البناية شرح الهداية

كتاب الدعوى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الدعوى]
[تعريف الدعوى وأركانها]
م: (كتاب الدعوى) ش: أي هذا كتاب في بيان الأحكام المتعلقة بالدعوى، وهي في اللغة: اسم لادعاء الذي هو مصدر ادعى زيد على عمرو مالا، وبفتح الواو لا غير، كفتوى وفتاوى، وقيل: الدعوى لغة قول يقصد به إيجاب حق على الغير.
وذكر شيخ الإسلام المحبوبي -: الدعوى لغة: إضافة الشيء إلى نفسه بأن قال: لي ذمته دعوة الولد.
وذكرت في " شرحي الكنز " أن الدعوى فعلى من الدعاء وهو الطلب، والفعل منه ادعى يدعي وادعاء فهو مدع، والعين الذي يدعي مدع، ولا يقال مدعى فيه ولا به، وأصل دعا ادتعى، وأصل مدع مدتعي، قلبت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال، والدعوة بفتح الدال الدعاء إلى الطعام وبكسرها في النسب، وبضمها في دار الحرب فافهم.
وفي الشرع: الدعوى: إضافة الشيء إلى نفسه في حالة المنازعة، وقيل: هي مطالبة حق في مجلس من له الخلاص عند ثبوته، ولها ركن وشرط وحكم وسبب، أما ركنها هو معناها لغة، وهي إضافة الشيء إلى نفسه، لأن ركن الشيء ما يقوم به الشيء، والدعوى إنما تقوم بإضافة المدعي إلى نفسه فكان ركنا، وأما شرطها مجلس القضاء لأن الدعوى لا تصح في غير مجلس القاضي حتى لا يجب على المدعى عليه جواب المدعي، وأما حكمها: فوجوب الجواب على الخصم إما بنعم أو بلا، وأما سببها: فما هو السبب الذي ذكرناه في النكاح والبيوع!.
وفي " المبسوط " وغيره: سبب فسادها شيئان، جهالة المدعي، وكونها لا تكون ملزما على الخصم وهي مشروعة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، أما الكتاب: قَوْله تَعَالَى في قصة داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] (سورة ص: الآية 20) وفسر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» .
وأما السنة: فما رواه عمرو بن شعيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبيه عن جده عن رسوله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ، وأما الإجماع: فقيل: انعقد إجماع الأمة عليها من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا.
ووجه المناسبة بين هذا الكتاب وبين كتاب الوكالة هو أن الوكالة كانت بالخصومة لأجل الدعوى.

(9/313)


قال: المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها، والمدعى عليه من يجبر على الخصومة، ومعرفة الفرق بينهما من أهم ما يبتنى عليه مسائل الدعوى. وقد اختلفت عبارات المشايخ فيها، فمنها ما قال في الكتاب، وهو حد عام صحيح، وقيل: المدعي من لا يستحق إلا بحجة كالخارج، والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد، وقيل: المدعي من يتمسك بغير الظاهر، والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل: المدعى عليه هو المنكر وهذا صحيح، لكن الشأن في معرفته والترجيح بالفقه عند الحذاق من أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن الاعتبار للمعاني دون الصور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " م: (المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها، والمدعى عليه من يجبر على الخصومة) ش: هذا الحد هو الذي اختاره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومعرفة الفرق بينهما) ش: أي بين المدعي والمدعى عليه م: (من أهم ما يبتنى عليه مسائل الدعوى) ش:، وذلك لأن الإنسان قد يكون مدعيا صورة، ومع ذلك القول قوله "مع يمينه "، كالمودع إذا ادعى رد الوديعة على ما ذكرنا في الكتاب.
م: (وقد اختلفت عبارات المشايخ فيها،) ش: أي في الفرق بين المدعي والمدعى عليه م: (فمنها) ش: أي فمن جملة عبارات المشايخ م: (ما قال في الكتاب) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهو حد عام صحيح) ش: أما عمومه فلأنه يتناول كل حد من الحدود التي ذكرت في المدعي والمدعى عليه، وأما صحته فلأنه جامع مانع على ما لا يخفى، فلذلك اختاره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
م: (وقيل: المدعي من لا يستحق إلا بحجة) ش: يعني البينة والإقرار م: (كالخارج) ش: الذي يدعي عينا في يد رجل فإنه لا يستحق إلا بحجة، يعني البينة أو الإقرار م: (والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد) ش: أي كصاحب اليد فإنه لا يحتاج إلى بينته واستحقاقه بقوله هذا ملكي وأنا واضع اليد. وقال الأكمل: هو ليس بعام لعدم تناوله لصورة المودع إذا ادعى رد الوديعة، ولعله غير صحيح.
م: (وقيل: المدعي من يتمسك بغير الظاهر) ش: إذ الظاهر أن الأملاك في يد المالك وبراءة الذمة م: (والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر) ش: لأنه يدعي قرار يده وملكه على ظاهره، وهذا منقوض بالمودع فإنه مدعى عليه، وليس بتمسك بالظاهر، لأن رد الوديعة ليس بظاهر، لأن الفراغ ليس بأصل بعد الاشتغال؛ م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل ": المدعى عليه هو المنكر وهذا صحيح، لكن الشأن في معرفته) ش: أي في معرفة المنكر م: (والترجيح بالفقه) ش: يعني باعتبار المعنى دون الصورة م: (عند الحذاق من أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن الاعتبار للمعاني دون الصور) ش: بيانه إذا تعارضت الجهتان في صورة فالترجيح لأحدهما على الآخر يكون بالفقه كما ذكرنا،

