البناية شرح الهداية

كتاب الوديعة قال: الوديعة أمانة في يد المودع إذا هلكت لم يضمنها لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كتاب الوديعة) ش: ذكرها عقيب كتاب المضاربة، لأن مبناها على الأمانة وهي فعيلة بمعنى مفعولة من الودع، وهو الترك، وشرعًا هي تسليط الغير على حفظ المال أي مال كان بشرط أن يكون قابلاً لإثبات اليد عليه، حتى لو أودع الآبق أو الساقط في البحر أو الطير في الهواء لا يصح.
وركنها: الإيجاب والقبول، فإذا وضع عند آخر ثوبًا مثلاً ولم يقل شيئًا فذهب وذهب الآخر وضاع يضمن؛ لأن هذا إيداع عرفًا.
وكذا لو قال: هذا وديعة عندك بخلاف ما إذا قال الجالس لا أقبل فذهب وضاع حيث لا يضمن لأنه صرح بالرد. ولو ألقاه في بيته كان قابلا بالسكوت، فإذا ضاع يضمنه. وكذا لو قال لصاحب المال أين أضع ثيابي فقال ثمة فوضعه فسرق يضمن.

[ضمان الوديعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (الوديعة أمانة في يد المودع) ش: بفتح الدال، ويقال للمال أيضًا مودع بالفتح كما يقال وديعة. وما قيل إن الوديعة والأمانة لفظان مترادفان فلا يرتفعان على الابتداء والخبرية إلا بطريق التفسير، كما يقال: الليث أسد، والحبس منع، وليس المراد هنا التفسير.
فجوابه: أن هذا من باب الإخبار بالعام عن الخاص وهو جائز إلا أن الأمانة أعم من الوديعة.
وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأولى أن يقال: إن لفظ الأمانة صار علما ًلما هو غير مضمون، فكان معنى قوله أمانة غير مضمون عليه، وتبعه على ذلك الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفيه ما فيه لأن العلم ما وضع لشيء بعينه وغير مضمون ليس كذلك، وليت شعري أنى علم هذا من أقسام الأعلام.
م: (إذا هلكت لم يضمنها) ش: لأن المودع متبرع والتبرع لا يوجب ضمان حق لو سرقت عنده، وإن لم يسرق معها ما له لم يضمن عند أكثر أهل العلم إلا عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يضمن للتهمة إذا لم يسرق معه مال له.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان»

(10/106)


ولأن بالناس حاجة
إلى الاستيداع فلو ضمناه يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في " سننهما " عن عمرو بن عبد الجبار عن عبيدة بن حسان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن يتقدم المستودع على المستعير.
فإن قلت: هذا الحديث ضعيف؛ لأن الدارقطني قال: عمرو وعبيدة ضعيفان، وإنما يروى هذا من قول شريح غير مرفوع، ثم أخرجه من قول شريح، ورواه عبد الرزاق في مصنفه من قول شريح، وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء ": عبيدة يروي الموضوعات عن الثقات.
قلت: قول الدارقطني عمرو وعبيدة ضعيفان جرح مبهم فلا يقبل. أما عمرو بن عبد الجبار فهو ابن أخ عبيدة لم يضعفه أحد فيما نعلم، غير أن ابن أخيه ذكره ولم يزد على قوله: له مناكير.
وأما عبيدة: فهو بفتح العين وكسر الباء الموحدة ابن حسان البخاري وذكره البخاري في تاريخه ولم يذكر فيه جرحًا، ويؤيده ما رواه ابن ماجه عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أودع وديعة فلا ضمان عليه»
ورواه ابن حبان من حديث ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به، وأعله بابن لهيعة وهو عبد الله بن لهيعة المصري وثقه أحمد وأثنى عليه، والعجب من شراح الهداية كيف سكتوا عن بيان حال هذا الحديث ولا سيما الأترازي الذي يدعي بدعوى عريضة في الحديث، ولم يزد في شرحه على قوله فيه نظر؛ لأن أبا عبيدة جعله من كلام شريح في غريب الحديث وكذلك الزيلعي الذي أخرج أحاديث الهداية حيث نسب هذا الحديث إلى مخرجه وذكر ما قالوا فيه من الطعن وسكت.
قوله: غير المغل من الإغلال بالغين المعجمة وهو الخيانة والمعنى غير الخائن، وكذلك الغلول الخيانة ولكنه يستعمل في الغنم، والإغلال عام.
م: (ولأن بالناس حاجة إلى الاستيداع) ش: وهو طلب ترك الوديعة عند غيره، يقال أودعت فلانًا مالاً واستودعته إياه إذا لم يدفعه إليه ليكون عنده فأنت مودع ومستودع بكسر الدال فيهما، وزيد مودع ومستودع بفتح الدال فيهما م: (فلو ضمناه) ش: أي المودع بفتح الدال م: (يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم) ش: لأن كل واحد يمتنع عن قولها، فلو ضمناه أي المودع

(10/107)


قال: وللمودع أن يحفظها بنفسه وبمن هو في عياله؛ لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره على الوجه الذي يحفظ مال نفسه، ولأنه لا يجد بدا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بفتح يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم، لأن كل واحد يمتنع عن قبولها خوفًا من الضمان، والناس محتاجون إلى ذلك فيؤدي إلى ضرر بهم.

[حفظ الوديعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وللمودع أن يحفظها بنفسه وبمن هو في عياله) ش: نحو زوجه وولده ووالديه وأجيره الخاص وهو الأجير مشاهرة أو مشابهة، وعبده وأمته، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وقال الشافعي وأشهب المالكي - رحمهما الله -: يضمن بالدفع المبهم.
وفي " الكافي ": العبرة في هذا الباب للمساكنة لا للنفقة، حتى لو أودعت المرأة وديعتها إلى زوجها لا تضمن، وإن لم يكن الزوج في نفقتها والابن الكبير إذا كان يسكن مع المودع ولم يلزمه نفقته فخرج وترك المنزل على الابن لا يضمن الوديعة ولم يشترط في التحفة الحفظ بالعيال، بل قال يحفظه على الوجه الذي يحفظ مال نفسه بحرزه من كان ماله في يده.
ثم قال: يعني به الأجير مشاهرة بنفقته وكسوته والعبد المأذون الذي في يده مال والشريك المفاوض والعنان وإن لم يكونوا في عياله.
وفي " الذخيرة ": الدفع إلى العيال إنما يجوز إذا كان في عياله أمينًا وإلا فلا يجوز، وفي " فتاوى أبي الليث ": رجل غاب وخلف امرأته في منزله الذي فيه ودائع الناس ثم رجع وطلب الوديعة فلم يجدها فإن كانت المرأة أمينة فلا ضمان على الزوج، وإن كانت غير أمينة وعلم الزوج بذلك ومع هذا ترك الوديعة معها فهو ضامن.
وذكر أبو الليث أيضًا في " خزانة الفقه ": لا ضمان على المودع إلا في ثلاثة أشياء التقصير في حفظها وخلطها بماله ومنعها عن مالكها بعد الطلب ثم قال: فيها أربعة نفر يجوز للمودع دفع الوديعة إليهم ولا يضمن عند تلفها الزوجة والولد والمملوك والأجير، ثم قال: فيها شيئان لا يوجبان الضمان مع الخلاف إذا قال لا تدفع إلى زوجتك فدفع إليها وقال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر في تلك الدار، وقال في آخر شرحه الجامع الكبير المودع أو دفع الوديعة إلى عامله يعني إلى الذي المودع في عياله لم يضمن.
وقال الإمام الزاهد العتابي: هذه الرواية لم توجد إلا في هذا الكتاب يعني في الجامع الكبير.
م: (لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره على الوجه الذي يحفظ مال نفسه ولأنه لا يجد بدًا) ش:

(10/108)


من الدفع إلى عياله؛ لأنه لا يمكنه ملازمة بيته، ولا استصحاب الوديعة في خروجه فكان المالك راضيا به. فإن حفظها بغيرهم أو أودعها عند غيرهم ضمن؛ لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره، والأيدي تختلف في الأمانة، ولأن الشيء لا يتضمن مثله كالوكيل لا يوكل غيره والوضع في حرز غيره إيداع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي فراقًا، وهو اسم من بده بدًا إذا فرقه والمصدر بفتح الباء، نقول بده بدًا م: (من الدفع) ش: أي دفع الوديعة م: (إلى عياله، لأنه لا يمكنه ملازمة بيته) ش: في جميع الأوقات، لأنه يخرج في قضاء حوائجه وأداء ما عليه من الواجبات م: (ولا استصحاب الوديعة في خروجه) ش: أي ولا يمكنه أن يأخذ الوديعة عند خروجه من بيته م: (فكان المالك) ش: أي صاحب الوديعة م: (راضيًا به) ش: أي يحفظها بمن في عياله دلالة، وإن لم يكن صريحًا وفي " الاختيار ": ولهذا لا يصح نهيه، يعني إذا نهى المالك أن يحفظها بمن في عياله لا يصح نهيه لما ذكرناه.
وقال أيضًا: ولو قال: لا تدفعها إلى شخص عينه في عياله ممن لا بد له منه فإن لم يكن له عيال سواه لم يضمن وإن كان له سواه يضمن، لأن من العيال من لا يؤتمن على المال.
م: (فإن حفظها بغيرهم) ش: أي فإن حفظ المودع الوديعة منه غيرهم أي عند غير من هو في عياله بأن يخرج من بيته وترك الوديعة واستحفظها بغيره م: (أو أودعها عند غيرهم) ش: أي عند غير من في عياله بأن نقلها من بيته وترك الوديعة فيه ودفعها إلى أجنبي وديعة م: (ضمن) ش: في الوجهين جميعًا وما قيل إن كان ينبغي أن لا يضمن بالإيداع؛ لأنه ذكر فيها.
قيل: لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره في الوجه الذي يحفظ مال نفسه بنفسه فكان له استحفاظها في استحفاظ مال نفسه فجوابه يخرج من قوله، لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره والأيدي مختلفة في الأمانة.
وأما المراد عن كلامه الأول أن يحفظ مال نفسه غالبًا، فإن الغالب هذا م: (لأن المالك رضي بيده) ش: أي بيد المودع لتوثقه به م: (لا بيد غيره والأيدي تختلف في الأمانة) ش: فرب يد يتوثق بها المودع ولا يتوثق بها المالك، وكذا على العكس.
م: (ولأن الشيء لا يتضمن مثله) ش: أي لا يستتبع مثله م: (كالوكيل لا يوكل غيره) ش: نوقض هذا بالمستعير والعبد المأذون والمكاتب حيث يجوز للمستعير الإعارة وللمأذون أن يأذن لعبده، وللمكاتب أن يكاتب عبدًا حتى أجاز ابن أبي ليلى إيداع المودع قيامًا على هذا.
وأجيب: بأن تصرف هؤلاء بالملك لأن المستعير مالك للمنفعة، وكذا المأذون والمكاتب وكلاهما مناف غيره.
م: (والوضع) ش: أي وضع المودع الوديعة م: (في حرز غيره إيداع) ش: أي إيداع المودع

(10/109)


إلا إذا استأجر الحرز فيكون حافظا بحرز نفسه.
قال: إلا أن يقع في داره حريق فيسلمها إلى جاره أو يكون في سفينة فخاف الغرق فيلقيها إلى سفينة أخرى؛ لأنه تعين طريقا للحفظ في هذه الحالة فيرتضيه المالك ولا يصدق على ذلك إلا ببينة؛ لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق السبب فصار كما إذا ادعى الإذن في الإيداع.
قال: فإن طلبها صاحبها فمنعها وهو يقدر على تسليمها ضمنها لأنه متعد بالمنع، وهذا لأنه لما طالبه لم يكن راضيا بإمساكه بعده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوديعة وهو مصدر مضاف إلى فاعله والمفعول محذوف وارتفاعه على أنه خبر عن المبتدأ، أعني قوله والوضع، وإنما كان إيداعًا لأن الحرز في يد غيره فصار بالوضع فيه مسلمًا إليه وهو إيداع، فإذا كان إيداعًا يكون ضامنًا كالإيداع الحقيقي م: (إلا إذا استأجر الحرز فيكون حافظًا بحرز نفسه) ش: لأنه بالاستئجار صار الحرز له، وإن كان الملك لغيره وقد تستأجر البيوت لحفظ الأمتعة.

