البناية شرح الهداية

كتاب الوكالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الوكالة]
[تعريف الوكالة وحكمها]
م: (كتاب الوكالة)
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الوكالة، وجه المناسبة بينه وبين كتاب الشهادات من حيث أن كلا منهما إعانة الغير واجبا حقه. والوكالة بكسر الواو وفتحها، التفويض والتسليم من وكل إليه الأمر إذا فوضه إليه. ويقال: الوكالة لغة الحفظ، ومنه الوكيل في أسماء الله تعالى بمعنى الحافظ، وهو اسم للتوكيل من وكله، يوكله، توكيلا، والتوكيل إظهار العجز والاعتماد على الغير، والاسم التكلان، والوكيل القائم بما فوض إليه، والجمع الوكلاء فعيل بمعنى مفعول، ومعناه شرعا إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم وركنها لفظ وكلت وأشباهه.
وروى بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا قال الرجل لغيره أحببت أن تبيع عبدي هذا أو هويت أو رضيت، أو شئت، أو أردت، فذلك توكيل وأمر بالبيع، وشرطها أن يملك الموكل تصرفا ويلزم الأحكام، كما سيجيء إن شاء الله تعالى، وحكمها جواز مباشرة الوكيل، فوض إليه وصفتها أنه عقد جائز، يملك كل من الموكل والوكيل العزل بدون رضى صاحبه، وسببها ما هو السبب في سائر المعاملات، وهو تعلق بناء المقدور تعاطيها، ومشروعيتها بالكتاب هو قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] (الكهف: الآية 19) . ولم يلحقه النكير.
وبالسنة وهو ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل حكيم بن حزام بشراء الأضحية، وعروة البارقي به أيضا، وعمرو بن أمية بقبول نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأبا رافع بقبول نكاح ميمونة،» وبإجماع الأمة على جوازها من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا، وكذا المعقول يدل عليه، إذ الإنسان قد يعجز عن حفظ ماله عند خروجه للسفر، وقد يعجز عن التصرف في ماله، إما لقلة

(9/216)


قال: كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره؛ لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هديته أو لكثرة أشغاله أو لكثرة ماله، أو لضعفه أو لوجاهته لا يتولى الأمور بنفسه فاقتضى هذا المعنى جوازها.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره) ش: هذه ضابطة يتبين بها ما يجوز للوكيل به وما لا يجوز، واعترض عليها بأنها غير متطردة منعكسة.
أما الأول: فلأن الإنسان جاز له أن يستقرض بنفسه، والتوكيل به باطل وتبع على المستقرض الذي هو التوكيل لا على الموكل، والوكيل يعقد بنفسه، وإذا وكل غيره ولم يؤذن له في ذلك لا يجوز له. والذي إذا وكل مسلما في الخمر لم يجز، وجاز أن يعقد الذي بنفسه فيها.
وأما الثاني: فإن المسلم لا يجوز له عقد بيع الخمر وشراءها بنفسه، ولو وكل ذميا بذلك جاز عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والجواب عن الأول: أن محل العقد من شروطه كون المحل ملكا مشروطا كما عرف وليس بموجود في التوكيل بالاستقراض؛ لأن الدراهم التي يستقرضها الوكيل ملك المقرض، والأمر بالتصرف في ملك الغير باطل.
وفي " الذخيرة ": لو أخرج الوكيل كلامه في الاستقراض مخرج الرسالة، بأن قال: فلان يستقرض منك كذا، ففعل المقرض تكون الدراهم للآمر حتى لا يكون للوكيل أن يمنع ذلك منه، ولو أخرج الكلام مخرج الوكالة بأن قال: أقرضني عشرة فالعشرة للوكيل، وله أن يمنعها من الآمر؛ لأن التوكيل بالاستقراض باطل، بخلاف الرسالة، والمراد من قوله " أن يعقده بنفسه " هو أن يكون مستبدا به، والوكيل ليس كذلك، والذي جاز له توكيل المسلم والممتنع توكيل المسلم عنه ليس كلامنا في ذلك لجواز أن يمنع مانع عن التوكيل، وإن صح التوكيل فقد وجد المانع وهو حرمة اقتراضه منها.
والجواب عن الثاني: بأن العكس غير لازم وليس بمقصود.
م: (لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال) ش: بأن يكون مريضا أو شيخا فانيا أو ذا وجاهة لا يتولى الأمور بنفسه، والتوكيل صحيح بدون هذه العوارض؛ لأن حكمة الحكم تراعى في الجنس لا في الإفراد كالسفر مع المسنة، وبهذا يجاب عما قيل بأن قوله " لأن الإنسان قد يعجز " دليل أخص من المدلول وهو جواز الوكالة فإنها جائزة. وإن لم يكن ثمة عجز

(9/217)


فيحتاج إلى أن يوكل به غيره، فيكون بسبيل منه
دفعا للحاجة.
وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وكل بالشراء حكيم بن حزام وبالتزويج عمر بن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصلا، وتقرير الجواب كان ذلك بيان حكمة الحكم، وهي تراعي في الجنس لا في الإفراد، ويجوز أن يقال: ذكر الخاص وأراد العام، وهو الحاجة لأن الحاجة للعجز حاجة خاصة، وهو مجاز شائع وحينئذ يكون المناط وهو الحاجة، وقد يوجد بلا عجز م: (فيحتاج إلى أن يوكل به غيره فيكون بسبيل منه) ش: أي من التوكيل م: (دفعا للحاجة) ش: أي لأجل دفع الحاجة.

م: (وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل بالشراء حكيم بن حزام» ش: هذا رواه أبو داود في " سننه " حدثنا محمد بن كثير عن سفيان، حدثني أبو حصين عن شيخ من أهل المدينة «عن حكيم بن حزام أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار فباعها بدينارين، فرجع واشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتصدق به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعا له أن يبارك له في تجارته» وفي إسناده مجهول ورواه الترمذي.
حدثنا أبو كريب عن أبي حفص عن حبيب بن أبي ثابت عن حكيم بن حزام فذكره، وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحبيب لم يسمع عندي عن حكيم، انتهى.
وهكذا كما رأيت رواية أبي داود فيه مجهول، ورواه الترمذي منقطعا، فكيف يكون صحيحا حتى يقول المصنف، وقد صح؟! ولكن يمكن أن أستدل هنا بحديث عروة البارقي، فإن البخاري أخرجه في " صحيحه " عن على بن عبد الله، عن سفيان «عن شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى له به شاتين. فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعى له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه» .
فإن قلت: قالوا البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما أخرجه بغير الاحتجاج به وذكروا فيه كلاما كثيرا.
قلت: قال ابن العربي: إنه حديث صحيح، وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا به، وهو قول أحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وكفى بهذين الإمامين حجة، وحكيم بن حزام بكسر الحاء المهملة وبالزاي ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ويكنى أبا خالد يوم الفتح، وشهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسلما، وكان من وجوه قريش وأشرافها، وعاش في الجاهلية ستين عاما، وفي الإسلام ستين عاما، ومات بالمدينة في خلافة معاوية - رَحِمَهُ اللَّهُ - سنة أربع وخمسين، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وذهب بصره قبل أن يموت.
م: (وبالتزويج عمر بن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: أي وكل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتزويج عمر

