البناية شرح الهداية

باب الأجر متى يستحق قال: الأجرة لا تجب بالعقد وتستحق بإحدى معاني ثلاثة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب وقت استحقاق الأجر في عقد الإجارة]
م: (باب الأجر متى يستحق) ش: لما كانت الإجارة موقوفة على إعلام الأجرة احتاج إلى بيان وقت وجوبها ولو بوب له بابا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الأجرة لا تجب بالعقد) ش: أي بنفس العقد، قال تاج الشريعة: أراد وجوب الأداء. أما نفس الوجوب فثبت بنفس العقد. وقال السغناقي: لا تجب، معناه لا يجب تسليمها وأداؤها بمجرد العقد، وقال صاحب العناية: هذا ليس بواضح؛ لأن نفي وجوب التسليم لا يستلزم نفي التملك كالمبيع، فإنه يملكه المشتري بمجرد العقد، ولا يجب تسليمه ما لم يقبض الثمن. والصواب أن يقال معناه لا يملك لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر في الجامع أن الأجرة لا تملك وما لم يملك لم يجب إيفاؤها.
فإن قلت: فإذا لم يستلزم نفي الوجوب نفي التمليك كان أعم منه. وذكر الأعم وإرادة الأخص ليس بمجاز لعدم دلالة الأعم عليه أصلا.
قلت: أخرج الكلام مخرج الغالب وهو أن يكون الأجرة مما ثبت في الذمة ونفي الوجوب فيها وهو يستلزم نفي التمليك لا محالة، وعلى هذا كان قوله يستحق بمعنى يملك يدل على هذا كله قوله، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يملك بنفس العقد وإلا لم يكن محل الخلاف متحدا، انتهى.
قلت: ذكر في " الذخيرة " يجب أن يعلم أن الأجرة لا تملك بنفس العقد ولا يجب إيفاؤها إلا بعد استيفاء المنفعة إذا لم يشترط تعجيلها سواء كانت عينا أو دينا، هكذا ذكر محمد في " الجامع) وذكر في الإجارات إن كانت عينا لا تملك بنفس العقد وإن كانت دينا تملك بنفس العقد ويكون بمنزلة الدين المؤجل.
فعامة المشايخ على أن الصحيح ما ذكره في الجامع. وقال بعضهم ما ذكره في الإجارات قوله أولا وما ذكره في " الجامع " أخرى وهو الأصح؛ لأن الإجارة عقد معاوضة فيوجب المساواة بين البدلين ما أمكن ما لم يغير بالشرط. فلو قلنا أن إيفاءها يجب قبل استيفاء المنفعة تزول المساواة، وبه قال مالك.
م: (وتستحق بإحدى معاني ثلاثة) ش: وفي بعض النسخ بأحد معان ثلاثة، فوجهه أن يكون على تأويل العلل؛ لأن المراد من المعاني العلل، ولكن الفقهاء يكفون عن استعمال العلل

(10/232)


إما بشرط التعجيل، أو بالتعجيل من غير شرط، أو باستيفاء المعقود عليه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تملك بنفس العقد؛ لأن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد، فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل، ولنا أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنافع على ما بينا، والعقد معاوضة ومن قضيتها المساواة، فمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لكونها من اصطلاحات الفلاسفة. وقال تاج الشريعة: المسموع من السلف بأحد معان إذ المراد من المعاني العلل م: (إما بشرط التعجيل أو بالتعجيل من غير شرط أو باستيفاء المعقود عليه) ش: وفي العيون أو بالتمكن من الاستيفاء.
قيل: شرط التعجيل شرطا فاسدا؛ لأنه يخالف مقتضى العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة فيفسد العقد.
أجيب: بأن وجوب الأجرة من مقتضيات العقد، والعقد يقتضي ثبوت العقد عقيبه، إلا أن التعجيل سقط لمانع وقد زال المانع كالبيع يقتضي ثبوت الحكم عقيبه وبالخيار، ولا يثبت المانع فإذا ثبت ثبت مضافا إلى العقد السابق كذا هنا.
فإن قلت: كيف يستحق بالتعجيل من غير شرط، والمساواة بين البدلين شرط.
قلت: لأنه عجل بعد انعقاد سبب الوجوب؛ لأن سببه هو العقد، إلا أنه ما عمل عمله في إيجاب الملك في الأجرة للحال لتحقق المساواة، فإذ عجل فقد رضي ببطلان حقه في المساواة فصح كتعجيل الزكاة قبل حولان الحول، وتعجيل الدين المؤجل كالبائع إذا سلم المبيع قبل استيفاء الثمن، فإنه يصح؛ لأنه يعد سبب الوجوب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تملك بنفس العقد؛ لأن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد) ش: وهذا صحة الإجارة بأجرة مؤجلة ولو لم يجعل موجوده كان دينا بدين وهو حرام لا محالة، وإذا كانت موجودة وجب ثبوت الحكم بالعقد لوجود المقتضى وانتفاء المانع م: (فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل) ش: ولهذا صح الإبراء عن الأجرة قبل استيفاء المنفعة بالإجماع وصح الارتهان به بالإجماع، وبه قال أحمد.
فإن قيل: الثابت بالضرورة لا يتعدى موضعها فلا يتعدى من صحة العقد إلى إفادة الملك.
فالجواب: أن الضروري إذا ثبت يتبع لوازمه وإفادة الملك من لوازم الوجود عند العقد.
م: (ولنا أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنافع على ما بينا) ش: يعني في أول هذا الكتاب م: (والعقد معاوضة) ش: أي عقد الإجارة معاوضة بلا خلاف م: (ومن قضيتها) ش: أي من قضية المعاوضة م: (المساواة) ش: أي من حكم عقد المعاوضة المساواة بين البدلين م: (فمن

(10/233)


ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في البدل الآخر، وإذ استوفى المنفعة يثبت الملك في الأجر لتحقق التسوية، وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل من غير شرط؛ لأن المساواة تثبت حقا له وقد أبطله. وإذا قبض المستأجر الدار فعليه الأجر وإن لم يسكنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في البدل الآخر) ش: وهو الإبراء تحقيقا للمساواة.
م: (وإذا استوفى المنفعة يثبت الملك في الأجر لتحقق التسوية، وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل) ش: أي الأجرة م: (من غير شرط؛ لأن المساواة تثبت حقا له وقد أبطله) ش: أي المستأجر المستعجل.
فإن قلت: ما فائدة هذا الخلاف قد ذكر على والدين في طريقة الخلاف أن فائدته هي أنه لا يثبت لمؤجر ولاية المطالبة بتسليمها في الحال. ولو كانت الأجرة عبدا وهو قريبه لا يعتق عليه في الحال، وعنده ولاية المطالبة في الحال ويعتق عليه في الحال.
والجواب: عن قوله: " ولو لم يجعل موجوده كان دينا بدين وهو حرام " أن ذلك ليس بدين؛ لأن الدين ما يكون في الذمة والمنافع ليست كذلك على أنه أقيمت العين مقام المنفعة فلم يكن دينا بدين، وهذا طريق شائع يتابع لكونه إقامة السبب مقام المسبب. وأما جعل المعدوم موجودا فلم يعهد كذلك.
م: (وإذا قبض المستأجر الدار فعليه الأجر، وإن لم يسكنها) ش: ذكر هذان البابان أن التمكن من الاستيفاء يقوم مقام الاستيفاء، لا يقال فعلى هذا كان الواجب أن يقول بأحد معان أربعة، أو باستيفاء المعقود عليه أو بالتمكن منه يقوم مقامه أحيانا، ويدل أن الاقتسام لا يكون قسما بذاته، كذا قاله صاحب العناية وفيه نظر. لأنا لا نسلم أن التمكن من الاستيفاء بدل بل هو قسم بذاته، فلذلك عده البعض رابعا. ثم قول المصنف: فعليه الأجرة وإن لم يسكنها ليس على إطلاقه بل مقيد، وبه قال أكثر أهل العلم.
الثاني: أن تكون الإجارة صحيحة، ألا ترى إلى ما قال في تتمة الفتاوى لا يجب الأجرة في الإجارة الفاسدة بالتمكن من استيفاء المنفعة، وإنما تجب بحقيقة الاستيفاء، بخلاف الإجارة الصحيحة، فإن الأجرة تجب فيها بالتمكن من استيفاء المنفعة، ثم في الإجارة الفاسدة. وإنما تجب الأجرة، بحقيقة الاستيفاء إذا وجد التسليم إلى المستأجر من جهة الأجر. أما إذا لم يوجد التسليم إليه من جهة الأجر لا يجب الأجر وإن استوفى المنفعة. ونقله عن شروح " الجامع الكبير ".
والثالث: ما ذكره في الذخيرة وشرح " الأقطع " إن التمكن من المستأجر يجب أن يكون في المكان الذي وقع العقد في حقه، حتى إذا استأجر دابة إلى الكوفة فسلمها المؤجر فأمسكها

(10/234)


لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور، فأقمنا تسليم المحل مقامه إذ التمكن من الانتفاع يثبت به، فإن غصبها غاصب من يده سقطت الأجرة؛ لأن تسليم المحل إنما أقيم مقام تسليم المنفعة للتمكن من الانتفاع، فإذا فات التمكن فات التسليم وانفسخ العقد فسقط الأجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المستأجر ببغداد حتى مضت مدة يمكنه المسير إلى الكوفة فلا أجر. وإن ساقها معه إلى الكوفة ولم يركب وجب الأجر. وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - يجب الأجر في الوجهين؛ لأن المنافع بلغت تحت يده باختياره.
قلنا: العقد وقع على المسافة كان بالتسليم في غيرها لا يستحق البدل، وينبغي أن يكون التمكن من الاستيفاء من المدة، فإنه لو استأجر دابة إلى الكوفة في هذا اليوم وذهب إليها بعد مضي اليوم بالدابة ولم يركب لا يجب الأجر، وإن استأجر دابة إلى مكة فلم يركبها، بل مشى فإن كان بغير عذر في الدابة فعليه الأجر، وإن كانت لعلة في الدابة بحيث لم يقدر على الركوب لا أجر عليه.
ولو استأجر ثوبا ليلبسه كل يوم بدانق فوضعه في بيته ولم يلبسه حتى مضى عليه سنون فعليه لكل يوم دانق ما دام في الوقت الذي يعلم أنه لو كان لبسه لا ينخرق لتمكن اللبس، فإذا مضى وقت يعلم أنه لو كان يلبسه ينخرق سقط عنه الأجر لتعذر جعله منتفعا به.
وفي النوازل نظر لهذا بالمرأة إذا أخذت الكسوة من الزوج ولم تلبس ولبست ثوب نفسها إذا مضى وقت لو لبسته لبسا معتادا ينخرق كان لها ولاية المطالبة بكسوة أخرى وإلا فلا.
وفي " خلاصة الفتاوى ": إذا أجر دارا وسلمها فارغة إلا بيتا، كان مشغولا بمتاع الأجر أو سلم إليه جميع الدار ثم انتزع بيتا منها من الدار رفع عن الأجر بحصة البيت.
وسكوت المصنف عن هذه القيود للاختصار اعتمادا على دلالة الحال والعرف، فإن حال المسلم دالة على أن يباشر العقد الصحيح، وعلى أن العاقد يجب عليه تسليم ما عقد عليه فارغا عما يمنع من الانتفاع به، والعرف فاش في تسليم المعقود عليه في مدة العقد والمكان، فكان معلوما عادة، وعلى أن الإكراه والغصب مما يمنعان عن الانتفاع فاقتصر عن ذلك اعتمادا عليهما.
م: (لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور فأقمنا تسليم المحل مقامه، إذ التمكن من الانتفاع يثبت به) ش: أي بتسليم المحل م: (فإن غصبها) ش: أي العين المستأجرة م: (غاصب من يده سقطت الأجرة؛ لأن تسليم المحل إنما أقيم مقام تسليم المنفعة للتمكن من الانتفاع، فإذا فات التمكن فات التسليم وانفسخ العقد) ش: وذكر الفضل قاضي خان في الفتاوى لا لتنفسخ الإجارة ولكن م: (فسقط الأجر) ش: ما دامت في يد الغاصب، وبه قال الشافعي، ولكن له حق الفسخ.