م: (قال) ش: الاستثناء من قوله فإن حفظها بغيرهم ضمنه م: (إلا أن يقع في داره حريق) ش: أي نار، كذا فسره البعض، والصحيح أنه اسم للاحتراق ولم يذكر أهل اللغة أنه اسم النار م: (فيسلمها إلى جاره) ش: بنصب اللام، أي فإن يسلمها، لأنه عطف على أن يقع.
قال الحلواني: هذا إذا أحاط الحريق بمنزله بحيث لا يمكنه أن يدفعها إلى بعض من عياله، فلو أمكنه تناوله إلى بعض من في عياله يضمن بالدفع إلى الأجنبي م: (أو يكون) ش: بالنصب أيضًا عطفا إلا أن يقع أي أو إلا أن يكون م: (في سفينة فخاف الغرق) ش: بفاء العطف وهو عطف الماضي على المضارع في الصورة.
وفي نسخ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخاف الغرق بالمضارع الواقع حالا، والغرق مصدر غرق في الماء م: (فيلقيها إلى سفينة أخرى) ش: بنصب للياء في فيلقيها عطفًا على أو يكون وإن عطفته على فخاف يكون مرفوعاً ويكون عطف المضارع على الماضي م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من التسليم إلى الجار والإبقاء في السفينة م: (تعين طريقًا للحفظ في هذه الحالة فيرتضيه المالك) ش: دلالة لأنه لا يمكنها أن يحفظ في هذه الحالة إلا بهذا الطريق.
م: (ولا يصدق على ذلك) ش: أي لا يصدق المودع على الفعل المذكور م: (إلا ببينة، لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق السبب) ش: أي سبب الضمان وهو التسليم إلى جاره، وفي المنتقى: هذا إذا لم يعلم أن بيت المودع احترق، فإذا علم قبل قوله بلا بينة م: (فصار كما إذا ادعى الإذن في الإيداع) ش: فلا يصدق إلا ببينة، لأنه يدعي سقوط الضمان بعد تحقيق السبب.

[طلب صاحب الوديعة وديعته فمنعها وهو يقدر فهل يضمن]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن طلبها صاحبها فمنعها وهو يقدر) ش: أي والحال أنه يقدر م: (على تسليمها ضمنها لأنه متعد بالمنع وهذا) ش: أي وجوب الضمان لكونه متعد بالمنع م: (لأنه لما طالبه لم يكن راضيًا بإمساكه) ش: أي بإمساك المودع الوديعة م: (بعده)

(10/110)


فيضمنها بحبسه عنه.
قال: وإن خلطها المودع بماله حتى لا يتميز ضمنها ثم لا سبيل للمودع عليها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: إذا خلطها بجنسها شركة إن شاء مثل أن يخلط الدراهم البيض بالبيض، والسود بالسود، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير. لهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي بعد الطلب م: (فيضمنها) ش: أي إذا كان كذلك فيضمنه، أي يضمن الوديعة، وإنما ذكر الضمير باعتبار المودع بفتح الدال، لأنه اسم للوديعة، وإن جعل هذا من التضمين يعود الضمير إلى المطلوب، أعني المودع، أي فيضمن المالك المودع م: (بحبسه عنه) ش: أي بحبس المودع الوديعة عن المالك.

[الحكم لو خلط المودع الوديعة بماله حتى لا يتميز]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن خلطها المودع) ش: بفتح الدال خلط المودع الوديعة م: (بماله حتى لا يتميز) ش: فإن خلط الدنانير بالدنانير والدراهم بالدراهم م: (ضمنها) ش: لأنه استهلاك على ما يأتي، وبه قالت الثلاثة في غير خلط الجنس بالجنس.
والخلط على أربعة أوجه: خلط بطريق المحاورة مع تيسير التمييز كخلط الدراهم البيض بالسود والدراهم بالدنانير والجوز باللوز، فإنه لا يقطع حق المالك بلا خلاف، فيمكن المالك من الوصول إلى غير حقه بلا حرج وخلط بطريق المجاورة مع تفسير التمييز كخلط الحنطة مع الشعير فذلك يقطع حق المالك ويوجب الضمان بلا خلاف، لأنه لا يصل المالك إلى حقه إلا بحرج، والمتعذر كالمتعسر، لأن الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير والشعير لا يخلو عن حبات الحنطة فيتعذر التمييز حقيقة، ويتعذر أيضًا حكماً بالقسمة لا خلاف الجنس.
فإن القسمة عند اختلاف الجنس غير مشروع وخلط الجنس مع خلاف الجنس ممازجة كخلط الحل بالحاء المهملة، وهو دهن السمسم بالزيت وكل مائع بغير جنسه فيضمن فيه بلا خلاف، لأنه استهلاك مطلقًا وخلط الجنس مع الجنس كخلط دهن اللوز مع دهن اللوز ودهن الجوز مع دهن الجوز، وخلط اللبن باللبن والحنطة بالحنطة والدراهم البيض بالبيض والسود بالسود فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وعندهما لا ينقطع حق المالك بل له الخيار إن شاء ضمن وإن شاركه وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شاركه بلا خيار.
م: (ثم لا سبيل للمودع) ش: بكسر الدال صاحب الوديعة م: (عليها) ش: أي على الوديعة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: إذا خلطها بجنسها شركة إن شاء) ش: أي شركه المودع في المودع إن شاء المودع بالكسر م: (مثل أن يخلط الدراهم البيض بالبيض) ش: بكسر الباء جمع أبيض م: (والسود بالسود) ش: بضم السين جمع أسود، أي الدراهم السود بالدراهم السود م: (والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -

(10/111)


أنه لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة وأمكنه معنى بالقسمة معه فكان استهلاكا من وجه دون وجه، فيميل إلى أيهما شاء. وله أنه استهلاك من كل وجه؛ لأنه فعل يتعذر معه الوصول إلى عين حقه، ولا معتبر بالقسمة لأنها من موجبات الشركة فلا تصلح موجبة لها.
ولو أبرأ الخالط لا سبيل له على المخلوط عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا حق له إلا في الدين وقد سقط. وعندهما بالإبراء تسقط خيرة الضمان فتتعين الشركة في المخلوط وخلط الخل بالزيت، وكل مائع بغير جنسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أنه) ش: أي أن المودع بالكسر م: (لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة وأمكنه) ش: أي الوصول إلى حقه م: (معنى) ش: أي حكماً م: (بالقسمة معه) ش: لأن القسمة فيما لا تتفاوت في إجارة إفراز وتعيين، حتى يملك كل واحد من الشريكين أن يأخذ حقه عينًا من غير قضاء ولا رضا، فكان إمكان الوصول إلى غير حقه قائمًا معنى مخير م: (فكان) ش: أي هذا الخلط م: (استهلاكًا من وجه) ش: حيث لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة م: (دون وجه) ش: حيث أمكنه معنى م: (فيميل إلى أيهما شاء) ش: أي الوجهين شاء لما ذكره.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن هذا الخليط م: (استهلاك من كل وجه لأنه فعل يتعذر معه الوصول إلى عين حقه) ش: لأن عين حقه بالصورة والمعنى، والتحقيق فيه أن الاستهلاك من العباد التعييب، فأما انعدام المحل فبتحليف الله تعالى والتعييب قد وجد، فصار متعديًا ضامنًا لا شريكًا فلا يباح له التناول قبل أداء الضمان، كذا في البدرية م: (ولا معتبر بالقسمة) ش: أي لا اعتبار هو مصدر ميمي م: (لأنها) ش: أي لأن القسمة م: (من موجبات الشركة) ش: أي أحكامها م: (فلا تصلح) ش: أي القسمة م: (موجبة لها) ش: أي للشركة، لأنه ينقلب لعلة حكمًا والحكم علة.

م: (ولو أبرأ الخالط) ش: بنصب الطاء، أي ولو أبرأ المالك المودع الخالط، ذكر هذا فائدة للخلاف المذكور م: (لا سبيل له على المخلوط) ش: أي لا يبقى للمبر طريق على المخلوط م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا حق له إلا في الدين وقد سقط) ش: بالإبراء م: (وعندهما بالإبراء تسقط خيرة الضمان) ش: أي خيار الضمان والخيرة بكسر الخاء وفتح الياء آخر الحروف اسم للاختيار كالطيرة بالكسر اسم التطير.
وهذه الصيغة في المصدر قليلة م: (فتتعين الشركة في المخلوط) ش: يعني تصير شركة بلا خيار وخلط دهن اللوز بدهن الجوز م: (وخلط الحل بالزيت) ش: أي خلط دهن السمسم بالزيت وهو بالحاء المهملة كما ذكرناه، وارتفاع الخلط بالابتداء م: (وكل مائع بغير جنسه) ش: بجر " كل " عطفًا على " الحل "، أي وخلط كل مائع بغير جنسه كالعسل بالدبس والرب بالقطارة

(10/112)


يوجب انقطاع حق المالك إلى الضمان، وهذا بالإجماع، لأنه استهلاك صورة، وكذا معنى لتعذر القسمة باعتبار اختلاف الجنس، ومن هذا القبيل خلط الحنطة بالشعير في الصحيح؛ لأن أحدهما لا يخلو عن حبات الآخر، فيتعذر التمييز والقسمة،
ولو خلط المائع بجنسه فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقطع حق المالك إلى الضمان لما ذكرنا. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل الأقل تابعا للأكثر اعتبارا للغالب إجزاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والسمن بالدهن م: (يوجب انقطاع حق المالك) ش: وهو خبر مبتدأ إلى الضمان في محل النصب على الحال، أي يوجب انقطاع حق المالك منتهيًا م: (إلى الضمان، وهذا) ش: أي وهذا الحكم وهو وجوب الضمان م: (بالإجماع، لأنه استهلاك صورة) ش: وهو ظاهر م: (وكذا معنى) ش: أي كذا هو استهلاك معنى أحكامها م: (لتعذر القسمة باعتبار اختلاف الجنس) ش: فتعين المصير إلى الضمان.
م: (ومن هذا القبيل) ش: أي من قبيل انقطاع حق المالك بالإجماع م: (خلط الحنطة بالشعير) ش: ارتفاع الخلط بالابتداء وخبره مقدم وهو من هذا القبيل.
م: (في الصحيح) ش: احترز به عما روى الحسن أن الجواب في خلط الحنطة بالحنطة فكان على الاختلاف، والصحيح أن حق الملك ينقطع بالإجماع.
وقال شمس الأئمة البيهقي في كتاب الغصب من " الكفاية ": روى الحسن في مسألة الحنطة بالشعير عن أبي حنيفة مثل قولهما م: (لأن أحدهما لا يخلو عن حبات الآخر) ش: لما في الحنطة حبات الشعير، وفي الشعير حبات الحنطة م: (فيتعذر التمييز والقسمة) ش: لاختلاف الجنس وقد ذكرناه.
وما قيل: إن تمييز الحنطة من الشعير ممكن بأن يصب في ماء فيرسب الحنطة ويطفو الشعير.
فجوابه: أن هذا إفساد المخلوط في الحال، مع أن الراسب يمكن أن يكون فيه من حبات حنطة صاحب الشعير، وفي الطافي يكون من حبات شعير صاحب الحنطة.

