البناية شرح الهداية

كتاب الهبة
الهبة عقد مشروع؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تهادوا تحابوا» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الهبة]
[تعريف الهبة]
م: (كتاب الهبة) ش: وجه المناسبة بين الكتابين من حيث إن كلا منهما مشتمل على التمليك، إلا أن العارية مفردة والهبة مركبة؛ لأن في العارية تمليك المنفعة فقط، وفي الهبة تمليك العين مع المنفعة، والهبة في اللغة مصدر من وهب يهب، وأصلها وهب لأنه معتل الفاء كالعدة أصلها وعدة، فلما حذفت الواو تبعا لفعله عوضت عنها الهاء، فقيل هبة وعدة ومعناها إيصال الشيء للغير بما ينفعه، سواء كانت مالا أو غير مال، يقال وهبت له مالا ووهب الله فلانا ولدا صالحا، ويقال وهبه مالا أيضا ولا يقال وهب منه، ويسمى الموهوب هبة وموهبة، والجمع هبات ومواهب واتهبه منه إذا قبله، واستوهبه إذا طلب الهبة، وفي الشرع هي تمليك لمال بلا عوض.

[حكم الهبة]
م: (والهبة عقد مشروع لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تهادوا تحابوا» ش: هذا الحديث رواه من الصحابة أبو هريرة وابن عمرو بن العاص وابن عمر وعائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعين.
أما حديث أبي هريرة فرواه البخاري في كتابه " المفرد في الآداب " حدثنا عمرو بن خالد ثنا ضمام بن إسماعيل سمعت موسى بن وردان عن أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «تهادوا تحابوا» . وأخرجه النسائي في كتاب " الكنى " عن أبي الحسين محمد بن بكير الحضرمي عن ضمام بن إسماعيل به، وكذلك رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " والبيهقي في " شعب الإيمان " وابن عدي في " الكامل " وأعله بضمام وقال: إن أحاديثه لا يرويها غيره.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه الحاكم في كتاب " علوم الحديث " فقال: سمعت أبا زكريا العنبري قال: سمعت أبا عبد الله البوشنجي ثنا يحيى بن بكير عن ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل المعافري عن عبد الله بن عمرو أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «تهادوا تحابوا» .
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب " من حديث إسماعيل بن إسحاق الراشدي ثنا محمد بن داود بن عبد الجبار عن أبيه

(10/159)


وعلى ذلك انعقد الإجماع. وتصح بالإيجاب والقبول والقبض، أما الإيجاب والقبول؛ فلأنه عقد، والعقد ينعقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن العوام بن حوشب عن شهر بن حوشب عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تهادوا تحابوا» .
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه الطبراني في " معجمه الأوسط " ثنا محمد بن يحيى بن محمد بن السكن ثنا ريحان بن سعيد ثنا عرعرة بن اليزيد ثنا المثنى أبو حاتم العطار عن عبيد الله بن العيزار عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تهادوا تحابوا، وهاجروا تورثوا أولادكم مجدا وأقيلوا الكرام عثراتهم» وأخرجه مالك في " الموطأ " مرسلا عن عطاء الخراساني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» .
قوله: تهادوا - بفتح الدال وسكون الواو لأنه صيغة خطاب للجماعة من التهادي، وأصله تهادى؛ لأنك تقول تهاد تهاديا تهاديوا قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين فصار تهادوا كما في مادة تعالوا وأصله تعاليوا. قال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: 64] (آل عمران 64) . قوله: تحابوا بتشديد الباء المضمومة وهو أيضا صيغة خطاب للجماعة، وأصله تحابون ولكن سقطت النون لأنه جواب للأمر، وأصله تحابوا؛ لأنه من التحابب من المحبة، أدغمت الباء في الباء، وقال الحاكم: تحابوا إما بتشديد الباء من الحب، وإما بالتخفيف من المحاباة.
قلت: ترجيح الأول الذي هو المشهور ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن صفية بنت حرب عن أم حكيم بنت وداع أو قال: وادع قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «تهادوا تزيدوا في القلب حبا» .
م: (وعلى ذلك) ش: أي كون الهبة مشروعة م: (انعقد الإجماع) ش: أي إجماع الأمة.
م: (وتصح) ش: أي الهبة م: (بالإيجاب) ش: كقوله وهبت ونحوه، هذا بمجرده في حق الواهب م: (والقبول) ش: كقوله قبلت م: (والقبض) ش: بالجر، أي وبالقبض فلا يتم في حق الموهوب له إلا بالقبول والقبض كما يأتي؛ لأنه عقد تبرع فيتم بالتبرع، ولكن لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض، وثمرة ذلك فيمن حلف لا يهب فوهب ولم يقبل الموهوب له يحنث. وعند زفر لا يحنث بلا قبول وقبض كما في البيع، فلا يتم، أو حلف على أن لا يهب فلانا فوهبه ولم يقبل يرد في يمينه عندنا.
م: (أما بالإيجاب والقبول فلأنه عقد) ش: أي فلأن الهبة عقد نحو سائر العقود، وذكر

(10/160)


بالإيجاب والقبول والقبض لا بد منه لثبوت المالك، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت الملك فيه قبل القبض اعتبارا بالبيع، وعلى هذا الخلاف الصدقة، ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الضمير باعتبار العقد م: (والعقد ينعقد بالإيجاب والقبول) ش: لأن قيام العقد بهما م: (والقبض لا بد منه لثبوت الملك) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء والتابعين، إلا أن أحمد يقول: إن كانت الهبة عينا تصح بدون القبض في الأصح، وفي المكيل والموزون لا يصح بدون القبض.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يثبت الملك فيه قبل القبض اعتبارا بالبيع) ش: لأنه عقد لازم يقبل الملك فلم يتوقف على القبض كالبيع، ولأنه إزالة ملك بغير عوض فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف، وبه قال أبو ثور والشافعي في القديم وابن أبي ليلى وفي كتاب " التفريع " لأصحاب مالك: وفيمن وهب شيئا من ماله لزمه دفعه إلى الموهوب له إذا طالبه به، فإن أبى ذلك حكم به عليه إذا أقر أو قامت عليه البيئة، وإن أنكر الهبة حلف عليها وبرئ منها، وإن نكل عن اليمين حلف الموهوب له وأخذها منه.
وإن مات الواهب قبل دفعها إلى الموهوب له فلا شيء له إذا كان قد أمكنه أخذها ففرط فيها، وإن مات الموهوب له قبل قبضها قام ورثته مقامه في مطالبة الواهب بهبته انتهى. وقال الخرقي من أصحاب أحمد: لا تصح الهبة والصدقة فيما يكال ويوزن إلا بقبضة، ويصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما يصح في البيع. م: (وعلى هذا الخلاف الصدقة) ش: فعندنا يشترط فيها القبض خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» ش: هذا حديث منكر لا أصل له، والعجب من الكاكي حيث يقول: قيل: هذا الحديث غير مرفوع، بل قول علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولم يبين ذلك، وليس كذلك بل هذا الذي ذكره المصنف قول إبراهيم النخعي رواه عبد الرزاق في مصنفه وقال: أخبرنا سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: لا تجوز الهبة حتى تقبض والصدقة تجوز قبل أن تقبض. وأما قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو ما رواه البيهقي من حديث يزيد بن زريع نا سعيد عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن أبي موسى قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا محال ميراث ما لم يقبض.
والأحسن أن يستدل على اشتراط القبض في الهبة بما أخرجه البيهقي من حديث عبد الله

(10/161)


والمراد نفي الملك؛ لأن الجواز بدونه ثابت ولأنه عقد تبرع، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا لم يتبرع به وهو التسليم فلا يصح بخلاف الوصية؛ لأن أوان ثبوت الملك فيها بعد الموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن وهب أنا مالك ويونس وغيرهما أن ابن شهاب أخبرهم عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحلها جذاذ عشرين وسقا من مال الغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك ولا أعز علي فقرا بعدي منك، إلا أني كنت نحلتك من مالي جذاذ عشرين وسقا، فلو كنت جذذته واحترزت به كان لك ذلك، وإنما هم أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله عز وجل.. الحديث، كذا رواه الطحاوي في شرح الآثار وقال: حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه ... إلى آخره، فهذا أدل دليل على اشتراك القبض وبه استدل في " المبسوط " وأصحاب الشافعي في كتبهم.
قوله: نحلها، أي وهب لها، والجذاذ بكسر الجيم من جذذت الشيء أجذه بالضم جذا قطعته، وروي جاذ عشرين وسقا.
قال الخطابي: الجاذ بمعنى المجذوذ فاعل بمعنى مفعول والوسق ستون صاعا. والغابة بالغين المعجمة وبعد الألف باء موحدة مخففة وهو موضع مشهور بالمدينة، وفي رواية من ماله بالعالية، وهو أيضا موضع بالمدينة.
م: (والمراد نفي الملك) ش: أي المراد من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» عدم ثبوت حكم الهبة وهو الملك م: (لأن الجواز) ش: أي جواز الهبة م: (بدونه ثابت) ش: أي بدون الملك؛ لأن الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن عقد الهبة م: (عقد تبرع، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا) ش: وعقد التبرع لم يلزم به شيء م: (لم يتبرع به وهو التسليم) ش: أي الذي لم يتبرع به هو التسليم م: (فلا يصح) ش: لأن من ضرورات الملك التسليم، ورد بأن المتبرع بالشيء قد يلزمه ما لم يتبرع به إذا كان من تامة ضرورة تصحيحه كمن نذر أن يصلي وهو محدث لزمه الوضوء ومن شرع في صوم أو صلاة لزمه الإتمام.
وأجيب: بأنه مغالطة، فإن ما لا يتم الشيء إلا به فهو واجب إذا كان ذلك الشيء واجبا كما ذكرت في الصوم، فإنه يجب بالنذر أو الشروع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والهبة عقد تبرع ابتداء وانتهاء، فإنه لو وهب وسلم جاز له الرجوع فكيف قبل التسليم فلا يجب ما يتم به.
م: (بخلاف الوصية؛ لأن أوان ثبوت الملك فيها بعد الموت) ش: لما قاس مالك الهبة على

