البناية
شرح الهداية باب السلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب السلم]
[تعريف السلم]
م: (باب السلم)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام السلم. ولما فرغ من أنواع البيع التي لا يشترط
فيها قبض العوضين أو أحدهما شرع في بيان ما يشترط فيه ذلك وقدم السلم على
الصرف لكون الشرط فيه قبض أحد العوضين فهو منزلة المفرد من المركب، والمفرد
مقدم.
وقال الكاكي: والهمزة فيه للسلب، أي أزال سلامة الدراهم بالتسليم إلى مفلس
في مؤجل، أو هو من التسليم، لأن تسليم رأس المال فيه لازم، وفيه تأمل.
وفي " الإيضاح " السلم لغة عبارة عن الاستعجال والسلم والسلف، بمعنى واحد
وخص هذا النوع بهذا الاسم، لأن شرعيته كانت لمعنى يخص رأس المال وهو
استعجاله وتحصيله قبل وجود المبيع، لأن الحاجة إليه.
وقيل: سمي به لكون معجلا على وقته، فإن أوان البيع عند وجود المبيع المعقود
عليه في ملك العاقد، والسلم عادة إنما يكون فيما ليس بموجود في ملكه فيكون
معجلا على وقته، وكذا في " الكافي ".
وقال: "صاحب التحفة ": السلم عقد يثبت الملك في الثمن عاجلا. وفي الثمن
آجلا يسمى سلما وإسلاما وسلفا وإسلافا لما فيه من تسليم رأس المال للحال.
وفي عرف الشرع عبارة عن هذا أيضا مع زيادة شرائط ورد الشرع بها لم يعرفها
أهل اللغة.
وقال الأكمل: السلم في اصطلاح الفقهاء أخذ عاجل، ورد بأن السلعة إذ بيعت
بثمن مؤجل وجد فيه هذا المعنى وليس بسلم، ولو قبل بيع آجل بعاجل لاندفع
ذلك، وكذا قال الأترازي: فمن هذا عرفت قسما. وما قيل في بعض الشروح أن
السلم أخذ عاجل بآجل، لأن السلعة إذا بيعت بثمن مؤجل يوجد هذا المعنى وليس
بسلم، انتهى.
قلت: في كلام الأكمل نسبة الفقهاء إلى الخطأ. وفي كلام الأترازي نسبة بعض
الشراح إليه ولا ينبغي هذا، والظاهر أنه لم يقل هذا هكذا أحد منهم، وإنما
هذا وقع هكذا تحريفا من النساخ الجهلة، فاستمر النقل على هذا التحريف،
وإنما قالوا: السلم أخذ آجل بعاجل فلا يرد عليه شيء.
وركن السلم الإيجاب والقبول بأن يقول رجل لآخر: أسلمت إليك عشرة دراهم في
كر حنطة، أو قال أسلفت وقال الآخر: قبلت، ويسمى صاحب الدراهم رب السلم
والمسلم أيضا، ويسمى الآخر المسلم إليه والحنطة المسلم فيه.
(8/327)
السلم عقد مشروع بالكتاب، وهو آية
المداينة، فقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهد أن الله
أحل السلف المضمون، وأنزل فيها أطول آية في كتابه وتلا قَوْله تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو قال المسلم إليه لآخر: بعت منك كر حنطة هكذا وذكر شرائط المسلم ينعقد
أيضا، لأن السلم نوع بيع وشرائطه تذكر عند قوله: ولا يصح السلم عند أبي
حنيفة إلا بسبعة شرائط، وحكمه ثبوت الملك لرب السلم في المسلم فيه مؤجلا
بمقابلة ثبوت الملك في رأس العين أو الموصوف للمسلم إليه معجلا بطريق
الرخصة دفعا لحاجة الناس.
[مشروعية السلم]
م: (السلم عقد مشروع بالكتاب، وهو آية المداينة) ش: وهو قَوْله تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:
282] (البقرة: الآية 282) ، وهي أطول آية في القرآن يعني إذا تداينتم بدين
مؤجل أي مؤجل إلى أجل مسمى فاكتبوه، وفائدة قوله مسمى الإعلام بأن من حق
الأجل أن يكون معلوما، ومعنى تداينتم بدين إذا تداين بعضكم بعضا، يقال:
داينت الرجل إذا عاملته بدين معطيا أو آخذا كما تقول بايعته إذا بعته أو
باعك.
م: (فقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهد أن الله أحل
السلف المضمون، وأنزل فيها أطول آية في كتابه وتلا قَوْله تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282)) ش: هذا رواه
الحاكم في مستدركه في تفسير سورة البقرة عن أيوب عن قتادة عن أبي حسام
الأعرج عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله
في كتابه وأذن فيه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]
الآية، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وكذلك رواه الشافعي في مسنده ومن طريقه رواه البيهقي في المعرفة ورواه عبد
الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما وقال مخرج الأحاديث: ورأيت بعض مصنفي
زماننا أسندوا هذا الحديث إلى البخاري وهو غلط ولم يخرج البخاري في صحيحه
لأبي حسان الأعرج شيئا واسمه مسلم.
قوله: أحل السلف المضمون أي المؤجل، وهذا جاء في رواية أخرى أنه تعالى أحل
السف المؤجل، وقيل إن السلف الواجب في الذمة.
وقوله: المضمون صفة السلف والسلف متميز لا مميز كما في قَوْله تَعَالَى:
{النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وكقولهم الحبشي الأسود
والكافور الأبيض، وهذا لأن المسلم فيه واجب في الذمة لا
(8/328)
وبالسنة، وهو ما روي أنه - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - «نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم» والقياس وإن
كان يأباه ولكنا تركناه بما رويناه. ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المسلم
فيه هو المبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محالة.
وقيل مميزه لأن السلف يطلق أيضا على معنى آخر يقال: سلف الرجل آباءه
الأقدمين. قوله: وأنزل فيه وفي بعض النسخ وأنزل فيها، وكذا في نسخة شيخي
العلاء. وقال الأترازي: في السلف وإنما أنث الضمير على تأويل المداينة،
ومثل ذلك حاكما روى صاحب " الجمهرة " عن أبي حاتم الأصمعي قال أبو عمرو بن
العلاء: سمعت أعرابيا يمانيا يقول: لفلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت:
أتقول جاءته كتابي؟ فقال أليس بصحيفة؟ فقلت له ما اللغوب؟ قال: الأحمق.
م: (وبالسنة) ش: هو عطف على قوله بالكتاب، أي ومشروع بالسنة م: (وهو ما روي
أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - م: «نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم» ش: هذا غريب
بهذا اللفظ. وقوله ورخص في السلم من تمام الحديث لا من كلام المصنف.
وقال الكاكي: هذا نقل الحديث بالمعنى، ولفظ الحديث "لا «تبع ما ليس عندك» .
والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رووه بهذا اللفظ، والمراد بما ليس
عندك ما ليس في ملكه، فإنه لو كان في ملكه يجوز وإن لم يكن حاضرا إذا كان
المشتري رآه قبل ذلك، انتهى. قلت: الظاهر أن هذا الحديث مركب من حديثين
فحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا تبع ما ليس
عندك» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما الرخصة في السلم فأخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي المنهال «عن ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث
فقال: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم» .
م: (والقياس وإن كان يأباه) ش: أي السلم أي جوازه م: (ولكنا تركناه) ش: أي
القياس م: (بما رويناه) ش: وهو الحديث الذي ذكرنا الآن م: (ووجه القياس أنه
بيع المعدوم إذ المسلم فيه هو المبيع) ش: وفي أكثر النسخ إذ المبيع هو
المسلم فيه وهو معدوم وبيع موجود غير مملوك أو مملوك غير مقدور التسليم لا
يصح، فبيع المعدوم أولى وأجدر وانعقد الإجماع على جوازه باعتبار الحاجة
والضرورة.
(8/329)
قال: وهو جائز في المكيلات والموزونات
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن
معلوم إلى أجل معلوم» والمراد بالموزونات غير الدراهم والدنانير؛ لأنهما
أثمان، والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا، فلا يصح السلم فيها. ثم قيل: يكون
باطلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه يحتاج إليه الفقير والغني لأنه ربما لا يكون عنده عين مال يبيعها
وينفق على نفسه فيحتاج إلى أخذ السلم والغني يحتاج إلى أن ينفق على نفسه
وعياله، فيحتاج إلى الاسترباح والاسترباح يحصل بهذا الطريق أكثر مما يحصل
بشراء الأعيان، لأن الأعيان تشترى بمثل والدين بأقل يأكل منه فجوز باعتبار
الحاجة.
[السلم في الدراهم والدنانير]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وهو) ش: أي السلم م: جائز في المكيلات) ش:
يعني في كل كيلي م: والموزونات) ش: يعني في كل وزني م: (لقوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م:
«من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» ش: هذا
الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن المنهال قال: سمعت ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الحديث، وقد مضى الآن، ورواه أحمد في مسنده
بلفظ «فلا يسلف إلا في كيل معلوم» .
قال البيهقي: قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معناه إذا أسلف أحدكم
في كيل فليسلف في كيل معلوم وإن أسلف فليسلف في وزن معلوم، وإذا سمى أجلا
فليسلم أجلا معلوما.
م: (والمراد) ش: أي مراد القدوري في قوله م: (بالموزونات غير الدراهم
والدنانير لأنهما أثمان، والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا) ش: لكونه مبيعا
م: (فلا يصح السلم فيهما) ش: أي في الدراهم والدنانير، صورته أن يسلم عشرة
أذرع من الكرباس وغيره من المكيل والموزون في عشرة دراهم أو دنانير، أما لو
أسلم عشرة دراهم في عشرة دنانير لا يجوز بالإجماع؛ لأنه ربا.
واختلف المشايخ في السلم في الدراهم والدنانير، أشار المصنف إلى بيانه
بقوله م: (ثم قيل يكون باطلا) ش: أي يكون السلم باطلا، وهو قول عيسى بن
أبان.
وقال الكاكي: هذا الاختلاف فيما إذا أسلم الحنطة أو غيرها من المعروض.
وفي " المبسوط " لو أسلم الحنطة في الذهب والفضة لا يجوز عندنا، وعند
الشافعي في القدر يجوز، وبه قال مالك بناء على أن النقد يصلح أن يكون مبيعا
عنده، ولكن ذكر في كتبهم أنه يصح مطلقا ويذكر ستة أوصاف، النوع واللون
والجودة وأنه حديث أو عتيق وصغار أو كبار، وعندنا لا يصح.
(8/330)
وقيل: ينعقد بيعا بثمن مؤجل تحصيلا لمقصود
المتعاقدين بحسب الإمكان، والعبرة في العقود للمعاني، والأول أصح لأن
التصحيح إنما يجب في محل أوجبا العقد فيه ولا يمكن ذلك.
قال: وكذا في المذروعات؛ لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع والصفة والصنعة، ولا
بد منها لترتفع الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل ينعقد بيعا) ش: وهو قول أبي بكر الأعمش فعنده ينعقد بيعا م: (بثمن
مؤجل تحصيلا لمقصود المتعاقدين بحسب الإمكان، والعبرة في العقود للمعاني)
ش: لا للألفاظ م: (والأول) ش: وهو قول عيسى بن أبان م: (أصح لأن التصحيح)
ش: أي تصحيح العقد م: (إنما يجب في محل أوجبا) ش: أي البائع والمشتري م:
(العقد فيه) ش: وهو الدراهم والدنانير م: (ولا يمكن ذلك) ش: أي تصحيحه في
محل آخر؛ لأنهما لم يوجبا العقد فيه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وكذا) ش: أي يجوز م: (في المذروعات) ش: ولا
خلاف فيه للأئمة الأربعة م: (لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع) ش: أي طولا وعرضا
م: (والصفة والصنعة، ولا بد منها) ش: أي من الصفات الثلاث م: (لترتفع
الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم) ش: والتفاوت اليسير بعدها غير معتبر لأنه لا
يفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم.
وفي " المجتبى " والقياس أن لا يجوز السلم في المذروعات كالثياب والحصر
والبواري لتعذر قبولها في الذمة، ولهذا لا يضمن بالمثل بالاستهلاك
كالجواهر، لكن ترك ذلك بإجماع الفقهاء، انتهى.
وقيل ألحقت المذروعات بالمكيلات والموزونات بدلالة النص، لأن قوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من أسلم منكم.. الحديث يقتضي الجواز في المكيلات
والموزونات باعتبار التسوية في التسليم على ما وصف في المسلم فيه، والتسوية
تتحقق في المذروعات فيجوز إلحاقها بهما بطريق الدلالة.
فإن قيل: إنما يجوز العمل بالدلالة إذا لم يعارضه عبارة النص، وهاهنا عبارة
قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «لا تبع ما ليس عندك» نافية لإلحاقها بهما،
لأن تلك العبارة لما خصصت بالكيلي والوزني بالحديث انحصر الجواز فيهما وبقي
ما وراءهما تحت نفي عبارة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لا تبع ...
الحديث، والمذروع فيما وراءهما فلا يصح العمل بالدلالة.
قلنا: هذا الذي ذكرته حجة عليك، لأن العام من الكتاب إذا خص منه البعض لا
يبقى الباقي حجة أصلا عند الكرخي، فيكف في السنة؟!، وعلى القول المختار إن
بقي حجة ولكن مرتبته دون مرتبة القياس وخبر الواحد ولا شك أن دلالة النص
أقوى من القياس وخبر الواحد، فلم يكن ذلك العام معارضا للدلالة، فبقيت
الدلالة سالمة عن المعارض فيجوز السلم في
(8/331)
وكذا في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز
والبيض؛ لأن العددي المتقارب معلوم، مضبوط الوصف، مقدور التسليم، فيجوز
السلم فيه، والصغير والكبير فيه سواء باصطلاح الناس على إهدار التفاوت،
بخلاف البطيخ والرمان؛ لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا، وتفاوت الآحاد في
المالية يعرف العددي المتفاوت. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في بيض النعامة
لأنه يتفاوت آحاده في المالية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المذروعات والعدديات الثابت بها مساويا لما ثبت بالنص أو أقوى. وفي "
الإيضاح " جواز السلم في الثياب بطريق الاستحسان؛ لأنها مصنوع العبد،
والعبد يصنع بالآلة، فإذا اتخذ الآلة والصانع يتخذ المصنوع فلا يبقى بعد
ذلك إلا قليل تفاوت، وذا يحتمل في المعاملات دون الاستهلاكات، ألا ترى أن
الأب إذا باع مال ولده الصغير بغبن يسير كان متحملا، ولو استهلك شيئا يسيرا
يجب عليه ضمانه.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يجوز السلم م: (في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز
والبيض؛ لأن العددي المتقارب) ش: وهو ما لا يتفاوت آحادها بالقيمة ويضمن
بالمثل م: (معلوم مضبوط الوصف، مقدور التسليم، فيجوز السلم فيه، والصغير
والكبير فيه سواء باصطلاح الناس على إهدار التفاوت) ش: فإن المسامحة تجري
فيما بينهم في صغيره وكبيره، فإنك لا ترى جوزة بفلس وجوزة بفلسين، وإنما
تفاوت إذا عد في المالية وذلك التفاوت يفوت بذكر النوع، ولهذا جوزوا السلم
في الباذنجان والكاغد عددا، وبه قال الشافعي، وفي " شرح الطحاوي " صغير
البيض وكبيره سواء بعد إن كان من جنس واحد.
وقال الشافعي: يجوز السلم في كل المعدودات المتقاربة والمتفاوت وزنا وهل
يجوز كيلا له، فيه وجهان.
وقال في الجوز واللوز: يجوز وزنا ولا يجوز كيلا، وقال الأوزاعي: في
العدديات المتفاوت وبه مثل مذهبنا واسمه عبد الرحمن بن عمرو. وفي " وجيز
الشافعية " ولا يكفي العد في المعدودات، بل لا بد من ذكر الموزون.
م: (بخلاف البطيخ والرمان؛ لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا) ش: فإنك ترى
بطيخا بدرهم وبطيخا بدرهمين، وبين الضابط في معرفة العددي المتفاوت عن
المتفاوت بقوله م: (وتفاوت الآحاد في المالية يعرف العددي المتفاوت) ش: أي
بتفاوت آحاد العددي في المالية دون الأنواع يعرف العددي المتفاوت وهو
المروي عن أبي يوسف.
وأيد ذلك بقوله م: (وعن أبي حنيفة أنه) ش: أي أن السلم م: (لا يجوز في بيض
النعامة لأنه يتفاوت آحاده في المالية) ش: وقال الأترازي: وتفسير العددي
المتفاوت ما نقل عن أبي يوسف ما
(8/332)
ثم كما يجوز السلم فيه عددا يجوز كيلا.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز كيلا؛ لأنه عددي وليس بمكيل. وعنه
أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت. ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة
بالكيل، وإنما صار معدودا بالاصطلاح فيصير مكيلا باصطلاحهما. وكذا في
الفلوس عددا. وقيل: هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا يجوز لأنها
أثمان. ولهما أن الثمنية في حقهما باصطلاحهما فتبطل باصطلاحهما ولا تعود
وزنيا، وقد ذكرناه من قبل.
ولا يجوز السلم في الحيوان، وقال الشافعي: يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اختلف آحاده في القيمة واختلف أجناسه فلا يجوز السلم فيه وذلك كالدر
والجواهر واللآلئ والأدم والجلود والخشب والرؤوس والأكارع والرمان والبطيخ
والسفرجل ونحوها، إلا إذا بين من جنس الجلود والأدم والخشب والجذع شيئا
معلوما وطولا معلوما وغليظا معلوما وأتى بجميع شرائط السلم والتحق
بالمتقاربة يجوز، وكذا السلم في الجوالق والغدائر كذا في " التحفة ".
وقال الكاكي والحد الفاصل بين التفاوت والمتقارب أن ما كان مستهلكة بالمثل
يكون متقاربا وبالقيمة يكون متفاوتا.
م: (ثم كما يجوز السلم فيه) ش: أي في العددي المتقارب م: (عددا) ش: أي من
حيث العدد م: (يجوز كيلا) ش: أي من حيث الكيل م: (وقال زفر - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: لا يجوز كيلا؛ لأنه عددي وليس بمكيل. وعنه) ش: أي وعن زفر م:
(أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت) ش: في الآحاد.
م: (ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة بالكيل، وإنما صار معدودا
بالاصطلاح فيصير مكيلا باصطلاحهما) ش: أي باصطلاح المتعاقدين، فلا يفضي إلى
المنازعة في التسليم والتسلم م: (وكذا) ش: أي كذا يجوز السلم م: (في الفلوس
عددا) ش: أي من حيث العدد، وهو ظاهر الرواية م: (وقيل هذا) ش: أي الجواب م:
(عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا يجوز؛ لأنها أثمان) ش: والثمن في
السلم لا يجوز.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الثمنية في حقهما) ش: أي في
حق المتعاقدين م: (باصطلاحهما) ش: لعدم ولاية الغير عليهما م: (فيبطل
باصطلاحهما) ش: أي ولهما إبطال اصطلاحهما، فإذا بطلت الثمنية بقي مثمنا
يتعين بالتعيين فجاز السلم م: (ولا تعود وزنيا) ش: هذا رد لقول محمد أنها
بعد الكساد تعود وزنيا لأنها قطع صغار موزونة م: (وقد ذكرناه من قبل) ش: أي
في باب الربا في مسألة بيع الفلس بالفلسين.
[السلم في الحيوان]
م: (ولا يجوز السلم في الحيوان) ش: سواء كان دابة أو رقيقا، وبه قال الثوري
والأوزاعي م: (وقال الشافعي: يجوز) ش: وبه قال مالك وأحمد إلا في الخلفات،
فإن الخلفة اسم لمجهول الحال
(8/333)
لأنه يصير معلوما ببيان الجنس والسن والنوع
والصفة والتفاوت بعد ذلك يسير فأشبه الثياب. ولنا أن بعد ذكر ما ذكر يبقى
فيه تفاوت فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنة فيفضي إلى المنازعة،
بخلاف الثياب؛ لأنه مصنوع العباد، فقلما يتفاوت الثوبان إذا نسجا على منوال
واحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولمعاد الحيوان المطلق بلا صفة، فيجوز بالاتفاق.
