البناية شرح الهداية

باب الشهادة على الشهادة قال: الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة، وهذا استحسان لشدة الحاجة إليها، إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لبعض العوارض، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة أدى إلى إتواء الحقوق. ولهذا جوزنا الشهادة على الشهادة وإن كثرت، إلا أن فيها شبهة من حيث البدلية، أو من حيث أن فيها زيادة احتمال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب الشهادة على الشهادة]
[حكم الشهادة على الشهادة]
م: (باب الشهادة على الشهادة)
ش: أي هذا باب في بيان حكم الشهادة على الشهادة، ولما كانت الشهادة على الشهادة فرع شهادة الأصول استحقت التأخير؛ لأن الأصل مقدم على الفرع.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": م: (الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة) ش: أراد به غير الحدود والقصاص، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقبل في كل الحقوق سواء كان حدا أو غيره، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح م: (وهذا) ش: أي جواز الشهادة على الشهادة م: (استحسان لشدة الحاجة إليها) ش: والقياس يأتي بجوازها لتمكن الشبهة فيها، إذ الأخبار إذا تداولتها الألسن يتمكن فيها زيادة ونقصان، ولأن أداء الشهادة عبادة، والعبادة لا تجري فيها النيابة؛ لأنها جوزت استحسانا م: (إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لبعض العوارض) ش: كالموت والسفر والغيبة. م: (فلو لم تجز الشهادة على الشهادة أدى إلى إتواء الحقوق) ش: أي ضياعها وهلاكها م: (ولهذا) ش: أي ولأجل إتواء الحقوق عند عدم جواز الشهادة على الشهادة م: (جوزنا الشهادة على الشهادة وإن كثرت) ش: أي الشهادة على الشهادة وإن بعدت.
م: (إلا أن فيها) ش: أي لكن في الشهادة م: (شبهة من حيث البدلية) ش: لأن البدل محالا لا يصار إليه إلا عند العجز عن الأصل، وهذه كذلك، فإن قيل: لو كان فيها معنى البدلية ينبغي أن لا يجوز الجمع بين الأصل والفرع، فإن القاضي لو قضى بشاهد أصل وشاهدين فرعين يجوز، وتكميل الجمع بين الأصل بالخلف لا يجوز كما في الوضوء والتيمم، ذكره في " الكافي ".
أجيب: بأن البدلية إنما هي في المشهود به، فشهادة الفروع هي شهادة الأصول، والمشهود به بشهادة الأصول هو ما عاينوه مما يدعيه المدعي، وإذا كان كذلك لم يكن شهادة الفروع بدلا عن شهادة الأصول فلم يمنع إتمام الأصول بالفروع م: (أو من حيث أن فيها زيادة احتمال) ش: معطوف على قوله من حيث البدلية، يعني أن فيها شبهة من حيث إن فيها زيادة احتمال، فإن في شهادة

(9/185)


وقد أمكن الاحتراز عنه بجنس الشهود فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص.

وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا الأربع على كل أصل اثنان؛ لأن كل شاهدين قائمان مقام شاهد واحد، فصار كالمرأتين. ولنا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصول تهمة الكذب لعدم العصمة، وفي شهادة الفروع تلك التهمة مع زيادة تهمة كذبهم. م: (وقد أمكن الاحتراز عنه بجنس الشهود) ش: يعني بشهود الأصل م: (فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص) ش: فالشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول يوافقنا في الحدود لا في القصاص.
فإن قيل: ذكر في " المبسوط ": أن الشاهدين لو شهدا على شهادة شاهدين أن قاضي كذا ضرب فلانا حدا في قذف تقبل حتى يرد شهادة فلان.
قلنا: المشهود به فعل القاضي لا نفس الحد، وفعل القاضي مما يثبت بالشبهات، وإنما الذي لا يثبت مع الشبهات إلا يناب لموجب العقوبة وإقامة القاضي حد القذف ليس بسبب موجب للعقوبة.
فإن قيل: أليس أن إقامة الحد مسقط للشهادة بطريق العقوبة؟.
قلنا: لا، ولكن رد شهادة من تمام الحد، فيكون ما هو السبب الموجب للحد وهو القذف.

[شهادة شاهدين على شهادة شاهدين]
م: (وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا الأربع على كل أصل اثنان) ش: أي شاهدان من الأربع، وبه قال عبد الملك المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، واختاره المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (لأن كل شاهدين قائمان مقام شاهد واحد) ش: فلا تتم حجة القضاء بشهادتهما.
م: (ولنا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين) ش: هذا غريب، يعني لم يثبت، والذي روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما رواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " أخبرنا إبراهيم بن أي يحيى الأسلمي، عن حسين، عن أبيه، عن جده، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا يجوز على شهادة الميت إلا رجلين ".
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا ما روى أصحابنا في كتبهم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جوز شهادة رجلين على شهادة رجل إلا شهادة رجلين، وجه الاستدلال بذلك: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جوز شهادة رجلين على شهادة رجل، على شهادة رجل آخر، ولم يشترط أن