[الحكم لو خلط المودع المائع بجنسه]
م: (ولو خلط المائع بجنسه) ش: بأن خلط السيرج بالسيرج أو الزيت م: (فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقطع حق المالك إلى الضمان لما ذكرنا) ش: أشار به إلى ما ذكر من قوله لأنه استهلاك من كل وجه.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل الأقل تابعًا للأكثر) ش: فيضمن صاحب الكثير القليل م: (اعتبارًا للغالب إجزاء) ش: أي من حيث الإجزاء والفرق لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين خلط المائع من خلاف جنسه وبين خلط المائع بالمائع بجنسه، فإن في خلاف الجنس يقطع

(10/113)


وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - شركة بكل حال؛ لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده على ما مر في الرضاع، ونظيره خلط الدراهم بمثلها إذابة؛ لأنه يصير مائعا بالإذابة.
قال: وإن اختلطت بماله من غير فعله فهو شريك لصاحبها، كما إذا انشق الكيسان فاختلطا؛ لأنه لا يضمنها لعدم الصنع منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق المالك بالإجماع أن التداخل والشيوع في المائعات أكثر، فالخاصية تبطل بالخلط عند اختلاف الجنس فيتحقق، يعني الاستهلاك أما في الجنس يعتبر الأكثر إذ أقلها مائع لما أن الخاصية باقية، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - شركة بكل حال) ش: يعني سواء كان أحدهما غالبًا أو مغلوباً أو كانا متساويين م: (لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على ما مر في الرضاع) ش: من أن الصبي إذا شرب لبن امرأتين بأن جعل لبنهما في قدح ثم صب في حلق، فعند أبي يوسف العبرة للأكثر، وعند محمد يثبت الرضاع منهما جميعًا م: (ونظيره) ش: أي نظير الحكمة المذكورة وهو خلط المائع بجنسه م: (خلط الدراهم بمثلها إذابة) ش: أي من حيث الإذابة في النار، أراد أنه إذا أذاب دراهم غيره مع دراهمه فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقطع حق المالك بكل حال.
وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل الأقل تابعًا للأكثر في رواية عنه. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشركة بكل حال على أصله م: (لأنه يصير مائعاً بالإذابة) ش: الضمير في لأنه يرجع إلى الدراهم، وكان ينبغي أن يقول لأنها تصير مائعة، ولكن التذكير إما باعتبار الدراهم ورقًا بكسر الراء، وإما باعتبار المذكور وكل ذلك لا يخلو عن نوع تعسف.

[اختلطت الوديعة بمال المودع من غير فعله]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن اختلطت) ش: أي الوديعة م: (بماله) ش: أي بمال المودع بفتح الدال م: (من غير فعله فهو شريك لصاحبها) ش: أي لصاحب الوديعة م: (كما إذا انشق الكيسان فاختلطا) ش: بأن كان في صندوقه كبد له فمط كيس الوديعة فانشق الكيسان من ذاتهما أو بقرض فأرة ونحوها فاختلط المالان، وهذا الكلام بيان لقوله من غير فعله م: (لأنه) ش: أي لأن المودع م: (لا يضمنها) ش: هذا تعليل لقوله فهو شريك لصاحبها، وكان حق ترتيب الكلام أن يقال: وإن اختلطت بماله من غير فعله كما إذا انشق الكيسان فاختلطا فهو شريك لصاحبها، لأنه لا يضمنها م: (لعدم الصنع منه) ش: أي من المودع بالفتح، أي الصنع الموجب الضمان.
قال السغناقي: ولو تمكن تفسير ذلك من المودع بأن جعل الدراهم الوديعة في كيس بال، ولكن المختلط بينهما بقدر ملكهما.

(10/114)


فيشتركان وهذا بالاتفاق.
قال: فإن أنفق المودع بعضها ثم رد مثله فخلطه بالباقي ضمن الجميع؛ لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكا على الوجه الذي تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: كلام يوهم أن الكيس إذا كان جديدًا يضمن ولا يكون شريكًا وليس كذلك، وإنما عدم الضمان على عدم الصنع منه سواء كان الكيس جديدًا أو باليًا.
وفي " الكافي " للحاكم: فإن انشق الكيس في صندوقه فاختلطت بدراهم المودع فلا ضمان عليه وهما فيه شريكان.
وإن هلك بعضها هلك من مالهما جميعاً ويقسم الباقي بينهما على قدر ما كان لكل واحد منهما يعني أو مكسرة، فإن كان دراهم أحدهما صحاحا، ودراهم الآخر مكسرة لا تثبت الشركة بينهما، بل يميز كل واحد منهما فيدفع إلى المودع ماله ويمسك المودع مال نفسه لإمكان التمييز، وإن كان دراهم أحدهما صحاحا جيادا وفيها بعض الرديء ودراهم الآخر صحاحا رديئا وفيها بعض الجياد تثبت الشركة بين المالين، لأن هذا خلط لا يمكن التمييز بينهما، ثم كيف يقتسمان إن تصادقا أن ثلثي مال أحدهما جياد وثلثه رديء وثلثه جيد يقتسمان الجياد من المال المختلط أثلاثا والرديء أثلاثًا على قدر ما كان لكل واحد منهما وإن لم يتصادقا وكان لا يعرف وادعى كل واحد منهما أن ثلثي ماله جياد وثلثه رديء ويأخذ كل واحد منهما ثلث الجياد، لأنهما اتفقا على أنه كان لكل واحد منهما ثلث الجياد فيأخذان ذلك.
واختلفا في ثلث الآخران يدعي كل منهما لنفسه وذلك الثلث في أيديهما في يد كل واحد منهما نصف الثلث وهو سدس الكل، فيكون القول قول كل واحد منهما في مائدة ويحلف كل منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا برئا عن الدعوى وترك المال في أيديهما كما كان، وإن نكلا قضي لكل منهما بنصف الثلث وهو سدس الكل الذي في يد صاحبه، وكذلك إن قامت لكل منهما بينة، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر برئ الحالف، فيرد الناكل نصف الثلث وهو سدس الكل الذي في يده إلى صاحبه.
م: (فيشتركان) ش: أي المودع والمودع م: (وهذا بالاتفاق) ش: أي الحكم المذكور بالاتفاق بين علمائنا، فإن هلك البعض كان في مالهما جميعًا، إذ الأصل في المال المشترك أن يكون الهالك والباقي على الشركة.

[أنفق المودع بعض الوديعة ثم رد مثله فخلط بغيره]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن أنفق المودع بعضها) ش: أي بعض الوديعة م: (ثم رد مثله فخلطه بالباقي ضمن الجميع، لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكًا على الوجه الذي تقدم) ش: أي مثل ما أنفق قيد بالإنفاق ورد المثل، لأنه لو أخذه لأجل الإنفاق ثم رده قبل الإنفاق لم يضمن، لأنه إن حالف عاد إلى الوفاق، كذا في " المبسوط ".

(10/115)


قال: وإذا تعدى المودع في الوديعة بأن كانت دابة فركبها، أو ثوبا فلبسه أو عبدا فاستخدمه أو أودعها عند غيره ثم أزال التعدي فردها إلى يده زال الضمان. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يبرأ عن الضمان؛ لأن عقد الوديعة ارتفع حين صار ضامنا للمنافاة فلا يبرأ إلا بالرد على المالك.
ولنا أن الأمر باق لإطلاقه وارتفاع حكم العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن الكل وكذا لو أنفق البعض ولم يرد شيئًا يضمن الكل، عندهما يضمن ما أنفق، لأن الغرامة بقدر الحيازة فخلطه بالباقي ضمن الجميع، لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكا على الوجه الذي تقدم.
وفي " الذخيرة ": هذا إذا لم يجعل علامة على ماله حين خلطه بمال الوديعة، أما إذا جعل بحيث يتأتى التمييز لا يضمن إلا ما أنفق، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول: لا يضمن إلا ما أنفق في الوجهين وبه قال ابن القاسم المالكي وأحمد - رحمهما الله -. وقال الربيع: يضمن الجميع إذا لم يتميز.

[تعدى المودع في الوديعة ثم أزال التعدي فردها إلى يده]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا تعدى المودع في الوديعة بأن كانت دابة فركبها أو ثوبًا فلبسه أو عبدًا فاستخدمه أو أودعها عند غيره) ش: أي أودع المودع الوديعة عند غيره م: (ثم أزال التعدي فردها إلى يده زال الضمان) ش: إنما قال: زال لأن الضمان وجب عليه بنفس الركوب، حتى لو هلك في حالة الاستعمال يضمن بلا خلاف.
وفي " التحفة ": وفي المستأجر والمستعير إذا خالفا ثم تركا الخلاف بقي الضمان، وعند بعضهم هذا منزلة المودع.
وفي " خلاصة الفتاوى ": وفي الإجارة والإعارة الأصح أنه لا يبرأ عن الضمان بالعود إلى الوفاق.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يبرأ عن الضمان لأن عقد الوديعة ارتفع حين صار ضامنًا للمنافاة) ش: بين كونه ضامنا وبين كونه أمينًا، وإذا ثبت كونه ضامنًا انتفى كونه أمينًا وهو موجب العقد فارتفع العقد فلا يعود إلا بسبب جديد ولم يوجد م: (فلا يبرأ إلا بالرد على المالك) ش: فلم يوجد ويضمن، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي رواية ابن القاسم وأشهب يبرأ، كقولنا.
م: (ولنا أن الأمر) ش: أي بالحفظ وهو الإيداع م: (باق لإطلاقه) ش: أي لإطلاق الأمر؛ لأن قوله: احفظ هذا المال، يتناوله جميع الأوقات بعد الخلاف وقبله م: (وارتفاع حكم العقد) ش: جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن عقد الوديعة ارتفع، وحكم العقد هو الحفظ

(10/116)