(10/235)


وإن وجد الغصب في بعض المدة سقط الأجر بقدره إذ الانفساخ في بعضها. ومن استأجر دارا فللمؤجر أن يطالبه بأجر كل يوم لأنه استوفى منفعة مقصودة، إلا أن يبين وقت الاستحقاق بالعقد؛ لأنه بمنزلة التأجيل، وكذلك إجارة الأراضي لما بينا. ومن استأجر بعيرا إلى مكة فللجمال أن يطالبه بأجرة كل مرحلة؛ لأن سير كل مرحلة مقصود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[حكم غصب العين المؤجرة في بعض مدة الإجارة]
م: (وإن وجد الغصب في بعض المدة سقط الأجر بقدره إذ الانفساخ في بعضها) ش: أي بقدر المدة التي وجب فيها الغصب وليس فيه خلاف.
م: (ومن استأجر دارا) ش: ذكر هذا البيان وقد استحقاق مطالبة الأجر، أي من استأجر دارا مدة معلومة م: (فللمؤجر أن يطالبه بأجر كل يوم لأنه استوفى منفعة مقصودة) ش: قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في الصواب أن يقال فللمؤجر لأن قولنا أجر الدار هو أفعل لا فاعل، واسم الفاعل منه المؤجر لا المؤاجر.
قلت: قد بينت فيما مضى أن المؤاجر ليس بفاعل من أجر، وإنما هو فاعل من واجر وقد بينت أنه لغة العوام فإنهم يقولون واجر موضع آجر، فبالضرورة إذا أخذوا منه الفاعل يقولون مؤاجر فالخطأ في قولهم واجر لا في قولهم مؤاجر، فافهم.
وقال في شرح " الأقطع ": وقال زفر: لا يطالبه إلا بعد مضي مدة الإجارة ولو كانت مائة سنة وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول؛ لأن جميع المعقود عليه لم يصر مسلما فلا يطالبه ببدله، بخلاف ما إذا بين الاستحقاق مثل أن يقول أجرتك هذا الدار بكذا شيئا على أن تعطيني الأجر بعد شهرين.
ولنا أنه استوفى بعض المعقود عليه فيجب بدله تحقيقا للمعادلة بين المتعاقدين فكان القياس أن تجب الأجرة حالا فحالا، كما لو قبض بعض المبيع واستهلكه، إلا أنهم استحسنوا فأوجبوا الأجرة يوما فيوما تيسيرا.
م: (إلا أن يبين) ش: أي المستأجر م: (وقت الاستحقاق بالعقد؛ لأنه بمنزلة التأجيل) ش: والتأجيل يسقط استحقاق المطالبة إلى انتهاء الأجل م: (وكذلك إجارة الأراضي) ش: يعني إذا أجر الأرض له أن يطالب المستأجر بأجرة كل يوم لأنه منفعة مقصودة، إلا إذا بين وقت الاستحقاق فلا يطالبه إلا في ذلك الوقت لأنه بمنزلة التأجيل م: (لما بينا) ش: وهو قوله: لأنه منفعة مقصودة ... إلى آخره.
م: (ومن استأجر بعيرا إلى مكة فللجمال أن يطالبه بأجرة كل مرحلة؛ لأن سير كل مرحلة مقصود) ش: قال الكاكي: هذا قول الكرخي ذكره في المبسوط والإيضاح. وأما قول أبي حنيفة

(10/236)


وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: أولا لا يجب الأجر إلا بعد انقضاء المدة وانتهاء السفر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - المرجوع إليه لم يقدر بتقدير، بل قال: كل ما سار مسيرا له من الأجر شيء معروف، فله أن يأخذه بذلك، وهو قول أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي: نسبة ما ذكره القدوري إلى الكرخي عيب جدا؛ لأن الكرخي نص في " مختصره " أنه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأخير، ألا ترى أنه قال فيه.
وقال أبو حنيفة فيما له وقت يطالبه بأجرة كل يوم يمضي من مدة الإجارة، وكذلك في المسافة على قدر ما قطع منها فيما يمكن تحصيل جزء من أجزائه.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الذي يكتري إلى مكة للحال أن يطالبه بالأجرة يوما بيوم، وهو قول أبي حنيفة الآخر وهو أيضا قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو يوسف في الدور والمنازل: إذا استأجر الرجل شيئا منها شهر بأجر معلوم فليس له أن يأخذ الأجرة إلا إذا مضى شهر وليس له أن يطالب مثل ذلك، روى ذلك عنه ابن سماعة وبشر بن الوليد وعلي بن الجعد. وروى عنه في الذي استأجر إبلا إلى مكة أنه لا يأخذ الأجر منه حتى يسير الثلث أو النصف وقال استخسر ذلك في الشقة البعيدة.
وقال زفر: إذا استأجر الرجل دارا كل شهر بعشرة دراهم وكل سنة بمائة درهم فليس له أن يأخذ من الأجر شيئا حتى يمضي شهر في قوله كل شهر، وحتى تمضي سنة في قوله سنة. فإن استأجر اثنا عشر سنة بألف درهم لم يكن له أن يطالب بشيء من ذلك حتى تمضي المدة، وكذلك قال في المكر إلى مكة ذاهبا وجائيا أنه لا يطالب بالأجر حتى يذهب ويجيء، وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصول.
وأما في الأصل فهو عندي قوله الأخير؛ لأنه قال في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، وهذا قبل موته ليس بمشهور، انتهى.
وفي " التقريب " للقدوري: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا استأجر إبلا إلى مكة لم يلزمه تسليم الأجرة حتى يرجع، وهو قول زفر ثم رجع أبو حنيفة وقال: كلما سار مرحلة طالبه بقدره، وهو قولهما، وكذا ذكره في " المختلف " في باب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا لا يجب الأجر إلا بعد انقضاء المدة وانتهاء السفر،

