البناية شرح الهداية

باب ما يجوز من الإجارة وما يكون خلافا فيها قال: ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى وإن لم يبين ما يعمل فيها؛ لأن العمل المتعارف فيها السكنى فينصرف إليه وأنه لا تتفاوت فصح العقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب ما يجوز من الإجارة وما يكون خلافا فيها]
[استئجار الدور والحوانيت للسكنى]
م: (باب ما يجوز من الإجارة وما يكون خلافا فيها) ش: أي في الإجارة م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى) ش: وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قبل صورة المسألة فيما إذا قال استأجرت هذه الدار كذا شهرا، ولم يبين شيئا يعمل فيها السكنى ولا غيرها، فعلى هذا يكون قوله السكنى متصلا بالدور والحوانيت إلى استئجار دور السكنى وحوانيت السكنى من غير أن يبين ما يعمل فيها جائز. ويجوز أن يتعلق قوله السكنى بالاستئجار، أي يجوز استئجار الدور والحوانيت لأصل السكنى وإن لم يبين ما يعمل فيها كل شيء لا يوهن البناء ولا يفسد وهو الظاهر من كلام القدوري.
قلت: فعلى قول تاج الشريعة يكون قوله للسكنى جوابا لوصفية على قول الأترازي يحتمل الوجهين الجر على الوصفية، والنصب على التعليل فافهم.
ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى، قال تاج الشريعة: السكنى هو صلة الدور والحوانيت لا صلة الاستئجار، يعني ويجوز استئجار الدور والحوانيت المعدة للسكنى، لا أن يقول زمان العقد استأجرت هذه الدار للسكنى فإنه لو نص هكذا وقت العقد لا يكون له أن يعمل فيها غير السكنى والتعليل يدل على ما ذكرت.
م: (وإن لم يبين) ش: المستأجر ما يعمل في الدور والحوانيت، صورته أن يقول: استأجرت هذه الدار شهرا بكذا ولم يبين م: (ما يعمل فيها) ش: من السكنى وغيره فذلك جائز م: (لأن العمل المتعارف فيها) ش: أي في الدور والحوانيت م: (السكنى فينصرف إليه) ش: أي السكنى م: (وأنه) ش: أي وأن السكنى م: (لا تتفاوت فصح العقد) ش: وفي بعض النسخ ولأنه، وهكذا صححه صاحب العناية، ولهذا قال: قوله: ولأنه لا تتفاوت.
جواب: عما عسى أن يقال سلمنا أن السكنى متعارف، لكن قد تتفاوت السكان فلا بد من بيانه.
ووجهه أن السكنى لا تتفاوت وما لا يتفاوت ولا يشتمل على ما يفسد العقد فيصح، وهذا استحسان. وفي القياس لا يجوز لأن المقصود من بناء الدار والحانوت الانتفاع، وهو قد يكون بالسكنى وقد يكون بوضع الأمتعة فينبغي أن لا يجوز ما لم يبين شيئا من ذلك، وبه قال أبو ثور.

(10/248)


