و" المنظوم " مثل ما ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيحمل الاختلاف في قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - على اختلاف الرواية عنه م: (وهو يقول) ش: أي زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فيه تفريق الصفقة ولا يعرى) ش: أي

(8/127)


عن ضرر؛ لأن العادة جرت بضم الجيد إلى الرديء فأشبه ما قبل القبض، وخيار الرؤية والشرط. ولنا أنه تفريق الصفقة بعد التمام؛ لأن بالقبض تتم الصفقة في خيار العيب، وفي خيار الرؤية والشرط لا تتم به على ما مر، ولهذا لو استحق أحدهما ليس له أن يرد الآخر.
قال: ومن اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا رده كله أو أخذه كله، ومراده بعد القبض؛ لأن المكيل إذا كان من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفريق الصفقة م: (عن ضرر؛ لأن العادة جرت) ش: بين التجار م: (بضم الجيد إلى الرديء) ش: لرواج الرديء، فإذا جاز رد أحدهما دون الآخر يفوت غرض البائع وفيه ضرر م: (فأشبه ما قبل القبض) ش: بجامع دفع الضرر.
م: (وخيار الرؤية) ش: أي وأشبه خيار الرؤية م: (والشرط) ش: أي وخيار الشرط م: (ولنا أنه) ش: أي أن الرد م: (تفريق الصفقة بعد التمام) ش: أي بعد تمام الصفقة م: (لأن بالقبض تتم الصفقة في خيار العيب) ش: لأن العيب لا يمنع تمام الصفقة فيرد المعيب خاصة، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول م: (وفي خيار الرؤية والشرط لا تتم به) ش: أي لا تتم الصفقة بالقبض فيهما م: (على ما مر) ش: أي في باب خيار الرؤية.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل التفريق بعد التمام م: (لو استحق أحدهما ليس له أن يرد الآخر) ش: أي بعد قبضهما، وهذا كله إذا كان المشترى شيئين يمكن الانتفاع بأحدهما دون الآخر كالعبدين والثوبين، أما إذا كان المشترى شيئين لا يمكن الانتفاع بأحدهما دون الآخر كالخفين ومصراعي باب ونعلين فقبضهما ثم وجد بأحدهما أو بهما عيبا ردهما إن شاء أو أخذهما، وليس له أن يرد أحدهما دون صاحبه. كذا قال الكرخي في مختصره.
وفي " الفتاوى الصغرى " إذا اشترى خفين فوجد أحدهما ضيقا إن كان لا يدخله لعلة في الرجل ليس له أن يرده، وإن لم يكن كذلك له أن يرده.

[اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا]
م: (قال: ومن اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا رده كله أو أخذه كله، ومراده بعد القبض) ش: أي ومراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد القبض؛ لأن المسألة من مسائل " الجامع الصغير "، وفي بعض النسخ والمراد به بعد القبض، وإنما قيد به؛ لأنه إذا كان قبل القبض لا يتفاوت الحكم عندنا بين المكيل والموزون وغيرهما في أنه لا يجوز تفريق الصفقة برد المعيب خاصة.
وأما التفريق إذا كان بعد القبض فيجوز تفريق الصفقة فيما عدا المكيل والموزون، وأما فيهما فلا يجوز إذا كانا في وعاء واحد على ما هو اختيار المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قولان: في الكل قبل القبض وبعده م: (لأن المكيل إذا كان من

(8/128)