(10/162)


ولا إلزام على المتبرع لعدم أهلية اللزوم وحق الوارث متأخر عن الوصية، فلم يملكها. فإن قبضه الموهوب له في المجلس بغير أمر الواهب جاز استحسانا. وإن قبض بعد الافتراق لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض، والقياس أن لا يجوز في الوجهين، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن القبض، تصرف في ملك الواهب إذ ملكه قبل القبض باق فلا يصح بدون إذنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوصية والوقف في عدم اشتراط القبض، أجاب عن ذلك بقوله بخلاف الوصية أراد أن بين الهبة والوصية فرقا، وهو أن الملك لا يثبت في الوصية إلا بعد الموت، وحينئذ لا يتصور الإلزام على المتبرع لعدم أهلية اللزوم، وهو معنى قوله م: (ولا إلزام على المتبرع لعدم أهلية اللزوم) ش: يعني بالموت.
وكذلك القياس على الوقف غير صحيح؛ لأنه إخراج ملك إلى الله تعالى والتصدق بمنفعته، وفيه لا يشترط القبض م: (وحق الوارث متأخر) ش: جواب عما يقال الوارث يخلف الموصي في ملكة فوجب أن يتوقف ملك الموصى له على تسليم الوارث إليه، وتقريره أن حق الوارث متأخر م: (عن الوصية فلم يملكها) ش: أي الوصية، يعني لما يكن الوارث خليفة له فيها ليقام مقام الميت، فلا معتبر لتسليمه؛ لأنه لم يملكها ولا قام مقام المالك فيها.
م: (فإن قبضها الموهوب له في المجلس بغير أمر الواهب جاز استحسانا) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره، يعني إن قبض الهبة الموهوب له في مجلس العقد بغير إذن الواهب جاز، وصحت الهبة استحسانا. وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره: فإن أذن له في القبض فقبض الهبة بحضرته أو بغير حضرته جاز القبض، وإن وهب له دينا على رجل وأذن له أن يقبضه من الذي هو عليه جاز إذا قبض ذلك استحسانا أيضا وإن لم يأذن له في قبض الدين لم تجز الهبة وإن قبضه الموهوب له وإن كان ذلك بحضرة الواهب لأن المالك الذي يقبض عن الدين ملك الذي عليه الدين حتى يقبضه صاحب الدين، أو يجعل قبضه إلى غيره فيقبضه الغير.

[اشتراط القبض لانعقاد الهبة]
م: (وإن قبض بعد الافتراق لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض، والقياس أن لا يجوز في الوجهين) ش: أي فيما إذا قبض في المجلس بإذن الواهب، وفيما إذا قبض بعد الافتراق بدون إذنه.
وبالقياس م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لأن القبض تصرف في ملك الواهب إذ ملكه قبل القبض باق) ش: بالاتفاق، بدليل صحة تصرفه من البيع والإعتاق م: (فلا يصح بدون إذنه) ش: لأن التصرف في ملك الغير بغير الإذن غير صحيح.

(10/163)


ولنا أن القبض بمنزلة القبول في الهبة من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك، والمقصود منه إثبات الملك فيكون الإيجاب منه تسليطا له على القبض، بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق؛ لأنا إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له بالقبول، والقبول يتقيد بالمجلس، فكذا ما يلحق به. بخلاف ما إذا نهاه عن القبض في المجلس؛ لأن الدلالة لا تعمل في مقابلة الصريح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا) ش: أراد به وجه الاستحسان، قيل ذكر لنا هاهنا غير مناسب؛ لأنه ذكر القياس والاستحسان ولم يذكر قول الخصم في المتن، فلم يكن ذكر لنا مناسبا، بل كان المناسب أن يقول وجه الاستحسان.
قلت: لما كان القياس هو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووجه الاستحسان قولنا ناسبه أن يقول ولنا، وإن لم يصرح بذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن القبض بمنزلة القبول في الهبة) ش: أي القبض في الهبة بمنزلة القبول في البيع، وقوله في الهبة يتعلق بقوله أن القبض لا بقوله القبول، فافهم، وكون القبض فيها مثل القبول في البيع م: (من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك) ش: أي على القبول، فإذا كان القبض مثل القول لا يثبت حكم الملك إلا بالقبض، كما لا يثبت الملك إلا بالقبول م: (والمقصود منه) ش: أي مقصود الواهب من عند الهبة م: (إثبات الملك) ش: للموهوب له م: (فيكون الإيجاب منه) ش: أي من الواهب م: (تسليطا له على القبض) ش: تحصيلا بمقصوده، فكان أدنى دلالة.
م: (بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق) ش: حيث يشترط فيه الإذن صريحا م: (لأنا) ش: وفي بعض النسخ لأنه، أي لأن الشأن: (إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له) ش: أي للقبض م: (بالقبول والقبول يتقيد بالمجلس، فكذا ما يلحق به) ش: أي بالقبول وهو القبض.
م: (بخلاف ما إذا نهاه) ش: كان ينبغي أن يقول وبخلاف بواو العطف عطفا على قوله بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق، لأن حكمها واحد، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال يلزم على هذا ما إذا نهى من القبض، فإن التسليط موجود ولم يجوز له القبض، وتقرير الجواب أنه إذا نهاه يعني صريحا م: (عن القبض في المجلس) ش: بأن قال له لا تقبض فإنه لا يصح قبضه في المجلس وبعده م: (لأن الدلالة لا تعمل في مقابلة الصريح) ش: أراد بالدلالة الإذن الحاصل من إيجاب الواهب للقبض، والصريح هو قوله لا تقبض فإن الإذن الذي حصل من الإيجاب دلالة تبطل بوجود صريح النهي؛ لأن الدلالة لا تقابل الصريح وفيه مناقشتان:
الأولى: أن القبض لو كان بمنزلة القبول لما صح الأمر بالقبض بعد المجلس كالبيع. الثانية: أن مقصود البائع من البيع ثبوت الملك للمشتري، ثم إذا تم الإيجاب والقبول والمبيع حاضر لم يجعل إيجاب البائع تسلطا على القبض، حتى لو قبضه المشتري بدون إذنه

(10/164)


قال: وتنعقد الهبة بقوله وهبت ونحلت وأعطيت؛ لأن الأول صريح فيه، والثاني مستعمل فيه، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أكل أولادك نحلت مثل هذا» ، وكذلك الثالث يقال: أعطاك الله ووهبك الله بمعنى واحد، وكذا ينعقد بقوله أطعمتك هذا الطعام وجعلت هذا الثوب لك، وأعمرتك هذا الشيء، وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحمل الهبة. أما الأول فلأن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك العين، بخلاف ما إذا قال أطعمتك هذه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جاز له أن يسترده ويحبس الثمن.
الجواب عن الأول أن الإيجاب من البائع شطر العقد وهو لا يتوقف على ما وراء المجلس، وفي الهبة وجد عقد تمام وهو يتوقف على ما وراءه. وعن الثانية فإنا لا نسلم أن مقصود البائع من عقد البيع ثبوت الملك للمشتري، بل مقصوده منه تحصيل الثمن لا غير، وثبوت الملك له ضمني فلا يعتبر به.

[ما تنعقد به الهبة وما لا تنعقد]

[انعقاد الهبة بلفظ النحلة والعطية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وتنعقد الهبة بقوله وهبت ونحلت وأعطيت؛ لأن الأول) ش: أي قوله وهبت م: (صريح فيه) ش: أي في عقد الهبة م: (والثاني) ش: أي قوله نحلت م: (مستعمل فيه) ش: أي في عقد الهبة، أراد به مجاز فيه وهو أيضا صريح؛ لأن المجاز المتعارف كالصريح.
إلا أن قوله وهبت لما كان صريحا حقيقة ونحلت وإخوته صريحا مجازا فرق بينهما م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أكل أولادك نحلت مثل هذا» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة «عن النعمان بن بشير قال: إن أباه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكل ولدك نحلت مثل هذا "؟ قال لا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فأرجعه» . أخرجه البخاري ومسلم في " الهبة " وأبو داود في " البيع " مختلفا والمعنى واحد. والعجب من الكاكي مع ادعائه أن له اطلاعا في الحديث أنه لما ذكر هذا الحديث قال: كذا في " المبسوط "، فهذا قول من لم يحم حول كتب الحديث ولا طرق في سمعه اسم البخاري ومسلم ولا غيرهما.
م: (وكذلك الثالث يقال أعطاك الله ووهبك الله) ش: يعني أراد بالثالث قوله أعطيت أي هو أيضا مستعمل في عقد الهبة مجازا كما يقال أعطاك الله ووهبك الله م: (بمعنى واحد، وكذا ينعقد بقوله أطعمتك هذا الطعام وجعلت هذا الثوب لك، وأعمرتك هذا الشيء وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحمل الهبة) ش: هذه أربعة ألفاظ، ثلاثة تنعقد بها الهبة مطلقا، والرابع وهو حملتك لا ينعقد به إلا بالنية على ما يجيء الآن.
م: (أما الأول) ش: يعني قوله أطعمتك هذا الطعام م: (فلأن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه، يراد به تمليك العين) ش: بغير عوض، فيكون هبة م: (بخلاف ما إذا قال أطعمتك هذه

(10/165)