وله أن يعمل كل شيء للإطلاق إلا أنه لا يسكن حدادا ولا قصارا ولا طحانا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي وللمستأجر م: (أن يعمل كل شيء للإطلاق) ش: أي لإطلاق العقد، ويدخل تحت قوله كل شيء الوضوع ووضع المتاع وكسر الحطب للوقود وغسل الثياب وربط الدواب؛ لأن سكناها لا يتم إلا بذلك. وفي الذخيرة إنما يكون له ربط الدواب إذا كان فيها موضع معد له وإن لم يكن فليس له ذلك، وكذا قال " الأسبيجابي ". وفي شرحه: ولو استأجرها للسكنى كل شهر هكذا فله أن يربط فيها دابته وبعيره وشاته ويسكنها من أحب، وهذا إذا كان فيها موضع معد لذلك.
م: (إلا أنه) ش: أي المستأجر، والاستثناء من قوله: وله أن يعمل كل شيء م: (لا يسكن حدادا) ش: قال تاج الشريعة: فتح الحاء هو المسموع واستصوبه السغناقي. والأظهر ما قاله الأترازي وغيره: إنه يجوز فيه الفتح والضم، فعلى الفتح يكون حدادا نصب على الحال، وعلى الضم يكون مفعولا به، ففي الأول ينتفي الإسكان دلالة، وفي الثاني ينتفي السكنى دلالة، وقوله: م: (ولا قصارا ولا طحانا) ش: عطفا على حدادا، ونص في الذخيرة أن المراد رحى الماء أو رحى الثور.
أما رحى اليد فلا يمنع منه؛ لأنه لا يضر بالبناء وهو من توابع السكنى في العادة، ثم قال: ورحى اليد إذا كان يضر بالبناء وهو من توابع السكنى يمنع عنه وإلا لا، هكذا اختاره الحلواني وعليه الفتوى. وقال أيضا فلو قعد حداد أو غيره فانهدم شيء من البناء ضمن ذلك ولا أجر عليه فيما ضمن، وإن لم ينهدم شيء لا يجب الأجر؛ لأن عمل الحدادة والقصارة غير داخل في العقد ويجب استحسانا، وبه قالت الثلاثة.
ولو اختلف المستأجر والآجر في ذلك فقال المستأجر استأجرتها للحدادة والآجر يقول للسكنى دون الحدادة فالقول للآجر؛ لأنه أنكر الإجارة أصلا، ولو أقاما البينة فالبينة بينة المستأجر لأنه يثبت زيادة الشرط.
وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي في شرح الكافي: وإذا استأجر بيتا على أن يقعد فيه قصارا فأراد أن يقعد فيه حدادا فله ذلك إذا كانت مضرتهما واحدة، أو مضرة الحداد أقل لأنه لا يلحقه في ضرر زائد فكان ذلك، وإن كان أكثر مضرة لم يكن له ذلك لتحقق الضرر، وكذلك الوصي والمسلم والذمي والحربي المستأمن والحر والمملوك والمكاتب كلهم سواء في الإجارة.
وقال أيضا في شرح الطحاوي: ومن استأجر حانوتا ولم يسم ما يعمل فيه فله أن يعمل ما بدا له، إلا أنه لا يعمل حدادا ولا قصارا ولا طحانا، وكذلك كل ما يوهن البناء، وكذلك كل شيء استؤجر ولم يبين ذلك فله أن يعمل فيه حسب ذلك العمل إلا في أشياء معدودة إذا

(10/249)


لأن فيه ضررا ظاهرا؛ لأنه يوهن البناء فيتقيد العقد بما وراءها دلالة.
قال: ويجوز استئجار الأراضي للزراعة؛ لأنها منفعة مقصودة معهودة فيها. وللمستأجر الشرب والطريق وإن لم يشترط؛ لأن الإجارة تعقد للانتفاع، ولا انتفاع في الحال إلا بهما فيدخلان في مطلق العقد، بخلاف البيع؛ لأن المقصود منه ملك الرقبة لا الانتفاع في الحال، حتى يجوز بيع الجحش والأرض السبخة دون الإجارة فلا يدخلان فيه من غير ذكر الحقوق، وقد مر في البيوع. ولا يصح العقد حتى يسمي ما يزرع فيها لأنها قد تستأجر للزراعة ولغيرها وما يزرع فيها متفاوت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استأجر دابة للركوب ولم يبين من يركبها، أو استأجر ثوبا ولم يبين من يلبسه أو استأجر قدرا للطبخ ولم يبين ما يطبخ فيها فالإجارة في هذا كله فاسدة.
م: (لأن فيه) ش: أي في سكنى الحداد ونحوه أو في إسكانه م: (ضررا ظاهرا لأنه يوهن) ش: أي يضعف م: (البناء فيتقيد العقد بما وراءها) ش: أي بما وراء صنعة الحداد والقصار والطحان م: (دلالة) ش: أي من حيث دلالة الحال على ذلك.

