البناية
شرح الهداية كتاب العارية
قال: العارية جائزة؛ لأنه نوع إحسان قال: وقد استعار النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دروعا من صفوان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب العارية]
[تعريف العارية]
م: (كتاب العارية) ش: وجه المناسبة بين الكتابين أن كلًا منهما أمانة،
ويجوز في بابها التخفيف، والتشديد أفصح. قال في " المغرب ": هي نسبة إلى
العارة اسم من الإعارة، وقال الجوهري: كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها
عار وعيب والعمارة مثل العارية، وقد خطأه على هذا؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باشرها على ما يجيء عن قريب، وقيل: هي مشتقة من
التعاور وهو التناوب، فكأنه جعل للمعير نوبة في الانتفاع في ملكه على أن
تعود النوبة إليه بالاسترداد أي شيء شاء.
ولهذا كانت الإعارة في المكيل والموزون قرضًا؛ لأنه لا ينتفع بها إلا
باستهلاك العين فلا تعود النوبة إليه في ملك العين ليكون عارية حقيقة،
وإنما تعود النوبة إليه في مثلها، وإنما قدم بيان الجواز على تفسيرها لشدة
تعلق الفقه به.
[ما تنعقد به العارية وحكمها]
م: (قال: العارية جائزة؛ لأنه نوع إحسان) ش: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فيكون جائزًا خلافًا لقوم في أنها واجبة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وقد «استعار النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - دروعًا من صفوان» ش: أخرج أبو داود والنسائي عن شريك عن عبد
العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه «صفوان بن أمية أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار منه درعًا يوم حنين، فقال:
أغصب يا محمد، قال: " بل عارية مضمونة» .
(10/135)
وهي تمليك المنافع بغير عوض. وكان الكرخي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: هي إباحة الانتفاع بملك الغير؛ لأنها تنعقد بلفظة
الإباحة ولا يشترط فيها ضرب المدة، ومع الجهالة لا يصح التمليك، وكذلك يعمل
فيها النهي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وسكت عنه، وقال: له شاهد صحيح، ثم
أخرجه عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية أدرعًا وسلاحًا في غزوة
حنين، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعارية
مؤداة، قال: " نعم عارية مؤداة» ، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. وأخرجه
الدارقطني ثم البيهقي عن إسحاق بن عبد الله حدثنا خالد بن عبد الله الحذاء
به.
فإن قلت: في الروايتين إشكال؛ لأن في أحدهما قال: بل عارية مضمونة، وفي
الأخرى قال عارية مؤداة.
قلت: قال صاحب التنقيح: هذا دليل على أن العارية منقسمة إلى مؤداة ومضمونة،
قال: ويرجع ذلك إلى المعير، فإن شرط الضمان كانت مضمونة وإلا فهي أمانة،
قال: وهو مذهب.
وعنه أنها مضمونة بكل حال. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن
إلا إذا فرط فيهما، وسيجيء تحرير الكلام فيه عن قريب إن شاء الله تعالى.
ومقصود المصنف بهذا هاهنا إثبات جواز العارية فقط، وأما بيان حكمها في
الضمان وعدمه، فسيقوله عن قريب.
م: (وهي تمليك المنافع) ش: جنس يتناول الإجارة وغيرها، وقوله م: (بغير عوض)
ش: يخرجها م: (وكان الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: هي إباحة الانتفاع
بملك الغير) ش: ذكر الضمير مع كون العارية مؤنثة إما باعتبار المذكور، وإما
باعتبار أن العارية في الأصل إما مصدر كالعاقبة والكاذبة أو اسم للمصدر،
وكل منهما يستوي فيه التذكير والتأنيث بقوله: قال الشافعي وأحمد - رحمهما
الله، واستدل الكرخي على ذلك بأربعة أوجه:
الأول: هو قوله م: (لأنها تنعقد بلفظة الإباحة) ش: فإن قال المعير: أبحت لك
هذا الثوب مثلًا يكون عارية، والتمليك لا ينعقد بلفظة الإباحة.
الثاني: هو قوله م: (ولا يشترط فيها ضرب المدة، ومع الجهالة لا يصح
التمليك، وكذلك يعمل فيها النهي) ش: أي لا يشترط في العارية بيان المدة
والتمليك يقضي أن تكون المنافع معلومة؛ لأن تمليك المجهول لا يصح ولا يعلم
بضرب المدة وهو ليس بشرط في العارية، فكان تمليكًا للمجهول.
(10/136)
ولا يملك الإجارة من غيره. ونحن نقول: إنه
ينبئ عن التمليك، فإن العارية من العرية وهي العطية، ولهذا تنعقد بلفظة
التمليك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: تمليكًا لما ملكه كالأجير لا يملك نهي المستأجر عن الانتفاع.
الرابع: هو قوله م: (ولا يملك الإجارة من غيره) ش: أي لا يملك المستعير
إجارة ما استعاره، ولو كان تمليكًا جاز له ذلك، كما يجوز للمستأجر أن يؤجر
ما استأجره لتملكه المنافع.
م: (ونحن نقول إنه) ش: أي انعقاد العارية، أو يكون وجه التذكير من الضمير
ما ذكرنا الآن م: (ينبئ عن التمليك، فإن العارية من العرية وهي العطية) ش:
فإذا كانت العارية عطية يكون تمليكًا م: (ولهذا تنعقد بلفظة التمليك) ش:
مثل أن يقول: ملكتك منافع هذه الدار شهرًا، أو جعلت لك سكنى داري هذه
شهرًا، ذكره في " المبسوط ".
وإذا انعقدت بلفظة التمليك يكون تمليكًا. وفي قوله: فإن العارية من العرية
مناقشة؛ لأنه أراد أنها مشتقة من العرية كما قال الأترازي وليس كذلك، فإن
العارية أجوف واوي، ولهذا ذكره أهل اللغة في باب عور، والعرية ناقص وصرف
العلة في لامة فلذلك ذكره أهل اللغة في باب عور، والاشتقاق أن تجد بين
اللفظين تناسبا في اللفظ والمعنى، والمراد من التناسب أن يكون في الحروف
والترتيب كضرب، فإنه مشتق من الضرب والاشتقاق بين عور وعرو.
فإن قلت: هذا الذي ذكرته في الاشتقاق الصغير، وأما الاشتقاق الكبير فلا
يشترط فيه إلا التناسب في اللفظ دون الترتيب كجبذ من الجذب.
قلت: المراد من الاشتقاق حيث أطلق هو الصغير، ولئن سلمنا أن بينهما تناسبًا
في اللفظ، ولكن لا نسلم أن بينهما اشتقاقًا كبيرًا أيضًا لعدم المناسبة في
المعنى، فإن مادة العارية تدل على التناوب أو التداول، ومادة العارية تدل
على الإلهام والإتيان، يقال: عروت عروًا إذا ألهمت به وأتيته طالبًا فهو
معرور، فلأن تعروه الأضياف، وتعتريه أي تغشاه، وإن أراد أن معنى العارية
مأخوذ من معنى العرية فليس كذلك؛ لما نبين لك من اختلاف المعاني في أصل
المادة؛ لأن العرية هي النخلة يجعل صاحبها ثمرها عامًا لرجل محتاج فيعودها
المحتاج أي يأتيها، وهذا معنى العطية.
وتفسير المصنف إياها بقوله: وهي العطية ليس تفسيرًا بحسب اللغة، ولكن لما
كان فيها الأخذ والعطاء أطلق عليها العطية وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما
أدخلت فيها الهاء؛ لأنها أفردت فصارت في عداد الأسماء مثل النطيحة
والأكيلة، ألا ترى أنك إذا أضفت لها النخلة تقول له: نخلة عري فلا يحتاج
إلى الهاء؛ لأن الفعيل إذا كان بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر
(10/137)
والمنافع قابلة للملك كالأعيان. والتمليك
نوعان بعوض وبغير عوض، ثم الأعيان تقبل النوعين، فكذلك المنافع، والجامع
بينهما دفع الحاجة ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك كما في الإجارة فإنها
تنعقد بلفظة الإباحة وهي تمليك، والجهالة لا تفضي إلى المنازعة لعدم
اللزوم، فلا تكون ضائرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمؤنث، والمذكر أصل وأولى. وإن أراد أن حكم العارية كحكم العرية فليس
كذلك؛ لأن المعير له أن يرجع في العارية متى شاء، والعري ليس له ذلك.
م: (والمنافع قابلة للملك كالأعيان) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن
يقال: المنافع أعراض لا تنتفي فلا تقبل التمليك، فأجاب به ثم بنى على ذلك
قوله م: (والتمليك نوعان بعوض وبغير عوض) ش: وهذا لا نزاع فيه م: (ثم
الأعيان تقبل النوعين) ش: أي تمليك العين بعوض كالبيع وتمليكها بغير عوض
كالهبة والصدقة م: (فكذلك المنافع) ش: تقبل النوعين بعوض كالإجارة، وبغير
عوض كالعارية م: (والجامع بينهما دفع الحاجة) ش: أي الجامع بين الأعيان
والمنافع دفع حاجة الناس إلى نوع التمليك، فكما أنهم محتاجون إلى نوع
التمليك في الأعيان، فكذلك محتاجون إلى ذلك في المنافع.