(9/186)


ولأن نقل شهادة الأصل من الحقوق فهما شهدا بحق ثم شهدا بحق آخر، فتقبل. ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد لما روينا، وهو حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولأنه حق من الحقوق، فلا بد من نصاب الشهادة،
وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان أقر عندي بكذا، وأشهدني على نفسه؛ لأن الفرع كالنائب عنه، فلا بد من التحميل والتوكيل على ما مر، ولا بد أن يشهد كما يشهد عند القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون بإزاء كل أصل فرعان على حدة [......] إطلاقه على جواز شهادة الفرعين جميعا على شهادة الأصلين، ولم يرد عن غير علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافه، فحل محل الإجماع. قلت: فيه تأمل. م: (ولأن نقل شهادة الأصل من الحقوق) ش: يعني حق من الحقوق، إذ طريق جواز الشهادة على الشهادة نقل الشهادة م: (فهما شهدا بحق ثم شهدا بحق آخر) ش: فكمل نصاب الشهادة م: (فتقبل) ش: لكمال النصاب.
م: (ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد لما روينا) ش: أي من قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وهو) ش: أي قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه قال في كتبنا: وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز شهادة الواحد على شهادة الواحد، ولكن ذكر في " جواهر المالكية ": لا يجوز، وكذا ذكر في " الحلية "، فإذا كان كذلك كيف يكون قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الحلية ": أنه على قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ليلي وعبد الله بن شبرمة والحسن البصري وعبد الله بن الحسن العنبري وعثمان البتي وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. يثبت بشهادة واحد شهادة الأصل الواحد، لأن الفرع قائم مقام الأصل م: (ولأنه) ش: أي ولأن نقل الشهادة م: (حق من الحقوق، فلا بد من نصاب الشهادة) ش: إذ النصاب شرط فلا بد منه.

[صفة الإشهاد في الشهادة على الشهادة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان أقر عندي بكذا وأشهدني على نفسه؛ لأن الفرع كالنائب عنه) ش: أي عن الأصل، وإنما قال كالنائب، ولم يقل نائب عنه؛ لأنه لو كان نائبا عنه حقيقة، لما جاز الجمع عند فرعين، وأصل بيانه أن للقاضي أن يقضي بشهادة أصل واحد وفرعين عن أصل آخر. ولو كان الفرع نائبا حقيقة لما جاز الجمع بين الأصل والخلف، كما لا يجوز الجمع بين الوضوء والتيمم م: (فلا بد من التحميل والتوكيل) ش: لأن الشهادة على الشهادة إنما تصير حجة بنقل شهادة الأصل م: (إلى مجلس القضاء) ش:، فلا بد من التحميل، والفرع وكيل عن الأصل فلا بد من التوكيل م: (على ما مر) ش: أي الذي مضى قبله في فصل ما يتحمله الشاهد.
م: (ولا بد أن يشهد) ش: أي الأصل م: (كما يشهد عند القاضي) ش: أي كما يشهد الأصل عند

(9/187)


لينقله إلى مجلس القضاء، وإن لم يقل أشهدني على نفسه جاز؛ لأن من سمع إقرار غيره حل له الشهادة، وإن لم يقل له أشهد، ويقول شاهد الفرع عند الأداء: أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده بكذا، وقال لي: أشهد على شهادتي بذلك، لأنه لا بد من شهادته. وذكر شهادة الأصل وذكر التحميل، ولها لفظ أطول من هذا، وأقصر منه وخير الأمور أوسطها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاضي بلا تفاوت في القول، بأن يقول إني أشهد أن فلان ابن فلان أقر عندي بكذا فأشهد أنت على شهادتي م: (لينقله إلى مجلس القضاء) ش: أي لينقل الفرع إلى ما أشهده الأصل إلى مجلس القاضي م: (وإن لم يقل) ش: أي الأصل عند الفرع م: (أشهدني على نفسه) ش: أي المقر أو المدعى عليه م: (جاز لأن من سمع إقرار غيره حل له الشهادة وإن لم يقل له:) ش: أي وإن لم يقل الغير م: (أشهد) ش: علي.
م: (قال:) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويقول شاهد الفرع عند الأداء أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده بكذا، وقال لي أشهد على شهادتي بذلك لأنه لا بد من شهادته) ش: أي شهادة الفرع م: (وذكر شهادة الأصل وذكر التحميل) ش: أما شهادة الأصل فلا بد له ثم يخبر بعد ذلك بصفة ما نفع عليه شهادته وهو التحميل.
م: (ولها) ش: أي لشهادة الفرع عند الأداء م: (لفظ أطول من هذا) ش: أي من الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو كما قال الخصاف وغيره: إن الفرع يقول عند القاضي أشهد أن فلانا شهد عندي أن لفلان على فلان كذا من المال وأشهدني على شهادته، وأمرني أن أشهد على شهادته، وأنا أشهد على شهادته بذلك الآن، فيحتاج إلى ثمان شيئات، واختاره أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأستاذه أبو جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفيما ذكر في الكتاب خمس شيئات واختاره الحلواني م: (وأقصر منه وخير الأمور أوسطها) ش: وهذا أن يقول الفرع: أشهد على شهادة فلان بكذا جاز فيه شيئان، واختاره أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأستاذه أبو جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهكذا حكى فتوى السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهكذا ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير "، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
وذكر الخصاف أنه يكفي ثلاث شيئات في الإشهاد، وست في الأداء، وهو أن يقول في الإشهاد: أشهد أن فلانا أقر عندي لفلان بكذا، فأشهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته إلا أن أنا أشهد على شهادة أن لفلان على فلان كذا، وهذا معنى ما قاله في " نظم الجامع "، ويؤتي بشيئات ثلاث لحملها، وبالست في حال الأداء مردود.
وفي " الفتاوى الصغرى ": شهود الفرع يجب أن يذكروا أسماء الأصول وأسماء آبائهم وأجدادهم حق لو قالا للقاضي: نشهد أن رجلين نعرفهما أشهدانا على شهادتهما، يشهدان