الأرض حيث يكون عارية؛ لأن عينها لا يطعم فيكون المراد أكل غلتها. وأما الثاني فلأن حرف اللام للتمليك. وأما الثالث فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فمن أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده» وكذا إذا قال: جعلت هذه الدار لك عمرى، لما قلنا. وأما الرابع فلأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأرض، حيث يكون عارية لأن عينها لا يطعم) ش: أي لأن الأرض، والتذكير باعتبار المذكور، وفي بعض النسخ لأن عينها وهو الأصوب، فيكون المعنى أطعمتك ما يحصل منها، فكان تمليكا لمنفعة الأرض دون عينها م: (فيكون المراد أكل غلتها) ش: أي إذا كان كذلك يكون من قوله أكل غلة الأرض وهو ريعها. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا في تقرير صاحب " الهداية " نظر؛ لأنه قال إن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك العين، فعلى هذا ينبغي أن يكون المراد من الإطعام في الكفارة التمليك لا الإباحة كما هو مذهب الخصم؛ لأن المراد من الإطعام إطعام الطعام، والطعام يؤكل عينه، فكان الإطعام في الآية مضافا إلى ما يطعم عينه فافهم.
قلت: لا نسلم أنه أضيف إلى ما يؤكل عينه بل هو مضاف إلى عشرة مساكين، فافهم.
م: (وأما الثاني) ش: يعني قوله جعلت هذا الثوب لك م: (فلأن حرف اللام للتمليك) ش: فكان معناه ملكت هذا الثوب لك. ألا ترى أن في التمليك ببدل لا فرق بين لفظ الجعل والتمليك، فكذا في التمليك بغير بدل، وكسوتك هذا الثوب بمعناه لأنه لتمليك العين قال الله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] والكفارة لا تتأدى إلا بتمليك الثوب.
م: (وأما الثالث) ش: يعني قوله وأعمرتك هذا الشيء م: (فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فمن أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر ولعقبه» .
م: (وكذا إذا قال جعلت هذه الدار لك عمرى) ش: يقال أعمرته داري أو أرضا أو إبلا إذا أعطيته إياها وقلت " هي لك عمري أو عمرك، فإذا مت رجعت إلي، والعمرى اسم م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله فلأن حرف اللام للتمليك.
م: (وأما الرابع) ش: يعني قوله وحملتك على هذه الدابة م: (فلأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية) ش: قيل كيف يستقيم هذا القول وقد قال في العارية إن حملتك والتمليك العين.
قلت: قدر هذا النظر هناك.

(10/166)


لكنه يحتمل الهبة يقال حمل الأمير فلانا على فرس ويراد به التمليك فيحمل عليه عند نيته.
ولو قال: كسوتك هذا الثوب يكون هبة؛ لأنه يراد به التمليك. قال الله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ، ويقال كسا الأمير فلانا ثوبا، أي ملكه منه.
ولو قال: منحتك هذه الجارية كانت عارية لما روينا من قبل،
ولو قال: داري لك هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية؛ لأن العارية محكمة في تمليك المنفعة والهبة تحتملها وتحتمل تمليك العين فيحمل المحتمل على المحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتحرير الجواب: أن قوله هاهنا حقيقة بالنظر إلى الوضع، وقوله هناك لتمليك العين، يعني في العرف والاستعمال، ولكن الحقيقة ما هجرت بالعرف فيصير كأنة مشترك م: (لكنه يحتمل الهبة، يقال حمل الأمير فلانا على فرس) ش: أي ملكه إياها، وهو معنى قوله م: (ويراد به التمليك فيحمل عليه) ش: أي على التمليك م: (عند نيته) ش: فإذا نوى ما يحتمله لفظه وفيه تشديد عليه فيعتبر نيته.

[قال كسوتك هذا الثوب هل يكون هبة]
م: (ولو قال: كسوتك هذا الثوب يكون هبه) ش: هذا من مسائل " المبسوط " ذكره تفريعا على مسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه يراد به التمليك، قال الله تعالى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ش: فإن المراد به تمليك العين لا تمليك المنفعة م: (ويقال كسى الأمير فلانا ثوبا، أي ملكه منه) ش: أي من فلان.

[قال منحتك هذه الجارية أو داري لك هبة سكنى]
م: (ولو قال منحتك هذه الجارية كانت عارية لما روينا من قبل) ش: أراد به ما ذكره من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «المنحة مردودة» ، ولكن إذا نوى التمليك يثبت؛ لأنه محتمل كلامه.

م: (ولو قال: داري لك هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية) ش: وهذا من مسائل الجامع الصغير، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: في الرجل يقول: هذا لك هبة سكنى ودفعها إليه قال هذه عارية. وإن قال: هي لك هبة تسكنها فهي هبة، وإن قال هي لك سكن هبة فهي سكنى، انتهى.
ونصب الهبة في الموضعين على الحال والتبيين لما في قوله داري لك من الإبهام م: (لأن العارية محكمة في تمليك المنفعة والهبة تحتملها) ش: أي تحتمل المنافع م: (وتحتمل تمليك العين، فيحمل المحتمل على المحكم) ش: يعني صار المحكم قاضيا على المحتمل، فكأنه قال: سكنى داري لك فيكون عارية، لأن العارية محكم.
فإن قلت: من أين تقول إنها محكم؟
قلت: لأنها لا تحتمل تمليك الرقبة؛ لأنه خرج تفسير الأول الكلام فيعتبر به حكم أول الكلام. قالت الشراح: كان حق الكلام أن يقول: لأن السكنى محكم في تمليك المنفعة، وكذا

(10/167)


وكذا إذا قال عمرى سكنى أو نحلى سكنى أو سكنى صدقة أو صدقة عارية أو عارية هبة لما قدمناه.
ولو قال: هبة تسكنها فهي هبة؛ لأن قوله تسكنها مشورة وليس بتفسير له وهو تنبيه على المقصود. بخلاف قوله هبة سكنى؛ لأنه تفسير له.
قال: ولا يجوز الهبة فيما يقسم إلا محوزة مقسومة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكره في " المبسوط " حيث قال: لأن السكنى محكم.
وأجيب: بأن السكنى لا يحتمل إلا العارية فأطلق عليه اسم العارية م: (وكذا إذا قال عمرى سكنى أو نحلى سكنى) ش: بضم النون وسكون الحاء وهي العطية م: (أو سكنى صدقة) ش: بأن قال داري لك سكنى صدقة م: (أو صدقة عارية) ش: بأن قال داري لك صدقة م: (أو عارية هبة لما قدمناه) ش: ليحمل على المحكم.

م: (ولو قال هبة تسكنها فهي هبة) ش: ذكر في " المبسوط ". ولو قال: داري لك هبة تسكنها، أو قال عمرى لتسكنها وسلمها إليه فهي هبة م: (لأن قوله هبة تسكنها مشورة) ش: بفتح الميم وضم الشين بمعنى الشورى، وهي استخراج رأي على غالب الظن م: (وليس بتفسير له) ش: لأن الفعل لا يصلح تفسيرا للاسم م: (وهو تنبيه على المقصود) ش: بأن قال ملكه الدار عمره ليسكنها وهو معلوم، وإن لم يذكره فلا يتغير به حكم التمليك بمنزلة قوله هذا الطعام تأكله وهذا الثوب تلبسه فإن شاء قبل مشورته وفعل ما قال، وإن شاء لم يقبل.
م: (بخلاف قوله هبة سكنى لأنه تفسير له) ش: لأن قوله سكنى اسم فجاز أن يكون تفسيرا لاسم آخر، فيتغير به أول الكلام كما في الاستثناء والشرط فيكون عارية.

[الهبة فيما يقسم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجوز الهبة فيما يقسم إلا محوزة) ش: أي مفرغة عن إملاك الواهب، حتى لا تصلح هبة الثمر على الشجر والزرع في الأرض بدون الشجر والأرض، وكذا العكس عندنا م: (مقسومة) ش: احترز به من المشاع، قيل في الفرق بين ما يقسم وبين ما لا يقسم كل شيء يضره التبعيض ويوجب نقصانا في ماليته، فإنه لا يحتمل القسمة كالدراهم والدنانير فهبة بعضه جائز بلا خلاف
وقيل: كل ما يفوت بالقسمة منفعته أصلا كالعبد أو جنس منفعته كالحمام والرجى فهو لا يحتمل القسمة.
وقيل: كل مشترك بين اثنين لو طلب أحدهما قسمة، وإلى الآخر فالقاضي لا يجبره على القسمة، وهو مما لا يحتمل القسمة، ثم الشيوع المقارن للهبة فيما يحتمل القسمة مفسد لا الطارئ، حتى لو وهب شيئا فرجع في بعضه تصح الهبة.