وما قيل: إن هذا استدلال في التعريفات وهي لا تقبله؛ لأن المعرف إذا عرف
شيئا بالجامع والمنافع فإن سلم من النقص فذلك، وإن نقض بكونه غير جامع أو
مانع يجاب عن النقض إن أمكن، وأما الاستدلال فلأنه يكون في التصديقات
وأيضًا فإن هذا قياس في الموضوعات وهو غير صحيح؛ لأن من شرط القياس تعدية
الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره. ولا نص فيه، والموضوعات
ليست بحكم شرعي، وموضعه أصول الفقه، وأيضًا من شرط القياس أن يكون الحكم
الشرعي متعديا إلى فرع نظيره، والمنافع ليست نظير الأعيان، فجوابه أن هذا
التعريف إما لفظي أو رسمي، فإن كان لفظيًا فما ذكر فلبيان المناسبة لا
للاستدلال على ذلك وإن كان رسميًا فما ذكر بيان بخواص يعرف بها المعار،
ولكن لو عرف العارية بأنها عقد على المنافع بغير عوض وجعل المذكور في
الكتاب حكمها يسلم من الشكوك.
م: (ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك) ش: هذا جواب عن قول الكرخي إنها تنعقد
بلفظ الإباحة، ووجه ذلك أنه مجاز م: (كما في الإجارة فإنها تنعقد بلفظة
الإباحة وهي تمليك) ش: أي والحال أنها تمليك م: (والجهالة لا تفضي إلى
المنازعة) ش: هذا جواب عن قوله: ومع الجهالة لا يصح التمليك، ووجهه أن
الجهالة المانعة هي المفضية إلى النزاع، وهذه ليست كذلك م: (لعدم اللزوم)
ش: لأن المعير له أن يفسخ العقد في كل ساعة لكونها غير لازمة م: (فلا تكون)
ش: أي الجهالة م: (ضائرة) ش: يعني مفضية إلى النزاع، بخلاف الإجارة لأنها
عقد معاوضة وتعلقت صفة اللزوم بها فتفضي الجهالة فيها إلى النزاع.
(10/138)
ولأن الملك إنما يثبت بالقبض وهو الانتفاع،
وعند ذلك لا جهالة، والنهي منع عن التحصيل فلا يتحصل المنافع على ملكه، ولا
يملك الإجارة لدفع زيادة الضرر على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: وتصح بقوله أعرتك؛ لأنه صريح فيه، وأطعمتك هذه الأرض؛ لأنه مستعمل
فيه، ومنحتك هذا الثوب، وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد به الهبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الملك إنما يثبت بالقبض) ش: هذا وجه آخر، أي الملك في العارية
يثبت بقبضها م: (وهو الانتفاع، وعند ذلك) ش: أي عند القبض م: (لا جهالة) ش:
لأن عند القبض معلوم، فالجهالة قبله لا تفضي إلى المنازعة، وهذا لو علمت
المنفعة بالتسمية في الإجارة لا يشترط فيها ضرب المدة كما في المصبغ
والخياطة م: (والنهي منع عن التحصيل) ش: هذا جواب عن قوله، وكذلك يعمل فيه
النهي.
ووجهه أن عمل النهي ليس باعتبار أنه ليس في العارية تمليك من حيث إنه
بالنهي يمنع المستعير بحق التملك م: (فلا يتحصل المنافع على ملكه) ش: لكونه
دليل الرجوع والاسترداد لإبطال الملك بعد ثبوته.
م: (ولا يملك بالإجارة) ش: جواب عن قوله: فلا يملك الإجارة من غيره، يعني
إنما لا يملك الإجارة م: (لدفع زيادة الضرر) ش: أي بالمعير؛ لأنه ملكها على
وجه يتمكن من الاسترداد متى شاء، فلو صحت الإجارة منه لم يتمكن من
الاسترداد م: (على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: أراد به عند قوله: وليس
للمستعير أن يؤجر ما استعاره.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وتصح بقوله: أعرتك لأنه صريح فيه) ش: أي حقيقة
في عقد العارية م: (وأطعمتك هذه الأرض لأنه مستعمل فيه) ش: أراد أنه مجاز
في تمليك المنفعة؛ لأن الطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك
عينه وإن أضيف إلى ما لا يطعم عينه كالأرض يراد به أكل غلتها إطلاقًا لاسم
المحل على الحال.
قيل: في عبارته نظر؛ لأنه إذا أراد بقوله: مستعمل أنه مجاز فهو صريح؛ لأنه
مجاز متعارف، والمجاز المتعارف صريح كما عرف في الأصول فلا فرق إذًا بين
العبارتين.
وأجيب بأن: كليهما صريح لكن أحدهما حقيقة، والآخر مجازًا، فأشار إلى الثاني
بقوله: مستعمل، أي مجازًا ليعلم أن الآخر حقيقة.
م: (ومنحتك هذا الثوب) ش: أي أعطيتك؛ لأن منح معناه أعطى، ومنه المنحة: وهي
الناقة أو الشاة يعطيها الرجل الرجل ليشرب لبنها ثم يردها إذا ذهب درها، ثم
كثر حتى قيل في كل من أعطى شيئًا منح م: (وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد
به الهبة) ش: أي بقوله هذا أعني حملتك على هذه الدابة، وقوله: منحتك هذا
الثوب.
(10/139)
لأنهما لتمليك العين، وعند عدم إرادته
الهبة تحمل على تمليك المنافع تجوزا، قال: وأخدمتك هذا العبد لأنه أذن له
في استخدامه، وداري لك سكنى لأن معناه سكناها لك، وداري لك عمري سكنى لأنه
جعل سكناها له مدة عمره، وجعل قوله سكنى تفسيرا لقوله لك؛ لأنه يحتمل تمليك
المنافع فحمل عليه بدلالة آخره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الشيخ حافظ الدين: كان ينبغي أن يقول إذا لم يرد بهما بدليل التعليل،
ثم أجاب بأن الضمير يرجع إلى المذكور، قلت: المذكور شيئان: أحدهما: قوله
ومنحتك هذا الثوب والآخر حملتك على هذه الدابة م: (لأنهما) ش: أي لأن قوله
منحتك هذا الثوب وحملتك على هذه الدابة م: (لتمليك العين) ش: يعني حقيقة م:
(وعند عدم إرادته الهبة تحمل على تمليك المنافع تجوزًا) ش: أي مجازًا من
حيث العرف العام.
واستشكل حافظ الدين هنا أيضًا من وجهين:
الأول: أنه جعل هذين اللفظين حقيقة لتمليك العين، ومجازًا لتمليك المنفعة،
ثم ذكر في كتاب الهبة في بيان ألفاظها وحملتك على هذه الدابة إذا نوى
بالحملان الهبة. وعلل بأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية لكنه يحتمل
الهبة، وهذا تناقض ظاهر.
والثاني: أنهما لما كان التمليك حقيقة، والحقيقة تراد باللفظ بلا نية
عندهم، فعند عدم إرادة الهبة لا يحمل على تمليك المنفعة بل على الهبة.
وتحدى الأترازي بالجواب بقوله: نعم إن لفظ حملتك لا يدل على الإركاب لغة،
ولكن يدل على التمليك عرفًا، يقال: حمل الأمير فلانًا، ويراد التمليك
ويستعمل للعارية أيضًا، قال تعالى: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}
[التوبة: 92] أي لتركبهم، فإذا نوى العارية أو الهبة كان كما نوى، وإن لم
ينو شيئًا كان عارية لإنباء المتيقن بها.
قلت هذا جواب عن الاستشكال الثاني على أنه يدل على أن المصنف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - مال إلى النية لما فقدت، يحمل اللفظ على أولى الاحتمالين وهو
تمليك المنفعة، وهذا خلاف قاعدة الأصول.
م: (قال: وأخدمتك هذا العبد؛ لأنه أذن له في استخدامه) ش: وذلك يكون عارية
م: (وداري لك سكنى؛ لأن معناه سكناها لك) ش: فإذا كان معناه هذا يكون
عارية، م: (وداري لك عمري سكنى؛ لأنه جعل سكناها له مدة عمره، وجعل قوله
سكنى. تفسيرًا لقوله: لك) ش: لأنه منصوب على التمييز من قوله لك م: (لأنه)
ش: أي لأن قوله: لك م: (يحتمل تمليك المنافع) ش: كما يحتمل تمليك العين،
فإذا ميزه تيقنت المنفعة م: (فحمل عليه) ش: أي على تمليك المنافع م:
(بدلالة آخره) ش: أي آخر الكلام، وهذا حمل المحتمل على المحكم؛ لأنه سكنى
في العارية.
(10/140)
قال: وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المنحة مردودة والعارية
مؤداة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الرجوع في العارية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء) ش: فسواء
كانت العارية مطلقة أو مؤقتة. وقال مالك: لا يجوز الرجوع في الموقتة قبل
مضي الوقت فيكون حكمها عنده كالإجارة. وفي " الجواهر ": إذا قال: أعني
بغلامك أو ثورك في حرثي يومًا أو يومين فليس بعارية، بل يرجع إلى حكم
الإجارة، وكل ما كان من هذا القبيل، فحكمه حكم الإجارة في الصحة والفساد.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المنحة مردودة والعارية
مؤداة» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود عن إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم
عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " إلى أن قال " العارية
مؤداة، والمنحة مردودة» . وقال الترمذي: حديث حسن.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الجراح بن مليح البهراني أخبرنا حاتم بن حريث
الطائي سمعت أبا أمامة يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «العارية مؤداة والمنحة مردودة» .