(9/188)


ومن قال أشهدني فلان على نفسه، لم يشهد السامع على شهادته حتى يقول له: أشهد على شهادتي لأنه لا بد من التحميل. وهذا ظاهر عند محمد؛ لأن القضاء عنده بشهادة الفروع والأصول جميعا حتى اشتركوا في الضمان عند الرجوع، وكذا عندهما؛ لأنه لا بد من نقل شهادة الأصول لتصير حجة، فيظهر تحميل ما هو حجة. قال: ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بكذا، وقالا للقاضي: لا نسميها لك أو قالا: لا نعرف اسما لهما، لم تقبل حتى يسميا؛ لأنهما تحملا مجازفة لا عن معرفة.

[قال أشهدني فلان على نفسه في شهادة الأصول على الفروع]
م: (ومن قال: أشهدني فلان على نفسه، لم يشهد السامع على شهادته حتى يقول له: أشهد على شهادتي؛ لأنه لا بد من التحميل. وهذا هو ظاهر عند محمد لأن القضاء عنده بشهادة الفروع والأصول جميعا حتى اشتركوا في الضمان عند الرجوع) ش: يعني اشتراكهم في الضمان أن المشهود عليه بالخيار بين تضمين الأصول وبين تضمين الفروع، فليس معناه أن يقضي بنصف الضمان على الأصول وبنصفه على الفروع، بل هذا كالغاصب مع غاصب الغاصب.
وفي " الذخيرة ": لو ضمن الفروع لا يرجعون على الأصول كما في الغصب، وإن ضمن الأصول لا يرجعون على الفروع بخلاف لو ضمن الغاصب حتى رجع على غاصب الغاصب.
م: (وكذا عندهما) ش: أي وكذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من التحميل. إن كان القضاء مضافا إلى الفروع حتى وجب الضمان على الفروع، خاصة عند رجوع الأصول والفروع جميعا فلا بد من التحميل.
وليس للفروع أن ينقلوا شهادتهم بدون تحميلهم م: (لأنه لا بد من نقل شهادة الأصول لتصير حجة، فيظهر تحميل ما هو حجة) ش: أي يظهر بالنقل تحمل ما هو حجة، ولولا التحميل لم يوجد الفعل والنقل إلى مجلس القاضي حجة حتى يتبين أنهم تحملوا ما هو حجة، والنقل لا بد له من التحميل والتوكيل.
قوله: م: (فيظهر) ش: بالنصب لأنه جواب النفي، وهو قوله: لا بد. ويجوز أن يكون معطوفا على قوله: ليصير وهذا أظهر.

[شهادة شهود الفرع]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا) ش: قدر الغيبة بمدة السفر لتعلق الأحكام بمدة السفر كقصر الصلاة والإفطار في العموم وابتداء مسح الخف، وكتكبيرات التشريق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والأضحية والجمعة، وخروج المرأة بلا محرم، به قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول

(9/189)


