البناية شرح الهداية

باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل قال: ولا تقبل شهادة الأعمى، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقبل فيما يجري فيه التسامع؛ لأن الحاجة فيه إلى السماع ولا خلل فيه. وقال أبو يوسف والشافعي - رحمهما الله -: يجوز إذا كان بصيرا وقت التحمل لحصول العلم بالمعاينة، والأداء يختص بالقول، ولسانه غير موف، والتعريف يحصل بالنسبة كما في الشهادة على الميت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل شهادته]
[شهادة الأعمى]
م: (باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل شهادته) ش: أي هذا باب في بيان من تقبل شهادته ولا تقبل، ولما فرغ عن بيان ما يسمع من الشهادة وما لا يسمع شرع في بيان من تسمع منه الشهادة ومن لا تسمع، إلا أنه قدم الأول لأن المحال مشروط، والشرط مقدم كالطهارة، وأصل رد الشهادة ومبناه التهمة. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شهادة لمتهم» ، وهي قد تكون بمعنى في الشاهد كالفسق، وقد تكون لمعنى في المشهود له من قرابة متهم بإيثار المشهود له على المشهود عليه، كالولادة، وقد تكون لخلل في أداة التمييز كالعمى، وقد تكون تهمة الكذب مع قيام العدالة بدليل شرعي، وهو المحدود في القذف بعد التوبة عندنا وقبل التوبة عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا تقبل شهادة الأعمى، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل فيما يجري فيه التسامع) ش: كالنسب والموت م: (لأن الحاجة فيه إلى السماع ولا خلل فيه) ش: أي في السماع.
وبه قال الشافعي ومالك - وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وهو قول النخعي والثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تقبل فيما طريقه السماع أيضاً، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - واختاره المزني، وهو قول الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وربيعة والليث وشريح، وعطاء وابن أبي ليلى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وكذا يقبل في الترجمة عند الكل؛ لأن العلم يحصل له فيها كالبصير، إذ حصول العلم بالسماع، وهو كالبصير في السماع، ويعرف القائل باسمه ونسبه.
م: (وقال أبو يوسف والشافعي - رحمهما الله -: يجوز إذا كان بصيراً وقت التحمل لحصول العلم بالمعاينة، والأداء يختص بالقول، ولسانه غير موف) ش: يعني لم تصبه آفة، فقال آيف فلان على ما لم يسم فاعله، أي أصابته آفة فهو مؤوف على مثال مصوف، والآفة العاهة م: (والتعريف) ش: أي تعريف الشهود له وعليه م: (يحصل بالنسبة) ش: بأن يقول أشهد على فلان بن فلان م: (كما في الشهادة على الميت) ش: إذا شهد عليه بأن لفلان عليه كذا من الدين فإنها تقبل بالاتفاق إذا ذكر

(9/134)


ولنا أن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة، وفيه شبهة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود، والنسبة لتعريف الغائب، دون الحاضر، فصار كالحدود والقصاص، ولو عمي بعد الأداء يمتنع القضاء عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -؛ لأن قيام الأهلية للشهادة شرط وقت القضاء لصيرورتها حجة عنده، وقد بطلت وصار كما إذا خرس، أو جن، أو فسق بخلاف ما إذا ماتوا أو غابوا؛ لأن الأهلية بالموت قد انتهت وبالغيبة ما بطلت.
قال: ولا المملوك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضه م: (ولنا أن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة) ش: أي الصوت م: (وفيه) ش: أي وفي النغمة بتأويل الصوت م: (شبهة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود) ش: فإن للشهود البصر أكثره فيهم غنية عن شهادة الأعمى.
م: (والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر) ش: هذا جواب عن قوله والتعريف يحصل بالنسبة، تقريره أن النسبة إنما تكون مقام الإشارة عند موت الشهود عليه أو غيبته، على أن هناك تقع الإشارة إلى وصي الميت، وهو في ذلك قائم مقامه م: (فصار كالحدود والقصاص) ش: يعني أن في الحدود والقصاص لا تقبل شهادة للشاهد، فكذا هذا.
م: (ولو عمي بعد الأداء) ش: أي ولو عمي الشاهد بعد أداء الشهادة قبل الحكم بها م: (يمتنع القضاء) ش: يعني لم يجز الحكم بها م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لأن قيام الأهلية للشهادة شرط وقت القضاء لصيرورتها) ش: أي لصيرورة الشهادة م: (حجة عنده وقد بطلت) ش: أي عند القضاء، ولا قيام لها م: (وصار كما إذا خرس، أو جن، أو فسق) ش: بعد الأداء قبل العقد ألا يقضي القاضي بشهادته، والأمر الكلي في هذا إنما يمنع الأداء منع القضاء؛ لأن المقصود من أدائها القضاء، وهذه الأشياء تمنع الأداء بالإجماع، فمع القضاء والعمى بعد التحمل يمنع الأداء عندهما، فيمنع القضاء، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يمنع الأداء، فلا يمنع القضاء.
م: (بخلاف ما إذا ماتوا أو غابوا) ش: هذا جواب عما يقال: لا نسلم أن قيام الأهلية وقت القضاء شرط، فإن الشاهد إذا مات أو غاب قبل الأداء، لا يمنع القضاء، وتقرير الجواب أن الشهود إذا ماتوا أو غابوا لا يمنع القضاء م: (لأن الأهلية بالموت انتهت) ش: والشيء يتقرر بانتهائه م: (وبالغيبة ما بطلت) ش: أي الشهادة.
ألا ترى أن شاهد الفرع إذا شهد بعد موت الأصل تقبل شهادته، القضاء يكون بشهادة الأصول، فكذلك اعتراض الموت لا يمنع القضاء بالشهادة.

[شهادة المملوك]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا المملوك) ش: وهذا عطف على قوله شهادة الأعمى، أي ولا تقبل شهادة المملوك، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(9/135)


لأن الشهادة من باب الولاية، وهو لا يلي نفسه فأولى أن لا تثبت له الولاية على غيره
ولا المحدود في القذف وإن تاب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] م: (النور الآية: 4) ولأنه من تمام الحد لكونه مانعا، فيبقى بعد التوبة كأصله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أقبل شهادة العبيد بعضهم على بعض، ولا أقبلها على حر.
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه يقبل على الأحرار والعبيد، وبه قال عثمان البتي - وإسحاق - وأحمد وداود - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وعن الشعبي والنخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنهما قالا: تقبل في القليل دون الكثير.
ولا تقبل شهادة الصبيان عندنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وعامة العلماء، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل شهادة الصبيان في الجراح إذا كانوا قد اجتمعوا لأمر مباح قبل أن يتفرقوا.
وروي ذلك عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعن أحمد رواية أيضاً، وعن مالك: أنه يقبل في كل شيء لإطلاق النصوص، والعبد أو الصبي عدل، قلنا: الشهادة من باب الولاية، ولا ولاية لهما على أنفسهما، ففي غيرهما أولى، إلا أن يؤديا في الحرية والبلوغ ما تحملا قبلهما؛ لأنهما من أهل الولاية عند الأداء، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -.
م: (لأن الشهادة من باب الولاية) ش: لأنها تنفذ القول على الغير م: (وهو) ش: أي العبد م: (لا يلي على نفسه، فأولى أن لا تثبت له الولاية على غيره) ش: وقال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": حدثنا عبد الله بن محمد، قال حدثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن عطاء، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا تجوز شهادة العبد

[شهادة المحدود في القذف]
م: (ولا المحدود في القذف وإن تاب) ش: أي ولا تقبل أيضاً شهادة المحدود في القذف.
وقوله: " وإن تاب " واصل بما قبله م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] (النور: الآية 4)) ش: وجه الاستدلال أن الله تعالى نص على الأبد وهو ما لا نهاية له، والتنصيص عليه ينافي القبول في وقت ما م: (ولأنه) ش: يعني ولأن رد الشهادة م: (من تمام الحد لكونه) ش: أي لكون تمام الحد م: (مانعاً) ش: أي عن القذف، لكونه زاجراً إلا أنه لم يؤلم عليه كالحد يؤلم بدونه.
ولأن المقصود من الحد دفع العار عن المقذوف، وذلك في إهدار قبول القاذف أظهر؛ لأنه القذف أذى قلبه، فجزاؤه أن لا تقبل شهادته؛ لأنه فعل لسانه وفاقاً لجريمته، فيكون من تمام الحد م: (فيبقى) ش: أي الرد م: (بعد التوبة كأصله) ش: أي كأصل الحد اعتباراً له بالأصل.

(9/136)


بخلاف المحدود في غير القذف؛ لأن الرد للفسق وقد ارتفع بالتوبة، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل إذا تاب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] : (النور الآية: 5) ، استثنى التائب. قلنا الاستثناء ينصرف إلى ما يليه، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، (النور الآية: 4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف المحدود في غير القذف) ش: هذا جواب عما يقال المحدود في القذف فاسق بقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (النور: الآية 4) والفاسق إذا تاب تقبل شهادته كالمحدود في غير القذف، فأجاب بقوله بخلاف المحدود في غير القذف نحو السرقة والزنا وشرب الخمر، حيث تقبل شهادته بعد التوبة م: (لأن الرد) ش: أي رد الشهادة م: (للفسق وقد ارتفع بالتوبة) ش: وفي المحدود في القذف الرد من تمام التوبة فظهر الفرق بينهما.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقبل) ش: أي توبته م: (إذا تاب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] (النور: الآية 5) استثنى التائب) ش: بيانه أن المانع من قبول شهادته الفسق، وبالتوبة ارتفع الفسق فتقبل شهادته قياساً على المحدود في الزنا، أو السرقة أو شرب الخمر إذا تاب فإن شهادته تقبل بالاتفاق إلا عند الحسن بن حي والأوزاعي - رحمهما الله - فإن عندهما لا تقبل شهادة من حد في الإسلام بعد التوبة في قذف أو غيره، كذا ذكر أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي " وبقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، واختلفوا في توبته، فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: توبته إكذابه نفسه، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: توبة القاذف إكذابه نفسه بأن يقول: كان قذفي باطلاً، وبه قال ابن أبي هبيرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الإصطخري، من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: توبته أن يقول كذبت فيما قلت، ولا أعود إلى مثله وهل تعتبر مع التوبة إصلاح العمل؟ فيه قولان.
م: (قلنا: الاستثناء ينصرف إلى ما يليه وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (النور: الآية 4)) ش: يعني الاستثناء ليس براجع إلى جميع ما تقدم لأن من جملته قَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، ولا يرتفع الجلد بالتوبة فعلم أن الاستثناء ليس براجع إلى جميع ما تقدم بل إلى ما يليه، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، وليس من رفع الفسق قبول الشهادة كالعدل يوضحه قَوْله تَعَالَى في قصة لوط - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] (الحجر: الآيات 58، 59، 60) ، إن الاستثناء راجع إلى المنجين لا إلى المهلكين، ونقول أيضاً: إن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، وليس بمعطوف على أن ما قبله طلبي وهو إخباري، فإن قلت: فاجعله بمعنى الطلب ليصح كما في قَوْله تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] (البقرة: الآية 83) ،

(9/137)


أو هو استثناء منقطع بمعنى لكن
ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم تقبل شهادته؛ لأن للكافر شهادة فكان ردها من تمام الحد، وبالإسلام حدثت له شهادة أخرى، بخلاف العبد إذا حد ثم أعتق؛ لأنه لا شهادة للعبد أصلا فتمام حده شهادته بعد العتق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: يأباه ضمير الفصل، فإنه يفيد حصر أحد المسندين في الآخر، وهو مؤكد الإخبار به م: (أو هو استثناء منقطع بمعنى لكن) ش: كما في قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] (مريم: الآية 62) معناه والله أعلم: ولكن سلاماً.
وهذا لأن من شرط الاستثناء كون المستثنى من جنس المستثنى منه وإن يكن له خبر على حدة، وها هنا المستثنى هو الاسم، والمستثنى منه الفعل فلا يكون من جنسه، وله خبر على حدة أيضاً، والاستثناء المنقطع يعمل بطريق المعارضة، ولا معارضة بين حكمه ورد الشهادة، وليس من ضرورة كونه تائباً كونه مقبول الشهادة كالعبد التائب التقي.
وقولنا في هذا هو قول سعيد بن المسيب والحسن وشريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهكذا روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