وأخرجه الطبراني في معجمه، وروى هذا الحديث أيضًا من الصحابة عبد الله بن
عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث عبد الله بن عمر، فأخرجه البزار في " مسنده ": حدثنا عبد الله بن
عمر عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العارية مؤداة» .
وأما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأخرجه ابن عدي في "
الكامل " عن إسماعيل ابن أبي زياد السكوني قاضي الموصل أخبرنا سفيان الثوري
عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الزعيم غارم، والدين مقضي، والعارية مؤداة،
والمنحة مردودة» ، وأعله بإسماعيل هذا. وقال: إنه منكر الحديث وعامة ما
يرويه لا يتابع عليه.
وأما حديث أنس فأخرجه الطبراني في " مسند الشاميين " وقد ذكرناه في
الكفالة.
قوله: المنحة بكسر الميم وسكون النون، وقد فسرناها عن قريب، قوله: مردودة
أي يجب ردها. وجه الاستدلال به ظاهر، وفيه تعميم بعد التخصيص لما عرف أن
المنحة عارية خاصة وفيه
(10/141)
لأن المنافع تملك شيئا فشيئا على حسب
حدوثها، فالتمليك فيما لم يوجد لم يتصل به القبض فيصح الرجوع عنه.
قال: والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زيادة مبالغة في أن العارية مستحق الرد.
م: (لأن المنافع تملك شيئًا فشيئًا على حسب حدوثها، فالتمليك فيما لم يوجد
لم يتصل به القبض) ش: لأن المنافع التي لم تحدث لا يتصور فيها القبض م:
(فيصح الرجوع عنه) ش: أي عن ماله الموجود؛ لأن التمليك لا يكون إلا في
الموجود.
[ضمان العارية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن) ش:
وفي بعض النسخ: لم يضمنها. وقيد بقوله: من غير تعد؛ لأن هلاكها بالتعدي
يوجب الضمان بلا خلاف. ولو شرط الضمان في الدابة هل يصح؟ فالمشايخ مختلفون
فيه، كذا في التحفة، وقال في خلاصة الفتاوى: رجل قال لآخر: أعرني ثوبك، فإن
ضاع فأنا ضامن له، قال: لا يضمن، ونقله عن المنتقى.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وبقولنا قال مالك. قلت: في مذهبه تفصيل،
حيث قال: يضمن فيما يخلى هلاكه، ولا يضمن فيما لا يخلى.
وفي " الجواهر ": العارية نوعان: نوع يظهر هلاكه ولا يكاد يخفى كالرباع
والحيوان، فهذا النوع يقبل قول المستعير في هلاكه ما لم يظهر كذبه، وإن لم
يعلم ذلك إلا بقوله.
والنوع الثاني: يخفى هلاكه، ويعاب عليه، وهذا النوع يقبل قول المستعير في
هلاك ما لم تقم بينة له.
فإن قامت فلا ضمان عليه فيه، وكذلك ما علم أنه مغير سببه كالسوس في الثوب
صدقة فيه في كتاب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع يمينه أنه ما أضاعه ولا
أراد فسادًا، فقال أبو إسحاق: وكذلك الفأر على هذا يقرض الثوب، ووافق أشهب
وعبد الحكم في النوع الأول، وخالفا في الثاني فرأيا أنه مضمون على المستعير
على كل تقدير قامت بينة بهلاكه أم لا.
وقال القاضي أبو محمد: والصحيح أنه لا يضمن. قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ
- أيضًا: وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعني عدم الضمان قول على
وابن مسعود والحسن والنخعي والشعبي والثوري، وعمر بن عبد العزيز وشريح
والأوزاعي وابن أبي شبرمة وإبراهيم، وقضى شريح بذلك ثمانين سنة بالكوفة.
وحدث الكرخي في " مختصره " عن الرمادي عن عبد الرزاق عن إسرائيل عن عبد
الأعلى عن محمد بن الحنفية أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا
يضمن العارية، إنما هو المعروف إلا أن
(10/142)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن
لأنه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق فيضمنه، والإذن ثبت ضرورة الانتفاع
فلا يظهر فيما وراءه، ولهذا كان واجب الرد، وصار كالمقبوض على سوم الشراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تحالف، وحدث أيضا بإسناده إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال: العارية بمنزلة الوديعة لا يضمن صاحبها، إلا أن يتعدى.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن لأنه قبض مال غيره لنفسه) ش:
احترز به عن الوديعة؛ لأن قبض المودع فيها لأجل المودع لا لمنفعة نفسه م:
(لا عن استحقاق) ش: أي لا عن استيجاب قبض بحيث لا ينقصد الآخر بدون رضاه،
واحترز به عن المستأجر فإنه يقبض المستأجر لحق له ليس للمالك النقض قبل مضي
المدة بدون رضاه م: (فيضمنه) ش: أي إذا كان كذلك يضمن العارية، وتذكير
الضمير باعتبار المذكور م: (والإذن ثبت ضرورة الانتفاع) ش: هذا جواب عن
سؤال مقدر تقديره أن يقال: قبض بإذنه، ومثله لا يوجب الضمان.
وتحرير الجواب: أن الإذن يثبت ضرورة الانتفاع، والثابت بالضرورة يقدر
بقدرها، والضرورة حالة الاستعمال.
فإن هلكت فيها فلا ضمان، وإن هلكت في غيرها لم يظهر فيه الإذن لكونه وراء
الضرورة، وهو معنى قوله: م: (فلا يظهر فيما وراءه) ش: أي فلا يظهر الإذن
فيما وراء الضرورة، وتذكير الضمير باعتبار المذكور.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الإذن ضروريًا م: (كان واجب الرد) ش: أراد أن مؤنة
الرد واجبة على المستعير كما في الغصب م: (وصار كالمقبوض على سوم الشراء)
ش: فإنه وإن كان بإذن لكن لما كان قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق إذا
هلك ضمن، فكذا هذا، وبقوله قال أحمد وهو قول ابن عباس وأبي هريرة وعطاء
وإسحاق.
وقال قتادة وعبد الله بن الحسن العنبري: إن شرط ضمانها ضمن وإلا فلا، وقال
ربيعة: كل العواري مضمونة، وفي الروضة: إذا تلفت العين في يد المستعير
ضمنها سواء تلفت بآفة سماوية أم بفعله بتقصير أم بلا تقصير، هذا هو
المشهور، وحكي قول أنها لا تضمن إلا بالتعدي وهو ضعيف، ولو أعار بشرط أن
يكون أمانة بقي الشرط وكانت مضمونة.
وفي " حاوي " الحنابلة: إن شرط بقي ضمانها سقط الضمان، وإن تلف حروها
باستعماله كحمل مشقة لم يضمن في أصح الوجهين وإن أركب منقطعًا دابته للثواب
فتلفت لم يضمن.
(10/143)
ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان؛
لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها والقبض لم يقع تعديا لكونه
مأذونا فيه، والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع فهو ما قبضه إلا للانتفاع فلم
يقع تعديا، وإنما وجب الرد مؤنة كنفقة المستعار، فإنها على المستعير، لا
لنقض القبض، والمقبوض على سوم الشراء مضمون بالعقد؛ لأن الأخذ في العقد له
حكم العقد على ما عرف في موضعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان) ش: لأن الضمان إما أن يجب
بالعقد أو بالقبض أو بالإذن وليس شيء من ذلك بموجب له، أما العقد فلأن
اللفظ الذي تنعقد به العارية لا ينبئ عن التزام الضمان م: (لأنه لتمليك
المنافع بغير عوض أو لإباحتها) ش: أي أو لإباحة المنافع على اختلاف القولين
وما وضع لتملك المنافع أو باجتهاد ولإباحتها لا يتعرض ملك الغير حتى يوجب
الضمان عند هلاكه م: (والقبض لم يقع تعديًا لكونه مأذونًا فيه) ش: وإنما
يوجب القبض الضمان إذا وقع تعديًا م: (والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع) ش:
هذا جواب عن قوله: والإذن يثبت ضرورة الانتفاع، وتقريره القول بالموجب يعني
سلمنا أن الإذن لم يكن إلا لضرورة الانتفاع م: (فهو ما قبضه إلا للانتفاع،
فلم يقع تعديًا) ش: فلا ضمان بدونه.
م: (وإنما وجب الرد مؤنة) ش: هذا جواب عن قوله: وهذا كان واجب الرد تقريره
أن وجوب الرد لا يدل على أنه مضمون؛ لأنه واجب لمؤنة القبض الحاصل للمستعير
م: (كنفقة المستعار، فإنها على المستعير لا لنقض القبض) ش: ليدل على أن
القبض لا عن استحقاق فيوجب الضمان بخلاف الغصب، فإن الرد فيه واجب لنقض
القبض لكونه بلا إذن، فإذا لم يوجب الرد وجب الضمان.
م: (والمقبوض على سوم الشراء مضمون) ش: هذا جواب عن قوله: وصار على المقبوض
على سوم الشراء، تقريره أنه ليس بمضمون بالقبض بل بالعقد، وهو معنى قوله م:
(بالعقد؛ لأن الأخذ في العقد له حكم العقد) ش: فصار كالمأخوذ بالعقد، وهو
يوجب الضمان.