ضرورة ثبوت نقيضه، فإذا ارتفع عاد حكم العقد، كما إذا استأجره للحفظ شهرا فترك الحفظ في بعضه ثم حفظ في الباقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وارتفاعه على الابتداء، وخبره قوله م: (ضرورة ثبوت) ش: أي لأجل ضرورة ثبوت م: (نقيضه) ش: لأجل ضرورة ثبوت نقيض حكم العقد؛ لأن بطلان الشيء بما ينافيه، والاستعمال ليس بموضوع لإبطال الإيداع ولا ينافيه م: (فإذا ارتفع عاد) ش: أي نقيض م: (حكم العقد) ش: بالعود إلى الوفاق عاد وحكم العقد وهو لزوم الحفظ المأمورية، لأن الارتفاع كان لضرورة ثبوت العقد كما ذكر.
والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، وهي تندفع بإثباته ما دامت المخالفة باقية فلا يتعدى إلى ما بعد ارتفاعه، وعورض بأن الأمر باق فيكون مأموراً بدوام الحفظ وما هذا شأنه فالمخالفة فيه رد للأمر من الأصل كالجحود، فلا يبرأ عن الضمان برفع المخالفة كاعتراف بعد الجحود.
والجواب بما ذكرنا أن بطلان الشيء بما ينافيه أو بما هو موضوع لإبطاله، فلا تكون المخالفة رداً له من الأصل وهي ليست بموضوعة لإبطال الإيداع، ولا ينافيه.
ألا ترى أن الأمر بالحفظ مع الاستعمال صحيح ابتداء بأن يقول للغاصب أودعتك وهو مستعمل، بخلاف الجحود، فإنه قول موضوع للرد، ألا ترى أن الجحود في أوامر الشرع ونهيها يكفر به.
والمخالفة بترك صلاة أو صوم مأمور به ليست رداً، ولهذا لا يكفر.
م: (كما إذا استأجره) ش: نظير المسألة الوديعة بالاستئجار أي كما إذا استأجر رجل رجلاً م: (للحفظ شهراً) ش: أي لحفظ متاعه مدة شهر م: (فترك الحفظ في بعضه ثم حفظ في الباقي) ش: فإنه ترك الحفظ في بعض الأوقات ولم يخرج بذلك عن كونه أميناً.
فإن قلت: هذا النظير غير مستقيم، لأن بقاء كونه أميناً باعتبار أن عقد الإجارة عنده لازم فلا يرتد برده، بخلاف ما نحن فيه.
قلت: العقد اللازم في الانتقاض بعدم تسليم المعقود عليه سواء بالاتفاق كالإجارة والعارية والبيع والهبة ينتقض بعدم تسليم المعقود عليه، ثم في الاستئجار ورد العقد على منفعة الحفظ في المدة، والمنفعة تحدث شيئاً فشيئاً فيترك الحفظ في بعض المدة يبطل العقد في ذلك القدر، ويكون باقياً لبقاء العقد عليه، فكذا في الحفظ بغير بدل.
فإن قلت: المستأجر للدابة إلى مكان إذا جاوزه ثم عاد إليه لم يبرأ، وكذا المستعير إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق لم يبرأ.

(10/117)


فحصل الرد إلى نائب المالك.
قال: فإن طلبها صاحبها فجحدها ضمنها؛ لأنه لما طالبه بالرد فقد عزله عن الحفظ، فبعد ذلك هو بالإمساك غاصب مانع منه فيضمنها، فإن عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد إذ المطالبة بالرد رفع من جهته والجحود فسخ من جهة المودع كجحود الوكيل الوكالة، وجحود أحد المتعاقدين البيع فتم الرفع، أو لأن المودع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لأن البراءة إنما تكون بالإعادة إلى يد المالك، إما حقيقة وإما تقديراً، ويد المستأجر أو المستعير يد نفسه فإنه يستوفي المنافع المملوكة من المحل والمالك فيما يتصرف في المحل يكون عاملاً لنفسه لا لغيره فلا يبرأ عن الضمان، خلافاً لزفر اعتباراً بالوديعة.
م: (فحصل الرد إلى نائب المالك) ش: هذا جواب عن قوله فلا يبرأ إلا بالرد على المالك.
ووجهه أن المودع نائب المالك، فإذا ارتفعت المخالفة وعاد مودعاً، هذا جواب عن قوله فلا يبرأ إلا بالرد على المالك، ووجهه أن المودع نائب المالك، ووجهه أن المودع نائب بذلك، فإذا ارتفعت المخالفة عاد مودعاً جعل الرد نائب المالك.

[الحكم لو طلب وديعته فجحدها المودع]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن طلبها صاحبها فجحدها ضمنها) ش: أي الوديعة، وقيد بالجحود عند الطلب، لأنه إذا جحد عند صاحبها لا بناء على الطلب لا يضمن، كذا في " الخلاصة " م: (لأنه) ش: أي لأن صاحب الوديعة م: (لما طالبه بالرد فقد عزله عن الحفظ، فبعد ذلك هو بالإمساك غاصب مانع منه فيضمنها، فإن عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد) ش: فإذا ارتفع لا يعود إلا بعقد جديد م: (إذ المطالبة بالرد رفع من جهته) ش: أي رفع للعقد من جهة المالك م: (والجحود فسخ من جهة المودع) ش: بفتح الدال م: (كجحود الوكيل الوكالة) ش: يعني بمحضر من الموكل، وذلك لأنه ترك الالتزام فكان فسخاً.
ونقل في " الأجناس " عن نوادر ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا وكل ثم قال: لم أوكله لم يكن رجوعاً وعزلاً عن الوكالة.
ونقل عن وصايا الأصل إذا أوصى ثم أنكر الوصية فقال لم أوص فهو رجوع. قال في " الجامع ": لا يكون رجوعاً، وفي " نوادر ابن شجاع " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أوصى لرجل ثم قال لم أوص له لم يكن رجوعاً. ولو قال: أشهد أني لا أوصي له فهو رجوع، وكذلك لو وكل وكيلاً يبيع عبداً له ثم قال: اشهدوا أني لم أوكله فهو كذب، وهو وكيل. ولو قال إني لا أوكله ببيع العبد فهو عزل، ولو شهدوا عليه بالكفر فجحد وقال ما تلفظت به يكون ذلك توبة ورجوعاً عنه.
م: (وجحود أحد المتعاقدين البيع) ش: أي وكجحود البائع أو المشترى حصول البيع م: (فتم الرفع) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فتم العقد رفع العقد عنهما م: (أو لأن المودع) ش: إشارة

(10/118)


ينفرد بعزل نفسه بمحضر من المستودع كالوكيل يملك عزل نفسه بحضرة الموكل. وإذا ارتفع لا يعود إلا بالتجديد فلم يوجد الرد إلى نائب المالك بخلاف الخلاف ثم العود إلى الوفاق. ولو جحدها عند غير صاحبها لا يضمنها عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الجحود عند غيره من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى تعليل ثان م: (ينفرد بعزل نفسه بمحضر من المستودع) ش: بكسر الدال م: (كالوكيل يملك عزل نفسه بحضرة الموكل، وإذا ارتفع) ش: أي العقد م: (لا يعود إلا بالتجديد) ش: أي بتجديد العقد م: (فلم يوجد الرد إلى نائب المالك) ش: يعني بنفس المودع، لأنه نائب المالك بجحود احتاج إلى التجديد فلم يوجد فلم يكن رداً إلى نفسه، أعني المودع بالفتح فيضمن.
م: (بخلاف الخلاف ثم العود إلى الوفاق) ش: أراد بالخلاف الأول الخلاف في الحكم، وبالخلاف الثاني خلاف المودع بالفعل، يعني إذا خالف فعلا ثم عاد إلى الوفاق يكون العقد على حاله، لأنه باق، إذ الخلاف ليس برد الأمر، لأن الأمر قول، ورد القول بقول مثله، وأما الجحود فهو قول ورد للأمر، لأن الجاحد يكون متملكاً للعين والمالك في ملكه لا يكون مأموراً بالحفظ من جهة غيره.
وفي " الزيادة " هذا كله إذا جحد الوديعة في المنقول، أما لو جحدها في العقار قال السرخسي: لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - في جميع الوجوه.
ومن المشايخ من قال: العقار يضمن بالجحود بلا خلاف وإن كان الغصب لا يتحقق فيه عندهما. وقال الحلواني: في ضمان الجحود في العقار عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان.
م: (ولو جحدها عند غير صاحبها) ش: بأن قال أجنبي: ما حال وديعته م: (لا يضمنها عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافاً لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما خص قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالذكر وإن كان عدم الضمان هو قول أصحابنا الثلاثة.
قيل: لأن هذا الفصل لم يكن مذكوراً في " مبسوط " محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما ذكر في اختلاف زفر ويعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأورده كذلك.
وفي " النهاية ": أو جحدها في وجه المودع من غير أن يطالبه بالرد بأن قال ما حال وديعتي عندك ليشكره على حفظها فجحدها لا يضمنها عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروى بشر عن أبي يوسف إذا جحد الوديعة في وجه عدو يخاف عليها التلف إن أقر ثم هلكت لا يضمنها، لأن الجحود في هذه الصورة جهة من جهات الحفظ، كذا في الذخيرة، وجه قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الجحود سبب للضمان سواء كان عند المالك أو غيره، كالإتلاف حقيقة.
ووجه قول أبي يوسف ما ذكره بقوله م: (لأن الجحود عند غيره) ش: أي غير المودع م: (من

(10/119)


باب الحفظ؛ لأن فيه قطع طمع الطامعين، ولأنه لا يملك عزل نفسه بغير محضر منه أو طلبه فبقي الأمر، بخلاف ما إذا كان بحضرته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باب الحفظ، لأن فيه قطع طمع الطامعين) ش: عن الوديعة، فلا يضمن، وبه قالت الثلاثة م: (ولأنه) ش: أي ولأن المودع بفتح الدال م: (لا يملك عزل نفسه بغير محضر منه) ش: أي من المالك وهو ما عزله م: (أو طلبه) ش: أي أو بغير طلبه، أي طلب المالك، لأن العقد قائم بهما فلا يرتفع إلا بهما م: (فبقي الأمر) ش: أي العقد باعتبار بقائه ليد المالك فلا يضمن، وبه قالت الثلاثة.
م: (بخلاف ما إذا كان) ش: أي الجحود م: (بحضرته) ش: أي بحضرة المالك وقد مر وجهه.
وفي " الأجناس ": أما المودع إذا جحد الوديعة كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: إنه على وجهين إن نقل الوديعة عن الموضع الذي كان فيه حال جحوده وهلكت ضمن، وإن لم ينقلها عن موضعها حتى هلكت لا يضمن.
وفي " المنتقى ": إذا كانت الوديعة أو العارية مما يحول يضمن بالجحود وإن لم يحولها.
وفي الأجناس الأمانة تنقلب مضمونة بالموت إذا لم يبين إلا في ثلاث مسائل: أحدها: متولي الوقف إذا مات ولا يعرف حال علتها الذي أخذها ولم يبين الاحتمال عليه، ذكره في كتاب " الوقف " هلال البصري.
والثانية: السلطان إذا خرج إلى الغزو وغنموا فأودع بعض الوديعة بعض الغانمين ومات ولم يبين عند من أودع لا ضمان عليه، ذكره في السير الكبير.
والثالثة: أحد المتفاوضين في يد مال الشركة ومات ولم يبين لا ضمان عليه، ذكره في الأصل.
وفي " الواقعات ": إذا قال دفعت الوديعة في مكان كذا ونسيت موضعها، وهذا على وجهين: إما أنه لو قال دفنتها في داري أو في كرمي أو في موضع آخر، ففي الوجه الأول والثاني لا يضمن إذا كان للدار والكرم باب، لأنه ليس بتضييع، وفي الوجه الثالث يضمن لأنه تضييع، ونقل في " الأجناس " عن نوادر ابن رستم: إذا ادعى المستودع ضياع الوديعة منذ عشرة أيام فقال صاحب الوديعة أنا أقيم البينة إنها كانت في يدي منذ يومين. وقال المستودع: وجدتها بعد ذلك فضاعت صدق. فإن قال حين خوصم ليس له عندي وديعة ثم قال وجدتها فضاعت ضمن.