جنس واحد فهو كشيء واحد، ألا ترى أنه يسمى باسم واحد وهو الكر ونحوه، وقيل هذا إذا كان في وعاء واحد، وإن كان في وعاءين فهو بمنزلة عبدين حتى يرد الوعاء الذي وجد فيه العيب دون الآخر.
ولو استحق بعضه فلا خيار له في رد ما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جنس واحد فهو كشيء واحد) ش: احترز به عما إذا كان المكيل من جنسين كالحنطة والشعير فإن للمشتري أن يرد المعيب خاصة، وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قولان فيه: بناء على جواز التفريق وعدمه.
م: (ألا ترى أنه يسمى باسم واحد) ش: أي حكما وتقديرا لا تحقيقا لأن المالية والتقوم في المكيلات والموزونات باعتبار الاجتماع فإن الحبة الواحدة ليست مقومة حتى لا يصح بيعها فكانت القابلة للبيع باعتبار الاجتماع فصار الكل في حق البيع كشيء واحد، والشيء الواحد لا يرد بعضه بالعيب دون البعض م: (وهو الكر) ش: بضم الكاف وتشديد الراء، وهو مكيال لأهل العراق معروف، وجمعه الكرار، وقال الأزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الكر ستون قفيزا والقفيز ثمانية مكاكيك والمكوك صاع ونصف صاع م: (ونحوه) ش: أي ونحو الكر كالوسق والفرق والصبرة.
م: (وقيل: هذا) ش: أي الذي ذكرنا من أخذ الكل أو رد الكل م: (إذا كان في وعاء واحد، وإن كان في وعاءين فهو بمنزلة عبدين حتى يرد الوعاء الذي وجد فيه العيب دون الآخر) ش: إذا كان قبضهما، لأن ذلك لا يوجب عيبا زائدا، وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه " للجامع الصغير ": معنى هذا أن العيب إذا كان مختلطا بالذي لا عيب فيه فليس له أن يرد المعيب، لأنه لو رده على البائع كان ذلك إضرارا به، وأما إذا كان المعيب في جوالق والجيد في جوالق له أن يرد المعيب خاصة لأنه بمنزلة شيئين مختلفين.
ثم قال أبو الليث: - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا التأويل يصح على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاصة، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصح هذا التأويل لأنه روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المجرد " أن رجلا لو اشترى أعدالا من تمر فوجد بعدل منها عيبا، فإن كان التمر كله من جنس واحد فهو بمنزلة شيء واحد فليس له أن يرد بعضه دون بعض، ونقل الناطقي في " الأجناس " عن البيوع في رواية بشر بن الوليد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو اشترى زقين من السمن أو سلتين من زعفران أو حملين من القطن أو الشعير وقد قبض الجميع، له رد المعيب خاصة، إلا أن يكون هذا، والآخر على السواء، فإما أن يرد كله أو يترك كله.

م: (ولو استحق بعضه) ش: أي بعض ما يكال أو يوزن بعد القبض م: (فلا خيار له في رد ما

(8/129)


بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض، والاستحقاق لا يمنع تمام الصفقة؛ لأن تمامها برضا العاقد لا برضا المالك، وهذا إذا كان بعد القبض، أما لو كان ذلك قبل القبض له أن يرد الباقي لتفرق الصفقة قبل التمام. وإن كان ثوبا فله الخيار لأن التشقيص فيه عيب، وقد كان وقت البيع حيث ظهر الاستحقاق، بخلاف المكيل والموزون.
ومن اشترى جارية فوجد بها قرحا فداواها أو كانت دابة فركبها في حاجته فهو رضاء؛ لأن ذلك دليل قصده الاستيفاء، بخلاف خيار الشرط، لأن الخيار هناك للاختبار، وأنه بالاستعمال فلا يكون الركوب مسقطا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقي لأنه لا يضره التبعيض) ش: والشركة في المكيلات والموزونات لا تعد عيبا باعتبار أن التبعيض لا يضرهما بعد القبض لتمام الصفقة م: (والاستحقاق) ش: جواب إشكال، وهو أن يقال: ينبغي أن يكون له الخيار في رد ما بقي في صورة الاستحقاق كيلا يلزم تفريق الصفقة قبل التمام وتقرير الجواب أنه لا يلزم ذلك لأنه لو لزم ذلك الملزوم بطريق الاستحقاق والاستحقاق م: (لا يمنع تمام الصفقة، لأن تمامها برضا العاقد لا برضا المالك) ش: لأن العقد حق المعاقد، وتمامه يستدعي تمام رضاه وبالاستحقاق لا ينعدم ذلك، ولهذا قلنا في الصرف والسلم إذا جاء المستحق بعد ما افترقا بقي العقد صحيحا فعلم أن تمام العقد يستدعي تمام رضا العاقد لا المالك.
م: (وهذا) ش: أي كون الاستحقاق لا يوجب خيار الرد م: (إذا كان بعد القبض، أما لو كان ذلك قبل القبض له أن يرد الباقي لتفرق الصفقة قبل التمام) ش: لأن تمام الصفقة يحتاج إلى رضا العاقد، وقبض المبيع وانتفاء أحدهما يوجب عدم تمامها.
م: (وإن كان ثوبا) ش: أي وإن كان المستحق ثوبا م: (فله الخيار؛ لأن التشقيص فيه) ش: أي في الثوب م: (عيب) ش: عرفا م: (وقد كان) ش: أي التشقيص م: (وقت البيع حيث ظهر الاستحقاق) ش: يعني أن عيب الشركة فيه لم يحدث في يد المشتري حتى يمنع الرد الذي كان في يد البائع حيث ظهر الاستحقاق، فلا يكون مانعا م: (بخلاف المكيل والموزون) ش: فإن التشقيص ليس بعيب فيهما حيث لا يضر.