قلت: الخلفة بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وبالفاء الحامل من النوق، ويجمع
على خلفات وخلائف، وقد خلفت إذا حملت، وأخلفت إذا حالت م: (لأنه) ش: أي لأن
الحيوان م: (يصير معلوما ببيان الجنس) ش: بأن قال إبل م: (والسن) ش: بأن
قال: بنت مخاض أو جذع أو ثني م: (والنوع) ش: بأن قال بختي أو عربي م:
(والصفة) ش: بأن قال: سمين أو هزال، يعني يضبط ماليته بهذه الأربعة،
والموصوف بمنزلة المرئي م: (والتفاوت بعد ذلك) ش: أي بعد بيان هذه الأربعة
م: (يسير) ش: لقلته م: (فأشبه الثياب) ش: في الجواز، وقد ثبت «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عمرو بن العاص أن يشتري بعيرا
ببعيرين في تجهيز الجيش إلى أجل، وأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استقرض بكرا
وقضاه رباعيا» والسلم أقرب إلى الجواز من الاستقراض.
م: (ولنا أن بعد ذكر ما ذكر) ش: أي من الجنس والسن والنوع والصفة م: (يبقى
فيه تفاوت فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنة) ش: كالصباحة والملاحة
والخلق الحسن والذهن والكياسة وحسن الشهرة والهملجة في الدواب وهي معنى سهل
وشدة العدو، فإنك ترى عبدين متفقين في الأوصاف المذكورة مع ذلك يساوي
أحدهما ألفا والآخر ألفين، قال الشاعر:
الأدب فردا يعدل الألف زائدا ... وألف تراهم لا يساوون واحدا
وهذه معاني لا تضبط بالوصف، فبقي جهالة م: (فيفضي إلى المنازعة) ش: فلا
يجوز م: (بخلاف الثياب) ش: جوابا عن قياس الشافعي السلم في الحيوان على
القياس في الثياب فأجاب بأن هذا القياس غير صحيح م: (لأنه) ش: أي لأن
الثياب، وتذكير الضمير باعتبار المذكور م: (مصنوع العباد فقلما يتفاوت
الثوبان إذا نسجا على منوال واحد) ش: لأن العبد إنما يصنع بآلة، فإذا اتحد
الصانع والآلة اتحد المصنوع، ولا يتفاوت في المالية إلا يسيرا، ولا يعتبر
بذلك القدر والحيوان صنع الله تعالى.
وذلك يكون على ما يريده تعالى، فقد كان على وجه لا يوجد له نظير، وفي مثله
لا يجوز السلم بالاتفاق.
(8/334)
وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «نهى عن السلم في الحيوان» ، ويدخل فيه جميع أجناسه حتى
العصافير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب عن حديث عمرو بن العاص: أنه كان قبل نزول آية الربا، أو كان في دار
الحرب ولا ربا بين المسلم والحربي فيها، وتجهيز الجيش وإن كان في دار
الإسلام فنقل الآلات كان في دار الحرب لعزتها في دار الإسلام يومئذ.
والجواب عن الحديث الثاني: أنه لم يكن القرض ثابتا في ذمة رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل أنه قضاه من إبل الصدقة والصدقة
حرام عليه، فكيف يجوز أن يفعل ذلك.
م: (وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن السلم
في الحيوان» ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك والدارقطني في سننه عن
إسحاق بن إبراهيم بن حربي حدثنا عبد الملك الزماري حدثنا سفيان الثوري عن
معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
- «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن السلف في
الحيوان» وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال ابن حبان: إسحاق بن
إبراهيم منكر الحديث جدا يأتي عن الثقات بالموضوعات لا يحل كتب حديثه إلا
على وجهة التعجب م: (ويدخل فيه) ش: أي في قوله في الحيوان م: (جميع أجناسه)
ش: أي أجناس الحيوان م: (حتى العصافير) ش: أي حتى يدخل العصافير أيضا، لا
يقال النهي عن الحيوان في الوصف والمتنازع فيه هو الموصوف منه فلا يتصل محل
النزاع، لأنا نقول إن محمد بن الحسن قد فسر هذا الحديث في أول كتاب
المضاربة أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دفع مالا مضاربة إلى زيد
بن خليدة فأسلمها زيد إلى عتريس بن عرقوب في قلائص معلومة.
وقال ابن مسعود: اردد مالنا، لا نسلم أموالنا في الحيوان، فعلم أن عدم جواز
السلم في الحيوان لم يكن فيه باعتبار ترك الوصف، لأن القلائص كانت معلومة،
فكان المنع لكونه حيوانا لا يقال في كلام المصنف تسامح، لأن الدليل المذكور
بقوله: ولنا منقوض بالعصافير، لأن ذكر ذلك لم يكن من حيث الاستدلال على
المطلوب، بل من حيث جواب الخصم، وأما الدليل على ذلك فهو السنة.
فإن قلت: السلم في الحيوان إنما لا يصح لتفاوت يعتبره الناس والتفاوت من
العصافير غير معتبر، فينبغي أن يجوز السلم فيها.
(8/335)
قال: ولا في أطرافه كالرؤوس والأكارع
للتفاوت فيها، إذ هو عددي متفاوت لا مقدار لها.
قال: ولا في الجلود عددا، ولا في الحطب حزما، ولا في الرطبة جرزا للتفاوت
فيها، إلا إذا عرف ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: العبرة في المنصوص لعين النص لا للمعنى، والنص لم يفصل بين حيوان
وحيوان، كذا في " الكافي ".
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا في أطرافه) ش: أي ولا يجوز السلم أيضا في
أطراف الحيوان م: (كالرؤوس والأكارع) ش: هو جمع كراع الشاة والبقر، ويجمع
على كراع أيضا م: (للتفاوت فيها، إذ هو عددي متفاوت لا مقدار لها) ش: أي لا
مقدر له لاختلافها بالصغر والكبر والسمنى والهزال، وتذكير الضمائر باعتبار
المذكور، وبقولنا قال الشافعي في الأظهر.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا في الجلود عددا) ش: أي ولا يجوز السلم في
الجلود أيضا من حيث العدد لأنها عددية، وفيها الصغير والكبير فيفضي السلم
فيها إلى المنازعة ولا يتوهم أنه يجوز وزنا لقيده عددا، لأن معناه أنه عددي
فحيث لم يجز عددا لم يجز وزنا بالطريق الأولى؛ لأنه لا يوزن عادة وبه قال
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأظهر، وقال مالك وأحمد في قول يجوز
السلم في الجلود والرؤوس والأكارع عددا أو وزنا.
وفي " الذخيرة ": ولو بين للجلود ضربا معلوما يجوز السلم فيه م: (ولا في
الحطب حزما) ش: أي ولا يجوز السلم أيضا في الحطب من حيث الحزم وهو جمع
حزمة، قال في " الجمهرة " كل شيء جمعته كالإضبارة فقد حزمته، ومنه سميت
حزمة الحطب، وإنما لا يجوز لكونه مجهولا من حيث طوله وعرضه وغلظه، فإن عرف
ذلك جاز، كذا في " المبسوط " م: (ولا في الرطبة جرزا) ش: أي ولا يجوز السلم
أيضا في الرطبة من حيث الجرز بضم الجيم وفتح الراء بعدها الزاي، أي جمع
جرزة وهي أي الحزمة والرطبة الاسفيست، والجمع رطاب قاله في " المغرب "، وهي
التي تسميها أهل مصر برسيما.
وأهل البلاد الشمالية مسخا. وفي " الشامل ": لا خير في السلم في الرطبة
لأنها تباع حزما ويجوز في القت لأنه يباع وزنا. وفي " المبسوط ": ولا يجوز
أوقارا، أي أحمالا للجهالة م: (للتفاوت فيها) ش: أي لأجل التفاوت في عدد
الجلود وحزم الحطب وجرز الرطبة. م: (إلا إذا عرف ذلك) ش: هذا الاستثناء
متعلق بمسألة الرطبة جرزا، لأن ما بعده من كلام المصنف يدل على ذلك لا يخفى
على المتأمل.
قوله: عرف يجوز فيه التخفيف والتشديد، فعلى التخفيف يكون على صيغة المجهول،
ويكون قوله ذلك في محل الرفع، وهو إشارة إلى ما ذكر من الجرز. وأما على
التشديد من
(8/336)
بأن يبين له طول ما يشد به الحزمة أنه شبر
أو ذراع، فحينئذ يجوز إذا كان على وجه لا يتفاوت.
قال: ولا يجوز السلم حتى يكون المسلم فيه موجودا من حين العقد إلى حين
المحل، حتى لو كان منقطعا عند العقد موجودا عند المحل أو على العكس، أو
منقطعا فيما بين ذلك لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز إذا كان موجودا وقت المحل
لوجود القدرة وله أنه على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعريف فعلى صيغة المعلوم والفاعل فيه فهو الضمير الذي يرجع بالقرينة إلى
المسلم إليه، ويجوز أن يرجع إلى رب السلم ويكون قوله ذلك حينئذ في محل
النصب على أنه مفعول عرف. ثم بين المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه التعريف
بقوله:
م: (بأن يبين له طول ما يشد به الحزمة) ش: وكلمة "أن" مصدرية، أي ببيان طول
ما يشد به الحزمة، ولفظ يبين أيضا يحتمل الوجهين المعلوم والمجهول بحسب
الوجهين المذكورين في عرف، فعلى كون عرف مجهولا يكون لفظ يبين مجهولا أيضا،
وعلى كونه مشددا معلوما يكون يبين أيضا معلوما، والضمير فيه يرجع إلى رب
السلم أو المسلم إليه كما ذكرنا الآن في عرف وقوله م: (أنه) ش: بفتح الهمزة
بدل من قوله طول، وقوله: م: (شبر) ش: مرفوع لأن خبر أن.
وقوله م: (أو ذراع) ش: عطف عليه، وقوله م: (فحينئذ) ش: أي حين يبين طول ما
يشد به الحزمة من كونه قدر شبر أو قدر ذراع م: (يجوز) ش: أي السلم م: (إذا
كان) ش: أي تشدد الحزمة م: (على وجه لا يتفاوت) ش: أي بالشد، أما إذا كان
يتفاوت كالشوك ونحوه فلا يجوز لإفضائه إلى المنازعة، ولم أر أحدا من الشراح
حرر هذا الموضوع كما ينبغي فبحمد الله حررناه كما هو المطلوب.
[وجود المسلم فيه زمان العقد وزمان المحل وفيما
بينهما]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز السلم حتى يكون المسلم فيه موجودا من
حين العقد إلى حين المحل) ش: حاصل هذا أنه يشترط وجود المسلم فيه زمان
العقد وزمان المحل وفيما بينهما م: (حتى لو كان منقطعا عند العقد موجودا
عند المحل أو على العكس) ش: فإن كان موجودا عند العقد ومنقطعا عند المحل م:
(أو منقطعا) ش: أي أو كان منقطعا م: (فيما بين ذلك) ش: أي فيما بين وقت
العقد ووقت المحل م: (لا يجوز) ش: أي السلم عندنا ولعل المسألة أن السلم في
المنقطع لا يجوز عندنا.
م: (وقال الشافعي: يجوز إذا كان موجودا وقت المحل لوجود القدرة) ش: فإنه
يقول: يشترط أن يكون موجودا عند المحل فحسب، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.
وقال الكاكي والشافعي: يعتبر وجوده عند المحل، ومالك عند العقد وعند المحل،
ولا ينقطع الانقطاع فيما بين ذلك م: (وله) ش: أي الشافعي م: (أنه) ش: أي أن
المسلم فيه م: (على
(8/337)
التسليم حال وجوبه. ولنا قوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها» ولأن القدرة على
التسليم بالتحصيل فلا بد من استمرار الوجود في مدة الأجل ليتمكن من
التحصيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التسليم حال وجوبه) ش: وهو زمان حلول الأجل والمعجزة، قيل ذلك لا يعتبر
لأنه ليس بأوان توجيه المطالبة.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها» ش: وهذا
الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن أبي إسحاق عن رجل، قال قلت
لعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... الحديث، وفي آخره: «ولا
تسلفوا في نخل حتى يبدو صلاحها» انتهى.
وقال المنذري: في إسناده رجل مجهول، وذكره عبد الحق في "أحكامه " من جهة
أبي داود وقال: إسناده منقطع. وأخرج الطبراني في "الأوسط " حديثا عن أبي
هريرة وفي آخره «لا تسلموا في ثمرة حتى يأمن عليها صاحبها العاهة» م: (ولأن
القدرة على التسليم) ش: أي على تسليم المسلم فيه م: (بالتحصيل) ش: أي تحصيل
المسلم فيه م: (فلا بد من استمرار الوجود) ش: أي وجود المسلم فيه م: (في
مدة الأجل ليتمكن من التحصيل) ش: ولا يقدر المسلم إليه على اكتساب المنقطع.
وقول الشافعي القدرة على التسليم عند المحل موجودة. قلنا: إنما تكون القدرة
حينئذ موجودة إذا بقي العاقد حيا إلى ذلك الوقت، وفي بقائه حيا شك فلا تثبت
القدرة بأمر مشكوك. فإن قال: الأصل هو الحياة وما يثبت يبقى إلى أن يوجد
دليل الزوال. قلنا: الأصل يعتبر لإبقاء ما كان على ما كان، والقدرة على
الحال معدومة فلا يعتبر الأصل لإثبات شيء يوجد في المستقبل.
وقال الولوالجي في "فتاواه " وحد الانقطاع ما قاله الفقيه أبو بكر البلخي
أن لا يوجد في سوقه الذي يخبز ويباع فيه، وإن كان قد يوجد في البيوت.
وفي " مبسوط أبي اليسر " ولو انقطع في إقليم دون إقليم لا يصح السلم في
الإقليم الذي لا
(8/338)
ولو انقطع بعد المحل فرب السلم بالخيار إن
شاء فسخ السلم وإن شاء انتظر وجوده؛ لأن السلم قد صح والعجز الطارئ على شرف
الزوال، فصار كإباق المبيع قبل القبض. قال: ويجوز السلم في السمك المالح
وزنا معلوما وضربا معلوما؛ لأنه معلوم القدر مضبوط الوصف مقدور التسليم، إذ
هو غير منقطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوجد فيه؛ لأنه لا يمكن إحضاره إلا بمشقة عظيمة فيعجز عن التسليم حتى لو
أسلم في الرطب ببخارى لا يجوز وإن كان يوجد بسجستان.
م: (ولو انقطع بعد المحل) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري، أراد أن
المسلم فيه كان موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل ثم انقطع بعد المحل، أي
بعد حلول الأجل م: (فرب السلم بالخيار إن شاء فسخ السلم) ش: ويأخذ رأس
المال م: (وإن شاء انتظر وجوده) ش: أي وجود المسلم فيه م: (لأن السلم قد
صح) ش: ولكنه قد عجز عن التسليم م: (والعجز الطارئ على شرف الزوال) ش:
فيتخير المعاقد م: (فصار) ش: حكم هذا م: (كإباق المبيع قبل القبض) ش: في
بقاء العقد، وبقولنا قال الشافعي في الأصح.
وقال زفر: يبطل العقد وبه قال الشافعي في قول، وهو رواية عن الكرخي: ويسترد
رأس المال للعجز عن التسليم، فصار كما لو ملك المبيع قبل القبض في بيع
العين، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قوله: والعجز الطارئ عن
التسليم على شرف الزوال إشارة إلى جواب زفر عن قياسه المتنازع فيه في هلاك
المبيع في العجز عن التسليم وفي ذلك يبطل البيع، وكذلك هاهنا. ووجهه أن
العجز عن التسليم إذا كان على شرف الزوال لا يكون كالعجز بالهلاك لأنه غير
ممكن الزوال عادة، فكان القياس فاسدا.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ويجوز السلم في السمك
المالح) ش: قال الكاكي: السمك المالح بالفارسية "ما هي خشك" وفي " المغرب
": سمك مليح ومملوح وهو المقدر الذي فيه ملح، ولا يقال سمك مالح إلا في لغة
رؤبة، ولكن قال الشاعر.
بصرية تزوجت بصريا ... أطعمها المالح والطريا
وقال الإمام الزرنوجي: وكفى بذلك حجة للفقهاء. قلت: قال ابن دريد: سمك وملح
مليح ولا تلتفتن إلى قول الآخر: أطعمها المالح والطريا، ذلك مولد لا يؤخذ
بلغته. وقال في ديوان الأدب. ملح القدر طرح الملح فيها بقدر، فعلى هذا يجوز
أن يقال: سمك مملوح م: (وزنا معلوما) ش: أي من حيث الوزن المعلوم م: (وضربا
معلوما) ش: أي من حيث الضرب، أي النوع المعلوم م: (لأنه معلوم القدر مضبوط
الوصف مقدور التسليم، إذ هو) ش: أي لأن السمك م: (غير منقطع) ش: عن الوجود.
(8/339)
ولا يجوز السلم فيه عددا للتفاوت. قال: ولا
خير في السلم في السمك الطري إلا في حينه وزنا معلوما وضربا معلوما؛ لأنه
ينقطع في زمان الشتاء، حتى لو كان في بلد لا ينقطع يجوز مطلقا، وإنما يجوز
وزنا لا عددا لما ذكرنا. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في لحم الكبار منها وهي
التي تقطع اعتبارا بالسلم في اللحم عنده.
قال: ولا خير في السلم في اللحم عند أبي حنيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يجوز السلم فيه) ش: أي في السمك م: (عددا) ش: أي من حيث العدد م:
(للتفاوت) ش: أي لتفاوت آحاده، فإن قيد الصغير والكبير. وقال صاحب " التحفة
" فأما السلم في السمك فقد اضطربت عبارة الروايات عن أصحابنا في الأصل
والنوادر.
والصحيح من المذهب أن السلم يجوز في السمك الصغار وزنا وكيلا، ويستوي فيه
المالح والطري في حينه، وأما الكبار ففيه روايتان عن أبي حنيفة في ظاهر
الرواية يجوز كيفما كان، وفي رواية أبي يوسف في كتب " الأمالي " عنه أنه لا
يجوز، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز في ظاهر الرواية كما في اللحم.
وفي رواية أخرى عنهما لا يجوز، بخلاف اللحم. م: (قال: ولا خير في السلم في
السمك الطري إلى في حينه وزنا معلوما وضربا معلوما؛ لأنه ينقطع في زمان
الشتاء، حتى لو كان في بلد لا ينقطع يجوز مطلقا، وإنما يجوز وزنا لا عددا
لما ذكرنا. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في لحم الكبار منها وهي التي تقطع
اعتبارا بالسلم في اللحم عنده) ش: وقال محمد في " الجامع الصغير " عن يعقوب
عن أبي حنيفة: لا يجوز السلم في السمك الطري، إلا أن يكون في حينه ضربا
معلوما، قال الفقيه أبو الليث السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى:
قال بعض الناس: هذا الحرف خطأ يعني قوله: في حينه، لأن السمك صيد والصيد لا
يكون له حين ففي كل وقت يمكن صيده، ثم قال الصحيح ما ذكره في الكتاب، لأن
صفة الانقطاع أن لا يوجد في الأسواق والسمك الطري ربما يوجد في السوق،
وربما لا يوجد فإن أسلم في وقت يوجد في السوق جاز السلم، وإن أسلم في وقت
لا يوجد في السوق لا يجوز.
[السلم في اللحم]
م: (قال: ولا خير في السلم في اللحم) ش: أي لا يجوز السلم في اللحم م: (عند
أبي حنيفة) ش: وعن العلامة شمس الأئمة الكردي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن
المجتهد إذا استخرج حكما بالرأي، فإن كان في حيز عدم الجواز يقول: لا خير،
وإن كان في حيز الجوز يقول لا بأس تحرزا عن القطع في حكم الله تعالى
بالرأي.
وفي " المبسوط " وإنما قال: لا خير لأنه مختلف في قول أبي حنيفة. وقال
الأكمل: خير نكرة وقعت في سياق النفي فيفيد نفي أنواع الخبر بعمومه، ومعناه
لا يجوز على وجه المبالغة.