م: (ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم، تقبل شهادته) ش: ذكر هنا تفريعاً على ما تقدم صورته الذمي إذا حد في قذف لم تجز شهادته بعد ذلك على أهل ذمته، ثم إذا أسلم جازت شهادته على أهل الذمة، وعلى أهل الإسلام جميعاً م: (لأن للكافر شهادة فكان ردها من تمام الحد) ش: أي رد شهادته لأجل قذفه كان من تتمة حده م: (وبالإسلام حدثت له شهادة أخرى) ش: أي غير الأولى المردودة تتمة للحد.
م: (بخلاف العبد إذا حد ثم أعتق) ش: حيث لا تقبل شهادته عندنا، وقالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: تقبل كما في الكافر م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا شهادة للعبد أصلاً) ش: في حال رقه لا على المسلم ولا على الكافر م: (فتمام حده برد شهادته بعد العتق) ش: لأنه لا بد في حد القذف من رد الشهادة، وإنما حصلت له الشهادة بعد العتق، فترد شهادته الآن تتميماً للحد، وللكافر شهادة على جنسه، فيترتب عليه حكم المسلمين بإسلامه فتقبل شهادته. فإن قيل يشكل بمن زنا في دار الحرب وهو مسلم، ثم خرج إلى دار الإسلام حيث لا يقام عليه حد الزنا، فتوقف المؤثر في العبد ولم يتوقف في الزنا. الجواب أن الزنا في دار الحرب لم يقع موجباً أصلاً، لعدم ولاية الإمام، وإقامة الحد للإمام.
وأما قذف العبد موجب للحد، وتمامه برد شهادته، وقيل في قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بخلاف العبد إذا حد لم تقبل شهادته، لا فائدة في ذكر الحد إذ لو لم يحد ثم أعتق وحد لم تقبل شهادته أيضاً. وأجيب: إنما ذكره لبيان الفرق بينه وبين الكافر.

(9/138)


قال: ولا شهادة الوالد لولده وولد ولده، ولا شهادة الولد لأبويه ولأجداده، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تقبل شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره» ولأن المنافع بين الأولاد والآباء متصلة. ولهذا لا يجوز أداء الزكاة إليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما الكافر لو قذف مسلماً، ثم أسلم ثم حد، لم تقبل شهادته، ولو حد بعض الحد في حال كفره، وبعضه في حال إسلامه ففيه اختلاف الروايتين، وفي الكافر عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في هذه المسألة ثلاث روايات: إحداها: أنه لا تسقط شهادته ما لم يضرب تمام الحد؛ لأن ما دون الحد تقرير، وهو لا يسقط الشهادة، والثانية: إذا أقيم عليه الأكثر تقوم مقام الكل، والثالثة: إذا ضرب سوط سقطت شهادته، والله أعلم.

[شهادة الوالد لولده]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا شهادة الوالد لولده وولد ولده ولا شهادة الولد) ش: أي ولا تقبل شهادة الولد م: (لأبويه ولأجداده) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا الذي ذكره بالإجماع.
قلت: عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل شهادة الولد لوالده، وعنه: تقبل شهادة أحدهما للآخر، وهو قول أبي ثور والمزني وداود - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وحكي في القديم عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر صاحب " النهاية " ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يخالفنا فيه، فيجوز شهادة الوالد لولده، وشهادة الولد لوالده.
م: (والأصل فيه) ش: أي في رد شهادة هؤلاء بعضهم لبعض م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تقبل شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده، ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره» ش: قال مخرج الأحاديث: هذا غريب لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم قال: قال في " الخلاصة " رواية الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: قال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " أدب القاضي ": حدثنا صالح بن زريق، وكان ثقة، قال حدثنا مروان بن معاوية الثراري عن يزيد بن زياد الشامي عن الزهري عن عروة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يجوز شهادة الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا السيد لعبده، ولا الشريك لشريكه ولا الأجير لأجيره» .
م: (ولأن المنافع بين الأولاد والآباء متصلة) ش: أي ولأن منافع الأملاك متصلة في قرابة الأولاد م: (ولهذا) ش: أي ولاتصال المنافع فيهم م: (لا يجوز أداء الزكاة إليهم) ش: فلو جاز شهادة الوالد لولده أو على العكس كان ذلك شهادة نفسه من وجه، فلم يجز وهو معنى قوله م:

(9/139)


فتكون شهادة لنفسه من وجه أو تتمكن فيه التهمة.
قال: والمراد بالأجير على ما قالوا: التلميذ الخاص الذي يعد ضرر أستاذه ضرر نفسه ونفعه نفع نفسه، وهو معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا شهادة للقانع بأهل البيت» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فتكون شهادة لنفسه من وجه، أو تتمكن فيه التهمة) ش: وهو ظاهر.

[شهادة الأجير لأستاذه]
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والمراد بالأجير) ش: أي المذكور في الحديث المذكور م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (التلميذ الخاص الذي يعد ضرر أستاذه ضرر نفسه ونفعه نفع نفسه) ش: أي يعد نفع أستاذه نفع نفسه، وفي " الخلاصة ": ولا يجوز شهادة الأجير لأستاذه، أراد به التلميذ الخاص، والتلميذ الخاص الذي أكل معه وفي عياله، وليس له أجرة المعلومة، وأما الأجير المشترك إذا شهد للمستأجر تقبل، وأما الأجير الواحد وهو الذي استأجره مياومة أو مشاهرة أو مسانهة بأجرة معلومة لا تقبل.
وقال أبو العباس الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأجناس " يقبل شهادة الأجير، ثم قال أبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا محمول على الأجير المشترك؛ لأنه قد ذكر في " نوادر ابن رستم " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أجيز شهادة الأجير مشاهرة، وإن كان أجير مشترك قبلت شهادته م: (وهو معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا شهادة للقانع بأهل البيت» ش: أي التلميذ الخاص، وهو المراد من القانع المذكور في الحديث والحديث أخرجه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم» .
وقال أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والغمر الشحناء وأخرجه الترمذي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقال حديث غريب والغمر العداوة، وقال أبو عبيد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " غريب الحديث ": الغمر العداوة، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الغمر الحقد والغل، هو بكسر الغين المعجمة وسكون الميم وفي آخره راء مهملة، والقانع والتابع لأهل البيت كالخادم.
وفي " المغرب ": المتعلم الذي يأكل في بيت أستاذه يكون في معنى القانع المذكور في الحديث

(9/140)


وقيل: المراد به الأجير مسانهة أو مشاهرة أو مياومة فيستوجب الأجر بمنافعه عند أداء الشهادة فيصير كالمستأجر عليها.
قال: ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقبل؛ لأن الأملاك بينهما متميزة، والأيدي متحيزة ولهذا يجري القصاص والحبس بالدين بينهما، ولا معتبر بما فيه من النفع لثبوته ضمنا كما في الغريم إذا شهد لمديونه المفلس. ولنا ما رويناه، ولأن الانتفاع متصل عادة وهو المقصود فيصير شاهدا لنفسه من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل: المراد به الأجير مسانهة أو مشاهرة أو مياومة فيستوجب الأجر) ش: أي يستحق الأجرة م: (بمنافعه عند أداء الشهادة فيصير كالمستأجر عليها) ش: أي على الشهادة؛ لأن شهادته عمل من أعماله، وجميع أعماله للمستأجر في مدة الإجارة.

[شهادة أحد الزوجين للآخر]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل) ش: وقال ابن أبي ليلى والثوري والنخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا تقبل شهادة الزوجة لزوجها لأن لها حقاً في ماله لو حدث بعشقها فيه، وتقبل شهادة الزوج لها لعدم التهمة م: (لأن الأملاك بينهما) ش: أي بين الزوجين م: (متميزة) ش: بحيث لا يتصرف أحدهما في مال الآخر م: (والأيدي متحيزة) ش: أي مجتمعة بنفسها غير متصرفة في ملك الغير غير متقدمة إليه، إذ الزوجية قد تكون سبباً للتأخر والعداوة. وقد تكون سبباً للميل والإيثار م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تميز الأملاك بينهما وتحيز الأيدي م: (يجري القصاص والحبس بالدين بينهما) ش: أي بين الزوجين يعني يقتص من أحدهما للآخر، ويحبس أحدهما بدين الآخر، وكل من كان كذلك تقبل شهادته في حق صاحبه كالأخوين وأولاد العم م: (ولا معتبر بما فيه من النفع) ش: أي لا معتبر بما في قبول شهادة أحدهما لصاحبه من النفع الحصال منه للشاهد؛ لأن كل واحد منهما بعد نفع صاحبه نفع نفسه معين لا يتهم الشاهد بهذا العذر من النفع م: (لثبوته ضمناً) ش: أي لثبوت هذا النفع من حيث الضمن في الشهادة وليس بقصدي فلا يعتبر.
م: (كما في الغريم) ش: وهو رب الدين م: إذا شهد لمديونه المفلس) ش: حيث تقبل شهادته، وإن كان له فيه نفع؛ لأن النفع حصل ضمناً لا قصداً، م: (ولنا ما رويناه) ش: أراد به الحديث الذي ذكره الآن؛ لأن فيه، ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته م: (ولأن الانتفاع متصل عادة) ش: بينهما عرفاً ولهذا لو وطئ جارية امرأته وقال: ظننت أنها تحل لي لا يحد م: (وهو) ش: أي الانتفاع هو م: (المقصود) ش: من الزوجية حتى بعد الزوج غنياً بما لها قبل في تأويله قَوْله تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] (الضحى الآية: 8) . فأغناك بمال خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وهذا لأن الاتحاد بينهما أكثر ما يكون بين الوالد والولد في العادة والشريعة فإنهما بالزوجة يصيران كشخص واحد في إقامة الأسباب المعنية، فإن الإنسان قد يعادي والديه لرضى زوجته ولهذا يستحق أحدهما الميراث من الآخر بغير حجب وإذا كان كذلك م: (فيصير شاهداً لنفسه من

(9/141)


وجه أو يصير متهما بخلاف شهادة الغريم لأنه لا ولاية له على المشهود به.
ولا شهادة المولى لعبده؛ لأنه شهادة لنفسه من كل وجه إذا لم يكن على العبد دين أو من وجه إن كان عليه دين؛ لأن الحال موقوف مراعى ولا لمكاتبه لما قلنا ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو من شركتهما لأنه شهادة لنفسه من وجه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجه أو يصير متهماً) ش: في شهادته تجر النفع إلى نفسه وشهادة المتهم مردودة.
م: (بخلاف شهادة الغريم) ش: جواب عما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذلك م: (لأنه) ش: أي لأن الغريم م: (لا ولاية له على المشهود به) ش: إذ هو مال المديون ولا تعرف له عليه، فلم يكن متهماً فجازت شهادته لا يقال: الغريم إذا ظفر بجنس حقه يأخذوه؛ لأن الظفر أمر موهوم وحق الأخذ بناء عليه، ولا كذلك الزوجان.
فإن قلت: إن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ادعت فدك بين يدي أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجوز ذلك حيث شهد لها، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جوزت ذلك أيضاً، حيث استشهدت علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكان إجماعاً، والإجماع مقدم على القياس، وخبر الواحد.
قلت: الصحيح من الرواية: أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رد دعواها، فإنها ادعت فدك ميراثاً من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرد دعواها وقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» .