(10/168)


وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز في الوجهين؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والعبرة في الشيوع وقت القبض لا وقت العقد، حتى لو وهب مشاعا وسلم مقسوما يجوز، وكذا لو وهب نصف الدار ولم يسلم، ثم وهب النصف الآخر وسلمه جازت الهبة، أو وهب تمرا في نخل أو زرعا في أرض، ثم سلم بعد ذلك مفرزا يجوز، كذا في " الذخيرة " وغيره فعلم من هذا أن معنى قوله لا يجوز الهبة فيما يقسم إلا مجوزة مقسومة لا تثبت الملك فيه لا يجوزه مقسومة؛ لأن الهبة في نفسها فيما يقسم تقع جائزة، ولكن غير مثبتة للملك. قبل تسلمه مفرزا نظيرا، نظيره البيع بشرط الخيار.
وفي " الحائط " قال علماؤنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة لا يتم، ويفيد الملك قبل القسمة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنها تامة، وبعض أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قالوا إنها فاسدة، والأصح ما قلناه كالهبة قبل القبض، ولا يقال إنها فاسدة بل غير تامة، كذا هذا.
وأجمعوا على أن هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة كالعبد والدابة تامة، كذا قال علاء الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - العالم في طريقة الخلاف. وقال في الطريقة البرهانية قال علماؤنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وهبة المشاع فيما يحتمل القسمة يفيد الملك بالتخلية. وقال شيخ الإسلام أبو بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - المعروف بخواهر زاده في " مبسوطه ": قال علماؤنا: إذا وهب مشاعا يحتمل القسمة لا يجوز سواء كان وهب في الأجنبي أو من شريكه.
وقال الشافعي - رضى الله عنه -: يجوز من الأجنبي ومن الشريك، وقال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن وهب من الأجنبي لم يجز، وإن وهب من الشريك جاز وأجمعوا على أنه إذا وهب ما لا يحتمل القسمة فإنه يجوز.
م: (وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة) ش: معناه هبة المشاع لا يحتمل القسمة جائزة؛ لأن المشاع غير مقسوم، فيكون المعنى ظاهرا ووهبت النصيب غير المقسوم فيما هو غير مقسوم، وذلك مستنكر ودفعه بما ذكرنا، فافهم.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في الوجهين) ش: أي فيما يحتمل القسمة وفيما لا يحتمل، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله -. وفي " الروضة ": يجوز هبة المشاع سواء المنقسم وغيره سواء وهبه للشريك أو غيره، ويجوز هبة الأرض المزروعة مع زرعها وعكسه. وفي " الجواهر " للمالكية: ولا يمتنع بالشيوع، وإن كان قبل القسمة، وتصح هبة المجهول والآبق والكلب.
وفي " فتاوى الحنابلة ": وتصح هبة المشاع وإن تعذرت قسمته، ويصح من الشريك

(10/169)


لأنه عقد تمليك فيصح في المشاع وغيره كالبيع بأنواعه، وهذا لأن المشاع قابل لحكمه وهو الملك، فيكون محلا له، وكونه تبرعا لا يبطله الشيوع كالقرض والوصية، ولنا أن القبض منصوص عليه في الهبة فيشترط كماله، والمشاع لا يقبله إلا بضم غيره إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وغيره سواء كان مما ينقل ويحول أو لم يكن، سواء كان مما ينقسم أو مما لا يأتي قسمته كالشقص في العبد والدابة والجوهرة والسرخي م: (لأنه عقد تمليك فيصح في المشاع وغيره كالبيع بأنواعه) ش: من الصحيح والفاسد والصرف والسلم وغيره فإن الشيوع لا تمنع تمام القبض في هذه العقود بالإجماع.
م: (وهذا) ش: أي جوازه م: (لأن المشاع قابل لحكمه) ش: أي لحكم عقد الهبة م: (وهو الملك فيكون محلا له) ش: كالمبيع والإرث وكل ما هو قابل لحكم عقد يصلح أن يكون محلا له؛ لأن المحلية غير القابلية أو لازم من لوازمها، فكان العقد صادرا من أهله مضافا إلى محله، ولا مانع ثمة فكان جائزا.
م: (وكونه تبرعا لا يبطله الشيوع) ش: جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال البيع لا يفتقر إلى القبض، بخلاف الهبة فإنه عقد تبرع ومحتاج إلى القبض.
فلو قلنا بجوازه: في المشاع يلزم في ضمنه وجوب ضمان القسمة وهو لم يتبرع به.
فأجاب بقوله: وكونه أي وكون الهبة والتذكير باعتبار الوهب أو المذكور تبرعا لا يبطله الشيوع، يعني لم يعهد ذلك مبطلا في التبرعات.
م: (كالقرض) ش: بأن دفع ألف درهم إلى رجل على أن يكون نصفه قرضا يعمل في النصف الآخر شرك، فإنه يجوز مع أن القبض شرط لوقوع الملك في القرض، ثم لا يشترط القسمة م: (والوصية) ش: بأن أوصى لرجلين بألف درهم فإن ذلك صحيح، فدل على أن الشيوع لا يبطل التبرع حتى يكون مانعا.
م: (ولنا أن القبض منصوص عليه في الهبة) ش: أراد به ما ذكره من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» وفيه نظر؛ لأنه قد تقدم أن هذا الحديث لا أصل له ولم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اشتراط القبض في الهبة شيء.
ولو ثبت اشتراط قبض فقبض كل شيء بحسبه م: (فيشترط كماله) ش: أي كمال القبض؛ لأن التنصيص عليه يدل على الاعتناء بوجوده، حتى لو استقبل الحطيم لا تجوز صلاته؛ لأنه بالبيت بالسنة، وهذا؛ لأن الثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا، وبدون الإطلاق لا يثبت م: (والمشاع لا يقبله) ش: أي القبض م: (إلا بضم غيره إليه) ش: الموهوب إلى الموهوب م:

(10/170)


وذلك غير موهوب، ولأن في تجويزه إلزامه شيئا لم يلتزمه وهو مؤنة القسمة، ولهذا امتنع جوازه قبل القبض لئلا يلزمه التسليم. بخلاف ما لا يقسم؛ لأن القبض القاصر هو الممكن فيكتفى به، ولأنه لا تلزمه مؤنة القسمة والمهايأة تلزمه، فيما لم يتبرع به وهو المنفعة والهبة لاقت العين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وذلك) ش: أي الغير م: (غير موهوب) ش: وغير ممتاز عن الموهوب، فصارت الحيازة ناقصة فلا ينتهض لإفادة الملك.
م: (ولأن في تجويزه) ش: عقد الهبة في المشاع م: (إلزامه) ش: أي إلزام الواهب م: (شيئا لم يلتزمه وهو مؤنة القسمة) ش: لأنه لو ملكه قبل القسمة لطالبه بالقسمة، فيصير عقد التبرع موجبا ضمان المقاسمة عليه وهو خلاف موضع التبرع.
فإن قيل: هذا ضرر مرضي؛ لأن إقدامه على هبة المشاع يدل على التزامه ضرر القسمة والصائر من الضرر ما لم يكن مرضيا.
أجيب بأن: المرضي منه ليس القسمة، ولا ما يستلزمها لجواز أن يكون راضيا بالملك المشاع، وهو ليس بقسمة ولا يستلزمها، قيل: هذه العلة غير مطردة؛ لأنهم قالوا: لا تجوز الهبة من الشريك وليس ثمة ضرر القسمة، وكذلك قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز هبة واحد من اثنين وليس في ضرر القسمة.
قلت: وجود العلة تراخي في جنس الحكم لا في كل صورة.
م: (ولهذا) ش: أي ولأن تجويز هذا العقد إلزام ما لم يلتزم م: (امتنع جوازه) ش: أي جواز ثبوت الملك م: (قبل القبض لئلا يلزمه التسليم) ش: وهو لا يتحقق بدون مؤنة القسمة م: (بخلاف ما لا يقسم؛ لأن القبض القاصر هو الممكن فيكتفى به) ش: ضرورة م: (ولأنه لا تلزمه مؤنة القسمة) ش: وقد قيل إن هذا الذي ذكره كله مرتب على اشتراط كمال القبض، وفي اشتراط أصله نظر، فكيف باشتراط كماله.
والصحيح جواز هبة المشاع ورهنه وإجازته ووقفه كما يجوز بيعه وقرضه والوصية به، ولا زال الناس على ذلك ولم يرد في رده كتاب ولا سنة ولا إجماع، فإن طلب الموهوب له القسمة وألزم بها الواهب فهو كما إذا ألزم بها البائع وقد باع حصة عما يملكه، فكان أن ذلك لا يمنع من صحة البيع وإن كان فيه إلزام بما لا يلتزمه، فكذلك لا يمنع من صحة الهبة.
م: (والمهايأة تلزمه) ش: هذا جواب سؤال يرد علينا، تقديره أن يقال ينبغي أن لا يجوز فيما لا يحتمل القسمة؛ لأنه يلزم المهايأة، وفي إيجابها إلزام ما لم يلتزم. وتقرير الجواب أن المهايأة تلزمه م: (فيما لم يتبرع به وهو المنفعة والهبة لاقت العين) ش: فلم يكن ذلك زمانا في عين

(10/171)


والوصية ليس من شرطها القبض، وكذا البيع الصحيح وأما البيع الفاسد والصرف والسلم فالقبض فيها غير منصوص عليه، ولأنها عقود ضمان فتناسب لزوم مؤنة القسمة، والقرض تبرع من وجه وعقد ضمان من وجه، فشرطنا القبض القاصر فيه دون القسمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما تبرع، بل هذه من ضرورات الانتفاع يملكه.
ولقائل أن يقول: إلزام ما لم يلتزم الواهب بعقد الهبة إن كان مانعا عن جوازها فقد وجد وإن حصصتم بعودة إلى ما تبرع به كان محكما.
والجواب: بتحصيصه بذلك وبدفع الحكم بأن في عوده إلى ذلك إلزام زيادة عين هي أجرة القسمة على العين الموهوبة بإخراجها عن ملكه وليس في غيره ذلك؛ لأن المهايأة لا تحتاج إليها ولا يلزم ما إذا أتلف الواهب الموهوب بعد التسليم فإنه يضمن قيمته للموهوب له، وفي ذلك إلزام زيادة عين على ما تبرع به؛ لأن ذلك بالإتلاف لا بعقد التبرع.
م: (والوصية ليس من شرطها القبض) ش: هذا جواب عن قوله كالقبض بالوصية. تقريره أن الشيوع مانع فيما يكون القبض من شرطه لعدم تحققه في المشاع والوصية ليست كذلك م: (وكذا البيع الصحيح وأما البيع الفاسد والصرف والسلم فالقبض فيها) ش: يعني وكذا حكم البيع.. إلى آخره.
أراد به وإن كان القبض فيها شرطا للملك، ولكنه م: (غير منصوص عليه) ش: فلا يصح نفيه. قلنا: كلامنا فيما يكون القبض منصوصا عليه لثبوت الملك ابتداء، وفي الصرف لبقائه في ملكه فليس فيما نحن فيه، وكذا الكرام في السلم، فإن اشتراط قبض رأس المال للاحتراز وهو النسيئة بالنسيئة، وكذا فسره أبو عبيد القاسم بن سلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وروى الحديث أيضا وقال: حدثني زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عنه.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن الأشياء المذكورة م: (عقود ضمان فتناسب لزوم مؤنة القسمة) ش: يعني تناسب تعلق ضمان القسمة بها، بخلاف الهبة (والقرض تبرع) ش: هذا من تتمة الجواب عن قوله كالقرض والوصية أي القرض تبرع م: (من وجه) ش: بدليل أنه لا يصح من الصبي والعبد م: (وعقد ضمان من وجه) ش: فإن المستقرض مضمون بالمثل م: (فشرطنا القبض القاصر فيه) ش: أي إذا كان كذلك فلشبهة التبرع شرطنا القبض كما في الهبة والشبهة بعقد الضمان لم يشترط القسمة، وهو معنى قوله م: (دون القسمة) ش: كما في البيع، فاكتفى فيه بالقبض