(10/120)


قال: وللمودع أن يسافر بالوديعة وإن كان لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: ليس له ذلك إذا كان لها حمل ومؤنة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له ذلك في الوجهين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[السفر بالوديعة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وللمودع أن يسافر بالوديعة وإن كان لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وفي " شرح الأقطع ": هذا الذي ذكره قول أبي حنيفة لا في موضع واحد، وهو أن يكون طعاما كثيرا فإنه يضمن استحسانا إن سافر به لا قياساً.
وقال الإمام الأسبيجابي في " طريقة الخلاف ": إذا كان له حمل ومؤنة فعند أبي حنيفة لا يضمن سواء كان السفر قريباً أو بعيداً. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن سواء كان قريباً أو بعيداً. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان بعيداً يضمن وإلا فلا، ثم قال وأجمعوا إن كان الطريق مخوفاً يضمن كيفما كان، ثم قال: وأجمعوا على أنه لو سافر بالوديعة في البحر يضمن.
وقال قاضي خان في شرح " الجامع الصغير ": وأجمعوا على أن الأب والوصي إذا سافر بمال اليتيم لا يضمن والوكيل بالبيع إذا سافر بما وكل ببيعه، قالوا إن قيده بمكان بأن قال له بعه بالكوفة فسافر به يضمن، وإن أطلق فسافر به لا يضمن إذا سرق أو ضاع فيما لا حمل له ويضمن فيما له حمل ومؤنة.
ثم الواو في قوله وإن كان لوصي والضمير في أوله يرجع إلى الوديعة باعتبار المودع بفتح الدال لأنه يطلق على الوديعة وعلى الذي يقبلها أيضاً كما علم من قبل. وقال الكاكي: بمال الوديعة وفيه نظر لا يخفى، والحمل بفتح الحاء مصدر حمل الشيء، يقال: ما له حمل ومؤنة ما له نقل يحتاج في حمله إلى ظهر أو خبرة حمال وفي الأصل ما له مؤنة في الحمل وهذا هو الأوجه.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (ليس له ذلك) ش: أي السفر بالوديعة م: (إذا كان لها حمل ومؤنة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس له ذلك في الوجهين) ش: أي فيما له حمل ومؤنة وفيما ليس له، وبه قال مالك، وإذا قدر أن يردها على صاحبها ووليه أو الحاكم أو أمين. فأما إذا لم يقدر على أحد منهم لا يضمن للضرورة.
وللشافعي في نقلها من قريته إلى قرية فيما دون مدة السفر إذا كانت المسافة آمنة وجهان، وهذا الخلاف إذا كان الطريق آمناً، فإن كان مخوفاً ضمن بلا خلاف، وإذا كان آمناً وله بد من السفر فكذلك، وإن لم يكن وسافر بأهله لا يضمن، وإن سافر بنفسه ضمن، لأنه أمكنه تركها في أهله، ثم إطلاق قولهما ليس بوضع " الجامع الصغير " ولا " المبسوط " فإنه ذكر في الجامع الصغير أن له أن يخرج خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(10/121)


لأبي حنيفة إطلاق الأمر، والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنا، ولهذا يملك الأب والوصي في مال الصبي. ولهما أنه يلزمه مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة، فالظاهر أنه لا يرضى به فيتقيد به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واختلف أصحابنا بعد، فقال أبو حنيفة: لا يضمن قصر الخروج أو طال، وكان له حمل ومؤنة أو لا. وقال أبو يوسف: إن قصر الخروج لم يضمن بكل حال، وإن طال لم يضمن إلا فيما له حمل ومؤنة. وقال كذلك إلا فيما له مؤنة فإنه له مؤنة فإنه لا يملك وأن يخرج به قصر وأطال.
وفي " المبسوط " بعدما ذكر قول أبي حنيفة قال: إذا قربت المسافة فله أن يسافر بها، وإذا بعدت ليس له ذلك.
م: (لأبي حنيفة إطلاق الأمر) ش: أي أمر الآمر، لأنه أمره بالحفظ مطلقا فلا يتقيد بمكان كما لا يتقيد بزمان م: (والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمناً) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال سلمنا أن إطلاق الأمر يقتضي الجواز، لكن المانع عنه متحقق، وهو كون المفازة ليس محلاً للحفظ.
فأجاب بقوله والمفازة إلى آخره قيد بقوله آمناً لأنه إذا لم يكن آمناً أوجب الضمان م: (ولهذا) ش: أي ولكون المفازة محلاً للحفظ م: (يملك الأب والوصي في مال الصبي) ش: أي يملك السفر الأب والوصي بمال الصغير، فلو كان التلف مظنوناً لما جاز لهما ذلك.
فإن قلت: مسافرتهما بمال الصغير، فلو كان التلف مظنوناً لما جاز لهما ذلك. فإن قلت: بمسافرتهما بمال الصغير للتجارة والناس يخاطرون بها تطمع الربح والمودع ليس كذلك، لأنه ليس له حق التصرف والاسترباح فيها، فلا يكون الاستدلال به على المودع صحيحاً.
قلت: هذا توضيح الاستدلال، ولئن كان استدلالاً فهو صحيح، لأن ولايتهما على مال الصغير نظرية وأولى وجوه النظر غايته عن مواضع التلف، فلو كان في وهم الستر وهم التلف لما جاز، وحيث جاز بالاتفاق انتفى وهم التلف.
هذا حاصل ما ذكره السغناقي وتبعه على ذلك صاحب " الغاية " وصاحب " العناية "، ولكن هو محل المناقشة.
فإن لقائل أن يقول: لا نسلم جواز سفر الأب أو الوصي بمال الصغير، لأن الله أمر بالأحسن في قربان مال اليتيم فأين الأحسن والحسن في المسافرة بماله، ولا نسلم عدم كون السفر وهم التلف، وكون السفر مظنة التلف ومتحقق لا ينكر خصوصا في قيام الفتن بين الخلف. م: (ولهما أنه يلزمه) ش: أي أن المالك يلزمه م: (مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة فالظاهر أنه لا يرضى به فيتقيد به) ش: أي سفره بما ليس له حمل ومؤنة، لأن فيما له حمل ومؤنة إضرار

(10/122)


والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقيده بالحفظ المتعارف وهو الحفظ في الأمصار وصار كالاستحفاظ بأجر. قلنا مؤنة الرد تلزمه في ملكه ضرورة امتثال أمره فلا يبالي به، والمعتاد كونهم في المصر لا حفظهم، ومن يكون في المفازة يحفظ ماله فيها، بخلاف الاستحفاظ بأجر؛ لأنه عقد معاوضة فيقتضي التسليم في مكان العقد، وإذا نهاه المودع أن يخرج بالوديعة فخرج بها ضمن؛ لأن التقييد مفيد إذ الحفظ في المصر أبلغ فكان صحيحا.
قال: وإذا أودع رجلان عند رجل وديعة فحضر أحدهما وطلب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه.
فإن قلت: كيف يلزمه مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة.
قلت: باعتبار موت المودع في طريق فإنه حينئذ يلزم المالك مؤنة الرد.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقيده) ش: أي يقيد حفظ الوديعة م: (بالحفظ المتعارف وهو الحفظ في الأمصار) ش: أي أسباب الصيانة تتهيأ في الأمصار من كل وجه وفي غيرها من وجه دون وجه م: (وصار كالاستحفاظ بأجر) ش: أي صار حكم الوديعة في الحفظ، كما إذا استأجر رجلاً ليحفظ متاعه شهراً بدرهم فإنه لا يسافر، فلو سافر به يضمن.
م: (قلنا مؤنة الرد تلزمه في ملكه) ش: هذا جواب عن قولهما؛ يعني مؤنة الرد تلزم المالك في ملكه.
تقديره: سلمنا أن المؤنة تلحق المالك، لكنه ليس بمعنى من قبل المودع، بل إنما ذلك م: (ضرورة امتثال أمره) ش: فإنما أمره مطلقاً وهو لا يتقيد بمكان فهو لمعنى يرجع إلى المالك م: (فلا يبالي به) ش: أي يلحق المؤنة، لأنه ضروري وضمني م: (والمعتاد كونهم في المصر) ش: جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي المتعارف كون أهل الأمصار في المصر، يعني المعتاد كون المودعين وقت الإيداع في المصر م: (لا حفظهم) ش: أي ليس المعتاد حفظ المودعين في المصر، ثم أوضح ذلك بقوله م: (ومن يكون في المفازة يحفظ ماله فيها) ش: كأهل الخيام والأخبية، فإنهم يحفظون أموالهم في المفازة ولا ينقلونها إلى الأمصار.
م: (بخلاف الاستحفاظ بأجر، لأنه عقد معاوضة فيقتضي التسليم في مكان العقد) ش: أشار بهذا إلى أن قياس الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالفارق فلا يجوز م: (وإذا نهاه المودع) ش: بكسر الدال إذا نهى المودع رب المال م: (أن يخرج بالوديعة فخرج بها ضمن، لأن التقييد مفيد، إذ الحفظ في المصر أبلغ فكان صحيحاً) ش: أي فكان تقييده صحيحاً.