م: (ومن اشترى جارية فوجد بها قرحا فداواها أو كانت دابة فركبها في حاجته فهو رضا؛ لأن ذلك دليل قصده الاستيفاء) ش: وإمساك العين الأصل في هذه المسائل أن تصرف المشتري بشيء يدل على الرضا بعد العلم بالعيب يمنع الرد والأرش نحو العرض على البيع والإجارة واللبس والركوب لحاجته والمداواة والرهن والكتابة والاستخدام مرة ثانية لأنه صار راضيا بالعيب م: (بخلاف خيار الشرط؛ لأن الخيار هناك) ش: أي في خيار الشرط م: (للاختيار، وأنه) ش: أي وأن الاختيار يكون م: (بالاستعمال، فلا يكون الركوب مسقطا) ش: للخيار لكون الركوب في شرط الخيار للامتحان فيكون مقصودا من الخيار.

(8/130)


وإن ركبها ليردها على بائعها أو ليسقيها أو ليشتري لها علفا فليس برضا، أما الركوب للرد فلأنه سبب الرد، والجواب في السقي واشتراء العلف محمول على ما إذا كان لا يجد بدا منه إما لصعوبتها، أو لعجزه، أو لكون العلف في عدل واحد، وأما إذا كان يجد بدا منه لانعدام ما ذكرناه يكون رضا.
قال: ومن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به فقطع عند المشتري، له أن يرده ويأخذ الثمن عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقالا: يرجع بما بين قيمته سارقا إلى غير سارق، وعلى هذا الخلاف إذا قتل بسبب وجد في يد البائع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن ركبها ليردها على بائعها أو ليسقيها) ش: أي أو ركبها ليسقيها م: (أو ليشتري لها علفا فليس برضا) ش: بالعيب م: (أما الركوب للرد فلأنه سبب الرد، والجواب في السقي واشتراء العلف محمول على ما إذا كان لا يجد بدا منه إما لصعوبتها) ش: أي لصعوبة الدابة. م: (أو لعجزه) ش: أي أو لعجز نفسه م: (أو لكون العلف في عدل واحد، وأما إذا كان يجد بدا منه لانعدام ما ذكرناه يكون رضا) ش:.
وفي " خلاصة الفتاوى " فلو حمل علف دابة أخرى وركبها أو لم يركبها فهو رضا، وقال ابن دريد: العدل بالكسر إذا عدل بمثله.

م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به) ش: ولم يعلم المشتري بكون العبد قد سرق لا وقت البيع ولا وقت القبض كذا ذكره التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فقطع عند المشتري) ش: أي قطعت يده عند المشتري لثبوت سرقه م: (له) ش: أي للمشتري م: (أن يرده ويأخذ الثمن عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي جميع الثمن هكذا ذكر في عامة شروح الجامع الصغير، وهكذا في بعض روايات المبسوط في " جامع التمرتاشي "، وبعض روايات " المبسوط " يرجع بنصف الثمن.
وقول من قال: يرجع بكل الثمن ينصرف إلى اختيار رد العبد المقطوع، وقول من قال: بالنصف ينصرف إلى اختيار إمساك.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (يرجع بما بين قيمته سارقا إلى غير سارق) ش: يعني يقوم سارقا وغير سارق فيرجع بفضل ما بينهما من الثمن م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (إذا قتل) ش: أي العبد م: (بسبب وجد في يد البائع) ش: صورته اشترى عبدا مباح الدم لقود أو ردة أو قطع طريق فقتل عند المشتري يرجع على البائع بكل الثمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يقوم مباح الدم ومعصوم الدم فيرجع بفضل ما بينهما وبه قال الشافعي -