(9/314)


فإن المودع إذا قال: رددت الوديعة فالقول قوله مع اليمين ينكر، وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان معنى. قال: ولا تقبل الدعوى حتى يذكر شيئا معلوما في جنسه وقدره لأن فائدة الدعوى الإلزام بواسطة إقامة الحجة والإلزام في المجهول لا يتحقق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم أوضح ذلك بقوله:
م: (فإن المودع إذا قال: رددت الوديعة فالقول قوله مع اليمين ينكر، وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان معنى) ش: فلو أقام على ذلك بينة قبلت، لأنه متمسك بالأصل إذ الأصل في الذمم البراءة، ويحلف القاضي أنه لا يلزمه رد ولا ضمان، ولا يحلفه على أنه رده لأن اليمين أبدا يكون على النفي، فلو أقام على بينة قبلت والقول قوله مع يمينه أيضا فكان مدعى عليه، فإذا أقام البينة اعتبر الصورة، وإذا عجز عنها اعتبر معناها فإنه ينكر الضمان والقول قول المنكر مع يمينه، فإن قيل: المودع بدعوى الرد يتمسك بما ليس بثابت وهو الرد، إذ الرد لم يكن ثابتا، والمودع متمسك بما هو ثابت، وهو عدم الرد، فإن كان ثابتا فينبغي أن يكون الأمر على العكس.
قلت: المودع يدعي براءة ذمته عن الضمان معنى، وهو أصل المودع يدعي الشغل، ولم يكن ثابتا، ولهذا تقبل بينته اعتبارا للصورة، ويجبر على الخصومة، ويحلف اعتبارا للمعنى، فإن قيل: يشكل هذا بما إذا ادعى المديون رفع الدين إلى وكيل رب الدين، ثم حضر رب الدين وأنكر الوكالة فالقول له على ما مر في باب الوكالة، مع أن المديون يدعي البراءة؟.
قلنا: المديون يدعي البراءة هنا بعد الشغل، فكان الشغل أصلا والبراءة عارضا، أما في رد الوديعة فالبراءة أصل والشغل عارض ما ذكرنا فالقول له.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تقبل الدعوى حتى يذكر شيئا معلوما في جنسه وقدره) ش: قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (لأن فائدة الدعوى الإلزام) ش: أي إلزام الخصم م: (بواسطة إقامة الحجة) ش: أي بواسطة الحجة وهي البينة والإقرار م: (والإلزام في المجهول لا يتحقق) ش: لأن يلتفت القاضي إذا ادعى شيئا مجهولا، ولا يكلف المدعى عليه الجواب، لأنه إن أنكر لا يصح إقامة البينة عليها مع الجهالة، وإن نكل عن اليمين لا يمكن القضاء بالمجهول فسقطت الدعوى، فإذا كان كذلك اعتبرت الدعوى الصحيحة، وهي بأن يكون المدعي معلوما في جنسه كالدراهم والدنانير والحنطة وغير ذلك وقدره مثل كذا وكذا درهما أو دينارا، أو كرا ويذكر مع ذلك صفتها، كالحنطة البيضاء أو الحمراء، ويذكر أنها جيدة أو رديئة كذا في " الذخيرة ".
وإذا كان المدعي مجهولا في نفسه لا تسمع ولا تعلم فيه خلافا إلا في الوصية؛ فإن الأئمة الثلاث يجوزون دعوى المجهول في الوصية بأن ادعى حقا من وصية أو إقرارا فإنهما يصحان