[شهادة المولى لعبده]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا شهادة المولى لعبده) ش: أي ولا تقبل شهادة المولى لعبده م: (لأنه شهادة لنفسه من كل وجه إذا لم يكن على العبد دين) ش: لأن العبد وما في يده لمولاه م: (أو من وجه) ش: أي أو شهادة لنفسه من وجه م: (إن كان عليه) ش: أي على العبد م: (دين لأن الحال) ش: أي حال العبد م: (موقوف مراعى) ش: بين أن يصير العبد مقوماً بسبب بيعهم في دينهم، وبين أن يبقى للمولى كما كان بسبب قضاء دينه م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا لمكاتبه) ش: أي ولا تقبل شهادة المولى لمكاتبه م: (لما قلنا) ش: من قوله شهادة لنفسه من وجه أو من كل وجه، وفي بعض النسخ لما قلنا.
وكذا لا يجوز شهادته لمدبره وأم ولده وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (ولا شهادة الشريك لشريكه) ش: أي ولا تقبل شهادة أحد الشريكين للآخر م: (فيما هو من شركتهما) ش: أي من الذي هو مشترك بينهما م: (لأنه شهادة لنفسه من وجه) ش: لأن كل ما يحصل للمشهود له

(9/142)


لاشتراكهما، ولو شهد بما ليس من شركتهما تقبل لانتفاء التهمة وتقبل شهادة الرجل لأخيه، وعمه لانعدام التهمة؛ لأن الأملاك ومنافعها متباينة، ولا بسوطة لبعضهم في مال البعض.
قال: ولا تقبل شهادة مخنث، ومراده المخنث في الرديء من الأفعال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للشاهد فيه نصيب وهو معنى قوله م: (لاشتراكهما) ش: أي في الذي يحصل بسبب تلك الشهادة.
م: (ولو شهد) ش: أي الشريك م: (بما ليس من شركتهما تقبل لانتفاء التهمة) ش: لأنه شهادة عدل لغيره. وفي " الشامل " ولا تقبل شهادة الشريك المفاوض وإن كان عدلاً فيما خلا الحدود والقصاص، وغير المفاوض أيضاً في تجارته.
م: (قال) ش: أي القدوري: - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتقبل شهادة الرجل لأخيه وعمه) ش: ولا خلاف فيه إلا أن مالكاً شرط أن لا يكون في عياله. قال بعض أصحابه: يجوز بشرط أن لا يكون مبرزاً له، وقيل: بشرط إن لم ينله صلته، وقال أشهب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في اليسير دون الكثير إلا أن يكون مبرزاً له فيجوز في الكثير.
وقيل: يقبل إلا فيما تتصفح فيه التهمة مثل أن يشهد له بما يكتسب به الشاهد شرفاً وجاهاً، أو يدفع به معرة أو يقضي الطباع والعصبية فيه العصب والحمية كشهادته بأن فلاناً قتله أو جرحه، كذا في " جواهرهم " م: (لانعدام التهمة) ش: يعني في الشهادة لأخيه وعمه م: (لأن الأملاك ومنافعها متباينة) ش: بينهم م: (ولا بسوطة لبعضهم في مال البعض) ش: وهذا ظاهر، ولأن العداوة والتحاسد بين الإخوة ظاهرة فتنتفي التهمة المانعة في الشهادة.
ألا ترى أن العداوة بين الإخوة أول ما ظهرت في قصة قابيل وهابيل، وكذلك في قصة يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإخوته. وفي " الشامل ": قبل لولد الرضاع ولأم المرأة.
وفي " الخلاصة ": وتقبل لأم امرأته [ ... ] ، ولزوج ابنته، ولامرأة ابنه، ولامرأة أبيه، ولأخت امرأته، ومن السلف من قال: لا تقبل شهادة الأخ لأخيه، ذكره شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح أدب القاضي ".

[شهادة المخنث]
م: (قال) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تقبل شهادة مخنث) ش: قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومراده) ش: أي مراد القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (المخنث في الرديء من الأفعال) ش: أي أفعال النساء من التزين بزيهن والتشبه بهن في الفعل والقول، فالفعل مثل كونه محلاً للواطة، والقول مثل تليين كلامه باختياره تشبهاً بالنساء، وإليه أشار العلامة مولانا حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " الذخيرة ": التخنيث الفاسق في فعله، فلا تقبل لمعصيته، قال - عليه

(9/143)


لأنه فاسق، فأما الذي في كلامه لين، وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة، ولا نائحة ولا مغنية؛ لأنهما ترتكبان محرما «فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام -: «لعن الله المؤنثين من الرجال والمذكرات من النساء» وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لأنه) ش: أي لأن المخنث م: (فاسق) ش: في فعله فلا تقبل شهادة الفاسق.
م: (فأما الذي) ش: أي فأما المخنث الذي م: (في كلامه لين) ش: مثل كلام النساء م: (وفي أعضائه تكسر) ش: لخلقه م: (فهو مقبول الشهادة) ش: ألا ترى " أن هنا المخنث كان يدخل بيوت أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى سمع منه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " كلمة شنيعة فأمر بإخراجه ".
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا نائحة) ش: أي ولا تقبل شهادة نائحة، لأن النوح لما كان منهياً عنه وقد باشرته النائحة لم تؤمن من أن تباشر شهادة الزور أيضاً، فلا تقبل شهادتها. وفي " الذخيرة " لم يرد بالنائحة التي تنوح في مصيبتها، وإنما أراد به التي تنوح في مصيبة غيرها واتخذت ذلك مكسبة.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا فيه نظر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النياحة مطلقاً من غير فصل. قلت: يؤيد كلامه أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقيد بقوله " للناس " م: (ولا مغنية) ش: التغني للهو ولجمع المال حرام بلا خلاف، ولا سيما إذا كان من المرأة؛ لأن رفع الصوت منها حرام، وأما التغني لدفع ضرر نفسه مباح بلا خلاف، والنوح كذلك قاله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنهما) ش: أي لأن النائحة والمغنية م: (ترتكبان محرماً) .
م: (فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مطولاً وفيه: «نهى عن صوتين أحمقين صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة بخمش وجوه، وشق جيوب ورنة شيطان» .

(9/144)


قال: ولا مدمن الشرب على اللهو لأنه ارتكب محرم دينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث [حسن] ، وفي ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - النائحة والمغنية وصف بصفة صاحبه والتقدير صوت النائحة، وصوت المغنية، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد روى أصحابنا في كتبهم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية» .
قلت: ذهل عن إخراج الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلذلك قال: وقد روى أصحابنا وذكر صاحب " الأجناس " عن " أدب القاضي " إملاء قال: لا تقبل شهادة أصحاب المعصية وقطاع الطريق، وأصحاب الفجور بالنساء، ومن يعمل عمل قوم لوط، ومن يقعد مع الغناء والنائحة والنائح، والمغني والمغنية لا تقبل شهادة واحد من هؤلاء إلى هنا لفظه.

[شهادة مدمن الشرب]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا مدمن الشرب على اللهو لأنه ارتكب محرم دينه) ش: أي ولا تقبل شهادة مدمن الشرب على اللهو. قال في " الصحاح ": يقال رجل مدمن خمر أي مداوم شربها، وإنما أطلق إدمان الشرب على اللهو ليتناول جميع الأشربة المحرمة من الخمر والسكر، وليقع الزبيب والتمر من غير طبخ والفضيخ، والباذق والفضيخ البسر إذا خرج من الماء وغلي واشتد وقذف بالزبد، وذلك بأن كسر ويدق، والباذق، وهو المطبوخ أقل من الثلثين وكل ذلك محرم شرب قليلها وكثيرها.
إلا أن منكر حرمة الخمر يكفر، ومنكر حرمة هذه الأشربة لا يجب الحد إلا بالسكر، ويشترط الإدمان في الخمر وهذه الأشربة لسقوط العدالة ولهذا قال قاضي خان في " فتاواه "، إنما شرط الإدمان ليظهر ذلك عند الناس، فإن من اتهم في شرب الخمر في بيته، لا تبطل عدالته وإن كانت كبيرة، وإنما تبطل إذا ظهر ذلك أو خرج سكران ليعجز منه الصبيان؛ لأن مثله لا يحترز عن الكذب.
وفي " الفتاوى الصغرى " في مسائل الجرح والتعديل: شرب الخمر في السر لا تسقط العدالة؛ لأن محمداً - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط الإدمان في كتاب الشهادات، وأما ما سوى هذه الأشربة ما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة والسكر والفانية والتين فهي مباحة، وإن سكر منها ولا حد على الصحيح من الرواية.
كذا قال " صاحب التحفة "، قال: لأن هذا من جملة الأطعمة، ولا عبرة بالسكر، فإن في بعض البلاد قد يسكر المؤمن الخبر ونحوه البنج يسكر ولبن الرمكة يسكر، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المسكر منه حرام كما في المثلث، ولكن إذا سكر منه لا حد عليه بخلاف المثلث. كذا في " التحفة ".
قلت: لا ينبغي أن يفتى في هذا الزمان إلا بحرمة في الكل، وبالتقرير البالغ غير الخمر

(9/145)


قال: ولا من يلعب بالطيور؛ لأنه يورث غفلة، ولأنه قد يقف على عورات النساء، بصعوده على سطحه ليطير طيره، وفي بعض النسخ: ولا من يلعب بالطنبور وهو المغني. قال: ولا من يغني للناس؛ لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لفساد غالب أهل هذا الزمان، ورأيت بخط شيخي العلامة: المراد من قوله ولا مدمن الشرب على اللهو شرب غير الخمر؛ لأن في الخمر الإدمان، واللهو ليس بشرط، بل صار مردود الشهادة بمجرد شرب الخمر لفسقه.

[شهادة من يلعب بالطيور]
م: (قال) ش: أي القدوري: - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا من يلعب بالطيور) ش: ولا خلاف فيه لأهل العلم. وفي قوله " يعلب " إشارة إلى أنه لو اتخذ الحمام في بيته ليستأنس بها، أو لحمل الكتب كما في ديار مصر والشام لا يكون حراماً ولا تسقط عدالته. وفي " المبسوط ": اتخاذ الحمام في البيوت للاستئناس مباح، وكذا اتخاذ برج الحمام.
وفي " الذخيرة " ناقلاً عن شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا كان لا يطيره، أما لو كان يأتي بيت حمامات غيره فيفرخ ثم هو يبيع ذلك ويأكل ولا يعرف حمامه من حمام غيره يصير مرتكباً محرماً وآكلاً حراماً، فعلى هذا التقدير لا تقبل شهادته وإن لم يقف على عورات النساء لصعوده سطحه م: (لأنه يورث غفلة) ش: ولا يأمن على العقل من الزيادة والنقصان، فلا تقبل شهادته م: (ولأنه قد يقف على عورات النساء بصعوده على سطحه ليطير طيره) ش: والنظر على عورات الأجانب والمحرمات حرام، فلا يجوز شهادة مرتكب الحرام.
م: (وفي بعض النسخ) ش: أي وفي بعض نسخ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا من يلعب بالطنبور) ش: بضم الطاء كذا في " دستور اللغة ". وقال الجوهري: الطنبور فارسي معرب والطنبار لغة م: (وهو) ش: أي الذي يلعب بالطنبور هو م: (المغني) ش: قيل يستغني عن هذا بقوله من يغني للناس لأنه أعم من أن يكون مع آلة لهو أو لا؟، أجيب: بأن يقال لئن سلمنا هذا، ولكنه قصد تخصيص الطنبور بالذكر لكونه من أعظم آلات اللهو عند العجم من الترك وغيرهم.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا من يغني للناس) ش: أي ولا تقبل شهادة من يغني للناس م: (لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة) ش: لا يقال: إن فيه تكراراً؛ لأن من يغني للناس يكون من الرجال والنساء، والمغنية في النساء خاصة.
وقيل: الأصح من الجواب أنه إنما ذكر النائحة والمغنية هناك، مع أن النوح والغناء مشترك بين الرجال والنساء لورود الحديث بذلك اللفظ، ويفهم منه حكم الرجال تبعاً فأعاد حكم الرجال جرياً على الأصل، إذ الأصل أن حكم النساء يستفاد من حكم الرجال، إذ لو اقتصر على الأول لتوهم أن ذلك حكم مخصوص بالنساء، وقيد بقوله " للناس "؛ لأن التغني للناس مكروه باتفاق