(8/340)
وقالا: إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة
معلومة جاز؛ لأنه موزون مضبوط الوصف، ولهذا يضمن بالمثل، ويجوز استقراضه
وزنا، ويجري فيه ربا الفضل، بخلاف لحم الطيور؛ لأنه لا يمكن وصف موضع منه،
وله أنه مجهول للتفاوت في قلة العظم وكثرته أو في سمنه وهزاله على اختلاف
فصول السنة، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة، وفي مخلوع العظم لا يجوز على
الوجه الثاني، وهو الأصح. والتضمين بالمثل ممنوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقالا) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد: م: (إذا وصف) ش: أي رب السلم م: (من
اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز) ش: يعني إذا بين جنسه ونوعه وصنفه
وموضعه كشاة خصي لشيء سمين من الجنب أو الظهر مائة من ربه، قال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الحقائق والعيون " والفتوى على قولهما م: (لأنه)
ش: أي لأن اللحم م: (موزون) ش: في عادة الناس م: (مضبوط الوصف) ش: ببيان
هذه الأشياء. وفي " المبسوط " قيل لا خلاف بينهما وبين أبي حنيفة، بل جواب
أبي حنيفة فيما إذا أطلق السلم في اللحم ومما لا يجوز أن ذلك أيضا وجوبهما
فيما إذا بينا موضعا معلوما، وأبو حنيفة يجوز ذلك أيضا.
والأصح أن الخلاف ثابت وأن عنده لا يجوز السلم وإن بين موضعا معلوما،
وعندهما يجوز إذا بينا موضعا معلوما م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه موزونا
مضبوط الوصف م: (يضمن بالمثل) ش: في زمان العدوان إذا أتلفه الغاصب يضمن
المثل وزنا وما فيه من العظم غير مانع لجوازه لأنه ثابت بأصل الخلقة كالنوى
في التمر، وهكذا يجوز السلم في الألية وإن كانت لا تخلو عن أدنى عظم، ويجوز
السلم في الشحم والألية بالإجماع؛ لأنه موزون معلوم الوصف م: (ويجوز
استقراضه) ش: أي استقراض اللحم م: (وزنا) ش: أي من حيث الوزن م: (ويجري فيه
ربا الفضل) ش: بعلة الوزن م: (بخلاف لحم الطيور) ش: فإنه لا يجوز السلم فيه
م: (لأنه لا يمكن وصف موضع منه) ش: لقلة لحمه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن اللحم م: (مجهول للتفاوت في
قلة العظم وكثرته) ش: فيؤدي إلى المنازعة م: (أو في سمنه) ش: أي أو للتفاوت
في سمنه م: (وهزاله) ش: لأن هذا يختلف م: (على اختلاف فصول السنة) ش: وبقلة
الكلأ وكثرته م: (وهذه الجهالة) ش: أشار به إلى الجهالة في الوجهين م:
(مفضية إلى المنازعة) ش: والمفضي إلى المنازعة مانع م: (وفي مخلوع العظم لا
يجوز على الوجه الثاني) ش: وهو وجه السمن والهزال.
قال صاحب " المختلف " وهو رواية أبي شجاع عن أبي حنيفة م: (وهو الأصح) ش:
أي وهذا هو الأصح؛ لأنه لا يجوز أن يكون الحكم حلالا بعلتين ولا يلزم من
انتفاء إحدى العلتين انتفاء الحكم م: (والتضمين بالمثل ممنوع) ش: هذا جواب
عن قولهما، ولهذا يضمن بالمثل بالمنع وبعد التسليم، فالمثل أعدل من القيمة،
لأن فيه رعاية الصورة والمعنى.
(8/341)
وكذا الاستقراض، وبعد التسليم فالمثل أعدل
من القيمة؛ ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته، أما الوصف فلا
يكتفى به.
قال: ولا يجوز السلم إلا مؤجلا. وقال الشافعي: يجوز حالا لإطلاق الحديث
ورخص في السلم. ولنا وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلى
أجل معلوم» فيما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الإمام ظهير الدين كان: والذي يقول: إن كان اللحم نضيجا فهو من ذوات
القيم وإن كان نيئا ففيه روايتان. وذكر في الجامع الكبير ولو أن رجلا غصب
من رجل لحما فشواه ثم جاء إنسان واستحق ذلك لا يسقط ضمان الغصب، وكان
للمغصوب منه أن يضمنه قيمة اللحم.
وقال الشيخ أبو المعين النسفي في شرح "الجامع الكبير " قول محمد في هذه
المسألة كان للمغصوب منه أن يضمنه قيمة اللحم، نص على أن اللحم مضمون
بالقيمة دون المثل ولا توجد الرواية أنه من ذوات القيم وليس بمثلي إلا في
هذا الموضع، يعني في " الجامع الكبير "، ولهذا قال صاحب " الفتاوى الصغرى "
تضمين اللحم بالمثل قولهما، ثم قال: ورأيت وسط غصب المنتفى روى أبو يوسف عن
أبي حنيفة إذا استهلك لحما كان عليه قيمته.
م: (وكذا الاستقراض) ش: أي ممنوع أيضا وزنا م: (وبعد التسليم) ش: أي وبعد
تسليم الجواز في التضمين بالمثل م: (فالمثل أعدل من القيمة) ش: لأن الأصل
في ضمان العدلان الماثلة في مثل الشيء صورة ومعنى، فيكون أعدل من القيمة
لأنها مثل معنى لا صورة م: (ولأن القبض) ش: يعني في الاستقراض م: (يعاين)
ش: فيقبض حالا فترتفع الجهالة فلا تفضي إلى المنازعة، وهو معنى قوله م:
(فيعرف مثل المقبوض به في وقته) ش: لأن القبض محسوس معاين م: (أما الوصف
فلا يكتفى به) ش: أي السلم يقع على الموصوف في الذمة، ولا يكتفى بالوصف عند
العقد حيث لا يعرف الموجود عند المحل، فلا يكتفى به لبقاء الجهالة المفضية
إلى المنازعة.
[السلم بغير أجل]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز السلم إلا مؤجلا) ش: يعني السلم
الحال وهو السلم بغير أجل، لا يجوز عندنا، وبه قال مالك وأحمد م: (وقال
الشافعي: يجوز حالا) ش: وفي بعض النسخ وقال الشافعي: يجوز أي السلم بدون
الأجل، وبه قال عطاء وأبو ثور واختاره ابن المنذر. وصورة السلم الحال أن
يقول: أسلمت عشرة في كر حنطة ولم يذكر الأجل م: (لإطلاق الحديث) ش: وهو ما
روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن بيع ما
ليس عند الإنسان» م: (ورخص في السلم) ش: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أجاز السلم مطلقا، فاشتراط التأجيل زيادة على النص.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلى أجل معلوم"
فيما روينا) ش: يعني في أوائل الباب وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من
أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم» ، وقد مر الكلام
(8/342)
ولأنه شرع رخصة دفعا لحاجة المفاليس فلا بد
من الأجل ليقدر على التحصيل فيه فيسلم، ولو كان قادرا على التسليم لم يوجد
المرخص فبقي على النافي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه هناك. وقد شرط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأجل
كما ترى.
فإن قيل: معناه من أراد سلما مؤجلا فليسلم إلى أجل معلوم، وبه نقول، والحصر
ممنوع، وحينئذ لم يبق مفيدا فيحمل عليه المطلق، والدليل على ذلك قوله: في
كيل معلوم ووزن معلوم فإنه لا يجوز اجتماع الكيل والوزن في شيء واحد، فكان
معناه في كيل معلوم إن كان كيليا، ووزن معلوم إن كان وزنيا فيقدر إلى أجل
معلوم إن كان مؤجلا.
فالجواب: أن قضية العقد كفت مؤنة التمييز، فلا حاجة إلى التقدير؛ لأنه خلاف
الأصل سلمناه، ولكن لا يلزم من تحمل المحذور لضرورة تحمله ولا لضرورة في
التقدير في الأجل لا يقال العمل بالدليلين ضرورة فيتحمل التقدير لأجله، لأن
قوله: رخص في السلم يدل على جوازه بطريق الرخصة وهي إنما تكون لضرورة ولا
ضرورة في السلم الحال، على أن سوق الكلام لبيان شروط السلم لا لبيان الأجل
فليتأمل.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن السلم م: (شرع رخصة دفعا لحاجة المفاليس فلا بد من
الأجل ليقدر) ش: أي المسلم إليه م: (على التحصيل) ش: أي تحصيل المسلم فيه
م: (فيه) ش: أي فيه الأجل الذي عيناه ليحصل م: (فيسلم) ش: أي المسلم فيه م:
(ولو كان قادرا على التسليم) ش: في الحال لم يوجد المرخص، لأن الرخصة شرعت
لعذر مع قيام المانع وهو بيع المعدوم والعذر هو العجز عن التسليم، ولو قدر
على تسليمه م: (لم يوجد المرخص) ش: فيه وهو عجز المسلم إليه م: (فبقي على
النافي) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تبع ما ليس عندك» .
فإن قيل: لو كانت شرعية السلم دفعا لحاجة المفاليس لكان اختص بحالة
الإفلاس؛ لأنه ثبت على خلاف القياس فيقتصر عليه وليس كذلك، ألا ترى أنه
يجوز بيع الحنطة سلما وعنده أكرار حنطة.
قلنا: إن الشيء لا يباع سلما إلا بأدنى الثمنين والتاجر لا يبيع إلا للربح،
فذاك البيع بأدنى التمييز على أنه لا يبيع إلا للعجز عن الربح ولا عجز إلا
بأن يجعل ما عنده مستغرقا لحاجته، ولأن حقيقة العدم أمر باطني لا يمكن
الوقوف عليه حقيقة، والشرع بنى هذه الرخصة على العدم، فيبني على السبب
الظاهر الدال على العدم ليمكننا تعليق الحكم به والبيع بالخسران دليل
العدم. والجواب عن الحديث الذي استدل به الشافعي أنه يدل على جواز السلم
بطريق الرخصة والضرورة، ونحن نقول به، ولكن لا ضرورة في سلم الحال لأنه إن
كان قادرا انتفت الضرورة وإن لم يكن قادرا انتفى الغرض والمقصود.
(8/343)
قال: ولا يجوز إلا بأجل معلوم لما روينا،
ولأن الجهالة فيه مفضية إلى المنازعة كما في البيع والأجل أدناه شهر، وقيل:
ثلاثة أيام، وقيل: أكثر من نصف اليوم، والأول أصح.
قال: ولا يجوز السلم بمكيال رجل بعينه ولا بذراع رجل بعينه، معناه إذا لم
يعرف مقداره؛ لأنه يتأخر فيه التسليم فربما يضيع فيؤدي إلى المنازعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: معاوضة محضة فلا يكون التأجيل فيها شرطا كما في بيوع الأعيان.
قلت: يبطل ذلك بالكتابة عند الخصم، فإنه يشترط الأجل فيها ويبطل أيضا
بالسلم المعدوم. م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا يجوز) ش: أي السلم م: (إلا
بأجل معلوم لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
من أسلم منكم ... الحديث، وفيه إلى أجل معلوم وقد مر في أوائل الباب، وبه
قال الشافعي وأحمد. وقال مالك: يجوز الأجل إلى الحصاد لعدم إفضائه إلى
المنازعة غالبا م: (ولأن الجهالة فيه مفضية إلى المنازعة كما في البيع) ش:
فيفسد العقد بها م: (والأجل أدناه شهر) ش: قال صاحب " التحفة ": لا رواية
عن أصحابنا في المبسوط في مقدار الأجل، واختلفت الروايات عنهم، والأصح ما
روي عن محمد أنه مقدر بالشهر؛ لأنه أدنى الأجل وأقصى العاجل م: (وقيل ثلاثة
أيام) ش: أي أدنى المدة ثلاثة أيام، وهو قول الشيخ أبي جعفر أحمد بن أبي
عمران الشيخ الطحاوي اعتبارا للأجل الذي ورد الشرع بتقديره بثلاثة أيام،
وهو رواية عن محمد.
وفي " شرح المجمع " وهذا ليس بصحيح، لأن الثلاث هناك أقصى المدة وأدناه غير
مقدر، وهكذا في الإيضاح م: (وقيل أكثر من نصف اليوم) ش: وبه قال أبو بكر
الرازي وبعض أصحاب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المعجل ما كان مقبوضا في
المجلس والمؤجل ما يتأخر قبضه عن المجلس ولا يبقى المجلس بينهما في العادة
أكثر من نصف يوم. وفي " الذخيرة " عن الكرخي: أنه ينظر إلى مقدار المسلم
فيه وإلى عرف الناس في التأجيل فيه فإن كان قدر ما أجل أحد يؤجل مثله في
العرف والعادة يجوز السلم م: (والأول أصح) ش: أي تقدير أجل بشهر هو الأصح.
وقال الصدر الشهيد في طريقته المطولة: والصحيح ما رواه الكرخي أنه مقدار ما
يمكن فيه تحصيل المسلم فيه.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا يجوز السلم بمكيال رجل بعينه ولا بذراع رجل
بعينه) ش: وقال المصنف م: (معناه إذا لم يعرف مقداره) ش: يعني إذا كان لا
يعرف مقدار المكيال والذارع لا يجوز م: (لأنه يتأخر فيه التسليم) ش: أي
تسليم المسلم فيه م: (فربما يضيع) ش: لجواز الهلاك فيعجز عن التسليم م:
(فيؤدي إلى المنازعة) ش: وفي " شرح الطحاوي ": ولو أعلم قدره بملء هذا
الإناء لم يجز إذا كان لا يدري كم يسع فيه، بخلاف بيع العين.
(8/344)
وقد مر من قبل. ولا بد أن يكون المكيال مما
لا ينقبض ولا ينبسط كالقصاع مثلا، فإن كان ما ينكبس بالكبس كالزنبيل
والجراب لا يجوز للمنازعة إلا في قرب الماء للتعامل فيه، كذا روي عن أبي
يوسف. قال: ولا في طعام قرية بعينها؛ أو ثمرة نخلة بعينها؛ لأنه قد يعتريه
آفة فلا يقدر على التسليم، وإليه أشار - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حيث قال:
«أرأيت لو أذهب الله تعالى الثمر بم يستحل أحدكم مال أخيه؟»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه إذا قال: بعت منك من هذه المصيرة بملء هذا الإناء بدرهم يجوز، وروى
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: لا يجوز بيع العين أيضا، ولا يدري كم
يسع في الإناء وقيل هذا إذا كان الإناء من حديد أو خشب أو خزف أو ما أشبه
ذلك فيما لا يحتمل الزيادة والنقصان.
فأما إذا كان الإناء يحتمل الزيادة والنقصان كالزنبيل والجوالق والقرارة
وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز بيع المعين أيضا، إلا أن أبا يوسف استحسن قرب
الماء وأجازه، وإن كان يحتمل الزيادة والنقصان وهو أن يشتري من سقاء كذا
كذا قربة من ماء هذه القرية وعينها جاز البيع فيه م: (وقد مر من قبل) ش: أي
في أول كتاب البيوع في مسألة: ويجوز البيع بإناء معينة.
م: (ولا بد أن يكون المكيال مما لا ينقبض ولا ينبسط كالقصاع مثلا، فإن كان
مما ينكبس) ش: من كبس النهر أي طمه م: (بالكبس كالزنبيل) ش: بكسر الزاي
وسكون النون وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وباللام، ويقال:
الزنبيل بدون النون كذا في بعض النسخ، وفي " المغرب " و" الصحاح ":
والزنبيل، والزنبيل بالفتح بدون التشديد وبالكسر مع التشديد؛ لأنه ليس في
كلام العرب فقيل بالفتح.
م: (والجراب) ش: بكسر الجيم م: (لا يجوز للمنازع إلا في قرب الماء للتعامل
فيه، كذا روي عن أبي يوسف) ش: وقد مر بيانه الآن.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا في طعام قرية بعينها) ش: أي ولا يجوز
السلم في طعام قرية بعينها لاحتمال الانقطاع عنها م: (أو ثمرة نخلة بعينها)
ش: ولا يجوز السلم أيضا في ثمرة نخلة بعينها م: (لأنه قد يعتريه) ش: أي
تصيبه م: (آفة فلا يقدر) ش: حينئذ م: (على التسليم، وإليه) ش: أي إلى هذا
المعنى م: (أشار - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أشار النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (حيث قال: «أرأيت لو أذهب الله تعالى
الثمر بم يستحل أحدكم مال أخيه؟» !) ش: هذا الموضع يحتاج إلى تحرير شاف ولم
أر أحدا من الشراح حرر هذا الموضع كما ينبغي.
والمصنف استدل بهذا الحديث لما ذكره القدوري وليس بمستقيم؛ لأن هذا الحديث
بهذا اللفظ ورد في البيع كما أخرجه البخاري ومسلم «عن حميد عن أنس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن
بيع ثمر النخل حتى تزهو. فقلت لأنس: وما زهوها، قال: تحمر وتصفر
(8/345)
ولو كانت النسبة إلى قرية لبيان الصفة لا
بأس به على ما قالوا كالخشمراني ببخارى والبساخي بفرغانة.
قال: ولا يصح السلم عند أبي حنيفة إلا بسبع شرائط: جنس معلوم كقولنا: حنطة
أو شعير، ونوع معلوم كقولنا: سقية أو بخسية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أرأيتك إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك؟» ! ولم يعرف ورود هذا الحديث
في السلم.
وقال الأترازي: وقال في " شرح الطحاوي ": ولا يجوز السلم في طعام من موضع
بعينه؛ لأنه ورد فيه الخبر وهو ما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه سئل عن السلم في ثمر فلان فقال: أما من ثمر حائط فلان فلا،
أرأيت لو أذهبت الله ثمره فبم يستحل أحدكم مال أخيه؟» فنهى عن ذلك، انتهى.
ولم يبين من الذي رواه من الصحابة ومن الذي استخرجه من أصحاب الصحاح أو
السنن، أفيرضى الخصم بذلك؟!
فإن قلت: في الصحيحين عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن لم يثمرها الله فبم يستحل
أحدكم مال أخيه» فهل يؤخذ بإطلاق هذا اللفظ فيدخل فيه السلم أيضا.
قلت: الظاهر أنه يصرف إلى البيع ولا يؤخذ منه السلم، لأن الروايتين أعني
الأولى التي رواها حميد وهذه الرواية حديث واحد وروده في البيع. قوله:
أرأيت معناه أخبرني.
م: (ولو كانت النسبة إلى قرية لبيان الصفة) ش: أي لبيان أن صفة تلك الحنطة
التي هي المسلم فيه مثل صفة حنطة تلك القرية المعينة لا لتعيين المكان، لأن
المراد الجودة م: (لا بأس به على ما قالوا) ش: أي على ما قال المشايخ م:
(كالخشمراني) ش: أي كالحنطة المنسوبة إلى الخشمران بضم الخاء وسكون الشين
المعجمتين وضم الميم وبالراء وفي آخره نون، وهي قرية من قرى بخارى، ونبه
عليه المصنف بقوله م: (ببخارى) ش: وبخارى مدينة مشهورة بما وراء النهر م:
(والبساخي) ش: أي وكالحنطة المنسوبة إلى بساخ بكسر الباء الموحدة وبالسين
المهملة وبعد الألف خاء معجمة، وهي قرية من قرى فرغانة نبه عليه بقوله م:
(بفرغانة) ش: بفتح الفاء، وسكون الراء وبالغين المعجمة وبعد الألف نون
مفتوحة وهاء، هي بلدة وراء الشاش، وشاش بالمعجمتين مدينة وراء جيحون.
[شروط صحة السلم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يصح السلم عند أبي حنيفة إلا بسبع شرائط)
ش: وفي بعض النسخ بسبعة، والأصح هو الأول م: (جنس معلوم كقولنا حنطة أو
شعير) ش: والثاني م: (ونوع معلوم كقولنا سقية) ش: أي سقيته. وفي " المغرب "
السقية ما يسقى سحا م: (أو بخسيه) ش: بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء
المعجمة وكسر السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبالهاء، وهي الحنطة
المنسوبة إلى البخس، وهي الأرض التي تسقيها السماء لأنها مبخوسة الحظ من
الماء.