(8/131)


والحاصل أنه بمنزلة الاستحقاق عنده، وبمنزلة العيب عندهما. لهما أن الموجود في يد البائع سبب القطع والقتل، وأنه لا ينافي المالية فنفذ العقد فيه، لكنه متعيب فيرجع بنقصانه عند تعذر رده، وصار كما إذا اشترى جارية حاملا فماتت في يده بالولادة فإنه يرجع بفضل ما بين قيمتها حاملا إلى غير حامل. وله أن سبب الوجوب في يد البائع، والوجوب يفضي إلى الوجود، فيكون الوجود مضافا إلى السبب السابق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في قول وهو اختيار ابن شريح وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الصحابة.
وفي صحة بيع العبد الجاني له قولان: أحدهما: أنه يصح واختاره المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ - والثاني: أنه لا يصح وما ذكرنا من القولين في الرجوع بكل الثمن والنقصان على قول صحة البيع كذا في كتبهم.
م: (والحاصل) ش: من هذا الخلاف م: (أنه) ش: أي أن مستحق القطع أو مباح الدم م: (بمنزلة الاستحقاق عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإذا ظهر مستحق يرجع بكل الثمن فكذلك هنا م: (وبمنزلة العيب عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - فإذا ظهر عيب يرجع بنقصان العيب بأن يقوم عبدا قد يوجب عليه القطع وعبدا لم يجب عليه القطع ويرجع بإزاء النقصان من الثمن.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الموجود في يد البائع سبب القطع والقتل وأنه) ش: أي وأن سبب القطع والقتل م: (لا ينافي المالية) ش: بدليل صحة البيع ونفاذ تصرفه فيه بالعتق وغيره، ولو كان لحل الدم أثر في انعدام المالية لما صح البيع، كذا في الأسرار م: (فنفذ العقد فيه لكنه متعيب فيرجع بنقصانه عند تعذر رده) ش: أما التعذر في صورة القتل فظاهر، وكذا في صورة قطع اليد فكان بمنزلة عيب حادث عند المشتري والمعيب الحادث عنده يمنع الرد ولكنه يرجع بنقصان عيب السرقة لا بنقصان عيب القطع وبه صرح الزاهد العتابي.
لأن القطع وإن كان مضافا إلى السرقة لأنه يستحق بها لم يكن فوات المالية في ضمنه مضافا إليها لأن السرقة لا تفوت المالية والقطع يستحق من حيث إنه أدب لا من حيث إنه مال فلهذا أوجب الرجوع بنقصان عيب السرقة لا عيب القطع م: (وصار) ش: هذا م: (كما إذا اشترى جارية حاملا) ش: ولم يعلم بالحمل وقت الشراء القبض م: (فماتت في يده) ش: أي في يد المشتري م: (بالولادة فإنه يرجع بفضل ما بين قيمتها حاملا إلى غير حامل) ش: ولا يرجع بكل الثمن.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن سبب الوجوب في يد البائع) ش: أي سبب وجوب القطع أو القتل العمد وهو السرقة أو القتل حده في يد البائع م: (والوجوب) ش: أي سبب الوجوب م: (يفضي إلى الوجود، فيكون الوجود مضافا إلى السبب السابق) ش: فصار كالمستحق،

(8/132)