(9/146)


قال: ولا من يأتي بابا من الكبائر التي يتعلق بها الحد للفسق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشايخ، والتغني لإسماع الغير مكروه عند عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ومن الناس من أباح ذلك في العرس والوليمة كما أبيح ضرب الدف فيهما، وإن كان فيه نوع لهو ومنهم من قال إذا تغنى ليستفيد منه نظم القوافي ويصير به فصيح اللسان لا بأس به.
وأما التغني لنفسه فقيل: لا يكره، وبه أخذ السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه دخل على أبيه البراء بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو من زهاد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وكان يغني، وقيل جميع ذلك مكروه، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويحمل حديث البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أنه كان ينشد الأشعار المباحة التي فيها ذكر الوعظ والحكمة. وإنشاد الشعر لا بأس به وإن كان فيه صفة المرأة، فإن كانت حية يكره، وإن كانت ميتة لا يكره هذا في " الذخيرة "، وأما القراءة بالألحان أباحها قوم وحظرها قوم. والمختار إذا كانت الألحان لا يغير الحروف من نظمها مباح، وإلا غير مباح ذكره في " الحلية " بلا خلاف، وفي " التنبيه "، ولا تقبل شهادة القرار والرقاص، والمشعوذ، وقوله " على كبيرة " هو اللهو واللعب، ونص على نوع فسق، فلا يمنع عادة عن المحارم والكذب وسنذكر الخلاف في الكبيرة عن قريب.

[شهادة من يأتي بابا من الكبائر]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا من يأتي باباً من الكبائر التي يتعلق بها الحد للفسق) ش: ولا خلاف فيه، واختلفوا في تفسير الكبيرة، قيل: هي السبع التي ذكرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما هي؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» .
وروى مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكبائر قال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور» .
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه، فيسب أمه» .
وروي من «حديث عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " قال سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قال: قلت له: إن ذلك لعظيم قال: قلت له: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزني بحليلة جارك» .

(9/147)


قال: ولا من يدخل الحمام من غير إزار لأن كشف العورة حرام أو يأكل الربا، أو يقامر بالنرد والشطرنج؛ لأن كل ذلك من الكبائر، وكذلك من تفوته الصلاة للاشتغال بهما، فأما مجرد اللعب بالشطرنج، فليس بفسق مانع من الشهادة؛ لأن للاجتهاد فيه مساغا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الفتاوى الصغرى ": ذكر الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الشهادات " حد الكبيرة ما كان حراماً محصناً يسمى فاحشة في الشرع، كاللواطة أو لم يسم في الشرع فاحشة، لكن يشرع عليها عقوبة محضة بنفس قاطع، أما في الدنيا بالحد كالسرقة والزنا وقتل نفس بغير حق أو بالوعيد بالنار في الآخرة، كأكل مال اليتيم.
وقال بعضهم: ما فيه حد فهو كبيرة وقيل ما كان حراماً بالعينة، وقيل: وأصح ما نقل عن الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما كان شنيعاً بين المسلمين وفيه هتك حرم الله تعالى والدين فهو كبيرة، وكذا الإعانة على المعاصي والفجور والحث عليها من جملة الكبائر، كذا في " الذخيرة " و " المحيط "، وقيل: ما أصر عليه المرء فهو كبيرة، وما استغفر عنه فهو صغيرة والأوجه ما ذكره المتكلمون، أن كل ذنب فوقه ذنب وتحته ذنب، فهو بالنسبة على ما فوقه صغيرة، وإلى ما تحته كبيرة؛ لأن الأشياء الإضافية لا تقترن إلا بالإضافة.

[شهادة من يدخل الحمام بغير إزار]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا من يدخل الحمام من غير إزار) ش: أي ولا تقبل شهادة من يدخل الحمام بغير إزار يستر عورته م: (لأن كشف العورة حرام) ش: لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لعن الله الناظر والمنظور إليه» . والشهادة كرامة، فلا يستحقها من يستحق اللعن ولا خلاف فيه م: (أو يأكل الربا أو يقامر بالنرد والشطرنج) ش: هذا عطف على قوله من يدخل الحمام بغير إزار، وهكذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعض النسخ قال: ولا من يأكل الربا والمقامر بالنرد والشطرنج م: (لأن كل ذلك من الكبائر) ش: وقد مر عن قريب في حديث البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أكل الربا من الكبائر.
وقال صاحب " الأجناس ": ناقلاً عن الأصل: ولا تقبل شهادة آكل الربا إذا كان مشهوراً؛ لأنه إذا لم يكن مشهوراً فطريقه التهمة وعدالته ظاهرة فلا تبطل بتهمة معصية لم يتحقق على ما يأتي الآن. وأما المقامر بالنرد والشطرنج ففيه تفصيل على ما يذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الآن م: (وكذلك) ش: أي لا تقبل شهادة م: من تفوته الصلاة للاشتغال بهما) ش: أي بالنرد والشطرنج.
م: (فأما مجرد اللعب بالشطرنج، فليس بفسق مانع من الشهادة؛ لأن للاجتهاد فيه مساغاً) ش: فإن الشافعي ومالكاً - رحمهما الله - أباحاه مع الكراهة، وعندنا وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حرام

(9/148)


وشرط في الأصل أن يكون أكل الربا مشهورا به؛ لأن الإنسان قلما ينجو عن مباشرة العقود الفاسدة، وكل ذلك ربا،
قال: ومن لا يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق، والأكل على الطريق؛ لأنه تارك للمروءة، وإذا كان لا يستحي عن مثل ذلك لا يمتنع عن الكذب، فيتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله» رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - قيل: هو الشطرنج، أما النرد فحرام بالإجماع. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من لعب بالنرد فهو ملعون» ذكره في " الذخيرة "، واللعب بالشطرنج يمنع قبول الشهادة بالإجماع، إذا كان مدمناً عليه أو مقامراً وتفوته الصلاة أو أكثر عليه الحلف الكذب والباطل، وفي " التنبيه ": ومن لعب بالشطرنج في الطريق لا تقبل شهادته.
م: (وشرط في الأصل) ش: أي شرط محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط " م: (أن يكون أكل الربا مشهوراً به) ش: أي بأكل الربا م: (لأن الإنسان قلما ينجو عن مباشرة العقود الفاسدة، وكل ذلك رباً) ش: أي في معنى الربا فعلم أن عدالته لا تسقط بمجرد أكل الربا إذا لم يكن مشهوراً به مصراً عليه. وعن هذا وقع الفرق بين الربا وأكل مال اليتيم، فإن الإدمان فيه غير شرط.

[شهادة من يفعل الأفعال المستحقرة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا من يفعل) ش: أي ولا تقبل شهادة من يفعل م: الأفعال المستحقرة) ش: هكذا وقع في بعض نسخ القدوري المستحقرة، وقال: الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: م: (ولا من يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق والأكل على الطريق) ش: ثم قال: هذا لفظ القدوري، في " مختصره "، يعني لفظ المستحقرة، من الاستحقار، ثم قال: وهنا نسخ المستحقرة والمستخفة، والمستخبثة.
وكلها على صيغة اسم المفعول. روي المستخفة بالخاء المشددة المكسورة، وهي أصح النسخ من السخيف، وهو النسبة إلى السخف، وهو رقة العقل في قولهم ثوب سخيف، إذا كان قليل الغزل، وقيل المستخفة بكسر الخاء، أي الأفعال المستخفة بصاحبها م: (لأنه تارك للمروءة) ش: أي الإنسانية. قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولك أن تشدد، وقال أبو يزيد: مر الرجل صار ذا مروءة فهو مريء على فعيل م: (وإذا كان) ش: أي الرجل م: (لا يستحي عن مثل ذلك) ش: أي البول على الطريق والأكل عليه م: (لا يمتنع عن الكذب فيتهم) ش: فلا تقبل شهادة

(9/149)


ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المتهم.
وكل فعل فيه ترك المروءة يوجب سقوط شهادته بلا خلاف بين الأئمة الأربعة، حتى لو مشى في السوق أو في مجامع الناس بسراويل واحد لا تقبل شهادته، وكذا من يمدر رجليه عند الناس ويكشف رأسه في موضع لا عادة فيه، وما أشبه ذلك مما تجتنبه أهل المروءات بلا خلاف، وفي أصحاب الصنائع الدنيئة كالكساح والزبال والكناس والحجام والحائل فيه وجهان.
قال بعض العلماء: لا تقبل شهادة أهل الصناعات، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - لكثرة خلفهم في الوعد، ودناة صنعتهم في المدينة، وقال عامة العلماء: يجوز إذا كانوا عدولاً، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وأحمد ومالك - رحمهما الله - وهو الأصح؛ لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءة.
وفي " المحيط " لا تقبل شهادة النخاسين والدلالين؛ لأنهم يكذبون كثيراً، فأما من عدل منهم تقبل شهادته، وبياع الأكفان لا تقبل شهادته، قال شمس الأئمة: هذا إذا ترصد لذلك العمل، فأما إذا كان يبيع ويشتري الثياب، ويشتري منه الأكفان ويقبل لعدم تمنيته الموت والطاعون.
وفي " الذخيرة ": لا تقبل شهادة الصكاكين؛ لأنهم يكتبون هذا ما اشترى فلان، وقبض المبيع والبائع ابن فلان قبض الثمن وضمن الدرك، ولم يكن شيء من ذلك، فيكون كذباً محضاً، ولا فرق في الكذب بين القول والكتابة. والصحيح أنه يقبل إذا كان غالب أحوالهم الصلاح، ولا تقبل شهادة القروي والأعرابي البدوي عند بعض العلماء.
وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل شهادة القروي البدوي في غير الدماء، ذكره في " الجواهر "، وقال عامة العلماء: تقبل إذا كان عدلاً عالماً بكيفية الشهادة تحملاً وأداء. وفي " مناقب أبي حنيفة " - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقبل شهادة البخيل، وقال مالك: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أفرط في البخل لا تقبل ولا تقبل شهادة الطفيلي والمشعوذ والرقاص والمسخرة بلا خلاف.
وقال نصير بن يحيى: من شتم أهله ومماليكه كثيراً في كل ساعة لا تقبل شهادته، وإن كان أحياناً تقبل، وفي " المحيط ": لا تقبل شهادة القيام للناس والجباة، وفي " جامع شمس الأئمة " - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقبل شهادة من يجازف في كلامه، ولا خلاف فيه.