(9/315)


فإن كان عينا في يد المدعى عليه كلف إحضارها ليشير إليها بالدعوى، وكذا في الشهادة والاستحلاف؛ لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط، وذلك بالإشارة في المنقول لأن النقل ممكن، والإشارة أبلغ في التعريف، ويتعلق بالدعوى وجوب الحضور، وعلى هذا القضاة من آخرهم في كل عصر، ووجوب الجواب إذا حضر ليفيد حضوره ولزوم إحضار العين المدعاة لما قلنا، واليمين إذا أنكره وسنذكره إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالمجهول، وتصح دعوى الإبراء بالمجهول بلا خلاف، ولا يشترط لسماع الدعوى المخالطة والمعاملة، ولا فرق فيه بين طبقات الناس، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسمع دعوى الذمي الزاني على الشريف إذا لم يعرف بينهما نسب.
م: (فإن كان) ش: أي المدعي م: (عينا في يد المدعى عليه كلف إحضارها ليشير إليه) ش: المدعي م: (بالدعوى) ش: فيقول: هذا الذي أدعيه، لأن المنقول لا يحيط بالوصف فيجب إحضاره، فيجب العلم بأقصى ما يمكن، ويرتفع الاشتباه، لأن الإشارة أبلغ في التعريف، م: (وكذا في الشهادة) ش: أي المدعى عليه بإحضار المدعي ليشير إليه عند أداء الشهادة، وقالوا في المنقولات التي يتعذر نقلها كالرحى ونحوه: يحضر الحاكم عندها أو يبعث أمينا، وفي " المجتبى ": قال الأسبيجابي في مسألة سرقة البقرة: " لو اختلفا في ألوانها تقبل الشهادة عنده خلافا لهما".
وهذه المسألة تدل على أن إحضار المنقول ليس بشرط لصحة الدعوى، إذ لو شرط ألوانها لأحضرت، ولما وقع الاختلاف عند المشاهدة، ثم قال: والناس عنها غافلون، م: (والاستحلاف) ش: يعني إذا استحلف المدعى عليه على العين المدعاة كلف إحضارها، م: (لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط وذلك) ش: أي الإعلام م: (بالإشارة في المنقول لأن النقل ممكن والإشارة أبلغ في التعريف ويتعلق بالدعوى وجوب الحضور) ش: يعني يتعلق بالدعوى الصحيحة الحضور م: (وعلى هذا القضاة من آخرهم) ش: أي بأجمعهم، كذا قاله [في] " الكافي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل: من أولهم إلى آخرهم م: (في كل عصر) ش: أي من كل زمان من أزمنة الفقهاء والمجتهدين م: (ووجوب الجواب إذا حضر) ش: أو يتعلق بالدعوى أيضا وجوب الجواب على المدعى عليه بنعم أو بلا إذا حضر م: (ليفيد حضوره) ش: لأن المقصود من حضوره الجواب م: (ولزوم إحضار العين المدعاة) ش: أي ويتعلق بالدعوى أيضا وجوب إحضار العين المدعاة مجلس القاضي على المدعى عليه إذا كانت منقولة قائمة في يده م: (لما قلنا:) ش: أشار به إلى قوله: ليشير إليها بالدعوى م: (واليمين) ش: بالجر عطفا على إحضار العين أي يتعلق بالدعوى أيضا لزم اليمين على المدعى عليه م: (إذا أنكره) ش: الحق إذا لم يقدر المدعي على إقامة البينة، م: (وسنذكره إن شاء الله تعالى) ش: أي سنذكر وجوب اليمين على المدعى عليه في آخر هذا الباب،

(9/316)