فإن قيل: سلمنا أن الأخذ في العقد، ولكن لا عقد هاهنا.
أجيب: بأن العقد وإن كان معدومًا حقيقة جعل موجودًا تقريرًا صيانة أموال
الناس عن الضياع، إذ المالك لم يرض بخروج ملكه مجانًا، وأن المقبوض على سوم
الشراء وسيلة إليه، فأقيم مقام الحقيقة نظرًا له، إلا أن الأصل في ضمان
العقود هو القيمة لكونها مثلًا كاملا، وإنما يصار إلى الثمن عند وجوب العقد
حقيقة، وإذا لم يوجد صير إلى الأصل.
م: (على ما عرف في موضعه) ش: قيل: يريد به نسخ طريقة الخلاف، وقيل: كتاب
الإجارات من " المبسوط ". وقال الحاكم في " كافيه ": رجل استعار من رجل
سلاحًا ليقاتل به فضرب بالسيف فانقطع نصفين أو طعن بالرهن فحينئذ انكسر،
قال: لا ضمان عليه لأنه هلك
(10/144)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من عمل مأذون فيه. وفي " فتاوى الولوالجي ": رجل دخل الحمام واستعمل قضاع
الحمام فانكسرت لا ضمان عليه، وكذا إذا كور الفقاع ليشرب سقط وانكسر لا
ضمان عليه؛ لأنه عارية في يده.
فإن قلت: ما تقول في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل
عارية مضمونة» وقد مر في أول الكتاب بتمامه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» . أخرجه
الترمذي عن شريك وقيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
... الحديث، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما
أخذت حتى تؤديه» أخرجه البيهقي من حديث قتادة عن الحسن عن سمرة عنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثم إن الحسن نسي حديثه، فقال: هو
أمينك فلا ضمان عليه.
قلت: الحديث الأول فيه اضطراب سندًا ومتنًا، وجميع وجوهه لا تخلو عن نظر،
ولهذا قال صاحب " التتمة ": الاضطراب فيه كثير ولا حجة فيه عندي في تضمين
العارية، ثم على تقدير صحة قوله: مضمونة المراد عليك بدليل قوله: حتى
يؤديها إليك، ويحتمل أن يريد اشتراط الضمان والعارية يشترط الضمان مضمونة
في رواية للحنفية.
وأخرج النسائي عن يعلى بن أمية، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتتك رسلي فأعظم ثلاثين درعًا وثلاثين مغفرًا»
.
فإن قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعارية
مؤداة، قال: بل عارية مضمونة. قال ابن حزم: حديث حسن ليس في شيء مما روي في
العارية خبر صحيح غيره، وأما ما سواه فليس بمساوي الاشتغال به، وقد فرق بين
الضمان والأداء، وقيل: إنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«بل عارية مضمونة» ؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ دروع صفوان بغير
رضاه بدليل قوله: أغصبًا، إلا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان محتاجًا إلى
السلاح، فكان الأخذ له حلالًا، ولكن يشترط الضمان كتناول مال الغير في حالة
المخمصة بشرط الضمان.
وقال الأترازي: وقيل: كان هذا اشتراط الضمان على نفسه، وبه أخذ قتادة،
وعندنا
(10/145)
قال: وليس للمستعير أن يؤجر ما استعاره،
فإن أجره فعطب ضمن؛ لأن الإعارة دون الإجارة، والشيء لا يتضمن ما هو فوقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المستعير لا يضمن بالشرط أيضًا، ولكن صفوان كان يومئذ حربيًا، ويجوز بين
المسلم والحربي من الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين، وقد تقدم الآن أن
العارية بشرط الضمان مضمونة في رواية، وأخرج عبد الرزاق في " مصنفه " عن
عمر عن بعض أصحاب أبي صفوان «عن صفوان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - استعار منه عاريتين: إحداهما بضمان، والأخرى بغير ضمان» .
والحديث الثاني: قال ابن القطان: المانع من تصحيحه أن شريكا وقيس بن الربيع
مختلف فيهما، ولم يحكم الترمذي أيضًا بصحته، ولئن سلمنا أنه صحيح فهو يقتضي
وجوب رد العين ولا كلام فيه.
والحديث الثالث: رواه الحسن عن سمرة والحسن لم يسمع منه، وقيل: لم يسمع منه
غير حديث العقيقة، وأكثر أهل العلم رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة، وأيضًا
الأداء فرض ولا يلزم منه الضمان، ولو لزم من هذا اللفظ الضمان المهم أن
يضمنوا أهون الودائع؛ لأنها مما قبضت اليد وإذا لم يدل الحديث على الضمان
ولم ينسبه أيضًا.
وقال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " باب من قتل عبدًا " بعد ذكر حديث
الحسن عن سمرة من قتل عبدًا قتلناه. قال قتادة: ثم إن الحسن نسي الحديث،
وقال: لا يقتل حر بعبد، يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث لكن رغب عنه،
وهذه العلة موجودة في الحديث المتقدم أيضًا، فافهم.
[إجارة العارية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس للمستعير أن يؤجر ما استعاره، فإن أجره
فعطب) ش: أي هلك م: (ضمن؛ لأن الإعارة دون الإجارة) ش: لأن الإجارة عنده
لازم دون الإعارة م: (والشيء لا يتضمن ما هو فوقه) ش: أي لا يستتبع ما هو
فوقه؛ لأن القوي لا يجعل تابعًا للضعيف. وقال الحاكم في كافيه: إذا استعار
الرجل من الرجل على أن يذهب بها حيث شاء ولم يحتم مكانًا ولا وقتًا ولا ما
يحمل عليها فذهب بها إلى الحيرة أو أمسكها بالكوفة شهرًا يحمل عليها أو
يؤجرها.
قال: لا ضمان عليه، أي في شيء من ذلك إلا في الإجارة خاصة، فإنه حيث أجرها
صار ضامنًا ويتصدق بالغلة؛ لأن أمره بالانتفاع مطلقًا، والمطلق يتناول أي
انتفاع شاء وإليه اليقين بفعله إن شاء استعملها في الركوب أو في الحمل
عليها وأي ذلك فعل لا يمكن أن يفعل غيره بعد ذلك؛ لأن المطلق إذا تعين بقيد
فلا يبقى مطلقًا، ولكن لا يملك الإجارة أصلًا؛ لأنه عقد لازم، والعارية عقد
جائز، وبناء الجائز على اللازم لا يجوز.
(10/146)
ولأنا لو صححناه لا يصح إلا لازما؛ لأنه
حينئذ يكون بتسليط من المعير، وفي وقوعه لازما زيادة ضرر بالمعير لسد باب
الاسترداد إلى انقضاء مدة الإجارة فأبطلناه. فإن أجره ضمنه حين سلمه؛ لأنه
إذا لم تتناوله العارية كان غصبا، فإن شاء المعير ضمن المستأجر؛ لأنه قبضه
بغير إذن المالك لنفسه، ثم إن ضمن المستعير لا يرجع على المستأجر؛ لأنه ظهر
أنه أجر ملك نفسه، وإن ضمن المستأجر يرجع على المؤجر إذا لم يعلم أنه كان
عارية في يده دفعا لضرر الغرور، بخلاف ما إذا علم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأسبيجابي في شرح " الكافي ": وقد قال بعض أصحابنا فإنه يملك الإجارة
وتنعقد جائزة لا لازمة، ثم قال: والصحيح أنه لا تنعقد الإجارة. وفي " تحفة
الفقهاء ": وليس للمستعير أن يؤاجر، فإن فعل فهو ضامن حين يسلمه إلى
المستأجر، ويكون المعير بالخيار إن شاء ضمن المستعير.
م: (ولأنا لو صححناه لا يصح إلا لازمًا) ش: تعليل ثان، ويمكن أن يكون جواب
الشبهة ذكرها السائل، وهو ينبغي أن يملك المستعير الإجارة؛ لأنه مالك
للمنفعة، ولا ينقطع حق المعير في الاسترداد، بل يصير قيام حق المعير في
الاسترداد عذرًا في نقض الإجارة.
فأجاب عنها بقوله: ولأنا لو صححناه عقد إجارة المستعير لا يصح إلا لازمًا؛
لأنه لا يصح أن يكون غير لازم؛ لأنه خلاف مقتضى الإجارة، فإنه عقد لازم
فانعقاده غير لازم عكس الموضوع فهذا لا سبيل إليه، وكذا لا سبيل إلى كونه
لازمًا: م: (لأنه حينئذ يكون بتسليط من المعير) ش: لأن اللزوم لا يكتسب إلا
منه فيكون من مقتضيات عقد العارية.