(10/172)


عملا بالشبهين على أن القبض غير منصوص عليه فيه.
ولو وهب من شريكه لا يجوز؛ لأن الحكم يدار على نفس الشيوع.
قال: ومن وهب شقصا مشاعا فالهبة فاسدة لما ذكرنا، فإن قسمه وسلمه جاز؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاصر م: (عملا بالشبهين) ش: وهما شبه التبرع وشبه الضمان، وانتصاب عملا على التعليل أي لأجل العمل بالشبهين م: (على أن القبض غير منصوص عليه فيه) ش: أي في القرض ليراعى وجوده على أكمل الجهات.

[الحكم لو وهب من شريكه]
م: (ولو وهب من شريكه لا يجوز لأن الحكم يدار على نفس الشيوع) ش: هذا جواب سؤال يقال من جهة الخصم، تقريره أن يقال عدم جواز الهبة في المشاع لا يخلو من أحد الأمرين، إما أن يكون دائرا على نفس الشيوع أو على لازم المطالبة بالقسمة إن قلتم بالأول يبطل بالمشاع الذي لا ينقسم.
وإن قلتم: بالثاني يبطل بما إذا وهب نصيبه من شريكه فإنه لا يجوز عندكم، مع أنه ليس فيه لزوم المطالبة بالقسمة.
وتقدير الجواب: أن الحكم معلق بنفس الشيوع في محل يتصور فيه المطالبة بالقسمة، فأقيم الشيوع مقام المطالبة بالقسمة، لكن في الموضع الذي يتصور فيه القسمة وهيئة نصيبه من شريكه من هذا القبيل، فأقيم الشيوع فيه مقامها. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا في الحقيقة جواب عن قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده هبة المشاع فيما يحتمل القسمة يجوز من الشريك لعدم استحقاق ضمان القسمة.
قلت: هذا يفيد، وإن كان له وجه؛ لأن هذا الكلام من تتمة الجواب فيما أورد الخصم علينا على ما لا يخفى.

[حكم هبة الشقص المشاع]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن وهب شقصا) ش: بكسر الشين المعجمة وسكون القاف، أي نصيبا م: (مشاعا فالهبة فاسدة) ش: معناه لا يثبت الملك قبل تسليمه مفرزا؛ لأن الهبة في نفسها جائزة على ما قررناه عن قريب م: (لما ذكرنا) ش: من أن الهبة فيما يقسم لا يجوز إلا محرزة مقسومة م: (فإن قسمه) ش: أي فإن قسم المشاع وأفرز نصيبه م: (وسلمه) ش: إلى الموهوب له م: (جاز) ش: أي يثبت الملك حينئذ في الهبة الفاسدة لو قبضه مشاعا فهلك عند الموهوب له، ذكر ابن رستم أنه يضمن ولا يفيد الملك وبه أخذ الطحاوي.
وقال عصام: يفيد الملك ولا يكون مضمونه في يده، وبه أخذ بعض المشايخ، كذا في

(10/173)


لأن تمامه بالقبض، وعنده لا شيوع،
قال: ولو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم فالهبة فاسدة، فإن طحن وسلمه لم يجز، وكذا السمن في اللبن؛ لأن الموهوب معدوم، ولهذا لو استخرجه الغاصب يملكه، والمعدوم ليس بمحل للملك فوقع العقد باطلا فلا ينعقد إلا بالتجديد، بخلاف ما تقدم؛ لأن المشاع محل للتمليك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" فتاوى قاضي خان " م: (لأن تمامه بالقبض وعنده) ش: أي عند القبض م: (لا شيوع) ش: فلا فساد.

[الحكم لو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم فالهبة فاسدة) ش: الأصل هنا أن المحل إذا كان معدوما حالة العقد لم ينعقد إلا بالتجديد، بخلاف ما إذا كان مشاعا فإنه بعد الإفراز لا يحتاج إلى التجديد على ما يجيء الآن م: (فإن طحن) ش: الحنطة م: (وسلمه) ش: الدقيق م: (لم يجز، وكذا السمن في اللبن؛ لأن الموهوب معدوم) ش: يعني ليس بموجود بالفعل، وإنما يحدث بالطحن والعصر ولا معتبر بكونه موجودا بالقوة؛ لأن عامة الممكنات كذلك، ولا تسمى موجودة، وبهذا مخرج الجواب عن ما قيل ينبغي أن يجوز بيع الدهن بالسمسم مطلقا بلا اشتراط أن يكون الدهن الصافي أكثر مما في السمسم.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الموهوب معدوما م: (لو استخرجه الغاصب) ش: بأن غصب سمسما فاستخرج دهنه فإنه م: (يملكه) ش: لأنه وقت الغصب لم يكن موجودا، فلم يرد عليه الغصب م: (والمعدوم ليس بمحل للملك، فوقع العقد باطلا فلا ينعقد إلا بالتجديد) ش: أي إلا بتجديد العقد م: (بخلاف ما تقدم) ش: وهو المشاع، فإنه لا يحتاج فيه إلى تجديد العقد م: (لأن المشاع محل للتمليك) ش: لكونه موجودا وقت العقد، ويتصور القبض منه، لكن لا على سبيل الكمال، وهذا يصح بيعه بالإجماع والمانع فيه لمعنى في غيره وهو العجز عن التسليم، فإذا زال المانع انقلب جائزا.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": ولو وهب رجل لرجل ما في بطن جاريته أو ما في بطن غنمه أو ما في ضروعها، أو وهب له سمنًا من لبن قبل أن يسلى، أو زبدًا منه قبل أن يمخض أو دهنًا من سمسم قبل أن يعصر أو زيتا من زيتون أو دقيقا من حنطة وسلطه على قبضه عند الولادة أو عند استخراج ذلك، فإن ذلك لا يجوز ولا يشبه هذا الدين ولا يسلطه على قبضه؛ لأن الدين الذي في ذمة الغريم لم يجز بيعه منه وهبته له، وغير ذلك مما ذكرنا لا يجوز هذا فيه، انتهى.

(10/174)


وهبة اللبن في الضرع والصوف على ظهر الغنم والزرع والنخل في الأرض، والتمر في النخيل بمنزلة المشاع؛ لأن امتناع الجواز للاتصال وذلك يمنع القبض كالمشاع.
قال: وإذا كانت العين في يد الموهوب له ملكها بالهبة وإن لم يجدد فيه قبضا؛ لأن العين في قبضه والقبض هو الشرط،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[ما لا تجوز هبته]
[هبة اللبن في الضرع والصوف على الظهر]
م: (وهبة اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم والزرع والنخل في الأرض والتمر في النخيل بمنزلة المشاع) ش: يعني لا يجوز كما في المشاع، وعند الثلاثة يجوز، ثم عندنا إذا حلب اللبن وجز الصوف وسلمه وقبضه الموهوب له جاز استحسانًا كما في المشاع إذا وهبه وسلمه، وكذا لو قطع الثمر والزرع وسلمها م: (لأن امتناع الجواز للاتصال) ش: أي يملك الواهب لا لكون هذه الأشياء معدومة بدليل أن الصوف على ظهر الغنم واللبن في الضرع محل التمليك حتى يجوز الصلح عليه عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبالفصل ينعدم الشيوع.
والأصل في حسم هذه المسائل أن اشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام القبض، والقبض الناقص يمنع صحة الهبة، فعلى هذا إذا وهب دارًا فيها متاع الواهب أو جرابًا أو جرة ألقى فيها طعام الواهب فالهبة فاسدة، ولا معتبر بالشغل وقت العقد إذا وقع التسليم فارغًا صغرت أو يعتبر الإذن بالقبض بعد التفريغ.
ولا يكفي قوله سلمتها إليك مع الشغل، فلو وهب ما في الدار وما في الجراب أو الجوالق من الطعام فالهبة تامة؛ لأن الموهوب هنا شاغل لملك الواهب وليس بمشغول بملكه، وقيام اليد على التبع لا يوجب قيام اليد على الأصل، بخلاف المسألة الأولى، ونظير ما لو وهب جارية وعليها حلي فوهبها دون حليها وسلمها فالهبة تامة، وكذا الدابة وعليها سرج أو لجام، أو وهب السرج أو اللجام دون الدابة م: (وذلك) ش: أي الاتصال م: (يمنع القبض كالمشاع) ش: ففي الشائع يمنع، فكذا في الاتصال.