أو يمرضوا مرضا لا يستطيعون معه حضور مجلس الحكم؛ لأن جوازها للحاجة، وإنما تمس عند عجز الأصل. وبهذه الأشياء يتحقق العجز، وإنما اعتبرنا السفر لأن المعجز بعد المسافة ومدة السفر بعيدة حكما حتى أدير عليها عدة من الأحكام فكذا سبيل هذا الحكم، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إن كان في مكان لو غدا لأداة الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله صح الإشهاد إحياء لحقوق الناس. قالوا الأول أحسن، والثاني أرفق. وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحمد في رواية، م: (أو يمرضوا مرضا لا يستطيعون معه) ش: أي مع المرض م: (حضور مجلس الحكم؛ لأن جوازها للحاجة) ش: أي لأن جواز الشهادة على الشهادة لأجل حاجة الناس مع أن القياس يأباها م: (وإنما تمس) ش: أي الحاجة م: (عند عجز الأصل) ش: أي شهود الأصل.
م: (وبهذه الأشياء) ش: وهي الموت والغيبة والمرض م: (يتحقق العجز، وإنما اعتبرنا السفر) ش: أي مدة السفر في الغيبة م: (لأن المعجز) ش: اسم فاعل من التعجيز م: (بعد المسافة ومدة السفر بعيدة حكما) ش: أي من حيث الحكم م: (حتى أدير عليها) ش: أي على مدة السفر م: (عدة من الأحكام) ش: وهي التي ذكرناها الآن م: (فكذا سبيل هذا الحكم) ش: أي حكم غيبة شهود الأصل.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي الشاهد القرى م: (إن كان في مكان لو غدا) ش: أي أذهب بكرة النهار م: (لأداء الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله) ش: بعد الرواح من مجلس القاضي م: (صح الإشهاد إحياء لحقوق الناس) ش:، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو كان بمكان لا يلزمه الحضور، وقال بعض أصحاب مالك: لا ينقل في الحدود والأغيبة بعيدة، فأما اليومان والثلاثة فلا، إلا المرأة، فإنه ينقل عنهما مع حضورها في البلد.
وفي " الذخيرة ": روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز كيف ما كان، حتى إذا كان الأصل في رواية المسجد، والفرع في رواية أخرى من ذلك المسجد تقبل، وقال شمس الأئمة السرخسي والسعدي - رحمهما الله - في " شرح أدب القاضي " للخصاف: شهادة الفروع والأصول في المصر يجب أن يجوز على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز في " الفتاوى الصغرى ". قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقبل الشهادة على الشهادة والشهود على شهادتهم في المصر من غير مرض ولا علة.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (الأول) ش: أي التقدير بثلاثة أيام م: (أحسن) ش: لأن العجز شرعا يتحقق فيه م: (والثاني) ش: وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أرفق) ش: لأن فيه رفقا بالناس م: (وبه) ش: أي وبالثاني م: (أخذ الفقيه أبو الليث) ش: وكثير من المشايخ

(9/190)


قال: فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع جاز؛ لأنهم من أهل التزكية،
وكذا إذا شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر صح لما قلنا غاية الأمر أن فيه منفعة له من حيث القضاء بشهادته، لكن العدل لا يتهم بمثله، كما لا يتهم في شهادة نفسه، كيف وإن قوله مقبول في حق نفسه، وإن ردت شهادة صاحبه فلا تهمة. قال: وإن سكتوا عن تعديلهم جاز. وينظر القاضي في حالهم، وهذا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل لأنه لا شهادة إلا بالعدالة. فإذا لم يعرفوها، لم ينقلوا الشهادة فلا تقبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع جاز) ش: بنصب شهود الأصل على المفعولية، وشهود الفرع بالرفع على الغائبة، أي عدل الفروع الأصول جاز بإجماع الأئمة الأربعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (لأنهم) ش: أي لأن شهود الأصل م: (من أهل التزكية) ش: فحينئذ لا فرق بين تزكيتهم وتزكية غيرهم.
وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسأل القاضي للفروع عن الأصول، ولا يقضي قبل السؤال، فإن عدلوهم ثبتت عدالتهم في ظاهر الرواية، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تثبت عدالتهم بتعديل الفروع؛ لأن فيه تقبل بشهادة أنفسهم، الصحيح ظاهر الرواية لأن العدل لا يتهم بمثله.

[شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر]
م: (وكذا) ش: أي كذا الحكم م: (إذا شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر صح لما قلنا) ش: أراد به قوله أنه من أهل التزكية م: (غاية الأمر أن فيه) ش: أي غاية ما يرد فيه من أمر الشهادة أن يقال ينبغي أن لا يصح تعديله؛ لأنه متهم بسبب تعينه أي تعديله م: (منفعة له من حيث القضاء بشهادته، لكن العدل لا يتهم بمثله كما لا يتهم في شهادة نفسه، كيف وإن قوله:) ش: أي لا يصح تعديل الفرع بالأصل والحال أن قوله م: (مقبول في حق نفسه وإن ردت شهادة صاحبه) ش: حتى إذا انضم إليه غيره من العدول، حكم القاضي بشهادتهما، وإذا كان الأمر كذلك م: (فلا تهمة) ش: حينئذ.
م: (قال: وإن سكتوا عن تعديلهم) ش: أي وإن سكت الفروع عن تعديل الأصول م: (جاز) ش: أي شهادة الفروع م: (وينظر القاضي في حالهم) ش: أي في حال شهود الأصل، يعني ينظر القاضي عن عدالة شهود الأصل عن شهود الفرع م: (وهذا) ش: أي وهذا المذكور م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل لأنه لا شهادة إلا بالعدالة، فإذا لم يعرفوها) ش: أي إذا لم يعرف الفروع عدالة الأصول م: (لم ينقلوا الشهادة فلا تقبل) ش: كما لو شهدوا على من لا