م: (وفي وقوعه لازمًا زيادة ضرر بالمعير لسد باب الاسترداد إلى انقضاء مدة
الإجارة) ش: لعدم قدرته عليه إلى الانقضاء فحينئذ يكون عقد الإعارة عقدا
لازمًا، وهو أيضًا خلاف المشروع م: (فأبطلناه) ش: أي عقد الإجارة م: (فإن
أجره ضمنه) ش: أي ضمن المعير ما أجره م: (حين سلمه) ش: أي المستأجر م:
(لأنه) ش: أي لأن عقد الإجارة م: (إذا لم تتناوله العارية كان غصبًا، فإن
شاء المعير ضمن المستأجر؛ لأنه قبضه بغير إذن المالك) ش: وحكم الغصب الضمان
وفي بغير إذن المالك م: (لنفسه) ش: اللام في لنفسه تتعلق بقبضه. م: (ثم إن
ضمن المستعير لا يرجع على المستأجر؛ لأنه ظهر أنه أجر ملك نفسه) ش: لأنه
ملكه بالضمان م: (وإن ضمن المستأجر يرجع) ش: أي إن ضمن المعير المستأجر
يرجع المستأجر م: (على المؤجر) ش: وهو المستعير م: (إذا لم يعلم أنه كان
عارية في يده دفعا لضرر الغرور) ش: أي عن المستأجر؛ لأن هذا الغرور في ضمن
العقد م: (بخلاف ما إذا علم) ش: أي المستأجر بكونها عارية في يد المؤجر حيث
لم يرجع عليه؛ لأنه لم يوجد منه الغرور. وقالت الثلاثة: لا يرجع مطلقًا
لأنه غاصب ثان فيضمن بفعله.
(10/147)
قال: وله أن يعيره إذا كان مما لا يختلف
باختلاف المستعمل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له أن يعيره؛
لأنه إباحة المنافع على ما بينا من قبل، والمباح له لا يملك الإباحة، وهذا
لأن المنافع غير قابلة للملك لكونها معدومة، وإنما جعلناها موجودة في
الإجارة للضرورة، وقد اندفعت بالإباحة هاهنا. ونحن نقول هو تمليك المنافع
على ما ذكرنا فيملك الإعارة كالموصى له بالخدمة، والمنافع اعتبرت قابلة
للملك في الإجارة، فتجعل كذلك في الإعارة دفعا للحاجة، وإنما لا يجوز فيما
يختلف باختلاف المستعمل دفعا لمزيد الضرر عن المعير؛ لأنه رضي باستعماله لا
باستعمال غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[إعارة المستعير للعارية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وله) ش: أي للمعير م: (أن يعيره إذا كان مما
لا يختلف باختلاف المستعمل) ش: كالحمل والاستخدام والسكنى والزراعة، كذا
ذكر في نظائر التمرتاشي، وبه قال مالك والشافعي في قول، وفي " مختصر
الأسرار ": يجوز للمستعير أن يعير وإن شرط أن لا يعير، إلا أن يكون مما
يختلف بالاستعمال.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له أن يعيره؛ لأنه إباحة
المنافع على ما بينا من قبل) ش: يعني في هذا الباب إنها إباحة المنافع عنده
م: (والمباح له لا يملك الإباحة وهذا) ش: أي كون الإعارة إباحة م: (لأن
المنافع غير قابلة للملك لكونها معدومة، وإنما جعلناها موجودة في الإجارة
للضرورة، وقد اندفعت بالإباحة هاهنا) ش: أي في الإعارة، فإذا اندفعت
بالإباحة لا يصار إلى التمليك وبه قال أحمد.
م: (ونحن نقول هو تمليك المنافع على ما ذكرنا) ش: يعني في هذا الباب م:
(فيملك الإعارة) ش: يعني إذا كانت الإعارة تمليكًا للمنافع يملك المستعير
حينئذ الإعارة؛ لأن الشيء يتضمن مثله م: (كالموصى له بالخدمة) ش: أي بخدمة
عبد مثلًا يجوز له أن يعيره لتملك المنفعة م: (والمنافع اعتبرت قابلة للملك
في الإجارة) ش: هذا جواب عن قوله: والمنافع غير قابلة للملك، وتقريره: لا
نسلم أنها غير قابلة للملك، فإنها تمليك بالعقد كما في الإجارة م: (فتجعل
كذلك في الإعارة دفعًا للحاجة) ش: أي فيجعل المنافع أيضًا قابلة للملك في
الإعارة دفعًا لحاجة الناس م: (وإنما لا يجوز فيما يختلف باختلاف المستعمل)
ش: جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: لو كانت العارية تمليك المنفعة لما
تفاوت الحكم في الصحة بين ما يختلف باختلاف المستعمل، وبين ما لا يختلف.
وتقرير الجواب أنه إنما لا يجوز إعارة ما استعاره فيما يختلف باختلاف
المستعمل.
م: (دفعًا لمزيد الضرر عن المعير؛ لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره) ش:
أي فيما لا يختلف باختلاف المستعمل فليس فيه ضرر فقد مر أن الشيء يتضمن
مثله، وإن شاء ضمن المستأجر لوجود التعدي منهما، فإن ضمن المستعير لم يرجع
على المستأجر؛ لأنه ملك العين
(10/148)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا إذا
صدرت الإعارة مطلقة وهي على أربعة أوجه، أحدها: أن تكون مطلقة في الوقت
والانتفاع، وللمستعير فيه أن ينتفع به أي نوع شاء في أي وقت شاء عملا
بالإطلاق. والثاني: أن تكون مقيدة فيهما وليس له أن يجاوز فيه ما سماه عملا
بالتقييد، إلا إذا كان خلافا إلى مثل ذلك أو خيرا منه والحنطة مثل الحنطة،
والثالث أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع، والرابع عكسه
وليس له أن يتعدى ما سماه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالضمان، فكأنه أجر ملك نفسه فهلك، وإن ضمن المستأجر إن كان لا يعلم أنه
عارية فرجع على المستعير؛ لأنه ضمن الدرك بإيجاب عقد فيه بدل، فيكون
غرورًا، فأما إذا كان معلم لا يرجع لأنه غرور فيه، والرجوع بحكم الغرور.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا) ش: أي ما ذكرنا من ولاية الإعارة
للمستعير م: (إذا صدرت الإعارة مطلقة) ش: أي عن الوقف والانتفاع م: (وهو)
ش: أي ما يصدر من عقد الإعارة م: (على أربعة أوجه) ش: وهي قسمة عقلية،
والمصارة على الأربعة ضرورة؛ لأن الشيئين هما الإطلاق والتقييد دارًا في
الشيئين وهما الوقف والانتفاع فكانت أربعة لا محالة م: (أحدها: أن تكون
مطلقة في الوقت والانتفاع، وللمستعير فيه) ش: أي في هذا الوجه م: (أن ينتفع
به أي نوع شاء في أي وقت شاء عملًا بالإطلاق، والثاني: أن تكون مقيدة
فيهما) ش: أي في الوقت، والانتفاع بأن قيدها بيوم ونص على نوع منفعة م:
(وليس له) ش: أي للمستعير م: (أن يجاوز فيه ما سماه عملًا بالتقييد) ش:
مثلًا استعار الدابة ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة فلا يحمل عليها أكثر.
م: (إلا إذا كان خلافًا إلى مثل ذلك) ش: كمن استعار دابة ليحمل عليها عشرة
أقفزة من هذه الحنطة فحمل عليها عشرة أقفزة من حنطة أخرى م: (أو خيرًا منه
والحنطة) ش: أي أو كان خلافًا إلى خير منه، بأن قال: عشرة أقفزة من الحنطة،
فحمل عليها عشرة من شعير لا يضمن استحسانًا، وفي القياس: يضمن لأنه مخالف.
وجه الاستحسان: أنه لا فائدة للمالك في تعيين الحنطة إلا إذا تصور دفع
زيادة الضرر عن دابته والشعير أخف من الحنطة، والتقييد إنما يعتبر إذا كان
مفيدًا م: (مثل الحنطة) ش: أشار بهذا إلى عدم اشتراط كون الحنطة المحمولة
وحنطة المستعير أو لغيره فالحنطة جنس واحد، سواء كانت للمستعير أو لغيره أو
عينها المعير أو لم يعينها.
م: (والثالث أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع، والرابع
عكسه) ش: أي عكس الثالث، وهو أن تكون مطلقة في حق الانتفاع.
م: (وليس له أن يتعدى ما سماه) ش: أي ليس للمستعير أن يتعدى ما عينه المعير
في
(10/149)
فلو استعار دابة ولم يسم شيئا، له أن يحمل
ويعير غيره للحمل؛ لأن الحمل لا يتفاوت، وله أن يركب ويركب غيره وإن كان
الركوب مختلفا؛ لأنه لما أطلق فيه فله أن يعين الإطلاق، حتى لو ركب بنفسه
ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين ركوبه.
ولو أركب غيره ليس له أن يركبه حتى لو فعله ضمن؛ لأنه تعين الإركاب.
قال: وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون والمعدود قرض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوجهين الأخيرين، ثم فرع عليه بالفاء التفريعية بقوله م: (فلو استعار دابة
ولم يسم شيئًا، له أن يحمل ويعير غيره للحمل؛ لأن الحمل لا يتفاوت، وله أن
يركب ويركب غيره وإن كان الركوب مختلفًا) ش: لأن الناس يتفاوتون في الركوب
م: (لأنه لما أطلق فيه فله أن يعين الإطلاق، حتى لو ركب بنفسه ليس له أن
يركب غيره؛ لأنه تعين ركوبه) ش: وفي بعض النسخ: ليس له أن يُركبه، أي ليس
له أن يركب غيره؛ لأن متعين ركوبه، وفي بعض النسخ، ليس له أن يركب أي ليس
له أن يركب الدابة أو غيره والتذكير يكون على تأويل الحيوان والحمار والفرس
والبغل.