(8/346)
وصفة معلومة كقولنا جيد أو رديء، ومقدار
معلوم كقولنا: كذا كيلا بمكيال معروف، أو كذا وزنا، وأجل معلوم. والأصل فيه
ما روينا، والفقه فيه ما بينا. ومعرفة مقدار رأس المال إذا كان يتعلق العقد
على مقداره كالمكيل والموزون والمعدود، وتسمية المكان الذي يوفيه فيه إذا
كان له حمل ومؤنة. وقالا: لا يحتاج إلى تسمية رأس المال إذا كان معينا، ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثالث: هو ما ذكره بقوله م: (وصفة معلومة كقولنا جيد أو رديء) ش: وأشار
إلى الرابع بقوله م: (ومقدار معلوم كقولنا كذا كيلا بمكيال معروف، أو كذا
وزنا) ش: وأشار إلى الخامس بقوله م: (وأجل معلوم) ش: وهذه خمسة متفق عليها،
فلذلك ذكرها مقتصرا عليها ولم يذكر السادس والسابع عقيب هذه الخمسة
للاختلاف فيهما، وذكرهما بعد بعض ألفاظ وبين الخلاف فيهما.
م: (والأصل فيه) ش: أي في اشتراط الشرائط المذكورة م: (ما روينا) ش: وهو
قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - "من أسلم منكم" ... الحديث وقد مضى م:
(والفقه فيه ما بينا) ش: أي الجهالة فيه مفضية إلى النزاع م: (ومعرفة مقدار
رأس المال) ش: هذا هو الشرط السادس من الشروط السبعة التي شرطها أبو حنيفة
وهو عطف على قوله: وأجل معلوم.
وقوله والأصل فيه ما رويناه: الفقه ما بينا، جمل معترضة بين المعطوف
والمعطوف عليه، وقيد بقوله م: (إذا كان) ش: أي رأس المال م: (يتعلق العقد
على مقداره) ش: احترازا عما لا يتعلق العقد بمقداره كالمذروعات، فإنه يجب
فيه بيان مقداره عند أبي حنيفة وعندهما أيضا، وهو قول مالك وأحمد أيضا، وبه
قال الشافعي في قول، وبين قوله إذا كان العقد يتعلق بمقداره بقوله م:
(كالمكيل) ش: من المكيلات م: (والموزون) ش: من الموزونات م: (والمعدود) ش:
من المعدودات، ووجب في كل منهما إعلام مقداره وإن كان مشارا إليه، وبه قال
مالك وأحمد والشافعي في قول، وهو مروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - وقول الفقيه من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مقدم على
القياس.
م: (وتسمية المكان) ش: وهو الشرط السابع وهو عطف على قوله: ومعرفة مقدار
رأس المال م: (الذي يوفيه) ش: أي المسلم م: (فيه) ش: أي في المكان م: (إذا
كان له حمل) ش: بالفتح ذكره في المغرب وهو مصدر حمل الشيء يعنون به ما له
ثقل يحتاج في حمله إلى ظهر وأجرة حمال م: (ومؤنة) ش: أي كلفة، وهذان
الشرطان من السبعة عند أبي حنيفة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
وجه.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (لا يحتاج إلى تسمية رأس
المال إذا كان معينا) ش: أي إذا كان مشارا إليه لا يحتاج إلى تسمية قدره م:
(ولا) ش: أي ولا يحتاج أيضا
(8/347)
إلى مكان التسليم ويسلمه في موضع العقد،
فهاتان مسألتان. ولهما في الأولى أن المقصود يحصل بالإشارة فأشبه الثمن
والأجرة، فصار كالثوب. وله أنه ربما يوجد بعضها زيوفا ولا يستبدل في
المجلس، فلو لم يعلم قدره لا يدري في كم بقي، أو ربما لا يقدر على تحصيل
المسلم فيه فيحتاج إلى رد رأس المال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلى مكان التسليم) ش: أي إلى بيان مكان تسليم المسلم فيه م: (ويسلمه)
ش: أي المسلم إليه المسلم فيه م: (في موضع العقد) ش: وبه قال أبو حنيفة
أولا والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الأصح واختاره المزني. وقال أحمد:
لا يجب ذكر بيان مكان الإيفاء ولو ذكره فهل يبطل المسلم عنه روايتان م:
(فهاتان مسألتان) ش: أي المسألتان اللتان فيهما اختلاف بين أبي حنيفة
وصاحبيه.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (في الأولى) ش: أي في
المسألة الأولى، وهي إعلام مقدار رأس المال م: (أن المقصود) ش: أي من إعلام
مقدار رأس المال القدرة على التسليم وهي م: (يحصل بالإشارة) ش: إلى العين،
فيغني ذلك عن الإعلام بالقدر م: (فأشبه الثمن) ش: يعني في البيع م:
(والأجرة) ش: يعني في الإجارة يعني إذا جعل المكيل والموزون ثمن المبيع أو
أجرة في الإجارة، وأشار إليهما جاز، وإن لم يعرف مقدارهما فكذا ينبغي أن
يكتفي بالإشارة في رأس المال بجامع كونه بدلا م: (وصار كالثوب) ش: أي وصار
هذا كما إذا كان رأس المال ثوبا فإن الإشارة فيه تكفي اتفاقا وإن لم يعرف
ذرعانه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه ربما يوجد بعضها
زيوفا) ش: ثابت لفظ بعضها ليس له وجه، لأن المراد إذا وجد بعض رأس المال
زيوفا م: (ولا يستبدل في المجلس) ش: أي في مجلس الرد م: (فلو لم يعلم قدره)
ش: وفي بعض النسخ فلو لم يعرف قدره، أي قدر رأس المال م: (لا يدري في كم
بقي) ش: بعد إخراج الزيوف وإذا كان معلوما بوزن الزيوف، فيعلم في كم انتقص،
وتحقيقه أن جهالة قدر رأس المال تستلزم جهالة المسلم فيه، لأن المسلم إليه
يتفق رأس المال شيئا فشيئا وربما يجد بعض ذلك زيوفا، ولا يستبدل له في مجلس
الرد فيبطل العقد بقدر ما رده.
فإذا لم يكن مقدار قدر رأس المال معلوما لا يعلم في كم انتقص السلم، وفي كم
بقي فجهالة المسلم فيه مفسدة بالاتفاق، فكذا ما يستلزمها، وهكذا إذا استحق
بعض رأس المال ينفسخ العقد بقدره م: (أو ربما) ش: إشارة إلى وجه آخر لفساده
م: (لا يقدر) ش: أي المسلم إليه م: (على تحصيل المسلم فيه، فيحتاج إلى رد
رأس المال) ش: لأنه ليس لرب السلم حينئذ إلا رأس ماله، وإذا كان مجهول
المقدار تعذر ذلك. فإن قيل: ذلك أمر موهوم لا معتبر به فيما بني على الرخص.
(8/348)
والموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه مع
المنافي، بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا، لأن الذرع وصف فيه لا يتعلق
العقد على مقداره.
ومن فروعه إذا أسلم في جنسين ولم يبين رأس مال كل واحد منهما أو أسلم جنسين
ولم يبين مقدار أحدهما. ولهما في الثانية أن مكان العقد يتعين لوجود العقد
الموجب للتسليم فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجاب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ذلك بقوله م: (والموهوم في هذا العقد
كالمتحقق لشرعه) ش: أي لشرع السلم م: (مع المنافي) ش: إذ القياس يخالفه،
ألا ترى أنه إذا أسلم بمكيال رجل بعنيه لم يجز، لتوهم هلاك ذلك المكيال
وجوده إلى الجهالة.
فإن قيل: هذا اعتبار لشبهة الشبهة، وذلك أن وجود بعض رأس المال زيوفا فيه
شبهة واحتمال؛ لأنه يحتمل أن لا يجد زيوفا وهو الظاهر، وبعد وجود الرد
محتمل وبعد الرد ترك الاستبدال في مجلس الرد محتمل، والمعتبر الشبهة دون
النازلة عنها وهي شبهة الشبهة.
قلنا: هذا شبهة واحدة لأن كلا منهما مبني على وجوده زيوفا فكان شبهة واحدة
فيعتبر.
م: (بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا) ش: هذا جواب عما قاسه عليه من الثوب
وتقريره أن الثوب الذي جعل رأس المال الذي قاسا المتنازع فيه عليه لا يصح
م: (لأن الذرع وصف فيه) ش: أي في الثوب المعين م: (لا يتعلق العقد على
مقداره) ش: ولهذا لو وجده زائدا على المسمى سلم له الزيادة مجانا، ولو وجده
ناقصا لم يحط شيئا من الثمن وليس كلامنا في ذلك، وإنما هو فيما يتعلق العقد
على مقداره فكان قياسا بالفارق ولم تجب على الثمن والأجرة أن الدليل تضمن
ذلك، فإن البيع والإجارة لا ينفسخان برد الثمن والأجرة وترك الاستبدال في
مجلس الرد.
م: (ومن فروعه) ش: أي ومن فروع الاختلاف في معرفة مقدار رأس المال م: (إذا
أسلم في جنسين) ش: بأن قال: أسلمت إليك عشرة دراهم في كر حنطة وكر شعير، أو
في ثوبين مختلفين م: ولم يبين رأس مال كل واحد منهما) ش: فعنده لا يجوز،
وعندهما يجوز م: (أو أسلم جنسين) ش: بأن فال: أسلمت إليك هذه الدراهم
العشرة وهذه الدنانير أو على العكس م: (ولم يبين مقدار أحدهما) ش: أي
الدنانير أو الدراهم العشرة وهكذا، فعند أبي حنيفة لا يجوز، وعندهما يجوز
لما أن إعلام رأس المال شرط عنده والمالية تنقسم على الحنطة والشعير
باعتبار القيمة وطريق معرفة الحرز فلا يكون مقدار رأس المال كل واحد منهما
معلوما، وكذلك في المسألة الثانية، كذا في " المبسوط ".
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (في الثانية) ش: أي في
المسألة الثانية م: (أن مكان العقد يتعين) ش: أي للإيفاء، لأن مكان العقد
مكان الإلزام متعين لإيفاء ما التزمه في ذمته لوضع الاستقراض والاستهلاك م:
(لوجود العقد الموجب للتسليم فيه) ش: أي في
(8/349)
ولأنه لا يزاحمه مكان آخر فيه، فيصير نظير
أول أوقات الإمكان في الأوامر، وصار كالقرض والغصب. ولأبي حنيفة أن التسليم
غير واجب في الحال فلا يتعين، بخلاف القرض والغصب، وإذا لم يتعين فالجهالة
فيه تفضي إلى المنازعة؛ لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف المكان، فلا بد من
البيان، فصار كجهالة الصفة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكان العقد، وما كان كذلك يتعين كما في بيع الحنطة بعينها، فإن التسليم يجب
في موضع العقد م: (ولأنه) ش: أي ولأن مكان العقد م: (لا يزاحمه مكان آخر
فيه) ش: لعدم ما يوجبه ما هو كذلك م: (فيصير نظير أول أوقات الإمكان في
الأوامر) ش: لأن الجزء الأول يتعين للسببية لعدم ما يزاحمه، وهذا على قول
الكرخي في الأمر المطلق، فإنه يتعين وجوب الأداء في أول أوقات المكنة عند
م: (وصار كالقرض والغصب) ش: فإنه يتعين مكان القرض والغصب للتسليم
بالإجماع. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونوقض بما إذا باع طعاما وهو
في السواد.
فإنه روي عن محمد: أن المشتري إن كان يعلم مكان الطعام فلا خيار له، وإن لم
يعلم فله الخيار، ولو تعين مكان البيع للتسليم لما كان له الخيار وعورض بأن
مكان العقد لو تعين لبطل العقد ببيان مكان آخر كما في بيع العين، فإن من
اشترى كر حنطة وشرط على البائع الحمل إلى منزله يفسد عقده، سواء اشتراها في
المصر أو خارجه بجنسه أو بخلاف جنسه.
والجواب على النقص: أن مكان البيع يتعين للتسليم إذا كان المبيع حاضرا
والبيع في السلم حاضر لأنه في ذمة المسلم إليه وهو خاص في مكان العقد،
فيكون المبيع حاضرا بحضوره، وفيه نظر، لأن فيه قيدا لم يذكر في التعليل،
ومثله بعد انقطاعا، وعن المعارضة بأن التعيين بالدلالة، فإذا جاء صريح
يخالفها يبطلها، وإنما فسد في بيع العين؛ لأنه قابل الثمن بالمبيع والحمل
فيصير صفقة في صفقة.
م: (ولأبي حنيفة أن التسليم) ش: أي تسليم السلم فيه م: (غير واجب في الحال)
ش: لاشتراط الأجل بالاتفاق وكل ما هو تسليمه غير واجب في الحال م: (فلا
يتعين) ش: مكان العقد فيه للتسليم م: (بخلاف القرض والغصب) ش: والاستهلاك،
فإن تسليمها يستحق بنفس الالتزام فيتعين موضعه م: (وإذا لم يتعين) ش: أي
مكان العقد للإيفاء بقي مكان الإيفاء مجهولا م: (فالجهالة فيه تفضي إلى
المنازعة؛ لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف المكان) ش: ورب السلم يطالبه في
موضع يكثر فيه الثمن والمسلم إليه يسلمه في اختلاف القيم ذلك م: (فلا بد من
البيان) ش: دفعا للمنازعة م: (فصار كجهالة الصفة) ش: يعني خلال أن اختلاف
الصفة في المسلم فيه تختلف القيمة، فكذلك باختلاف المكان تختلف أيضا، ثم مع
جهالة الصفة لا يجوز السلم فكذلك لا يجوز مع جهالة المكان لهذا المعنى فلا
بد من البيان.
(8/350)
وعن هذا من قال من المشايخ: إن الاختلاف
فيه عنده يوجب التحالف كما في الصفة. وقيل على عكسه لأن تعين المكان قضية
العقد عندهما. وعلى هذا الخلاف الثمن والأجرة
والقسمة. وصورتها إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة.
وقيل: لا يشترط ذلك في الثمن، والصحيح أنه يشترط إذا كان مؤجلا، وهو اختيار
شمس الأئمة السرخسي. وعندهما يتعين مكان الدار ومكان تسليم الدابة للإيفاء.
قال: وما لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء
بالإجماع؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن هذا) ش: أي عن هذا الذي قلنا، وهو اختلاف المكان كجهالة الصفة م:
(قال من قال من المشايخ: إن الاختلاف فيه) ش: أي في مكان الإيفاء م: (عنده)
ش: أي عند أبي حنيفة م: (يوجب التحالف كما في الصفة) ش: أي كما إذا اختلفا
في صفة الجودة والرداءة في أحد بدلي السلم م: (وقيل على عكسه) ش: أي لا
يوجب التحالف عنده بل القول قول المسلم إليه، وعندهما يتحالفان هكذا ذكر
الخلاف القدوري وصاحب " الإيضاح " وصاحب " الكفاية "، لأن المكان يتعين
عندهما وهو معنى قوله م: (لأن تعين المكان قضية العقد) ش: أي مقتضاه م:
(عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد، فكان الاختلاف في المكان كالاختلاف في
نفس العقد، وعنده لما لم يكن من مقتضيات العقد صار بمنزلة الأجل، والاختلاف
فيه لا يوجب التحالف.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: وهو أنه هل يشترط بين مكان إيفاء الثمن في بيع
العين إذا كان له حمل ومؤنة م: (الثمن) ش: صورته جعل المكيل أو الموزون
دينا في الذمة ثمنا في البيع يشترط بيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة، خلافا
لهما م: (والأجرة) ش: صورته منصوص في كتاب الإجارات إذا كان الشيء الذي جعل
أجرا دينا ولحمله مؤمنة عند أبي حنيفة لا يصح إلا بتعيين مكان الإيفاء.
وعندهما يجوز من غير تعيين كما يجيء الآن
[اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل
ومؤنة]
م: (والقسمة، وصورتها إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل
ومؤنة) ش: يشترط بيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة، وعندهما لا يشترط ويتعين
مكان القسمة م: (وقيل: لا يشترط ذلك) ش: أي بيان مكان الإيفاء م: (في
الثمن) ش: عند الكل م: (والصحيح أنه) ش: أي أن بيان مكان الإيفاء م: (يشترط
إذا كان مؤجلا) ش: عند أبي حنيفة م: (وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي) ش:
وبه قال الشافعي.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (يتعين مكان الدار) ش: أي في
إجارة الدار م: (ومكان تسليم الدابة) ش: في إجارة الدابة م: (للإيفاء) ش:
أي لأجل إيفاء الأجرة.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (وما لم يكن له حمل
ومؤنة) ش: كالمسك والكافور والزعفران وصغار اللؤلؤ م: (لا يحتاج فيه إلى
بيان مكان الإيفاء بالإجماع) ش:
(8/351)
لأنه لا يختلف قيمته ويوفيه في المكان الذي
أسلم فيه. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا رواية " الجامع الصغير "
والبيوع، وذكر في الإجارات أنه يوفيه في أي مكان شاء وهو الأصح؛ لأن
الأماكن كلها سواء ولا وجوب في الحال، ولو عينا مكانا قيل لا يتعين لأنه لا
يفيد. وقيل: يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق.
ولو عين المصر فيما له حمل ومؤنة فيكتفى به لأنه مع تباين أطرافه كبقعة
واحدة فيما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي بإجماع الأئمة الأربعة وأصحابهم م: (لأنه) ش: أي لأن ما ليس له حمل
ومؤنة م: (لا يختلف قيمته) ش: لأن الأماكن كلها سواء والمال لا يختلف
باختلاف الأماكن فيما لا حمل ولا مؤنة، وإنما تختلف بعبرة الوجود وكثرة
رغبات الناس وقلتها.
وقيل: ما لم يكن له حمل ومؤنة هو الذي لو أمر إنسانا بحمله إلى مجلس القضاء
مجانا وقيل: وهو ما يمكن رفعه بيد واحدة م: (ويوفيه) ش: أي يوفي المسلم
إليه المسلم فيه م: (في المكان الذي أسلم فيه) ش: لأنهم اتفقوا على أن بيان
مكان الإيفاء فيه ليس بشرط لصحة السلم لعدم اختلاف القيمة، ولكن هل يتعين
مكان العقد للإيفاء فيه روايتان.
أشار المصنف إليهما بقوله: م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي
المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا) ش: أي قوله: ويوفيه في المكان الذي
أسلم فيه م: (رواية " الجامع الصغير " والبيوع) ش: أي بيوع الأصل وهو "
المبسوط " م: (وذكر في الإجارات) ش: أي في كتاب "الإجارات" م: (أنه يوفيه
في أي مكان شاء) ش: أي المسلم إليه م: (وهو الأصح) ش: أي المذكور في
الإجارات هو الأصح، وبه قال الشافعي في الأصح م: (لأن الأماكن كلها سواء)
ش: وقد ذكرناه الآن م: (ولا وجوب في الحال) ش: جواب عن سؤال، وهو أن يقال:
يجوز أن يتعين مكان العقد ضرورة وجوب التسليم، فقال: لا يجب التسليم في
الحال ليتعين ضرورة اعتباره م: (ولو عينا مكانا) ش: أي فيما لا حمل له ولا
مؤنة م: (قيل لا يتعين لأنه) ش: أي لأن التعيين م: (لا يفيد) ش: حيث لا
يلزم بثقله مؤنة م: (وقيل: يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق) ش: لرب السلم.
م: (ولو عين المصر) ش: أي رب السلم م: (فيما له حمل ومؤنة فيكتفى به) ش:
وفي بعض النسخ يكتفى به، أي يتعين المصر م: (لأنه) ش: أي لأن المصر م: (مع
تباين أطرافه كبقعة واحدة) ش: أي كمكان واحد، لأن القيمة لا تختلف باختلاف
المصر عادة، حتى قيل هذا إذا لم يكن المصر عظيما، فلو كان بين نواحيه فرسخ
ولم يبين ناحيته منه لا يجوز، لأن هذه جهالة مفضية إلى المنازعة، كذا في "
المحيط " م: (فيما ذكرنا) ش: قال الكاكي: أي في اختلاف القيمة.
