البناية شرح الهداية

كتاب الشهادة قال: الشهادة فرض تلزم الشهود ولا يسعهم كتمانها إذا طالبهم المدعي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] (البقرة الآية: 282) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] م: (البقرة الآية: 283) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الشهادة]
[حكم الشهادة إذا طلبها المدعي]
م: (كتاب الشهادة) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الإشهادات وهو جمع شهادة، والشهادة لغة إخبار قاطع، كذا في " الصحاح " يعني الإخبار بالشيء عن شهادة وعيان، لا عن تخمين وحسبان. ومن هذا قالوا: مشتقة من المشاهدة، وعلى المعاينة وإليه الإشارة النبوية بقوله: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد» . وما في الشريعة إخبار عن صدق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء والحكم وسببها في حق التحمل الشهادة، وفي حق الأداء طلب المدعي وركنها استعمال لفظة الشهادة.
وشروطها كثيرة تأتي في أثناء المسائل، وحكمها وجوب الحكم على القاضي بما يثبت بها.
وفي " المبسوط " والقياس يأتي على كون الشهادة حجة تلزمه؛ لأنه خبر يحتمل الصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة، إلا أن القياس ترك بالنصوص والإجماع.
ووجه ذكر هذا الكتاب عقيب كتاب "أدب القاضي" ظاهر جدا لأن القاضي يحتاج في حكمه إلى الشاهد فكان ذلك من تتمة حكمه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الشهادة فرض) ش: أي أداؤها وتحملها إذا تعين، وفرض كفاية إذا لم يتعين بالإجماع م: (تلزم الشهود، ولا يسعهم كتمانها إذا طالبهم المدعي) ش: وقوله: لا يسعهم، تأكيد لقوله يلزم الشهود م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ش: (البقرة الآية: 282) هذا دليل على أن الطلب من المدعي شرط الفريضة، والنهي عن الإباء عند الدعوى أمر بالحضور للأداء.
م: (وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ش: (البقرة الآية: 283) ، إنما خص القلب، وإن كانت الجملة آثمة؛ لأنه رأس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد كله. كما جاء في الحديث؛ لأنه قيل قد تمكن الإثم في أصله، وملك أشرف شيء منه، ولأن أفعال القلوب أعظم من سائر الجوارح، فأصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، كان من أعظم الذنوب.

(9/100)


وإنما يشترط طلب المدعي، لأنها حقه، فيتوقف على طلبه كسائر الحقوق،
والشهادة في الحدود يخبر فيها الشاهد بين الستر والإظهار، لأنه بين حسبتين: إقامة الحد والتوقي عن الهتك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - كتمان الشهادة هو أن يضمرها، ولا يتكلم بها، فلما كان آثما مقترفا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ.
م: (وإنما يشترط طلب المدعي؛ لأنها حقه، فيتوقف على طلبه كسائر الحقوق) ش: لأن الحق لما كان له لم يلزمهم الشهادة قبل طلبه، بل يتوقف على الطلب كما في سائر الحقوق، ونوقض بما إذا علم الشاهد الشهادة، ولم يعلم بها المدعي، ويعلم الشاهد أنه إن لم يشهد يضع حقه، فإنه يجب عليه الشهادة، ولا طلب ثمة. والجواب أنه ألحق بالمطلوب دلالة، فإن الموجب للأداء عند الطلب إحياء الحق وهو فيما ذكرتم موجود، فكان في معناه فألحق به لا يقال: قد مر آنفا أن طلب المدعي سببا لأداء الشهادة وهو خلاف ما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله، وإنما يشترط طلب المدعي فإنه يدل على أن طلبه شرط، وهو غير السبب؛ لأن معنى كلامه وإنما يشترط وجود سبب الأداء وهو طلب المدعي. فالطالب سبب وجوده شرط فلا يخالفه حينئذ.
فإن قلت: إنما جعله شرطا، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} [البقرة: 282] ، {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] سببا.
قلت: نعم؛ لأنه خطاب وضع يدل على سبب، وغيره كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (الإسراء: الآية 78) .

[الشهادة في الحدود]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والشهادة في الحدود يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار لأنه) ش: أي لأن الشاهد م: (بين حسبتين) ش: بكسر الحاء تثنية حسبة، والحسبة ما ينتظر به الأجر في الآخرة، وفي "الصحاح" احتسب بهذا جزاء عند الله، والاسم الحسبة بالكسر، وبين الأجر والجمع الحسب، وفلان محتسب البلد ولا تقل محتسب م: (إقامة الحد) ش: حسبة لله تعالى، فيقام عليه الحد والحسبة الأخرى م: (والتوقي عن الهتك) ش: أي التحفظ عن هتك المسلم حسبة لله تعالى، فإن قيل: هذا الذي ذكره معارض لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] (البقرة: الآية 283) ، وتقييد المطلق بخبر الواحد لا يجوز.
الجواب: أن الآية محمولة على الشهادة في حقوق العباد، بدليل سياق الآية، وهي آية المداينة وبالإجماع والنص قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] إلى قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19] (النور: الآية 19) ، والمعنى أن الستر والكتمان إنما يحرم لخوف فوت حق المدعي المحتاج إلى إحياء حقه من الأموال وغيرها.
فأما الحدود فهي حقوق الله تعالى، والله - عز وجل - موصوف بالعطاء والكرم، وليس فيه

(9/101)


والستر أفضل لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك لكان خيرا لك» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خوف فوت حقه، فجاز له ذلك أن يختار الشاهد جانب الستر، وإليه أشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله:
م: (والستر أفضل لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك لكان خيرا لك» ش: الذي قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا القول لم يشهد عنده بشيء، ولكنه حمل ماعزا إلى أن اعترف عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا كما رواه أبو داود والنسائي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن يزيد بن نعيم عن أبيه نعيم بن هزال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن ماعزا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه. وقال لهزال: "لو سترته بثوبك كان خيرا لك» . ثم أخرج أبو داود عن ابن المنكدر: «أن هزالا أمر ماعزا أن يأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيخبره» انتهى بلفظ أبي داود. ورواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه" ولفظه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهزال: لو سترت بثوبك كان خيرا» .
قلت: لم أر أحدا من الشراح حرر هذا الموضع، حتى قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الذي شهد عنده وهو رجل يقال له: هزال الأسلمي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو سترته بثوبك"، وفي رواية: "بردائك لكان خيرا لك". انتهى.
وقد قلنا: إن الذي قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا القول لم يشهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكيف يقول الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - شهد عنده رجل يقال له: " هزال الأسلمي - رَحِمَهُ اللَّهُ -" و" هزال " لم يشهد أصلا وإنما حمل ماعزا على أن يعترف عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهزال: «لو سترت بثوبك كان خيرا» .
و" هزال " بفتح الهاء وتشديد الزاي وباللام أسلمي سكن المدينة، وقال المنذري: نعيم بن هزال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قيل: لا صحبة له وإنما الصحبة لأبيه هزال، وصاحب الذنب اسمه ماعز بن مالك الأسلمي، معدود في المدنيين، والمرأة التي وقع عليها اسمها فاطمة جارية هزال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

(9/102)


وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة» ، وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دلالة ظاهرة على أفضلية الستر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة» ش: هذا أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا «ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» م: (وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دلالة ظاهرة على أفضلية الستر) .
ش: لم يتعرض أحد من الشراح على حل هذا التركيب، "قبوله دلالة" مبتدأ وخبره مقدما"، هو قوله: "وفيما نقل من التلقين" إلى آخر قوله: "للدرء" أي لدفع الحد.
أما الذي نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تلقينه للدرء عن حد الزنا، فما رواه البخاري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في حديث ماعز، قال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟. قال: لا، قال: أفنكتها؟، قال نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه» .
والذي نقل عن الدرء عن حد السرقة ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى ذر عن أبي أمية المخزومي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص قد اعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أخالك سرقت؟. قال: بلى، فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع» .
وأما الذي نقل عن أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التلقين للدرء، فما رواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه "، أخبرنا معمر عن طاوس عن عكرمة بن خالد قال: " أتى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رجل، فسأله أسرقت؟ فقال: لا، فتركه. وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بإسناده إلى أبي مطر قال: رأيت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل قيل له: إنه سرق جملا، فقال

(9/103)


إلا أنه يجب له أن يشهد بالمال في السرقة، فيقول: أخذ إحياء لحق المسروق منه، ولا يقول: سرق محافظة على الستر، ولأنه لو ظهرت السرقة لوجب القطع، والضمان لا يجامع القطع فلا يحصل إحياء حقه.
قال: والشهادة على مراتب: منها الشهادة في الزنا يعتبر فيها أربعة من الرجال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] (النساء الآية: 15) ، ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] (النور الآية: 4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
له: ما أراك سرقت؟، قال: بلى، قال: فلعله شبه عليك؟، قال: بلى سرقت، قال: يا قنبر اذهب به فأوقد النار وادع الجزار وشد يده حتى أجيء، فلما جاء إليه قال له: أسرقت، قال: لا، فتركه ". وروى ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه " عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي بسارق، وهو يومئذ أمير، فقال: أسرقت؟ أسرقت؟ فقال: لا، مرتين أو ثلاثا.
وروى محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا الإمام الأعظم أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: أتي أبو مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بامرأة سرقت جملا، فقال: أسرقت؟ قولي لا، فقالت: لا، فتركها".
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه " أخبرنا الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علي بن الأقمر عن يزيد بن أبي كثير عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه أتي بامرأة سرقت، يقال لها: سلامة، فقال لها: يا سلامة سرقة؟ قولي: لا، قالت: لا. فدرء عنها.
م: (إلا أنه) ش: استثنى من قوله: يخبر فيها الشاهد وهو منقطع أي إلا أن الشاهد م: (يجب له أن يشهد بالمال في السرقة، فيقول: أخذ إحياء لحق المسروق منه، ولا يقول: سرق محافظة على الستر) ش: أي لحفظ الستر على السارق م: (ولأنه) ش: دليل آخر، أي ولأن الشأن م: (لو ظهرت السرقة لوجب القطع، والضمان لا يجامع القطع فلا يحصل إحياء حقه) ش: لأنه إذا قال: سرق يسقط الضمان حينئذ، فيضيع حق صاحب المال، فلهذا كانت الشهادة بالأخذ أولى من الشهادة بالسرقة؛ لأنها شهادة على وجه يثبت المال، ولا يثبت الحد وفيها رعاية الجانبين.