م: (ولو أركب غيره ليس له أن يركبه) ش: أي بنفسه، وتذكير الضمير بالتأويل
الذي ذكرناه الآن، ثم ذكر في الكتاب أن المستعير يملك الإعارة، ولا يملك
الإجارة، ولم يذكر أنه هل يملك الإيداع، فهذا وقد اختلف المشايخ فيه، قال
بعضهم يودع وإليه ذهب الفقيه أبو الليث والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن
الفضل البخاري، والصدر الأجل برهان الأئمة والد الصدر الشهيد في " شرح
الجامع الصغير "، وإليه أشار محمد في آخر كتاب العارية، فإنه قال: المعير
إذا وجد الدابة المستعارة في يد رجل زعم أنها ملكه فهو خصم، وإن قال الذي
في يده قد أودعتها فلان الذي أودعتها منه فليس بخصم، فهذا يدل على أن
للمستعير أن يودع، وعليه الفتوى.
وقال الأترازي: هكذا وجدت هذه الرواية منصوصه في آخر كتاب العارية في
الأصل، وفي " الكافي ": وقال بعضهم لا يودع قصدًا وكان الكرخي يقول لا يجوز
أن يودع، واستدل بمسألة ذكرها في الجامع الصغير وهي أن المستعير إذا بعث
العارية إلى صاحبها على يد أجنبي فهلك في يد الرسول ضمن المستعير العارية
فليس ذلك الإيداع منه، كذا في " شرح الطحاوي ".
م: (حتى لو فعله ضمن؛ لأنه تعين الإركاب) ش: يعني لو ركبه بنفسه بعد أن
أركب غيره ضمنه، وهو الصحيح، وهو اختيار فخر الإسلام، وقال غيره: له أن
يركب بعد الإركاب ويركب بعد الركوب ولا يضمن شيئًا، وهو اختيار شمس الأئمة
السرخسي وشيخ الإسلام خواهر زاده؛ لأنه يملك الإعارة.
[عارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون
والمعدود]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون
والمعدود قرض) ش: يعني بمنزلة قوله: أقرضتك.
(10/150)
لأن الإعارة تمليك المنافع ولا يمكن
الانتفاع بها إلا باستهلاك عينها، فاقتضى تمليك العين ضرورة، وذلك بالهبة
أو القرض، والقرض أدناهما فيثبت، أو لأن من قضية الإعارة الانتفاع ورد
العين فأقيم رد المثل مقامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الكاكي: ولا يعلم فيه خلاف إلا ما نقل عن بعض أصحاب الشافعي هذا إعارة
فاسدة، ففي وجه يضمن كما في الصحيحة، وفي وجه لا يضمن لأنه إعارة فاسدة،
ذكره في " شرح الوجيز ".
قلت: ذكر في " الروضة ": لا يجوز إعارة الطعام قطعًا والدراهم والدنانير
على الأصح.
وقال الإمام: يجري الوجهان في إعارة الحنطة والشعير ونحوهما. وقال المتولي:
هذا إذا أطلق إعارة الدراهم، أما إذا صرح بالإعارة للتزين فينتفي أن يقطع
بالصحة.
وفي " الجواهر " للمالكية: ولو استعيرت الدراهم والدنانير لتبقى أعيانها
كالصيرفي ما يجعلها بين يديه ليرى أنه ذو مال فيقصده البائع والمشتري، أو
الرجل يكون عليه دين ونقل ما في يديه فيستعيرها لذلك فهذا يضمن إذا لم تقم
البينة على تلفها، ولا يضمن مع الشهادة على ذهابها.
وفي " المغني " قال أبو بكر البلخي: قال أعرتك هذه الصنعة من أكثر من يد
فأخذها كلها فعليه مثلها أو قيمتها، لما أن إعارة ما لا ينقطع إلا بهلاكه
قرض.
قال أبو الليث: الجواب هكذا إذا لم يكن بينهما مباسطة أو دلالة الإباحة،
وقوله: والمكيل يتناول كل مكيل، والموزون يتناول كل موزون، والمعدود يتناول
كل المعدود، وقال الحاكم في " كافيه ": وعارية الدراهم والدنانير والفلوس
قرض، وكذلك كل ما يكال أو يوزن أو يعد عددًا مثل الجوز والبيض، انتهى.
وفي العارية وكذلك الأقطان والصوف والإبريسم والميك والكافور وسائر متاع
العطر والصيادلة لا يقع عليها الإجارة على منافعها قرض كذلك.
م: (لأن الإعارة تمليك المنافع، ولا يملك الانتفاع بها) ش: أي بالأشياء
المذكورة م: (إلا باستهلاك عينها، فاقتضى تمليك العين ضرورة، وذلك) ش: أي
تمليك العين م: (بالهبة أو القرض، والقرض أدناهما) ش: يعني ضررا على
المعير؛ لأنه يوجب المثل، والهبة لا توجبه م: (فيثبت) ش: أي الأدنى؛ لأنه
الثابت يقينا م: (أو لأن من قضية الإعارة الانتفاع) ش: أي انتفاع المستعير
م: (ورد العين) ، ش: أي إلى المعير وقد عجز عن رده للاستهلاك م: (فأقيم رد
المثل مقامه) ش: أي مقام العين.
(10/151)
قالوا: هذا إذا أطلق الإعارة، أما إذا عين
الجهة بأن استعار الدراهم ليعاير بها ميزانا أو يزين بها دكانا لم تكن قرضا
ولا يكون له إلا المنفعة المسماة، فصار كما إذا استعار آنية يتجمل بها، أو
سيفا محلى يتقلده.
قال: وإذا استعار أرضا ليبني فيها أو ليغرس جاز، وللمعير أن يرجع فيها
ويكلفه قلع البناء والغرس، أما الرجوع فلما بينا، وأما الجواز فلأنها منفعة
معلومة تملك بالإجارة فكذا بالإعارة، وإذا صح الرجوع بقي المستعير شاغلا
أرض المعير فيكلف تفريغها. ثم إن لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه؛ لأن
المستعير مغتر غير مغرور، حيث اعتمد إطلاق العقد من غير أن يسبق منه الوعد.
وإن كان وقت العارية ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما ذكرنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قالوا) ش: أي المشايخ: م: (هذا إذا أطلق الإعارة، أما إذا عين الجهة
بأن استعار الدراهم ليعاير بها ميزانا) ش: من عايرت المكاييل أو الموازين
إذا قابلها، والمعيار الذي يقاس به غيره ويسوى، وفي بعض النسخ ليعير بها،
وهذا خطأ، الصواب يعاير، قال الجوهري: عايروا مكاييلك وموازينك ولا تقل
عيروا م: (أو يزين بها) ش: أي بالدراهم والدنانير م: (دكانا لم تكن قرضا،
ولا يكون له إلا المنفعة المسماة، فصار كما إذا استعار آنية يتجمل بها أو
سيفا محلى يتقلده) ش: أو منطقة مفضضة أو خاتما ونحو ذلك فكل ذلك لا يكون
قرضا؛ لأن الانتفاع بهذه الأعيان مع بقائها يمكن، فصار نظير سائر العواري.
[استعارة الأرض ليبني أو يغرس فيها]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا استعار أرضا ليبني فيها أو ليغرس جاز،
وللمعير أن يرجع فيها ويكلفه) ش: أي يكلف المستعير م: (قلع البناء والغرس)
ش: بفتح الغين وكسرها، كذا في (المغرب) م: (أما الرجوع فلما بينا) ش: يعني
عند قوله: وللمعير أن يرجع متى شاء م: (وأما الجواز فلأنها) ش: أي فلأن م:
(منفعة معلومة تملك بالإجارة، فكذا بالإعارة) ش: دفعا للحاجة م: (وإذا صح
الرجوع بقي المستعير شاغلا أرض المعير، فيكلف تفريغها ثم إن لم يكن) ش: أي
المعير م: (وقت العارية فلا ضمان عليه؛ لأن المستعير مغتر غير مغرور) ش:
يعني من جانب المعير م: (حيث اعتمد إطلاق العقد) ش: وظن أن يتركها في يده
مدة طويلة م: (من غير أن يسبق منه الوعد) ش: أي من المعير.
م: (وإن كان) ش: أي المعير م: (وقت العارية ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما
ذكرنا) ش: من أن له الرجوع متى شاء، وعند مالك ليس له الرجوع قبل مضي
المدة.
وفي " الجواهر ": متى كانت العارية إلى أجل معلوم أو كان لها قدر معلوم
كعارية الدابة إلى موضع كذا، أو العبد ليبني بناء أو ليخيط له ثوبا فهي له
لازمة كهبة الرقاب، فإن لم يضرب أجلا ولا كان لها مدة انقضاء فهي لازمة
أيضا بالقول والقبول، وليس له الرجوع فيها ويلزمه إبقاؤها مدة ينتفع بها
فيها الانتفاع المعتاد بمثلها عند استيفائها.