(9/218)


قال: وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهذا رواه النسائي في " سننه " في النكاح عن حماد بن سلمة، أنبأنا ثابت، حدثني ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إليها يخطبها..... الحديث، وفي آخره: فقالت أم سلمة: قم يا عمر فزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فزوجه إياها ".»
وقال الأترازي: ولنا في توكيل عمر بن أبي سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم سلمة بعد واقعة بدر في سنة اثنين، كذا قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكان عمر ابن أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن تسع سنين، قاله الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويكون على هذا الحساب سن عمر بن أبي سلمة سنة واحدة، فكيف يوكله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم تزوج أم سلمة وهو طفل لا يعقل؟! انتهى.
قلت: منه والذي قاله سبق به ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فقال في " التحقيق " في هذا الحديث نظر؛ لأن عمر - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان له من العمر يوم تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث سنين، وكيف يقال لمثل هذا أن يزوج؟!، بيانه: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها في سنة أربع، ومات - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولعمر تسع سنين، فعلى هذا يحمل قولها لعمر: قم فزوج، على الداعية للصغير، ولو صح أن الصغير زوجها فلأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يحتاج إلى ولي؛ لأنه مقطوع بكفاية.
وقال صاحب " التنقيح ": قوله: " أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مات ولعمر تسع سنين " بعيد وإن كان قد قاله الكلاباذي وغيره.
قال ابن عبد البر: قال: إنه ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى الحبشة، ويقوي هذا ما أخرجه مسلم في " صحيحه " «عن عمر بن أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيقبل الصائم؟ فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " سل هذه "، فأخبرته أم سلمة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصنع ذلك، الحديث» . فظاهر هذا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان كبيرا، وعرفت هذا أن الأترازي تكلم في هذا من غير تحرير ولا مراجعة إلى كتب الحديث، والحديث أخرجه أيضا أحمد وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى في " مسانيدهم "، ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

[الوكالة بالخصومة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سائر الحقوق أي جميعا، ثم قال: وفي الصحاح سائر الناس جميعهم.
قلت: ذكر الجوهري هذا في كتاب " الراء في فصل السين مع الياء "، سائر الناس جميعهم.

(9/219)


لما قدمنا من الحاجة، إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات، وقد صح أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل فيها عقيلا وبعدما أسن وكل عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكذا بإيفائها واستيفائها، إلا في الحدود والقصاص، فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالوا إنه وهم من وجهين، أحدهما في تفسيره؛ لأن السائر بمعنى الباقي لا بمعنى الجميع، والثاني أنه أورد في الأجوف وهو مهموز العين، وفي المثل السائر: اليوم وقد زال الظهر من سار، يعني نفي يضرب لطالب الشيء من بعد اليأس منه.
قلت: ذكر الجوهري أيضا أن كونه من مهموز العين لغة م: (لما قدمنا من الحاجة) ش: أشار به إلى قوله - " لأن الإنسان قد يعجز.... " إلى آخره م: (إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات، وقد صح أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل فيها عقيلا وبعدما أسن وكل عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا أخرجه البيهقي عن عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يكره الخصومة، وكان إذا كانت له خصومة وكل فيها عقيل بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما كبر عقيل وكلني. وأخرج أيضا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان وكل عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالخصومة.
وقال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": حدثنا معاذ بن أنس الخرساني، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن جهم بن أبي الجهم، أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يحضر الخصومة، وكان يقول: إن لها قحما ويحضرها الشيطان، فجعل علي الخصومة إلي، فلما كبر ورق حولها إلي، فكان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: ما قضى لوكيل وما قضى على وكيلي فعلي.
وفي " الفائق ": لكن [.....] أنه وكل أخاه عقيلا بالخصومة، ثم وكل بعده عبد الله بن جعفر وقال: لا يحضر الخصومة ويقول: إن لها قحما وإن الشياطين تحضرها إلى مهالك وشدائد، وقحم الطريق ما صعب منه وشق على سالكه، وفي هذا الحديث دليل أيضا على أن لا يحضر مجلس الخصومة بنفسه، وهو مذهبنا ومذهب عامة العلماء لصنيع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال بعض العلماء: الأولى أن يحضر بنفسه؛ لأن الامتناع من الحضور إلى مجلس القاضي من علامات المنافقين، وقد ورد الذم على ذلك، قال الله تعالى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] (النور: الآية 48) ، وفيه تأمل. م: (وكذا) ش: أي وكذا يجوز م: (بإيفائها) ش: أي بإيفاء الحقوق وهو أداؤها م: (واستيفائها) ش: أي وباستيفاء الحقوق وهو قبضها م: (إلا في الحدود والقصاص، فإن الوكالة لا تصح باستيفائهما مع غيبة الموكل عن المجلس) ش: قيد به لأنه يجوز استيفاء القصاص والقذف في حضوره بإجماع الأئمة الأربعة، وفي غيبته لا يجوز عندنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وهو نصه: ويقضي به القاضي الروياني من أصحابه

(9/220)


لأنها تندرئ بالشبهات. وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل، بل هو الظاهر للندب الشرعي، بخلاف غيبة الشاهد؛ لأن الظاهر عدم الرجوع، وبخلاف حالة الحضرة لانتفاء هذه الشبهة، وليس كل أحد يحسن الاستيفاء، فلو منع عنه ينسد باب الاستيفاء أصلا، وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
لا تجوز الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضا، وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقيل: مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: هذا الاختلاف في غيبته دون حضرته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح، ومالك وأحمد: يجوز له استيفاء القصاص والقذف في غيبة الموكل، م: (لأنها تندرئ بالشبهات) .
م: (وشبهة العفو) ش: يعني في القصاص لأن الحدود لا يعفى عنها، وشبهة عفو ولي القصاص م: (ثابتة حال غيبة الموكل، بل هو الظاهر) ش: أي بل العفو هو الظاهر م: (للندب الشرعي) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] (البقرة الآية) م: (بخلاف غيبة الشاهد) ش: حيث يستوفى الحدود والقصاص مع غيبة الشهود وإن كان رجوعهم محتملاً م: (لأن الظاهر عدم الرجوع) ش: احترازاً عن الكذب والفسق. م: (وبخلاف حالة الحضرة) ش: أي حضرة الموكل في المجلس م: (لانتفاء هذه الشبهة) ش: أي شبهة العفو.
م: (وليس كل أحد يحسن الاستيفاء) ش: هذا جواب إشكال، وهو أن يقال: إذا كان الموكل حاضراً لم يحتج إلى التوكيل بالاستيفاء، إذ هو يستوفيه بنفسه، فأجاب بقوله " وليس كل أحد يحسن الاستيفاء "، يعني لقلة هدايته، أو لأن قلبه لا يحتمل ذلك، فيجوز التوكيل بالاستيفاء عند حضوره استحساناً م: (فلو منع عنه) ش: أي عن التوكيل م: (ينسد باب الاستيفاء أصلاً) ش: فلا يبقى.
م: (وهذا الذي ذكرناه) ش: يعني جواز التوكيل بإثبات الحدود والقصاص م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لا.

[الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود]
م: (لا تجوز الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضاً) ش: وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وفي " شرح الطحاوي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب، وفي بعض الروايات ذكر قوله مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعضها مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر الطحاوي في " مختصره " قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقيل: هذا الاختلاف في غيبته) ش: أي في غيبة الموكل م: (دون حضرته) ش: فإن في حضرته يجوز التوكيل بلا خلاف م:

(9/221)


لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره، فصار كأنه متكلم بنفسه. له أن التوكيل إنابة وشبهة النيابة يتحرز عنها في هذا الباب، كما في الشهادة على الشهادة، وكما في الاستيفاء. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الخصومة شرط محض؛ لأن الوجوب مضاف إلى الجناية والظهور إلى الشهادة، فيجري فيه التوكيل كما في سائر الحقوق. وعلى هذا الخلاف التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص، وكلام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه أظهر؛ لأن الشبهة لا تمنع الدفع غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه لما فيه من شبهة عدم الأمر به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره فصار كأنه متكلم بنفسه له) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن التوكيل إنابة) ش: أي بدل عن خصومة الموكل والإنابة فيها شبهة م: (وشبهة الإنابة يتحرز عنها في هذا الباب) ش: أي في باب الحدود والقصاص م: (كما في الشهادة على الشهادة) ش: أي كما يتحرز عن الإنابة في الشهادة، يعني لا تجوز م: (وكما في الاستيفاء) ش: أي وكما يتحرز عن الإنابة، أي عن التوكل باستيفاء الحدود والقصاص مع اتفاقاً بالجواب مع غيبة الموكل. م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الخصومة شرط محض) ش: يعني ليس لها حظ في الوجوب ولا في الظهور م: (لأن الوجوب مضاف إلى الجناية، والظهور إلى الشهادة، فيجري فيه التوكيل كما في سائر الحقوق) ش: لأن " التوكيل " بها إثبات حق لا تؤثر فيه الشبهة. م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص) ش: أي الحد، يعني إذا وكل مطلوب وهو من عليه الحد أو القصاص رجلاً بالجواب عنه في دفع ما يطالبه عليه، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز. وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب، وقوله " التوكيل " مبتدأ وخبره مقدماً عليه هو قوله " وعلى هذا الخلاف بالجواب " أي بأن يجيب عنه.
م: (وكلام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه) ش: أي في - التوكيل من جانب من عليه الحد م: (أظهر؛ لأن الشبهة لا تمنع الدفع) ش: أي لأن الشبهة المذكورة وهي شبهة البدلية على تقدير كونها معتبرة لا تمنع الدفع إلى الدار، ألا ترى الشهادة على الشهادة النساء مع الرجال في العفو صحيحة.
م: (غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه) ش: يعني إذا أقر هذا الوكيل في مجلس القضاء بوجوب القصاص على موكله لا يصح استحساناً م: (لما فيه من شبهة عدم الأمر به) ش: أي في باب الإقرار من شبهة عدم الأمر بالإقرار.
وفي " المبسوط ": لو أقر في مجلس القضاء بوجوب القصاص على موكله يصح قياساً؛ لأنه قام مقام الموكل كما في سائر الحقوق. وفي الاستحسان لا يجوز كما ذكره المصنف.

(9/222)


وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التوكيل بالخصومة من غير رضا الخصم، إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا، وقالا: يجوز التوكيل بغير رضا الخصم، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولا خلاف في الجواز، إنما الخلاف في اللزوم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التوكيل بالخصومة من غير رضا الخصم) ش: سواء كان التوكيل من جانب المدعي أو من جانب المدعى عليه، ويستوي عنده الموكل إذا كان رجلاً أو امرأة، بكراً كانت أو ثيباً م: (إلا أن يكون الموكل مريضاً أو غائباً مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً، وقالا يجوز التوكيل بغير رضا الخصم وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -.
وفي " فتاوى قاضي خان ": كان أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاً يقول: لا تقبل الوكالة بغير رضى الخصم من الرجال وتقبل من النساء، ثم رجع وقال: تقبل من الرجال والنساء، ويستوي فيه الوضيع والشريف. وهو قول محمد والشافعي رحمهما الله، وبه أخذ الصفار.
وقال الإمام السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا علم القاضي التعنت من المدعي في إباء التوكيل يقبل التوكيل بغير رضاه وهو الصحيح عندي. وإن علم المقصد أي الاضطرار من الموكل بالمدعي ليشغل الوكيل بالحيل والأباطيل والتلبيس لا يقبل.
م: (ولا خلاف في الجواز) ش: أي لا خلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبين صاحبيه في جواز التوكيل بالخصومة، م: (إنما الخلاف في اللزوم) ش:، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يلزم، وعندهما يلزم معناه، وهل ترتد الوكالة برد الخصم أم لا عنده ترتد خلافاً لهما، فعلى هذا يكون معنى قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضى الخصم، أي لا يلزم إطلاق الاسم اللازم على الملزوم؛ لأن الجواز من لوازم اللزوم، هكذا قاله الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الجواز لازم للزوم عرف ذلك في أصول الفقه سلمنا لكن ذلك ليس مجازاً. والحق: أن قوله: لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضى الخصم في قوة قولنا التوكيل بالخصومة غير لازم، بل إن رضي به الخصم صح، وإلا فلا حاجة إلى قوله، ولا خلاف في الجواز وإلى التوجيه يجعله مجازاً، وفي " فتاوى العتابي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التوكيل بغير رضى الخصم لا يجوز، معناه لا يجبر خصمه على قبول الوكالة، وهو المختار.
قال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التوكيل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بغير رضى الخصم صحيح، ولكن للخصم أن يطالب الموكل بأن يحضر بنفسه.