[مراتب الشهادة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والشهادة على مراتب؛ منها الشهادة في الزنا، يعتبر فيها أربعة من الرجال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] (النساء: الآية 15)) . م:
ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] (النور الآية: 4) ش: لفظ "أربعة"، نص في المعدود، والذكورة لا يقبل فيه إلا أربعة رجال عدول مسلمين، وهم أحرار، وهم يشهدون أنهم رأوا كالميل في المكحلة، وقيل: لأن الزنا فعل اثنين، فيشترط على كل واحد منهما اثنان

(9/104)


ولا تقبل فيها شهادة النساء لحديث الزهري: "مضت السنة من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وسلم والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص "، ولأن فيها شبهة البدلية لقيامها مقام شهادة الرجال، فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، ومنها الشهادة ببقية الحدود والقصاص تقبل فيها شهادة رجلين لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا تقبل فيها) ش: أي في شهادة الزنا م: (شهادة النساء؛ لحديث الزهري: "مضت السنة من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وسلم والخليفتين من بعده: أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص) ش: هذا أخرجه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه ". حدثنا حفص عن حجاج عن الزهري.. إلى آخره، واسم الزهري محمد بن مسلم المدني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سكن الشام، ومات بأداما وهي أول عمل [ ... ] وعمره اثنان وسبعون سنة روى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن خلق كثير من الصاحبة والتابعين، وإنما خص الخليفتين أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لأن تمهيد قواعد الشرع وإظهار طرق الأحكام كان أكثر في خلافتهما. وعن عطاء وحماد بن أبي سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يقبل شهادة النساء فيها، حتى لو شهد ثلاثة رجال في الزنا وامرأتان يقبل.
قلنا: على قولهما لا يبقى فائدة في قوله: "أربعة منكم" م: (ولأن فيها) ش: أي في شهادة النساء م: (شبهة البدلية) ش: أي من حيث الصورة.
قال شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: شبهة البديلة أي صورة لا حقيقة، لأنه لو كانت البدلية حقيقية، لما اعتبر شهادة النساء، وعند إمكان العمل بشهادة الرجال كالتيمم مع الوضوء، وما اعتبر شهادتهن مع إمكان شهادتهم، على أنه ليست في شهادتهم حقيقة البدلية لكن فيها شبهة البدلية باعتبار الصورة، فإن قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 89) ، خرج على ما يشابهه قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] (المائدة: الآية 89) ، فلهذا أورثت شبهة البدلية.
م: (لقيامها مقام شهادة الرجال) ش: أي لقيام شهادتين مع إمكان العمل بشهادة الرجلين إذا كان كذلك م: (فلا تقبل) ش: أي شهادتهن م: (فيما يندرئ بالشبهات) ش: لأنها حقيقة غير متحملة في الحدود حتى لا تقبل الشهادة على الشهادة فيها، ولا كتاب القاضي إلى القاضي، فكذلك شبهة البدلية اعتبار التشبهة بالحقيقة؛ لأن الشبهة فيما يسقط بالشبهات كالحقيقة. وحكي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يقبل شهادة النساء مع الرجال إلا عند عدم الرجلين، نظرا إلى ظاهر الآية، فحينئذ في شهادتهن حقيقة البدلية م: (ومنها) ش: أي ومن مراتب الشهادة م: (الشهادة ببقية الحدود) ش: كحد الشرب والسرقة م: (والقصاص تقبل فيها شهادة رجلين لِقَوْلِهِ تَعَالَى....
....:

(9/105)


{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] : (البقرة: الآية 282) . ولا يقبل فيها شهادة النساء لما ذكرنا. قال: وما سوى ذلك من الحقوق يقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، سواء كان الحق مالا أو غير مال مثل النكاح، والطلاق، والوكالة والوصية ونحو ذلك،
وقال الشافعي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها؛ لأن الأصل فيها عدم القبول لنقصان العقل واختلال الضبط وقصور الولاية، فإنها لا تصلح للإمارة، ولهذا لا تقبل في الحدود، ولا تقبل شهادة الأربعة منهن وحدهن، إلا أنها قبلت في الأموال ضرورة والنكاح أعظم خطرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ش: وعن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الله: لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنا، وعن عطاء: يقبل فيها شهادة النساء.
م: (ولا يقبل فيها) ش: أي في الحدود والقصاص م: (شهادة النساء لما ذكرنا) ش: إشارة إلى حديث الزهري، وما ذكره من شبهة البدلية، وفي بعض النسخ: "لما قلنا".
وقال في " الأجناس ": قال في " نوادر ابن رستم ": ويقبل فيه، أي في التقرير الشهادة على الشهادة، والشهادة من النساء مع الرجال، ويجوز فيه العفو، ويصح فيه الكفالة، وهو حق الآدمي.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وما سوى ذلك من الحقوق يقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، سواء كان الحق مالا أو غير مال مثل النكاح، والطلاق، والوكالة، والوصية) ش: أي الوصاية، لأنه في مقدار غير المال م: (ونحو ذلك) ش: كالعتاق والرجعة، والنسب وتوابعها، كالإعارة والكفالة لأجل، وشرط الخيار ذكره في " مبسوط شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

[شهادة النساء مع الرجال]
م: (وقال الشافعي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها) ش: وهي التي ذكرناها، كالإعارة.. إلى آخره.
وبقوله قال مالك وأحمد - رحمهما الله - في رواية، وفي رواية أخرى كقولنا م: (لأن الأصل فيها) ش: أي في شهادتهن م: (عدم القبول لنقصان العقل واختلال الضبط) ش: لغلبة النسيان فيهن م: (وقصور الولاية، فإنها لا تصلح للإمارة) ش: بكسر الهمزة إلى الخلافة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن الأصل عدم القبول م: (لا تقبل في الحدود، ولا تقبل شهادة الأربعة منهن وحدهن) .
م: (إلا أنها) ش: استثنى من قوله: "لأن الأصل فيها" أي في شهادة النساء عدم القبول أي إلا أن شهادتهن م: (قبلت في الأموال ضرورة) ش: كثرة وقوع أسبابها؛ لأنه يلحقهم الحرج بإشهاد رجلين في كل حادثة، فإذا لم يسمع فيها تفوت حقوق الناس لكثرة وقوعها، ولو حظرها فلا يلحق بها ما هو أعظم خطرا أو أقل وجودا كالنكاح، وهو معنى قوله: م: (والنكاح أعظم خطرا

(9/106)


وأقل وقوعا، فلا يلحق بما هو أدنى خطرا وأكثر وجودا. ولنا أن الأصل فيها القبول؛ لوجود ما يبتنى عليه أهلية الشهادة، وهو المشاهدة والضبط والأداء، إذ بالأول يحصل العلم للشاهد، وبالثاني يبقى، وبالثالث يحصل العلم للقاضي، ولهذا يقبل إخبارها في الأخبار، ونقصان الضبط بزيادة النسيان انجبر بضم الأخرى إليها، فلم يبق بعد ذلك إلا الشبهة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأقل وقوعا، فلا يلحق بما هو أدنى خطرا وأكثر وجودا) .
ش: وكذلك الطلاق والرجعة، والإسلام، والردة والبلوغ، والولاء، والعدة والجرح، والتعديل والعفو عن القصاص، حاصل مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو ما ذكره في "وجيزهم": لا تقبل شهادة النساء إلا في الأموال، وحقوقها كالأجل، والخيار، والشفعة، والإجارة، وقتل الخطأ، وكل جرح لا يوجب إلا الحال، فيثبت برجل وامرأتين.
وكذا نسخ العقود وقبض نجوم الكتابة، إلا النجم الأخير ففيه الوجهان لترتب العتق عليه وما ليس بمال، ولا يؤول إلى مال، كالنكاح والرجعة والطلاق والعتق، والإسلام والردة، والبلوغ والولاء والعدة والجرح، والتعديل، والعفو عن القصاص، عن الوصاية والوكالة، فيثبت برجلين ولا يثبت برجل وامرأتين.
وأما ما لا يظهر للرجال كالولادة وعيوب النساء، والرضاع، فإنه يثبت بأربعة نسوة، فلا تثبت الولادة بقول القابلة وحدها.
م: (ولنا أن الأصل فيها) ش: أي في شهادة النساء م: (القبول لوجود ما يبتنى عليه أهلية الشهادة، وهو) ش: أي ما يبتنى عليه م: (المشاهدة) ش:. وفي بعض النسخ: وهي المشاهرة، أي المعاينة، وبها يحصل العلم المشاهر م: (والضبط) ش: وهو حسن السماع والفهم والحفظ.
م: (والأداء) ش: الذي يحصل به للقاضي، م: (إذ بالأول يحصل العلم للشاهد) ش: أي المشاهرة م: (وبالثاني يبقى) ش: أي بالضبط يبقى العلم للشاهد م: (وبالثالث) ش: أي بالأداء م: (يحصل العلم للقاضي، ولهذا) ش: أي ولكون القبول أصلا فيها م: (يقبل إخبارها) ش: بكسر الهمزة م: (في الأخبار) ش: بفتح الهمزة وهي الأحاديث والآثار.
م: (ونقصان الضبط) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإحلال الضبط تقريره أن يقال: إن ذلك بعد التسليم أن نقصان الضبط م: (بزيادة النسيان انجبر بضم الأخرى) ش: أي بالمرأة الأخرى م: (إليها) ش: أي إلى المرأة الواحدة م: (فلم يبق بعد ذلك إلا الشبهة) ش: أي شبهة البدلية، ولم يذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - "لنقصان العقل"، ولا عن قوله "لقصور الولاية".

(9/107)


فلهذا لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات وعدم قبول الأربع على خلاف القياس كيلا يكثر خروجهن، قال: وتقبل في الولادة، والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب عن الأول: أنه لا نقصان في عقلهن، فما هو مناط التكليف؟ وبيان ذلك، أن للنفس الإنسانية أربع مراتب: الأولى: استعداد الفعل ويسمى العقل الهيولاني وهو حاصل لجميع أفراد الإنسان في مبدأ فطرتهم، والثانية: أن تحصل البديهيات وهو مناط التكليف.
والثالثة: أن يحصل النظريات المفروغ منها متى شاء من غير افتقار إلى اكتساب، ويسمى العقل بالعقل.
والرابعة: هو أن يستحضرها ويتلفت إليها مشاهرة، ويسمى العقل المستفاد وليس فيما هو مناط التكليف منها، وهو العقل بالملكة فيهن نقصان بمشاهدة حالتهن في تحصيل البديهيات واستعمال الحواس في الجزئيات، فإنه لو كان في ذلك نقصان، لكان تكليفهن دون تكليف الرجال في الأركان، وليس كذلك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ناقصات عقل» ، المراد به العقل بالفعل، فلذلك لم يصلحن للولاية والخلافة والإمارة، وبهذا ظهر الجواب عن الثاني أيضا، فتأمل.
م: (فلهذا) ش: أي فلأجل شبهة البدلية م: (لا تقبل) ش: أي شهادتهن م: (فيما يندرئ بالشبهات) ش: وتقبل فيما يثبتها م: (وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات) ش: أراد به النكاح والطلاق، فظاهر ثبوتها مع الهزل، وأما الوكالة، والإيصاء، والأموال، فإنه يجزئ فيها كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة، وذلك أمارة ثبوتها مع الشبهة، فكذلك تثبت بشهادة النساء مع الرجال.
م: (وعدم قبول الأربع) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يقبل شهادة الأربع منهن وحدهن إلى عدم قبول شهادة الأربع م: (على خلاف القياس) ش: لأن القياس يقتضي قبول ذلك، ولكنه ترك ذلك م: (كيلا يكثر خروجهن) ش: لأن في كثرة خروجهن كشفهن وافتضاحهن، وهو ممنوع.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتقبل في الولادة، والبكارة، والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة) ش: وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويحوز شهادة امرأتين منفردتين في الولادة والاستهلال وعيوب الآباء، ولا يجوز في ذلك شهادة امرأة واحدة، وبه قال ابن أبي ليلى، كذا في " المبسوط "، وهو قول الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع

(9/108)


الرجال النظر إليه» . والجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس، فيتناول الأقل، وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط الأربع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجال النظر إليه» ش: هذا غريب.
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه ": أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: مضت السنة في أن تجوز شهادة النساء ليس معهن رجل فيما يلين من ولادة المرأة واستهلال الجنين، وفي غير ذلك من أمر النساء الذي لا يطلع عليه ولا يليه إلا هن. وقال أيضا: أخبرنا أبو بكر عن أبي سبرة عن موسى بن عقبة عن القعقاع بن الحكيم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا يجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطلع عليه إلا هن من عورات النساء، وما يشبه ذلك من حملهن وحيضهن. وقال أيضا: أخبرنا الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن جابر الجعفي عن عبد الله بن يحيى: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجاز شهادة المرأة القابلة وحدها في الاستهلال، والجعفي ضعيف وكذلك ابن يحيى، وقال أيضا: أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى السلمي، أخبرني إسحاق عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجاز شهادة امرأة في الاستهلال.
م: (والجمع المحلى بالألف واللام) ش: أراد بهذا وجه بيان الاستدلال بالحديث الذي ذكره وهو أن الألف واللام إذا دخلا على الجمع م: (يراد به الجنس) ش: لأنه ليس ثمة معهود م: (فيتناول الأقل) ش: وهو الواحد، لبطلان العدد بواسطة الجنسية.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يؤيده أن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى الحديث: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة القابلة في الولادة.» وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أصحابنا رووا في " الأسرار " وغيره عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة القابلة في الولادة» انتهى.
قلت: رواه محمد بن عبد الملك الواسطي، عن أبي عبد الرحمن المدائني عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى آخره. وقال: هذا لا يصح، وقال الدارقطني: أبو عبد الرحمن المدائني: مجهول.
م: (وهو) ش: أي الحديث الذي ذكره م: (حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط الأربع)

(9/109)


ولأنه إنما سقطت الذكورة ليخف النظر؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف، فكذا يسقط اعتبار العدد، إلا أن المثنى والثلاث أحوط لما فيه من معنى الإلزام ثم حكمها في الولادة، شرحناه في الطلاق وأما حكم البكارة، فإن شهدن أنها بكر يؤجل في العنين سنة، ويفرق بعده؛ لأنها تأيدت بمؤيد، إذ البكارة أصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: من النساء، وهو قول عطاء أيضا.
وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقول: هذا الحديث غير صحيح فكيف يكون حجة له؟! وليس لنا إلا ما ذكرناه عن عبد الرزاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبقولنا قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ولأنه) ش: دليل معقول لنا، أي ولأن الشأن م: (إنما سقطت الذكورة) ش: يعني إنما سقطت صفة الذكورة والاتفاق م: (ليخف النظر) ش: أي النظر إلى العورة حرام، إلا أنا اعتبرنا نظر جنسها م: (لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف) ش: لأن نظر المرأة إلى عورة المرأة أخف؛ لأن شهوتهن إليهن أقل من نظر الرجل إلى عورتها. م: (فكذا) ش: أي فلأجل ذلك م: (يسقط اعتبار العدد) ش: لأن نظر الواحدة أخف من نظر الجماعة.
م: (إلا أن المثنى والثلاث أحوط) ش: لزيادة طمأنينة القلب م: (لما فيه من معنى الإلزام) ش: لأن فيه شبها بالشهادة.
وقال تاج الشريعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قوله: من معنى الإلزام النسبة، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - واعترض بأن في هذا التعليل نوع مناقضة؛ لأن لو كان جواز الاكتفاء بنظر الواحدة لحقة نظرها، لما كان نظر الاثنين والثلاث أحوط من نظر الواحدة، والجواب أن يقال: خفة النظر يوجب عدم وجود اعتبار العدد.
ومعنى الإلزام يقتضي وجوبه [ ... ] فقلنا بعدم الوجوب والجواز احتياطا م: (ثم حكمها) ش: أي حكم شهادة امرأة واحدة م: (في الولادة شرحناه في الطلاق) ش: يعني في باب ثبوت النسب عند قوله، فإن صحة الولادة تثبت بشهادة امرأة واحدة تشهد بالولادة، فينظر فيه هناك.
م: (وأما حكم البكارة) ش: فإنها سواء كانت المرأة مهنيرا ومبيعة، لا بد من نظر النساء إليها للحاجة إلى فصل الخصومة بينهما، فإذا نظرت إليها وشهدت، فإما أن يؤيد شهادتهن بمؤيد أو لا، فإن كان الأول، كانت شهادتهن حجة، وإن كان الثاني، فلا بد أن يضم إليها ما يؤيدها، فعلى هذا. م: (فإن شهدن أنها بكر) ش: فإن كانت معزة م: (يؤجل في العنين سنة ويفرق بعدها) ش: أي بعد سنة م: (لأنها) ش: أي لأن شهادتهن م: (تأيدت بمؤيد، إذ البكارة أصل) ش: بيانه أن امرأة العنين مع زوجها، إذا اختلفا بعد مضي المدة، فقال: هو وصلت إليها، فقالت هي: لم يصل إلي فإنها ترى النساء، فإن قلن: هي بكر، فإنها تخير، فلو اختارت الفرقة، فرق القاضي بينهما

(9/110)


وكذا في رد المبيعة، إذا اشتراها بشرط البكارة، فإن قلن: إنها ثيب، يحلف البائع لينضم نكوله إلى قولهن، والعيب يثبت بقولهن، فيحلف البائع. وأما شهادتهن على استهلال الصبي لا تقبل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حق الإرث؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال إلا في حق الصلاة؛ لأنها من أمور الدين. وعندهما تقبل في حق الإرث أيضا؛ لأنه صوت عند الولادة، ولا يحضرها الرجال عادة، فصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأثبت الفرقة بقولهن لفائدة بشهادة الأصل وهي البكارة.
م: (وكذا في رد المبيعة) ش: إذا كان جارية م: (إذا اشتراها بشرط البكارة) ش: بيانه إذا اشترى رجل جارية على أنها بكر، ثم اختلفا قبل القبض أو بعده، فقال البائع: هي بكر في الحال، فإن القاضي يريها النساء م: (فإن قلن: إنها ثيب) ش: لم يثبت حق الفسخ بشهادتهن؛ لأن الفسخ حق قوي، وشهادتهن حجة ضعيفة، لم تتأيد بمؤيد، لكن ثبت حق الخصومة لتوجه اليمين على البائع م: (يحلف البائع) ش: لقد سلمتها بحكم البيع وهي بكر، فإن لم يكن قبضها بالله لقد بعتها وهي بكر، فإن نكل يرد عليه، وإن حلف لزم المشتري م: (لينضم نكوله) ش: أي نكول البائع م: (إلى قولهن) ش: فترد م: (والعيب يثبت بقولهن) ش: هذا جواب بما يقال: شهادة النساء حجة فيما لا يطلع عليه الرجال، فيجب الرد بقولهن، والتحليف ترك العمل بالحديث أجاب بقوله، والعيب يثبت بقولهن أي في حق سماع الدعوى وحق التحليف م: (فيحلف البائع) ش: فإن المشتري إذا ادعى عيبا في المبيع لا بد له من إثبات قيامه به في الحال ليثبت له ولاية التحليف، وإلا كان القول للبائع لتمسكه بالأصل، فإذا قلن: إنها ثيب، يثبت العيب في الحال، وعمل بالحديث ثم يحلف البائع على أنه لم يكن بها ذلك العيب في الوقت الذي كانت في يده.
م: (وأما شهادتهن على استهلال الصبي لا تقبل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حق الإرث؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال) ش: أي لأن الاستهلال وهو صوت الصبي عند الولادة، وهذا مما يطلع الرجال، فلا يكون شهادته فيه حجة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وإن لم يحضر الرجال فشهادتهن كشهادتهن على جراحات الدنيا في الجماعات، وإن لم يحضر الرجال بخلاف الولادة، فإنها انفصال الولد من الأم، فلا يطلع عليه الرجال م: (إلا في حق الصلاة) ش: أي تقبل شهادة المرأة الواحدة الحرة على استهلال الصبي في حق الصلاة عليه فإنها تجوز بالاتفاق م: (لأنها) ش: أي لأن حق الصلاة م: (من أمور الدين) ش: فشهادة الواحدة حجة في ذلك، كشهادتها هلال رمضان.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (تقبل في حق الإرث أيضا لأنه) ش: أي لأن استهلال الصبي م: (صوت عند الولادة، ولا يحضرها الرجال عادة، فصار

(9/111)


كشهادتهن على نفس الولادة. قال: ولا بد في ذلك كله من العدالة، ولفظه الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظة شهادة، وقال: أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته، أما العدالة فلقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] (البقرة الآية: 282) . والمرضي من الشاهد هو العدل، ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (الطلاق الآية: 2) . ولأن العدالة هي المعينة للصدق؛ لأن من يتعاطى غير الكذب قد يتعاطاه. وعن أبي يوسف أن الفاسق إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة، تقبل شهادته؛ لأنه لا يستأجر لوجاهته، ويمنع عن الكذب لمروءته. والأول أصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كشهادتهن على نفس الولادة) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول.

[اشتراط العدالة في الشهادة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا بد في ذلك كله) ش: أي في جميع ما ذكر من أنواع الشهادة م: (من العدالة ولفظة الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظة شهادة، وقال: أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته. أما العدالة فلقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) والمرضي من الشاهد هو العدل، ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (الطلاق: الآية 2)) ش: والفاسق ليس بمرضي.
ولا خلاف فيه للفقهاء، ولو أن الشهادة حجة باعتبار الصدق، وهو معنى قوله م: (ولأن العدالة هي المعينة للصدق؛ لأن من يتعاطى) ش: من التعاطي، وهو التناول م: (غير الكذب قد يتعاطاه) ش: أي لأن من يتعاطى غير الكذب من محظورات دينه، فقد يتعاطاه أيضا ويقدم على شهادة الزور أيضا، فترد شهادته للتهمة.
م: (وعن أبي يوسف أن الفاسق إذا كان وجيها) ش: أي ذا قدر وشرف م: (في الناس ذا مروءة) ش: أي إنسانية، وفي المروءة لغتان، الهمزة وتشديد الواو م: (تقبل شهادته لأنه لا يستأجر لوجاهته ويمنع عن الكذب لمروءته) ش: لأنه لا يرضى أن يعرف بين الناس بالكذب، فمروءته تمنعه عن ذلك، وكذلك لا يرى لنفسه أن يستأجر على شهادة الزور خوفا من أن يسلم في وجاهته م: (والأول) ش: وهو عدم قبول شهادة الفاسق مطلقا ذا وجاهة أو لا م: (أصح) ش: لإطلاق قوله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ش: (الطلاق: الآية 2) وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] (الحجرات: الآية 6) .
ولأن قبول الشهادة والعمل بها إكرام الشهادة وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أكرموا الشهود» ... " الحديث، وفي حق الفاسق أمرنا بخلاف ذلك، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا لقيت الفاسق، فالقه بوجه مكفهر» أي شديد العبوسة، ولا مروءة لمن يكون معلنا بفسق شرعا، كذا في " المبسوط ".