(10/237)


وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المعقود عليه جملة المنافع في المدة فلا يتوزع الأجر على أجزائها كما إذا كان المعقود عليه العمل. ووجه القول المرجوع إليه أن القياس استحقاق الأجر ساعة فساعة لتحقق المساواة، إلا أن المطالبة في كل ساعة تفضي إلى أن لا يتفرغ لغيره فيتضرر به فقدرنا بما ذكرنا. قال: وليس للقصار والخياط أن يطالب بالأجرة حتى يتفرغ من العمل؛ لأن العمل في البعض غير منتفع به فلا يستوجب الأجر به، وكذا إذا عمل في بيت المستأجر لا يستوجب الأجر قبل الفراغ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المعقود عليه جملة المنافع في المدة فلا يتوزع الأجر على أجزائها كما إذا كان المعقود عليه العمل) ش: كالخياطة، فإن الخياط لا يستحق الأجر قبل الفراغ.
فإن قيل: قال فلا يتوزع الأجر على أجزائها يعني المنافع، وهو خلاف المشهور أن أجر العوض ينقسم على أجزاء المعوض، وقال المنافع على العمل وهو فاسد؛ لأن شرط انقسام المماثلة بين الأصل والفرع وهو منتف؛ لأنه في المنافع قد استوفى المستأجر بعضها فيلزمه العوض بقدر، ولا كذلك العمل؛ لأنه لم يتسلم من الخياط شيئا.
فالجواب: أن أجزاء العوض ينقسم على أجزاء المعوض وجوبا وليس الكلام فيه وإنما الكلام في استحقاق القبض وفي ذلك لا يتوزع كما في المبيع والتسليم في الخياط، وهو تقدير، إلا أن عمل الخياط لما اتصل بالثوب كان ذلك سليما تقديرا، على أن المصنف لم يلتزم صحة دليل القول المرجوع عنه، فإنه لو كان صحيحا البتة لم يكن للرجوع عنه وجه.
م: (ووجه القول المرجوع إليه أن القياس) ش: يقتضي م: (استحقاق الأجر ساعة فساعة لتحقق المساواة) ش: بين البدلين م: (إلا أن المطالبة في كل ساعة) ش: هذا الاستثناء لبيان وجه ترك القياس وهو أن المطالبة كلما سار شيئا ولو خطوة م: (تفضي إلى أن لا يتفرغ لغيره فيتضرر به) ش: بل المطالبة حينئذ تفضي إلى عدمها، فإن المستأجر لم يتمكن من الانتفاع بأمر من جهة المؤجر فيمتنع الانتفاع من جهة المؤجر، فيمتنع المطالبة. وما أفضى وجوده إلى عدمه فهو منتف م: (فقدرنا بما ذكرنا) ش: من اليوم في الدار والمرحلة في البعير استحسانا.

[وقت استحقاق القصار والخياط ونحوهما للأجرة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس للقصار والخياط أن يطالب بالأجرة حتى يتفرغ من العمل) ش: كله م: (لأن العمل في البعض غير منتفع به فلا يستوجب الأجر به) ش: وهذا يشير إلى أنه إذا كان ثوبين ففزع أحدهما جاز أن يطلب أجرته لأنه منتفع به م: (وكذا إذا عمل) ش: أي الخياط م: (في بيت المستأجر لا يستوجب الأجر قبل الفراغ) .
ش: قال السغناقي: هذا وقع مخالف لعامة روايات الكتب عن " المبسوط " و " الذخيرة " و " المغني " و" شرح الجامع الصغير " لفخر الإسلام وقاضي خان والتمرتاشي و " الفوائد

(10/238)


لما بينا، قال: إلا أن يشترط التعجيل لما مر أن الشرط فيه لازم. قال: ومن استأجر خبازا ليخبز في بيته قفيزا من دقيق بدرهم لم يستحق الأجر حتى يخرج الخبز من التنور؛ لأن تمام العمل بالإخراج فلو احترق أو سقط من يده قبل الإخراج فلا أجر له للهلاك قبل التسليم. فإن أخرجه ثم احترق من غير فعله فله الأجر؛ لأنه صار مسلما بالوضع في بيته ولا ضمان عليه؛ لأنه لم توجد منه الجناية. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الظهيرية " لما أنه ذكر فيها أن العامل في بيت المستأجر يستحق الأجر بقدر عمله، حتى لو سرق الثوب فله الأجر بقدر عمله؛ لأن كل جزء من العمل يصير مسلما إلى صاحب الثوب بالفراغ منه، ولعله اتبع صاحب التجريد أبا الفضل الكرماني في هذا الحكم فإنه ذكره كما ذكر في الكتاب.
وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - يستحق المطالبة بعد الفراغ من العمل، ولكن يجب بنفس العقد م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله؛ لأن العمل في البعض غير منتفع به.
م: (قال: إلا أن يشترط التعجيل لما مر أن الشرط فيه لازم) ش: أي في التعجيل م: (قال: ومن استأجر خبازا ليخبز في بيته قفيزا من دقيق بدرهم لم يستحق الأجر حتى يخرج الخبز من التنور؛ لأن تمام العمل بالإخراج) ش: ذكر هذا البيان حكمين: أحدهما: أن الأجير المشترك لا يستحق الأجرة حتى يفرغ من عمله، والثاني: أن فراغ العمل بماذا يكون ففي استئجار الخباز لا يستحق الأجر حتى يخرج الخبز من التنور؛ لأن كل واحد لا بجنسه على وجه لا ينقطع، فإن قبل خبزه في بيته يمنع أن يخبز لغيره، ومن عمل لواحد فهو أجير واحد واستحقاقه الأجرة لا يتوقف على الفراغ من العمل.
أجيب بأن: أجير الواحد من وقع العقد في حقه على المدة كمن استأجر شهرا لخدمة، وما نحن فيه مستأجر على العمل فكان أجيرا مشتركا يوقف استحقاقه على فراغ العمل.
م: (فلو احترق أو سقط من يده قبل الإخراج فلا أجر له للهلاك قبل التسليم) ش: وفي المبسوط وهو ضامن، لأن هذا جناية يد ويخير صاحب الخبز إن شاء ضمنه مخبوزا وأعطاه الأجر، وإن شاء ضمنه دقيقا ولم يكن له أجر.
م: (فإن أخرجه) ش: من التنور م: (ثم احترق من غير فعله) ش: أراد أنه هلك من غير صنعته؛ لأن الاحتراق هلاك، أو احترق بنار أخرى أو رماه أحد في التنور م: (فله الأجر) ش: المسمى م: (لأنه صار مسلما) ش: بكسر اللام م: (بالوضع في بيته ولا ضمان عليه؛ لأنه لم توجد منه الجناية) ش: فلا ضمان إلا على الجاني. قال العبد الضعيف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أراد به نفسه م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا) ش: أي قوله لا ضمان عليه أو عدم الضمان في الهلاك بعد