(9/191)


ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المأخوذ عليهم النقل دون التعديل؛ لأنه قد يخفى عليهم. وإذا نقلوا يتعرف القاضي العدالة كما إذا حضروا بأنفسهم وشهدوا. قال: وإن أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة شهود الفرع؛ لأن التحميل لم يثبت للتعارض بين الخبرين، وهو شرط.
وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين على فلانة بنت فلان الفلانية بألف درهم، وقالا: أخبرانا أنهما يعرفانها، فجاء بامرأة، وقالا: لا ندري أهي هذه أم لا، فإنه يقال للمدعي: هات شاهدين يشهدان أنها فلانة؛ لأن الشهادة على المعرفة بالنسبة قد تحققت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعرفون عقله م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المأخوذ عليهم) ش: أي أن الواجب عل شهود الفرع م: (النقل دون التعديل لأنه) ش: أي لأن التعديل م: (قد يخفى عليهم) ش: فيرجع الأمر إلى القاضي.
م: (وإذا نقلوا) ش: أي شهادتهم م: (يتعرف القاضي العدالة) ش: أي يتكلف في السؤال عن عدالتهم م: (كما إذا حضروا) ش: أي شهود الأصل م: (بأنفسهم وشهدوا) ش: قال القاضي: يتعرف عدالتهم فكذا هذا، وإذا قالوا: لا نعرف أن الأصول عدول أو لا؟ قال السعدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا وقولهم لأخبرك سواء فإذا قالوا لا نخبرك لا يقبل القاضي شهادتهم ويسأل من غيرهم عن حال الأصول، وهو الصحيح.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة شهود الفرع) ش: وفي " الكافي " معنى المسألة أنهم قالوا: ما لنا شهادة على هذه الحادثة وماتوا أو غابوا ثم جاء الفروع يشهدون على شهادتهم بهذه الحادثة أما مع حضورهم فلا يلتفت إلى شهادة الفروع وإن لم ينكروا م: (لأن التحميل لم يثبت للتعارض بين الخبرين) ش: أي بين خبر الفروع وخبر الأصول م: (وهو) ش: أي التحميل م: (شرط) ش: لصحة شهادة الفروع.

م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين على فلانة بنت فلان الفلانية بألف درهم، وقالا) ش: أي قال الفرعان: م: (أخبرانا) ش: أي الأصلان م: (أنهما) ش: أي أن الأصلين م: (يعرفانها) ش: أي يعرفان فلانة م: (فجاء بامرأة) ش: أي فجاء الفرعان بامرأة، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فجاء بامرأة بتوحيد الفعل، أي فجاء المدعي بامرأة في بعض النسخ فجاء بلفظ التثنية م: (وقالا) ش: أي الفرعان م: (لا ندري أهي هذه) ش: أي فلانة هذه م: (أم لا فإنه) ش: أي فإن الشأن م: (يقال للمدعي هات شاهدين يشهدان) ش: بكسر التاء، يقال هات يا رجل أي أعطني، وللمرأة هاتي بالياء. وذكر الجوهري في الأجوف اليائي وبه قال الخليل م: (أنها فلانة؛ لأن الشهادة على المعرفة) ش: على وزن اسم المفعول من التعريف م: (بالنسبة قد تحققت) ش: كما تحملوها، فصح الفعل. ولكن قولهم: لا ندري هي هذه أم لا يوجب جرحا في شهادتهم.

(9/192)