(9/112)


إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق، يصح عندنا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصح، والمسألة معروفة. وأما لفظة الشهادة، فلأن النصوص نطقت باشتراطها، إذ الأمر فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة توكيد، فإن قوله: أشهد من ألفاظ اليمين، كقوله: أشهد بالله فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة أشد، وقوله في ذلك كله إشارة إلى جميع ما تقدم حتى يشترط العدالة، ولفظة الشهادة في شهادة النساء في الولادة وغيرها هو الصحيح؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا أن القاضي) ش: أي لكن القاضي م: (لو قضى بشهادة الفاسق يصح عندنا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصح) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل شهادة الفاسق ولا يجوز قضاؤه.
م: (والمسألة معروفة) ش: وقد مر الكلام فيها في أوائل كتاب "أدب القاضي" م: (وأما لفظ الشهادة فلأن النصوص نطقت باشتراطها، إذ الأمر فيها) ش: أي في النصوص م: (بهذه اللفظة) ش: أي لفظة الشهادة. قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] (الطلاق: الآية 2) {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» م: (ولأن فيها) ش: أي لفظ الشهادة م: (زيادة توكيد) ش: لدلالتها على الشهادة.
م: (فإن قوله: أشهد من ألفاظ اليمين، كقوله: أشهد بالله، فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة) ش: أي بلفظة الشهادة م: (أشد) ش: والنصوص وردت بقبولها بهذه اللفظة فيقتصر على مورد النص، ولا يقال: جاء الأمر بالتكبير بلفظ التكبير، قال الله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] (المدثر: الآية 3) ، ومع ذلك أجاز أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبديله بلفظ آخر، مثل الله أجل وأعظم؛ لأنا نقول: إن التكبير للتعظيم.
وفي قوله: "أعظم" صريح التعظيم، فكان مثله من كل وجه بل أزيد، فيلحق به دلالة أما الشهادة فتنبني عن المشاهدة والعيان، ولهذا يذكر للقسم فكانت له زيادة وكادة في الإخبار على قوله: أتيقن أو أعلم، فلا يمكن إلحاقها بلفظ الشهادة.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره " م: (في ذلك كله) ش: أي في جميع ما تقدم م: (إشارة إلى جميع ما تقدم) ش: من أنواع الشهادة م: (حتى يشترط العدالة. ولفظة الشهادة في شهادة النساء في الولادة وغيرها هو الصحيح) ش: احترز به عن قول العراقيين فإنهم لا يشترطون فيها لفظة الشهادة.
وفي " المنتقى " إن لفظة الشهادة والحرية غير معتبرة. وحكي عن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشهادة على الولادة ليست بشهادة، وإنما هي خبر وإليه ذهب صاحب " المختلف "، والذي قاله

(9/113)


لأنها شهادة لما فيه من معنى الإلزام، حتى اختص بمجلس القضاء، ويشترط فيه الحرية والإسلام،
قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الذي اختاره مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعليه مشايخنا.
وقال التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال في " شرح بكر ": قال مشايخ بخارى وبلخ: يشترط لفظة الشهادة، وقال مشايخ العراق: لا يشترط كما في شهادة هلال رمضان م: (لأنها) ش: أي لفظ شهادة النساء بالولادة م: (شهادة) ش: وليست بمجرد إخبار م: (لما فيه من معنى الإلزام) ش: أي إلزام النسب م: (حتى اختص) ش: أي لفظ شهادة النساء م: (بمجلس القضاء) ش: فلا يعتبر في غير مجلس القضاء.
م: (ويشترط فيه) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي في الشاهد: م: (الحرية والإسلام) ش: في جميع ما ذكرنا من مراتب الشهادة، والظاهر أن الضمير في قوله فيه، أي في اشتراط لفظة الشهادة في شهادة النساء بالولادة يشترط الحرية والإسلام أيضا، ويؤيده نسخة شيخنا العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولهذا يشترط الحرية والإسلام أي ولأجل ما فيه من معنى الإلزام، واختصاصه بمجلس القضاء، يشترط في شهادة النساء بالولادة الحرية والإسلام حتى لو كانت أمة أو كافرة لا تقبل.

م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» ش: هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه "، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... إلى آخره م: (ومثل ذلك مروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي مثل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا رواه الدارقطني في "سننه " مطولا جدا عن عبد الله بن أبي المليح الهذلي، قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة ... الحديث، وفيه: "المسلمون عدول

(9/114)


ومثل ذلك مروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الظاهر هو الانزجار عما هو محرم دينه، وبالظاهر كفاية، إذ لا وصول إلى القطع إلا في الحدود والقصاص، فإنه يسأل عن الشهود لأنه يحتال لإسقاطها، فيشترط الاستقصاء فيها، ولأن الشبهة فيها دارئة، وإن طعن الخصم فيهم يسأل عنهم في السر والعلانية، لأنه تقابل الظاهران فيسأل طلبا للترجيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضهم على بعض إلا محدودا في حد أو مخبر بما في شهادة زور، أو ظنينا في ولادة أو قرابة.
وقال الدارقطني: وعبد الله بن حميد ضعيف، وقال النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: متروك الحديث، وقال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: منكر الحديث، واسم أبي حميد عالية بن الخطاب الهذلي الكوفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولأن الظاهر) ش: في حال المسلم م: (هو الانزجار عما هو محرم دينه، وبالظاهر كفاية) ش: فإن قيل: الظاهر يكفي للدفع لا يكفي للاستحقاق، وهاهنا يثبت المدعي استحقاق المدعى به بإقامة البينة.
قيل في جواب: ما أشار إليه المصنف بقوله: م: (إذ لا وصول إلى القطع) ش: أي لا إمكان للوصول إلى الدليل القطعي، إلا الظاهر لأنه لو لم يكتف بالظاهر، احتيج إلى التزكية، وقبول قول المزكي في التعديل أيضا عمل بالظاهر، إذ لو لم يعمل بقوله لاحتيج إلى مزك آخر، ويرد ذلك في الثالث والرابع، فيؤدي إلى الدور والتسلسل.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز أن يقال: الظاهر هنا، اعتبر للدفع لا للاستحقاق؛ لأن دعوى المدعي وإنكاره الخصم تعارضا، وشهادة الشهود وبراءة الذمة كذلك، وبظاهر العدالة اندفع معارضة الذمة، فكان واقعا م: (إلا في الحدود والقصاص) ش: استثناء من قوله ولا يسأل حتى يطعن الخصم إلا في الحدود والقصاص م: (فإنه) ش: أي فإن الحاكم م: (يسأل عن الشهود لأنه يحتال لإسقاطها) ش: أي لإسقاط الحدود، لأن مبناها على الدرء م: (فيشترط الاستقصاء فيها) ش: إذ السؤال عن العدالة ربما يفضي إلى الدرء فيجب السؤال احتيالا له م: (ولأن الشبهة فيها) ش: أي في الحدود م: (دارئة) ش: أي العدالة وإن كانت ظاهرة، وكذا احتمال كونه غير عدل ثابت، فتعمل هذه الشبهة بالدرء.
م: (وإن طعن الخصم فيهم) ش: أي في الشهود م: (يسأل عنهم في السر والعلانية) ش: يعني في غير الحدود والقصاص، لأن في الحدود والقصاص يسأل قبل الطعن م: (لأنه تقابل الظاهران) ش: يعني كما أن الظاهر أن الشهود لا يكذبون، فكذا الظاهر أن الخصم لا يكذب في طعنه، فإذا كان كذلك م: (فيسأل) ش: الحاكم عنهم أي عن الشهود م: (طلبا للترجيح) ش: بين المتعارضين.

(9/115)


وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق، لأن القضاء مبناه على الحجة، وهي شهادة العدول، فيتعرف عن العدالة وفيه صون قضائه عن البطلان وقيل هذا اختلاف عصر وزمان والفتوى على قولهما في هذا الزمان، قال: ثم التزكية في السر أن يبعث المستورة إلى المعدل فيها النسب والحلي والمصلى ويردها المعدل، وكل ذلك في السر كيلا يظهر فيخدع أو يقصد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف ومحمد: - رحمهما الله -: لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق) ش: يعني سواء طعن الخصم أو لم يطعن في جميع الدعوى. وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من كان مشهودا [له] بالعدالة، لم تسأل عنه، ومن عرف جرحه رد شهادته وإنما يجب السؤال مهما شك. م: (لأن القضاء مبناه على الحجة، وهي شهادة العدول، فيتعرف عن العدالة) ش: يقال: تعرفت ما عنده أي تطلبته منه حتى عرفته م: (وفيه) ش: أي في تعرفه م: (صون قضائه) ش: أي حفظه م: (عن البطلان) ش: على تقدير ظهور الشهود عبيدا أو كفارا، فيبطل القضاء.
م: (وقيل: هذا) ش: أي هذا الخلاف م: (اختلاف عصر وزمان) ش: لا اختلاف حجة وبرهان، بيانه أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان في القرن الثالث الذي شهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخيرية لأهله حيث قال: «خير القرون رهطي الذي أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يفشوا الكذب حتى يحلف الرجل قبل أن يستحلف، ويشهد قبل أن يستشهد» وهذا كان في القرن الرابع الذي شهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بفشو الكذب في أهله، فلهذا شرط الاستكشاف، ولو شاهد أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك لقال بقولهما، ولهذا المصنف: م: (والفتوى على قولهما في هذا الزمان) ش: أي على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله.

م: (قال: ثم التزكية في السر أن يبعث المستورة) ش: أي الرقعة يكتب فيها القاضي أمام الشهود وحلاهم م: (إلى المعدل) ش: بكسر الدال سميت بالمستورة؛ لأنها تستر عن نظر العوام م: (فيها) ش: أي المستورة بيان م: (النسب) ش: أي نسب الشهود م: (والحلي) ش: بكسر الحاء المهملة وتخفيف اللام مقصورا جمع حلية.
وفي " المغرب " حلية الإنسان صفته وجاء الضم في الحاء في الجمع والكسر أفصح م: (والمصلى) ش: أي قيل: أراد به الجلسة والظاهر أن المراد به مسجد المحلة م: (ويردها المعدل) ش: أي يرد المعدل المستورة م: (وكل ذلك في السر كيلا يظهر) ش: أي المعدل م: (فيخدع) على صيغة المجهول بالنصب لأنه جواب النفي، أي يخدع بالمال م: (أو يقصد) ش: مجهول أيضا منصوب، لأنه عطف على يخدع، أي يقصد بالإضرار إذا كان ظاهرا.