(10/239)


عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه أمانة في يده، وعندهما يضمن مثل دقيقه ولا أجر له؛ لأنه مضمون عليه فلا يبرأ إلا بعد حقيقة التسليم، وإن شاء ضمنه الخبز وأعطاه الأجر.
قال: ومن استأجر طباخا ليطبخ له طعاما للوليمة فالغرف عليه اعتبارا للعرف.
قال: ومن استأجر إنسانا ليضرب له لبنا استحق الأجر إذا أقامها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يستحقها حتى يشرجها؛ لأن التشريج من تمام عمله إذ لا يؤمن من الفساد قبله، فصار كإخراج الخبز من التنور، ولأن الأجير هو الذي يتولاه عرفا وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإخراج م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه أمانة في يده وعندهما يضمن مثل دقيقه ولا أجر له) ش: الحاصل صاحب الدقيق بالخباز إن شاء ضمنه مثل دقيقه ولا أجر له م: (لأنه مضمون عليه) ش: لأن قبض الأجير المشترك مضمون عندهما م: (فلا يبرأ) ش: منه بوضعه في منزل ملكه، كما لا يبرأ الغاصب من الضمان بذلك م: (إلا بعد حقيقة التسليم، وإن شاء ضمنه الخبز وأعطاه الأجر) ش: ولا ضمان عليه في الحطب والملح عندهما؛ لأن ذلك صار مستهلكا قبل وجوب الضمان عليه، وحال وجوب الضمان في تنور قيمته له كذا في " الذخيرة ". وقال السغناقي: هذا الذي ذكره من الاختلاف اختيار القدوري، وأما عند غيره فهو مجرى على عمومه، فإنه لا ضمان بالاتفاق. أما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لم يهلك من عمله. وأما عندهما فلأنه هلك بعد التسليم وبه قالت الثلاثة.
قلت: هذا يتم إذا كان الوضع في بيته تسليما.

م: (قال: ومن استأجر طباخا ليطبخ له طعاما للوليمة) ش: وهو طعام العرس، والوكيرة طعام البناء، والنجوس طعام الولادة، وما يطعمه النفساء نفسها خرسة، وطعام الختان أعذار، وطعام القادم من سفره نقيعة، وكل طعام صنع لدعوة مادية جميعا ويقال: فلان يدعو العقر إذا خص وفلان يدعو الجعلي الأجعلي إذا عم كذا قال القتبي وغيره م: (فالغرف) ش: بفتح الغين المعجمة من باب ضرب يضرب وهو جعل الطعام في القصعة م: (عليه) ش: أي على الطباخ م: (اعتبارا للعرف) ش: بضم العين المهملة وهو العادة، وإنما قيد بقوله للوليمة؛ لأنه لو استأجره ليطبخ قدر خاص بعينه لا يكون الغرف عليه ذكره في المغني والمحيط والإيضاح، والمرجع في الجميع الغرف.

م: (ومن استأجر إنسانا ليضرب له لبنا) ش: بفتح اللام وكسر الباء الموحدة وهو الآجر اللبني م: (استحق الأجر إذا أقامها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قالت الثلاثة م: (وقالا لا يستحقها حتى يشرجها) ش: أي ينضدها بضم بعضها إلى بعض، ومادته بشين معجمة وراء وجيم م: (لأن التشريج من تمام عمله إذ لا يؤمن من الفساد قبله فصار كإخراج الخبز من التنور، ولأن الأجير هو الذي يتولاه) ش: أي التشريج م: (عرفا) ش: أي من حيث العرف والعادة م: (وهو)

(10/240)


المعتبر فيما لم ينص عليه. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل قد تم بالإقامة والتشريج عمل زائد كالنقل. ألا ترى أنه ينتفع به قبل التشريج بالنقل إلى موضع العمل، بخلاف ما قبل الإقامة؛ لأنه طين منتشر، وبخلاف الخبز لأنه غير منتفع به قبل الإخراج.
قال: وكل صانع لعمله أثر في العين كالقصار والصباغ فله أن يحبس العين بعد الفراغ عن عمله حتى يستوفي الأجر لأن المعقود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي العرف م: (المعتبر فيما لم ينص عليه ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل قد تم بالإقامة، والتشريج عمل زائد كالنقل. ألا ترى أنه ينتفع به قبل التشريج بالنقل إلى موضع العمل، بخلاف ما قبل الإقامة؛ لأنه طين منتشر، وبخلاف الخبز لأنه غير منتفع به قبل الإخراج) ش: وفائدة الخلاف أنه إذا أفسد المطر قبل التشريج أو تكسر لا أجر له خلافا لهما.
وفي " المبسوط ": هذا كله إذا كان يقيم العمل في ملك المستأجر أما في غير ملكه فما لم يعد عليه ويسلمه إليه لا يستحق الأجر بالاتفاق، حتى لو فسد قبل العد لا أجر له إلا على قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الرندويستي ": لو ضربه في ملك نفسه لا يجب الأجر عنده إلا بالعد عليه بعد إقامته، وعندهما بالعد عليه بعد التشريج.
وقال الكرخي في " مختصره ": وإذا استأجره ليضرب له لبنا في ملكه أو في شيء هو في يده فإن رب اللبن لا يكون قابضا حتى يجف اللبن وينصبه في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا خلاف عنه في ذلك.
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - حتى يشرجه فإن هلك اللبن قبل الحد الذي حد كل واحد منهم في قوله فلا أجر له، وإن كان بعد فله الأجر، وإن كان ذلك في غير يده ولا في ملكه لم يكن له الأجر حتى يسلمه منصوبا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومشرجا عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله.