قال: وإن لم تكن حاضرة ذكر قيمتها ليصير المدعي معلوما لأن العين لا تعرف بالوصف والقيمة تعرف به وقد تعذر مشاهدة العين، وقال الفقيه أبو الليث: يشترط مع بيان القيمة ذكر الذكورة والأنوثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: وإن لم تكن) ش: أي العين المدعاة م: (حاضرة ذكر قيمتها ليصير المدعى معلوما) ش: وعدم حضور العين أعم من أن يكون لهلاكها أو للتعذر.
وقال شمس الأئمة الحلواني -رحمه لله-: ومن المنقولات ما لا يمكن إحضاره عند القاضي كالصبرة من الطعام، والقطيع من الغنم، فالقاضي بالخيار إن شاء حضر ذا الموضع إن تيسر له، وإلا بعث خليفته إن كان مأذونا بالاستخلاف، وإذا رفعت الدعوى في جملة ولا يسع باب داره فإنه يخرج إلى باب داره أو يأمر نائبه حتى يخرج ليشير إليه الشهود لحضرته.
وذكر الإمام القاضي ظهير الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا إنما يستقيم إذا كانت العين المدعاة في المصر، أما إذا كانت خارج المصر كيف يقضي القاضي به والمصر شرط جواز القضاء في ظاهر الرواية، لكن الطريق فيه أن يبعث واحدا من أعوانه حتى يسمع الدعوى والبينة ويقضي، ثم بعد ذلك يمضي قضاؤه.
م: (لأن العين لا تعرف بالوصف) ش: لأنه ربما توجد أعيان كثيرة بهذا الوصف فلا يصير المدعى معلوما مع وجود المزاحم م: (والقيمة تعرف به) ش: أي بالوصف لأنه إذا قيل: عشرة دراهم من الفضة وكذا دينارا من الذهب، الركن يصير قيمته معلومة بهذا الوصف.
قال تاج الشريعة: وقال الأكمل - رحمهما الله-: وإذا لم تكن حاضرة لزمه ذكر قيمتها يعني إذا وقع الدعوى في عين غائبة لا يدري مكانها لزم المدعي ذكر قيمتها، فيصير المدعى معلوما، وذكر الوصف بكاف لأن العين لا تعرف الوصف وإن بويع فيه لإمكان المشاركة فيه فذكره في تعريفه غير مفيد، والقيمة شيء يعرف به المعين فبذكرها يكون مفيدا، وقوله: م: (وقد تعذرت مشاهدة العين) ش: جملة حالية بمن قوله لأن العين لا تعرف بالوصف، يعني والحال أن المشاهدة تعذرت، وأغلاق تركيبه لا يخفى انتهى.
قلت: لا إغلاق في تركيبه على ما لا يخفى، بل التحقيق على ما ذكره تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومثله قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله -: وقد تعذرت مشاهدة العين الوصف والقيمة في الغائب مقام المشاهدة، م: (وقال الفقيه أبو الليث: يشترط مع بيان القيمة ذكر الذكورة والأنوثة) ش:، وقال محمد بن محمود الأستروشني في " فصوله ": وإذا ادعى قيمة دابة مستهلكة هل يحتاج إلى ذكر الأنوثة والذكورة؟، اختلف المشايخ فيه، وذكر الصدر الشهيد: لا بد من ذكر الأنوثة والذكورة، ولا بد من بيان السن، ومن المشايخ من أبى ذكر الذكورة والأنوثة، لأن المقصود في

(9/317)


قال: وإن ادعى عقارا وحدده وذكر أنه في يد المدعى عليه وأنه يطالبه به لأنه تعذر التعريف بالإشارة لتعذر النقل فيصار إلى التحديد، فإن العقار يعرف به ويذكر الحدود الأربعة، ويذكر أسماء أصحاب الحدود وأنسابهم ولا بد من ذكر الحد؛ لأن تمام التعريف به عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما عرف هو الصحيح ولو كان الرجل مشهورا يكتفى بذكره، فإن ذكر ثلاثة من الحدود يكتفى بها عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجود الأكثر، بخلاف ما إذا غلط في الرابعة؛ لأنه يختلف به المدعي ولا كذلك بتركها، وكما يشترط التحديد في الدعوى يشترط في الشهادة وقوله في الكتاب، وذكر أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دعوى الدابة المستهلكة القيمة فلا حاجة إلى ذكرهما.