م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أودع رجلان عند رجل وديعة فحضر أحدهما وطلب

(10/123)


نصيبه منها لم يدفع إليه نصيبه حتى يحضر الآخر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يدفع إليه نصيبه. وفي " الجامع الصغير ": ثلاثة استودعوا رجلا ألفا فغاب اثنان فليس للحاضر أن يأخذ نصيبه عنده. وقالا: له ذلك، والخلاف في المكيل والموزون وهو المراد بالمذكور في " المختصر ". لهما أنه طالبه بدفع نصيبه فيؤمر بالدفع إليه كما في الدين المشترك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصيبه منها لم يدفع إليه نصيبه حتى يحضر الآخر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: حتى لو دفع يضمن نصفه.
م: (وقالا: يدفع إليه نصيبه. وفي " الجامع الصغير ": ثلاثة استودعوا رجلاً ألفا فغاب اثنان فليس للحاضر أن يأخذ نصيبه عنده وقالا: له ذلك) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما ذكر رواية الجامع الصغير تنبيهاً على ثلاث فوائد.
الأولي: البينة على أن المواد بموضع الخلاف، وعن إطلاق القدوري الوديعة هو المكيل والموزون لأن المذكور فيه الألف وهو موزون.
الثانية: أن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على الاثنين والجامع الصغير على الثلاثة، ولولا رواية الجامع لكان لقائل أن يقول نصيب الحاضر من الثلاثة أقل من نصيب الغائبين، فيصير مستهلكاً، ويجعل تبعاً للأكثر فلا يوجد من المودع، وأما نصيب الحاضرين الاثنين لا يكون مستهلكاً ولا تابعاً فله أخذه فيه برواية الجامع أن الحكمين سواء.
الثالثة: أنه ذكر في كتاب " الوديعة ": القاضي لا يأمر المودع بالدفع ويوهم ذلك أن يأخذه ديانة، فلما قال في " الجامع ": ليس له أن يأخذ زالت هذه الشبهة وتلفت هذه المسألة بمسألة الحمامي وحكايته أن رجلين دخلا الحمام وأودعا عند الحمامي همياناً من ذهب فخرج أحدهما قبل صاحبه، وأخذ الهميان وذهب به وخرج الآخر وطالبه بالهميان، ولعلهما تواطئا على ذلك، فتحير الحمامي، فقيل: فيصل هذا الأمر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فذهبوا إليه وقصوا عليه القصة، فقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقل دفعته إلى صاحبك، ولكن قل لا أدفعه إليك حتى تحضر صاحبك فانقطع الرجل وترك الحمامي.

[الخلاف بين صاحب الوديعة والمودع حول قيمتها]
م: (والخلاف في المكيل والموزون، وهو المراد بالمذكور في " المختصر ") ش: أي مختصر القدوري، ذكر هذا احترازاً من ذوات الأمثال حتى إذا كانت الوديعة والعبد والدواب ليس للحاضر أن يأخذ بالإجماع.
م: (لهما.) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي الحاضر م: (طالبه) ش: أي طالب المودع م (بدفع نصيبه فيؤمر بالدفع إليه) ش: لأنه مالك لنصيبه حقيقة فلا يتعذر عليه قبض نصيبه بغية الآخر م: (كما في الدين المشترك) ش: أي كما يطلب الحاضر في

(10/124)


وهذا لأنه يطالبه بتسليم ما سلم إليه وهو النصف. ولهذا كان له أن يأخذه فكذا يؤمر هو بالدفع إليه، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه طالبه بدفع نصيب الغائب لأنه يطالبه بالمفرز وحقه في المشاع والمفرز المعين يشتمل على الحقين ولا يتميز حقه إلا بالقسمة وليس للمودع ولاية القسمة، ولهذا لا يقع دفعه قسمة بالإجماع، بخلاف الدين المشترك لأنه يطالبه بتسليم حقه لأن الديون تقتضي بأمثالها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدين المشترك بأن باعا عبداً مشتركاً إذا حضر أحدهما كان له أن يطالب المديون، فكذا هذا م: (وهذا) ش: أي توضيح لما ذكره م: (لأنه يطالبه بتسليم ما سلم إليه) ش: أي لأن الحاضر يطلب المودع بتسليم ما سلم إليه من الوديعة م: (وهو النصف، ولهذا كان له) ش: أي للمودع م: (أن يأخذه) ش: أي أن يأخذ نصيبه الذي هو النصف م: (فكذا يؤمر هو بالدفع إليه) ش: أي كما أن له أن يأخذ، فكذا يؤمر بالدفع إلى المالك الحاضر.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه طالبه) ش: أي أن الحاضر طالب المودع م: (بدفع نصيب الغائب، لأنه يطالبه بالمفرز) ش: أي المقسوم، وليس له فيه حق م: (وحقه في المشاع والمفرز المعين يشتمل على الحقين) ش: أي حق الحاضر والغائب م: (ولا يتميز حقه إلا بالقسمة، وليس للمودع ولاية القسمة) ش: لأنه ليس بوكيل في ذلك: م: (ولهذا لا يقع دفعة قسمة بالإجماع) ش: حتى لو ملك الباقي في يد المودع ثم حضر الغائب له أن يشاركه في المأخوذ بالإجماع. فثبت أن القسمة ليست بنافذة.
م: (بخلاف الدين المشترك، لأنه يطالبه بتسليم حقه) ش: أي حق المديون، لأنه يسلم مال نفسه لا مال غيره م: (لأن الديون تقضي بأمثالها) ش: لا بأعيانها، فدفعه نصيب الحاضر يصرف في ملك نفسه وليس فيه قسمة على الغائب، أما المودع يدفع مال الغير. ألا ترى إذا غاب واحد وله عند آخر دين في الوديعة فجاء رجل وادعى الوكالة منه يقبض الدين والوديعة فصدقه أمر بتسليم الدين دون الوديعة وقد نظر صاحب " العناية " في صرف الشراح الضمير في قوله بتسليم حقه إلى المديون.
وقال: لأن الإنسان لا يؤمر بالتصرف في ماله بالدفع إلى من لا يجب له عليه ذلك والحق أن الضمير في حقه للشريك لا للمديون، ومعناه لأن الشريك يطالب المديون بتسليم، أي بقضاء حقه، وحقه من حيث القضاء ليس بمشترك بينهما، لأن الديون تقضي بأمثالها، والمثل مال المديون ليس بمشترك بينهما، والقضاء إنما يقع بالمقاصة، وفي نظره نظر؛ لأن عبارة المصنف تشعر بأن الضمير يرجع إلى المديون على ما لا يخفى. وقوله: لأن الإنسان لا يؤمر إلى آخره ليس كذلك؛ لأن المأمور هنا بالدفع، وإنما هو إلى من يجب له عليه ذلك، ولا كلام في عدم جواز الأمر بالدفع إلى من لا يجب عليه ذلك فافهم.

(10/125)


وقوله: له أن يأخذه، قلنا: ليس من ضرورته أن يجبر المودع على الدفع، كما إذا كان له ألف درهم وديعة عند إنسان وعليه ألف لغيره فلغريمه أن يأخذه إذا ظفر به، وليس للمودع أن يدفعه إليه.
قال: وإن أودع رجل عند رجلين شيئا مما يقسم لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر، ولكنهما يقتسمانه فيحفظ كل واحد منهما نصفه، وإن كان مما لا يقسم جاز أن يحفظه أحدهما بإذن الآخر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذلك الجواب عنده في المرتهنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقوله: له أن يأخذه) ش: جواب عن قولهما: ولهذا كان له أن يأخذه والضمير في قوله يرجع إلى القائل المعهود في الذهن، أي قول القائل نصرة لقولهما كذا وكذا م: (قلنا: ليس من ضرورته أن يجبر المودع على الدفع) ش: يعني ليس من ضرورة جواز الأخذ استلزام جبر المودع على الدفع، لأن الجبر ليس من ضرورات الجواز يعني من لوازمه لانفكاكه عنه م: (كما إذا كان له ألف درهم وديعة عند إنسان وعليه) ش: أي على المودع بالكسر م: (ألف لغيره فلغريمه) ش: أي فلغريم المودع بالكسر م: (أن يأخذه) ش: أي الألف م: (إذا ظفر به) ش: إذا كان من جنس حقه.
قيل في تأويل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لصاحب الحق يد ولسان» : أن المراد أخذ حقه إذا ظفر به م: (وليس للمودع أن يدفعه إليه) ش: أي الغريم، فدلت هذه المسألة على أن الجبر ليس من لوازم الجواز للانفكاك.

[أودع رجل عند رجلين شيئاً مما يقسم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن أودع رجل عند رجلين شيئاً مما يقسم) ش: وهو الذي لا يتعيب بالتفريق الحسي كالمكيل والموزون وما لا يقسم هو ما يتعيب به كالعبد والدابة والثوب الواحد ونحوها م: (لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر، ولكنهما يقتسمانه، فيحفظ كل واحد منهما نصفه) ش: لأن المالك رضي بحفظها، واجتماعهما على حفظ الكل متعذر فيؤمران بالقسمة، لأن المالك قد رضي بها حيث علم بذلك والثابت دلالة كالثابت صريحاً. وإذا دفع أحدهما كله إلى الآخر ضمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وإن كان مما لا يقسم جاز أن يحفظه أحدهما بإذن الآخر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا التفصيل عند أبي حنيفة م: (وكذلك الجواب عنده في المرتهنين) ش: بأن رهن رجل عند رجلين ما يمكن قسمته فدفع أحدهما إلى الآخر ضمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -

(10/126)


والوكيلين بالشراء إذا سلم أحدهما إلى الآخر. وقالا: لأحدهما أن يحفظ بإذن الآخر في الوجهين. لهما أنه رضي بأمانتهما فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر ولا يضمنه كما فيما لا يقسم. وله أنه رضي بحفظهما ولم يرض بحفظ أحدهما كله؛ لأن الفعل متى أضيف إلى ما يقبل الوصف بالتجزي تناول البعض دون الكل، فوقع التسليم إلى الآخر من غير رضاء المالك فيضمن الدافع ولا يضمن القابض؛ لأن مودع المودع عنده لا يضمن، وهذا بخلاف ما لا يقسم؛ لأنه لما أودعهما ولا يمكنهما الاجتماع عليه آناء الليل والنهار وأمكنهما المهايأة كان المالك راضيا بدفع الكل إلى أحدهما في بعض الأحوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلافاً لهما، ذكره في " المبسوط " م: (والوكيلين بالشراء إذا سلم أحدهما إلى الآخر) ش: بأن وكل رجل رجلين بشراء شيء؛ فدفع إليهما مالاً مما يقسم فدفعه إلى الآخر فضاع عنده ضمن النصف، وكذا المستصنعين والوصيين والعدلين في الرهن إذا سلم أحدهما إلى الآخر.
م: (وقالا: لأحدهما أن يحفظ بإذن الآخر في الوجهين) ش: يعني فيما يقسم وفيما لا يقسم م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه رضي بأمانتهما، فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر ولا يضمنه، كما فيما لا يقسم) ش: هما قاسا ما يقسم على ما لا يقسم، والجامع وجود الرضا دلالة في الدفع لاعتماده على أمانتهما.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي المالك م: (رضي بحفظهما ولم يرض بحفظ أحدهما كله) ش: أي بحفظ أحد المودعين كل المودع بالفتح م: (لأن الفعل متى أضيف إلى ما يقبل الوصف بالتجزي تناول البعض دون الكل) ش: فإذا سلم الكل إلى الآخر م: (فوقع التسليم إلى الآخر من غير رضاء المالك فيضمن الدافع ولا يضمن القابض؛ لأن مودع المودع عنده لا يضمن) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والدال فيهما مفتوحة م: (وهذا) ش: إشارة إلى بيان الفرق بين ما يقسم وما لا يقسم.
م: (بخلاف ما لا يقسم لأنه لما أودعهما ولا يمكنهما الاجتماع عليه) ش: أي على المودع م: (آناء الليل والنهار) ش: أي ساعاتهما وهو جمع أنى على وزن معى، ويقال أنى وأنوه م: (وأمكنهما المهايأة) ش: وهي القسمة والتناوب م: (كان المالك راضياً بدفع الكل إلى أحدهما في بعض الأحوال) ش: هذا ظاهر.
وقال في " المبسوط ": قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أقيس، فإن رهناه بأمانة اثنين لا يكون رضاً بأمانة واحد، فإذا كان الحفظ مما يتأتى منهما عادة لا يصير راضيا بحفظ أحدهما للكل.