[استئجار الأراضي للزراعة]
م: (قال: ويجوز استئجار الأراضي للزراعة لأنها منفعة مقصودة معهودة فيها) ش: أي في الأراضي وفيه قيد سنذكره م: (وللمستأجر الشرب) ش: بكسر الشين وهو النصيب من الماء م: (والطريق وإن لم يشترط؛ لأن الإجارة تعقد للانتفاع ولا انتفاع في الحال إلا بهما فيدخلان في مطلق العقد) ش: يعني وإن لم يذكرهما.
قال الفقيه أبو الليث في شرحه " للجامع الصغير ": وكان أبو جعفر يقول: إذا كانت الإجارات في بلدنا فالشرب لا يدخل في الإجارة بغير شرط؛ لأن الناس يتملون بالماء على الانفراد فلا يجوز أن يدخل فيها إلا بالشرط.
م: (بخلاف البيع) ش: يعني لا يدخلان فيه إلا بالذكر م: (لأن المقصود منه ملك الرقبة لا الانتفاع في الحال، حتى يجوز بيع الجحش) ش: مع أنه لا ينتفع به في الحال م: (والأرض السبخة دون الإجارة) ش: أي وبيع الأرض السبخة بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وفتح الحاء المعجمة، وعن الكسائي بالإسكان، وهي الأرض التي لا تنبت شيئا والجمع على سباخ م: (فلا يدخلان فيه) ش: أي فلا يدخل الشرب والطريق في البيع م: (من غير ذكر الحقوق وقد مر في البيوع) ش: في باب الحقوق من كتاب البيوع.
م: (ولا يصح العقد) ش: أي عقد استئجار الأراضي الزراعية م: (حتى يسمي ما يزرع فيها) ش: بفتح الباء على بناء الفاعل م: (لأنها قد تستأجر للزراعة ولغيرها) ش: أي ولغير الزراعة نحو البناء وغرس الأشجار ونصب الفسطاط ونحوها م: (وما يزرع فيها متفاوت) ش: بضم الياء على بناء المفعول؛ لأن البعض قريب الإدراك والبعض بعيد، أو لأن البعض يضر الأرض

(10/250)


فلا بد من التعيين كيلا تقع المنازعة. أو يقول على أن يزرع فيها ما شاء لأنه لما فوض الخيرة إليه ارتفعت الجهالة المفضية إلى المنازعة،
ويجوز أن يستأجر الساحة ليبني فيها أو ليغرس فيها نخلا أو شجرا لأنها منفعة تقصد بالأراضي، ثم إذا انقضت مدة الإجارة لزمه أن يقلع البناء والغرس ويسلمها إليه فارغة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كالذرة والبعض لا يضر كالبطيخ م: (فلا بد من التعيين كيلا تقع المنازعة أو يقول) ش: بنصب اللام عطفا على قوله حتى يسمي م: (على أن يزرع فيها ما شاء؛ لأنه لما فوض الخيرة) ش: أي الاختيار وهو بكسر الخاء وفتح التاء آخر الحروف والراء م: (إليه) ش: أي إلى المستأجر م: (ارتفعت الجهالة المفضية إلى المنازعة) ش: وفي المغني لابن قدامة: لو استأجرها للزرع مطلقا، أو قال لتزرعها ما شئت فإنه يصح ولو زرعها ما شاء، وهو مذهب الشافعي ومالك - رحمهما الله.
وعن شريح لا يصح حتى يبين ما يزرع؛ لأن ضرره يختلف فلم يصح بلا بيان، وهو قولنا فيما أطلق الزرع كما ذكر في الكتاب، ثم لو زرع نوعا من الأنواع - وهذه الصورة - ومضت المدة ففي القياس يجب عليه أجر المثل، وفي الاستحسان يجب المسمى وينقلب العقد جائزا كما لو استأجر ثوبا للبس ولم يبين اللابس لا يجوز لتفاوت الناس فيه، فإن عين اللابس بعد ذلك جاز استحسانا، كذا في الذخيرة وجامع قاضي خان.