(9/116)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط " و" فتاوى قاضي خان ": وينبغي للقاضي أن يختار للمسألة عن الشهود من هو أوثق الناس وأورعهم وأكرمهم أمانة وخبرة، وأعلمهم بالتمييز فطنة قبولية المسألة، ثم يكتب في رقعة أسماء الشهود حماية بأنسابهم وحلاهم وقبائلهم ومحلاتهم ورخائهم، ويبعث ملك الرقعة على يد أمين مختومة ولا يطلع أحد على ما في يد أمين حتى لا يخدع بالرشوة.
ولو كان المزكي بعيدا ويجعل أجرة الأمين على المدعي، وثمن الصحيفة الذي يكتب فيها أساميهم عليه أيضا، ثم المزكي يسأل عنهم من أهل حرفتهم، ومن جيرانهم وأهل محلتهم، فإن لم يجد فمن أهل سوقهم، فإذا قال المسئول عنه: هو عدل، يكتب المزكي في آخر الرقعة أنه عدل مرضي عندي جائز الشهادة، ولا يكتب أنه غير عدل غير مرضي.
وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من عرف فسقه لا يكتب ذلك تحت اسمه، بل يكتب احترازا عن هتك الستر، ويقول: الله أعلم، إلا إذا خاف أن القاضي يقضي بشهادته بتعديل غيره، فحينئذ يصرح بذلك.
ومن لم يعرفه لا بالعدل ولا بالفسق يكتب تحت اسمه في كتاب القاضي مستور، ثم يبعثه بتلك الرقعة إلى القاضي سرا، ثم القاضي إن شاء جمع بين تزكية السر وبين تزكية العلانية.
وفي " الذخيرة ": ينبغي أن يكون المزكي صاحب خبرة، ولا يكون منزويا لا يخالط الناس، لأنه إذا لم يخالطهم لا يعرف العدل من غير عدل، وينبغي أن لا يكون طماعا ولا فقيرا، حتى لا ينخدع بالمال.
فإذا لم يجد المزكي أهل مسجده أو أهل محلته أو سوقه يسأل أهل مجلسه، فإن وجد كلهم غير ثقات يعتبر في ذلك تواتر الأخبار، ولو لم يعرف الشهود بالعدالة، فأخبره رجلان عدلان عين النسب.
وعن ابن سماعة عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز في تزكية السر المرأة والعبد والمحدود في القذف إذا كانوا عدولا، ولا يجوز في تزكية العلانية، إلا من يجوز شهادته لأن تزكية السر من الإخبار بأمر ديني، وقول هؤلاء في الأمور الدينية إذا كانوا عدولا مقبول في روايتهم الإخبار شهادتهم بهلال رمضان، أما العلانية نظير الشهادة من حيث أن القضاء لا يجب إلا بها كالشهادة، ويشترط فيها ما يشترط في الشهادة سوى لفظة الشهادة، حتى لا يجوز تزكية الوالد لولده، وعلى العكس في السر جائز.

(9/117)


وفي العلانية لا بد أن يجمع بين المعدل والشاهد لتنتفي شبهة تعديل غيره، وقد كانت العلانية، وحدها في الصدر الأول، ووقع الاكتفاء في السر في زماننا تحرزا عن الفتنة، ويروى عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تزكية العلانية بلاء وفتنة، ثم قيل: لا بد أن يقول المعدل: هو، حر، عدل، جائز الشهادة، لأن العبد قد يعدل، وقيل: يكتفى بقوله: هو عدل؛ لأن الحرية ثابتة بالدار، وهو أصح، قال: وفي قول من رأى أن يسأل عن الشهود لم يقبل قول الخصم أنه عدل معناه قول المدعى عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي العلانية) ش: أي وفي التزكية العلانية م: (لا بد أن يجمع) ش: الحاكم في مجلس القضاء م: (بين المعدل والشاهد لتنتفي شبهة تعديل غيره) ش: لأن الشخصين قد يتفقان في الاسم والنسبة، فيقول المعدل: هذا الذي عدالته يشير إلى الشاهد م: (وقد كانت العلانية) ش: أي التزكية العلانية م: (وحدها) ش: يعني بدون تزكية السر م: (في الصدر الأول) ش: أي الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لأن القوم كانوا صلحاء، والمعدل كان لا يوفي عن الجرح؛ لأنهم كانوا لا يقابلونه بالأذى لو جرحهم، وفي زماننا ليس كذلك م: (ووقع الاكتفاء بالسر في زماننا تحرزا عن الفتنة، ويروى عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تزكية العلانية بلاء وفتنة) ش: لأن الشهود يقابلون المزكي إذا جرحهم بالأذى ويقع بينه وبينهم العداوة.
م: (ثم قيل: لا بد أن يقول المعدل: هو) ش: أي الشاهد م: (حر، عدل، جائز الشهادة، لأن العبد قد يعدل، وقيل: يكتفي بقوله) ش: أي بقول المعدل م: (هو عدل) ش: ولا يشترط أن يقول: هو عدل جائز الشهادة م: (لأن الحرية ثابتة بالدار) ش: لأن الدار دار الإسلام.
وقال المصنف: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهو أصح) ش: وبه قال أصحاب الشافعي، وأحمد - رحمهما الله -، وقال مالك: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من ذكر العدالة والرضاء، بأن يقول: هو عدل مرضي، ولا يقتصر على أحد الوصفين، ذكره في " الجواهر ".
م: (قال: وفي قول من رأى أن يسأل عن الشهود) ش: بيان هذا أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: على طريقة قوله في المزارعة من التخريج على قول من يقول بالسؤال إذا سئل م: (لم يقبل قول الخصم) ش: وهو المدعى عليه م: (أنه عدل) . ش: وفسر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخصم بقوله: م: (معناه قول المدعى عليه) ش: وكذا فسرناه، ولفظ " الجامع الصغير ": محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال في قوله: من رأى أن يسأل عن الشهود بأنه لا يجوز إذا قال: "الخصم المشهود عليه" هو عدل حتى يسأل عنه، انتهى.
وذلك لأن من أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القاضي لا يسأل عن الشهود في غير

(9/118)


وعن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - أنه يجوز تزكيته، لكن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضم تزكية الآخر إلى تزكيته؛ لأن العدد عنده شرط. ووجه الظاهر أن في زعم المدعي وشهوده أن الخصم كاذب في إنكاره، مبطل في إصراره فلا يصلح معدلا، وموضوع المسألة إذا قال: هم عدول، إلا أنهم أخطؤوا أو نسوا، أما إذا قال: أو هم عدول صدق فقد اعترف بالحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحدود والقصاص إلا إذا طعن الخصم وهذا إذا سئل عنهم على قول من رأى ذلك، فقال المشهود عليه: هو عدل، لا يكفي ذلك، حتى يسأل غيره لأن تعديل المشهود عليه ليس بتعديل على الكمال، بل هو تعديل من وجه وجرح من وجه حيث لم يصدقه على شهادته.
م: (وعن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: أنه يجوز تزكيته) ش: أي تزكية الخصم، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وفي قول آخر: لا تجوز.
م: (لكن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما يجوز م: (يضم تزكية الآخر إلى تزكيته؛ لأن العدد عنده شرط) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي بعض النسخ؛ لأن العدد عنده شرط.
وفي " جامع قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كان المدعى عليه يصلح مزكيا، فإن كان فاسقا أو مستورا أو سكت عن جواب المدعي، ولم يجحد فلما شهدوا قال: هم عدول، لا يصح هذا التعديل، لأن العدالة في المزكي شرط عند الكل، ولم يوجد وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القاضي يسأل عن المدعى عليه شهدوا عليك بحق أو بغير حق، فإن قال بحق فهو إقرار، وإن قال بغير حق، لا يقضى بشيء.
م: (ووجه الظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أن في زعم المدعي وشهوده أن الخصم كاذب في إنكاره، مبطل في إصراره) ش: بالصاد المهملة، والإصرار هو الثبات على الشيء أي الخصم مبطل في ثباته على الإنكار م: (فلا يصلح معدلا) ش: لاشتراط العدالة فيه بالاتفاق.
م: (وموضوع المسألة) ش: هذا جواب عما يقال تعديل الخصم إقرار منه بثبوت الحق عليه فكان مقبولا؛ لأن العدالة ليست بشرط فيه بالاتفاق.
فأجاب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: وموضوع المسألة، يعني الذي يثبت عليه هذه المسألة م: (إذا قال) ش: أي المدعي: م: (هم عدول إلا أنهم أخطئوا أو نسوا) ش: ومثل هذا ليس بإقرار بالحق وفيه نظر؛ لأن هذا الكلام مشتمل على الإقرار وغيره، فيصدق في الإقرار على نفسه، ويرد الغير للتهمة.
وأجيب: بأن الإقرار فيه بالنسبة إلى ما عليه؛ لأنه نسبهم في ذلك إلى الخطأ والنسيان، فأنى يكون إقرارا. م: (أما إذا قال: صدقوا أو هم عدول صدقة) ش: جمع صادق م: (فقد اعترف بالحق)

(9/119)


قال: وإذا كان رسول القاضي الذي يسأل عن الشهود واحدا جاز، والاثنان أفضل، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا اثنان والمراد منه المزكي، وعلى هذا الخلاف رسول القاضي إلى المزكي والمترجم عن الشاهد. له أن التزكية في معنى الشهادة؛ لأن ولاية القضاء تبتنى على ظهور العدالة وهو بالتزكية، فيشترط فيه العدد كما تشترط العدالة فيه، وتشترط الذكورة في المزكي في الحدود والقصاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فيقضي القاضي عليه باعترافه لا بالشاهدة.
م: (قال) ش: أي محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإذا كان رسول القاضي الذي يسأل) ش: عن صيغة المجهول م: (عن الشهود واحدا جاز) ش: لأنه ليس بشهادة، فلا يشترط في الخبر العدد م: (والاثنان أفضل) ش: لأنه أحوط م: (وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا اثنان) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - في رواية م: (والمراد منه) ش: أي من رسول القاضي الذي يسأل عن الشهود م: (المزكي) ش: وهو المرسل إليه فكان قوله الذي يسأل عن الشهود صفته الرسول، وتفسيره والذي يسأل عنه عن الشهود هو المزكي م: (وعلى هذا الخلاف رسول القاضي إلى المزكي والمترجم عن الشاهد) ش: يعني يكفي الواحد للتزكية والرسالة والترجمة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من اثنين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والترجمة جائزة إذا كان القاضي لا يعرف نساءهم. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في حق سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر.
وفي " الخلاصة " الترجمان: إذا كان أعمى، فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز م: (له) ش: أي لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن التزكية في معنى الشهادة، لأن ولاية القضاء تبتنى على ظهور العدالة وهو بالتزكية، فيشترط فيه العدد كما تشترط العدالة فيه، وتشترط الذكورة في المزكي في الحدود والقصاص) ش: بإجماع الأئمة الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وكذلك في القصاص.
وذكره في " المختلف والحصر " في كتاب الحدود من باب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يشترط الذكورة في المزكي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، ويشترط أيضا عند الأئمة الثلاثة فيما لا يثبت بشهادة النساء، وعلى هذا الخلاف الجرح، فعندهما يثبت بواحد، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من اثنين. وبه قال الشافعي وأحمد

(9/120)


ولهما أنه ليس في معنى الشهادة، ولهذا لا يشترط فيه لفظة الشهادة. ومجلس القضاء، واشتراط العدد أمر حكمي في الشهادة، فلا يتعداها، ولا يشترط أهلية الشهادة في المزكي في تزكية السر حتى صلح العبد مزكيا، فأما في تزكية العلانية، فهو شرط، وكذا العدد بالإجماع على ما قاله الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختصاصها بمجلس القضاء، قالوا: يشترط الأربعة في تزكية شهود الزنا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أنه) ش: أي أن التزكية م: (ليس في معنى الشهادة، ولهذا) ش: أي لعدم كونه في معنى الشهادة، م: (لا يشترط فيه لفظة الشهادة ومجلس القضاء) ش: فلا يشترط فيها ما يشترط في الشهادة م: (واشتراط العدد أمر حكمي) ش: أي تعبدي ثبت بالنص على خلاف القياس م: (في الشهادة فلا يتعداها) ش: أي فلا يتعدى اشتراط العدد من الشهادة إلى التزكية م: (ولا يشترط أهلية الشهادة في المزكي في تزكية السر حتى صلح العبد مزكيا) ش: لمولاه وغيره.
م: (فأما في تزكية العلانية، فهو شرط وكذا العدد بالإجماع) ش: شرط م: (على ما قاله الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختصاصها بمجلس القضاء) ش: وقال في " الخلاصة ": شرط الخصاف أن يكون المزكي في العلانية غير المزكي في السر. أما عندنا فالذي تزكيهم في العلانية ذكره في الفصل الثاني من كتاب القضاء.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (يشترط الأربعة في تزكية شهود الزنا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: الأربعة من الذكور في الزكيين، ذكره في " الذخيرة ".