وصار كما إذا قتل المغصوب أو قطع بعد الرد بجناية وجدت في يد الغاصب، وما ذكر من المسألة ممنوعة. ولو سرق في يد البائع ثم في يد المشتري فقطع بهما، عندهما يرجع بالنقصان كما ذكرنا، وعنده لا يرده بدون رضا البائع للعيب الحادث ويرجع بربع الثمن، وإن قبله البائع فبثلاثة الأرباع لأن اليد من الآدمي نصفه وقد تلفت بالجنايتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمستحق لا يتناوله العقد فينتقض القبض من الأصل لعدم مصادفة محله م: (وصار) ش: هذا م: (كما إذا قتل المغصوب) ش: أي العبد المغصوب م: (أو قطع بعد الرد) ش: إلى مولاه م: (بجناية) ش: أي بسبب جناية م: (وجدت في يد الغاصب) ش: صورته غصب رجل عبدا فقتل العبد عنده رجلا عمدا فرده على المولى فاقتص منه يده فإن الغاصب يضمن قيمته كما لو قتل في يد الغاصب.
م: (وما ذكر من المسألة ممنوعة) ش: أي مسائل الحمل، وجه المنع أنها على قولهما، وأما على قول أبي حنيفة فالمشتري يرجع على البائع بكل الثمن إذا ماتت من الولادة وقيل: إنها على الاختلاف أيضا، وإن لم يذكر الخلاف في كتاب البيوع ولئن سلمنا فنقول: الموجود في يد البائع الإعلاق، وإنه يوجب انفصال الولد ولا يفضي إلى الهلاك غالبا بل الغالب هو السلامة عند الولادة وهو نظير الزاني إذا جلد بخلاف ما إذا غصب جارية فحملت في يد الغاصب فردها فولدت في يد المالك وماتت يرجع على الغاصب.
أما هاهنا الحبل لا يمنع صحة التسليم إلى المشتري كذا في جامع العتابي " والمبسوط ". وفائدة الخلاف فيما إذا اطلع على سبب القتل والقطع ولم يقتل ولم يقطع هل يجوز رده أم لا؟ فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز رده لأنه بالاستيفاء يكون بمنزلة الاستحقاق. وعندهما يجوز وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لأنه بمنزلة العيب وكونه مستحقا للقطع أو القتل عيب سواء استوفى أم لا، وفي تتمتهم وفائدة الخلاف يظهر في أمر الكفن والدين فعلى طريقة المروزي على البائع وعلى طريقة ابن شريح على المشتري.
م: (ولو سرق) ش: أي العبد المبيع م: (في يد البائع ثم في يد المشتري فقطع بهما) ش: أي بالسرقتين م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يرجع) ش: أي المشتري م: (بالنقصان) ش: أي بنقصان السرقة الموجودة عند البائع م: (كما ذكرنا) ش: يعني عند قوله وإن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به إلى آخره.
م: (وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لا يرده بدون رضا البائع للعيب الحادث، ويرجع بربع الثمن وإن قبله البائع فبثلاثة الأرباع) ش: أي يرجع بثلاثة أرباع الثمن م: (لأن اليد من الآدمي نصفه وقد تلفت بالجنايتين) ش: وهما اللتان كانت إحداهما في يد البائع والأخرى في يد

(8/133)