[شهادة من يظهر سب السلف]
م: (ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف) ش: المراد من السلف الصحابة والتابعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والسلف جمع سالف، وهو الدهر الماضي، وفي الشرع: اسم لكل من تقلد مذهبه ويقتفى أثره في الدين كأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه، فإنهم

(9/150)


لظهور فسقه بخلاف ما يكتمه
وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل؛ لأنه أغلظ وجوه الفسق. ولنا أنه فسق من حيث الاعتقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سلف لأبي حنيفة وأصحابه والتابعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (لظهور فسقه) ش: والفاسق لا تقبل شهادته.
م: (بخلاف من يكتمه) ش: أي من يكتم سب السلف؛ لأنه إذا اعتقد ذلك ولم يظهره، وهو عدل في أفعاله، فإن شهادته تقبل.
كذا في " شرح الأقطع "

[شهادة أهل الأهواء]
م: (وتقبل شهادة أهل الأهواء) ش: أي أصحاب البدع كالخارجي والرافضي، والجبري والقدري، والمشبه، والمعطل وسمي أهل البدع أهل الأهواء لميلانهم إلى محبوب نفوسهم بلا دليل شرعي، أو عقلي، والهوى محبوب النفس من هوى الشيء إذا أحبه، وفي " الذخيرة " تقبل شهادته إذا كان هوى لا يكفر به صاحبه، ولا يكون شاحنا، ويكون عدلا في تعاطيه، وهو الصحيح، وأصول أهل الأهواء ستة الجبر والقدر والرفض والخروج والشيعة، والتعطيل، وكل واحد يصير اثني عشر فرقة، فتبلغ إلى اثنين وسبعين فرقة م: (إلا الخطابية) ش: لا تقبل شهادتهم.
وفي " شرح الأقطع " اسم قوم ينسبون إلى ابن الخطاب رجل كان بالكوفة قتله عيسى بن موسى، وكان يزعم أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الإله الأكبر، وجعفر الصادق الإله الأصغر. وكانوا يعتقدون أن من ادعى منهم شيئا على غيره يجب أن يشهد له تقية شيعة، وقيل: الخطابية قوم من الروافض ينسبون إلى الخطاب المذكور، قتله عيسى بن موسى المذكور وصلبه بالكنائس، وفي " المغرب ": الخطابية من الروافض ينسبون إلى أبي الخطاب حمد بن أبي وهب الأجذع.
وقال أبو حاتم الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اسم أبي الخطاب محمد بن أبي ربيب الأسدي الأجذع، وكان يقول بإمامة إسماعيل بن جعفر، فلما مات إسماعيل، رجعوا إلى القول بإمامة جعفر وغلوا في القول غلوا كبيرا. وخرج أبو الخطاب في حياة جعفر بالكوفة فحارب عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأظهر الدعوة إلى جعفر، فتبرأ منه جعفر ولعنه، وادعى عليه، وقتل هو وأصحابه كلهم. وأما رواية الأخبار من أهل الأهواء، اختلف فيه مشايخنا، والأصح عندي لا تقبل، كذا في " المبسوط ".
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل) ش: أي شهادة أهل الأهواء، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أحمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل شهادة ثلاثة منهم العذرية والجهمية، والرافضية م: (لأنه أغلظ وجوه الفسق) ش: لأن الفسق من حيث الاعتقاد شر من الفسق من حيث التعاطي م: (ولنا أنه) ش: أي أن ما ذهبوا إليه م: (فسق من حيث الاعتقاد) ش: لا من حيث

(9/151)


وما أوقعه فيه إلا تدينه، وصار كمن يشرب المثلث، أو يأكل متروك التسمية عامدا مستبيحا لذلك، بخلاف الفسق من حيث التعاطي، أما الخطابية فهم قوم من غلاة الروافض يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم. وقيل: يرون الشهادة لشيعتهم واجبة، فتمكنت التهمة في شهادتهم لظهور فسقهم.
قال: وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم، وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: لا تقبل لأنه فاسق، قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فيجب التوقف في خبره، ولهذا لا تقبل شهادته على المسلم، فصار كالمرتد. ولنا ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعاطي م: (وما أوقعه فيه) ش: أي في ذلك الهوى م: (إلا تدينه) ش: أي لعمقه في الدين بذلك الاعتقاد، ألا ترى أن منهم من يعظم الذنب حتى يجعله كفراً، فيكون ممتنعاً عن الكذب م: (وصار) ش: هذا م: (كمن يشرب المثلث) ش: من الحنفية م: (أو يأكل متروك التسمية عامداً) ش: من الشافعية حال كونه م: (مستبيحاً لذلك) ش: أي معتقداً إباحته، فإنه لا ترد شهادته كذا هذا، كذا في " المبسوط ".
م: (بخلاف الفسق من حيث التعاطي) ش: أي من حيث المباشرة حيث ترد شهادته م: (أما الخطابية فهم قوم من غلاة الروافض) ش: الغلاة بالضم جمع غالي من غلاني الأمر يغلو غلواً، أي جاوز فيه الحد م: (يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم) ش: أي يعتقدون جواز الشهادة، وإذا حلف المدعي بين يديهم أنه محق في دعواه، ويقولون: المسلم لا يحلف كاذباً م: (وقيل: يرون الشهادة لشيعتهم) ش: أي فكل من يذهب إلى مذهبهم ويعتقدون كاعتقادهم م: (واجبة) ش: عليهم م: (فتمكنت التهمة في شهادتهم لظهور فسقهم) ش: فترد.

[شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض]
م: (قال) ش: أي القدوري: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم) ش: أي ملل بالكسر جمع ملة، وهي الدين والشريعة كاليهودي مع النصراني. وقال ابن أبي ليلى: إن اتفقت مللهم تقبل، وإن اختلف لا تقبل، كشهادة اليهودي على النصراني وبالعكس.
م: (وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: لا تقبل) ش: شهادة الكافر م: (لأنه فاسق. قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فيجب التوقف في خبره) ش: بالنص م: (ولهذا) ش: أي ولكونه فاسقاً م: (لا تقبل شهادته) ش: أي شهادة الكفار م: (على المسلم فصار كالمرتد) ش: في عدم قبول شهادتهم؛ لأن الشهادة من باب الولاية والكرامة، والكافر من أهل الإهانة، فلا تقبل شهادته كالمرتد والحربي.
م: (ولنا ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض) ش: هذا

(9/152)


ولأنه من أهل الولاية على نفسه وعلى أولاده الصغار، فيكون من أهل الشهادة على جنسه والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع؛ لأنه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان كلها بخلاف المرتد؛ لأنه لا ولاية له، وبخلاف شهادة الذمي على المسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث غريب لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما روى ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سننه عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض» -، وفي مجالد مقال.
وقال مخرج الأحاديث: هذا - أي الحديث الذي ذكره المصنف - غير مطابق للحكمين، ولو قال " أهل الكتاب " عوض " النصارى "، لكان موافقاً للحكمين عن اتحاد الملة واختلافها كما أخرجه ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ثم حكي عن شيخه علاء الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: ويوجد في بعض نسخ الهداية اليهود عوض النصارى، واحتج له مقلداً لغيره بحديث رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالإسناد المذكور عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا فأنشدهما كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة منهم رأوا ذكره في فرجها، مثل الميل في المكحلة رجما فقال: ما يمنعكما أن ترجموهما؟ قال: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشهود فجاءوا أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمهما» . انتهى.
قال مخرج الأحاديث: وجدت في نسخة علاء الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخط يده فدعا باليهود، وهذا تصحيف، وإنما هو " فدعا بالشهود " كشفته في نحو عشرين نسخة، ورواه كذلك إسحاق بن راهويه، وأبو يعلى الموصلي والبزار في مسانيدهم، والدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " وكلهم قالوا: " فدعا بالشهود ".
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الذمي م: (من أهل الولاية على نفسه وعلى أولاده الصغار) ش: وكل من هو كذلك م: (فيكون من أهل الشهادة على جنسه) ش: فتقبل شهادته على جنسه كالمسلم م: (والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع) ش: هذا جواب عن قوله لأنه فسق. وتقريره أن الفسق مانع من حيث تعاطي محرم الدين أو من حيث الاعتقاد، والثاني ممنوع والأول مسلم إليه بقوله، م: (لأنه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان كلها) ش: وفي بعض النسخ محظور الأديان كلها.
م: (بخلاف المرتد) ش: جواب عن قوله وصار كالمرتد م: (لأنه لا ولاية له) ش: على نفسه ولا على أولاده، وهي ركن الدليل م: (وبخلاف شهادة الذمي على المسلم) ش: جواب عن قوله: ولهذا

(9/153)


لأنه لا ولاية له بالإضافة إليه، ولأنه يتقول عليه لأنه يغيظه قهره إياه، وملل الكفر وإن اختلفت فلا قهر، فلا يحملهم الغيظ على التقول.
قال: ولا تقبل شهادة الحربي على الذمي، أراد به والله أعلم المستأمن؛ لأنه لا ولاية له عليه؛ لأن الذمي من أهل دارنا وهو أعلى حالا منه، وتقبل شهادة الذمي عليه كشهادة المسلم عليه وعلى الذمي، وتقبل شهادة المستأمنين، بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا تقبل شهادته على المسلم م: (لأنه) ش: أي لأن الذمي وفي النهاية الضمير في لأنه للشأن أي لأن للشأن إذ لا ولاية للذمي على المسلم م: (لا ولاية له بالإضافة إليه) ش: أي إلى المسلم يعني ولايته بالنسبة إلى المسلم معدومة، وبه احترز عن الإضافة إلى الكافر، فإن له ولاية على ذمي آخر، أو حربي م: (ولأنه) ش: جواب آخر، أي ولان الذمي م: (يتقول عليه) ش: أي يفترض على المسلم م: (لأنه) ش: قال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي لأن المسلم، وفي " النهاية " الضمير للشأن أي لأن الشأن هو م: (يغيظه) ش: أي يغيظ الذمي، أي يسخطه م: (قهر إياه) ش: أي قهر المسلم الذمي، فإن قهر المسلم إياه يحمل على التقول على المسلم.
م: (وملل الكفر وإن اختلفت فلا قهر) ش: هذا جواب عن سؤال يرد على أصل المسألة، وهو قوله " وتقبل شهادة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم "، بأن يقال: المعاداة ظاهرة بين اليهود والنصارى وهم غير مخفين في ذلك قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] (البقرة: الآية 113) ، فينبغي أن يقبل كما هو مذهب ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأجاب عنه بقوله: وملل الكفر وإن اختلفت، فلا قهر، يعني وإن اختلفت مللهم لم يغير بعضهم بعضاً لأنهم مقهورون تحت أيدي المسلمين ويعطون الجزية، فلا قهر م: (فلا يحملهم الغيظ على التقول) ش: أي فلا قهر لتحملهم ذلك على التقول على المسلمين.

[شهادة الحربي على الذمي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تقبل شهادة الحربي على الذمي، أراد به والله أعلم المستأمن) ش: إنما قيد به لأن الحربي لو دخل بغير استئمان يؤخذ قهراً ويسترق، ويصير عبداً، فلا تقبل شهادة العبد على أحد م: (لأنه) ش: أي لأن الحربي المستأمن م: (لا ولاية له عليه) ش: أي على الذمي م: (لأن الذمي من أهل دارنا) ش: والمستأمن من أهل دار الحرب، واختلاف الدارين حكماً يقطع الولاية م: (وهو) ش: أي الذمي م: (أعلى حالاً منه) ش: أي من المستأمن؛ لأن الذمي أقرب إلى الإسلام منه.
ولهذا يقتل المسلم بالذمي دون المستأمن م: (وتقبل شهادة الذمي عليه) ش: أي على المستأمن، وذلك معلوم بالنسبة إليه يجعله ولاية عليه م: (كشهادة المسلم عليه) ش: أي على المستأمن م: (وعلى الذمي) ش: أي وكشهادة المسلم على الذمي.
م: (وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة) ش: يعني تقبل

(9/154)