[ما تملك به الهبة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا كانت العين في يد الموهوب له) ش: بأن كانت وديعة أو عارية أو نحوها م: (ملكها بالهبة وإن لم يجدد فيه؛ لأن العين فيه قبضا والقبض هو الشرط) ش: وهو موجود الأصل في ذلك تجانس القبضين يجوز نيابة أحدهما عن الآخر، وتغايرهما يجوز نيابة الأعلى عن الأدنى دون العكس، فإن كان الشيء وديعة في يد شخص أو عارية فوهبه إياه لا يحتاج إلى تجديد قبض؛ لأن كلا القبضين ليس ضمانًا فكانا مجانسين. ولو كان بيده مغصوبًا أو ببيع فاسد فوهبه إياه لم يحتج إلى تجديده؛ لأن الأول أقوى فينوب عن الضعيف؛ لأن في الأعلى ما في الأدنى وزيادة فوجد القبض المحتاج إليه وزيادة شيء.
ولو كانت وديعة فباعه منه فإنه يحتاج إلى قبض؛ لأن قبض الأمانة ضعيف فلا ينوب عن قبض الضمان هذا الذي ذكره في " الذخيرة " وغيره.

(10/175)


بخلاف ما إذا باعه منه؛ لأن القبض في البيع مضمون فلا ينوب عنه قبض الأمانة، أما قبض الهبة فغير مضمون فينوب عنه. وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد؛ لأنه في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة. ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو في يد مودعه؛ لأن يده كيده بخلاف ما إذا كان مرهونا أو مغصوبا أو مبيعا بيعا فاسدا؛ لأنه في يد غيره أو في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر أبو نصر في شرحه: لو كان مضمونًا في يده أو بالمثل بغيره كالمبيع والمرهون لا ينوب عن قبض الواهب بالهبة، ولا بد من تجديد القبض. ولو كان مضمونًا في يد بالقيمة أو بالمثل كالمقبوض على سوم الشراء والمغصوب فوهب له ثبت الملك ولا يحتاج إلى تجديد القبض لوجود أصل القبض وزيادة.
فإن قلت: ما معنى تجديد القبض؟.
قلت: هو أن ينتهي على موضع فيه العين ويمضي وقت يتمكن فيه من قبضها.
م: (بخلاف ما إذا باعه منه؛ لأن القبض في البيع مضمون فلا ينوب عنه قبض الأمانة، أما قبض الهبة فغير مضمون، فينوب عنه) ش: أي ينوب قبض الأمانة عن غير المضمون وهو الهبة، وقد مر مستوفى.
م: (وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد) ش: أي بمجرد العقد، وهذا من مسائل القدوري م: (لأنه) ش: أي لأن الذي وهبه م: (في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة) ش: فلا يحتاج إلى قبض آخر ولا يشترط فيه الإشهاد إلى أن فيه احتياطًا للتحرز عن جحود الورثة بعد موته، أو جحود بعد إدراك الولد. وقال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء على أن هبة الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض جديد، أما هل يحتاج إلى القبول لابنه الصغير، فقال الشافعي والقاضي الحنبلي: لا بد أن يقول - بعد قوله: وهبته له -: قبله، وظاهر مذهب أحمد لا يحتاج إلى هذا كقولنا. وقال مالك: لو وهبه بمال لا يعرف بعينه كالأثمان لم يجز إلا أن يضعها على يد غيره ويشهد عليه وعند القاضي لا فرق بين الأثمان وغيرها.
م: (ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو في يد مودعه؛ لأن يده كيده) ش: أي لأن يد المودع كيد المودع بالكسر حكمًا فيمكن أن يجعل قابضًا لولده باليد التي هي قائمة مقام يده.
فإن قلت: لو وهب الوديعة من المودع يجوز، فلو كانت يده كيده لم يكن قابضًا لنفسه.
قلت: يده كيده ما دام عاملًا له وذلك قبل الهبة، وأما بعدها فهو عامل لنفسه.
م: (بخلاف ما إذا كان) ش: أي الموهوب للابن م: (مرهونًا أو مغصوبًا أو مبيعًا بيعًا فاسدًا؛ لأنه في يد غيره) ش: أي غير الأب فلا ينوب قبض المرتهن والغاصب عن قبض الهبة للولد م: (أو في

(10/176)


ملك غيره، والصدقة في هذا مثل الهبة وكذا إذا وهبت له أمه وهو في عيالها والأب ميت ولا وصي له، وكذلك كل من يعوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ملك غيره) ش: وفي " الذخيرة ": أرسل غلامه في حاجة ثم بعد الإرسال وهبه صحت الهبة؛ لأنه في يده حكمًا، فلو لم يرجع حتى مات الأب فهو للولد ولا يصير ميراثًا، وكذا لو وهب عبدًا آبقًا من ابنه الصغير، فما دام مترددا في دار الإسلام تجوز الهبة والأب قابض له بنفس الهبة.
وفي " فتاوى أبي الليث ": وهب لابنه الصغير دارًا مشغولًا بمتاع الواهب جاز، وفي " المنتقى " عن محمد: لو وهب داره لابنه وفيها ساكن بأجر لا يجوز، ولو كان بغير أجر يجوز؛ لأن في الأول يتبع قبض غيره فيمنع تمام الهبة بخلاف الثاني م: (والصدقة في هذا مثل الهبة) ش: أراد أن الصدقة في الحكم المذكور كحكم الهبة فيما إذا تصدق على ابنه الصغير ملكها الابن بعقد الصدقة، فلو تصدق عليه بما عند مودعه جاز، بخلاف ما إذا تصدق بما في يد المرتهن والغاصب والمشتري بالشراء الفاسد، والتعليل هو التعليل.
م: (وكذا إذا وهبت له أمه وهو) ش: أي والحال أنه م: (في عيالها والأب ميت ولا وصي له) ش: هاتان الجملتان أيضًا حال، قيد بقوله: في عيالها؛ ليكون لها عليه نوع ولاية، وقيد بموت الأب وعدم الوصي لأن عند وجودهما ليس لها ولاية القبض م: (وكذلك كل من يعوله) ش: يعني كل من يعول الصغير إذا قبض الهبة له يصح كالأخ والعم والأجنبي، وعند الثلاثة إذا وهب للصبي غير الأب من الأولياء لا بد أن يوكل من يقبل له ويقبضه له فيكون الإيجاب منه والقبول والقبض من غيره كما في البيع.
وقال ابن قدامة في " المغني ": والصحيح عندي أن الأب وغيره في هذا سواء، قيل: أطلق جواز قبض هؤلاء.
ولكن ذكر في " الإيضاح " و " مختصر الكرخي ": أن ولاية القبض لهؤلاء إذا لم يوجد واحد من الأربعة وهو الأب ووصيه، والجد أبو الأب بعد الأب ووصيه. فأما مع وجود واحد منهم فلا، سواء كان الصبي في عيال القابض أو لم يكن، وسواء كان ذا رحم محرم منه أو أجنبيا؛ لأنه ليس لهؤلاء ولاية التصرف في ماله، فقيام ولاية من يملك التصرف في المال يمنع ثبوت حق القبض له، فإذا لم يبق واحد منهم جاز قبض من كان الصبي في عياله لثبوت نوع ولاية له حينئذ. ألا ترى أنه يؤدبه ويسلمه في الصنائع، فقيام هذا القدر يطلق حق قبض الهبة لكونه من باب المنفعة.
قلت: هذا ليس بإطلاق، وإنما هو اقتصر في التقييد، وذلك؛ لأن قوله: وكذا كل من يعوله عطف على قوله: وكذا إذا وهبت له أمه، وهو مقيد بقوله: والأب ميت ولا وصي له، فيكون هذا في

(10/177)


وإن وهب له أجنبي هبة تمت بقبض الأب؛ لأنه يملك عليه الدائر بين النافع والضائر، فأولى أن يملك النافع. وإن وهب لليتيم هبة فقبضها له وليه وهو وصي الأب أو جد اليتيم أو وصيه جاز؛ لأن لهؤلاء ولاية عليه لقيامهم مقام الأب. وإن كان في حجر أمه فقبضها له جائز؛ لأن لها الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله، وهذا من بابه لأنه لا يبقى إلا بالمال، فلا بد من ولاية التحصيل وهو من أهله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعطوف أيضًا، لكنه اقتصر على ذكر الجد ووصيه للعلم بأن الجد الصحيح مثل الأب في أكثر الأحكام، ووصيه كوصي الأب.
م: (وإن وهب له) ش: أي للصغير م: (أجنبي هبة تمت بقبض الأب؛ لأنه يملك عليه الدائر بين النافع والضائر، فأولى أن يملك النافع) ش: الضائر فاعل من ضار يضير والضير والضرر، وهو لغة من الضور. وفي بعض النسخ الضار بتشديد الراء، وكلاهما واحد.
م: (وإن وهب لليتيم هبة فقبضها له وليه وهو) ش: أي وليه م: (وصي الأب أو جد اليتيم أو وصيه جاز؛ لأن لهؤلاء ولاية عليه لقيامهم مقام الأب. وإن كان) ش: أي اليتيم م: (في حجر أمه) ش: أي كنفها وتربيتها م: (فقبضها له) ش: أي قبض الهبة لليتيم م: (جائز لأن لها الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله، وهذا من بابه) ش: أي قبض الهبة له من باب الحفظ م: (لأنه لا يبقى إلا بالمال) ش: أي لأن حفظ اليتيم لا يبقى بقاؤه إلى بقوت وملبوس م: (فلا بد من ولاية التحصيل) ش: فلا بد أن يكون بسبيل من التحصيل في حقه، فصار ذلك من ضروراته. وكذا إذا كان في حجر أجنبي يربيه؛ لأن له عليه يدًا معتبرة، ألا ترى أنه لا يتمكن أجنبي آخر من أن ينزعه من يده فيملك ما يتمحض نفعًا في حقه؛ لأنه صار كالخلف، والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل.
وإن قبض الصبي الهبة بنفسه جاز، معناه إذا كان عاقلا؛ لأنه نافع في حقه م: (وهو من أهله) ش: أي الصبي من أهل التصرف فيما يتمحض نفعا له.
وفي " المبسوط ": هذا جواب الاستحسان وهو قولنا، أما في القياس لا يجوز قبضه بنفسه وإن كان عاقلا، وهو قول الشافعي. وفي رواية عن أحمد إن قبضه بإذن الولي صح، وعنه كقولنا.
فإن قيل: عقل الصبي إما أن يكون معتبرا أولا، فإن كان الثاني وجب أن لا يصح قبضه، وإن كان الأول وجب أن لا يجوز اعتبار الخلف مع وجود أهليته.
فالجواب: أن عقله فيما نحن فيه من تحصيل ما هو نفع معتبر لتوفير المنفعة عليه، وفي اعتبار الخلف توفيرها أيضا؛ لأنه ينفتح به باب آخر في تحصيلها فكان جائزا نظرا له، وهذا لم