(9/223)


لهما: أن التوكيل تصرف في خالص حقه، فلا يتوقف على رضاء غيره، كالتوكيل بتقاضي الديون. وله: أن الجواب مستحق على الخصم، ولهذا يستحضره. والناس متفاوتون في الخصومة، فلو قلنا بلزومه، يتضرر به فيتوقف على رضاه كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما يتخير الآخر بخلاف المريض والمسافر؛ لأن الجواب غير مستحق عليهما هنالك، ثم كما يلزم التوكيل عنده من المسافر يلزم إذا أراد السفر
لتحقق الضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أن التوكيل تصرف في خالص حقه) ش: أي في حق الموكل، وهذا لأنه وكله إما بالجواب أو بالخصومة، وكلاهما حق الموكل، فإذا كان كذلك م: (فلا يتوقف على رضاء غيره كالتوكيل بتقاضي الديون وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الجواب مستحق على الخصم) ش: أي على الخصم م: (ولهذا يستحضره) ش: في مجلس القاضي.
م: (والناس متفاوتون في الخصومة) ش: وفي جوابها، فرب إنسان يصور الباطل بصورة الحق، ورب إنسان لا يمكنه تمشية الحق على وجه، فيحمل أن الوكيل ممن له حذق في الخصومات فيتضرر بذلك الخصم فيتشرط رضاه م: (فلو قلنا بلزوم) ش: أي بلزوم التوكيل بالخصومة م: (يتضرر به) ش: أي الخصم. فإذا كان كذلك م: (فيتوقف على رضاه) ش: أي على رضى الخصم ثم نظر هذا بقوله: م: (كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما) ش: أي أحد الشريكين م: (يتخير الآخر) ش: أي الشريك الآخر بين أن يرضى به وبين أن يفسخه دفعاً للضرر عنه.
م: (بخلاف المريض والمسافر) ش: أما المريض فلعجزه بالمرض، وأما المسافر فلغيبته م: (لأن الجواب غير مستحق عليهما) ش: لو لم يسقط عنهما لزم الحرج. قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج: الآية 78) . م: (هنالك) ش: أي في المكان الذي كان فيه.
وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثم المريض إذا كان لا يستطيع أن يمشي على قدميه، ولكن يمكنه بركوب الدابة أو أيدي الناس، فإن ازداد مرضه بالركوب صح توكيله بغير رضى الخصم، وإن كان لا يزداد اختلفوا فيه على الخلاف أيضاً، وقيل له أن يوكل بغير رضاء وهو الصحيح م: (ثم كما يلزم التوكيل عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (من المسافر يلزم إذا أراد السفر لتحقق الضرورة) ش: إذ لو لم يجز يلحقه الحرج بالانقطاع عن مصالحه.
وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في فتاواه ": لكن لا يصدق أنه يريد السفر، ولكن القاضي ينظر إلى زيد وعدة سفره، أو يسأل عمن يريد أن يخرج معه فيسأله عن رفقائه، كما في فسخ الإجازة إذا أراد المستأجر فسخها بعذر السفر، فبمجرد قوله أريد السفر لا يثبت العذر إذا لم يصدقه الآجر، لكن يسأله القاضي فيقول له مع من تريد الخروج؟ ثم يسأل رفقته فإن قالوا: نعم تحقق العذر، وهو السفر في فسخ الإجارة فكذا هنا.

(9/224)


ولو كانت المرأة مخدرة لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم قال الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزم التوكيل؛ لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا شيء استحسنه المتأخرون. قال: ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو كانت المرأة مخدرة) ش: قال البزدوي: المخدرة هي التي لا يراها غير المحارم من الرجل، أما التي جلست على المنصة فرآها الأجانب لا تكون مخدرة، فلو وكلت بالخصومة، فوجب عليها اليمين وهي لا تعرف بالخروج ومخالطة الرجال في الحوائج يبعث القاضي إليها ثلاثة من العدول ويستحلفها أحدهم، ويشهد الآخران على حلفها. وكذا في المريضة إذا وجب عليها يمين؛ لأن النيابة لا تجري في الأيمان.
هكذا ذكر الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي "، وذكر فيه: وإن كان يبعث إلى المخدرة والمريضة وإلى المريض خليفته فيفصل الخصومة هنالك يجوز؛ لأن مجلس الخليفة كمجلسه.
وفي " الذخيرة ": ومن الأعذار التي توجب لزوم التوكيل بغير رضى الخصم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحيض في المرأة، إذا كان القاضي يقضي في المسجد، وهذه المسألة على وجهين: إن كانت الحائض طالبة قبل منها التوكيل بغير رضى الخصم، وإن كانت مطلوبة أو أخرها الطالب حتى يخرج القاضي من المسجد لا يقبل توكيلها بغير رضى خصمه، وإلا يقبل ولو كان الموكل محبوساً فهو على وجهين، إن كان محبوساً في سجن هذا القاضي لا يقبل التوكيل بغير رضى خصمه؛ لأن القاضي يخرجه حتى يخاصم ثم يعيده إلى السجن. وإن كان محبوساً في سجن الوالي ولا يمكنه الوالي من الخروج يلزم توكيله بغير رضى خصمه.
م: (لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم. قال الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزم التوكيل؛ لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها) ش: والمراد بالرازي أبو بكر الخصاف أحمد بن علي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول والفروع وأحكام القرآن، وإليه انتهت رئاسة أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ببغداد بعد الشيخ أبي الحسن الكرخي، وكانت ولادته سنة خمس وثلاثمائة ومات سنة سبع وثلاثمائة م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا شيء استحسنه المتأخرون) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي قال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال الأكمل، أي قال المصنف وشيخي العلاء - رحمهما الله - قال مثل ما قال الأترازي، وهو الظاهر.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف) ش: أي التصرف الذي وكل به. وفي " الذخيرة ": هذا القيد، وقع على قولهما لا على

(9/225)