(9/121)


فصل وما يتحمله الشاهد على ضربين: أحدهما: يثبت حكمه بنفسه مثل الربيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم، فإذا سمع الشاهد أو رآه، وسعه أن يشهد به، وإن لم يشهد عليه؛ لأنه علم ما هو الموجب بنفسه، وهو الركن في إطلاق الأداء قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] (الزخرف الآية 86) ش: وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وسلم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل ما يتحمله الشاهد]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام تتعلق بأداء الشهادة، بأن الشاهد كيف يشهد عند القاضي م: (وما يتحمله الشاهد على ضربين) ش: أي على نوعين م: (أحدهما يثبت حكمه بنفسه) ش: أي بلا احتياج إلى الإشهاد م: (مثل البيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم، فإذا سمع ذلك الشاهد أو رآه) ش: الذي سمعه مثل البيع والإقرار، وحكم الحاكم هذا من المسموعات، والذي رآه مثل الغصب والقتل، ونحو ذلك من المبصرات م: (وسعه) ش: ويسع الشاهد م: (أن يشهد وإن لم يشهد عليه؛ لأنه علم ما هو الموجب بنفسه، وهو الركن) ش: أي العلم بالموجب بنفسه هو الركن م: (في إطلاق الأداء) ش: أي في جواز أداء الشهادة.
م: (قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] (الزخرف: الآية 68) ش: بيانه أن الله تعالى جوز أداء الشهادة بعد العلم، وقد حصل العلم بالرؤية والسماع، فتصح الشهادة، يدل عليه الإجماع أيضا. ألا ترى أن رجلا لو طلق امرأته ثلاثا أو أعتق عبده أو أمته، وسمع الرجلان ذلك فجاءت المرأة أو العبد يطلب شهادتهما لم يسعهما، ترك الشهادة لئلا يقع الرجل في الوطء الحرام في المرأة والأمة، قالوا: إنما يجوز ذلك إذا رأوه أن يفعل ذلك وعرفوا صحته، فإن سمعا كلامه من وراء حجاب غليظ وحائط لا يرونه، لم يسمعهم الشهادة؛ لأن الصوت يشبه الصوت فلا يجوز الشهادة بالشك.
م: (وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وسلم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» ش: هذا الحديث رواه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه "، والحاكم في "المستدرك "، عن محمد بن سليمان بن مشمول، حدثنا عبيد الله بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشهادة، فقال: "هل ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع» قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وتعقبه

(9/122)


قال: ويقول: أشهد أنه باع، ولا يقول: أشهدني؛ لأنه كذب، ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد، ولو فسر للقاضي لا يقبله لأن النغمة تشبه النغمة، فلم يحصل العلم إلا إذا كان دخل البيت، وعلم أنه ليس فيه أحد سواه ثم جلس على الباب وليس في البيت مسلك غيره، فسمع إقرار الداخل ولا يراه، له أن يشهد؛ لأنه حصل العلم في هذه الصورة ومنه ما لا يثبت الحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذهبي في "مختصره "، فقال: بل هو حديث واه، فإن محمد بن سليمان بن مشمول ضعفه غير واحد، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه في إسناده، ولا في متنه.
فإن قيل: جعل العلم بالموجب ركنا في الأداء مخالف للنصين جميعا، فإنهما لا بد؛ لأنه على شرطيته وعلى ركنيته، إذ الأحوال شروط وهي موضوعة للشرط. أجيب: بأنه مجاز عن الشرط وإنما غير عنه بذلك إشارة إلى شدة احتياج الأداء إليه.
م: (قال: ويقول: أشهد أنه باع) ش: يعني إذا سمع المبايعة ولم يشهد عليها، واحتيج إلى الشهادة يقول الشاهد: إنه باع م: (ولا يقول: أشهدني لأنه كذب) ش: لأنه ما أشهده.
وفي " الذخيرة ": هذا في البيع الصريح، أما في البيع على سبيل التعاطي، يشهدون على الآخذ والإعطاء؛ لأن التعاطي بيع حكمي، وقيل: لو شهدوا على البيع يجوز.
م: (ولو سمع من وراء الحجاب) ش: أي قول واحد: بعت، وقول آخر: اشتريت, م: (لا يجوز له أن يشهد ولو فسر للقاضي) ش: بأن قال: أشهد بالسماع من رواء الحجاب م: (لا يقبله؛ لأن النغمة تشبه النغمة، فلم يحصل العلم) ش: وهي الكلام الخفي من حد ضرب، يقال: فلان حسن النغمة إذا كان حسن الصوت في القراءة م: (إلا إذا كان) ش: استثناء من قوله: لا يجوز له أن يشهد إلا إذا كان، أي الشاهد م: (دخل البيت وعلم أنه ليس فيه) ش: أي في البيت م: (أحد سواه ثم جلس على الباب وليس في البيت مسلك غيره) ش: أي غير الباب م: (فسمع إقرار الداخل ولا يراه) ش: فحينئذ يجوز م: (له أن يشهد) ش: على إقراره م: (لأنه حصل العلم في هذه الصورة) ش: وكان ابن مقاتل لم يجوز الشهادة بالسماع من وراء الحجاب مطلقا.
وقال أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا رأى شخصها حال إقرارها يجوز، وإلا لا شرط رؤية شخصها لا رؤية وجهها كما في " الذخيرة " م: (ومنه) ش: هذا بيان للضرب الثاني من الضربين الذين ذكرهما بقوله: ما يتحمله الشاهد على ضربين أي ما يتحمله الشاهد. م: (ما لا يثبت الحكم

(9/123)


فيه بنفسه مثل الشهادة على الشهادة، فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء، لم يجز له أن يشهد على شهادته إلا أن يشهده عليه؛ لأن الشهادة غير موجبة بنفسها، وإنما تصير موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء، فلا بد من الإنابة والتحميل ولم يوجد وكذا لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته لم يسع للسامع أن يشهد، لأنه ما حمله وإنما حمل غيره. ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يتذكر الشهادة؛ لأن الخط يشبه الخط، فلم يحصل العلم، قيل هذا على قول لأبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما يحل له أن يشهد، وقيل هذا بالاتفاق، وإنما الخلاف فيما إذا وجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه بنفسه مثل الشهادة على الشهادة) ش: فإنها لا يثبت بها الحكم ما لم يشهد.
م: (فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء لم يجز له أن يشهد على شهادته إلا أن يشهده عليه) ش: بضم الباقي يشهد لأنه مجهول م: (لأن الشهادة) ش: أي شهادة الأصول م: (غير موجبة بنفسها) ش: وفي بعض النسخ: غير مثبتة بنفسها م: (وإنما تصير) ش: أي الشهادة م: (موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء، فلا بد من الإنابة والتحميل) ش: أي لا بد من الإنابة بتحمل الشهادة في الفرع حتى ينقلها الفرع إلى مجلس القاضي.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأول يعني قوله: "الإنابة" إشارة إلى مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول بطريق التوكيل، ولا توكيل إلا بأمر الموكل، والثاني يعني قوله، و"التحمل" إشارة إلى مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -؛ فإنهما لم يجعلاه بطريق التوكيل بل بطريق التحميل م: (ولم يوجد) ش: أي كل واحد من الإنابة والتحميل.
م: (وكذا لو سمعه) ش: أي إذا سمع الشاهد م: (يشهد الشاهد على شهادته، لم يسع للسامع أن يشهد؛ لأنه) ش: أي لأن ذلك الشاهد م: (ما حمله السامع) على شهادته م: (وإنما حمل غيره) ش: غير السامع، وهذا بخلاف القاضي إذا شهد على قضيته، وسمع بذلك آخرون، وسمعهم أن يشهدوا؛ لأن قضاءه حجة بمنزلة الإقرار والبيع وغير ذلك، فيصح التحميل من غير إشهاد. كذا ذكره فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ".
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يتذكر الشهادة؛ لأن الخط يشبه الخط، فلم يحصل العلم) ش: وهذا كما رأيت، لم يذكر القدوري فيه الخلاف، وكذا لم يذكر في " شرح الأقطع "، وكذلك الخصاف لم يذكر الخلاف في " أدب القاضي " فلأجل هذا قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (قيل: هذا على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يحل له أن يشهد) ش: وكذا ذكر الخلاف في " المختلف "، وذكر أي القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ورووا الخبر كذلك على الخلاف.
م: (وقيل: هذا) ش: أي عدم الحل بدون تذكر الحادثة م: (بالاتفاق، وإنما الخلاف فيما إذا وجد

(9/124)


القاضي شهادته في ديوانه أو قضيته؛ لأن ما يكون في قمطره فهو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة والنقصان فحصل له العلم بذلك، ولا كذلك الشهادة في الصك؛ لأنه في يد غيره، وعلى هذا إذا تذكر المجلس الذي كان فيه الشهادة، أو أخبره قوم ممن يثق بهم أنا شهدنا نحن وأنت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاضي شهادته) ش: أي شهادة شاهد م: (في ديوانه أو قضيته) ش: أو وجد حكمه مكتوبا في خريطته م: (لأن ما يكون في قمطره) ش: في خريطته، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القمطر بكسر القاف وفتح الميم وسكون الطاء ما يضاف فيه الكتب.
قال: ليس العلم ما بقي القمطر وما العلم إلا ما وعا الصدر م: (فهو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة والنقصان فحصل له) ش: أي للقاضي م: (العلم بذلك، ولا كذلك الشهادة في الصك؛ لأنه في يد غيره) ش:.
وفي "أدب القاضي": من " المبسوط " هاهنا ثلاثة فصول أحدها: القاضي إذا وجد في ديوانه صحيفة شهادة، ولم يتذكر أنهم شهدوا بذلك ولا حكمه فعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحكم بدون الذكر، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله -: إذا وجد ذلك في قطرة تحت خاتمه يجوز أن يقضي به وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
والثاني: الشاهد يجد شهادته في صك وعلم أنه خطه وهو معروف، ولم يتذكر الحادثة، والثالث: إذا سمع حديثا فوجده مكتوبا بخطه ووجد سماعه مكتوبا بخط غيره، لا يحل له الرواية عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بدون التذكر، ولهذا قلت روايته لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ في الفصول الثلاثة بالرخصة تيسيرا.
وقال: يعتمد خطه إذا كان معروفا. وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسألة القضاء والرواية أخذا بالرخصة؛ لأن المكتوب كان في يده، وفي مسألة الشهادة أخذ بالعزيمة، ولو نسي القاضي قضاءه، ولم يكن مسجلا فشهد حكمه ولم يمضه عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند محمد وأحمد وابن أبي ليلى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يقضي به ويمضيه.
م: (وعلى هذا) ش: هذا عطف على قوله: ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أي على ما قيل: من الوجهين من وجه بالاتفاق والاختلاف. م: (إذا تذكر المجلس الذي كان فيه الشهادة) ش: ولم يتذكر الحادثة. م: (أو أخبره قوم ممن يثق بهم أنا شهدنا نحن وأنت) ش: لا يحل له أن يشهد بالاتفاق، وقيل: لا يحل ذلك على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما.