فإن كانوا من دارين كالروم والترك، لا تقبل؛ لأن اختلاف الدارين يقطع الولاية. ولهذا يمنع التوارث بخلاف الذمي؛ لأنه من أهل دارنا، ولا كذلك المستأمن، وإن كانت الحسنات أغلب من السيئات والرجل يجتنب الكبائر قبلت شهادته، وإن ألم بمعصية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهادة بعضهم على بعض، بشرط اتحاد دارهم؛ لأن للاتحاد تأثيراً في ذلك م: (فإن كانوا من دارين) ش: مختلفين م: (كالروم والترك، لا تقبل) ش: أي شهادة بعضهم على بعض م: (لأن اختلاف الدارين يقطع الولاية) ش: والعصمة م: (ولهذا يمنع التوارث) ش: عند اختلاف الدارين.
م: (بخلاف الذمي) ش: هذا جواب عما يقال اختلاف الدارين لو قطع الولاية لما قبلت شهادة الذمي على المستأمن لوجوده لكنها قبلت. وتقرير الجواب أن يقال: إن الذمي يخالفه م: (لأنه من أهل دارنا) ش: ومن هو كذلك فله الولاية العامة لشرفها، فكان الواجب قبول شهادة الذمي على المسلم كعكسه، لكن تركناه بالنص كما مر، ولا نص في المستأمن فتقبل شهادة الذمي عليه م: (ولا كذلك المستأمن) ش: لأنه ليس من أهل دارنا، وفيه إشارة إلى أن أهل الذمة إذا كانوا من أهل دارين مختلفين، قبلت شهادة بعضهم على بعض؛ لأنهم من دارنا، فهي تجمعهم بخلاف المستأمن.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن كانت الحسنات) ش: في بعض النسخ وإن كانت الحسنات م: أغلب من السيئات) ش: يعني الصغائر م: (والرجل يجتنب الكبائر قبلت شهادته وإن ألم بمعصية) ش: أي وإن أذنب بمعصية صغيرة، وألم مشتق من اللمم، وهو ما دون الفاحشة، من صغار الذنوب، وفي " تهذيب الديوان ": ألم أي من اللمم وهو دون الكبيرة من الذنوب.
وفي " الذخيرة ": الحاصل أن ارتكاب الكبيرة يوجب سقوط العدالة، وارتكاب الصغيرة لا توجب سقوطها، إلا أن يصير على الصغيرة كبيرة بالإصرار؛ لأن أحداً من الناس لا يخلو عن صغيرة، ولهذا روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن تغفر اللهم فاغفر جماً، وأي عبد لك ما ألما» ، انتهى.
قلت: كيف نسب هذا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد ذكر ابن قتيبة في " غريب الحديث " من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: حدثني عبد الرحمن عن عمه عن يعقوب بن مسلم عن أبيه أبي طرفة الهذلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: مر أبو خراش يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول:
لا حم هذا خامس إن تما ... أتمه الله وقد أتما
إن تغفر اللهم فاغفر جماً ... وأي عبد لك ما ألما

(9/155)


هذا هو الصحيح في حد العدالة المعتبرة، إذ لا بد له من توقي الكبائر كلها، وبعد ذلك يعتبر الغالب كما ذكرنا، فأما الإلمام بمعصية لا ينقدح به العدالة المشروطة فلا ترد به الشهادة المشروعة؛ لأن في اعتبار اجتنابه الكل سد بابه، وهو مفتوح إحياء للحقوق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذلك نسب البيت في " تهذيب الديوان " إلى أبي خراش، ولكن قال أبو سليمان الخطابي في " شرح صحيح البخاري " في كتاب الصوم: إنه قول أبيه.
م: (هذا هو الصحيح) ش: أي المذكور من كون الحسنات، أكثر من السيئات، والرجل ممن يجتنب الكبائر هو الصحيح م: (في حد العدالة المعتبرة) ش: في الشرع م: (إذ لا بد له من توقي الكبائر كلها) ش: وقد مر بيان الكبيرة مع الاختلاف فيها م: (وبعد ذلك) ش: أي بعد التوقي عن الكبائر كلها م: (يعتبر الغالب) ش: يعني في حق الصغائر، فإن كان غالب أحواله الإتيان بما هو مأذون به شرعاً وإن لم يخلو عن الصغيرة كان جائز الشهادة م: (كما ذكرنا) ش: أراد به قوله، وإذا كانت الحسنات أكثر من السيئات ... إلى آخره.
م: (فأما الإلمام بمعصية) ش: من الصغائر م: (لا ينقدح به العدالة المشروطة) ش: في الشرع م: (فلا ترد به الشهادة المشروعة لأن في اعتبار اجتنابه الكل) ش: أي الصغائر كلها أو جميع الذنوب كلها م: (سد بابه) ش: أي باب الشهادة والتذكير باعتبار المذكور؛ لأن أحداً لا يمكنه الاجتناب عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فلو اشترط الاجتناب عن جميع ذلك في العدالة انسد باب الشهادة م: (وهو) ش: أي باب الشهادة م: (مفتوح إحياء) ش: أي لأجل الإحياء م: (للحقوق) ش: أي لحقوق الناس.

[شهادة من ترك الصلاة في الجماعة استخفافا ا] 1
فروع: وفي " أدب القاضي ": وإذا ترك الرجل الصلاة في الجماعة استخفافاً أو مخافة لم تقبل شهادته. قال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يرد بالاستخفاف الاستهزاء؛ لأن الاستهزاء لشيء من الشرائع كفر.
وفي " الفتاوى الصغرى ": تفويت الجماعة كما يفعله العوام، وكذا ترك الجمعة من غير عذر تسقط العدالة.
وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضعين، فذكر في أحدهما للترك، ثلاثاً وهو الذي اختاره شمس الأئمة السرخسي، ولم يذكر في الموضع الثاني تكرار الترك، قال: من ترك الجمعة رغبة عنها على غير تأويل، فشهادته غير جائزة، وهو الذي اختاره شمس الأئمة الحلواني، وأما إذا تركها لمرض، أو لبعد المصر أو يتأول بأن كان الإمام لفسق لا تسقط عدالته.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التأويل أن يكون الإمام ظالماً، أو يؤخر الأداء، وهو يعتقد في أول الوقت، قال الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من أكل فوق الشبع سقطت عدالته عند الأكثر

(9/156)


قال: وتقبل شهادة الأقلف؛ لأنه لايخل بالعدالة، إلا إذا تركه استخفافا بالدين لأنه لم يبق بهذا الصنيع عدلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومن خرج للنظر عند قدوم الأمير، لا تقبل شهادته. وعن شداد أنه رد شهادته شيخ صالح لمحاسبة ابنه في النفقة في طريق مكة.
وقال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ركوب البحر للتجارة والتفرج مسقط للشهادة، وكذا التجارة إلى أرض الكفار وقرى فارس وأشباهه؛ لأنه خاطر بدينه ونفسه ليتناول مالاً فلا بد من أن يكذب ويأخذ المال، وقرى فارس يطعمونه الربا.
وقيل: من سمع الأذان وانتظر الإقامة سقطت عدالته، ومن أخذ سوق النخاسين مقاطعة وأشهد على وثيقها شهوداً فلو شهدوا حل لهم اللعن؛ لأنه شهادة على الباطل، وكذا لو شهد ما على إقراره، وهكذا لو شهدوا في كل إقرار بناء على باطل، والفاسق تقبل شهادته بعد ستة أشهر وقيل بعد سنة.
قال الفضلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال اتركيه بعد ستة أشهر ثم رجع، وقال: بعد سنة.
وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يسعه ما لم يمتحنه في المعقود، وترك الأمانة وقيل لا يكفيه ذلك ما لم يمتحنه في كل الأمانات مراراً، ولو عرف عدالته ثم انقطع عنه إن لم يتطاول الوقت وسعه أن يزكيه بتلك المعرفة، وإلا فلا، ومدة التطاول قبل ستة أشهر، وقيل سنة، وقيل من وقت التزكية فهو محظي، وهذا على ما يقع القلب، فربما يعرف أحد في شهر والآخر لا يعرفه سنة.

[شهادة الأقلف] 1
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وتقبل شهادة الأقلف) ش: وهو الذي لم يختتن م: (لأنه) ش: أي لأن ترك الختان م: (لا يخل بالعدالة) ش: لأن الختان سنة عند علمائنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وترك السنة لا يخل بالعدالة.
وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ظاهر مذهبه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه واجب م: (إلا إذا تركه) ش: أي الختان م: (استخفافاً بالدين؛ لأنه لم يبق بهذا الصنيع عدلاً) .
ش: وأما إذا تركه بعذر لا تسقط عدالته، والعذر في ذلك الكبر وخوف الهلاك، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقدر للختان وقتاً معيناً، إذ المقادير بالشرع، ولم يرد في ذلك نص، والإجماع والمتأخرون بعضهم قدره من سبع سنين إلى عشر، وبعضهم اليوم السابع من ولادته، أو بعد السابع إن احتمل الصبي ذلك ولم يهلك، لما روي أن الحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ختنا ليوم

(9/157)


قال: والخصي، فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل شهادة علقمة الخصي؛ ولأنه قطع عضو منه ظلما، فصار كما إذا قطعت يده، قال وولد الزنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السابع، ولكنه شاذ، كذا ذكره في " الذخيرة "، وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا، حتى يصير ابن عشر سنين؛ لأنه حينئذ أمر بالضرب على ترك الصلاة.
وقال أصحابه: ختانه يجب عليه بعد بلوغه، ويستحب في اليوم السابع، وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان لا يخاف فتركه تهوناً بالسنة، فإنه يصير فاسقاً، ولا تقبل شهادته.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لا تقبل شهادة الأقلف، ولا تقبل له صلاة، ولا تؤكل ذبيحته وهو مذهبه، كذا في " فتاوى الولوالجي "، وقال الشيخ أبو نصر البغدادي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما أراد به المجوس.

[شهادة منزوع الخصيتين]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الخصي) ش: على وزن فعيل، وهو منزوع الخصيتين، يقال: خصاه، أي نزع خصيتيه، والخصي الجمع على خصيان م: (لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل شهادة علقمة الخصي) ش: على قدامة بن مظعون، رواه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه ": حدثنا ابن علية عن ابن عون عن ابن سيرين أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجاز شهادة علقمة الخصي على ابن مظعون. انتهى.
وقدامة بن مظعون بن حبيب القرشي الجمحي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الصحابة، شهد بدراً وسائر المشاهد، استعمله عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على البحرين ثم عزله، وهو خال عبد الله وحفصة ابني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مات سنة ست وثلاثين، وهو ابن ثمان وستين، وقصته طويلة، ملخصها: أن الجارود سيد عبد القيس من البحرين شهد على قدامة أنه يشرب الخمر.
قال عمر: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل معك شاهد آخر؟ قال علقمة الخصي إني أشهد أني قد رأيته يعبها، ثم إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد قدامة الحد.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الخصي م: (قطع عضو منه ظلما، فصار كما إذا قطعت يده) ش: فإن قطع سائر الأعضاء لا تسقط العدالة، فكذا هذا.

[شهادة ولد الزنا]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وولد الزنا) ش: أي تقبل شهادة ولد الزنا

(9/158)


لأن فسق الأبوين لا يوجب فسق الولد ككفرهما، وهو مسلم وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل في الزنا؛ لأنه يجب أن يكون غيره كمثله فيتهم. قلنا: العدل لا يختار ذلك ولا يستحبه، والكلام في العدل. قال: وشهادة الخنثى جائزة؛ لأنه رجل أو امرأة، وشهادة الجنسين مقبولة بالنص،
وشهادة العمال جائزة، والمراد عمال السلطان عند عامة المشايخ؛ لأن نفس العمل ليس بفسق إلا إذا كانوا أعوانا على الظلم، وقيل: العامل إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة لا يجازف في كلامه تقبل شهادته كما مر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن فسق الأبوين لا يوجب فسق الولد ككفرهما وهو مسلم) ش: أي ككفر أبويه، فلا يؤخذ بكفرهما، قال عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] (الأنعام: الآية 164) م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل) ش: أي شهادة ولد الزنا م: (في الزنا) ش: أي في الشهادة على الزنا م: (لأنه يجب أن يكون غيره كمثله) ش: والكاف زائدة، كما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ} [الشورى: 11] م: (فيتهم) ش: فلا تقبل م: (قلنا: العدل لا يختار ذلك) ش: أي لا يختار أن يكون غيره مثله م: (ولا يستحبه، والكلام في العدل) ش: يعني الكلام في قبول شهادة ولد الزنا إذا كان عدلاً؛ لأن فسق أبويه لا يضره كما ذكرناه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وشهادة الخنثى جائزة) ش: والخنثى هو الذي له آلة الرجل وآلة المرأة م: (لأنه) ش: أي لأن الخنثى م: (رجل أو امرأة وشهادة الجنسين مقبولة بالنص) ش: قال الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ، ويشهد مع رجل وامرأة للاحتياط، وينبغي أن لا تقبل شهادته في الحدود والقصاص كالنساء، لاحتمال أن يكون امرأته.