(10/127)


وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمها إلى زوجتك فسلمها إليها لا يضمن. وفي " الجامع الصغير ": إذا نهاه المودع أن يدفعها إلى أحد من عياله فدفعها إلى من لا بد منه لا يضمن، كما إذا كانت الوديعة دابة فنهاه عن الدفع إلى غلامه، وكما إذا كانت شيئا يحفظ على يد النساء فنهاه عن الدفع إلى امرأته وهو محمل الأول؛ لأنه لا يمكن إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط، وإن كان مفيدا فيلغو. وإن كان له منه بد ضمن لأن الشرط مفيد؛ لأن من العيال من لا يؤتمن على المال وقد أمكن العمل به مع مراعاة هذا الشرط فاعتبر وإن قال: احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار لم يضمن؛ لأن الشرط غير مفيد، فإن البيتين في دار واحدة لا يتفاوتان في الحرز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمها إلى زوجتك فسلمها إليها]
م: (وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمها إلى زوجتك فسلمها إليها لا يضمن) ش: لأن هذا الشرط لا يفيد فصار لغواً؛ لأنه لم يكن له بد من التسليم إليها.
م: (وفي " الجامع الصغير ": إذا نهاه المودع) ش: بكسر الدال م: (أن يدفعها إلى أحد من عياله فدفعها إلى من لا بد منه لا يضمن، كما إذا كانت الوديعة دابة فنهاه عن الدفع إلى غلامه، وكما إذا كانت شيئاً يحفظ في يد النساء فنهاه عن الدفع إلى امرأته) ش: بعدم شرط الإفادة كما ذكرنا م: (وهو محمل الأول) ش: أي المذكور في الجامع الصغير؛ محمل كما ذكره القدوري مطلقاً، بأنه حتى لا يضمن إذا كان له منه بد، فإن كانت الوديعة شيئا حقيقياً يمكنه استصحابه بنفسه؛ كالخاتم ونحوه فدفعه إلى عياله ضمن م: (لأنه لا يمكن إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط، وإن كان مفيداً فيلغو) ش: لأنه شرط تناقض أصله فكان باطلا.
م: (وإن كان له منه بد ضمن) ش: أي وإن كان المودع منه أي من عياله بد أي: فراق بأن كان فيهم من لا يوثق بأمانته فنهاه رب المال عن الدفع إليه ضمن م: (لأن الشرط مفيد؛ لأن من العيال من لا يؤتمن على المال وقد أمكن العمل به) ش: أي بتعين المودع عدم الدفع إلى من في عياله م: (مع مراعاة هذا الشرط فاعتبر) ش: لأنه شرط مفيد، وأمكن العمل به والشرط المفيد إنما يلغو إذا لم يمكن العمل به.
وعلى هذا إذا نهى عن الدفع إلى امرأته وله امرأة أخرى أمينة أو عن الحفظ في الدار وله أخرى فخاف فهلك ضمن. وإذا نهى عن الدفع إلى امرأته وليس له سواها فخالف لا يضمن، لأن الأول غير مقيد والثاني غير مقدور العمل.

[قال احفظ الوديعة في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار]
م: (وإن قال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار لم يضمن، لأن الشرط غير مفيد، فإن البيتين في دار واحدة لا يتفاوتان في الحرز) ش: غالباً، حتى لو تفاوتا ضمن.
وقالت الثلاثة: إن نقلها إلى بيت دونه يضمن، ولو نهاه عن الحفظ في غير هذا البيت

(10/128)


وإن حفظها في دار أخرى ضمن؛ لأن الدارين يتفاوتان في الحرز، فكان مفيدا فيصح التقييد.

وإن حفظها في دار أخرى ضمن؛ لأن الدارين يتفاوتان في الحرز، فكان مفيدا فيصح التقييد. ولو كان التفاوت بين البيتين ظاهرا بأن كانت الدار التي فيها البيتان عظيمة، والبيت الذي نهاه عن الحفظ فيه عورة ظاهرة صلح الشرط. قال: ومن أودع رجلا وديعة فأودعها آخر فهلكت فله أن يضمن للأول وليس له أن يضمن الآخر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: له أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الأول يرجع على الآخر، وإن ضمن الآخر رجع على الأول. لهما أنه قبض المال من يد ضمين فيضمنه كمودع الغاصب، وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعندهم يضمن في الحفظ في بيت آخر سواء كان مثله أو دونه لمخالفته أمر صاحبها، وعندنا في الأمر، وفي النهي لا يضمن إذا لم تتفاوت البينات م: (وإن حفظهما في دار أخرى ضمن، لأن الدارين يتفاوتان في الحرز فكان) ش: أي الشرط م: (مفيدًا فيصح التقييد) ش: لإمكان العمل به.

م: (ولو كان التفاوت بين البيتين ظاهرًا بأن كانت الدار التي فيها البيتان عظيمة والبيت الذي نهاه عن الحفظ فيه عورة ظاهرة) ش: أي خللًا ظاهرًا.
وكل أمر يتخوف منه فهو عورة، وكذلك كل أمر يستحق منه ومنه عورة الإنسان وعورات الجبال شقوقها، ويقال عورة المكان إذا بدا منه موضع خلل، أو كذلك أعور الفارس ورجل أعور مختل العين م: (صلح الشرط) ش: لكونه مفيدًا.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن أودع رجلا وديعة فأودعها) ش: أي المودع أودعها رجلًا م: (آخر فهلكت فله) ش: أي فللمالك م: (أن يضمن للأول) ش: أي المودع الأول م: (وليس له أن يضمن الآخر) ش: أي مودع المودع م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، ثم المودع يضمن بالوديعة إلى غيره بلا خلاف عند أكثر الفقهاء، وعند ابن أبي ليلى لا يضمن. وفي " الذخيرة ": إنما يضمن المودع الأول بالإيداع إذا هلكت الوديعة بعد أن يفارق الأول الثاني. أما لو هلكت قبل المفارقة لا يضمن بمجرد الدفع إليه، وإنما يضمن بالتضييع.
م: (وقالا: له أن يضمن أيهما شاء) ش: أي المودع أو مودع المودع، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية م: (فإن ضمن الأول لا يرجع على الآخر، وإن ضمن الآخر رجع على الأول) ش: أي فإن ضمن المالك المودع الآخر رجع المودع الآخر على المودع الأول؛ لأنه مغرور من جهة فإنه أودعه على أنه ملكه وأنه لا يلحقه ضمان بالهلاك في يده، فإذا لحقه الضمان رجع عليه.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي أن المودع الثاني م: (قبض المال من يد ضمين فيضمنه كمودع الغاصب) ش: ومودع المشتري م: (وهذا) ش: توضيح

(10/129)


لأن المالك لم يرض بأمانة غيره فيكون الأول متعديا بالتسليم، والثاني بالقبض فيخير بينهما، غير أنه إذا ضمن الأول لم يرجع على الثاني؛ لأن ملكه بالضمان فظهر أنه أودع ملك نفسه. وإن ضمن الثاني رجع على الأول؛ لأنه عامل له فيرجع عليه بما لحقه من العهدة، وله أنه قبض المال من يد أمين؛ لأنه بالدفع لا يضمن ما لم يفارقه لحضور رأيه فلا تعدي منهما، فإذا فارقه فقد ترك الحفظ الملتزم فيضمنه بذلك، وأما الثاني فمستمر على الحالة الأولى ولم يوجد منه صنع فلا يضمنه، كالريح إذا ألقت في حجره ثوب غيره. قال: ومن كان في يده ألف فادعاها رجلان كل واحد منهما أنها له أودعها إياه وأبى أن يحلف لهما، فالألف بينهما وعليه ألف أخرى بينهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لوجه زمان الثاني م: (لأن المالك لم يرض بأمانة غيره فيكون الأول متعديًا بالتسليم، والثاني بالقبض فيخير) ش: أي المالك م: (بينهما) ش: أي بين تضمين الأول وبين تضمين الثاني م: (غير أنه إذا ضمن الأول لم يرجع) ش: أي الأول م: (على الثاني لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه أودع ملك نفسه وإن ضمن الثاني رجع على الأول لأنه عامل له) ش: في القبض والحفظ م: (فيرجع عليه بما لحقه من العهدة) ش: وهو الضمان.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن المودع الثاني م: (قبض المال من يد أمين لأنه) ش: أي المودع الأول م: (بالدفع لا يضمن ما لم يفارقه لحضور رأيه فلا تعدي منهما) ش: أي من المودع الأول والمودع الثاني، ما داما مجتمعين م: (فإذا فارقه) ش: أي الأول الثاني م: (فقد ترك الحفظ الملتزم فيضمنه بذلك) ش: أي بسبب تركه الحفظ الملتزم م: (وأما الثاني) ش: أي المودع الثاني م: (فمستمر على الحالة الأولى) ش: وهو القبض من أمين م: (ولم يوجد منه صنع فلا يضمنه كالريح إذا ألقت في حجره ثوب غيره) ش: فهلكت حيث لا يضمن؛ لأنه لم يوجد منه صنع بخلاف مودع الغاصب؛ لأن الأول بمجرد الدفع متعد وللثاني بالأخذ.

[كان في يده ألف فادعاها رجلان كل واحد منهما أنها وديعة له]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وما كان في يده ألف فادعاها رجلان كل واحد منهما) ش: أي ادعى كل واحد منهما م: (أنها) ش: أي الألف م: (له أودعها إياه وأبى) ش: أي امتناع صاحب اليد م: (أن يحلف لهما فالألف بينهما) ش: وفي بعض النسخ فالألف لهما.
م: (وعليه) ش: أي على صاحب اليد م: (ألف أخرى بينهما) ش: أي بين المودعين. وصورة المسألة في " الجامع ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في ألف درهم في يدي رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يدعى أنه أودعها إياه فأبى أن يحلف لهما قال تكون هذه الألف بينهما، ويغرم ألفًا أخرى فيكون بينهما نصفين انتهى.
وقال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير ": وفي قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب عليه إلا دفع الألف بعينها؛ لأنه لم يأخذ إلا ألفًا واحدة فلا يجب على ألف أخرى.