[حبس القصار ونحوه للعين لحين استيفاء الأجرة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وكل صانع لعمله أثر في العين كالقصار والصباغ فله أن يحبس العين بعد الفراغ عن عمله حتى يستوفي الأجر؛ لأن المعقود عليه وصف قائم في الثوب) ش: هذا في الصباغ ظاهر؛ لأن أثر عمله في الثوب موجود وهو الصبغ وأما القصار إذا كان يقصر بالنشاء والبيض فكذلك، وإن كان يقصر بلا شيء، قيل: ليس له أن يحبس؛ لأن البياض قد اشترى بالدرن والوسخ.
فإذا زال ذلك بعمله يظهر ذلك البياض، وقيل له الحبس أيضا. وفي " خلاصة الفتاوى " وهذا إذا كان عمله في دكانه، أما إذا خاط الخياط أو صبغ الصباغ في بيت المستأجر فليس له حق الحبس م: (فله حق الحبس لاستيفاء البدل كما في المبيع) ش: حيث يجوز للبائع حبسه عن المشتري حتى يقبض الثمن، وبه قال الشافعي في وجه. وقال زفر والشافعي في قول

(10/241)


عليه وصف قائم في الثوب فله حق الحبس لاستيفاء البدل كما في المبيع، ولو حبسه فضاع في يده لا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه غير متعد في الحبس، فبقي أمانة كما كان عنده ولا أجر له لهلاك المعقود عليه قبل التسليم. وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - العين كانت مضمونه قبل الحبس فكذا بعده، لكنه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له، وإن شاء ضمنه معمولا وله الأجر، وسنبين من بعد إن شاء الله تعالى. قال: وكل صانع ليس لعمله أثر في العين فليس له أن يحبس العين للأجر كالحمال والملاح؛ لأن المعقود عليه نفس العمل وهو غير قائم في العين فلا يتصور حبسه فليس له ولاية الحبس، وغسل الثوب نظير الحمل. وهذا بخلاف الآبق حيث يكون للراد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأحمد: ليس له أن يحبس.

م: (ولو حبسه فضاع في يده لا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه غير متعد في الحبس) ش: ولا ضمان إلا على المتعدي م: (فبقي أمانة كما كان عنده) ش: أي عند أبي حنيفة، أي كما كان أمانة قبل الحبس فكذلك بعده م: (ولا أجر له لهلاك المعقود عليه قبل التسليم) ش: أي قبل تسليمه إلى مالكه فلا يستحق شيئا.
م: (وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - العين كانت مضمونة قبل الحبس فكذا بعده، لكنه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته) ش: حال كونه م: (غير معمول ولا أجر له، وإن شاء ضمنه معمولا وله الأجر، وسنبين من بعد إن شاء الله تعالى) ش: يعني في باب ضمان الأجير.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وكل صانع ليس لعمله أثر في العين فليس له أن يحبس العين للأجر كالحمال) ش: بالحاء المهملة والميم أيضا، وهو مكاري الجمل م: (والملاح) ش: وهو الذي يتولى أمر السفن، ويقال له النوتي بلغة أهل مصر م: (لأن المعقود عليه نفس العمل وهو غير قائم في العين فلا يتصور حبسه فليس له ولاية الحبس) .
ش: لأن العمل الذي هو المعقود عليه حقيقة قد تلاشى واضمحل، وليس لعمله أثر في العين حتى يقوم مقام العمل، فلا يكن له ولاية الحبس ضرورة م: (وغسل الثوب نظير الحمل) ش: يعني إذا لم يكن ثمة من النشاء وغيره سوى إزالة الوسخ بالماء، وأما إذا كان فهي مسألة القصار، وهذا اختيار بعض المشايخ، اختاره المصنف، وذكر في المبسوط وجامع قاضي خان أن إحداث البياض في الثوب بإزالة الدرن بمنزلة عمل له أثر في العين قيل وهو الأصح؛ لأن البياض كان مستترا وقد ظهر بفعله.
م: (وهذا بخلاف الآبق) ش: هذا جواب عما يقال الآبق إذا رآه انسان كان له حق الحبس وان لم يكن لعمله أثر في العين قائم، وتقريره أن يقال الآبق ليس كذلك م: (حيث يكون للراد

(10/242)