(10/178)


وفيما وهب للصغيرة يجوز قبض زوجها لها بعد الزفاف لتفويض الأب أمورها إليه دلالة. بخلاف ما قبل الزفاف ويملكه مع حضرة الأب. بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونها إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة في الصحيح؛ لأن تصرف هؤلاء للضرورة لا بتفويض الأب، ومع حضوره لا ضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعتبر في المتردد بين النفع والضر لباب المضرة عليه؛ لأن عقله قبل البلوغ ناقص فلا يتم به النظر في عواقب الأمور، فلا بد من الأخذ برأي الولي.
م: (وفيما وهب للصغيرة يجوز قبض زوجها لها بعد الزفاف) ش: بكسر الزاي مصدر من زففت العروس إلى زوجها، أي هديتها م: (لتفويض الأب أمورها إليه دلالة) ش: حيث زفها إليه وهي صغيرة وأقامه مقام نفسه في حفظها وحفظ مالها وقبض الهبة من حفظ المال، لكن لا تبطل بذلك ولاية الأب حتى لو قبضها جاز. وذكر المصنف الزفاف وذكر في " الإيضاح " الدخول.
وفي " الذخيرة ": شرط في قبض الزوج على زوجته الصغيرة أن يكون يجامع مثلها حتى لو لم يجامع مثلها لا يصح قبض الزوج عليها عند بعض أصحابنا، والصحيح أنه إذا كان يعولها صح قبضه عليها، يجامع مثلها أو لا لما ذكرنا. ولو أدركت لم يجز قبض الزوج والأب لأنها صارت ولية نفسها حين بلغت عاقلة، كذا في " المبسوط ".
م: (بخلاف ما قبل الزفاف) ش: لأنه قبل الزفاف لا يكون عليها بل مستحقه م: (ويملكه) ش: أي يملك الزوج قبض الهبة م: (مع حضرة الأب) ش: احترز به عما ذكر في " الإيضاح ": أن قبض الزوج لها إنما يجوز إذا لم يكن الأب حيا م: (بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها) ش: أي غير الأم م: (حيث لا يملكونها) ش: أي قبض الهبة لها م: (إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطة في الصحيح) ش: قيل الصحيح متعلق بقوله ويملكه مع حضرة الأب. قال صاحب " النهاية ": وإنما قلت هذا؛ لأن في قوله بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد الموت، أو غيبته غيبة منقطعة ليست رواية أخرى حتى يقع قوله: في الصحيح احترازا عنها.
قلت: كان حق الترتيب في التركيب أن يقول ويملكه مع حضرة الأب في الصحيح، بخلاف الأم وعبارته لا تخلو عن الإبهام م: (لأن تصرف هؤلاء للضرورة لا بتفويض الأب، ومع حضوره لا ضرورة) ش: احترز بقوله لا بتفويض الأب عن تصرف الزوج لما ذكرنا أن ولاية الزوج بتفويضه أمورها دلالة إليه، أما قبض غير الأب عليه إنما يصلح للضرورة، ولا ضرورة عند حضور من له ولاية.

(10/179)


قال: وإذا وهب اثنان من واحد دارا جاز لأنهما سلماها جملة وهو قد قبضها جملة فلا شيوع
وإن وهبها واحد من اثنين لا يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يصح؛ لأن هذه هبة الجملة منهما، إذ التمليك واحد فلا يتحقق الشيوع، كما إذا رهن من رجلين دارا. وله أن هذه هبة النصف من كل واحد منهما. ولهذا لو كانت الهبة فيما لا يقسم فقبل أحدهما صح. ولأن الملك يثبت لكل واحد منهما في النصف فيكون التمليك كذلك؛ لأنه حكمه وعلى هذا الاعتبار يتحقق الشيوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[وهب اثنان من واحد دارا]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا وهب اثنان من واحد دارا جاز؛ لأنهما سلماها جملة وهو قد قبضها جملة فلا شيوع) ش: لأن المانع هو الشيوع عند القبض وقد انتفى. ونقل صاحب " الأجناس " عن الأصل إذا وهب رجلان دارا من رجل جاز في قولهم. ولو وهب رجل من رجلين دارا لم يجز في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: جاز، وفي الرهن من رجلين جاز في قولهم جميعا، وكذلك في الإجارة من رجلين جاز.

م: (وإن وهبها واحد من اثنين لا يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يصح؛ لأن هذه هبة الجملة منهما، إذ التمليك واحد فلا يتحقق الشيوع، كما إذا رهن من رجلين دارا) ش: فإنه يجوز فالهبة أولى؛ لأن تأثير الشيوع في الرهن أكثر منه في الهبة، حتى لا يجوز الرهن في مشاع لا يحتمل القسمة دون الهبة، وبه قالت الثلاثة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن هذه هبة النصف من كل واحد منهما) ش: وهذا يثبت الملك ففي النصف هذا، وفي النصف هذا بالإجماع م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون هذه هبة النصف من كل منهما م: (لو كانت الهبة فيما لا يقسم فقبل أحدهما صح) ش: فصار كما لو وهب النصف لكل واحد منهما بعقد على حدة م: (ولأن الملك يثبت لكل واحد منهما في النصف) ش: هذا استدلال ثان، والفرق بين الاستدلالين أن الأول من جانب التمليك، وهذا من جانب الملك، فإذا ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف م: (فيكون التمليك كذلك) ش: أي كالملك يكون لكل واحد منهما النصف م: (لأنه حكمه) ش: أي لأن بالتمليك حكم الملك فإذا ثبت الملك مشاعا ثبت التمليك كذلك؛ لأنه حكمه الحكم يثبت بقدر دليله م: (وعلى هذا الاعتبار) ش: أي الاعتبار المذكور، وهو ثبوت الشيوع في التمليك بثبوت الملك مشاعا م: (يتحقق الشيوع) ش: فتفسد الهبة.
فإن قلت: التمليك يحصل بالتسليم، ولا شيوع فيه دون القبض، والملك يتعلق بالقبض لبقي الضمان عن المتبرع، فوجب أن يعتبر جانبه وهو التسليم لا جانب القبض.
قلت: التسليم إنما يعتبر إذا حصل به التمكن من القبض على سبيل الكمال، ولأنه طريق

(10/180)


بخلاف الرهن؛ لأن حكمه الحبس ويثبت لكل واحد منهما كملا فلا شيوع، ولهذا لو قضى دين أحدهما لا يسترد شيئا من الرهن. وفي " الجامع الصغير ": إذا تصدق على محتاجين بعشرة دراهم أو وهبها لهما جاز. ولو تصدق بها على غنيين أو وهبها لهما لم يجز. وقالا: يجوز للغنيين أيضا جعل كل واحد منهما مجازا عن الآخر، والصلاحية ثابتة؛ لأن لكل واحد منهما تمليك بغير بدل. وفرق بين الهبة والصدقة في الحكم في الجامع وفي الأصل سوى، فقال وكذلك الصدقة؛ لأن الشيوع مانع في الفصلين لتوقفهما على القبض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للقبض، فإذا لم يتمكن هو من القبض بصفة الكمال يعتبر التسليم.

م: (بخلاف الرهن) ش: جواب استشهاد م: (لأن حكمه الحبس ويثبت لكل واحد منهما) ش: أي من المرتهنين م: (كملا) ش: نصب على الحال من الضمير الذي في ثبت، أي كاملا، فإذا كان حكمه الحبس م: (فلا شيوع ولهذا) ش: توضيح لما ذكره م: (لو قضى) ش: أي المراهن م: (دين أحدهما لا يسترد شيئا من الرهن) ش: لأن حكمه الحبس فيتصور أن يكون ملك الحبس ثابتا لكل واحد على الكمال إذ لا تضايف في الحبس، بخلاف ملك العين، فإنه لا يتصور إثباته لكل واحد على الكمال.
م: (وفي الجامع الصغير) ش: إنما ذكر رواية الجامع الصغير لبيان ما وقع من الاختلاف بينهما وبين رواية " المبسوط " م: (إذا تصدق على محتاجين بعشرة دراهم أو وهبها لهما جاز، ولو تصدق بها على غنيين أو وهبها لهما لم يجز) ش: عند أبي حنيفة. حاصل هذا أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل الهبة مجازا عن الصدقة إذا صادفت الفقير والصدقة مجازا عن الهبة إذا صادفت الغني لوجود المجوز إذ كل منهما تمليك بغير بدل.
م: (وقالا: يجوز للغنيين أيضا) ش: يعني كما يجوز للفقيرين مطلقا فكذلك يجوز للغنيين مطلقا م: (جعل) ش: أي أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كل واحد منهما مجازا عن الآخر، والصلاحية ثابتة؛ لأن كل واحد منهما) ش: أي من الهبة والصدقة م: (تمليك بغير بدل) ش: فإذا كان كل منهما تمليكا بلا بدل يجوز استعارة أحدهما عن الآخر لوجود العلاقة م: (وفرق) ش: أي أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بين الهبة والصدقة في الحكم) ش: حيث جواز الصدقة والهبة في الحكم م: (في الجامع) ش: حيث جوز الصدقة على الفقيرين ولم يجوز الهبة على الغنيين.
م: (وفي الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (سوى) ش: أي الحكم م: (فقال وكذلك الصدقة) ش: أي لا يجوز الصدقة على رجلين، عنده لا يجوز الهبة، وهذا كما ترى لم يفرق بين الهبة والصدقة في منع الشيوع فيهما عن الجواز، وعلل بقوله م: (لأن الشيوع مانع في الفصلين لتوقفهما) ش: أي لتوقف الهبة والصدقة م: (على القبض) ش: والشيوع يمنع القبض على الكمال.