(10/130)


وشرح ذلك أن دعوى كل واحد صحيحة لاحتمالها الصدق فيستحق الحلف على المنكر بالحديث، ويحلف لكل واحد على الانفراد لتغاير الحقين، وبأيهما بدأ القاضي جاز لتعذر الجمع بينهما وعدم الأولوية، ولو تشاحا أقرع بينهما تطييبا لقلبهما ونفيا لتهمة الميل. ثم إن حلف لأحدهما يحلف للثاني، فإن حلف فلا شيء لهما لعدم الحجة، وإن نكل أعني للثاني يقضي له لوجود الحجة. وإن نكل للأول يحلف للثاني ولا يقضي بالنكول بخلاف ما إذا أقر لأحدهما؛ لأن الإقرار حجة موجبة بنفسه فيقضي به، أما النكول إنما يصير حجة عند القضاء فجاز أن يؤخره ليحلف للثاني فينكشف وجه القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وشرح ذلك) ش: أي الحكم المذكور م: (أن دعوى كل واحد صحيحة لاحتمالها الصدق فيستحق الحلف على المنكر بالحديث) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» م: (ويحلف لكل واحد على الانفراد لتغاير الحقين) ش: لأن كل واحد منهما يدعي ألفًا م: (وبأيهما بدأ القاضي جاز لتعذر الجمع بينهما وعدم الأولوية) ش: لعدم المرجع.
م: (ولو تشاحا) ش: أي لو تنازعا في البداية بالحلف م: (أقرع بينهما تطييبًا لقلبهما ونفيًا لتهمة الميل) ش: أي ميل القاضي إلى أحدهما. م: (ثم إن حلف لأحدهما يحلف للثاني فإن حلف فلا شيء لهما لعدم الحجة) ش: يعني من جهة المدعين م: (وإن نكل أعني للثاني) ش: يعني بعدما حلف للأول م: (يقضي له) ش: أي للثاني م: (لوجود الحجة) ش: وهي النكول م: (وإن نكل للأول يحلف للثاني ولا يقضي بالنكول) ش: يعني للأول؛ لأن الثاني ربما يقول إنما نكل لأنك بدأت بالاستحلاف فلا تنقطع الخصومة بينهما.
فحاصل المسألة على أربعة أوجه؛ لأنه إما أن يحلف لكل منهما أو يحلف للأول منهما وينكل للثاني أو بالعكس، أو ينكل لهما فإن حلف لهما لا شيء لهما، وإن حلف للأول ونكل للثاني فالأول له ببدله أو بإقراره، وإن نكل للأول وحلف للثاني فالألف للأول ولا شيء للثاني، وإن نكل لهما فالألف بينهما وعليه ألف آخر بينهما؛ لأن نكوله أوجب لكل واحد منهما كل الألف ليس معه غيره.
م: (بخلاف ما إذا أقر لأحدهما؛ لأن الإقرار حجة موجبة بنفسه فيقضي به، أما النكول إنما يصير حجة عند القضاء) ش: بإنزاله مقرا أو باذلًا، فحين نكل الأول لم يثبت الحق له م: (فجاز أن يؤخره ليحلف للثاني فينكشف وجه القضاء) ش: فإنه لا يقضي بالألف للأول أو الثاني أو لهما جميعًا؛ لأنه حلف للثاني فلا شيء له والألف كله للأول، ولو نكل للثاني أيضًا كان الألف

(10/131)


ولو نكل للثاني أيضا يقضي بها بينهما نصفين على ما ذكر في الكتاب لاستوائهما في الحجة، كما إذا أقاما البينة ويغرم ألفا أخرى بينهما؛ لأنه أوجب الحق لكل واحد منهما ببذله أو بإقراره وذلك حجة في حقه وبالصرف إليهما صار قاضيا نصف حق كل واحد منهما بنصف حق الآخر، فيغرمه. ولو قضى القاضي للأول حين نكل، ذكر الإمام علي البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير " أنه يحلف للثاني، وإذا نكل يقضي بها بينهما؛ لأن القضاء للأول لا يبطل حق الثاني؛ لأنه يقدمه إما بنفسه أو بالقرعة، وكل ذلك لا يبطل حق الثاني وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ينفذ قضاؤه للأول ووضع المسألة في العبد، وإنما نفذ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بينهما فلذلك يتوقف على القضاء حتى يظهر وجهه، وهذا بخلاف الإقرار لأحدهما فإنه يقضي بالألف للمقر له لأنه حجة موجبة بنفسه فلا يتوقف على القضاء.

م: (ولو نكل للثاني أيضًا يقضي بها بينهما نصفين على ما ذكره في الكتاب لاستوائهما في الحجة، كما إذا أقاما البينة ويغرم ألفًا أخرى بينهما؛ لأنه أوجب الحق لكل واحد منهما ببذله) ش: أي لأن المودع المنكر أوجب الحق لهما ببذله عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن النكول بذل عنده م: (أو بإقراره) ش: أي عندهما؛ لأن النكول إقرار عندهما م: (وذلك) ش: أي الإقرار أو البذل م: (حجة في حقه) ش: أي في حق المودع المنكر م: (وبالصرف إليهما) ش: أي يصرف المودع الألف إلى المدعيين م: (صار قاضيا نصف حق كل واحد منهما بنصف حق الآخر فيغرمه) ش: أي فيغرم الألف الذي صرف إليهما فيصير ألفان م: (ولو قضى القاضي للأول حين نكل) ش: مع أنه ليس له ذلك.
م: (ذكر الإمام علي البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير " أنه يحلف للثاني) ش: أراد أنه لا ينفذ قضاؤه فيحلف الثاني م: (وإذا نكل يقضي بها بينهما) ش: بالألف ويغرم ألف أخرى بينهما م: (لأن القضاء للأول لا يبطل حق الثاني لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (يقدمه) ش: أي يقدم الأول للحلف م: (إما بنفسه) ش: أراد باختياره لا لدليل أوجب ذلك م: (أو بالقرعة) ش: لتعذر الجمع بينهما م: (وكل ذلك) ش: أي من تقديمه الأول باختياره أو بالقرعة م: (لا يبطل حق الثاني) ش: لأنه فعل ما ليس له فعله، ثم إن الإمام علي البزدوي لم يذكر أنه إذا حلف للثاني ماذا حكمه وذكره أبو الليث في شرح " الجامع الصغير "، فإن حلف يقضي بنكوله للأول، وإن نكل له أيضًا يقضي بنكوله لهما.
م: (وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ينفذ قضاؤه للأول) ش: يعني يكون كل الألف له ولا يكون بينهما م: (ووضع) ش: أي الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (المسألة في العبد) ش: بأن كان في يده عبد فادعاه رجلان كل واحد أنه له وأودعه إياه م: (وإنما نفذ) ش: أي قضاء القاضي الأول م:

(10/132)


لمصادفته محل الاجتهاد، ولأن من العلماء من قال يقضي للأول ولا ينتظر لكونه إقرار دلالة، ثم لا يحلف للثاني ما هذا العبد لي؛ لأن نكوله لا يفيد بعدما صار للأول، وهل يحلفه بالله ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته وهو كذا وكذا ولا أقل منه، قال: ينبغي أن يحلفه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناء على أن المودع إذا أقر بالوديعة ودفع بالقضاء إلى غيره يضمنه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا له وهذه فريعة تلك المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لمصادفته محل الاجتهاد؛ ولأن من العلماء من قال يقضي للأول) ش: أي بالنكول م: (ولا ينتظر) ش: أي القاضي م: (لكونه) ش: أي لكون النكول م: (إقرار دلالة) ش: لأن امتناعه عن اليمين يدل على الإقرار م: (ثم لا يحلف للثاني) ش: أي للمدعى الثاني م: (ما هذا العبد لي) ش: يعني لا يحلفه بالاقتصار على لفظ العبد لي، بل يضم إليه ولا قيمته م: (لأن نكوله لا يفيد بعد ما صار للأول) ش: أراد أنه لما أقر به للأول وثبت له حق الأول فلا يفيد إقراره به للثاني؛ لأنه لا يمكنه دفعه إلى الثاني بعد ذلك م: (وهل يحلفه بالله ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته وهو كذا وكذا ولا أقل منه قال) ش: أي الخصاف: م: (ينبغي أن يحلفه) ش: على هذا الوجه م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافًا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناء على أن المودع إذا أقر بالوديعة) ش: لإنسان م: (ودفع بالقضاء إلى غيره) ش: أي غير المقر له م: (يضمنه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يضمن ما أقر من الوديعة؛ لأنه أقر بالتزام الحفظ، فمتى أقر به الإنسان فقد سلطه على الأخذ فصار تاركًا للحفظ الواجب عليه بالعقد فيضمن، كما لو دل على فاعل السرقة.
م: (خلافا له) ش: أي لأبي يوسف؛ لأن بمجرد الإقرار لم يفت على الثاني شيء، وإنما الفوت بالدفع بإكراه القاضي فلا يكون موجبًا للضمان، وهذا الخلاف كما علمت فيما إذا كان الدفع بالقضاء، وأما إذا كان بلا قضاء بأن أقر بالوديعة لإنسان ثم قال: أخطأت، بل هي هذا، كان عليه أن يدفعها إلى الأول؛ لأن إقراره بها صحيح ورجوعه بعد ذلك باطل ويضمن للآخر قيمتها لأنه صار مستهلكًا على الثاني لإقراره بها للأول، فيضمن قيمتها، وهذا بالاتفاق.
فإن قلت: ما وجه بناء المسألة المتقدمة على المسألة الثانية؟
قلت: لأن النكول إقرار فبالإقرار بالوديعة ضمن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا بالنكول فيأتي التحليف، وعند أبي يوسف: لا يضمن ثمة بالإقرار وكذا هنا بالنكول فلا فائدة في التحليف.
م: (وهذه) ش: أي هذه المسألة التي ذكرناها من تحليف القاضي المودع الثاني بعد قضائه للأول ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته م: (فريعة تلك المسألة) ش: يعني المسألة التي اختلف أبو

(10/133)


وقد وقع فيه بعض الإطناب، والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوسف ومحمد - رحمهما الله - فيها في الضمان وعدمه، وإنما قال بالتصغير إشارة إلى اختصار تلك المسألة وكثرة فروع المسألة التي اختلف فيها أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله، وأشار إلى ذلك بقوله م: (وقد وقع فيه بعض الإطناب والله أعلم) ش: أي التطويل، يعني دفع الإطناب في الأصل في باب إقرار الرجل بالمال، وكان ينبغي أن يقول فيها؛ لأن مسألة مؤنث، ولكن التذكير إما باعتبار المذكور وإما تسامحًا، فإن الفقهاء يتسامحون في العبارات.
ومن جملة تفريعات تلك المسألة ما لو قال المودع أودعتها أحدكما ولا أدري أيكما، فالمدعيان إذا اصطلحا على أخذها فلهما ذلك، والألف بينهما وليس للمودع الامتناع عن تسليم الألف إليهما، وإن لم يصطلحا ويدعي كل أن الألف له فإنه يحلف لكل واحد.
وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله: يكفي يمين واحدة ثم إن حلف لهما قطع دعواهما في قول أبي يوسف، وفي قول محمد لهما أن يصطلحا بهذا الاستحلاف على أخذ الألف بينهما، ولو نكل قضى بألف بينهما وضمن ألفًا أخرى بينهما.
وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله: لا يضمن ألفًا أخرى، بل يقرع بينهما عند أحمد أو يصطلحا عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن حلف لأحدهما ونكل للآخر قضى بألف للذي نكل ولا يبيع للذي حلفه، وكذا لو قال: علي ألف هذا، أو هذا، أو كل واحد يدعيها فهو على هذه الوجوه والله أعلم.

(10/134)