والمدعي يدعي الحق على الحاضرة، ولعلها غيرها، فلا بد من تعريفها بتلك النسبة، ونظير هذا إذا تحملوا الشهادة ببيع محدودة بذكر حدودها، وشهدوا على المشتري لا بد من آخرين يشهدان على أن المحدود بها في يد المدعى عليه. وكذا إذا أنكر المدعى عليه أن الحدود المذكورة في الشهادة حدود ما في يديه. قال: وكذا كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأنه في معنى الشهادة على الشهادة إلا أن القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمدعى يدعي الحق على الحاضرة، ولعلها غيرها) ش: أي ولعل للمرأة الحاضرة غير تلك المرأة فوجب التوقف م: (فلا بد من تعريفها) ش: أي من تعريف المرأة الحاضرة م: (بتلك النسبة) ش: المذكورة، وهي أن يأتي المدعي بشاهدين يشهدان أن الحاضرة فلانة بنت فلان الفلانية المعروفة بتلك النسبة.
م: (ونظير هذا) ش: نظير حكم المسألة المذكورة م: (إذا تحملوا الشهادة) ش: أي إذا تحملت جماعة الشهادة م: ببيع محدودة بذكر حدودها وشهدوا على المشتري) ش: بعدما أنكر أن يكون الحدود بها في يده م: (لا بد من آخرين يشهدان على أن الحدود بها في يد المدعى عليه) ش: توضيحه ما قال العتابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره: نظيره إذا ادعى رجل على رجل محدوداً في يده، وشهد شهوداً أن هذه الحدود المذكورة بهذه الحدود.
ملك هذا المدعي في يد المدعى عليه بغير حق، فقال المدعى عليه: الذي في يدي غير محدود بهذه الحدود التي ذكرها الشهود، فيقال للمدعي هات شاهدين أن الذي في يديه محدودة بهذه الحدود ليصح القضاء.
م: (وكذا إذا أنكر المدعى عليه أن الحدود المذكورة في الشهادة حدود ما في يديه) ش: قال التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني لو قال المدعي: إن المذكور بهذه الحدود ملكه في يد المدعى عليه بغير حق، فقال المدعى عليه: الذي في يد غيره محدود بهذه الحدود، فلا بد من شاهدين آخرين يشهدان أن الحدود المذكورة حدود ما في يده ليصح القضاء م: (قال: وكذا كتاب القاضي إلى القاضي) ش: يعني كتب في كتابه شهد عدلان لأن، عندي أن لفلان ابن فلان الفلاني على فلانة بنت فلان الفلاني كذا، فاقض عليها أنت بذلك، فأحضر المدعي امرأة في مجلس المكتوب إليه، ودفع الكتاب إليه وأنكرته أنها فلانة يقول القاضي: هات شاهدين يشهدان أن هذه التي أحضرتها هي الفلانية المذكورة بهذا الكتاب تمكن الإشارة إليها في القضاء م: (لأنه) ش: أي لأن كتاب القاضي إلى القاضي م: (في معنى الشهادة على الشهادة) .
م: (إلا أن القاضي) ش: جواب إشكال مقدر هو أن يقال: إن القاضي الكاتب بمنزلة الشاهد الفرعي سمع الشهادة من الشاهدين، ونقل شهادتهما بالكتاب، فصار كأنه حضر مجلس

(9/193)


لكمال ديانته ووفور ولايته ينفرد بالنقل.
ولو قالوا في هذين البابين التميمية لم يجز حتى ينسبوها إلى فخذها وهي القبيلة الخاصة، هذا لأن التعريف لا بد منه في هذا، ولا يحصل بالنسبة إلى العامة، وهي عامة بالنسبة إلى بني تميم، لأنهم قوم لا يحصون ويحصل بالنسبة إلى الفخذ لأنها خاصة. وقيل: الفرغانية نسبة عامة والأوزجندية خاصة. وقيل: السمرقندية والبخارية عامة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المكتوب إليه وشهد.
وهناك يشترط اثنان، فلذلك ينبغي أن يشترط في القاضي الكاتب أن يكون اثنين، فأجاب بقوله - إلا أن القاضي.... إلى آخره، تقديره أن القاضي م: (لكمال ديانته ووفور ولايته ينفرد بالنقل) ش: فلا يشترط به قاض آخر.

م: (ولو قالوا:) ش: أي الشهود م: (في هذين البابين) ش: أي باب الشهادة على الشهود وباب كتابة القاضي فلانة بنت فلان م: التميمية) ش: أي المنسوبة إلى بني تميم م: (لم يجز) ش: أي الشهادة م: (حتى ينسبوا إلى فخذها وهي القبيلة الخاصة) ش: يعني التي لا خاصة دونها أي المنسوبة، أي الشهادة حتى إلى فخذ الخاصة، يعني التي لا خاصة فوقها.
وقال في " الصحاح ": الفخذ آخر القبائل الست، أولها الشعب، ثم القبيلة ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ. وقال في غيره. إن الفضيلة بعد الفخذ، فالشعب بكسر الشين تجمع القبائل، والقبائل تجمع العمائر، والعمارة بكسر العين تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ بسكون الخاء لجمع الفصائل، خذيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.
م: (وهذا) ش: أي عدم الجواز م: (لأن التعريف لا بد منه في هذا، ولا يحصل) ش: أي التعريف م: (بالنسبة العامة، وهي) ش: أي التميمية م: (عامة بالنسبة إلى بني تميم؛ لأنهم قوم لا يحصون ويحصل) ش: أي التعريف م: (بالنسبة إلى الفخذ لأنها خاصة) ش: المصنف فسر الفخذ بالقبيلة الخاصة، وفسر العتابي بالأب الأعلى الذي ينسب أبوها إليه.
م: (وقيل: الفرغانية نسبة عامة والأوزجندية خاصة) ش: أي الفرغانية نسبة إلى فرغانة بفتح الفاء وسكون الراء وبالغين المعجمة بعدها ألف ونون وهاء، اسم لإقليم فيما وراء النهر وفيها مدن كثيرة وفيها سكك منها أوزجند، وأشار بهذا إلى أن التعريف لا يحصل بالنسبة العامة؛ لأن الفرغانية عامة بالنسبة إلى الأوزجندية؛ لأن فرغانة فيها نساء كثير اتحدت أساميهن وأسامي آباءهن، بخلاف الأوزجندية فإنها خاصة؛ لأن أوزجند اسم حارة خاصة.
م: (وقيل: السمرقندية والبخارية عامة) ش: يعني النسبة إلى سمرقند أو إلى بخارى عامة،