(10/181)


ووجه الفرق على هذه الرواية أن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى وهو واحد، والهبة يراد بها وجه الغني وهما اثنان. وقيل هذا هو الصحيح والمراد بالمذكور في الأصل الصدقة على غنيين.
ولو وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز. ولو قال: لأحدهما نصفها وللآخر نصفها عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه روايتان. فأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على أصله، وكذا محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ووجه الفرق) ش: أي بين الهبة من اثنين حيث لا يجوز عند أبي حنيفة، وبين الصدقة على اثنين حيث يجوز م: (على هذه الرواية) ش: أي رواية الجامع الصغير م: (أن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى وهو واحد) ش: لا شريك له فيقع جميع العين لله تعالى على الخلوص، فلا شيوع فيها، وإنما يصير الفقير نيابة عن الله تعالى بحكم الرزق المودع، فصار كالهبة إذا وقعت الواحد وقبضها اثنان بحكم الوكالة عن الموهوب له م: (الهبة يراد بها وجه الغني وهما اثنان) ش: لأن فرض المسألة فيه م: (وقيل هذا هو الصحيح) ش: أي المذكور في الجامع الصغير من جواز الصدقة على فقيرين هو الصحيح، فإذا كان هذا هو الصحيح يحتاج ما ذكر في الأصل إلى التأويل، أشار إليه بقوله م: (والمراد بالمذكور في الأصل الصدقة على غنيين) ش: فيكون مجاز الهبة والمجنون ما ذكرناه فعلى هذا التأويل لا مخالفة بين الروايتين، فلا يحتاج إلى الفرق.

[وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها]
م: (ولو وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز) ش: وبه قالت الثلاثة، التفضيل في الهبة إن كان ابتداء لم يجز بلا خلاف، سواء كان التفصيل بالصاد المهملة بالتفضيل كقوله وهبت ثلثيه الآخر أو بالتساوي كقوله للشخص وهبت لك نصفه ولآخر كذلك هذا لم يذكره في الكتاب وإن كان بعد الإجمال لم يجز عند أبي حنيفة سواء متفاضلا أو متساويا بناء على أصله، وجاز عند محمد مطلقا بناء على أصله.
وفرق أبو يوسف بين المساواة والمفاضلة، ففي المفاضلة لم يجوز. وفي المساواة جوز في رواية، أشار إليها بقوله: م: (ولو قال لأحدهما نصفها وللآخر نصفها عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه روايتان) ش: هذا ظاهر كلام المصنف. وجعل السغناقي هذا - أعني: قوله: ولو قال إلى آخره - تفضيلا ابتدائيا. ونقل عن عامة النسخ من " الذخيرة " و " الإيضاح " وغيرهما: أنه لم يجوز بلا خلاف وليس بظاهر؛ لأن المصنف عطف ذلك على التفصيل بعد الإجمال فالظاهر أنه ليس ابتدائيا.
م: (فأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على أصله وكذا محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وكذا محمد

(10/182)


والفرق لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصده ثبوت الملك في البعض فيتحقق الشيوع، ولهذا لا يجوز إذا رهن من رجلين ونص على الأبعاض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مر على أصله؛ لأن هذه هبة واحد من رجلين نص على التفاضل أو التساوي أولا، ألا ترى أن في البيع من رجلين يجعل بيعا واحدا منهما نص على التفاضل أولا فكذا هنا م: (والفرق لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصده ثبوت الملك في البعض فيتحقق الشيوع) ش: هذا دليل على صورة التفصيل بالمهملة بالتفضيل. وعلى صورة بالتساوي على رواية عدم الجواز. وأما رواية الجواز فلكونها غير معدولة عن أصله وهو أصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فليست محتاجة إلى الدليل.
وبهذا التوجيه يظهر خلل ما قاله السغناقي أن في قوله: إن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصد ثبوت الملك في البعض نوع إخلال حيث لا يعلم بما ذكر موضع خلافه من الأبعاض وما ليس فيه خلافا من الأبعاض فإنه لو نص على الأبعاض بالتنصيص بعد الإجمال، كما في قوله: وهبت لكما هذه الدار نصفها، ولهذا نصفها جاز، وإنما لا يجوز عند التنصيص على الأبعاض بالتنصيف إذا لم يتقدمه الإجمال، ووجهه ظهور خلله أنه إنما يستدل على ما عدل فيه عن أصله، والمذكور في الكتاب يدل عليه، وأما صورة الجواز فليست بمحتاجة إلى الدليل لجريانها على أصله.
م: (ولهذا) ش: توضيح لدلالة التنصيص على الأبعاض على تحقيق الشيوع في الهبة بالتنصيص على الأبعاض في الرهن، فقال وهذا م: (لا يجوز إذا رهن من رجلين ونص على الأبعاض) ش: بأن قال: رهنتكما هذا الشيء على أن يكون النصف رهنا عند هذا، والنصف الآخر عند هذا كان فاسدا؛ لأن بالتفصيل يتفرق العقد، فكذا هاهنا، أما إذا نص على التناصف فقد أمكن تصحيح العقد يجعل هذا مجازا عن موجب العقد؛ لأن مطلق العقد يقتضيه، فلا يكون حاله التفصيل مخالفا لحالة الإجمال فيصير التفصيل لغوا فلا يختلف العقد، فلم يعتبر شيوعا في العقد، بخلاف ما إذا نص على التفاوت في العقد حيث يفسد العقد؛ لأن التفصيل يخالف الإجمال فيجب اعتباره فيفرق العقد.
وفي " الأسرار ": وكلام محمد أوضح لأن افتراق الملك في الهبة ثابت بنفس العقد هاهنا ولا يثبت بالتفصيل كما لو قال نصفين وإنما يثبت بالتفصيل التفاضل في النصيب والمبطل للهبة نفس الشيوع لا شيوع بأنصبة متفاوتة.
قال الكاكي: وتأخير دليل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط " دليل على اختياره قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " نوادر ابن رستم " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو دفع درهمين فقال:

(10/183)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما لك هبة والآخر يكون عندك وديعة فضاعا جميعا يضمن درهما، وهو في الآخر أمين، وإنما ضمن الدرهم الهبة لأنه أخذ على فساده؛ لأن الهبة كانت غير مقسومة، وهكذا نقل في " الأجناس " من " النوادر " وهذا يشعر بأن الهبة الفاسدة مضمونة لا يملكها الموهوب. ألا ترى إلى ما ذكر في المضاربة الكبيرة، ولو دفع ألف درهم إلى رجل وقال نصفه هبة ونصفه مضاربة لم يجز الهبة؛ لأنه مشاع، ولو هلك عند القابض ضمن النصف وهو خمسمائة درهم.
وقال الولوالجي في " فتاواه ": رجل معه درهمان قال لرجل لك نصف هذا وقال آخر لك درهم منهما فالمسألة على وجهين إن كانا مستويين لا تجوز الهبة، وإن كانا مختلفين تجوز والفرق في (......) تناولت الهبة أحدهما وهو مجهول. وفي الثاني تناولت قدر درهم منهما مشاع لا يحتمل القسمة. وقال فيها أيضا رجلا وهب لرجلين درهما صحيحا تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن تنصيف الدراهم لا يضر، فكان مشاعا يحتمل القسمة، والصحيح أنه لا يجوز لأن الدرهم الصحيح لا يكسر عادة، فكان مشاعا لا يحتمل القسمة.
وفي " التقريب " للقدوري: قد روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال لرجلين وهبت منكما هذه الدار لهذا نصفهما صحت الهبة ولو قال وهبتك منك نصف هذه الدار ومن الآخر نصفها لم تصح الهبة؛ لأن في الأول أوقع العقد صفقة، ثم فسر مقتضى الصفقة في القسمة وفي الثاني فرق أحد الإيجابين عن الآخر.
وفي " التحفة ": هبة رجل من رجلين على أربعة أوجه، أحدها: أن يكون العقد مختلفا، والقبض مختلفا. ثانيا: أن يكون العقد معا والقبض مختلفا وكلاهما لا يجوز، وثالثها: أن يكون العقد مختلفا والقبض مغاير. ورابعا: أن يكون كلاهما معا فإن يقولا قبلناها وقبضناها فهما لا يجوز عند أبي حنيفة خلافا لهما، وهبة العين الواحدة لاثنين من اثنين لا يجوز عنده خلافا لهما. ولو كان من واحد لثلاثة جاز عنده خلافا لهما. قال صاحب " المجتبى ": وفيه نظر. ولو وهب لابنيه صغير وكبير لا يجوز بالاتفاق لتفرق القبض.

(10/184)