وفي إحداهما الرجوع فيتنصف، ولو تداولته الأيدي ثم قطع في يد الأخير رجع الباعة بعضهم على بعض عنده كما في الاستحقاق، وعندهما يرجع الأخير على بائعه ولا يرجع بائعه على بائعه؛ لأنه بمنزلة العيب، وقوله في الكتاب "ولم يعلم المشتري" يفيد على مذهبهما؛ لأن العلم بالعيب رضا به ولا يفيد على قوله في الصحيح؛ لأن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشتري م: (وفي إحداهما) ش: وفي إحدى الجنايتين م: (الرجوع) ش: أي رجوع المشترى على البائع بنصف الثمن م: (فيتنصف) ش: أي النصف فينقسم عليها نصفين لكون القطع مضافا إلى السرقتين فيسقط نصف النصف عن البائع وهو الربع ويضاف الربع الباقي إلى النصف فيصير ثلاثة أرباع فيرجع بها على البائع.
فإن قيل: إذا حدث عند المشتري عيب ثم اطلع على عيب كان عند البائع فقبله البائع وكذلك رجع المشتري عليه جميع الثمن فلم لم يكن هاهنا؟ كذلك أجيب: بأن هذا على قول أبي حنيفة نظر إلى جريانه مجرى الاستحقاق وما ذكرتم لا يتصور فيه.
فإن قلت: أما تذكرون ما تقدم أن حكم العيب والاستحقاق يستويان قبل القبض وهذه في غير المكيل والموزون، فما الذي أوجب الاختلاف هاهنا بينهما؟ قلنا: بلى، لكن ليس كلامنا الآن فيهما بل فيما يكون بمنزلة الاستحقاق والعيب وما ينزل الشيء لا يلزم أن يساويه في جميع الأحكام.
م: (ولو تداولته الأيدي) ش: يعني بعد وجود السرقة من العبد في يد البائع تداولته الأيدي يعني اتبع من يد إلى يد م: (ثم قطع في يد الأخير رجع الباعة) ش: وهو جمع بائع كالحاكة جمع حائك م: (بعضهم على بعض) ش: بالثمن م: (عنده كما في الاستحقاق) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يرجع الأخير على بائعه، ولا يرجع بائعه على بائعه؛ لأنه بمنزلة العيب) ش: فلا يرجع فيه وهذا لأن المشتري الأخير لم يصر حابسا حيث لم يبعه ولا كذلك الآخرون فإن البيع يمنع الرجوع بنقصان العيب.
م: (وقوله في الكتاب) ش: أي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير: م: (ولم يعلم المشتري، يفيد على مذهبهما؛ لأن العلم بالعيب رضا به ولا يفيد على قوله) ش: أي على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الصحيح؛ لأن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع) ش: وقيد بالصحيح احترازا عما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يرجع لأن حل الدم من وجه كالاستحقاق، ومن وجه كالعيب حتى لا يمنع صحة البيع فالشبهة بالاستحقاق.

(8/134)


قال: ومن باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب فليس له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: عند الجهل به يرجع بجميع الثمن ولشبهه بالعيب.
قلنا: لا يرجع عند العلم بشيء لأنه إنما جعل هذا كالاستحقاق لدفع الضرر عن المشتري وقد اندفع حين علم به واشتراه وفي " شرح الطحاوي " إذا كان المشتري عالما، وقت العقد وقبل القبض صار راضيا بالعيب فلا يرجع على بائعه بشيء في قولهم جميعا.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والصحيح أن العلم والجهل سواء لأنه من قبيل الاستحقاق والعلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل فيه نظر.
قلت: القائل بالنظر هو الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال: لأنا نقول سلمنا أن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع، لكن لا نسلم أن العلم بالعيب لا يمنع الرجوع، وهذا عيب لأنه موجب لنقصان الثمن.
ولكنه أجري مجرى الاستحقاق عند أبي حنيفة -رحمة الله عليه - ونزل منزلته لا حقيقة لأن في حقيقة الاستحقاق سواء كان عالما بذلك أو جاهلا قبل القبض أو بعده يبطل البيع ويرجع بجميع الثمن في قولهم جميعا وبه صرح في " شرح الطحاوي " وهنا لا يبطل البيع، ولهذا لو أعتق المشتري قبل القتل أو القطع صح عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا إلا أنه لا يرجع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بشيء إذا قتل أو قطع بعد الإعتاق بسبب كان عند البائع لأن القتل أو القطع لم يفوت المالية لعدم المالية حينئذ، وعندهما يرجع بالعيب - أعني نقصان عيب السرقة ونقصان كونه حلال الدم - لأن الملك ينتهي ويتقرر بالإعتاق كالموت فلا يبطل الرجوع، هذا آخر كلام الأترازي.
والأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر كلام الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بكماله فأخذ بعضه ثم قال: قيل: فيه نظر ثم قال: والجواب أن كونها أصح أو صحيحا ويجوز أن يكون من حيث صحة النقل وشهرته فلا يرد السؤال ويجوز أن يكون من حيث الدليل.
وقوله في النظر: وهذا عيب ممنوع لأنهم صرحوا بأنه بمنزلة العيب أو أنه عيب من وجه، وإذا كان كذلك فلا يلزم أن يكون حكمه حكم العيب من كل وجه، وقد ترجح جانب الاستحقاق بالدلائل المتقدمة فأجري مجراه، وهذا آخر كلام الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: جوابه لا يخلو عن خدش على ما لا يخفى، وقوله في النظر: وهذا عيب ممنوع غير مسلم؛ لأن تعليله يدل على جواز القول بأنه عيب فليتأمل.

[باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب فليس له

(8/135)


أن يرده بعيب، وإن لم يسم العيوب بعددها، وقال الشافعي: لا تصح البراءة، بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح، وهو يقول: إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يرده بعيب، وإن لم يسم العيوب بعددها) ش: وفي بعض النسخ فليس له أن يرده وإن لم يعدها أي العيوب.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو الصحيح قوله ليس له أن يرده بعيب لصحة الشرط والبيع، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البيع صحيح والشرط فاسد إذا كان مجهولا، وفي " المختلف " البيع باطل وعلى قوله فاسد إذا عد العيوب صحة البراءة أيضا.
م: (وقال الشافعي: لا تصح البراءة بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح) ش: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه طريقان أشهرهما وبه قال ابن شريح وابن الوكيل والإصطخري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يبرأ وبه قال علماؤنا: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون عند شروطهم» .
ويروى ذلك عن ابن عمر وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وثانيها: أنه لا يبرأ عن عيب وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعنه يبرأ عما لا يعلمه دون ما يعلمه.
وثالثها: وهو الأصح.
ويروى عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يبرأ في غير الحيوان ويبرأ في الحيوان عما لا يعلمه دون ما يعلمه لما روي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - باع عبدا من زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بشرط البراءة فوجد زيد به عيبا فأراد رده فلم يقبله ابن عمر، فترافعا إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال عثمان لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب؟ فقال: لا فرده عليه، فرق عثمان وزيد بين كون العلم معلوما وغير معلوم، والطريق الثاني وبه قال ابن خيران وأبو إسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - القطع بالقول الثالث ونصه في " المختصر " كذا في " شرح الوجيز ".
وفي " الحلية " لو قلنا: الشرط باطل فهل يبطل البيع؟ فيه وجهان أظهرهما أنه يبطل م: (هو) ش: أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (يقول: إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد) ش: حتى إن رب الدين لو أبرأ المديون من دينه فرد المديون إبراءه لم يصح الإبراء وكذا لا يصح تعليق الإبراء بالحظر بأن قال: أبرأتك عن العيب أو الدين إن فعلت كذا لما فيه من معنى التمليك.

(8/136)