وقال الأترازي: قوله فيما ذكرنا، أي المصر مع تباين أطرافه كبقعة واحدة في
القيمة، حيث لا تختلف باختلاف الحال، وهذا لو دفع المال مضاربة ليعمل
بالكوفة كان له أن يعمل في
(8/352)
قال: ولا يصح السلم حتى يقبض رأس المال قبل
أن يفارقه فيه، أما إذا كان من النقود فلأنه افتراق عن دين بدين، وقد «نهى
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكالئ بالكالئ وإن كان
عينا» فلأن السلم أخذ عاجل بآجل، إذ الإسلام والإسلاف يبنيان عن التعجيل
فلا بد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى الاسم. ولأنه لا بد من تسليم رأس
المال ليتقلب المسلم إليه فيه فيقدر على التسليم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي مكان شاء منها، وقال الأكمل: ومما ذكرنا من أنه لا يختلف قيمته باختلاف
المحلة. وقيل فيما ذكرنا من المسائل وهي الثمن والأجرة والقسمة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يصح السلم حتى يقبض رأس المال قبل أن
يفارقه فيه) ش: أي في المجلس، والمراد منه المفارقة بالأبدان، ألا ترى إلى
ما قال في "شرح الطحاوي ": تسليم رأس المال ليس بشرط في مجلس العقد، وإنما
تسليمه جعل إلى المسلم إليه شرطا قبل الافتراق بالأبدان.
ألا ترى أنهما لو تعاقدا عقد السلم ومكثا بعد ذلك يوما إلى الليل ولم يغب
أحدهما عن صاحبه، ثم أسلم رأس المال وافترقا صح السلم. واعلم أن تسليم رأس
المال قبل المفارقة شرط.
م: (أما إذا كان من النقود) ش: مثل الدراهم والدنانير وافترقا قبل قبض رأس
المال السلم فإنه لا يصح م: (فلأنه افتراق عن دين بدين) ش: وذلك لا يجوز م:
(وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكالئ بالكالئ»
ش: وهذا الحديث قد تقدم أي النسيئة بالنسيئة م: (وإن كان) ش: أي رأس المال
م: (عينا) ش: كالتبر والمصوغ والثوب والحيوان م: (فلأن السلم أخذ عاجل
بآجل) ش: لأنه عقد يثبت الملك في الثمن عاجلا، وفي الثمن آجلا، فاشترط
تعجيل رأس المال ليستحق به المعنى الذي وضع له الاسم م: (إذ الإسلام
والإسلاف يبنيان عن التعجيل) ش: لأن السلم أخذ عاجل بآجل، والسلم فيه آجل،
فيجب أن يكون رأس المال عاجلا ليكون حكمه على وقف ما يقتضيه اسمه كما في
الصرف والحوالة والكفالة.
فإن هذه العقود تثبت أحكامها بمقتضيات أساميها لغة، كذا في " المبسوط "،
فإذا كان الاسم كذلك م: (فلا بد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى الاسم) ش:
أي اسم السلم أو السلف.
م: (ولأنه لا بد من تسليم رأس المال ليتقلب) ش: أي ليتصرف م: (السلم إليه
فيه) ش: أي في رأس المال م: (فيقدر) ش: بالنصب عطفا على ليتقلب م: (على
التسليم) ش: إذا كان فيه الشرط
(8/353)
ولهذا قلنا: لا يصح السلم إذا كان فيه خيار
الشرط لهما أو لأحدهما؛ لأنه يمنع تمام القبض لكونه مانعا من الانعقاد في
حق الحكم، وكذا لا يثبت فيه خيار الرؤية لأنه غير مفيد،
بخلاف خيار العيب لأنه لا يمنع تمام القبض. ولو أسقط خيار الشرط قبل
الافتراق ورأس المال قائم جاز، خلافا لزفر وقد مر نظيره، وجملة الشروط
جمعوها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لهما م: (ولهذا) ش: إيضاح لاشتراط قبض رأس مال السلم م: (قلنا: لا يصح
السلم إذا كان فيه خيار الشرط لهما) ش: أي للمتعاقدين م: (أو لأحدهما) ش:
أي أو كان خيار الشرط لأحدهما م: (لأنه) ش: أي لأن خيار الشرط م: (يمنع
تمام القبض لكنه مانعا من الانعقاد في حق الحكم) ش: وهو ثبوت الملك م:
(وكذا لا يثبت فيه) ش: أي في السلم م: (خيار الرؤية لأنه غير مفيد) ش: إذ
فائدة الخيار رد المبيع والمسلم فيه دين في الذمة.
فإذا رد المقبوض عاد دينا كما كان؛ لأنه لم يرد عين ما تناوله العقد، لأن
العقد لم يتناول هذا المقبوض، وإنما تناول مثله دينا في الذمة فلا ينفسخ
العقد برده، بل يعود حقه في مثله، فإذا لم يفد فائدته لا يثبت بخلاف بيع
العين، فإنه لو رد العين بخيار الرؤية ينفسخ العقد؛ لأنه رد عين ما تناوله
العقد فينفسخ العقد برده، كذا ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ
اللَّهُ -.
وقال الأترازي: قوله: وكذا لا يثبت فيه خيار الرؤية فيه إشكال، لأن الضمير
في قوله: فيه إما أن يراد به رأس المال، أو المسلم فيه، فلا يجوز الأول لأن
خيار الرؤية ثابت في رأس المال، وبه صرح في " التحفة "، ولا يجوز الثاني
أيضا لأنه لا يرتبط به الكلام، لأن سوق كلامه أن تسليم رأس المال شرط قبل
المفارقة، وأوضح ذلك بعدم صحة السلم بخيار الشرط، ويبقى قوله: وكذا لا يثبت
خيار الرؤية فيه أجنبيا، انتهى. وقال الأكمل: إنه يعود إلى المسلم فيه،
وذكره استطرادا ويجوز أن يعود إلى رأس المال.
م: (بخلاف خيار العيب؛ لأنه لا يمنع تمام القبض) ش: لأن تمام العقد يتعلق
بتمام الصفقة وتمام الصفقة يتعلق بتمام الرضا، والرضا تام وقت العقد، كذا
في " المبسوط "، م: (ولو أسقط) ش: أي رب السلم م: (خيار الشرط قبل الافتراق
ورأس المال قائم) ش: أي والحال أن رأس المال قائم في يد المسلم إليه م:
(خيار الشرط قبل الافتراق ورأس المال قائم) ش: أي والحال أن رأس المال قائم
في يد المسلم إليه م: (جاز) ش: أي السلم عندنا، إنما قيد بكون رأس المال
قائما؛ لأنه إذا أسقط خياره بعد هلاك رأس المال في يد المسلم إليه وإنفاقه
لا يعود السلم جائزا بالإجماع م: (خلافا لزفر) ش: والشافعي ومالك أيضا م:
(وقد مر نظيره) ش: أي مر نظير هذا في باب البيع الفاسد وهو أنه إذا باع
لأجل مجهول كالحصاد والدياس ونحوهما ثم تراضيا بإسقاط الأجل قبل الأجل جاز
عندنا خلافا لهم.
م: (وجملة الشروط) ش: أي جملة شروط السلم م: (جمعوها) ش: أي جمعها المشايخ
م:
(8/354)
في قولهم: إعلام رأس المال وتعجيله، وإعلام
المسلم فيه وتأجيله، وبيان مكان الإيفاء والقدرة على تحصيله.
فإن أسلم مائتي درهم في كر حنطة، مائة منها دين على المسلم إليه ومائة
نقدا، فالسلم في حصة الدين باطل لفوات القبض، ويجوز في حصة النقد لاستجماع
شرائطه، ولا يشيع الفساد؛ لأن الفساد طارئ إذ السلم وقع صحيحا، ولهذا لو
نقد رأس المال قبل الافتراق صح، إلا أنه يبطل بالافتراق لما بينا، وهذا لأن
الدين لا يتعين في البيع، ألا ترى أنهما لو تبايعا عينا بدين، ثم تصادقا أن
لا دين، لا يبطل البيع، فينعقد صحيحا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(في قولهم: إعلام رأس المال) ش: هو مشتمل على بيان جنسه وقدره وصفته م:
(وتعجيله) ش: المراد به التسليم قبل الافتراق م: (وإعلام المسلم فيه) ش: أي
وفي إعلام المسلم فيه، وهو مشتمل على بيان الجنس والنوع والصفة والقدر م:
(وتأجيله) ش: يعني أجل معلوم م: (وبيان مكان الإيفاء) ش: أي وفي بيان مكان
إيفاء المسلم فيه م: (والقدرة على تحصيله) ش: أي وفي القدرة على تحصيل
المسلم فيه، وهو أن لا ينقطع، وهذه الشروط مر بيانها جميعا عند قوله: ولا
يصح السلم عند أبي حنيفة إلا بسبع شرائط.
م: (فإن أسلم) ش: وفي نسخة تاج الشريعة، ومن أسلم م: مائتي درهم في كر
حنطة) ش: قال الأترازي: الكر ستون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك
صاع ونصف، وفي " الجامع الصغير " جاء الكر اسم لأربعين قفيزا كذا في "
المغرب "، م: (مائة منها دين على المسلم إليه، ومائة نقدا، فالسلم في حصة
الدين باطل) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لفوات
القبض) ش: في قدر الدين، إذ العقد لا يتعلق بالدين المضاف إليه، وإنما
ينعقد بمثله، وهو غير مقبوض م: (ويجوز في حصة النقد لاستجماع شرائطه) ش: أي
شرائط السلم م: (ولا يشيع الفساد) ش: جواب عن قول زفر، فإنه يقول: يشيع
الفساد ويبطل العقد في حصة النقد أيضا، لأن هذا فساد قوي تمكن في صلب العقد
فيفسد به الكل.
وقال المصنف: ما يشيع الفساد م: (لأن الفساد طارئ) ش: لأنه ما اقترن بأصل
العقد، لأن كونه دينا عفو في المجلس، ألا ترى أنهما لو أخرا التسلم
والتسليم إلى آخر المجلس يكون العقد صحيحا م: (إذ السلم وقع صحيحا، ولهذا
لو نقد رأس المال قبل الافتراق صح) ش: السلم م: (إلا أنه يبطل بالافتراق
لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الكالئ م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: إذ المسلم وقع صحيحا
م: (لأن الدين لا يتعين في البيع) ش: لأن النقود لا تتعين في المعقود إذا
كانت عينا، فكذا إذا كانت دينا، فصار الإطلاق والتقييد سواء.
م: (ألا ترى أنهما لو تبايعا عينا بدين، ثم تصادقا أن لا دين، لا يبطل
البيع، فينعقد صحيحا) ش: ويستدل بهذه المسألة على أن الدين لا يتعين بإضافة
العقد إليه، فيكون الإطلاق والتقييد فيه سواء. وفي " النهاية ": وإنما قيد
بقوله: مائة منها على المسلم إليه؛ لأنه لو كان دينا على
(8/355)
قال: ولا يجوز التصرف في رأس مال السلم
والمسلم فيه قبل القبض، أما الأول فلما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد،
وأما الثاني فلأن المسلم فيه مبيع والتصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأجنبي والمسألة بحالها يشيع الفساد في الكل؛ لأنها ليست بمال في حقهما،
ومذهبنا مروي عن ابن عباس.
فإن قيل: هذا منقوض بثلاث مسائل:
إحداها: أن الرجل إذا قال: إن بعت هذا العبد بهذا الكر من الحنطة وبهذه
الدراهم فهما في المساكين صدقة فباعه بهما يحنث بالكر والدراهم، وهذا آية
تعيين النقود.
وثانيها: أن الرجل إذا باع دينارا بعشرة فنقد الدينار ولم يقبض العشرة، حتى
اشترى بالعشرة ثوبا فالبيع فاسد.
ثالثها: أن الرجل إذا باع عينا بدين وهما يعلمان أن لا دين فالبيع فاسد،
ولو كان الإطلاق والتقييد سواء لجاز العقدان ولما حنث في المسألة الأولى.
قلنا: أما الأولى: فنحن ندعي أن النقود لا تتعين في العقد استحقاقا لا
جوازا فلا يلزم لأنها تتعين جوازا لا استحقاقا، وأما الثانية: فلانتقاض
الصرف باختلاف الجنس بالاستعمال بالعقد الآخر، فيتحقق البيع بلا ثمن.
وأما الثالثة: فإنما لم يجز البيع لمكان الهازل به، لأن هذا بيع بلا ثمن،
فيكون منهما تهازلا به وهي تتعين في حق الجواز.
[التصرف في رأس مال السلم والمسلم فيه قبل
القبض]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز التصرف في رأس مال السلم والمسلم فيه
قبل القبض) ش: هذا باتفاق الفقهاء م: (أما الأول) ش: أي التصرف في رأس
المال السلم قبل القبض م: (فلما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد) ش: لأن
قبض رأس المال في المجلس حق الله تعالى، والتصرف يبطله، وإنما شرط القبض
احترازا عن الكالئ بالكالئ، فلو جاز التصرف فيه بالبيع والهبة والوصية
ونحوها فات الشرط.
م: (وأما الثاني) ش: وهو التصرف في المسلم فيه قبل القبض م: (فلأن المسلم
فيه مبيع، والتصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز) ش: أما لو دفع إليه أردأ
أو أجود برضا المسلم إليه جاز؛ لأنه جنس حقه فلم يكن استبدالا، ولو أبرأه
عنه فقيل: يبطل العقد لعدم القبض، ولو رد البراءة لم تبطل والتخلية فيه قبض
عند محمد خلافا لأبي يوسف، وإنما قيد بقوله: قبل القبض احترازا عما بعد
القبض، ولهذا قال في " شرح الطحاوي ": ولا بأس أن يبيع رب السلم سلمه بعد
قبضه إياه مرابحة على رأس المال، وأن يبيعه تولية، وأن يبيعه مواضعة، وأن
يشرك فيه
(8/356)
ولا يجوز الشركة والتولية في المسلم فيه؛
لأنه تصرف فيه، فإن تقايلا السلم لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس
المال شيئا، حتى يقبضه كله؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تأخذ إلا
سلمك أو رأس مالك» أي عند الفسخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غيره.
م: (ولا يجوز الشركة والتولية في المسلم فيه) ش: قبل قبضه م: (لأنه) ش: أي
لأن كل واحد من الشركة والتولية م: (تصرف فيه) ش: أي في المسلم فيه والتصرف
فيه قبل القبض لا يجوز، وهذا أيضا من لفظ القدوري، وإنما خصهما بالذكر
بعدما عمهما بقوله: ولا يجوز التصرف.... إلى آخره؛ لأنهما أكثر وقوعا من
المرابحة والمواضعة، وقيل: احترازا عن قول البعض إنه يجوز عنده التولية في
بيع العين والسلم، وحكي ذلك عن مالك.
م: (فإن تقايلا السلم لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئا،
حتى يقبضه كله) ش: هذه من مسائل " الجامع الصغير "، وصورة المسألة فيه:
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل أسلم إلى رجل عشرة
دراهم في كر حنطة فتقايلا السلم، فأراد رب السلم أن يشتري برأس المال شيئا
قبل أن يقبضه، قال: ليس له ذلك ولا يجوز شراؤه.
قوله: لم يكن له أن يشتري، وفي " الإيضاح ": هذا الاستحسان، والقياس لا
يجوز، وهو قول زفر والشافعي لأنهما لما تقايلا بطل السلم، وبقي رأس المال
دينا في حصته فيصح الاستبدال به كسائر الديون؛ لأنه لا يجب قبضه في المجلس،
ودليلنا قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تأخذ
إلا سلمك أو رأس مالك» ش: لم أر أحدا من الشراح بين حال هذا الحديث، غير أن
الأترازي قال: واحتج أصحابنا بما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» ورواه الترمذي في علله الكبير، وقال: لا
أعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وهو حديث حسن.
(8/357)
ولأنه أخذ شبها بالمبيع فلا يحل التصرف فيه
قبل قبضه، وهذا لأن الإقالة بيع جديد في حق ثالث، ولا يمكن جعل المسلم فيه
مبيعا لسقوطه فجعل رأس المال مبيعا؛ لأنه دين مثله، إلا أنه لا يجب قبضه في
المجلس؛ لأنه ليس في حكم الابتداء من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه ابن ماجه في سننه عن عطية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مرسلا ولم يذكر فيه أبا سعيد، ورواه الدارقطني في سننه بلفظ:
فلا يأخذ إلا ما أسلم فيه أو رأس ماله، وهذا قريب من لفظ المصنف.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن قتادة عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا أسلفت في شيء فلا تأخذ إلا رأس مالك أو الذي
أسلمت فيه م: (أي عند الفسخ) ش: هذا تفسير من المصنف، والمعنى لا تأخذ إلا
سلمك، أي المسلم فيه حال قيام العقد أو رأس مالك عند الانفساخ إذ لا يمكنه
أخذه حال قيام العقد، فقد جعل حق رب السلم أخذ المسلم فيه وبعده أخذ رأس
المال.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن رأس المال م: (أخذ شبها بالمبيع، فلا يحل التصرف فيه
قبل قبضه) ش: أي في رأس المال قبل قبضه م: (وهذا) ش: أي كونه مشابها للمبيع
م: (لأن الإقالة بيع جديد) ش: أي بيع ابتداء م: (في حق ثالث) ش: أي غير
المتعاقدين م: (ولا يمكن جعل المسلم فيه مبيعا لسقوط) ش: أي بالإقالة، هذا
جواب سؤال، وهو أن يقال: لم لا يجوز أن يجعل بيعا جديدا في جانب المسلم فيه
حتى لا يكون لرأس المال جهة كونه مبيعا.
فقال: لا يمكن جعله مبيعا لسقوطه لأنه دين يثبت بالسلم ويسقط بالإقالة.
ولهذا إن الإقالة في باب السلم لا تحتمل النقض بعد وقوعها لسقوط المسلم فيه
عن الذمة، فلو صح بنقضها لعاد المسلم فيه واجبا، والساقط لا يعود م: (فجعل
رأس المال مبيعا لأنه دين مثله) ش: أي مثل المسلم فيه، وجعل الدين مبيعا
ليس بمحال فجعل رأس المال مبيعا ضرورة إذ لو لم يجعل مبيعا تبطل الإقالة،
ألا ترى أنهما لو تقايلا في باب البيع وهلك المبيع بعد الإقالة قبل القبض
تبطل الإقالة، وهاهنا لما تقايلا سقط والمسلم فيه، وصار كالهالك، فلو لم
يجعل رأس المال مبيعا لبطلت الإقالة، وقد صحت هاهنا، فلا بد من قيام
المعقود عليه.
وليس ذلك إلا رأس المال لسقوط المسلم فيه، إلا أنه لا يجب، جواب سؤال وهو
أن يقال: لو كان هذا بمنزلة بيع جديد وجب أن يقبض رأس المال في المجلس، لأن
إقالة بيع السلم بمنزلة بيع السلم وفيه القبض شرط وبالإجماع لا يجب قبضه في
المجلس.
فأجاب بقوله: م: (إلا أنه) ش: أي أن رأس المال م: (لا يجب قبضه في المجلس
لأنه) ش: أي لأن الإقالة على تأويل تصرف الإقالة م: (ليس في حكم الابتداء)
ش: أي ابتداء عقد المسلم م: (من
(8/358)
كل وجه وفيه خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ
-، والحجة عليه ما ذكرناه.
قال: ومن أسلم في كر حنطة، فلما حل الأجل اشترى المسلم إليه من رجل كرا،
وأمر رب السلم بقبضه قضاء لم يكن قضاء، وإن أمره أن يقبضه له ثم يقبضه
لنفسه فاكتاله له ثم اكتاله لنفسه جاز؛ لأنه اجتمعت الصفقتان بشرط الكيل،
فلا بد من الكيل مرتين لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان، وهذا هو محمل الحديث على ما مر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل وجه) ش: لأن المسلم عقد من كل وجه.
والإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع في حق ثالث، فكان عقدا من وجه م: (وفيه)
ش: أي وفي جعل رأس المال بعد الإقالة مبيعا م: (خلاف زفر - رَحِمَهُ
اللَّهُ -) ش: والشافعي أيضا، فإنهما يقولان: لو تقايلا السلم واشتري رب
السلم برأس المال شيئا قبل القبض يجوز ذلك، وهو القياس لأنهما لما تقايلا
ارتفع العقد وعاد الملك في الدراهم على قديم الملك، فجاز الاستبدال عنه،
ولهذا لم يجب قبضه في المجلس فصار كدين القرض والغصب.
م: (والحجة عليه) ش: أي على زفر م: (ما ذكرناه) ش: أي من الحديث والمعقول.
أما الحديث فهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس
مالك» .