وتلزمه الأحكام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده شرط الوكالة كون التوكيل حاصلاً بما يملكه، بيانه أن الشرط عنده أن يكون الوكيل مالكاً لذلك التصريف الذي وكل به، ولهذا قالا: كل عقد لا يجوز للموكل أن يباشره بنفسه لا يجوز للموكل أن يباشره له كما وكله ببيع الدم والميتة.
قلنا: ينتقض هذا الكلي بعقد الصرف، فإنه لا يجوز للموكل أن يباشره بنفسه إذا كان غائباً، ويجوز للوكيل أن يتولاه، وكذلك الحاكم لا يجوز أن يحكم لنفسه، ويجوز أن يحكم له غيره، والقياس على الدم والميتة ضعيف؛ لأن أهل الذمة لا يعتقدونه مالاً، فلا يملك الوكيل تصرفه.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الشرط الذي يشرطه القدوري يستقيم على مذهب الكل، وإنما خص هذا القائل للاستقامة على مذهبهما؛ لأنه لم يدرك كنه كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذ مضمونه كلامه: أن الوكالة لها شرط في الموكل وشرط في الوكيل:
فالأول: أن يكون الموكل ممن يملك التصرف ويلزمه الأحكام.
والثاني: أن يكون الوكيل ممن يعقل البيع ويقصده، ومعنى قوله: أن يكون ممن يملك التصرف، أن يكون له ولايته شرعاً في جنس التصرف بأهلية نفسه، بأن يكون عاقلاً بالغاً على وجه يلزمه حكم التصرف، وهذا المعنى حاصل في توكيل المسلم الذمي في الخمر والخنزير بيعاً وشراء؛ لأن المسلم الموكل عاقل بالغ له ولاية شرعاً في جنس التصرف، إلا في كل الأفراد على وجه يلزمه التصرف فيما يتصرف بولايته.
والشرط الآخر: وهو أن يعقل البيع ويقصده حاصل في الوكيل أيضاً وهو الذمي؛ لأنه يعقل معنى البيع والشراء، أو يقصده، فصح الشرط إذن على مذهب الكل.
وقال الأكمل: - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد قوله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف ويلزمه الأحكام. قال صاحب " النهاية " إن هذا القصد وقع على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وأما على قول أبي حنيفة فمن شرطها أن يكون الوكيل ممن يملك التصرف؛ لأن المسلم لا يملك التصرف في الخمر، ولو وكل به جاز عنده، ومنشأ هذا التوهم أن جعل اللام في قوله يملك التصرف للعبد أي يملك التصرف الذي وكل به.
وأما إذا جعلت للجنس حتى يكون معناه يملك جنس التصرف احترازاً عن الصبي والمجنون فيكون على مذهب الكل.
م: (وتلزمه الأحكام) ش: قيل هذا احتراز عن الوكيل، فإن الوكيل لا يثبت له حكم تصرفه حتى لا يملك الوكيل بالشراء المبيع ولا الوكيل بالبيع الثمن، فلا يصح توكيل الوكيل غيره، وقيل:

(9/226)


لأن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل، فلا بد من أن يكون الموكل مالكا ليملكه من غيره. ويشترط أن يكون الوكيل ممن يعقل العقد ويقصده؛ لأنه يقوم مقام الموكل في العبارة، فيشترط أن يكون من أهل العبارة حتى لو كان صبيا لا يعقل أو مجنونا كان التوكيل باطلا.

وإذا أوكل الحر العاقل البالغ، أو المأذون مثلهما جاز؛ لأن الموكل مالك للتصرف، والوكيل من أهل العبارة. وإن وكل صبيا محجورا يعقل البيع والشراء، أو عبدا محجورا جاز، ولا يتعلق بهما الحقوق، وتتعلق بموكلهما؛ لأن الصبي من أهل العبارة. ألا ترى أنه ينفذ تصرفه بإذن وليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
احتراز عن الصبي المحجور، فإنهما لو اشتريا شيئاً لا يملكانه فلذلك لم يصح توكيلهما م: (لأن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل، فلا بد من أن يكون الموكل مالكاً ليملكه من غيره، ويشترط أن يكون الوكيل ممن يعقل العقد) ش: بأن يعرف أن البيع سالب للملك، والشراء جالب وعرف الغبن اليسير من الفاحش م: (ويقصده) ش: أي يقصد العقد بمباشرة السبب لثبوت الملك ولا يكون هازلاً فيه م: (لأنه) ش: أي لأن الوكيل م: (يقوم مقام الموكل في العبارة، فيشترط أن يكون من أهل العبارة) ش: في الكلام فلا بد أن يكون من العبارة ولا يكون هذا إلا بالعقل والتمييز؛ لأن كلام غير المميز كألحان الطيور ونتيجة هذا هو قوله م: (حتى لو كان) ش: أي الوكيل م: (صبياً لا يعقل أو مجنونا كان التوكيل باطلاً) ش: إذ لا يتعلق بقولهما حكم وليس لهما قول صحيح.

[أوكل الحرالعاقل البالغ أو المأذون مثلهما]
م: (وإذا أوكل الحر العاقل البالغ، أو المأذون مثلهما جاز) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا غير منحصر على المثلية في صفة الحرية والرقية، بل يجوز للموكل أن يوكل من فوقه كتوكيل العبد المأذون الحر، أو من دونه كتوكيل الحر العبد المأذون لأن التعليل بقوله م: (لأن الموكل مالك للتصرف، والوكيل من أهل العبارة) ش: يشمل الأوجه الثلاثة من المثلية والفوقية والدونية.
وقال الأترازي: كان ينبغي أن يقيد قوله " الحر البالغ " بالعاقل أيضاً؛ لأن المجنون إذا وكل غيره لا يصح، وكأنه إنما لم يقيد الحر بذلك بناء على الغالب، وإن الغالب أحوال الحر البالغ أن يكون عاقلاً، وكونه مجنوناً نادر، إنما أطلق المأذون حتى يشمل العبد والصبي الذي يعقل البيع والشراء، إذا كان مأذوناً له في التجارة؛ لأن توكيل الصبي المأذون غيره جائز كسائر تصرفاته، بخلاف ما إذا كان الصبي محجوراً حيث لا يجوز له أن يوكل غيره.
م: (وإن وكل) ش: يعني أحد م: (صبياً محجوراً يعقل البيع والشراء، أو عبداً محجوراً جاز) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز م: (ولا يتعلق بهما الحقوق) ش: كالقاضي وأمينه، حيث لا عهدة عليهما فيما فعلا، وفيه إشارة إلى أنهما لو كانا مأذونين تتعلق الحقوق بهما لا بموكلهما م: (وتتعلق بموكلهما) ش: أي وتتعلق الحقوق لموكل الصبي المحجور والعبد المحجور م: (لأن الصبي من أهل العبارة، ألا ترى أنه ينفذ تصرفه بإذن وليه) .