م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": م: (وإن ادعى عقارا وحدده) ش: أي ذكر حدوده م: (وذكر أنه في يد المدعى عليه وأنه يطالبه به) ش: أي وأن المدعي يطالب المدعى عليه بالمدعى م: (لأنه تعذر التعريف بالإشارة لتعذر النقل فيصار إلى التحديد، فإن العقار يعرف به) ش: أي بالتحديد م: (ويذكر الحدود الأربعة ويذكر أسماء أصحاب الحدود وأنسابهم) ش: ويذكر أصحاب حدود العقار، ويذكر أنساب أصحاب الحدود بأن يقال: فلان بن فلان بن فلان م: (ولا بد من ذكر الجد لأن تمام التعريف به عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يذكر الجد م: (على ما عرف هو الصحيح) ش: احترز به عما روي عنهما أن ذكر الأب يكفي م: (ولو كان الرجل مشهورا) ش: كأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد بن الحسن، وابن أبي ليلى، وأبي جعفر الكبير البخاري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جميعا - م: (يكتفي بذكره) ش: أي بذكر الرجل بدون نسبته.
م: (فإن ذكر ثلاثة من الحدود يكتفى بها عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هو يقول: التعريف لم يتم بدون ذكره وقوله م: (لوجود الأكثر) ش:، دليلنا أن إقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع، ثم مقدار الطول يعرف بالحدين، ومقدار العرض بذكر أحد الحدين، وقد يكون الأصل مثليه م: (بخلاف ما إذا غلط في الرابعة) ش: يعني إذا ذكر الحدود الثلاثة وسكت عن الرابعة جاز، أي عن الحد الرابع وإنما أنثه باعتبار الجهة وإنما قلنا: " وسكت عن الرابعة " لأنه إذا ذكر الرابع وغلط فيه لا يجوز باتفاق بيننا وبين زفر.
م: (لأنه يختلف به) ش: أي بالغلط م: (المدعي ولا كذلك بتركها) ش: أي بترك الرابعة، كما لو شهد شاهدان بالبيع وقبض الثمن، وتركا ذكر الثمن جاز، ولو غلطا في الثمن لا تجوز شهادتهم، لأنه صار عقد آخر بالغلط م: (وكما يشترط التحديد في الدعوى يشترط في الشهادة) ش: حتى لو ذكروا ثلاثة في الحدود في الشهادة قبلت شهادتهم خلافا لزفر كما مر.
م: (وقوله في الكتاب) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": م: (وذكر أنه

(9/318)


في يد المدعى عليه لا بد منه؛ لأنه إنما ينتصب خصما إذا كان في يده وفي العقار لا يكتفى بذكر المدعي وتصديق المدعى عليه أنه في يده بل لا تثبت اليد فيه إلا بالبينة أو علم القاضي هو الصحيح نفيا لتهمة المواضعة إذ العقار عساه في يد غيرهما، بخلاف المنقول لأن اليد فيه مشاهدة، وقوله أنه يطالبه به؛ لأن المطالبة حقه فلا بد من طلبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في يد المدعى عليه لا بد منه لأنه) ش: أي لأن المدعى عليه م: (إنما ينتصب خصما) ش: دعواه، في " الخلاصة " ادعى على آخر دارا في يده، وقال: في ملكي وفي يدي، وأنكر المدعى عليه أنها ملك المدعي، فإن القاضي لا يقضي بهذه البينة ما لم يشهدوا أنها في يد المدعى عليه، وفي " أدب القاضي " للخصاف: لو أقام أحدهما البينة أنها في يديه وقام الآخر البينة على أنها له فهو لصاحب الملك دون صاحب اليد.
قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: نصفه على وجه القضاء، ونصفه على وجه الترك، كان الكلام فيما م: (إذا كان في يده) ش: والظاهر أن كله وجه القضاء، وقال الأسبيجابي في " شرح الكافي " للحاكم الشهيد: وإذا كانت الدار في يدي رجلين، كل واحد منهما يدعي أنها له، فكل واحد منهما مدعى لما في يد صاحبه وعليه البينة.
ولكل واحد منهما على صاحبه اليمين فأيهما حلف على دعوى صاحبه برئ عنها، وأيهما نكل عن اليمين ألزمته ثمنه صاحبه، لأن يد كل واحد منهما ثابتة على النصف، فكان خارجا فيما في يد صاحبه، فتكون البينة بينة على ما في يد الآخر، واليمين يمين على صاحبه، وكذلك الحيوان والعروض، م: (وفي العقار لا يكتفي بذكر المدعي وتصديق المدعى عليه أنه في يده، بل لا تثبت اليد فيه) ش: أي في العقار م: (إلا بالبينة) ش: بأن يشهدوا أنهم عاينوا أنه في يده، حتى لو قالوا: سمعنا ذلك لم يقبل وكذا في غير هذه الصورة لا بد في الشهادة على اليد من ذلك، م: (أو علم القاضي) ش: بأنه في يده م: (وهو الصحيح) ش: احترز به عن قول من يقول: يكتفي بتصديق المدعى عليه أنه في يده.
م: (نفيا لتهمة المواضعة إذ العقار عساه) ش: أي لعله م: (في يد غيرهما) ش: الحاصل: أنه يحتمل أنهما تواصفا على أن يصدق المدعى عليه المدعي بأن العقار في يد المدعى عليه ليحكم القاضي باليد للمدعى عليه، حتى يتصرف فيه المدعي، فكان القضاء فيه قضاء بالتصرف في مال الغير، وذلك يقضي إلى نقض القضاء عند ظهوره في يد ثالث، م: (بخلاف المنقول لأن اليد فيه مشاهدة) ش: فلا حاجة إلى اشتراط الزيادة.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (إنه يطالبه به لأن المطالبة حقه فلا بد من طلبه) ش: أي لأن المطالبة حق المدعي فلا بد من طلبه حتى تجب على القاضي إعانته، وقال