[يستأجر الساحة ليبني فيها أو ليغرس فيها نخلا أو شجرا]
م: (ويجوز أن يستأجر الساحة) ش: بالحاء المهملة المخففة، وهي الأرض الخالية عن البناء والشجر م: (ليبني فيها أو ليغرس فيها نخلا أو شجرا) ش: عطف الشجر على النخل من قبيل عطف العام على الخاص، كما في قَوْله تَعَالَى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] (الحجر: الآية 87) ، وفائدته الإشعار بفضل المعطوف عليه.
فإن قلت: المراد هاهنا بيان الحكم لا بيان الفضائل، فما فائدة إفراد النخل ولا يعرفون غيره وإن كانوا يسمعون، فربما كان يتوهم المتوهم أن حكمها مختلف، فلدفع هذا الوهم أفرده بالذكر، ولم أر أحدا من الشراح تعرض لهذا م: (لأنها منفعة تقصد بالأراضي) ش: فيصح لها العقد.
م: (ثم إذا انقضت مدة الإجارة لزمه) ش: المستأجر م: (أن يقلع البناء والغرس) ش: بكسر الغين بمعنى المغروس، ولا يجوز الفتح لأنه مصدر فلا يتصور فيه القلع م: (ويسلمها إليه فارغة) ش: أي يسلم الأرض إلى صاحبها حال كونها فارغة من البناء والغروس، ومعناه يجبر على القلع ولا يضمن صاحب الأرض قيمة النقص، وبه قال مالك والمزني.
وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: إن كانا قد شرطا القلع عند انقضائها فكذلك.

(10/251)


لأنها لا نهاية لها، ففي إبقائها إضرار بصاحب الأرض. بخلاف ما إذا انقضت المدة والزرع بقل حيث يترك بأجر المثل إلى زمان الإدراك؛ لأن لها نهاية معلومة فأمكن رعاية الجانبين. قال: إلا أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له قيمة ذلك مقلوعا ويتملكه فله ذلك، وهذا برضاء صاحب الغرس والشجر، إلا أن ينقص الأرض بقلعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن أطلقا العقد لم يجبر على القلع إلا أن يضمن المالك له قيمة نقضه م: (لأنه لا نهاية لها، ففي إبقائها إضرار بصاحب الأرض) ش: والضرر مدفوع.
م: (بخلاف ما إذا انقضت المدة) ش: أي مدة الإجارة م: (والزرع بقل حيث يترك بأجر المثل إلى زمان الإدراك؛ لأن لها) ش: أي للزرع والتأنيث باعتبار المدة، أي لأن لمدة الزرع م: (نهاية معلومة، فأمكن رعاية الجانبين) ش: أي جانب صاحب الأرض بأجر المثل، وجانب صاحب الزرع بالترك إلى الإشهار به، قالت الثلاثة: إن لم يكن ذلك من تفريط المستأجر مثل أن يزرع زرعا لم تجر العادة بكماله قبل انقضاء المدة فحكمه حكم زرع الغاصب يخير المالك بين أخذه بالقيمة أو تركه بأجر المثل. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه يلزمه نقله. وفي " المبسوط " الجواب متحد في حق اعتبار الغرس في الإجارة والعارية والغصب حتى يجب عليهم القلع والتسليم فارغا.
وفي الزرع اختلف الجواب، ففي الغصب يلزم القلع على الغاصب في الحال لأنه متعد، وفي الإجارات يترك إلى وقت الإدراك استحسانا بأجر المثل. وفي العارية المؤقتة وغير المؤقتة لا يأخذها صاحبها إلى أن يستحصد الزرع استحسانا.
م: (قال: إلا أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له) ش: أي لصاحب الشجر أو لصاحب البناء م: (قيمة ذلك مقلوعا) ش: أي حاله كونه مقلوعا؛ لأنه يستحق القلع فتقوم الأرض بدون البناء أو الشجر، وتقوم وبها بناء أو شجر ولصاحب الأرض أن يأمر بقلعه فيضمن فضل ما بينهما كذا ذكر في " الاختيار " وغيره، ولكن الذي يفهم من نفس التركيب أن يغرم قيمة الشجر مقلوعا يعني مرميا على الأرض أن كان لا ينفع إلا للحطب يكون قيمة الحطب، وإن كان ينفع لوجه آخر يكون قيمته من ذلك الوجه، وكذلك قيمة البناء مقلوعا على الأرض الحجر من ناحية، والطين من ناحية م: (ويتملكه فله ذلك) ش: أي يتملك مالك الأرض كل واحد من البناء والشجر م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه إنما يجوز م: (برضاء صاحب الغرس والشجر) ش: لئلا يتضرر بالإجبار م: (إلا أن ينقص الأرض بقلعها) ش: أي بقلع الأشياء المذكورة والبناء والغرس والشجر؛ لأن المذكور هذه الثلاثة.
فإن قلت: المفهوم من الغرس فيما مضى النخل والشجر حيث قال لزمه أن يقلع البناء