(9/227)


والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له، إنما لا يملكه في حق المولى. والتوكيل ليس تصرفا في حقه، إلا أنه لا يصح منهما التزام العهدة. أما الصبي لقصور أهليته والعبد لحق سيده، فتلزم الموكل. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه صبي أو مجنون أو محجور له خيار الفسخ؛ لأنه دخل في العقد على أن حقوقه تتعلق بالعاقد، فإذا ظهر خلافه يتخير. كما إذا عثر على عيب
قال: والعقد الذي يعقده الوكلاء على ضربين كل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة، فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تتعلق بالموكل؛ لأن الحقوق تابعة لحكم التصرف، والحكم هو الملك يتعلق بالموكل، فكذا توابعه وصار كالرسول والوكيل في النكاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له، وإنما لا يملكه) ش: أي التصرف م: (في حق المولى) ش: دفعاً للضرر م: (والتوكيل ليس تصرفاً في حقه) ش: أي في حق المولى، إذ صحة التوكيل تتعلق بعبارته وأهليته والعبد يبقى على أصل الحرية في ذلك؛ لأن صحة العبارة بكونه آدمياً.
م: (إلا أنه) ش: جواب إشكال وهو أن يقال إنهما لو كانا من أهل التصرف، ينبغي أن يصح منهما التزام العهدة، فأجاب بقوله " إلا أنه " أي ضمير أن الشأن م: (لا يصح منهما) ش: أي من الصبي والعبد م: (التزام العهد. أما الصبي لقصور أهليته) ش: بعدم البلوغ م: (والعبد لحق سيده) ش: لئلا يلزم الضرر به، وإذا كان كذلك م: (فتلزم) ش: أي الحقوق م: (الموكل) ش: لأنه لما تعذر التزام العهدة بهما تعلق بأقرب الناس إليهما، وهو من انتفع بهذا التصرف وهو الموكل.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه صبي أو مجنون) ش: قيل في " حاشية نسخة المصنف " - أو محجور - ومتنها " مجنون "، في بعض النسخ " أو عبد محجور " ولهذا قال في الكافي " -: ثم علم أنه صبي محجور أو عبد محجور م: (له خيار الفسخ) ش: وذلك م: (لأنه) ش: أي لأن المشتري م: (دخل في العقد على أن حقوقه تتعلق بالعاقد، فإذا ظهر خلافه يتخير، كما إذا عثر) ش: أي اطلع م: (على عيب) ش: الجامع بينهما عدم الرضى.

[أضرب العقد الذي يعقده الوكلاء]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والعقد الذي يعقده الوكلاء على ضربين كل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة، فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تتعلق بالموكل) ش: قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (لأن الحقوق تابعة لحكم التصرف، والحكم هو الملك يتعلق بالموكل، فكذا توابعه) ش: أي توابع الملك م: (وصار) ش: أي الوكيل م: (كالرسول) ش: بأن قال لآخر: كن رسولي في بيع عبدي م: (والوكيل في النكاح) ش: فإن حقوق عقد النكاح تتعلق بالموكل اتفاقاً.

(9/228)


ولنا: أن الوكيل هو العاقد حقيقة؛ لأن العقد يقوم بالكلام وصحة عبارته لكونه آدميا. وكذا حكما؛ لأنه يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو كان سفيرا عنه لما استغنى عن ذلك كالرسول، وإذا كان كذلك كان أصيلا في الحقوق فتتعلق به. ولهذا قال في الكتاب: يسلم المبيع ويقبض الثمن ويطالب بالثمن إذا اشترى، ويقبض المبيع ويخاصم في العيب ويخاصم فيه؛ لأن كل ذلك من الحقوق والملك يثبت للموكل له خلافة عنه اعتبارا للتوكيل السابق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الوكيل هو العاقد حقيقة) ش: أي من حيث الحقيقة م: (لأن العقد يقوم بالكلام وصحة عبارته) ش: أي عبارة العاقد م: (لكونه آدمياً) ش: عاقلاً أهلاً للتصرف، فقضيته تستدعي أن يكون الحاصل بالتصرف واقعاً له، غير أن الموكل استنابه في تحصيل الحكم وجعلناه نائباً في حق الحكم وراعينا الأصل في حق الحقوق.
م: (وكذا حكماً) ش: أي وكذا العاقد هو العاقد من حيث الحكم، واستدل المصنف على ذلك بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن الوكيل م: (يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو كان سفيراً عنه لما استغنى عن ذلك) ش: أي من إضافة العقد إليه م: (كالرسول) ش: فإنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الرسول م: (وإذا كان كذلك كان) ش: أي الوكيل م: (أصيلاً في الحقوق فتتعلق به) ش: أي بالوكيل.
م: (ولهذا) ش: أي فلأجل كون الوكيل أصيلاً في الحقوق م: (قال في الكتاب) ش: أي: قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " و " المبسوط ".
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " وهذا هو الظاهر فإنه قال في " مختصره ": م: (يسلم المبيع ويقبض الثمن) ش: إذا كان وكيلاً بالبيع م: (ويطالب) ش: على صيغة المجهول أي الوكيل يطالب م: (بالثمن إذا اشترى، ويقبض المبيع ويخاصم) ش: بفتح الصاد على بناء المجهول أي يخاصم الوكيل م: (في العيب ويخاصم فيه) ش: إذا اشترى م: (لأن كل ذلك من الحقوق) ش: أي من حقوق العقد.
م: (والملك يثبت) ش: جواب سؤال مقدر وهو أن يقال كما ثبت الملك م: (للموكل) ش: ينبغي أن تثبت الحقوق له كما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأجاب عنه بقوله: والملك يثبت م: (له) ش: أي للموكل م: (خلافه عنه) ش: أي بطريق الخلافة عن الوكيل لا أصالة م: (اعتباراً للتوكيل السابق) ش: يعني يقوم الموكل مقامه في ثبوت الملك له للاعتبار للتوكيل الذي سبق.
واعلم أن المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اختلفوا في أن الملك يثبت للوكيل بالشراء ثم ينتقل إلى الموكل منه أو يثبت للموكل ابتداء.
قال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومن تابعه بالأول وإليه ذهب بعض أصحابنا وهو اختيار

(9/229)


كالعبد يتهب ويصطاد ويحتطب هو الصحيح.
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي مسألة العيب تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكل عقد يضيفه إلى موكله كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد، فإن حقوقه تتعلق بالموكل دون الوكيل، فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر، ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها؛ لأن الوكيل فيها سفير محض. ألا ترى أنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو أضافه إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقاله أبو طاهر الدباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالثاني، وهو مذهب الجماعة من أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (كالعبد يتهب ويصطاد) ش: أي كالعبد يقبل الهبة ويصطاد الصيد فإنه يثبت الملك للمولى م: (ويحتطب) ش: ابتداء م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الفتاوى الصغرى " قال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قول أبو طاهر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصح، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كقول أبي طاهر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذكر الصدر الشهيد: أن القاضي أبا زيد خالفهما، فقال الوكيل نائب في حق الحكم أصيل في حق الحقوق يثبت له ثم ينتقل إلى الموكل من قبله، فوافق الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حق الحقوق، ووافق أبا طاهر في حق الحكم وهذا أحسن.
وقال في الفتاوى الصغرى: الوكيل ما دام حياً وإن كان غائباً لا تنتقل الحقوق إلى الموكل، وقال أيضاً: ذكر الفضيل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوكيل بالبيع إذا مات عن وصي فالحقوق تنتقل إلى وصيه دون الموكل، ولو مات ولم يوص يرفع الأمر إلى القاضي لينصب وصياً وهو قول بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال بعضهم ينتقل إلى موكله ولأنه قبض الثمن.