(9/319)


ولأنه يحتمل أن يكون مرهونا في يده أو محبوسا بالثمن في يده وبالمطالبة يزول هذا الاحتمال، وعن هذا قالوا في المنقول: يجب أن يقول في يده بغير حق. قال: وإن كان حقا في الذمة ذكر أنه يطالبه به لما قلنا، وهذا لأن صاحب الذمة قد حضر فلم يبق إلا المطالبة، لكن لا بد من تعريفه بالوصف لأنه يعرف به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: في عبارته تسامح، لأنه إلى تقدير فلا بد من طلب المطالبة فتأمل، ثم قال: ويمكن أن يجاب عنه بأن المطالبة مصدر بمعنى المفعول فكان معناه المطالب حقه فلا بد من طلبه، انتهى.
قلت: إنما قال " فيه تسامح " لأنه توهم من ذلك أن الضمير في طلبه يرجع إلى حقه كما يدل عليه تقديره، ولأن المطالبة حقه فلا بد من طلب حقه فوقع فيما وقع فيه، وإنما الضمير في" طلبه " يرجع إلى المدعي.
والمعنى أصح، على أن في قوله " ولأن المطالبة " مصدر بمعنى المفعول في كلام يتأمل فيه، م: (ولأنه) ش: أي ولأن المدعي م: (يحتمل أن يكون مرهونا في يده) ش: أي ولأن المدعي يحتمل أن يكون مرهونا في يده أي في يد المدعى عليه م: (ومحبوسا بالثمن في يده) ش: فلا تصح الدعوى قبل أداء الدين أو أداء الثمن، م: (وبالمطالبة يزول هذا الاحتمال) ش: لأنه لو كان مرهونا أو محبوسا بالثمن، لا يطالب بالانقطاع من ذي اليد بخلاف مجرد الدعوى أنه ملكه، إذ مجرد الملك لا يدل على أن اليد له م: (وعن هذا قالوا في المنقول) ش: إشارة إلى قوله: يحتمل أن يكون مرهونا أو محبوسا بالثمن لم يطالب م: (يجب أن يقول: في يده بغير حق) ش: لهذا المعنى الذي ذكر وهو احتمال كونه مرهونا أو محبوسا بالثمن، وفي " الفتاوى الصغرى " و" التتمة ": أنه إذا ملك المدعي ولم يشهد أنه في هذا بغير حق، يعني أنه يقبل؛ وسمعت أنه ذكر شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع ": أنه اختلف المشايخ فيه، قال: والأوضح أنه لا يقبل؛ وذكر نجم الدين النسفي عن أبي الحسن السعدي والبزدوي: أنه شرط ما لم يثبت أنه في يده بغير حق لا يمكنه المطالبة بالتسليم، وبه كان يفتي أكثر مشايخنا، وقال صاحب " التتمة ": وهو الصحيح وعليه الفتوى.
م: (قال) ش: القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " م: (وإن كان حقا في الذمة ذكر أنه يطالبه به لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله: إن المطالبة حقه فلا بد من طلبه م: (وهذا) ش: يعني قوله: أن يطالبه م: (لأن صاحب الذمة قد حضر فلم يبق إلا المطالبة ولكن لا بد من تعريفه) ش: أي تعريف ما في الذمة م: (بالوصف) ش: مثل أن يقول: - كذا درهما أو دينارا - فبعد ذلك إن كان مضروبا بذكر نوعه كبخاري الضرب أو نيسابوري الضرب، م: (لأنه يعرف به) ش: أي لأن ما في الذمة يعرف بالوصف بأنه جيد أو وسط أو رديء، وإنما يحتاج إلى ذكر الصفة إذا كان في البلد نقود مختلفة،