حق حبسه لاستيفاء الجعل ولا أثر لعمله لأنه كان على شرف الهلاك وقد أحياه فكأنه باعه منه فله حق الحبس وهذا الذي ذكرناه مذهب علمائنا الثلاثة وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له حق الحبس في الوجهين لأنه وقع التسليم باتصال المبيع بملكه فيسقط حق الحبسِ، ولنا أن الاتصال بالمحل ضرورة إقامة تسليم العمل فلم يكن هو راضيا به من حيث إنه تسليم فلا يسقط حق الحبس، كما إذا قبض المشتري بغير رضاء البائع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق حبسه لاستيفاء الجعل ولا أثر) ش: أي والحال أنه لا أثر م: (لعمله لأنه) ش: أي الآبق م: (كان على شرف الهلاك وقد أحياه) ش: يرد إلى المولى، والإحياء الذي يتصور من العباد تخليص من الإشراف على الهلاك، وبه فسر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] (المائدة: الآية 32) ، إذ الإحياء الحقيقي لله تعالى.
فإن قلت: إذا ذبح شاة أشرفه على الهلاك، فإنه يضمن وإن كان أحيا ملكه.
أجيب: بأن الذابح إن كان مودعا كان أجير المالك، إذا أخبر المالك فالمسألة ممنوعة.
وإن كان أجنبيا فرضاء المالك غير معلوم، فأما الرضى برد الآبق فمعلوم م: (فكأنه باعه منه) ش: أي فكأن المراد باع الآبق من المولى م: (فله حق الحبس) ش: كالبائع له حبس المبيع م: (وهذا الذي ذكرناه) ش: يعني حق الحبس للصانع بالأجر إذا كان لعمله أثر م: (مذهب علمائنا الثلاثة) ش: وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له حق الحبس في الوجهين) ش: يعني في الذي يعلمه فيه أثر، وفي الذي لم يكن. وذكر العتابي قول الشافعي كقول زفر م: (لأنه وقع التسليم باتصال المبيع) ش: أي المعقود عليه م: (بملكه) ش: وفي بعض النسخ: باتصال المعقود عليه وهو الأظهر م: (فيسقط حق الحبسِ) ش: كما لو عمل في بيت الصاحب.
م: (ولنا أن الاتصال بالمحل) ش: إنما وقع م: (ضرورة إقامة تسليم العمل) ش: لأن صبغ ثوب المستأجر بدون الثوب محال م: (فلم يكن هو) ش: أي الصابغ م: (راضيا به) ش: باتصال الملك م: (من حيث إنه تسليم) ش: أي تسليم المعقود عليه للمستأجر، فإذا لم يكن راضيا بذلك م: (فلا يسقط حق الحبس، كما إذا قبض المشتري) ش: المبيع م: (بغير رضاء البائع) ش: فإن للبائع أن يحبس وأن يسلمه المشتري لكونه بغير رضاه.
فإن قلت: إذا استأجر خياطا فخاط في بيت المستأجر فبنفس الخياطة يكون مسلما، فلو لم يكن الاتصال بالمحل تسليما لما وقع التسليم هاهنا.
قلت: رضي الخياط بوقوع الخياطة تسليما لمباشرته ما لا ضرورة فيه وهو الخياطة في بيت

(10/243)


قال: وإذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه فليس له أن يستعمل غيره؛ لأن المعقود عليه اتصال العمل في محل بعينه فيستحق عينه كالمنفعة في محل بعينه وإن أطلق له العمل فله أن يستأجر من يعلمه؛ لأن المستحق عمل في ذمته ويمكن إيفاؤه بنفسه وبالاستعانة بغيره بمنزلة إيفاء الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المستأجر، بخلاف ما نحن فيه فافترقا.

[شرط على الصانع أن يعمل بنفسه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه) ش: نقل عن حميد الدين الضرير هو مثل أن يقول أن تعمل بنفسك أو بيدك مثلا وإليه أشار المصنف بقوله أن يعمل بنفسه م: (فليس له أن يستعمل غيره؛ لأن المعقود عليه اتصال العمل في محل بعينه) ش: أراد بالمحل نفس الصانع، يعني شرط أن يكون محل هذا العمل هو لا غيره، فلا يجوز أن يستعمل غيره م: (فيستحق عينه) ش: أي عين ذلك العمل م: (كالمنفعة في محل بعينه) ش: كان استأجر دابة بعينها للحمل، فإنه ليس للمؤجر أن يسلم غيرها ولمن استأجر غلاما بعينه ليس للمؤجر أن يدفع غلاما آخر مكانه. قال صاحب " العناية ": وفيه تأمل؛ لأنه إن خالفه إلى خير بأن استعمل من هو أصنع منه في ذلك الفن أو سلم دابة أقوى من ذلك كان ينبغي أن يجوز.
قلت: عرضه تعلق لمعنى علمه عنده فلا ينبغي أن يتعدى إلى غيره وإن كان الغير خيرا منه.
م: (وإن أطلق له العمل) ش: مثل أن يقول خط هذا الثوب أو اصنعه م: (فله أن يستأجر من يعمله؛ لأن المستحق عمل في ذمته ويمكن إيفاؤه بنفسه وبالاستعانة بغيره) ش: لأن المقصود هو العمل وقد حصل م: (بمنزلة إيفاء الدين) ش: فإن الإيفاء يحصل بالمديون وبالتبرع من غيره.

(10/244)


فصل ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله فذهب فوجد بعضهم قد مات فجاء بمن بقي له الأجر بحسابه لأنه أوفى بعض المعقود عليه فيستحق العوض بقدره ومراده إذا كانوا معلومين.

وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل بيان عدم استحقاق تمام الأجر أو بعضه]
م: (فصل) ش: لما بين استحقاق تمام الأجر عقبه بالفصل بيان عدم استحقاق تمام الأجر أو بعضه.
م: ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله فذهب) ش: أي الرجل إلى البصرة م: فوجد بعضهم) ش: أي بعض عيال المستأجر م: (قد مات فجاء بمن بقي له الأجر بحسابه) ش: قال تاج الشريعة: أي أجرة الذهاب بكمالها واحدة، المجيء بقدره؛ لأن الأجر مقابل بنقل العيال لا بقطع المسافة، ولهذا لو ذهب ولم ينقل أحدا منهم لا يستوجب شيئا: م: (لأنه أوفى بعض المعقود عليه فيستحق العوض بقدره) ش: أي بقدر ما أوفى م: (ومراده) ش: محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال صاحب " العناية ": أي مراد القدوري وهذا غلط؛ لأن القدوري لم يذكر هذه المسألة في " مختصره "، وإنما هذه من مسائل " الجامع الصغير " وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله فوجد بعضهم قد مات فحمل من بقي، قال: له من الأجر بحساب ذلك م: (إذا كانوا معلومين) ش: يعني عياله إذا كان عددهم معلوما، قيد به لأنهم إذا كانوا غير معلومين يستحق جميع الأجرة، وهذا اختيار الهندواني. وقال بهذا إذا كانت المؤنة تقل بنقصان العدد، أما إذا كانت مؤنة البعض ومؤنة الكل سواء فإنه يجب الأجر كاملا.
وعن الفضلي استأجر في المصر ليحمل الحنطة من القرية فذهب ولم يجد الحنطة فعاد، إن كان قال أستأجر تلك من المصر حتى أحمل الحنطة من القرية يجب نصف الأجر بالذهاب
ولو كان قال: استأجرتك حتى أحمل من القرية لا يجب شيء؛ لأن في الأولى العقد على شيئين الذهاب إلى القرية والحمل منها، وفي الثانية شرط الحمل ولم يوجد فلا يجب شيء، كذا في " الذخيرة " و " جامع التمرتاشي ".

[استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة فوجد فلانا ميتا فرده]
م: (وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلانا ميتا فرده) ش: أي الكتاب قيد به؛ لأنه لو ترك الكتاب ثمة يستحقه أجر الذهاب بالإجماع م: (فلا أجر له،

(10/245)


وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رحمه الله -: له الأجر في الذهاب لأنه أوفي بعض المعقود عليه وهو قطع المسافة، وهذا لأن الأجر مقابل به لما فيه من المشقة دون حمل الكتاب لخفة مؤنته. ولهما أن المعقود عليه نقل الكتاب؛ لأنه هو المقصود أو وسيلة إليه وهو العلم بما في الكتاب، ولكن الحكم معلق به وقد نقضه فيسقط الأجر كما في الطعام وهي المسألة التي تلي هذه المسألة. وإن ترك الكتاب في ذلك المكان وعاد يستحق الأجر بالذهاب بالإجماع؛ لأن الحمل لم ينتقض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - له الأجر في الذهاب؛ لأنه أوفى بعض المعقود عليه، وهو قطع المسافة وهذا لأن الأجر مقابل به) ش: أي يقطع المسافة م: (لما فيه من المشقة دون حمل الكتاب لخفة مؤنته) ش: وعند الثلاثة له الأجر في الذهاب والرد أيضا لثبوت الإذن بالرد دلالة إذا وجد ميتا. وذكر أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول أبي يوسف مع محمد وغيره مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولهما أن المعقود عليه نقل الكتاب لأنه) ش: أي لأن نقل الكتاب م: (هو المقصود) ش: لما فيه من تعظيم المكتوب إليه وصلة الرحم م: (أو وسيلة إليه) ش: أي النقل وسيلة إلى المقصود م: (وهو العلم بما في الكتاب) ش: لأن إعلام ما فيه لا يتصور إلا بنقل الكتاب م: (ولكن الحكم معلق به) ش: أي بنقل الكتاب، وأراد بالحكم وجوب الأجرة م: (وقد نقضه) ش: أو وقد نقضه الأجير النقل وهو عمله قبل التسليم م: (فيسقط الأجر كما في الطعام) ش: أي كما يسقط الأجر فيما إذا استأجر ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب به ووجده ميتا فرده، فإنه لا أجر له بالاتفاق لنفقة تسليم المعقود عليه وهو حمل الطعام والآن تجيء هذه المسألة، ولهذا قال: م: (وهى المسألة التي تلي هذه المسألة) ش: أي مسألة الطعام هذه هي التي تأتي عقيب مسألة نقل الكتب.
م: (وإن ترك الكتاب في ذلك المكان وعاد يستحق الأجر بالذهاب بالإجماع؛ لأن الحمل لم ينتقض) ش: لأن ترك الكتاب ثمة مفيد في الأصل؛ لأنه ربما يصل إلى ورثته فينتفعون به، وهاهنا قيود أبينها لك تكثيرا للفائدة:
الأول: قيد الذهاب بالكتاب ليشير إلى أن هذا فيما ليس له حمل ومؤنة، حتى لو استأجر بالذهاب والمسألة بحالة فلا أجر له بالاتفاق. وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب وهو قياس قول الثلاثة.
الثاني: قيد بالمجيء بالجواب؛ لأنه لو لم يشترط المجيء بالجواب وترك الكتاب ثمة فيما إذا كان ميتا وغائبا فإنه يجب الأجر كاملا.

(10/246)


وإن استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له في قولهم جميعا؛ لأنه نقض تسليم المعقود عليه وهو حمل الطعام. بخلاف مسألة الكتاب على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المعقود عليه هناك قطع المسافة على ما مر. والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: قيد بالذهاب بالكتاب، حتى لو ذهب إلى فلان بلا كتاب فلا أجر له.
الرابع: قيد بأنه وجده ميتا لأنه إذا لم يجده ميتا وأتى بالجواب يستحق الأجر كاملا.
الخامس: قيد بأنه وجد ميتا حتى لو وجده غائبا ودفع الكتاب إلى آخر ليدفعه إليه أو دفعه إلى فلان وهو لم يقر ورجع بالجواب فله أجر الذهاب.
السادس: قيد استئجاره بتبليغ الكتاب لأنه لو استأجره لتبليغ الرسالة إلى فلان بالبصرة فذهب ولم يجد أو وجد ولم يبلغ برسالته ورجع له الأجر بالإجماع.
السابع: قيد بأنه رد لأنه لو ترك يستحق أجر الذهاب وقد ذكرناه فيما مضى.

[استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فوجد فلانا ميتا فرده]
م: (وإن استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له في قولهم جميعا؛ لأنه نقض تسليم المعقود عليه وهو حمل الطعام) ش: لأن الأجر هاهنا مقابل بصيرورة الطعام محمولا إلى ذلك الموضع الذي عينه؛ لأنه الفرض صحيح عينه وهو الربح وغيره، فإذا رد فقد أبطل هذا الفرض فصار كالخياط إذا خاط الثوب ثم نقض حيث لا أجر له.
م: (بخلاف مسألة الكتاب على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يقول نقل الطعام عمل مقابل الأجر لما فيه من المشقة وقد نقضه بالرد، كما في مسألة الخياط إذا نقض. وأما نقل الكتاب فليس بعمل يقابل به الأجر لخفة مؤنته، وإنما الأجر مقابل بقطع المسافة وقد قطعها في الذهاب وهو معنى قوله م: (لأن المعقود عليه هناك) ش: أي في مسألة نقل الكتاب م: (قطع المسافة على ما هو، والله أعلم بالصواب) ش: وهو قوله: لأنه أوفى بعض المعقود عليه وهو قطع المسافة.

(10/247)