(9/125)


قال: ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا في النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القضاء، فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به، وهذا استحسان، والقياس أن لا تجوز؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، وذلك بالعلم ولم يحصل، فصار كالبيع. وجه الاستحسان أن هذه أمور تختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس، ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون، فلم لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع أدى إلى الحرج وتعطيل الأحكام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[شهادة الشاهد بشيء لم يعاينه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا في النسب) ش: طريق معرفة النسب أن يسمع من فلان بن فلان من جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما إذا أخبره عدلان أنه ابن فلان تحل له الشهادة م: (والموت) ش: إذا سمع من الناس أن فلانا مات أو رآهم صنعوا ما يصنع بالموتى وسعه أن يشهد على موته وإن لم يعاين ذلك.
وروى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أخبرك واحد عدل بالموت وسعك أن تشهد م: (والنكاح) ش: إذا رأى رجلا يدخل على امرأة وسمع من الناس أن فلانا زوجه فلا وسعه أن يشهد أنها زوجته، وإن لم يعاين عقد النكاح.
م: (والدخول) ش: أن يسمع ناسا يقولون: إن فلانا تزوج بفلانة م: (وولاية القاضي) ش: إذا رأى رجلا قضى لرجل بحق من الحقوق وسمع من الناس أنه قاضي هذه البلدة وسعه أن يشهد أنه قاضي بلدة كذا، قضى لفلان بكذا، وإن لم يعاين تقليد الإمام إياه م: (فإنه) ش: أي فإن الشاهد م: (يسعه أن يشهد بهذه الأشياء) ش: الخمسة المذكورة، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: إن كان في غاية الشهرة.
وقال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز في النكاح، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية م: (إذا أخبره بها) ش: أي إذا أخبر المشاهد بهذه الأشياء م: (من يثق به) .
م: (وهذا استحسان والقياس أن لا تجوز) ش: الشهادة بالتسامع م: (لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، وذلك) ش: يحصل م: (بالعلم ولم يحصل، فصار) ش: حكم هذا م: (كالبيع) ش: حيث لا يجوز الشهادة فيه بالتسامع لعدم المشاهدة م: (وجه الاستحسان أن هذه أمور تختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس) ش: لا يطلع عليها إلا هم م: (ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون) ش: كالإرث والنسب والموت والنكاح وثبوت الملك في قضاء القاضي، وكثبوت كمال المهر في الدخول ونحو ذلك مثل النسب والعدة والإحسان.
م: (فلو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع أدى إلى الجرح وتعطيل الأحكام) ش: لأن العادة لم تجر

(9/126)


بخلاف البيع؛ لأنه يسمعه كل أحد، وإنما يجوز للشاهد أن يشهد بالاشتهار، وذلك بالتواتر أو بإخبار من يثق به، كما قال في الكتاب، ويشترط أن يخبره رجلان عدلان أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم،
وقيل في الموت: يكتفي بإخباره واحد أو واحدة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بحضور الناس الولادة، وإنما يرون الصبي مع أمه، وينسبونه إلى الأب، ويقولون: هو ابن فلان، وكذلك عند الموت لا يحضره إلا الأقارب، فإذا رأوا الجنازة تحكموا بأن فلانا مات، وكذلك النكاح لا يحضره كل أحد، فإذا أخبر بعضهم بعضا أن فلانا نكح فلانة، يقتصرون على ذلك في التحقيق.
وكذلك لا يعلم إلا بأمارته، وكذلك ولاية القاضي، لا يحضر بها كل أحد، فإذا قرئ الحكم وحبس القاضي في مجلس الحكام، ونظر بين الخصوم وتحققوا أنه قاضي، ألا ترى أنا نشهد أن عليا بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإن لم نعاين الولادة، ونشهد أن أبا بكر وسائر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ماتوا وإن لم نعاين الموت، ونشهد أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن لم نعاين النكاح، وكذا نشهد أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دخل بها وإن لم نعاين الدخول، وكذا نشهد أن شريح بن الحارث كان قاضيا وإن لم نعاين ذلك.
م: (بخلاف البيع؛ لأنه يسمعه كل أحد) ش: وسبب الملك وهو البدو هو مما يعاينه كل واحد م: (وإنما يجوز للشاهد) ش: هذا جواب عما يقال هذا الاستحسان مخالف للكتاب، فإن العلم مشروط في الكتاب، ولا علم فيما نحن فيه، وتقرير الجواب أن يقال لا نسلم أن لا علم فيما نحن فيه، فإنما يجوز للشاهد م: (أن يشهد بالاشتهار، وذلك) ش: أي الاشتهار م: (بالتواتر أو بإخبار من يثق به) ش: فالأول اشتهار حقيقة، والثاني اشتهار حكما م: (كما قال في الكتاب) ش: أي " مختصر القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا إشارة إلى ما ذكره بقوله قبل هذا إذا أخبره بها من يثق به.
وبين المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العدد فيمن يثق به شرط بقوله م: (ويشترط أن يخبره رجلان عدلان أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم) ش: وهذا على قول أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأما على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا تجوز الشهادة ما لم يسمع ذلك من العامة بحيث يقع في قلبه صدق الخبر، وإذا ثبتت الشهرة عندهم بخبر عدلين يشترط أن يكون الإخبار بلفظة الشهادة على ما قالوا؛ لأنها توجب زيادة علم شرعا لا يوجبها لفظ الخبر.

[الشهادة بالتسامع على الموت]
م: (وقيل في الموت: يكتفى بإخبار واحد أو واحدة) ش: إنما قال بلفظ قيل؛ لأن في الموت اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عامتهم على أنه يكتفى بإخبار واحد عدل، وهو المروي عن ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إذا أخبرك عدل بالموت وسعك أن تشهد به، وبعضهم

(9/127)


لأنه قلما يشاهد حالة غير الواحد، إذ الإنسان يهابه ويكرهه، فيكون في اشتراط العدد بعض الحرج ولا كذلك النسب والنكاح،
وينبغي أن يطلق أداء الشهادة ولا يفسر، أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته، كما أن معاينة اليد في الأملاك مطلق للشهادة، ثم إذا فسر لا تقبل، كذا هذا، وكذا لو رأى إنسانا جلس مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم، حل له أن يشهد على كونه قاضيا، وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان بيتا وينبسط كل واحد منهما إلى الآخر انبساط الأزواج، كما إذا رأى عينا في يد غيره.
ومن شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته، فهو معاينة حتى لو فسر للقاضي قبله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالوا: لا يكتفى بخبر الواحد، كما في النكاح، وإليه ذهب ظهير الدين في "فتاواه "، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن الإنسان م: (قلما يشاهد حاله) ش: أي حال الموت م: (غير الواحد، إذ الإنسان يهابه) ش: أي الموت م: (ويكرهه، فيكون في اشتراط العدد بعض الحرج ولا كذلك النسب والنكاح) ش: فإن فيهما لا بد من عدلين.
وقال شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهاهنا مسألة عجيبة لا رواية بها، وهو أن الموت إذا لم يعاينه إلا واحد، فلو شهد عند القاضي، لا يقضي بشهادته وحده ماذا يصنع، قالوا: يخبر بذلك عدلا مثله، فإذا سمع منه حل له أن يشهد على موته، فيشهد هو مع ذلك الشاهد حتى يقضي القاضي بشهادتهما.
ولو شهد واحد بالموت، وأخبر بالحياة، فامرأته تأخذ بقول من يخبر بالموت؛ لأنه يثبت العارض ذكره رشيد الدين في فتاواه، وذكر فيه إنما تجوز الشهادة بالتسامع على الموت إذا كان الرجل معروفا، بأن كان عالما أومن العمال، أما إذا كان تاجرا أو من هو مثله لا يجوز إلا بالمعاينة.

[أداء الشهادة بالتسامع]
م: (وينبغي أن يطلق أداء الشهادة) ش: هذا بيان لكيفية الأداء. قوله: "أن يطلق" أي يقول: أشهد أن فلان بن فلان كما نشهد أن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ابن أبي قحافة والخطاب ولم نشاهد شيئا من ذلك م: (ولا يفسر، أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته، كما أن معاينة اليد في الأملاك مطلق الشهادة، ثم إذا فسر) ش: إنما يشهد لأنه رآه في يده م: (لا تقبل، كذا هذا، وكذا) ش: لأنه إذا أطلق يعلم أنه وقع في قلبه صدقه، فتكون الشهادة من علم ولا كذلك إذا فسر، ويقول: سمعت هذا م: (لو رأى إنسانا جلس مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم، حل له أن يشهد على كونه قاضيا، وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان بيتا، وينبسط كل واحد منهما إلى الآخر انبساط الأزواج كما إذا رأى عينا في يد غيره) ش: جاز له أن يشهد أنه امرأته [كما إذا رأى عينا في يد غيره] جاز له أن يشهد له به.

[شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته]
م: (ومن شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته، فهو معاينة حتى لو فسر للقاضي قبله)

(9/128)


ثم قصر الاستثناء في الكتاب على هذه الأشياء الخمسة ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا أنه يجوز في الولاء؛ لأنه بمنزلة النسب؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز في الوقف؛ لأنه يبقى على مر الأعصار، إلا أنا نقول: الولاء يبتنى على زوال الملك، ولا بد فيه من المعاينة، فكذا فيما يبتنى عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: لأنه لا يدفن إلا الميت ولا يصلى إلا عليه م: (ثم قصر الاستثناء في الكتاب) ش: يعني قصر اعتبار التسامع في " كتاب القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على هذه الأشياء) ش: أي على الأشياء م: (الخمسة) ش: في قوله إلا النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي م: (ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف) ش: قوله ينفي خبر لقوله قصر الاستثناء، وهو مرفوع على الابتداء، مصدر مضاف إلى مفعوله، حاصل المعنى لا تجوز الشهادة بالتسامع في الولاء والوقف.
وفي " شرح الأقطع ": قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا تجوز الشهادة بالولاء، أي يسمعا المعتق، هكذا ذكر في الأصل في رواية أبي حفص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، ثم رجع وقال: شهدوا علي ولا شهود جاز، وهو إحدى الروايتين عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو معنى قوله: م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخراً: أنه يجوز في الولاء؛ لأنه بمنزلة النسب) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وبعض أصحاب الشافعي م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» ش: والشهادة على النسب جائزة بالتسامع فكذا على الولاء، ألا ترى إنما نشهد أن قنبر مولى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأن عكرمة مولى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وإن لم ندرك.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي التسامع أي الشهادة به م: (يجوز في الوقف؛ لأنه يبقى على مر الأعصار) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والإصطخري من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا أنا نقول:) ش: جواب عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (الولاء يبتنى على زوال الملك) ش: وهو إزالة ملك اليمين م: (ولا بد فيه من المعاينة) ش: لأنه يحصل بكلام يسمعه الناس م: (فكذا فيما يبتنى عليه) ش: أي فكذا لا بد من المعاينة فيما يبتنى على زوال الملك، وهو الولاء.