(10/252)


فحينئذ يتملكها بغير رضاه،
قال، أو يرضى بتركه على حاله فيكون البناء لهذا والأرض لهذا؛ لصاحب الأرض والغاصب لأن الحق له فله أن لا يستوفيه.
قال: وفي " الجامع الصغير " إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة فإنها تقلع؛ لأن الرطاب لا نهاية لها فأشبه الشجر.
قال: ويجوز استئجار الدواب للركوب والحمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والغرس بعد قوله نخلا أو شجرا، وهاهنا عطف الشجر على الغرس، والمعطوف غير المعطوف عليه، وترك ذكر البناء هاهنا.
قلت: أما ذكر البناء فلأن الغالب نقصان الأرض بقلع الأشجار دون البناء. وأما عطف الشجر على الغرس فليبين لنا فائدة، وهي أن الغرس أعم من الشجر، فالشجر اسم ما له ساق والغرس يتناول ما له ساق وما ليس له ساق، والحكم في النوعين سواء فافهم.
فإن هذا أيضا ما ذكره أحد من الشراح م: (فحينئذ يتملكها بغير رضاه) ش: أي حين وجود نقص الأرض بالقلع يتملك صاحب الأرض البناء والغرس والشجر حال كونها مقلوعة بغير رضى المستأجر.

م: (قال) ش: أي القدوري: م: (أو يرضى) ش: أي صاحب الأرض م: (بتركه على حاله فيكون البناء لهذا والأرض لهذا؛ لأن الحق له فله أن لا يستوفيه) ش: لأن من له الحق لا يجبر.

[الحكم لو انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة]
م: (قال: وفي " الجامع الصغير " إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة فإنها تقلع؛ لأن الرطاب لا نهاية لها فأشبه الشجر) ش: إنما أورد هذا لبيان أن حكم الرطبة كحكم الشجرة. قال تاج الشريعة: الرطبة كالقصب والكراث.
قلت: الرطبة هي التي يقال لها برسيم والقرط في لغة أهل مصر، ولكن عندهم هي كالزرع يزرع في كل سنة، بخلاف غيرها من البلاد فإنها عندهم كالشجر في طول البقاء وليس له نهاية معلومة، فيحكم في كل بلد بحسب عرفها والطرخون عندنا كالرطبة في طول البقاء، وليس له نهاية معلومة.

[استئجار الدواب للركوب والحمل]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز استئجار الدواب للركوب والحمل) ش: يعني لركوب معين إما نصا حقيقة أو تقديرا، وإنما قلنا هكذا؛ لأنه إذا استأجر دابة للركوب ولم يعين من يركبه لا تصح الإجارة، وكذا إذا استأجر ثوبا ليلبسه ولم يعين من يلبسه تفسد الإجارة، نص عليه في " المبسوط " و " الذخيرة " وغيرهما.
فإن قلت: قال القدوري: فإن أطلق الركوب جاز أن يركبها من شاء، وكذلك إن استأجر ثوبا للبس وأطلق على ما يجيء الآن في الكتاب.