(9/194)


وقيل: إلى السكة الصغيرة خاصة وإلى المحلة الكبيرة والمصر عامة، ثم التعريف وإن كان يتم بذكر الجد عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ظاهر الروايات، فذكر الفخذ يقوم مقام الجد لأنه اسم الجد الأعلى، فنزل منزلة الجد الأدنى والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكل واحدة منهما فيما وراء النهر وهما مشهورتان، والنسبة إلى كل واحدة منهما عامة.
م: (وقيل: إلى السكة الصغيرة) ش: أي النسبة إلى السكة الصغيرة م: (خاصة وإلى المحلة الكبيرة والمصر عامة) ش: حاصل الكلام إلى النسبة إلى ما هي خاصة مبنيا يحصل التعريف بخلاف النسبة إلى ما هي عامة فيها، حيث لا يحصل التعريف بها؛ لأن المحلة الكبيرة ومصر يشتمل كل منهما على ناس كثير يتحد أساميهم وأسامي آبائهم، فلا يحصل التعريف بذلك.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو شهد على فلانة البلخية لا يقع بهذا التعريف ما لم ينسباها إلى محلها وسكنها، م: (ثم التعريف وإن كان يتم بذكر الجد عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ظاهر الروايات، فذكر الفخذ يقوم مقام الجد لأنه) ش: أي لأن الفخذ م: (اسم الجد الأعلى) ش: في القبيلة الخاصة م: (فنزل منزلة الجد الأدنى والله أعلم) ش: في النسبة وهو أب الأب.

(9/195)


فصل قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شاهد الزور أشهره في السوق ولا أعذره. وقالا: نوجعه ضربا ونحبسه، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. لهما ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[شهادة الزور]
م: (فصل)
ش: أي هذا فصل في ذكر شهادة الزور، ذكره بفصل على حدة؛ لأن لها أحكاما مخصوصة وآخرها لأن الأصل هو الصدق.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شاهد الزور أشهره في السوق ولا أعذره) ش: قوله: شاهد الزور كلام إضافي مبتدأ، وقوله: أشهره خبره والجملة مقول القول م: (قالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (نوجعه ضربا) ش: بنون الجماعة وضربا على التمييز م: (ونحبسه) ش: كذلك بنون الجماعة م: (وهو) ش: أي قولهم م: (قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وعامة العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " في الحدود: حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن مكحول، عن الوليد بن مالك، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى عماله بالشام في الشاهد الزور يضرب أربعين سوطا ويسخم وجهه ويحلق رأسه، ويطال الحبس.
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه ": أخبرنا ابن جريج قال: حديث عن مكحول أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب شاهد الزور أربعين سوطا، قوله: سخم من التسخيم ومن السخام وهو سواد القدر.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من السخام بالخاء المعجمة أو بالحاء المهملة من سخم وهو

(9/196)


ولأن هذه كبيرة يتعدى ضررها إلى العباد وليس فيها حد مقدر فيعزر، وله أن شريحا كان يشهره ولا يضرب، ولأن الانزجار يحصل بالتشهير فيكتفى به، والضرب وإن كان مبالغة في الزجر، ولكنه يقع مانعا عن الرجوع، فوجب التحقيق نظرا إلى هذا الوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأسود ثم قال: لا يقال الاستدلال به غير مستقيم على مذهبهما لأنهما لا يقولان بجواز التسخيم لأنه مثلة وهو غير مشروع، ولا تبليغ التعزير إلى أربعين لأن مقصودهما إثبات ما نفاه أبو حنيفة من التعزير بالضرب، فإنه يدل على أصل الضرب مشروع في التعزير، وما زاد على ذلك كان محمولا على السياسة.
م: (ولأن هذه) ش: أي شهادة الزور م: (كبيرة) ش: وعدت في الحديث الصحيح من الكبائر م: (يتعدى ضررها) ش: أي ضرر شهادة الزور م: (إلى العباد) ش: بإتلاف أموالهم م: (وليس فيها حد مقدر) ش: من حيث الشرع م: (فيعزر) ش: بالتعزير المذكور.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن شريحا) ش: وهو شريح بن الحارث الكندي القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كان يشهره) ش: شاهد الزور م: (ولا يضرب، ولأن الانزجار يحصل بالتشهير فيكتفى به، والضرب وإن كان مبالغة في الزجر، ولكنه يقع مانعا عن الرجوع) ش: فإنه إذا تصور الضرب يخاف، فلا يرجع، وفيه تضييع للحقوق م: (فوجب التحقيق نظرا إلى هذا الوجه) ش: فإن قلت: قال في " المبسوط ": شاهد الزور عندنا هو المقر على نفسه بذلك؛ لأنه لا يتمكن تهمة الكذب إلا في إقراره على نفسه ولا طريق لإثبات ذلك بالبينة عليه؛ لأنه نفى الشهادة والبينة للإثبات دون النفي.
وقال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ": شاهد الزور هو الذي يقر على نفسه بالكذب متعمدا، أو يشهد بقتل رجل ثم يجيء المشهود بقتله حيا حتى يثبت كذبه بيقين، فأما لو قال: غلطت أو أخطأت أو أردت شهادة بتهمة أو المخالفة بين الدعوى والشهادة لا يعزر أصلا.
وقال أبو محمد الكاتب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه المسألة على ثلاثة أوجه: إما أن يرجع على سبيل التوبة والندامة لا يعزر بلا خلاف، وإن رجع على سبيل الإقرار يعزر بالضرب بلا خلاف، وإن كان لا يعلم فعلى الاختلاف.
ثم قال: لو تاب شاهد الزور هل تقبل شهادته بعد ذلك. فعلى الوجهين: إن كان فاسقا تقبل توبته؛ لأن الذي حمله على شهادة الزور فسقه، فإذا تاب وظهرت توبته فقد زال فسقه فيقبل، ولم يعين في الكتاب مدة ظهور توبته، فقال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: سنة، وقيل: ستة أشهر، والصحيح أنه مفوض إلى رأي القاضي.
أما لو كان مستورا لا تقبل شهادته أبدا، وكذا إذا كان عدلا فشهد بالزور ثم تاب لا تقبل