(10/152)
ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد وضمن
المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع؛ لأنه مغرور من جهته حيث وقت له،
فالظاهر هو الوفاء بالعهد فيرجع عليه دفعا للضرر عن نفسه، كذا ذكره القدوري
في " المختصر ". وذكر الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يضمن رب
الأرض للمستعير قيمة غرسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد) ش: أي لما في الرجوع في الوقت من خلف
الوعد وهي شعبة من النفاق م: (وضمن المعير ما نقص البناء والغرس) ش: أي
نقصان م: (بالقلع) ش: أي بسبب القلع.
ووجهه إما ينظر كم يكون قيمة البناء والغرس إذا بقي إلى المدة المضروبة
فيضمن ما نقص من قيمته، أي نقصان البناء والغرس فكلمة ما مصدرية، ويجوز أن
تكون موصولة بمعنى الذي نقص البناء، فعلى هذا يكون البناء والغرس مرفوعين
على الفاعلية على الأول، وعلى الثاني يكونان منصوبين على المفعولية والغرس
بكسر الغين، وروي بالفتح على إرادة المغروس فيضمن ما نقص من قيمته، يعني
إذا كانت قيمة البناء إلى المدة المضروبة عشرة دنانير مثلا، وإذا قلع في
الحال يكون قيمة النقص دينارين يرجع بهما، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -
لا يضمن لأن التوقيت والإطلاق سواء لبطلان الأجل في العواري.
ودليلنا هو قوله م: (لأنه مغرور من جهته) ش: أي لأن المستعير مغرور من جهة
المعير م: (حيث وقت له، فالظاهر هو الوفاء بالعهد فيرجع عليه دفعا للضرر عن
نفسه، كذا ذكر القدوري في المختصر) ش: حيث قال وإن وقت العارية فرجع قبل
الوقت ضمن المعير ما نقض البناء والغرس بالقلع.
فإن قيل: الغرور الموجب للضمان هو ما كان في ضمن عقد المعاوضة، والإعارة
ليست كذلك.
قيل له: إن التوقيت من المعير التزام منه لقيمة البناء والغرس إن أراد
إخراجه قبل ذلك الوقت معنى، وتقدير كلامه: ابن في هذه الأرض لنفسك على أن
أتركها في يدك إلى مدة كذا، فإن لم أتركها فأنا ضامن لك بقية مالك، وذلك
لأن كلام العاقل محمول على الفائدة ما أمكن، وحيث كانت الإعارة بدون
التوقيت صحيحة شرعا لا بد من فائدة كذكر الوقت وذلك ما قلنا.
م: (وذكر الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو ابن الفضل محمد بن
أحمد السلمي المروزي صاحب التصانيف مصنف " الكافي " و " المنتقى " وغير
ذلك، استشهد في ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين ومائتين م: (أنه) ش: أي أن
الشأن م: (يضمن رب الأرض للمستعير قيمة غرسه
(10/153)
وبنائه، ويكونان له إلا أن يشاء المستعير
أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما، فيكون له ذلك؛ لأنه ملكه. قالوا: إذا كان في
القلع ضرر بالأرض فالخيار إلى رب الأرض؛ لأنه صاحب أصل، والمستعير صاحب
تبع، والترجيح بالأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبنائه، ويكونان) ش: أي الغرس والبناء م: (له) ش: أي لرب الأرض م: (إلا أن
يشاء المستعير أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما، فيكون له ذلك لأنه ملكه) ش "
أي لأن كل واحد من الغرس والبناء ملك المستعير.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ والمتأخرون: م: (إذا كان في القلع ضرر بالأرض
فالخيار إلى رب الأرض؛ لأنه صاحب أصل، والمستعير صاحب تبع) ش: وهو الغرس أو
البناء م: (والترجيح بالأصل) ش: أن يكون بالأصل.
ومذهب الشافعي في هذا ذكره في " الروضة " أن إعارة الأرض للبناء والغرس
نوعان: مطلقة ومقيدة، ففي المطلقة للمستعير أن يبني ويغرس ما لم يرجع
المعير، فإذا رجع لم يكن له البناء والغرس، ولو فعل وهو عالم بالرجوع قلع
مجانا وكلف تسوية الأرض كالغاصب، وإن كان جاهلا فوجهان.
وأما ما بني وغرس قبل الرجوع فإن أمكن رفعه من غير نقص يدخله رفع، وإلا
فينظر إن شرط عليه القلع مجانا عند رجوعه وتسوية الحفر لزمه، فإن امتنع
قلعه المعير مجانا، وإن شرط القلع دون التسوية، وإن لم يشرط القلع نظر إن
أراد المستعير أمكن منه ويلزمه تسوية الحفر على الأصح، وإن لم يرده لم يكن
للمعير قلعه مجانا، ولكن يتخير المعير بين ثلاث خصال: أن يبقيه بأجرة
يأخذها، أو أن يقلع ويغرم أرش النقص وهو قدر التفاوت بين قيمته ثابتا
ومقلوعا، أو أن يتملكه بقيمته.
وفي المقيدة: للمستعير البناء والغرس إلا أن يرجع المعير وله أن يحدد كل
يوم غرسا، وبعد انقضاء المدة ليس له إحداث البناء والغرس، وإذا رجع المعير
قبل المدة أو بعدها فالحكم كما لو رجع في الأول، لكن هنا وجه أنه لا يتمكن
من الرجوع قبل المدة، وقوله: إنه إذا رجع بعد المدة فله القلع مجانا قاله
الساجي.
والمذهب الأول ومذهب أحمد ما ذكره في " حاويهم ": وإن أعار أرضا لغرس أو
بناء مطلقا أو إلى مدة فرجع وقد شرطا القلع متى رجع أو عند انقضاء المدة
ففرغت لزمه القلع ولم يلزم المعير انقضاء، ولا المستعير تسوية الأرض إلا
بشرط، وإن لم يشترطا قلعه فللمعير أخذه بقيمته أو قلعه وضمان نقصه، فإن قلع
فللمستعير التسوية وإن بنى ذلك فعليه البيع ولا يبقى مجانا.
(10/154)
ولو استعارها ليزرعها لم يؤخذ منه حتى يحصد
الزرع وقت أو لم يوقت؛ لأن له نهاية معلومة وفي الترك بالأجر مراعاة
الحقين، بخلاف الغرس لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك.
قال: وأجرة رد العارية على المستعير؛ لأن الرد واجب عليه لما أنه قبضه
لمنفعة نفسه، والأجرة مؤنة الرد، فتكون عليه، وأجرة رد العين المستأجرة على
المؤجر؛ لأن الواجب على المستأجر التمكين والتخلية دون الرد، فإن منفعة
قبضه سالمة للمؤجر معنى، فلا يكون عليه مؤنة رده، وأجرة رد العين المغصوبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: ولو استعارها) ش: أي الأرض م: ليزرعها لم يؤخذ منه حتى يحصد الزرع) ش:
قال الأترازي: قيل: ينبغي أي يروي على بناء المفعول، والثلاثي المجرد،
والأصح أن يروى بكسر الصاد من الإحصاد، يقال احصد الزرع إذا حان حصاده.
قلت: كلاهما يجوز والأولى الأول للكثرة وقلة الباب الثاني، فافهم.
م: (وقت أو لم يوقت) ش: أراد أن الأرض تترك في يده بطريق الإجارة بأجر
المثل سواء عين مدة أو لا، والتوقيت هو تعيين الوقت م: (لأن له) ش: أي
للزرع م: (نهاية معلومة وفي الترك بالأجر مراعاة الحقين) ش: أي حق المعير
والمستعير كما في الإجارة إذا نقصت المدة، والزرع لم يدرك بعد، فإنه يترك
الأرض في يده بأجر مراعاة للجانبين، كذا هنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في وجه، ومالك وأحمد في وجه.
وعن أحمد: إن كان مما تحصد قصيلا بلا ضرر فله الرجوع لعدم الضرر فيه.
ثم إذا استحصد الزرع فصاحب الأرض يأخذ الأرض مع الأجر، وقال أبو إسحاق
الحافظ: إنما يجب الأجر لصاحب الأرض إذا أجر الأرض منه أو القاضي بعد مضي
المدة بدون ذلك، فلا يجب الأجر وفي أكثر الروايات لم يشترط ذلك، وقد قيل:
يقتضي تعليل المصنف بقوله: لأن له نهاية معلومة أن لا يجوز الرجوع قبل
الوقت في الموقتة؛ لأن له نهاية معلومة ولأن الوقت منصوص عليه هنا، وفي
الإعارة للزرع الوقت ثابت دلالة والنص أقوى من الثلاثة دلالة. م: (بخلاف
الغرس؛ لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك) ش: لأن في
إبقائه ضررا له والضرر مدفوع.
[أجرة رد العارية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وأجرة رد العارية على المستعير؛ لأن الرد واجب
عليه لما أنه قبضه لمنفعة نفسه والأجرة مؤنة الرد فتكون عليه) ش: لأن الغرم
بالغنم، وهذا لا خلاف فيه م: (وأجرة رد العين المستأجرة، على المؤجر؛ لأن
الواجب على المستأجر التمكين والتخلية دون الرد، فإن منفعة قبضه سالمة
للمؤجر معنى) ش: لأنه سلم له ما شرط من أجرة العين م: (فلا يكون عليه) ش:
أي على المستأجر م: (مؤنة رده) ش: لما ذكرنا من أن الغرم بالغنم م: (وأجرة
رد العين المغصوبة
(10/155)
على الغاصب؛ لأن الواجب عليه الرد،
والإعادة إلى يد المالك دفعا للضرر عنه، فتكون مؤنة الرد عليه.