(10/253)


لأنه منفعة معلومة معهودة، فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من يشاء عملا بالإطلاق، ولكن إذا ركب بنفسه أو أركب واحدا ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعيَّن مرادا من الأصل والناس متفاوتون في الركوب، فصار كأنه نص على ركوبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قيل في التوفيق بين الروايات ما ذكر في " فتاوى قاضي خان " أنه لو أركب غيره أو ركبه بنفسه انقلب جائزا بعدما وقع فاسدا فيكون معنى قوله: فإن أطلق الركوب جاز أن يركبها من شاء، أي لو أركبه ينقلب إلى الجواز بعدما وقع فاسدا، أو يكون المراد ما ذكره الأقطع في شرحه: قوله: فإن أطلق الركوب، أي استأجرها للركوب على أن يركب عليها من شاء، واختاره صاحب " الكافي ".
والأوجه أن يقال: ما ذكره من الفساد جواب القياس، ومن الجواز جواب الاستحسان فذكر في " المبسوط " بعد ذكره وجه القياس: في القياس وفي الاستحسان أن الجهالة المفسدة قد زالت بركوب نفسه وإركاب غيره فجعلنا التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء.
فإن قلت: ما الدليل على جواز استئجار الدواب.
قلت: روى الواحدي في كتاب " أسباب نزول القرآن " بإسناده إلى العلاء بن المسيب «عن أبي أمامة التيمي، قال: سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وأن قوما يزعمون أنه لا حج لنا، قال ألستم تلبون، ألستم تطوفون بين الصفا والمروة، قال: بلى، قال: إن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فدعاه فتلاها، فقال أنتم الحجاج» فدل الحديث أن استئجار الدواب جائز م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الركوب والحمل م: (منفعة معلومة معهودة) ش: بين الناس.
م: (فإن أطلق الركوب) ش: أراد عمم ولم يقيد بركوب شخص بأن قال على أن تركب من تشاء أو على أن تركب من شئت، أما إذا استأجر للركوب مطلقا لا يجوز كما ذكرناه آنفا م: (جاز له) ش: للمستأجر م: (أن يركب من يشاء) ش: بضم الياء من الإركاب ومن في محل نصب مفعول.
م: (عملا بالإطلاق) ش: أن التعميم كما ذكرنا م: (ولكن إذا ركب بنفسه أو أركب واحدا ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين مرادا من الأصل) ش: أي لأن ركوبه بنفسه أو إركابه غيره تعيين حال كونه مرادا من الأصل وهو الإطلاق والتعميم م: (والناس متفاوتون في الركوب، فصار كأنه نص) ش: في الابتداء م: (على ركوبه) ش: شيء معين.

(10/254)


وكذلك إذا استأجر ثوبا للبس وأطلق جاز فيما ذكرنا لإطلاق اللفظ وتفاوت الناس في اللبس. وإن قال: على أن يركبها فلان أو يلبس الثوب فلان فأركبها غيره أو ألبسه غيره فعطب كان ضامنا؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فصح التعيين وليس له أن يتعداه، وكذلك كل ما يختلف باختلاف المستعمل لما ذكرنا. فأما العقار وما لا يختلف باختلاف المستعمل إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره؛ لأن التقييد غير مفيد لعدم التفاوت، والذي يضر بالبناء خارج على ما ذكرناه.
قال: وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما هو مثل الحنطة في الضرر أو أقل كالشعير والسمسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذلك إذا استأجر ثوبا للبس وأطلق) ش: أي عمم ولم يقيد بلبس شخص م: (جاز فيما ذكرنا) ش: من العمل بالإطلاق وهو أن يلبس من شاء، ولكن إذا لبس بنفسه أو لبس واحدا ليس له أن يلبس غيره م: (لإطلاق اللفظ وتفاوت الناس في اللبس) ش: هذان يرجعان إلى الحكمين المذكورين من قبيل اللف والنشر، فرجع كل واحد منهما إلى ما يليق به من الحكم.
م: (وإن قال: على أن يركبها فلان أو يلبس الثوب فلان فأركبها غيره أو ألبسه غيره فعطب) ش: أي هلك، والضمير فيه يرجع إلى كل واحد من الدابة والثوب م: (كان ضامنا؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس، فصح التعيين وليس له أن يتعداه) ش: لأنه تعيين مفيد لا بد من اعتباره فإذا تعدى ضمن.
م: (وكذلك كل ما يختلف باختلاف المستعمل) ش: بكسر الميم الثانية وذلك بالفسطاط ونحوه، حتى لو استأجر فسطاطا ودفعه إلى غيره إجارة أو إعارة فنصبه وسكن فيه ضمنه عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتفاوت الناس في نصبه واختياره مكانه وضرب أوتاده. وعند محمد لا يضمن لأنه كالدار م: (لما ذكرنا) ش: يعني من تفاوت الناس في الاستعمال.
م: (فأما العقار وما لا يختلف باختلاف المستعمل) ش: كالأحصاص المبنية من البردي، والبيوت المبنية من الخشب ونحوها م: (إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره؛ لأن التقييد غير مفيد لعدم التفاوت) ش: في المسكن م: (والذي يضر بالبناء خارج) ش: هذا جواب عن سؤال من يقول قد تفاوت السكان أيضا، فإن الحداد ونحوه يضر بالبناء، فأجاب عنه بأن الذي يضر بالبناء خارج، أي مستثنى م: (على ما ذكرناه) ش: أشار به إلى قوله إلا أنه لا يسكن حدادا، إلى آخره.