[شهادة العمال]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وشهادة العمال) ش: بضم العين وتشديد الميم جمع عامل م: (جائزة) ش: هو من مسائل " الجامع الصغير "، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يجيز شهادة العمال.
قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والمراد عمال السلطان) ش: يعني الذين كانوا أعوان السلطان في ذلك العصر؛ لأن الصلاح كان غالباً عليهم، وهذا م: (عند عامة المشايخ) ش: لأنهم كانوا يعينونه في أخذ الحقوق الواجبة كالخروج وزكاة السوائم م: (لأن نفس العمل ليس بفسق إلا إذا كانوا أعواناً على الظلم) ش: كما في زماننا، فلا تقبل شهادتهم؛ لأن الظلم غالب فيهم، وانظر إلى عمال سلطان مصر هل ترى أظلم منهم، ومع ظلمهم أكثرهم فسقة.
م: (وقيل: العامل إذا كان وجيهاً) ش: أي ذا وجاهة وشرف م: (في الناس ذا مروءة) ش: أي إنسانية م: (لا يجازف في كلامه تقبل شهادته كما مر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في أوائل

(9/159)


في الفاسق؛ لأنه لوجاهته لا يقدم على الكذب حفظا للمروءة، ولمهابته لا يستأجر على الشهادة الكاذبة. قال: وإذا شهد الرجلان أن أباهما أوصى إلى فلان والوصي يدعي ذلك فهو جائز استحسانا، وإن أنكر الوصي لم يجز، وفي القياس لا يجوز وإن ادعى، وعلى هذا إذا شهد الموصي لهما بذلك أو غريمان لهما على الميت دين أو للميت عليهما دين أو شهد الوصيان أنه أوصى إلى هذا الرجل معهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتاب الشهادات م: (في الفاسق؛ لأنه لوجاهته لا يقدم على الكذب حفظاً للمروءة، ولمهابته لا يستأجر على الشهادة الكاذبة) ش: لأنه يأنف عن ذلك حافظاً على حرمته.
وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقيل: أراد العمال الذين يعملون بأيديهم ويؤاجروا أنفسهم؛ لأن من الناس من لا تقبل شهادة أهل الصناعات الخسيسة، وإنما أورد لهذا القول؛ لأن كسبهم أطيب الكسب على ما جاء في الحديث «أفضل الناس عند الله تعالى من يأكل من كسب يده» ، فلا يوجب ذلك جرحاً.
وذكر الصدر الشهيد: أن شهادة الريس والخاني في السكة الذي يأخذ الدراهم والضراب الذي يجمع عنده الدراهم يأخذها طوعاً لا تقبل. م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا شهد الرجلان أن أباهما أوصى إلى فلان والوصي يدعي ذلك) ش: أي الوصاية م: (فهو جائز استحساناً، وإن أنكر الوصي) ش: أي الوصاية م: (لم يجز) ش: أي شهادتهما م: (وفي القياس لا يجوز وإن ادعى) ش: أي الوصاية، وهنا خمس مسائل، أحدها ما ذكره بقوله وإذا شهد الرجلان إلى آخره.
وأشار إلى الأربعة الأخرى بقوله م: (وعلى هذا) ش: أي على ما ذكر من الجواز عند دعوى الوصي بذلك، وعدمه عند عدم دعواه بذلك.
الأولى من الأربعة: هو قوله: م: (إذا شهد الموصى لهما بذلك) ش: أي بأن أباهما أوصى إلى فلان، توضيحه أن الموصى لهما بشيء من المال شهد أن الميت أوصى إلى زيد مثلاً يكون وصياً على أولاده وأمواله.
الثانية: هو قوله: م: (أو غريمان لهما على الميت دين) ش: أي أو شهد الغريمان لهما على الميت دين، والضمير في لهما يرجع إلى الغريمين.
الثالثة: هو قوله: م: (أو للميت عليهما دين) ش: أي أو شهد الغريمان للميت عليهما، أي على الغريمين دين وقوله دين يشمل هذا والمسألة التي قبلها أيضاً.
الرابعة: هو قوله: م: (أو شهد الوصيان أنه) ش: أي أن الميت م: (أوصى إلى هذا الرجل معهما) ش: أي مع الوصيين، ويشهد كل فريق أن الميت أوصى إلى هذا وهو يدع ذلك جازت

(9/160)


وجه القياس أنها شهادة للشاهد لعود المنفعة إليه، وجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان طالبا والموت معروفا، فيكفي القاضي بهذه الشهادة مؤنة التعيين لا أن يثبت بها شيء فصار كالقرعة،
والوصيان إذا أقرا أن معهما ثالثا يملك القاضي نصف ثالث معهما لعجزهما عن التصرف باعترافهما، بخلاف ما إذا أنكر ولم يعرف الموت؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهادة، ولا يجوز قياساً، ولو أنكر الوصي ذلك لم يجز ذلك قياساً واستحساناً.
م: (وجه القياس: أنها شهادة للشاهد لعود المنفعة إليه) ش: وهذا لأن الوارثين قصدا بهذه الشهادة نصب من يتصرف لها، ويقوم بإحياء حقوقهما، والغريمين قصدا من يستوفيان منه حقهما، ويبرآن بالدفع إليه، والوصيين قصدا نصب من يعينهما على التصرف في مال الميت والوصي لهما قصدا نصيب من يدفع إليهما حقوقهما، فكان الكل يجران إلى أنفسهما نفعاً بشهادتهما فترد، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن شهادة الجار لنفسه نفعاً لا يقبل بالإجماع.
م: (ووجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان) ش: أي الوصي م: (طالباً والموت معروفاً) ش: يعني: ظاهر؛ لأن القاضي، لا يثبت له بهذه الشهادة، ولاية لم تكن.
م: (فيكفي القاضي بهذه الشهادة مؤنة التعيين) ش: لأن القاضي يلزمه أن يتأمل في هذا الوصي أنه هل يصلح للوصاية لأمانته وديانته وهدايته، وهما بهذه الشهادة زكياه. وأخبر القاضي أنه أهل لذلك، فكفيت عنه مؤنة التعيين، أي تعيين الوصي.
م: (لا أن يثبت بها شيء) ش: أي بهذه الشهادة شيء يعني من ولاية لم تكن م: (فصار) ش: هذا م: (كالقرعة) ش: في أنها ليست بحجة، هي دافعة مؤنة تعيين القاضي لدفع التهمة، وأراد به القرعة التي بعد القسمة لتعيين الأنصباء، وأنها ليست بحجة، ومع هذا يجوز استعمالها في تعيين الأنصباء لدفع التهمة عن القاضي، فصلحت دافعة لا موجبة، فكذا هذه الشهادة تدفع عن القاضي مؤنة التعيين إلا أن يثبت شيئاً لم يكن، فافهم.

[شهادة الوصيين إذا أقرا أن معهما ثالثا]
م: (والوصيان إذا أقرا) ش: هذا جواب عما يقال ليس للقاضي نصب وصي ثالث، فكانت الشهادة موجبة عليه ما لم يكن له، وتقرير الجواب أن الوصيين إذا أقرا، يعني إذا اعترفا م: أن معهما ثالثاً) ش: أي وصياً ثالثاً، واعترافهما بذلك لأجل عجزهما، فحينئذ م: (يملك القاضي نصف ثالث) ش: أي وصي الثالث.
م: (معهما) ش: أي مع الوصيين م: (لعجزهما عن التصرف باعترافهما) ش: أي عن التصرف بعدم استقلالهما به.
م: (بخلاف ما إذا أنكر) ش: أي الوصي م: (ولم يعرف الموت) ش: لا تقبل الشهادة م: (لأنه)

(9/161)


ليس له ولاية نصب الوصي، فتكون الشهادة هي الموجبة، وفي الغريمين للميت عليهما دين تقبل الشهادة وإن لم يكن الموت معروفا؛ لأنهما يقران على أنفسهما، فيثبت الموت باعترافهما في حقهما، وإن شهدا أن أباهما الغائب وكله بقبض ديونه بالكوفة، فادعى الوكيل أو أنكره لا تقبل شهادتهما؛ لأن القاضي لا يملك نصب الوكيل عن الغائب، فلو ثبت إنما يثبت بشهادتهما، وهي غير موجبة لمكان التهمة.
قال: ولا يسمع القاضي الشهادة على جرح مجرد ولا يحكم بذلك؛ لأن الفسق بما لا يدخل تحت الحكم؛ لأن له الدفع بالتوبة، فلا يتحقق الإلزام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لأن القاضي م: (ليس له ولاية نصب الوصي) ش: بغير رضاه أو برضاه، والموت ليس بمعروف م: (فتكون الشهادة هي الموجبة) ش: أي كثبوت الوصاية، فلا تقبل بسبب التهمة م: (وفي الغريمين للميت عليهما دين تقبل الشهادة، وإن لم يكن الموت معروفاً؛ لأنهما يقران على أنفسهما) ش: بحق قبض الدين، فانتفت التهمة؛ لأن ضررهما في ذلك أكثر من نفعهما فكانت الشهادة على أنفسهما، وشهادة الإنسان على نفسه مقبولة، وهي الإقرار م: (فيثبت الموت باعترافهما في حقهما) ش: أي يثبت موت رب الدين بإقرارهما في حق الدين م: (وإن شهدا أن أباهما الغائب وكله بقبض ديونه بالكوفة فادعى الوكيل) ش: أي الوكالة م: (أو أنكره) ش: أي الوكالة.
م: (لم تقبل شهادتهما؛ لأن القاضي لا يملك نصب الوكيل عن الغائب فلو ثبت) ش: أي التوكيل م: (إنما يثبت بشهادتهما وهي) ش: أي هذه الشهادة م: (غير موجبة) ش: للثبوت م: (لمكان التهمة) ش: لأنهما يشهدان لأبيهما.

[الشهادة على جرح مجرد]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يسمع القاضي الشهادة على جرح مجرد) ش: أي جرح مجرد يتضمن لتعيق الشهود من غير أن يضمن إيجاب حق من حقوق الشرع أو من حقوق العباد، نحو أن يشهد أن الشهود فسقة أو زناة أو أكلة ربا، أو شربة خمر، أو على إقرارهم أنهم شهدوا بالزور، أو إقرارهم أنهم أجرتي إذا هذه الشهادة، أو على إقرارهم أن المدعي مبطل في هذه الدعوى، أو على إقرارهم أن لا شهادة لهم على المدعى عليه في هذه الحادثة ففي هذه الوجوه لا تقبل شهادتهم.
م: (ولا يحكم) ش: أي القاضي م: (بذلك) ش: أي بالجرح المجرد م: (لأن الفسق مما لا يدخل تحت الحكم؛ لأن له) ش: أي للمقضى عليه م: (الدفع بالتوبة) ش: أي دفع الحكم والإلزام بإظهار التوبة، وسماع الشهادة، إنما هو بالحكم والإلزام م: (فلا يتحقق الإلزام) ش: لذلك.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل قوله ولا يحكم بذلك تكراره؛ لأن بقوله: " لا تسمع الشهادة على جرح يفهم "، أجيب: بأنه ممكن أن لا يسمع ويحكم بعلمه في صورة، فجاز

(9/162)


ولأنه هتك الستر والستر واجب، والإشاعة حرام، وإنما يرخص ضرورة إحياء الحقوق، وذلك فيما يدخل تحت الحكم إلا إذا شهدوا على إقرار المدعي بذلك تقبل؛ لأن الإقرار مما يدخل تحت الحكم.
قال: ولو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود، لم تقبل؛ لأنه شهادة على جرح مجرد، والاستئجار وإن كان أمرا زائدا عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الانفكاك بينهما في الجملة أورده لنفي الاحتمال في هذه الصورة.
م: (ولأنه) ش: أي في الجرح المجرد م: (هتك الستر والستر واجب) ش: وهو إظهار الفاحشة م: (والإشاعة حرام، وإنما يرخص ضرورة إحياء الحقوق، وذلك فيما يدخل تحت الحكم) ش: بالنص هو قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] الآية (النور: الآية 19) . وفي بعض النسخ: واجب دون الإشاعة وإنها حرام، فيكون المشاهد فاسقاً بهتك واجب الستر، وتعاطي إظهار الحرام، فلا يسمعها الحاكم م: (إلا إذا شهدوا) ش: استثناء من قوله؛ لأن الفسق، وهو منقطع لكن إلا إذا شهد شهود المدعى عليه.
م: (على إقرار المدعي بذلك تقبل) ش: أي بالجرح بأنه إقران شهودي فسقة فإنها تقبل م: (لأن الإقرار مما يدخل تحت الحكم) ش: أي ما لم تظهره الفاحشة، وإنما حكوها عن غيرهم، وهو المدعي والحاكي لإظهارها ليس كمظهرها - وفي بعض النسخ -: ولو شهدوا على إقرار المدعي بذلك وتقبل.

[أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ولو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود، لم تقبل؛ لأنه شهادة على جرح مجرد) ش: صورتها في " الجامع ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل أقام البينة أن هذا استأجر الشهود، قال: لا أقبل البينة على استئجار الشهود، انتهى.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وفي قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل؛ لأنه أثبت أنهم فسقة وشهادة الفسقة لا تقبل. ثم قال الفقيه: وهذا القول أحسن، وذكر فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره في " شرح الجامع الصغير ": ذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجرح المجرد أنه مقبول، وقال الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " تهذيب أدب القاضي ": وظاهر الرواية عن أصحابنا أنه لا تقبل الشهادة على الجرح المجرد.
م: (والاستئجار وإن كان أمراً زائداً عليه) ش: هذا جواب عما يقال: إن قول المدعي استأجرهم ليس بجرح مجرد، بل فيه إثبات أمر زائد وهو الاستئجار، وهو حق المدعي، فيثبت الجرح في ضمنه، وأجاب: بأن الاستئجار، وإن كان أمراً زائداً عليه، أي على الجرح المجرد م:

(9/163)


فلا خصم في إثباته؛ لأن المدعى عليه في ذلك أجنبي عنه، حتى لو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود بعشرة دراهم ليؤدوا الشهادة وأعطاهم العشرة من مالي الذي كان في يده تقبل؛ لأنه خصم في ذلك، ثم يثبت الجرح بناء عليه. وكذا إذا أقامها على أني صالحت هؤلاء الشهود على كذا من المال، ودفعته إليهم على أن لا يشهدوا علي بهذا الباطل، وقد شهدوا، وطالبهم برد ذلك المال، ولهذا قلنا: إنه لو أقام البينة أن الشاهد عبد أو محدود في قذف، أو شارب خمر، أو قاذف أو شريك المدعي، تقبل.

قال: ومن شهد ولم يبرح حتى قال: أوهمت بعض شهادتي، فإن كان عدلا، جازت شهادته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فلا خصم في إثباته؛ لأن المدعى عليه في ذلك أجنبي عنه) ش: إذ لا تعلق بالأجرة، فبقي جرحاً مجدداً.
م: (حتى لو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود بعشرة دراهم ليؤدوا الشهادة وأعطاهم العشرة من مالي الذي كان في يده تقبل؛ لأنه خصم في ذلك) ش: أي لأن المدعي خصم للمدعى عليه فيما يدعيه م: (ثم يثبت الجرح بناء عليه) ش: لأن الجرح تحت الحكم، ويثبت بناء عليه؛ لأنه جرح مركب فافهم.
م: (وكذا) ش: وكذا يقبل م: (إذا أقامها) ش: أي لو أقام المدعى عليه البينة م: (على أني صالحت هؤلاء الشهود على كذا من المال، ودفعته إليهم على أن لا يشهدوا علي بهذا الباطل وقد شهدوا وطالبهم برد ذلك المال) ش: لما ذكرنا أنه خصهم في ذلك فتقبل بينته.
م: (ولهذا قلنا) ش: ولما قلنا: إنه لو أقام البينة على جرح فيه حق من حقوق العباد، أو من حقوق الشرع.
كذا قاله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كذا قيل، وليس له ذكر المتن، وقيل " لما قلنا " من الدليلين في الجرح المجرد، قلنا كذا وهو بعيد، فكان المناسب أن يقول: ولذلك وهو أسهل. والمعنى إذا أقام المدعى عليه البينة وهو معنى قوله م: (إنه) ش: أي أن المدعى عليه م: (لو أقام البينة أن الشاهد عبد، أو محدود في قذف، أو شارب خمر أو قاذف، أو شريك المدعي تقبل) ش: أي البينة لما كان الحاجة إلى إحياء هذه الحقوق، وفيما قال: إنه محدود في قذف ليس إشاعة الفاحشة؛ لأن الإظهار حصل بقضاء القاضي، وإنما حكوا عن إظهار الفاحشة عن الغير.

م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن شهد ولم يبرح) ش: أي لم يزل في مكانه م: (حتى قال: أوهمت بعض شهادتي، فإن كان عدلاً) ش: أي عدالته إن كانت ظاهرة عند القاضي م: (جازت شهادته) ش: وإن لم يكن يسأل عنه، فقيل: إنه عدل، جازت شهادته. كذا في " الجامع البرهاني ". وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ناقلاً عن

(9/164)


ومعنى قوله: أوهمت، أي: أخطأت بنسيان ما كان يحق علي ذكره أو بزيادة كانت باطلة. ووجهه أن الشاهد قد يبتلى بمثله لمهابة مجلس القضاء، فكان العذر واضحا، فتقبل إذا تداركه في أوانه وهو عدل، بخلاف ما إذا قام عن المجلس ثم عاد وقال: أوهمت لأنه يوهم الزيادة من المدعي بتلبيس وخيانة فوجب الاحتياط، ولأن المجلس إذا اتحد لحق الملحق بأصل الشهادة، فصار ككلام واحد، ولا كذلك إذا اختلف،
وعلى هذا وقع الغلط في بعض الحدود أو في بعض النسب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومعنى قوله أوهمت، أي أخطأت بنسيان ما كان يحق علي ذكره أو بزيادة كانت باطلة) ش: قوله كانت باطلة جملة فعلية وقعت صفة لقوله بزيادة م: (ووجهه) ش: أي وجه جواز شهادته م: (أن الشاهد قد يبتلى بمثله) ش: أي بمثل ما ذكر من قوله أوهمت م: (لمهابة مجلس القضاء) ش: لأن مهابة مجلس القضاء يوقع عليه الغلط بالزيادة أو النقصان م: (فكان العذر واضحاً) ش: فإن كان كذلك م: (فتقبل) ش: أي شهادته م: (إذا تداركه في أوانه)
ش: وأوانه قبل البراح من مكانه، فإذا تدارك الغلط قبل البراح م: (وهو عدل) ش: قبل ذلك منه فكان ذلك ملحقاً بأصل شهادته.
م: (بخلاف ما إذا قام عن المجلس ثم عاد وقال: أوهمت) ش: حيث لا تقبل شهادته م: (لأنه يوهم الزيادة من المدعي بتلبيس وخيانة) ش: وذلك بالجماعة الشاهد بحطام الدنيا، فإذا كان كذلك م: (فوجب الاحتياط) ش:.
قالوا: هذا إذا كان الموضع موضع الشبهة، يعني شبهة التلبيس. أما إذا لم يكن، فلا بأس بإعادة الكلام إذا كان عدلاً، سواء اتحد المجلس أو اختلف، كما إذا ترك لفظ الشهادة أو مثلها، يجوز أن يترك لفظ اسم المدعي أو المدعى عليه، أو يترك الإشارة إلى المدعي أو المدعى عليه.
م: (ولأن المجلس إذا اتحد) ش: هذا دليل آخر على المعنى، يعني إن اتحد المجلس م: (لحق الملحق) ش: بفتح الحاء أي الذي لحقه من الكلام بأول كلامه م: (بأصل الشهادة، فصار ككلام واحد) ش: لأن اتحاد المجلس بجمع المتفرقات، وهذا يوجب العمل بالشهادة الثانية في الزيادة والنقصان؛ لأن الحادثة بعد الشهادة من العدل في المجلس كالقرون بأصلها، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولا كذلك إذا اختلف) ش: أي لا يلحق الملحق بأصل الشهادة إذا اختلف المجلس للانقطاع بين الكلامين باختلاف المجلس.

[شهادة من ذكر الجانب الشرقي مكان الجانب الغربي أو على العكس]
م: (وعلى هذا) ش: أي على اعتبار المجلس في دعوى التوهم م: (إذا وقع الغلط في بعض الحدود) ش: بأن ذكر الجانب الشرقي مكان الجانب الغربي أو على العكس م: (أو في بعض النسب) ش: بأن ذكر محمد بن أحمد بن عمرو - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال محمد بن علي بن عمر: مثلاً تقبل

(9/165)


وهذا إذا كان موضع شبهة. فأما إذا لم يكن فلا بأس بإعادة الكلام، مثل أن يدع لفظة الشهادة وما يجري مجرى ذلك، وإن قام عن المجلس بعد أن يكون عدلا. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: أنه يقبل قوله في غير المجلس إذا كان عدلا، والظاهر ما ذكرناه، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهادته إذا تداركه في المجلس ولا تقبل بعده.
م: (وهذا) ش: أي باعتبار اتحاد المجلس في عدم التلبيس، واعتبار اختلافه في وجود التلبيس م: (إذا كان موضع شبهة) ش: يعني إذا كان ذلك الموضع موضع شبهة التلبيس.
م: (فأما إذا لم يكن) ش: موضع شبهة التلبيس م: (فلا بأس بإعادة الكلام) ش: يعني باستئنافه م: (مثل أن يدع) ش: أي يترك م: (لفظة الشهادة وما يجري مجرى ذلك) ش: بأن يترك اسم المدعي أو المدعى عليه أو يترك الإشارة إلى أحدهما.
م: (وإن قام عن المجلس) ش: واصل بما قبله م: (بعد أن يكون عدلاً) ش: وقد مر هذا عن قريب.
م: (وعن أبي حنيفة) ش: فيما روى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه م: (وأبي يوسف -رحمهما الله) ش: فيما روى بشر عنه م: (أنه يقبل قوله) ش: أي قول الشاهد م: (في غير المجلس) ش: أي في جميع المجالس م: (إذا كان عدلاً) ش: أي إذا كان الشاهد عدلاً.
م: (والظاهر ما ذكرناه) ش: يعني أن ظاهر الرواية ما ذكرناه، وهو أن شهادته تجوز إذا قال: أوهمت إذا لم يبرح مكانه، بعد أن كان عدلاً. فإن برح فلا هكذا فسر الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: والظاهر ما ذكرناه، وهو أن يقبل في المجلس، أي في موضع شبهة التلبيس وبعده وفي غير موضع شبهة التلبيس يقبل في جميع الأوقات.
وفي " نوادر ابن سماعة " - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا شهد بالدار للمدعي، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم قالا لا ندري لمن إلينا لا أضمنهما قيمة البناء، كأننا شككنا في شهادتنا.
وإن قالا: ليس البناء للمدعي ضمنا قيمة البناء للمشهود عليه، فعلم بقول الشهود شككنا، لا يختلف الحكم بعد القضاء وقبله في أنه يقبل هذا القول منهم إذا كانوا عدولاً.

(9/166)