قال: وإذا استعار دابة فردها إلى اصطبل مالكها فهلكت لم يضمن، وهذا
استحسان، وفي القياس يضمن؛ لأنه ما ردها إلى مالكها بل ضيعها. وجه
الاستحسان أنه أتى بالتسليم المتعارف؛ لأن رد العواري إلى دار المالك معتاد
كآلة البيت تعار ثم ترد إلى الدار، ولو ردها إلى المالك فالمالك يردها إلى
المربط فصح رده، وإن استعار عبدا فرده إلى دار المالك ولم يسلمه إليه لم
يضمن لما بينا. ولو رد العين المغصوب أو الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمه
إليه ضمن؛ لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله وذلك بالرد إلى المالك دون غيره،
والوديعة لا يرضى المالك بردها إلى الدار ولا إلى يد من في العيال؛ لأنه لو
ارتضاه لما أودعها إياه بخلاف العواري؛ لأن فيها عرفا حتى لو كانت العارية
عقد جوهر لم يردها إلا إلى المعير لعدم ما ذكرناه من العرف فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على الغاصب؛ لأن الواجب عليه الرد والإعادة إلى يد المالك دفعا للضرر عنه،
فتكون مؤنة الرد عليه) ش: لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «على اليد ما
أخذت حتى ترد» ، ولا خلاف فيه.
[هلاك العارية]
[الحكم لو استعار دابة فردها إلى اصطبل مالكها
فهلكت]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا استعار دابة فردها إلى اصطبل مالكها
فهلكت لم يضمن وهذا) ش: أي عدم الضمان م: (استحسان. وفي القياس: يضمن لأنه
ما ردها إلى مالكها بل ضيعها) ش: وبه قال الشافعي وأحمد ومالك في الأصح.
م: (وجه الاستحسان أنه أتى بالتسليم المتعارف؛ لأن رد العواري إلى دار
المالك معتاد كآلة البيت تعار ثم ترد إلى الدار، ولو ردها إلى المالك
فالمالك يردها إلى المربط فصح رده) ش: بفتح الميم موضع الربط. وذكر
التمرتاشي عن أبي سلمة: إن كان المربط خارج الدار لم يبرأ لأن الظاهر أنها
تكون هنالك بلا حافظ، وقيل: هذا في عادتهم.
م: (وإن استعار عبدا فرده إلى دار المالك ولم يسلمه إليه لم يضمن) ش: هذا
لفظ القدوري أيضا، إلا أن لفظه في أكثر النسخ: وإن استعار عينا فردها إلى
دار المالك م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأن رد العواري إلى دار
المالك معتاد، فعلى هذا إذا استعار عقدا لم يردها إلا إلي المعير للعرف
كذلك.
[الحكم لو رد العين المغصوب أو الوديعة إلى دار
المالك ولم يسلمه إليه] 1
م: (ولو رد العين المغصوب أو الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمه إليه ضمن)
ش: هذه من مسائل القدوري أيضا م: (لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله، وذلك
بالرد إلى المالك دون غيره، والوديعة لا يرضى المالك بردها إلى الدار ولا
إلى يد من في العيال؛ لأنه لو ارتضاه لما أودعها إياه، بخلاف العواري لأن
فيها عرفا، حتى لو كانت العارية عقد جوهر) ش: بكسر العين، وسكون القاف وهو
القلادة ويجمع على عقود م: (لم يردها إلا إلى المعير لعدم ما ذكرناه من
العرف فيه) ش: أي في حكم رد عقد الجوهر.
(10/156)
قال: ومن استعار دابة فردها مع عبده أو
أجيره لم يضمن والمراد بالأجير أن يكون مسانهة أو مشاهرة؛ لأنها أمانة فله
أن يحفظها بيد من في عياله كما في الوديعة. بخلاف الأجير مياومة؛ لأنه ليس
في عياله، وكذا إذا ردها مع عبد رب الدابة أو أجيره؛ لأن المالك يرضى به،
ألا ترى أنه لو رده إليه فهو يرده إلى عبده، وقيل هذا في العبد الذي يقوم
على الدواب، وقيل فيه وفي غيره وهو الأصح؛ لأنه وإن كان لا يدفع إليه دائما
يدفع إليه أحيانا، وإن كان ردها مع أجنبي ضمن، ودلت المسألة على أن
المستعير لا يملك الإيداع قصدا كما قاله بعض المشايخ _ - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ -، وقال بعضهم يملكه؛ لأنه دون الإعارة، وأولوا هذه المسألة
بانتهاء الإعارة لانقضاء المدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[استعار دابة فردها مع عبده أو أجيره]
م: (قال) ش: أي في (الجامع الصغير) م: (ومن استعار دابة فردها مع عبده أو
أجيره لم يضمن) ش: أراد بالأجير السائس، وبه قال أحمد وقياس قول الشافعي أن
يضمن كما في الوديعة م: (والمراد بالأجير أن يكون مسانهة أو مشاهرة؛ لأنها
أمانة، فله أن يحفظها بيد من في عياله كما في الوديعة، بخلاف الأجير
مياومة؛ لأنه ليس في عياله، وكذا إذا ردها) ش: أي الدابة المستعارة م: (مع
عبد رب الدابة أو أجيره؛ لأن المالك يرضى به، ألا ترى أنه لو رده إليه فهو
يرده) ش: أي لو رد المستعير الدابة إلى المالك فهو يرده م: (إلى عبده) ش:
وتذكير الضمير في الموضعين باعتبار الحيوان أو الحمار ونحوه.
م: (وقيل هذا) ش: أي عدم الضمان بالرد إلى عند رب الدابة م: (في العبد الذي
يقوم إلى الدواب) ش: وهو السائس م: (وقيل فيه وفي غيره) ش: إن قيل عدم
الضمان في العبد الذي يقوم على الدواب وفي غيره م: (وهو الأصح) ش: أي القول
الثاني وهو الأصح م: (لأنه) ش: أي لأن مالك الدابة م: (وإن كان لا يدفع
إليه دائما) ش: أي إلى عبده الذي ليس يقوم على الدواب دايبا بكسر الياء
وآخر الحروف بعدها باء موحدة ومعناه دائما م: (يدفع إليه أحيانا) ش: أي في
بعض الأحيان م: (وإن كان ردها مع أجنبي ضمن) ش: يعني إذا هلك، لأنه ليس
بنائب عن المالك، فصار متعديا م: (ودلت المسألة) ش: أي المسألة المذكورة م:
(على أن المستعير لا يملك الإيداع قصدا) ش: لما وضعه في يد الأجنبي للرد
كان إيداعا م: (كما قاله بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: منهم
الكرخي والبقالي.
م: (وقال بعضهم) ش: أي بعض المشايخ وهم مشايخ العراق: م: (يملكه) ش: أي
يملك المستعير الإيداع م: (لأنه دون الإعارة) ش: أي لأن الإيداع دون
الإعارة؛ لأنه لما ملك الإعارة مع أن فيها إيداعا وتمليك المنافع، فلأن
يملك الإيداع وليس فيه تمليك المنافع أولى، وبه أخذ أبو الليث والفضلي، وفي
" الكافي " وعليه الفتوى م: (وأولوا) ش: أي أول مشايخ العراق م: (هذه
المسألة بانتهاء الإعارة لانقضاء المدة) ش: أراد أن هذه المسألة فيما إذا
كانت العارية موقتة وقد انتهت باستيفاء مدتها، وحينئذ يصير المستعير مودعا
والمودع لا يملك الإيداع بالاتفاق.
(10/157)
قال: ومن أعار أرضا بيضاء للزراعة يكتب إنك
أطعمتني. عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يكتب إنك أعرتني؛ لأن
لفظة الإعارة موضوعة له والكتابة بالموضوع أولى، كما في إعارة الدار، وله
أن لفظة الإطعام أدل على المراد؛ لأنها تختص بالزراعة والإعارة تنتظمها
وغيرها كالبناء، ونحوه فكانت الكتابة بها أولى، بخلاف الدار؛ لأنها لا تعار
إلا للسكنى، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ومن أعار أرضا بيضاء للزراعة يكتب إنك أطعمتني عند أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يكتب إنك أعرتني؛ لأن لفظة الإعارة موضوعة له)
ش: أي لعقد الإعارة م: (والكتابة بالموضوع له أولى كما في إعارة الدار) ش:
حيث لا يكتب أسكنتني، وكذا في إعارة الثوب لا يكتب ألبستني، وبه قالت
الثلاثة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن لفظة الإطعام أدل على المراد) ش: من
الإعارة م: (لأنها) ش: أي لأن لفظة الإطعام م: (تختص بالزراعة والإعارة
تنتظمها) ش: أي تشملها م: (وغيرها) ش: أي وينتظم غيرها أيضا م: (كالبناء
ونحوه) ش: مثل نصبا لفسطاط م: (فكانت الكتابة بها) ش: أي لفظة الإطعام م:
(أولى، بخلاف الدار؛ لأنها لا تعار إلا للسكنى، والله أعلم بالصواب) ش:
والغرض يصير إليه معلوما بقوله أعرتني، وكذا في الثوب. والله أعلم بالصواب.
(10/158)
|