[الحكم لو سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما هو مثل الحنطة في الضرر) ش: كحنطة أخرى غير الحنطة المعينة م: (أو أقل) ش: ضررا م: (كالشعير والسمسم) ش: قال السغناقي، وتبعه الأترازي: هذا لف

(10/255)


لأنه دخل تحت الإذن لعدم التفاوت، أو لكونه خيرا من الأول. وليس له أن يحمل ما هو أضر من الحنطة كالملح والحديد لانعدام الرضاء به. وإن استأجرها ليحمل عليها قطنا سماه فليس له أن يحمل عليها مثل وزنه حديدا؛ لأنه ربما يكون أضر بالدابة فإن الحديد يجتمع في موضع من ظهره والقطن ينبسط على ظهره،
قال: وإن استأجرها ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت ضمن نصف قيمتها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونشر، فالشعير ينصرف إلى المثل، والسمسم إلى أقل إذا كان التقدير فيهما من حيث الكيل لا من حيث الوزن.
قلت: هذا ليس بلف ونشر، بل كل واحد منهما ينصرف إلى الأقل ومثاله، وأما مثل الحنطة في الضرر هو الحنطة الأخرى غير الحنطة المعينة في الإجارة كما ذكرنا، ولا شك أن الشعير أخف من الحنطة سواء كانا وزنا أو كيلا، فكيف يكون مثل الحنطة في الضرر؟ ثم قال: هذا جواب الاستحسان، أما لو سمى قدرا من الحنطة وزنا فحمل مثل الوزن من الشعير يضمن.
وفي " المبسوط ": لا يضمن وهو الأصح، وبه أفتى الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه دخل تحت الإذن لعدم التفاوت) ش: فيما إذا كان مثلا م: (أو لكونه خيرا من الأول) ش: فيما إذا كان أقل ضررا.
م: (وليس له أن يحمل ما هو أضر من الحنطة كالملح والحديد لانعدام الرضاء به) ش: لأنه يجتمع في موضع واحد فيدق ظهر الدابة. وفي المبسوط وكذا لو حمل وزن الحنطة قطنا يضمن؛ لأنه يأخذ من ظهر الدابة فوق ما يأخذ الحنطة فكان أضر عليها من وجه، كما لو حمل عليها حطبا أو تبنا.
م: (وإن استأجرها ليحمل عليها قطنا سماه فليس له أن يحمل عليها مثل وزنه حديدا؛ لأنه ربما يكون أضر بالدابة، فإن الحديد يجتمع في موضع من ظهره، والقطن ينبسط على ظهره) ش: إنما ذكر هذا مع كونه معلوما مما سبق لأن ذلك كان نظير المكيل وهذا نظير الموزون.

[استأجر دابة ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن استأجرها ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت ضمن نصف قيمتها) ش: قيد بالإرداف؛ لأنه لو ركبها وحمل على عاتقه غيره يضمن كل القيمة وإن كانت الدابة تطيق ذلك؛ لأن ثقل الراكب مع الذي حمله يجتمعان في مكان واحد فيكون أشق عليها، كما لو حملها مثل وزن الحنطة حديدا.
وقيد بقوله: " رجلا " لأنه إذا أردف صبيا يضمن قدر الفضل لأن الصبي لا يستمسك بنفسه على الدابة فكان كالمتاع، وهذا إذا كانت الدابة تطيق ذلك، فإن لم تطق يضمن جميع قيمتها. وبه قال الشافعي وروي عن الشافعي: يجب على المردوف نصف الضمان.