وأما المعقول فهو ما ذكره من قوله: " ولأنه أخذ شبها بالمبيع..... إلى
آخره، وقد مر بيانه.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: ومن أسلم في كر حنطة فلما حل
الأجل) ش: أي أجل السلم م: اشترى المسلم إليه من رجل كرا) ش: وهو ستون
قفيزا م: وأمر رب السلم بقبضه) ش: أي بقبض الكر الذي اشتراه من رجل م:
(قضاء) ش: أي لأجل القضاء لحقه م: (لم يكن قضاء) ش: أي لم يكن إذا لحقه،
وفي الثاني: إذا أمره بقبضه فاقتضاه رب السلم لم يكن قبضا عن المسلم فيه
حتى لو هلك المقبوض في يد رب السلم هلك من مال المسلم إليه م: (وإن أمره أن
يقبضه له) ش: أي وإن أمر المسلم إليه رب السلم أن يقبضه، أي يقبض السلم فيه
لأجل المسلم إليه م: (ثم يقبضه لنفسه فاكتاله له) ش: أي لأجل المسلم إليه
م: (ثم اكتاله لنفسه جاز؛ لأنه اجتمعت الصفقتان بشرط الكيل) ش: أحدهما صفقة
عقد السلم، والثانية هي الصفقة التي جرت بين المسلم إليه مع رب السلم م:
(فلا بد من الكيل مرتين لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان) ش: تقدم هذا الحديث في المرابحة
والتولية م: (وهذا هو محمل الحديث) ش: يعني معنى قوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: حتى يجري فيه صاعان هو محمل الحديث، يعني اجتماع الصفقتين
المذكورتين: م: (على ما مر) ش: في الفصل الذي بعد باب المرابحة والتولية،
وهو قوله: ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين على ما نبين. والأصل في هذا أن
العقد إذا وقع مكايلة أو موازنة لم
(8/359)
والسلم وإن كان سابقا لكن قبض المسلم فيه
لاحق، وأنه بمنزلة ابتداء البيع؛ لأن العين غير الدين حقيقة، وإن جعل عينه
في حق حكم خاص وهو حرمة الاستبدال فيتحقق البيع بعد الشراء، وإن لم يكن
سلما وكان قرضا فأمره بقبض الكر جاز؛ لأن القرض إعارة، ولهذا ينعقد بلفظ
الإعارة، فكان المردود عين المأخوذ مطلقا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجز للمشتري أن يتصرف حتى يعيد الكيل أو الوزن ثانيا للحديث المذكور، وهو
ما رواه ابن ماجه في سننه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يجري فيه
الصاعان» صاع البائع وصاع المشتري، والسلم بيع بشرط الكيل فيشترط الكيل
ثانيا؛ لأنه إذا كاله ثانيا ربما يزيد على قدر الكر فلا تسلم له الزيادة،
فلو جاز التصرف قبل الكيل ثانيا يلزم التصرف في مال الغير وهو حرام.
م: (والسلم وإن كان سابقا) ش: هذا جواب عما يقال: بيع المسلم إليه مع رب
المسلم كان سابقا على شراء المسلم إليه من بائعه، فلا يكون المسلم إليه
بائعا بعد المشتري فلم تتحقق الصفقة الثانية ليدخل تحت النهي.
وتقرير الجواب: القول بموجب العلة سلمنا ذلك، ولكن السلم وإن كان سابقا على
شراء المسلم إليه من بائعه م: (لكن قبض المسلم فيه لاحق) ش: في التقدير
فتجتمع الصفقتان في التقدير م: (وأنه) ش: أي وأن قبض المسلم فيه م: (بمنزلة
ابتداء البيع) ش: تحقيق هذا ما قاله المقبوض في مسائل السلم غير المسلم فيه
حقيقة، فباعتبار هذه الحقيقة لم يكن المقبوض عين ما تناوله العقد فلا بد من
طريق يجعل بذلك الطريق كأنه عين المعقود عليه، وذلك بأن يجعل عند القبض
كأنهما جددا ذلك العقد على المقبوض، وإنما قال: بمنزلة ابتداء البيع، لأن
المسلم فيه دين في ذمته والمقبوض عين وهو غير الدين، وهو معنى قوله م: (لأن
العين غير الدين حقيقة) ش: وهو ظاهر، وقوله م: (وإن جعل) ش: كلمة إن واصلة
بما قبله، أي وإن جعل الدين م: (عينه) ش: أي وإن جعل المقبوض عين الدين م:
(في حق حكم خاص وهو حرمة الاستبدال) ش: لأنه لو لم يجعل في حق الاستبدال
عين حقه يلزم استبدال المبيع قبل قبضه، وذا لا يجوز.
وإذا جعل الدين عين المقبوض الذي هو الدين ضرورة حرمة الاستبدال فلا يتعدى،
فبقي ما وراءه كالبيع م: (فيتحقق البيع بعد الشراء) ش: أي بيع السلم إليه
من رب المسلم بعد شراء المسلم إليه من بائعه بشرط الكيل، فقد اجتمعت
الصفقتان فلا بد من تكرار الكيل.
م: (وإن لم يكن) ش: أي الكر م: (سلما وكان قرضا فأمره) ش: أي فأمر المستقرض
القرض م: (بقبض الكر جاز، لأن القرض إعارة، ولهذا) ش: أي ولأجل كون القرض
إعارة م: (ينعقد) ش: أي القرض م: (بلفظ الإعارة) ش: بأن يقول: أعرتك هذا
المبلغ من الدراهم أو الدنانير، فإذا كان إعارة م: (فكان المردود عين
المأخوذ) ش: أي عين المقبوض م: (مطلقا) ش: أي سواء كان في
(8/360)
حكما، فلا تجتمع الصفقتان.
قال: ومن أسلم في كر فأمر رب السلم أن يكيله المسلم إليه في غرائر رب
السلم، ففعل وهو غائب، لم يكن قضاء؛ لأن الأمر بالكيل لم يصح؛ لأنه لم
يصادف ملك الأمر؛ لأن حقه في الدين دون العين، فصار المسلم إليه مستعيرا
للغرائر منه، وقد جعل ملك نفسه فيها، فصار كما لو كان عليه دراهم دين فدفع
إليه كيسا ليزنها المديون فيه لم يصر قابضا؛ ولو كانت الحنطة مشتراة
والمسألة بحالها صار قابضا، لأن الأمر قد صح حيث صادف ملكه؛ لأنه ملك العين
بالبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق الاستبدال أو غيره م: (حكما) ش: أي تقديرا، ولا يلزم تمليك الشيء بجنسه
نسيئة، وهو ربا، فإذا كان كذلك م: (فلا تجتمع الصفقتان) ش: فيكتفى بكيل
واحد.
وفي " الشامل " في كل موضع وجد عقدان لا يكتفى بكيل واحد، وإن كان بحضرة
الآخر وفي كل موضع وجد عقد واحد يكتفى فيه بكيل واحد، وكذلك إذا اشترى
موازنة لا يتصرف ما لم يستزنه، فإن اشترى مجازفة أو أخذ قرضا جاز أن يترك
الكيل والوزن. ولو اشترى المعدود عدا هل يشترط العد ثانيا، فيه روايتان.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن أسلم في كر فأمر رب
السلم أن يكيله المسلم إليه في غرائر رب السلم) ش: الغرائر جمع غرارة بكسر
الغين المعجمة، قال الجوهري: الغرارة واحدة الغرائر التي للتبين وما أظنه
عربيا م: (ففعل وهو) ش: أي رب السلم م: (غائب لم يكن قضاء) ش: أي قبضا يريد
به إذا كان الطعام عينا، وإنما قيد بقوله: وهو غائب لأنه إذا كان حاضرا صار
المسلم إليه قابضا سواء كان الغرائر له أو للبائع أو كانت مستأجرة، وبه صرح
الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما لم يكن قضاء م: (لأن الأمر
بالكيل لم يصح؛ لأنه لم يصادف ملك الأمر) ش: لأنه تناول عينا مملوكة للبائع
م: (لأنه حقه) ش: أي حق رب السلم م: (في الدين دون العين) ش: لأن جعل العين
وهو وصف ثابت في الذمة في غرائر رب السلم محال.
وحقه في العين إنما يتحقق بالقبض ولم يوجد م: (فصار المسلم إليه مستعيرا
للغرائر منه) ش: أي من رب السلم م: (وقد جعل ملك نفسه إليه) وقد جعل المسلم
إليه ملك نفسه في الغرائر فلم يصر رب السلم قابضا حتى إذا هلك الكر هلك من
مال المسلم إليه وبقي الدين في ذمته كما كان.
م: (فصار) ش: أي رب السلم م: (كما لو كان عليه دراهم دين فدفع إليه) ش: أي
فدفع الدائن المديون م: (كيسا ليزنها المديون فيه) ش: أي في الكيس م: (لم
يصر قابضا) ش: بوزنه فيه م: (ولو كانت الحنطة مشتراة) ش: بأن اشترى حنطة
بعينها م: (والمسألة بحالها) ش: وهي أنه دفع غرائره إلى البائع وقال:
اجعلها فيها ففعل والمشتري حاضر أو غائب م: (صار قابضا؛ لأن الأمر قد صح
حيث صادف ملكه؛ لأنه ملك العين بالبيع) ش: يعني بنفس العقد فصح الأمر
لمصادفة الملك.
(8/361)
ألا ترى أنه لو أمره بالطحن كان الطحين في
السلم للمسلم إليه، وفي الشراء للمشتري لصحة الأمر، وكذا إذا أمر أن يصبه
في البحر في السلم يهلك من مال المسلم إليه، وفي الشراء من مال المشتري،
ويتقرر الثمن عليه لما قلنا، ولهذا يكتفى بذلك الكيل في الشراء في الصحيح؛
لأنه نائب عنه في الكيل والقبض بالوقوع في غرائر المشتري،
ولو أمره في الشراء أن يكيله في غرائر البائع ففعل لم يصر قابضا؛ لأنه
استعار غرائره ولم يقبضها فلا تصير الغرائر في يده، فكذا ما يقع فيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا صح صار البائع وكيلا عنه في إمساك الغرائر فبقيت الغرائر في يد
المشتري حكما، فصار الواقع فيها واقعا في يد المشتري حكما لأن فعل نائبه
كفعله، حتى لو كانت الغرائر للبائع لا يصير قابضا في رواية عن محمد. وقال
الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصير قابضا سواء كانت الغرائر
للمشتري أو للبائع كما في السلم.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لتملكه بالبيع م: (أنه) ش: أي أن المشتري م: (لو
أمره) ش: أي لو أمر البائع م: (بالطحن) ش: أي بطحن الحنطة المشتراة م: (كان
الطحين في السلم للمسلم إليه) ش: لأن الأمر بالطحن في السلم لم يصح؛ لأنه
تلافى ملك المسلم إليه فلا يصح م: (وفي الشراء) ش: أي وكان الطحين في
الشراء م: (للمشتري لصحة الأمر) ش: لأنه لافى ملك المشتري.
م: (وكذا) ش: الحكم م: (إذا أمره) ش: أي المشتري م: (أن يصبه في البحر) ش:
ففعل م: (في السلم يهلك من مال المسلم إليه، وفي الشراء من مال المشتري) ش:
لصحة الأمر م: (ويتقرر الثمن عليه) ش: وليس ذلك إلا باعتبار صحة الأمر
وعدمها وصحة موقوفه على الملك، فلولا أنه ملكه لما صح أمره م: (لما قلنا)
ش: إشارة إلى قوله صح الأمر.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الأمر قد صح م: (يكتفى بذلك الكيل في الشراء في
الصحيح) احترز به عما قيل في الشراء لا يكتفى بكيل واحد، بل يشترط كيلان
وعلل الصحيح بقوله: م: (لأنه) ش: أي لأن البائع م: (نائب عنه) ش: أي عن
المشتري م: (في الكيل) ش: فيكتفى بكيل واحد م: (والقبض) ش: مرفوع بفعل
مقدر، أي وحصل القبض م: (بالوقوع في غرائر المشتري) ش: وهذا جواب عما يقال:
البائع مسلم فكيف يكون متسلما؟ وتقرير الجواب أن القبض يتحقق بالوقوع في
غرائر المشتري فلا يكون مسلما ومتسلما.
[أمر المشتري البائع في الشراء أن يكيله في
غرائر البائع]
م: (ولو أمره) ش: أي ولو أمر المشتري البائع م: (في الشراء أن يكيله في
غرائر البائع ففعل لم يصر قابضا لأنه) ش: أي لأن المشتري م: (استعار
غرائره) ش: أي غرائر البائع م: (ولم يقبضها) ش: أي والحال أن المشتري لم
يقبض الغرائر م: (فلا تصير الغرائر في يده) ش: لأن الاستعارة تبرع فلا تتم
بدون القبض م: (فكذا ما يقع فيها) ش: أي فكذا لا يصير المشتري قابضا ما في
الغرائر، وفي
(8/362)
وصار كما لو أمره أن يكيله ويعزله في ناحية
من بيت البائع؛ لأن البيت بنواحيه في يده فلم يصر المشتري قابضا. ولو اجتمع
الدين والعين والغرائر للمشتري إن بدأ بالعين صار قابضا، أما العين فلصحة
الأمر فيه، وأما الدين فلاتصاله بملكه وبمثله يصير قابضا، كمن استقرض حنطة
وأمره أن يزرعها في أرضه، وكمن دفع إلى صائغ خاتما وأمره أن يزيده من عنده
نصف دينار، وإن بدأ بالدين لم يصر قابضا. أما الدين فلعدم صحة الأمر. وأما
العين فلأنه خلطه بملكه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض النسخ: فيه قال الكاكي: أي في الغرائر على تأويل الظرف أو المذكور وذلك
لعدم صحة العارية لعدم القبض، وكذا لا يصير الواقع فيها قبضا.
م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما لو أمره) ش: أي كحكم ما لو أمر المشتري
البائع م: (أن يكيله) ش: أن يكيل الكر م: (ويعزله في ناحية من بيت البائع)
ش: أي أمره بأن يعزل الكر في جانب من بيت البائع فعزله لا يكون المشتري
قابضا، فكذا هذا م: (لأن البيت بنواحيه) ش: أي بجوانبه الأربعة م: (في يده)
ش: أي في يد البائع، فإذا كان كذلك م: (فلم يصر المشتري قابضا، ولو اجتمع
الدين والعين) ش: صورته اشترى كرا معينا وله على البائع كر آخر دين وهو
المسلم فيه م: (والغرائر للمشتري) ش: أي والحال أن الغرائر للمشتري وأمره
أن يجعل الدين والعين فيها م: (إن بدأ) ش: أي إن بدأ البائع وهو المسلم
إليه م: (بالعين) ش: أي بالمشترى بفتح الراء م: (صار) ش: أي المشتري بكسر
الراء م: (قابضا) ش: أي صار قابضا للكيل والعين والدين.
م: (أما العين) ش: أي أما صحة قبض العين م: (فلصحة الأمر فيه) ش: أي في
العين م: (وأما الدين) ش: أي وأما صحة قبض الدين م: (فلاتصاله بملكه) ش: أي
فلاتصال الدين بملكه، أي بملك المشتري، لأن العين في يده حكما م: (وبمثله
يصير قابضا) ش: أي وبمثل اتصال الدين بالكيل بالرضا يثبت القبض، فيصير
المشتري قابضا م: (كمن استقرض حنطة) ش: أي نظير الحكم المذكور نظير من
استقرض كرا من حنطة م: (وأمره أن يزرعها في أرضه) ش: أي وأمر المقرض
المستقرض أن يزرع الحنطة في أرض المستقرض صح القرض، وصار المستقرض قابضا له
باتصاله بملكه فكذا هذا.
م: (وكمن دفع) ش: أي ونظير الحكم المذكور أيضا نظير من دفع م: (إلى صائغ
خاتما وأمره أن يزيده) ش: أي يزيد الخاتم م: (من عنده) ش: أي من عند الصائغ
م: (نصف دينار) ش: جاز لأنه يصير قرضا ويصير بالاتصال إلى ملكه قابضا م:
(وإن بدأ بالدين) ش: ثم بدأ بالعين م: (لم يصر قابضا، أما الدين فلعدم صحة
الأمر) ش: لعدم مصادفة الملك، لأن حقه في الدين لا في العين. وهذا عين فكان
المأمور يجعله في الغرائر متصرفا في ملك نفسه فلا يكون فعله كفعل الآمر.
م: (وأما العين) ش: أي وأما عدم صحة القبض في العين م: (فلأنه خلطه بملكه)
ش: أي فلأن
(8/363)
قبل التسليم، فصار مستهلكا، عند أبي حنيفة
فينتقض البيع، وهذا الخلط غير مرضي به من جهته لجواز أن يكون مراده البداية
بالعين، وعندهما هو بالخيار إن شاء نقض البيع، وإن شاء شاركه في المخلوط؛
لأن الخلط ليس باستهلاك عندهما.
قال: ومن أسلم جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه، ثم تقايلا، فماتت في
يد المشتري، فعليه قيمتها يوم قبضها. ولو تقايلا بعد هلاك الجارية جاز؛ لأن
صحة الإقالة تعتمد بقاء العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البائع خلط كر المشتري بملكه، أي بملك نفسه م: (قبل التسليم) ش: بحيث لا
يمتاز م: (فصار) ش: أي البائع م: (مستهلكا) ش: أي المبيع م: (عند أبي حنيفة
فينتقض البيع) ش: أي ينفسخ العقد م: (وهذا الخلط) ش: هذا جواب عما يقال: إن
الخلط حصل بإذن المشتري فلا ينتقض البيع، وتقرير الجواب: أن هذا الخلط على
هذا الوجه م: (غير مرضي به من جهته) ش: أي من جهة المشتري أراد أن الخلط
على هذا الوجه ما حصل بإذن المشتري بل الخلط على وجه يصير الآمر به قابضا
هو الذي كان مأذونا به، وهاهنا لم يصر الخلط مأذونا مرضيا به، وإنما أذن له
بأن يخلط على وجه يصير قابضا بالبداية بالعين.
وقال الأكمل: وفي عبارة المصنف تسامح؛ لأنه حكم بكون الخلط غير مرضي به
جزما، واستدل بقوله م: (لجواز أن يكون مراده البداية بالعين) ش: فيكون
الدليل أعم من المدعى، ولا دلالة للأعم على الأخص. ويجوز أن يقال: كلامه في
قوة الممانعة، فكأنه قال: ولا نسلم أن هذا الخلط مرضي به، وقوله: لجواز سند
المنع فاستقام الكلام.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد م: (هو) ش: أي المشتري م: (بالخيار
إن شاء نقض البيع وإن شاء شاركه في المخلوط، لأن الخلط ليس باستهلاك
عندهما) ش: وقال الإمام قاضي خان: ما ذكر من جواب الكتاب قول محمد، أما عند
أبي يوسف إذا بدأ بالعين ضرورة اتصاله بملكه في الصورتين، إذ الخلط ليس
باستهلاك وعند محمد يصير قابضا للعين دون الدين، قلت: عند الشافعي لا يصير
قابضا سواء بدأ بالعين أو بالدين.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن أسلم جارية في كر
حنطة وقبضها المسلم إليه ثم تقايلا) ش: أي المسلم م: (فماتت) ش: أي الجارية
م: (في يد المشتري) ش: أي المسلم إليه، وإنما سماه مشتريا بالنظر إلى شرائه
الجارية بالحنطة، لأن كلا في العينين الثمن والمثمن م: (فعليه) ش: أي فعلى
المشتري م: (قيمتها) ش: أي قيمة الجارية م: (يوم قبضها) ش: يعني لما ثبتت
الإقالة وجب ردها، وقد عجز فيجب رد بدلها، وبه قال الشافعي وإنما قال: يوم
قبضها، لأن السبب الموجب للضمان إنما هو القبض فصار كالغصب.
م: (ولو تقايلا بعد هلاك الجارية جاز) ش: أي التقايل م: (لأن صحة الإقالة
تعتمد بقاء العقد)
(8/364)
وذلك بقيام المعقود عليه. وفي السلم
المعقود عليه إنما هو المسلم فيه فصحت الإقالة حال بقائه. وإذا جاز ابتداء
أولى أن يبقى انتهاء؛ لأن البقاء أسهل، وإذا انفسخ العقد في المسلم فيه
انفسخ في الجارية تبعا فيجب عليه ردها وقد عجز فيجب عليه رد قيمتها،
ولو اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد المشتري بطلت الإقالة،
ولو تقايلا بعد موتها فالإقالة باطلة؛ لأن المعقود عليه في البيع إنما هو
الجارية، فلا يبقى العقد بعد هلاكها، فلا تصح الإقالة ابتداء فلا تبقى
انتهاء لانعدام محله، وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وفي بعض النسخ: يعتمد قيام العقد م: (وذلك) ش: أي بقاء العقد م: (بقيام
المعقود عليه، وفي السلم المعقود عليه إنما هو المسلم فيه فصحت الإقالة حال
بقائه) ش: أي حال بقاء المعقود عليه م: (وإذا جاز) ش: أي التقايل بعد موتها
م: (ابتداء أولى أن يبقى) ش: بعد موتها م: (انتهاء، لأن البقاء أسهل) ش: من
الابتداء.