(9/129)


وأما الوقف، فالصحيح أنه تقبل الشهادة في التسامع في أصله دون شرائطه؛ لأن أصله هو الذي يشتهر، قال: ومن كان في يده شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له؛ لأن اليد أقصى ما يستدل به على الملك، إذ هي مرجع الدلالة في الأسباب كلها فيكتفى بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " أدب القاضي " للشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الحلواني: أن الخلاف ثابت في العتق أيضاً؛ لأن الشهادة على الولاء شهادة على العتق أيضاً.
وذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشهادة على العتق بالتسامع لا تقبل بالإجماع. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد ومالك - رحمهما الله -: يقبل في العتق أيضاً، ثم الخصاف شرط لسماع الشهادة بالتسامع الولاء عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " المبسوط " شرط لم يشترطه محمد، فقال: إنما يقبل إذا كان المعتق مشهوراً، وللعتق أبوان أو ثلاثة في الإسلام.

[الشهادة بالوقف بالاستفاضة]
م: (وأما الوقف، فالصحيح أنه يقبل الشهادة بالتسامع في أصله دون شرائطه؛ لأن أصله هو الذي يشتهر) ش: وشرائطه لا تشتهر، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الأصح.
وفي " شرح الأقطع ": ولا يجوز الشهادة بالوقف بالاستفاضة. وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال المرغيناني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من بيان الجهة بأن يشهد بأن هذا وقف على المسجد أو على المقبرة أو ما أشبهه، حتى لو لم يذكر ذلك لا تقبل شهادته، وفي " المجتبى ": والمختار أن يقبل على شرائط الوقف أيضاً.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن كان في يده شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له) ش: وفي " جامع قاضي خان " صورة المسألة رجل رأى عيناً في يد إنسان، ثم رآها في يد الآخر، والأول يدعي الملك، وسعه أن يشهد أنه للمدعي؛ لأن الملك في الأشياء لا يعرف بطريق التعيين، وإنما يعرف بطريق الظاهر، واليد بلا منازع دليل الملك ظاهراً، بل لا دليل لمعرفة الملك للشاهد سوى اليد بلا منازعة م: (لأن اليد أقصى ما يستدل به على الملك إذ هي) ش: أي اليد م: (مرجع الدلالة في الأسباب كلها) ش: من الشراء والهبة ونحو ذلك م: (فيكتفى بها) ش: أي باليد، فجاز للشاهد أن يشهد بدلالة اليد على الملك، ولكن لا يقول عند الشهادة: أشهد بأنه ملكه؛ لأني رأيته في يده؛ لأن الظاهر هو يكفي لأداء الشهادة ما لا يكفي للقضاء، إلا في العبد والأمة إذا كانا كبيرين يعبران عن أنفسهما؛ لأنهما في يد أنفسهما، فلأن يكون مجرد استعمالهما دليل الملك؛ لأن الحر قد يخدم الحر إعارة أو إجارة، كأنه عبد، وهو إذا كان له يعرف أنهما رقيقان، أما إذا عرفا أنهما رقيقان، فتجوز الشهادة؛ لأن العبد والأمة لا بد لهما على

(9/130)


وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يشترط مع ذلك أن يقع في قلبه أنه له، قالوا: ويحتمل أن يكون هذا تفسيرا لإطلاق محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرواية فيكون شرطا على الاتفاق، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - دليل الملك اليد مع التصرف، وبه قال بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن اليد متنوعة إلى أمانة وملك. قلنا: والتصرف يتنوع أيضا إلى نيابة وأصالة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنفسهما، وكذا تجوز الشهادة إذا كانا صغيرين لا يعتبران عن أنفسهما، وإن لم يعرفا أنهما رقيقان ولهذا المعنى.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يشترط مع ذلك) ش: أي مع رؤية اليد والتصرف م: (أن يقع في قلبه أنه له) ش: أي أن هذا الشيء لمن في يده، وفي " الفوائد الظهيرية ": أسند هذا القول إلى أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: وعنهما، ووجهه أن الأصل في الشهادة الإحاطة واليقين، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» .
وعند [ ... ] أن ذلك يصار إلى ما يشهد به القلب، ولهذا قيل: إذا رأى إنسان درة ثمينة في يد كناس أو كتاباً في يد جاهل، ليس في أمانة من هو أهل لذلك، لا يسعه أن يشهد بالملك له.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (ويحتمل أن يكون هذا) ش: أي ما ذكر من شهادة القلب م: (تفسيراً لإطلاق محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرواية فيكون شرطاً على الاتفاق) ش: وهو قوله: " وسعك أن تشهد أنه له "، وذكر الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": ويحتمل أن يكون قوله قول الكل، وبه نأخذ.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دليل الملك اليد مع التصرف) ش: أي التصرف مدة طويلة، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو حامد الحنبلي م: (وبه قال بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: وهو الخصاف م: (لأن اليد متنوعة إلى أمانة وملك) ش: وكذا إلى ضمان الإنابة كالوكيل والمضارب م: (قلنا: والتصرف يتنوع أيضا إلى نيابة وأصالة) ش: بضم، يحتمل إلى محتمل يريد الاحتمال فبقي العلم.
وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والإصطخري من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز أن يشهد في الكل بالاستفاضة؛ لأنه موجب للعلم الظاهر، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح: لا يجوز؛ لاحتمال أنه أشهر من رجل، ويكون لغيره، وهو كثير فلا

(9/131)


ثم المسألة على وجوه: إن عاين المالك الملك حل له أن يشهد، وكذا إذا عاين الملك بحدوده دون المالك استحسانا؛ لأن النسب يثبت بالتسامع، فيحصل معرفته، وإن لم يعاينها، أو عاين المالك دون الملك لا يحل له، وأما العبد والأمة، فإن كان يعرف أنهما رقيقان، فكذلك؛ لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، وإن كان لا يعرف أنهما رقيقان، إلا أنهما صغيران لا يعبران عن أنفسهما فكذلك؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفيد علماً.

م: (ثم المسألة على وجوه) ش: أي هذه المسألة على وجوه أربعة بالقسمة العقلية، الأول: هو قوله م: (إن عاين المالك الملك) ش: جميعاً فحينئذ م: (حل له أن يشهد) ش: لأن شهادته عن علم وبصيرة؛ لأنه عرف المالك بوجهه واسمه ونسبه، وعرف الملك بحدوده وحقوقه ورآه في يده، الثاني: هو قوله: م: (وكذا إذا عاين الملك بحدوده) ش: تنسب إلى فلان بن فلان الفلاني، ولم يعاينه بوجهه ولم يعرفه بنسبه، وهو معنى قوله م: (دون المالك) ش: يجوز أن يشهد م: (استحساناً) ش: والقياس أن لا يجوز؛ لأنها شهادة بالملك، ثم المالك مع جهالة المشهود له وجه الاستحسان هو قوله م: (لأن النسب) ش: أي نسب المالك م: (يثبت بالتسامع) ش: والشهرة م: (فيحصل معرفته) ش: أي معرفة المالك، فكانت شهادة بمعلوم.
ألا ترى أن صاحب الملك إذا كانت امرأة لا تبرز ولا تخرج، كان اعتبار مشاهدتها وتصرفها بنفسها لجواز الشهادة مبطلاً لحقها ولا يجوز ذلك. وعورض بأنه يستلزم الشهادة بالتسامع في الأموال، وهي باطلة.
وأجيب: بأن الشهادة بالنسبة إلى المال ليست بالتسامع بل بالعيان. والتسامع إنما هو بالنسبة إلى النسب قصداً، وهو مقبول فيه كما تقدم في خبر ذلك ببيت المال، والاعتبار للتضمن، والثالث: وهو قوله: م: (وإن لم يعاينها) ش: أي وإن لم يعاين الملك المالك جميعاً، بأن سمع من الناس أن لفلان بن فلان ضيعة في بلد كذا، حدودها كذا وكذا، ولا يشهد لأنه مجازف في الشهادة، والرابع: وهو قوله م: (أو عاين المالك دون الملك) ش: فكذلك لا يشهد بجهالة المشهود به، وقوله م: (لا يحل له) ش: جواب الوجهين الأخيرين.
م: (وأما العبد والأمة) ش: مردود إلى قوله سوى العبد والأمة، تقريره إذا رأى عبداً أو أمة في يد شخص م: (فإن كان يعرف أنهما رقيقان فكذلك) ش: أي حل للرائي أن يشهد لذي اليد بالملك م: (لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه) ش: بل يكون في يد المستولي عليه م: (وإن كان لا يعرف أنهما رقيقان إلا أنهما صغيران لا يعبران عن أنفسهما فكذلك) ش: يعني يحل له أن يشهد م: (لأنه

(9/132)


لا بد لهما، وإن كانا كبيرين فذلك مصرف الاستثناء لأن لهما يدا على أنفسهما، فيدفع يد الغير عنهما فانعدم دليل الملك وعن أبي حنيفة - رحمه الله- أنه يحل له أن يشهد فيهما أيضاً اعتباراً بالثياب، والفرق ما بيناه، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا بد لهما) ش: أي الصغيرين م: (وإن كانا كبيرين) ش: أي العبد والأمة م: (فذلك مصرف الاستثناء) ش: بقوله سوى العبد والأمة م: (لأن لهما يداً على أنفسهما، فيدفع يد الغير عنهما فانعدم دليل الملك) ش: حتى إن الصبي الذي يعقل إن أقر بالرق على نفسه لغيره جاز، ويصنع به المقر به ما يصنع بمملوكه.
واعترض بأن الاعتبار في الحرية والرق لو كان لتعبيرهما عن أنفسهما لاعتبر دعوى الحرية منهما بعد الكبر في يد من ادعى رقيقاً، وأجيب: بأنه إنما لم يعتبر ذلك لثبوت الرق عليهما للولي في الصغر، وإنما المعتبر بذلك إذا لم يثبت لأحد عليهما رق وأجيب.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يحل له أن يشهد فيهما أيضاً) ش: أي في الكبيرين م: (اعتباراً بالثياب) ش: والدواب لدلالة اليد على الملك م: (والفرق ما بيناه) ش: وهو قوله لأن لهما يداً على أنفسهما يدفعان بها يد الغير عنها، بخلاف الثياب والدواب؛ لأنه لا يد لهما على أنفسهما. م: (والله أعلم بالصواب) .

(9/133)