م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وفي مسألة العيب تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى) ش: نذكره بعد هذا عند قوله: وإن اشترى الوكيل ثم اطلع على عيب.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكل عقد) ش: هذه ضابطة الضرب الثاني م: (يضيفه) ش: أي الوكيل م: (إلى موكله كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد، فإن حقوقه تتعلق بالموكل دون الوكيل) ش: فإذا كان كذلك م: (فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها) ش: أي تسليم المرأة إلى موكله م: (لأن الوكيل فيها) ش: أي في هذه الأشياء المذكورة م: (سفير محض) ش: كالرسول.
م: (ألا ترى أنه) ش: أي أن الوكيل م: (لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل ولو أضافه إلى

(9/230)


نفسه كان النكاح له، فصار كالرسول وهذا لأن الحكم فيها لا يقبل الفصل عن السبب؛ لأنه إسقاط فيتلاشى فلا يتصور صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره فكان سفيرا.

والضرب الثاني من أخواته العتق على مال، والكتابة والصلح عن الإنكار. فأما الصلح الذي هو جار مجرى البيع فهو من الضرب الأول، والوكيل بالهبة والتصدق والإعارة والإيداع والرهن والإقراض سفير أيضا؛ لأن الحكم فيها يثبت بالقبض، وأنه يلاقي محلا مملوكا للغير فلا يجعل أصيلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نفسه كان النكاح له فصار كالرسول) ش: في باب البيع م: (وهذا) ش: أي كونه كالرسول فيها م: (لأن الحكم فيها) ش: أي في هذه العقود وهي النكاح وأمثاله م: (لا يقبل الفصل عن السبب) ش: وهو العقد، ولهذا لا يدخل فيها خيار الشرط؛ لأنه من قبيل الإسقاطات، فلا يقبل تراخي الحكم بالخيار وغيره، وأشار إلى هذا بقوله: م: (لأنه إسقاط فيتلاشى) ش: أي فيضمحل.
م: (فلا يتصور صدوره) ش: أي صدور السبب بطريق الأصالة م: (من شخص وثبوت حكمه لغيره فكان سفيراً) ش: بخلاف البيع، فإن حكمه ينفصل عن السبب كما في البيع بشرط الخيار، فجاز أن يصدر السبب من شخص أصالة ويقع الحكم لغيره خلافة، وقيدنا بقوله " أصالة " إذ السبب يصدر من الوكيل نيابة في النكاح.

م: (والضرب الثاني من أخواته) ش: أي ومن أخوات الضرب الثاني، م: (العتق على مال) ش: قوله " الضرب الثاني " مبتدأ وقوله " من أخواته " جملة وقعت خبراً له، وأراد بالضرب الثاني كل عقد يضيفه الوكيل إلى موكله، قاله الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والصواب: أن يكون الضرب الثاني مبتدأ وقوله " من أخواته " خبراً لقوله " العتق على مال " مقدماً على المبتدأ، والجملة خبر المبتدأ الأول، وصورة العتق على مال أن يوكل أحداً على أن يعتق عبده على مال م: (والكتابة والصلح عن الإنكار) ش: جعل من هذا القبيل؛ لأن بدل الصلح بمقابلة دفع الخصومة في حق المدعى عليه.
م: (فأما الصلح الذي هو جار مجرى البيع) ش: أراد به الصلح عن إقرار وجعله جار مجرى البيع؛ لأنه مبادلة مال بمال، فكان حكمه حكم البيع م: (فهو من الضرب الأول) ش: متعلق الحقوق بالوكيل دون الموكل. م: (والوكيل بالهبة) ش: يعني إذا وكل رجلاً بأن يهب عبده لفلان م: (وبالتصدق) ش: بأن وكله أن يتصدق على فلان م: (والإعارة) ش: بأن وكله أن يؤجر فلاناً داره م: (والإيداع) ش: بأن وكله أن يودع متاعه.
م: (والرهن) ش: بأن وكله بأن يرهن متاعه م: (والإقراض) ش: بأن وكله بأن يقرض فلاناً م: (سفير أيضاً) ش: هذا خبر لقوله " والوكيل بالهبة " فإذا كان الوكيل في هذه الأشياء سفيراً تعلقت حقوق العقد بموكله م: (لأن الحكم فيها) ش: أي في العقود المذكورة م: (تثبت بالقبض وأنه) ش: أي وأن القبض م: (يلاقي محلاً مملوكاً للغير فلا يجعل أصيلاً) ش: أي فلا يجعل الوكيل في هذه

(9/231)


وكذا إذا كان الوكيل من جانب الملتمس، وكذا الشركة والمضاربة، إلا أن التوكيل بالاستقراض باطل حتى لا يثبت الملك للموكل بخلاف الرسالة فيه.
قال: وإذا طالب الموكل المشتري بالثمن، فله أن يمنعه إياه؛ لأنه أجنبي عن العقد وحقوقه، لما أن الحقوق إلى العاقد، فإن دفعه إليه جاز ولم يكن للوكيل أن يطالبه به ثانيا؛ لأن نفس الثمن المقبوض حقه، وقد وصل إليه ولا فائدة في الأخذ منه ثم الدفع إليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأشياء أصيلاً؛ لأنه أجنبي عن المحل الذي يلاقي القبض، فكان سفيراً ومعبراً عن المالك.
م: (وكذا) ش: يعني يكون سفيراً م: (إذا كان الوكيل من جانب الملتمس) ش: لذلك، نحو أن وكله بالاستعارة أو الارتهان أو الاستيهاب، فالحكم والحقوق كلها تتعلق بالموكل م: (وكذا الشركة والمضاربة) ش: يعني إذا وكل بالشركة أو بالمضاربة، فالوكيل فيهما سفير أيضاً، لا تتعلق حقوق العقد به بل تتعلق بالموكل؛ لأن الوكيل لا بد له من إضافة العقد إلى موكله، فكان سفيراً حتى لو أضاف العقد إلى نفسه لا يقع عن موكله.
م: (إلا أن التوكيل بالاستقراض باطل) ش: هذا استثناء من قوله: وكذا إذا كان الوكيل من جانب الملتمس بيان بطلان استقراض الوكيل بأن العبارة للوكيل والمحل الذي أمره بالتصرف ملك الغير، فإن الدراهم التي يستقرضها الوكيل ملك المقرض، والأمر بالتصرف في ملك [الغير] باطل م: (حتى لا يثبت الملك للموكل) ش: حتى لو هلك الذي استقرضه هلك على الوكيل، م: (بخلاف الرسالة فيه) ش: أي في الاستقراض، فإن الرسالة فيه تصح بأن يقول: أرسلني فلان إليك يستقرض منك، ويثبت الملك للمستقرض.