فإن قيل: ينبغي أن لا تصح الإقالة بعد هلاك الجارية لأنها بعد الهلاك
بمنزلة المسلم فيه من حيث وجوب قيمتها دينا في الذمة والمسلم فيه قد سقط
أيضا بالإقالة، فصار بمنزلة العوضين في بيع المقايضة، فإنه إذا هلك أحد
العوضين في المقايضة ثم تقايلا ثم هلك العوض الآخر تبطل الإقالة، فكذا هنا
ينبغي أن يمتنع التقايل بهلاك العوضين.
قلنا: في بيع المقايضة ثم الرد واجب بعد الإقالة، وهلاك المبيع قبل القبض
يوجب فسخ العقد. وفي المسلم قامت قيمة الجارية مقامها، فلم يكن رد عين
الجارية واجبا، فكان قيام القيمة بمنزلة قيام الجارية.
م: (وإذا انفسخ العقد في المسلم فيه انفسخ في الجارية تبعا) ش: يعني تبعا
لانفساخ العقد في المسلم فيه وإن لم يصح الفسخ في الجارية بعد هلاكها، هكذا
قدره شيخي العلاء. وقال تاج الشريعة. هذا جواب من يقول: إن الانفساخ في حق
الجارية الميتة كيف يتحقق، وإنه ليس بمحل لذلك.
قال: الانفساخ بطريق التبعية وكم من شيء يثبت تبعا ولا يثبت قصدا م: (فيجب
عليه ردها) ش: أي رد الجارية على المسلم إليه م: (وقد عجز) ش: أي والحال أن
المسلم إليه قد عجز عن رد الجارية بسبب موتها م: (فيجب عليه رد قيمتها) ش:
وقامت القيمة مقام الجارية.
[اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد
المشتري]
م: (ولو اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد المشتري بطلت
الإقالة، ولو تقايلا بعد موتها فالإقالة باطلة) ش: أيضا م: (لأن المعقود
عليه في البيع إنما هو الجارية، فلا يبقى العقد بعد هلاكها، لا تصح الإقالة
ابتداء، فلا تبقى انتهاء لانعدام محله) ش: أي محل البيع، لأن الإقالة فسخ
العقد ولا قيام لها إلا بقيام العقد ولا قيام العقد إلا بقيام المبيع لأنه
هو الأصل وقد فات م: (وهذا)
(8/365)
بخلاف بيع المقايضة حيث تصح الإقالة وتبقى
بعد هلاك أحد العوضين، لأن كل واحد منهما مبيع فيه.
قال: ومن أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة فقال المسلم إليه: شرطت رديئا،
وقال رب السلم: لم تشترط شيئا فالقول قول المسلم إليه؛ لأن رب السلم متعنت
في إنكاره الصحة؛ لأن المسلم فيه يربو على رأس المال في العادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي هذا الذي ذكرناه. م: (بخلاف بيع المقايضة حيث تصح الإقالة وتبقى) ش:
أي الإقالة م: (بعد هلاك أحد العوضين، لأن كل واحد منهما مبيع فيه) ش: أي
في بيع المقايضة.
والحاصل أنه أشار بهذا الكلام إلى الفرق بين السلم حيث تصح الإقالة فيه بعد
هلاك الجارية في يد المسلم إليه قبل الرد إلى رب السلم، سواء ماتت قبل
الإقالة أو بعدها وبين البيع حيث لا تصح الإقالة إذا هلكت الجارية سواء
كانت الإقالة قبل هلاكها أو بعد هلاكها، وقد أوضحنا هذا في السؤال والجواب
اللذين ذكرناهما الآن.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن أسلم إلى رجل دراهم
في كر حنطة فقال المسلم إليه: شرطت رديئا) ش: أي طعاما رديئا م: (وقال رب
السلم: لم تشترط شيئا فالقول قول المسلم إليه) ش: بالاتفاق، وبه قال
الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي " الكافي ": كلام المتعنت مردود فبقي قول صاحبه بلا معارض م: (لأن رب
السلم متعنت في إنكاره الصحة) ش: التعنت في اللغة من يطلب العنت، وهو
الوقوع فيما لا يستطيع الإنسان الخروج عنه، والمراد بالتعنت شرعا من ينكر
ما ينفعه ويريد الإضرار بغيره، وبالمخاصم من ينكر ما يضره، كذا في الفوائد
الظهيرية م: (لأن المسلم فيه يربو) ش: يزيد م: (على رأس المال في العادة)
ش: هذا دليل على قوله: إن رب السلم متعنت لرب المسلم فيه على رأس المال
عادة، فكان الخير له في صحة العقد، فإذا أنكر صحته فقد كان متعنتا.
فإن قيل: لا نسلم أن المسلم فيه يربو، بل رأس المال خير وإن قل من المسلم
فيه، وإن جل، لما أن رأس المال نقد، والمسلم فيه نسيئة، وفي المثل السائر:
النقد خير من النسيئة.
قلنا: بلى كذلك، إلا أن ذلك متروك بالعرف والعادة، فإن الناس مع وفور
عقولهم يقدمون في عقد السلم وما ذاك إلا لفائدة زائدة رأوها، فكان النقد
بمقابلة زيادة فائدة مع كونه نسيئة، وإنما ذكروا ربا المسلم فيه لإثبات
المعادلة بينه وبين رأس المال، لأن المسلم فيه وإن كان أكثر مالية عادة إلا
أنه آجل، ورأس المال وإن قلت ماليته عاجل والعاجل خير من الآجل، فيخير قصور
كل واحد منهما بوفور كل واحد منهما فيتعادلان.
وذكر الإمام السرخسي: أن القول قول المسلم إليه لأنه هو الذي يلتزم الطعام
بعقد السلم فالقول قوله في بيان صفة ما التزم، ثم اتفاقهما على أصل العقد
اتفاق على ما هو شرط جواز
(8/366)
وفي عكسه قالوا: يجب أن يكون القول لرب
السلم عند أبي حنيفة لأنه يدعي الصحة، وإن كان صاحبه منكرا. وعندهما القول
للمسلم إليه لأنه منكر وإن أنكر الصحة، وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى.
ولو قال المسلم إليه: لم يكن له أجل، وقال رب السلم: بل كان له أجل فالقول
قول رب السلم؛ لأن المسلم إليه متعنت في إنكاره حقا له وهو الأجل، والفساد
لعدم الأجل غير متيقن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العقد، ومن شرط جوازه بيان صفة الطعام، فقول رب السلم: لم يسلم صفة الطعام
يكون رجوعا عما أقر به وسعيا منه في نقض ما تم من جهته.
م: (وفي عكسه) ش: أي وفي عكس الحكم المذكور، والحكم المذكور هو قول المسلم
إليه: شرطت لك رديئا، وقال رب السلم لم تشترط شيئا، وعكسه أن يقول رب
السلم: شرطت لي رديئا، ويقول المسلم إليه: لم أشترط لك شيئا.
وقال الفقيه أبو الليث: لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الأصل في
الكتاب، يعني في " الجامع الصغير ". وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م:
(قالوا) ش: أي قال المتأخرون في شروح " الجامع الصغير " مثل فخر الإسلام
وغيره: م: (يجب أن يكون القول لرب السلم عند أبي حنيفة) ش: وبه قال الشافعي
م: (لأنه يدعي الصحة وإن كان صاحبه منكرا) ش: لأن الظاهر شاهد له، لأن
العقد الفاسد معصية، والظاهر من حال المسلم التحادي عن المعصية.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد م: (القول للمسلم إليه؛ لأنه منكر
وإن أنكر الصحة) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، وكذلك إن التي قبلها م:
(وسنقرره) ش: أي وسنقرر أصل هذا الخلاف م: (من بعد إن شاء الله تعالى) ش:
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي في المسألة التي تلي هذه عند قوله:
القول لرب السلم عندهما.
وفي عبارته تسامح لأنها تستعمل للبعد، أي لأن السين كذلك، والمطابق نقرره
يعني بدون السين م: (ولو قال المسلم إليه: لم يكن له أجل) ش: أي لم يكن
للسلم أجل م: (وقال رب السلم: بل كان له أجل، فالقول قول رب السلم) ش: أي
بالاتفاق، وبه قال الشافعي م: (لأن المسلم إليه متعنت في إنكاره حقا له) ش:
أي لرب السلم م: (وهو) ش: أي الحق هو م: (الأجل) ش: حاصله أن الكلام إذا
خرج مخرج التعنت لا مخرج الخصومة بطل وكان القول لمدعي الصحة، لأن كلام
المتعنت مردود، فإذا رد بقي كلام الآخر بلا معارض، فكان القول قوله.
م: (والفساد لعدم الأجل غير متيقن) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال:
ينبغي أن لا يكون المسلم إليه متعنتا في إنكاره الأجل؛ لأنه يرد رأس المال
لفساد العقد بعدم الأجل، وبرد رأس المال يبقى له المسلم فيه والمسلم فيه
خير من رأس المال وارتفع منه.
(8/367)
لمكان الاجتهاد، فلا يعتبر النفع في رد رأس
المال، بخلاف عدم الوصف، وفي عكسه القول لرب السلم عندهما؛ لأنه ينكر حقا
عليه فيكون القول قوله، وإن أنكر الصحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتقرير الجواب: أن فساد العقد لعدم الأجل غير متقين م: (لمكان الاجتهاد) ش:
فإن السلم الحال جائز عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإذا لم يكن
متعنتا بعدمه لم يلزم من إنكاره رد رأس المال م: (فلا يعتبر النفع في رد
رأس المال) ش: يعني ولا يعتبر جهة كونه منتفعا بهذا الإنكار معارضا لجهة
التعنت والتضرر به، إذ الظني لا يعارض القطعي.
م: (بخلاف عدم الوصف) ش: قال صاحب النهاية: أي لو قال المسلم إليه: شرطت
رديئا، وقال رب السلم: لم تشترط شيئا، وهي المسألة الأولى، كان القول قول
المسلم إليه، لأن فساد السلم بسبب ترك الوصف متقين غير مجتهد فيه، فقال رب
السلم هناك متعنتا، وقال غيره: فإن الفساد فيه قطعي.
وقال الأكمل: وفيه نظر، لأن بناء المسألة على خلاف مخالف لم يوجد عند وضعها
غير صحيح، فالأولى أن يقال: إن الاختلاف كان ثابتا بين الصحابة إن ثبت ذلك
وليس مطابقا لما ذكره صاحب " النهاية " وغيره.
م: (وفي عكسه) ش: يعني فيما إذا ادعى المسلم إليه الأجل وأنكره رب السلم م:
(القول لرب السلم عندهما؛ لأنه ينكر حقا عليه فيكون القول قوله، وإن أنكر
الصحة) ش: كلمة إن واصلة بما قبله. واعلم أن الاختلاف في الأصل على ثلاثة
أوجه:
أحدها: في أصل الأجل، ففيه القول قول المدعي للأجل مع يمينه، طالبا كان أو
مطلوبا، وعندهما: القول قول الطالب سواء كان مدعيا للأجل أو منكرا.
والثاني: في مقدار الأجل مثل أن يدعي أحدهما أنه شهر، وقال الآخر: إنه
شهران ففيه القول قول الطالب مع يمينه؛ لأنه ينكر الزيادة، وإن قامت بينته
لأحدهما يقضي ببينته، وإن قامت لهما يقضي ببينة المطلوب؛ لأنه يثبت
الزيادة.
والثالث: في مضي الأجل فإن قال الطالب: كان الأجل شهرا، وقد مضى، وقال
المطلوب: كان شهرا ولم يمض فالقول قول المطلوب مع يمينه لأنه ينكر توجه
المطالبة، فإن أقام أحدهما البينة يقضي ببينة المطلوب؛ لأنها تثبت زيادة
الأجل، ثم ينبغي لك أن تعرف أن الاختلاف في قدر الأجل لا يوجب التحالف
عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن التحالف في البيع ثبت بخلاف
القياس، عند اختلاف المتبايعين في المعقود عليه أو بدله، والأجل بمعزل من
ذلك.
بخلاف ما إذا اختلفا في الوصف فإنهما يتحالفان، لأن الوصف جار مجرى الأصل،
(8/368)
كرب المال إذا قال للمضارب: شرطت لك نصف
الربح إلا عشرة، وقال المضارب: لا بل شرطت لي نصف الربح فالقول لرب المال؛
لأنه ينكر استحقاق الربح، وإن أنكر الصحة. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - القول للمسلم إليه؛ لأنه يدعي الصحة، وقد اتفقا على عقد واحد
فكانا متفقين على الصحة ظاهرا، بخلاف مسألة المضاربة؛ لأنه ليس بلازم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن الدين يعرف به ويختلف أصله باختلافه ما إذا اختلفا، وليس كذلك الأجل.
>
م: (كرب المال إذا قال للمضارب) ش: نظير المسألة المذكورة بمسألة رب المال
إذا قال للمضارب: م: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة) ش: قال الكاكي: وفي بعض
النسخ شرطت لك نصف الربح وزياة عشرة، وهذه النسخة ليست بصحيحة؛ لأنه على
ذلك التقدير القول للمضارب بالإجماع، والصحيح النسخة الأولى؛ لأنه على ذلك
التقدير كان القول لرب المال م: (وقال المضارب) ش: أي وقال المضارب ليس
الأمر كما ذكرت م: (لا بل شرطت لي نصف الربح فالقول لرب المال؛ لأنه ينكر
استحقاق الربح وإن أنكر الصحة) ش: أي صحة العقد.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول للمسلم إليه لأنه يدعي
الصحة، وقد اتفقا على عقد واحد) ش: لأن السلم عقد واحد إذ السلم الحال
فاسد، وليس بعقد آخر م: (فكانا متفقين على الصحة ظاهرا) ش: أي بحسب الظاهر
لوجهين:
أحدهما: أن الظاهر من حالهما مباشرة العقد بوصف الصحة.
والثاني: أن الإقدام على العقد التزام لشرائطه، والأجل من شرائط السلم فكان
اتفاقهما على العقد إقرار بالصحة، فالمنكر بعده ساع في نقض ما تم به،
وإنكاره إنكار بعد الإقرار وهو مردود وبقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قال الشافعي.
م: (بخلاف مسألة المضاربة) ش: جواب عن قياسهما المسألة المذكورة على مسألة
المضاربة فإنه قياس غير صحيح، وقال الأكمل: فإنهما إذا اختلفا فيها، أي في
المضاربة تنوع محل الاختلاف، فإنها إذا فسدت صار إجارة، وإذا صحت كانت
شركة، فإذا اختلفا فالمدعي للصحة مدع لعقد، والمدعي للفساد مدع لعقد آخر
خلافه، ووحدة العقد عند الاختلاف في الجواز والفساد يستلزم اعتبار الاختلاف
الموجب للتناقض المردود لوحدة المحل، وعدم وحدته يستلزم عدم اعتبار
الاختلاف لاختلاف المحل.
وأما المضاربة فهي ليست بعقد واحد عند الاختلاف، فكان المحل مختلفا فلا
تناقض في ذلك، فلم يكن الاختلاف معتبرا، فكان المضارب يدعي استحقاق شيء في
مال رب المال وهو ينكر، فالقول قول المنكر.
م: (لأنه) ش: أي لأن عقد المضاربة م: (ليس بلازم) ش: ولهذا يتمكن رب المال
من عزله قبل
(8/369)
فلا يعتبر الخلاف فيه، فبقي مجرد دعوى
استحقاق الربح. أما السلم فلازم، فصار الأصل أن من خرج كلامه تعنتا فالقول
لصاحبه بالاتفاق، وإن خرج خصومة ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعي
الصحة عنده، وعندهما للمنكر وإن أنكر الصحة.
قال: ويجوز السلم في الثياب إذا بين طولا وعرضا ورقعة؛ لأنه أسلم في معلوم
مقدور التسليم، على ما ذكرنا. وإن كان ثوب حرير لا بد من بيان وزنه أيضا؛
لأنه مقصود فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شراء المضارب برأس المال شيئا، وكذا المضارب يتمكن من فسخه. وإذا كان غير
لازم يرتفع باختلافهما م: (فلا يعتبر الاختلاف فيه) ش: ولا الدعوى تعتبر
فيه م: (فبقي مجرد دعوى استحقاق الربح) ش: والآخر ينكر فالقول للمنكر م:
(أما السلم) ش: فإنه عقد م: (فلازم) ش: فلا ينفسخ بفسخ أحدهما، فبالاختلاف
لا يرتفع، فإذا بقي العقد كان القول قول مدعي الصحة لشهادة الظاهر ثم لما
جعل القول قول المسلم إليه في الأجل كان القول قوله أيضا في مقدار الأجل م:
(فصار الأصل) ش: أي الأصل في مسألة السلم المذكورة م: (أن من خرج كلامه
تعنتا) ش: أي من حيث التعنت لا مخرج الخصومة، وقد مر تفسيره عن قريب م:
(فالقول لصاحبه) ش: وهو مدعي الصحة م: (بالاتفاق) ش: لأن كلام المتعنت
مردود.
م: (وإن خرج) ش: أي كلامه م: (خصومة) ش: أي من حيث الخصومة بأن ينكر ما
يضره م: (ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعي الصحة عنده) ش: أي عند
أبي حنيفة م: (وعندهما للمنكر) ش: أي القول قول المنكر م: (وإن أنكر الصحة)
ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
[السلم في الثياب]
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره": م: (ويجوز السلم في الثياب إذا بين
طولا وعرضا) ش: أي من حيث الطول ومن حيث العرض م: (ورقعة) ش: أي من حيث
الغلظة والثخانة، كذا في " المغرب ". وقيل: المراد عدد الكرباس، يعني أنه
كثير الرقاع أو قليل الرقاع، وقيل: تعريفه بكونه خماسيا أو سداسيا، وقال
تاج الشريعة: ورقعة يقال رقعة هذا الثوب جيدة، يراد به غلظته وثخانته وهو
مجاز م: (لأنه) ش: أي ولأن السلم م: (أسلم في معلوم مقدور التسليم على ما
ذكرنا) ش: أي عند قوله في أول الباب وفي المذروعات م: (وإن كان) ش: أي
المسلم م: (ثوب حرير لا بد من بيان وزنه أيضا؛ لأنه) ش: أي لأن الوزن م:
(مقصود فيه) ش: أي في السلم في الثوب الحرير، وإذا كان كذلك فلا بد من
بيانه، أي بيان الوزن.
وعند الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: بيان الوزن ليس بشرط،
وفي الإيضاح: وتحتاج إلى بيان الوزن في ثياب الحرير والديباج إذا كان
التفاوت بعد ذكر الطول والعرض؛ لأنها تختلف باختلاف الوزن، فإن الديباج
كلما ثقل وزنه ازدادت قيمته، والحرير كلما خف وزنه ازدادت قيمته فلا بد من
بيانه، انتهى.
(8/370)
ولا يجوز السلم في الجواهر ولا في الخرز،
لأن آحادها تتفاوت تفاوتا فاحشا، وفي صغار اللؤلؤ التي تباع وزنا يجوز
السلم؛ لأنه مما يعلم بالوزن، ولا بأس بالسلم في الآجر واللبن إذا سمي
ملبنا معلوما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشيخ أبو نصر البغدادي: قالوا: إذا كانت الثياب مما يقصد وزنها فلا
بد من ذكر الوزن أيضا كثياب الحرير. وقال الولوالجي في فتاواه: ولو بين
الذرعان ولم يبين الوزن هل يجوز السلم في الحرير، واختلف المشايخ فيه: منهم
من قال: ليس بشرط، ومنهم من قال: شرط، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي وهو
الصحيح، بخلاف سائر الثياب، فإنه لا يشترط فيها الوزن مع الذرع، لأن الحرير
يختلف باختلاف الوزن كما يختلف باختلاف الطول والعرض، ولا كذلك الكرباس.