وتمليك المجهول لا يصح، ولنا أن الجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة، وإن كان في ضمنه التمليك لعدم الحاجة إلى التسليم فلا تكون مفسدة، ويدخل في هذه البراءة العيب الموجود، والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وتمليك المجهول لا يصح) ش: كبيع شاة من قطيع غنم م: (ولنا أن الجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة) ش: والإبراء إسقاط لا تمليك حتى يتم بلا قبول لأنه لا يصح تمليك العين بهذه اللفظة، ويصح الإبراء بأسقطت عنك ديني، والجهالة فيه لا تفضي إلى المنازعة، لأن الجهالة إنما أبطلت التمليكات لفوت التسليم الواجب بالعقد وهو لا يتصور في الإسقاط فلا يكون مبطلا له، ولهذا جاز طلاق نسائه وإعتاق عبيده وهو لا يدري عددهم.
م: (وإن كان في ضمنه التمليك) ش: هذا جواب عن قوله: يرتد بالرد، وتقريره أن ذلك لما فيه من معنى التمليك ضمنا وهو لا يؤثر في فساد ما قلناه لأنا بينا أن محض التمليك لا يبطل بجهالة م: (لعدم الحاجة إلى التسليم) ش: لأن السقط الساقط مثلا م: (فلا تكون مفسدة) ش: كما إذا باع قفيزا من صبرة.
فإن قلت: في " الجامع الصغير " في كتاب الهبة إذا قال من له على آخر ألف درهم: إذا جاء غدا فأنت منها بريء فهو باطل فلا يصح تمليك المجهول.
قلت: إنما لا يصح التعليق فيه لأنه إنما يصح في الإسقاط المحض لا في إسقاط فيه معنى التمليك.
فإن قلت: إذا قال أبرأتك يصح، وإذا قال أبرأت أحدكما لا يصح فظهر الفرق بين المعلوم والمجهول. قلت: أبرأت أحدكما يصح أيضا عند بعض أصحابنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويجيز على التعيين. كذا في " الأسرار "، ولئن سلمنا أنه لا يصح فنقول: إنما لم يصح لأن من له الحق مجهول لا لأن الحق مجهول، ألا ترى إلى من قال: لفلان علي شيء يصح، ولو قال لفلان علي ألف درهم لا يصح ولا يلزم على هذا ما إذا قال: لامرأته إحداكما طالق، لأن الطلاق بعد وقوعه يكون حقا لله تعالى وهو معلوم والدليل على أن الحق لله تعالى أنهما لو تراضيا على إسقاطه لا يصح.
م: (ويدخل في هذه البراءة) ش: إنما قال في هذه البراءة احترازا عن البراءة التي شرطها البائع في قوله بعته على أني بريء من كل عيب به فإنه لا يبرأ عن الحادث بالإجماع كذا في " الإيضاح " وغيره م: (العيب الموجود) ش: فيه وقت العقد م: (والحادث) ش: أي ويدخل العيب الحادث فيه م: (قبل القبض في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي في ظاهر الرواية عنه وهو قول أبي حنيفة أيضا.

(8/137)


وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يدخل فيه الحادث، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن البراءة تتناول الثابت، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الغرض إلزام العقد بإسقاط حقه عن صفة السلامة، وذلك بالبراءة عن الموجود والحادث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يدخل فيه الحادث، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والحسن والشافعي ومالك وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية م: (لأن البراءة تتناول الثابت) ش: فتنصرف إلى الموجود عند العقد م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الغرض إلزام العقد) ش: أي أن المقصود من البراءة إلزام العقد م: (بإسقاط حقه) ش: أي حق المشتري م: (عن صفة السلامة) ش: أي سلامة البيع م: (وذلك) ش: أي التزام العقد يكون م: (بالبراءة عن الموجود والحادث) ش: جميعا.
وذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره": فإن قال البائع: أبيعك على أني بريء من كل عيب به لم يدخل في البراءة العيب الحادث في جميع الروايات عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - ووجهه أنه لما قال به خص الموجود بالبراءة ولم يتجاوز غيره، وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لو شرط في العقد البراءة من العيوب التي تحدث فسد البيع.
وفي الخلاصة ولو تبرأ البائع من كل عيب يدخل فيه العيوب والأدواء، فإن تبرأ من كل داء فهو على المرض ولا يدخل فيه الكمي ولا الأصبع الزائدة ولا أثر جرح قد برأ، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الداء هو المرض الذي في الجوف من طحال أو كبد أو نحو ذلك.
وفي " الخلاصة " أيضا رجل باع عبدا أو جارية وقال: أنا بريء من كل داء ولم يقل من كل عيب فإنه لا يبرأ عن العيوب لأن الداء يدخل في العيوب، أما العيب لا يدخل في الداء، ولو قال المشتري: الجارية برئت إليك من كل عيب بعينها، فإذا هي عوراء لا تبرأ، وكذا لو قال برئت إليك من كل عيب بيدها وهي مقطوعة اليد؛ لأن البراءة عن عيب اليد والمعين يكون حال قيام اليد والعين لا حال عدمها.
وفي " شرح الطحاوي " ولو اختلفا في العيب في أنه موجود وقت العقد أم لا فقال المشتري: هو حادث فلم يدخل في البراءة، وقال البائع: كان موجودا يدخل في البراءة. فعلى قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا فائدة لهذا الاختلاف لأنه لا يبرأ عنهما جميعا عنده وإنما هو على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فعلى قوله القول قول البائع مع يمينه أنه حادث وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول للمشتري.

(8/138)