[طالب الموكل المشتري بالثمن]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا طالب الموكل المشتري بالثمن فله أن يمنعه إياه) ش: أي فللمشتري منعه إياه خلافاً للأئمة الثلاثة؛ لأن الحقوق ترجع إلى الموكل عندهم م: (لأنه) ش: أي لأن الموكل م: (أجنبي عن العقد وحقوقه، لما أن الحقوق إلى العاقد فإن دفعه إليه) ش: أي ولو دفع المشتري الثمن إلى الموكل م: (جاز) ش: دفعه م: (ولم يكن للوكيل أن يطالبه به) ش: أي أن يطالب المشتري بالثمن م: (ثانياً) ش: أي ثاني مرة م: (لأن نفس الثمن المقبوض حقه) ش: أي حق الموكل م: (وقد وصل إليه) ش: أي وقد وصل حقه إليه، وإذا كان كذلك م: (ولا فائدة في الأخذ منه) ش: أي من الموكل م: (ثم الدفع إليه) ش: وهذا بخلاف الوكيل في بيع الصرف، فإن هناك لو قبض الموكل بدل الصرف لا يجوز لأن بيع الصرف يتعلق بالقبض، فكان القبض فيه بمنزلة الإيجاب والقبول. ولو ثبت للوكيل حق القبول، وقبل الموكل لم يجز، فكذا إذا ثبت له حق القبض.
وفي " الذخيرة ": ونقل من " مختلف الرواية " أن المشتري من الوصي لو دفع الثمن إلى الصبي، فللوصي أن يرجع إلى المشتري.

(9/232)


ولهذا لو كان للمشتري على الموكل دين يقع المقاصة، ولو كان له عليهما دين يقع المقاصة بدين الموكل أيضا دون دين الوكيل، وبدين الوكيل إذا كان وحده يقع المقاصة عند أبي حنيفة، ومحمد - رحمهما الله - لما أنه يملك الإبراء عنه عندهما، ولكنه يضمنه للموكل في الفصلين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: توضيح لقوله: أن نفس الثمن المقبوض حقه فإنه م: (لو كان للمشتري على الموكل دين يقع المقاصة، ولو كان له عليهما دين يقع المقاصة بدين الموكل أيضاً دون دين الوكيل) ش: لأن دين المقاصة إبراء بعوض، فيعتبر بالإبراء بغير عوض، وله إبراء المشتري من الثمن وخرج الكلامان معاً، فالمشتري يرى ببراءة الآمر لا ببراءة المأمور حتى لا يرجع الأمر على المأمور بشيء، فكذا هنا م: (وبدين الوكيل) ش: أي تقع المقاصة بدين الوكيل م: (إذا كان وحده يقع المقاصة عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لما أنه) ش: أي أن الوكيل م: (يملك الإبراء عنه) ش: أي إبراء المشتري عن الثمن م: (عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وهو إبراء بعوض؛ لأن القبض حقه، فيملك المقاصة أيضاً؛ لأنه إبراء أيضاً ولكنه بعوض، فكان بالطريق الأولى أن يملكه م: (ولكنه يضمنه) ش: أي ولكن الوكيل يضمن الثمن م: (للموكل في الفصلين) ش: أي في فصل: الإبراء وفصل المقاصة بدين الوكيل.
ولا يقال: ينبغي أن لا يجوز من الوكيل بالبيع مثل هذا البيع الذي يوجب المقاصة بدين الموكل؛ لأنه خالف الموكل؛ لأنه وكله ببيع يصل الثمن إليه، وها هنا لا يصل، فإذا خالف ينبغي أن لا يجوز هذا البيع لأنا نقول وصل إليه الثمن قبل البيع؛ لأنه بالبيع صار دينه قصاصاً بدين الآمر بالإجماع، كذا في " الذخيرة ".
وفي " المبسوط ": قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إبراء الوكيل للمشتري عن الثمن؛ لأنه تصرف في ملك الغير، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذ الثمن ملك الموكل، ولهما أن الإبراء إسقاط لحق القبض، والقبض خالص حق الوكيل حتى لا يمنع الموكل عن ذلك وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وفي " الفتاوى الصغرى ": الوكيل بالبيع يملك إسقاط الثمن عن المشتري بالإقالة والإبراء والمقاصة بما على الوكيل عندهما. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يملك ذلك، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل ": ولو كان البائع أبرأ المشتري، يعني أن الوكيل أبرأه من الثمن فهو جائز، وهو له ضامن وكذلك لو وهبه له، وكذلك لو اشترى متاعاً أو كانت دنانير فأخذ بها منه أو كانت دراهم فأخذ بها منه [كان] ضامناً للثمن.
والذي اشترى هو له، وكذلك لو صالحه عليه صلحاً ولم يشتر، وكذلك لو أخر عن الثمن

(9/233)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى أجل، كان ضامناً للثمن وجاز التأخير، ولو حط عنه كان ضامناً لما حط عنه، وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز شيء مما صنع من هذا من هبة وغيرها، والمال على حالته على المشتري. وفي " الفتاوى الصغرى ": ثم في وقوع المقاصة إن كان دين المشتري على الموكل وهو مثل الثمن صار قصاصاً إجماعاً وإن كان دينه على الوكيل فعلى الاختلاف، وإن كان عليهما يصير قصاصاً بدين الموكل.
أما عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فظاهر، وأما عندهما: فلأن الثمن لو صار بدين الوكيل لاحتجنا إلى قضاء الوكيل للموكل، وصار قصاصاً بدين الموكل لا يحتاج قضاء آخر فقصرنا المسافة، ولأن الموكل يملك إسقاط الثمن عن المشتري بالإجماع فعلى هذا الحيلة في موضعين:
أحدهما: إذا كان لرجل على زيد دين لا يؤديه، فيتوكل الدائن عن الغير في شرحين من زيد فإذا اشترى تقع المقصاة بين دين الوكيل على البائع وبين دين وجب للبائع على الوكيل ثم الوكيل يأخذ الثمن من موكله، والثاني: أن يوكل رب الدين غيره بالشراء من المديون، فتقع المقاصة بين دين الموكل وبين ما وجب على البائع على الوكيل، والله أعلم.

(9/234)