(9/197)


وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محمول على السياسة بدلالة التبليغ إلى الأربعين والتسخيم، ثم تفسير التشهير منقول عن شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه كان يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، وإلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر، أجمع ما كانوا. ويقول إن شريحا يقرأ عليكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور، فاحذروه وحذروا الناس منه. وذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يشهر عندهما أيضا. والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي عندهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهادته أبدا على رواية بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وروى أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقبل، قالوا: والفتوى على هذا، كذا ذكره المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " جامعه ".
م: (وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محمول على السياسة) ش: هذا جواب عما استجابه من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بيانه أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك على طريق السياسة لا على طريق التعزير م: (بدلالة التبليغ إلى الأربعين) ش: لأنه لو كان على سبيل التعزير لم يبلغ الأربعين لبلوغه حدا في غير حد م: (والتسخيم) ش: بالجر عطفا على قوله: بدلالة التبليغ، وهو أيضا يدل على ما قلنا؛ ولأنه مثلة وهي منسوخة بالإجماع.
م: (ثم تفسير التشهير منقول عن شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه كان يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، وإلى قومه) ش: أي أو يبعثه إلى قومه م: (إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا) ش: مجتمعين أو إلى موضع يكون أكثر جمعا للقوم م: (ويقول) ش: أي الذي يبعثه م: (إن شريحا يقرأ عليكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروا الناس منه) ش: حتى لا يستشهدوا به.
فإن قيل: أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يرى تقليد التابعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى روي عنه أنه قال: هم رجال اجتهدوا ونحن رجال يجتهدون، وقلنا: ذكر في " النوادر " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تقليد التابعي الذي زحم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الفتوى قال: أنا أقلده، فعلى هذه الرواية ظاهر.
وعلى ظاهر الرواية قالوا: لم يذكر قوله محتجا به، وإنما ذكره لبيان أن احتجاجه بتجويز الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فعله فإنه كان قاضيا في زمن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومثل هذا التشهير لا يخفى على الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكره أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحل محل الإجماع، وكان احتجاجا بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا تقليد لشريح.
م: (وذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي أن شاهد الزور م: (يشهر عندهما أيضا، والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد

(9/198)


وكيفية التعزير ما ذكرناه في الحدود. وفي " الجامع الصغير ": شاهدان أقرا أنهما شهدا بزور لم يضربا، وقالا: يعزران وفائدته: أن شاهد الزور في حق ما ذكرنا من الحكم هو المقر على نفسه بذلك، فأما لا طريق إلى إثبات ذلك بالبينة؛ لأنه نفي الشهادة، والبينات للإثبات والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رحمهما الله - م: (وكيفية التعزير ما ذكرناه في الحدود. وفي " الجامع الصغير ": شاهدان أقرا أنهما شهدا بزور لم يضربا) ش: يعني عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يعزران وفائدته) ش: أي وفائدة وضع " الجامع الصغير " بقوله: شاهدان أقرا إلى آخره م: (أن شاهد الزور في حق ما ذكرنا من الحكم هو المقر على نفسه بذلك) ش: أي بالزور، يعني أنه لا يثبت كذب الشاهد إلا بإقراره م: (فأما لا طريق إلى إثبات ذلك بالبينة؛ لأنه نفي الشهادة) ش: فلا تسمع م: (والبينات للإثبات والله أعلم) ش: أي مشروعية البينات لإثبات الأحكام، وقد مر الكلام فيه قريب.

(9/199)