(9/320)


قال: وإذا صحت الدعوى سأل القاضي المدعى عليه عنها لينكشف له وجه الحكم فإن اعترف قضى عليه بها لإن الإقرار موجب بنفسه فيأمره بالخروج عنه، وإن أنكر سئل المدعي البينة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ألك بينة "؟ فقال: لا، فقال: " لك يمينه» سأل ورتب اليمين على فقد البينة فلا بد من السؤال ليمكنه الاستحلاف. قال: فإن أحضرها قضى بها لانتفاء التهمة عنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما إذا كان نقدا واحدا فلا يحتاج.
ولو كان في البلد نقود مختلفة والكل في الرواج سواء، والأفضل للمبعض على البعض المبيع ويعطي المشتري البائع أي نقد شاء، إلا أن في الدعوى لا بد من تعيين أحدهما، وإن كان أحدهما أروج يصير ذلك [ ... ] في البيع والدعوى، فلا حاجة إلى البيان، وإن كانت الدعوى لسبب القرض أو استهلاكه فلا بد من بيان صفته على كل حال.

[إقرار المدعى عليه بصحة الدعوى وما يترتب عليه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا صحت الدعوى سأل القاضي المدعى عليه عنها) ش: أي عن الدعوى م: (لينكشف له وجه الحكم) ش: لأن الأشياء التي تنقطع بها المنازعة الإقرار والبينة واليمين، م: (فإن اعترف قضى عليه بها) ش: أي يقضي القاضي على المدعى عليه بالدعوى ولفظ القضاء هنا مجاز للزومه، فإقراره فلا حاجة إلى القضاء، م: (لأن الإقرار موجب بنفسه) ش: فلا يتوقف على القضاء، وإذا كان كذلك م: (فيأمره بالخروج عنه) ش: موجب إقراره.
م: (وإن أنكر) ش: أي المدعى عليه م: (سئل المدعي البينة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألك بينة؟ فقال: لا، فقال: لك يمينه» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، وقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للحضرمي: " ألك بينة "؟ قال: لا، قال: " فلك يمينه "، قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع عن شيء، فقال: " ليس لك منه إلا ذلك "، فانطلق ليحلف فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما الذي حلف على مال يأكله ظلما ليلقين الله تعالى وهو عنه غير راض ".»
م: (سأل) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المدعي والمدعى عليه م: (ورتب اليمين على فقد البينة فلا بد من السؤال) ش: عن البينة أولا م: (ليمكنه الاستحلاف) ش: أي فيمكن القاضي طلب اليمين من المدعى عليه، م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن أحضرها) ش: أي فإن أحضر المدعي البينة على وفق دعواه م: (قضى بها) ش: أي قضى القاضي بالبينة م: (لانتفاء التهمة عنها)

(9/321)


وإن عجز عن ذلك وطلب يمين خصمه استحلفه عليها لما روينا، ولا بد من طلبه لأن اليمين حقه، ألا ترى أنه كيف أضيف إليه بحرف اللام فلا بد من طلبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي عن الدعوى لرجحان جانب المصدق في خبر المدعي بالبينة، م: (وإن عجز عن ذلك) ش: أي وإن عجز المدعي عن الإثبات بالبينة، م: (وطلب يمين خصمه) ش: وهو المدعى عليه م: (استحلفه عليها) ش: أي على دعواه م: (لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لك يمينه " م: (ولا بد من طلبه) ش: أي من طلب المدعي استحلاف خصمه، م: (لأن اليمين حقه) ش: ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أنه كيف أضيف إليه؟) ش: أي كيف أضيف اليمين إلى المدعي؟، إنما ذكر أضيف وإن كان مسندا إلى ضمير اليمين التي هي مؤنثة على تأويل القسم أو الحلف م: (بحرف اللام فلا بد من طلبه) ش: أي لام الاختصاص، ففي قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " فلك يمينه "، نعلم أن اليمين حقه.

(9/322)