وفي " المنتقى ": إذا باع ثوب حرير يدا بيد لا يجوز إلا وزنا، وفي " المحيط
": لو شرط كذا وكذا ذراعا فله ذراع وسط. واختلف في تفسير الوسط، قيل: أراد
به الفعل، يعني لا يمد كل المد ولا يرخي كل الإرخاء، وقيل: أراد به الخشب
لأنه لا يتفاوت في الأسواق، قال شيخ الإسلام: والصحيح أنه يحمل عليهما نظرا
للجانبين.
وقال الكاكي: وكذا يجوز السلم في البواري والجوالق والمسوح والأكسية
والبسوط استحسانا إذا بين طوله وعرضه وصفته وصنعته. قال الولوالجي: السلم
في الكاغد يجوز عددا؛ لأنه عددي كالجوز والبيض، وكذا الاستقراض عددي.
[السلم في الجواهر]
م: (ولا يجوز السلم في الجواهر) ش: نحو الياقوت والبلخش واللؤلؤ ونحو ذلك
م: (ولا في الخرز) ش: أي ولا يجوز السلم أيضا في الخرز بفتح الخاء والراء
ثم الزاي. وقال الجوهري: الخرز بالتحريك الذي ينظم، والواحدة خرزة، وخرزات
الملك جواهر تاجه، وعند مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجوز م: (لأن
آحادها) ش: أي آحاد الجواهر الخرز م: (تتفاوت تفاوتا فاحشا) ش: لأن كل
معدود تتفاوت آحاده في المالية لا يجوز السلم فيه كالبطيخ والرمان، والذي
لا تتفاوت آحاده في المالية جاز السلم فيه كالجوز والبيض إذا كان من جنس
واحد، وفيه خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد مر بيانه في أول الباب م:
(وفي صغار اللؤلؤ التي تباع وزنا يجوز السلم؛ لأنه مما يعلم بالوزن) ش:
لأنه يدق ويجعل في الدواء ولا خلاف فيه للفقهاء.
م: (ولا بأس بالسلم في الآجر) ش: بفتح الهمزة وضم الجيم وتشديد الراء وهو
الطوب المشوي م: (واللبن) ش: بفتح اللام وكسر الباء الموحدة وبالنون، وهو
الطوب النيئ م: (إذا سمي ملبنا معلوما) ش: الملبن يحتمل أن يكون اسم ما
يصنع فيه اللبن، ويحتمل أن يكون المراد به الآلة.
(8/371)
لأنه عددي متقارب لا سيما إذا سمي الملبن.
قال: وكل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه؛ لأنه لا يفضي إلى
المنازعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط ": يشترط بيان مكانه والآلة، وقيل: لا يشترط بيان مكانه،
وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من
الآجر واللبن م: (عددي متقارب لا سيما إذا سمي الملبن) ش: بكسر الميم وهو
الآلة.
وقال الولوالجي في فتاواه: ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا اشترط فيه
ملبنا معروفا؛ لأنه متى بين ملبنا معرفا فما يقع من التفاوت بين لبن ولبن
يكون يسيرا، فيكون ساقط الاعتبار، فيلحق بالعدديات المتقاربة، فيجوز فيه
السلم. بخلاف ما لو باع مائة آجرة من آتون لم يجز.
لأن التفاوت فيه في النضج تفاوت فاحش، فألحقناه بالمتقاربة في حق المسلم
وفي المتفاوتة في حق المبيع عملا بهما.
وفي شرح " الجامع الصغير " لقاضي خان: أما السلم في الباذنجان عددا لم
يذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يجوز وألحقه
بالجوز والبيض.
[كل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم
فيه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكل ما أمكن ضبط صفته
ومعرفة مقداره جاز السلم فيه) ش: هذا أصل كلي يتخرج منه المسائل، وقال
الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيه بحث من وجهين:
أحدهما: أنه عكسها فقال: وما لا يضبط صفته ولا معرفة مقداره لا يجوز السلم
فيه ولا ينعكس قولنا: كل إنسان حيوان إلى كل ما ليس بإنسان ليس بحيوان.
والثاني: أنه ذكر القاعدة بعد ذكر الفروع والأصل ذكر القاعدة أولا ثم تفريع
الفروع عليها.
والجواب عن الأول: أن جواز السلم يستلزم أوصاف ضبط الصفة ومعرفة المقدار
بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم منكم فليسلم في كيل
معلوم» الحديث، وحينئذ كان مثل قولنا: كل إنسان ناطق وهو ينعكس إلى قولنا:
كل ما ليس بإنسان ليس بناطق.
وعن الثاني: أن تقديم القاعدة على الشروع يليق بوضع أصول الفقه، فالمقصود
معرفة المسائل الجزئية، فيقدم الفروع ثم يذكر ما هو الأصل الجامع للفروع
المتقدمة.
م: (لأنه لا يفضي إلى المنازعة) ش: كما في الأجناس الأربعة من المكيلات
والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة. وقال الكاكي: لا خلاف للفقهاء
في جواز السلم في كل ما هو من ذوات الأمثال كالقطن والكتان والإبريسم
والنحاس والتبر والحديد والرصاص والصفر
(8/372)
وما لا يضبط صفته ولا يعرف مقداره لا يجوز
السلم فيه؛ لأنه دين، وبدون الوصف يبقى مجهولا جهالة تفضي إلى المنازعة،
ولا بأس بالسلم في طست، أو قمقمة، أو خفين، أو نحو ذلك إذا كان يعرف؛
لاجتماع شرائط السلم، وإن كان لا يعرف فلا خير فيه؛ لأنه دين مجهول. قال:
وإن استصنع شيئا من ذلك بغير أجل جاز استحسانا للإجماع الثابت بالتعامل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحناء والوسمة والرياحين اليابسة.
وفي الجذوع البائن الطول والعرض والغلظ، وكذا الساج وصنوف العيدان والخشب
والقصب والغزل، ويجوز السلم في التين كيلا وكيله الغرائر، وقيل: إنه موزون،
وقيل: المعتبر هو المتعارف، كذا في " المجتبى ".
م: (وما لا يضبط صفته ولا يعرف مقداره لا يجوز السلم فيه؛ لأنه دين) ش: أي
لأن السلم دين، والدين يعرف بوصفه م: (وبدون الوصف يبقى مجهولا جهالة تفضي
إلى المنازعة) ش: فلا يجوز لأن جهالة المعقود عليه تفسد العقد
م: (ولا بأس بالسلم في طست) ش: وفي " المغرب ": الطست إناء وهي أعجمية
والطست تعريبها، والجمع طساس وطسوس، وقد يقال الطشوش، ذكره في الشين
المعجمة.
وقال الجوهري: الطشت الطش بلغة طيء أبدل من إحدى الشينين تاء للاستثقال،
فإذا جمعت أو صغرت ردت الشين، لأنك فصلت بينهما بألف أو ياء قلت طشاش وطشيش
م: (أو قمقمة) ش: قال الجوهري: القمقمة بالضم معروفة، وقال الأصمعي: هو
رومي والجمع قماقم م: (أو خفين أو نحو ذلك) ش: مثل الكوز والآنية من النحاس
والصفر والقلنسوة.
وبه قال الشافعي إن كان يتساوى جوانبه ويمكن العسارة عن ثخانته وطوله وعرضه
وما يختلف به العرض، فأما أن يكون أجزاؤه يختلف كالقماقم والطواجن والأواني
المتخذة من الصفر والزجاج والمكيزان والحباب فلا يجوز لتفاوت أجزائها فمنها
ما يكون أعلاه أوسع وأسفله أضيق وبالعكس وقد يكون وسطه كذلك كذا في تتمتهم.
والشرطان عندنا في جواز ذلك م: (إذا كان يعرف لاجتماع شرائط السلم، وإن كان
لا يعرف فلا خير فيه) ش: أي لا يجوز م: (لأنه دين مجهول) ش: والجهالة في
الدين تمنع.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإن استصنع شيئا من
ذلك) ش: أي من ما ذكر من الطست والقمقمة والخف م: (بغير أجل) ش: أي بغير
ذكر مدة فيه م: (جاز استحسانا للإجماع الثابت بالتعامل) ش: في هذه الأشياء،
قال أبو أنيس في جامعه: صورة الاستصناع أن يجيء رجل إلى خفاف، ويقول له:
اخرز لي خفا صفته كذا وقدره كذا بكذا ويسلم الدراهم أو بعضها أو لا يسلم.
(8/373)
وفي القياس لا يجوز؛ لأنه بيع المعدوم،
والصحيح أنه يجوز بيعا لا عدة، والمعدوم قد يعتبر موجودا حكما، والمعقود
عليه العين دون العمل، حتى لو جاء به مفروغا عنه لا من صنعته أو من صنعته
قبل العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي القياس: لا يجوز؛ لأنه بيع المعدوم) ش: وبه قال زفر والشافعي، وقد
«نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع ما ليس عند
الإنسان» ورخص في السلم وهذا ليس بمسلم؛ لأنه لم يضرب له أجلا، أشار إليه
بقوله: بغير أجل، وجه الاستحسان هو ما ذكره بقوله: للإجماع الثابت
بالتعامل، فإن الناس في سائر الأعصار تعارفوا الاستصناع فيما فيه تعامل من
غير نكير، والقياس يترك بمثله كدخول الحمام.
ولا يشكل بالمذارعة، فإن فيها للناس تعامل وهي فاسدة عند أبي حنيفة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن الخلاف فيها كان ثابتا في الصدر الأول دون
الاستصناع.
م: (والصحيح أنه) ش: أشار به إلى أنهم اختلفوا في جواز الاستصناع هل بيع أو
عدة؟ فقال: والصحيح أن الاستصناع م: (يجوز بيعا) ش: أي من حيث البيع م: (لا
عدة) ش: أي لا من حيث الوعد. وقال فخر الإسلام في شرط " الجامع الصغير ":
هو بيع عند عامة مشايخنا، لا مواعدة؛ لأنه سماه في الكتاب بيعا وأثبت فيه
خيار الرؤية وهو يثبت في البيع لا في الوعد م: (والمعدوم قد يعتبر موجودا
حكما) ش: هذا جواب عما يقال: كيف يجوز أن يكون بيعا والمعدوم لا يصلح أن
يكون مبيعا، وتقرير الجواب أن المعدوم قد يعتبر حكما، أي من حيث الحكم
كالناسي للتسمية عند الذبح، فإن التسمية جعلت موجودة لعذر النسيان.
والطهارة للمستحاضة جعلت موجودة لعذر جواز الصلاة لئلا تتضاعف الواجبات
فكذلك المستصنع المعدوم جعل موجودا حكما لتعامل الناس، وقد يكون الشيء
موجودا حقيقة ويجعل معدوما حكما كالماء المستحق للعطش، حتى يجوز التيمم مع
وجوده.
م: (والمعقود عليه العين) ش: هذا جواب عما يقال: إنما يصح ذلك أن لو كان
المعقود عليه هو المستصنع، والمعقود عليه هو الصنع. فأجاب: بأن المعقود
عليه هو العين لأن المقصود هو المستصنع م: (دون العمل) ش: وفيه نفي لقول
أبي سعيد البردعي، فإنه يقول: المعقود عليه العمل، لأن الاستصناع استفعال
من الصنع وهو العمل، فتسميته للمعقود به دليل على أنه هو المعقود عليه،
والأديم والصرم فيه بمنزلة الآلة للعمل، ولكن الأصح أن المعقود عليه هو
العين، لأن المقصود هو المستصنع فيه وذكر الصفة لبيان الوصف، والدليل عليه
أن محمدا أثبت خيار الرؤية فيه، وهو إنما يكون في بيع العين، وكذا يدل عليه
قول المصنف بقوله م: (حتى لو جاء به مفروغا عنه) ش: أي لو جاء الصانع الذي
يعمل بالمستصنع حال كونه مفروغا م: (لا من صنعته أو من صنعته) ش: أي أو جاء
به حال كونه من صنعته م: (قبل العقد) ش: أي قبل عقد الاستصناع
(8/374)
فأخذه جاز، ولا يتعين إلا بالاختيار، حتى
لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز، وهذا كله هو الصحيح. قال: وهو
بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأنه اشترى شيئا لم يره، ولا خيار
للصانع، كذا ذكره في المبسوط وهو الأصح؛ لأنه باع ما لم يره. وعن أبي حنيفة
أن له الخيار أيضا؛ لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا لضرر وهو قطع
الصرم وغيره. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا خيار لهما. أما
الصانع فلما ذكرنا، وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له إضرار بالصانع؛
لأنه لا يشتريه غيره بمثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فأخذه) ش: أي فأخذه المستصنع م: (جاز) ش: فلا يجبر على قبوله، ولو كان
بعد العقد يجبر الآمر على القبول. كذا في " المبسوط ".
م: (ولا يتعين إلا بالاختيار) ش: أي ولا يتعين المستصنع الذي اتخذه الأجل
المستصنع إلا باختيار المستصنع، وأوضح ذلك بقوله م: (حتى لو باعه الصانع
قبل أن يراه المستصنع جاز) ش: لأنه لو تعين لما جاز بيعه قبل اختياره م:
(وهذا كله) ش: أي كونه بيعا لا عدة وكون المعقود عليه العين دون العمل،
وكونه لا يتعين إلا باختياره م: (هو الصحيح) ش: لما أن في كل واحد منهما
قولا آخر كما يجيء بعد هذا.
م: (قال: وهو) ش: أي المستصنع م: (بالخيار) ش: أي إذا رآه م: (إن شاء أخذه
وإن شاء تركه؛ لأنه اشترى شيئا لم يره) ش: فله الخيار إذا رآه م: (ولا خيار
للصانع) ش: بل يجبر على العمل لأنه باع ما لم يره م: (كذا ذكره في المبسوط
وهو الأصح لأنه باع ما لم يره) ش: أشار به إلى نفي ما ذكره في " الذخيرة "
من أن للصانع الخيار أشار إليه بقوله: م: (وعن أبي حنيفة أن له الخيار
أيضا) ش: أي أن للصانع الخيار أيضا كما للآمر.
ذكر هذا في " الذخيرة " من رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة، وكذا في رواية أبي
اليسر وقاضي خان م: (لأنه لا يمكنه) ش: أي لأن الصانع لا يمكنه م: (تسليم
المعقود عليه إلا لضرر وهو قطع الصرم) ش: بفتح الصاد المهملة وسكون الراء
والميم هو الجلد. وفي " المغرب " هو تعريب جرم م: (وغيره) ش: أي وغير الصرم
مثل إتلاف الخيط في خرزه.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا خيار لهما) ش: أي للصانع
والآمر م: (أما الصانع فلما ذكرنا) ش: أنه لا خيار له لما أن الاستصناع بيع
ولا خيار للبائع فيما لم يره م: (وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له
إضرار بالصانع لأنه لا يشتريه غيره بمثله) ش: أي بمثل ما اشتراه المستصنع
وقد لا يشتريه غيره أصلا، كما لو استصنع واعظ منبرا يعظ الناس عليه فلم
يأخذه فالعامي لا يشتريه أصلا.
فإن قيل: الضرر حصل برضاه فلا يكون معتبرا.
(8/375)
ولا يجوز فيما لا تعامل فيه للناس كالثياب
لعدم المجوز، وفيما فيه تعامل إنما يجوز إذا أمكن إعلامه بالوصف ليمكن
التسليم، وإنما قال: بغير أجل؛ لأنه لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما
عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، ولو ضربه فيما لا تعامل
فيه يصير سلما بالاتفاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب: يجوز أن يكون الرضا على ظن أن المستصنع مجبور على القبول، فلما علم
اختياره عدم رضاه.
فإن قيل: ذلك لجهل منه وهو لا يصلح عذرا في دار الإسلام.
أجيب: بأن خيار المستصنع اختيار بعض المتأخرين من أصحابنا ولم يجب على كل
واحد من المسلمين في دار الإسلام على أقوال جميع المجتهدين وإنما الجهل ليس
بعذر في دار الإسلام في الفرائض التي لا بد لإقامة الدين منها لا في حيازة
اجتهاد المجتهدين.
قال الأكمل: وفيه نظر، لأن غير الأب والجد إذا زوج الصغيرة ثم بلغت فإن لها
خيار البلوغ، فإن سكت لجهلها بأن لها الخيار بطل خيارها، لأن الجهل ليس
بعذر مع أنه ليس من الفرائض التي لا بد لإقامة الدين منها.
م: (ولا يجوز) ش: أي الاستصناع م: فيما لا تعامل فيه للناس كالثياب) ش: وفي
" الكافي ": كالجباب والثياب، وصورته أن يدفع إلى حائك دينارا ليحيك له
ثوبا من غزل نفسه، إبقاء له على القياس السالم عن معارضة الاستحسان
بالإجماع م: (لعدم المجوز) ش: بكسر الواو من التجويز والمجوز هو التعامل م:
(وفيما فيه تعامل) ش: مثل الذي ذكرناه م: (إنما يجوز إذا أمكن إعلامه
بالوصف ليمكن التسليم) ش: أي تسليم المستصنع م: (وإنما قال) ش: أي محمد في
أول المسألة م: (بغير أجل) ش: في قوله: وإن استصنع في شيء من ذلك بغير أجل
م: (لأنه لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ -) ش: فلا يجوز إلا بشرائط السلم في تعجيل رأس المال واستقصاء
الوصف وعدم جواز خيار الرؤية، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك
وأحمد -رحمهما الله- لأنهم لا يجوزون الاستصناع م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي
يوسف ومحمد فإنه عندهما استصناع.
م: (ولو ضربه) ش: أي الأجل م: (فيما لا تعامل فيه يصير سلما بالاتفاق) ش:
المراد بضرب الأجل ما يذكر على سبيل الاستمهال، أما المذكور على سبيل
الاستعجال على أنه قال: على أن تفرغ غدا أو بعد غد لا يصير سلما؛ لأنه ذكره
حينئذ للفراغ لا لتأخير المطالبة بالتسليم، ويحكى عن الهندواني: أن ذكر
المدة إن كان من قبل المستصنع فهو الاستعجال، ولا يصير به سلما، وإن كان من
الصانع فهو سلم لأنه يذكره على سبيل الاستمهال، وقيل: إن ذكروا في مدة
يتمكن فيها من العمل فهو استصناع، وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم، لأن ذلك
يختلف
(8/376)
لهما أن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على
قضيته، ويحمل الأجل على التعجيل، بخلاف ما لا تعامل فيه؛ لأن ذلك استصناع
فاسد فيحمل على السلم الصحيح. ولأبي حنيفة أنه دين يحتمل السلم، وجواز
السلم بإجماع لا شبهة فيه، وفي تعاملهم الاستصناع نوع شهبة، فكان الحمل على
السلم أولى، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باختلاف المدة فلا يمكن تقديره بشيء معلوم.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد في المسألة الخلافية م: (أن اللفظ) ش: أي
لفظ الاستصناع م: (حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته) ش: الاستصناع أو
اللفظ م: (ويحمل الأجل على التعجيل) ش: لأن ذكر الأجل محتمل، فإنه يحتمل أن
يكون للتعجيل ويحتمل أن يكون للاستمهال والاستصناع محكم في تناوله ما وضع
له غير محتمل لشيء آخر، فيحمل المحتمل على المحكم، فيقال: إن ذكر الأجل
للتعجيل م: (بخلاف ما لا تعامل فيه؛ لأن ذلك استصناع فاسد فيحمل على السلم
الصحيح) ش: بدلالة الأجل تصحيحا لتصرف العاقل ما أمكن.
م: (ولأبي حنيفة أنه) ش: أي أن المستصنع المبيع م: (دين) ش: والمبيع الدين
م: (يحتمل السلم) ش: كما لو ذكر لفظ السلم م: (وجواز السلم بإجماع لا شبهة
فيه) ش: لأنه ثابت بآية المداينة والسنة م: (وفي تعاملهم الاستصناع نوع
شبهة) ش: لكونه مجتهد فيه، ولأن فيه خلاف زفر والشافعي -رحمهما الله- م:
(فكان الحمل على السلم أولى، والله أعلم) ش: لكونه أقرب إلى الجواز وأحق
بالرخصة.
(8/377)
|