(10/256)


ولا معتبر بالثقل؛ لأن الدابة قد يعقرها جهل الراكب الخفيف، ويخفف عليها ركوب الثقيل لعلمه بالفروسية، ولأن الآدمي غير موزون فلا يمكن معرفة الوزن فاعتبر عدد الراكب كعدد الجناة في الجنايات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: " ضمن نصف قيمتها " يعني مع تمام الأجر إذا كان الهلاك بعد البلوغ إلى المقصد ثم المالك بالخيار إن شاء ضمن المستأجر فلا يرجع المستأجر على الغير سواء كان الغير مستعيرا أو مستأجرا، وإن ضمن الرد يرجع على المستأجر إن كان الغير مستأجرا، وإن كان الغير مستعيرا لا يرجع.
وفي " تجريد القدوري ": استأجر دابة ليركبها فأركب غيره مع نفسه يضمن النصف سواء كان أخف أو أثقل، وفي " الفتاوى الصغرى " و" التتمة ": استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم فركب وحمل مع نفسه حملا يضمن قدر الزيادة إن عطبت الدابة، وهذا إذا لم يركب موضع الحمل بل يكون ركوبه في موضع والحمل في موضع آخر، أما إذا ركب على موضع الحمل ضمن قيمة جميع الدابة، كذا في إجارات شيخ الإسلام خواهر زاده.

م: (ولا معتبر بالثقل، لأن الدابة قد يعقرها جهل الراكب الخفيف ويخفف عليها ركوب الثقيل لعلمه بالفروسية) ش: أراد بالفروسية معرفة كيفية الركوب كيف يقعد على ظهر الدابة وكيف يضم فخذيه وكيف يحط رجليه في الركب إذا كانت الدابة تركب بالركب وكيف يمسك اللجام والخطام، فإن الدواب لا تطلق ولا تهلك تحت الركاب إلا من هذه الجهات.
م: (ولأن الآدمي غير موزون فلا يمكن معرفة الوزن) ش: قال في " الكافي ": لأن الآدمي لا يوزن بالقبان وفيه نظر، وقد شاهدنا كثيرا من الناس وزنوا أنفسهم بالقبان ليعرفوا وزنها ولكن لا ينضبط هذا على ما لا يخفى م: (فاعتبر عدد الراكب كعدد الجناة) ش: بضم الجيم جمع جان كالقضاة جمع قاض م: (في الجنايات) .
ش: أراد أن الاعتبار في الجنايات المتعددة عدد الجناة لا عدد الجنايات حتى إن رجلا إذا جرح رجلا جراحة واحدة والآخر عشر جراحات خطأ فمات، فالدية بينهما أنصافا، لأنه ربما سلم المجروح من عشر جراحات ويهلك من جراحة واحدة.
وأورد شبهتين، الأولى: أن الأجر والضمان لا يجتمعان، وهنا قد اجتمعا، لأنه وجب عليه نصف الضمان مع وجوب الآخر كما ذكرنا، الثانية: أنه لو استأجرها ليركبها بنفسه فلو أركب غيره يجب عليه كل القيمة وهاهنا نصف القيمة مع أنه ركب وأركب غيره، مع أن الضرر هاهنا أكثر والضمان يدور مع زيادة الضرر.

(10/257)


وإن استأجرها ليحمل عليها مقدارا من الحنطة فحمل عليها أكثر منه، فعطبت ضمن ما زاد الثقل؛ لأنها عطبت بما هو مأذون فيه وما هو غير مأذون فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب عن الأولى بأن انتفاء الأجر عند الضمان إذا ملكه بالضمان بطريق الغصب، لأن الأجر في ملكه، وهاهنا لم يملك شيئا بهذا الضمان مما شغله بركوب نفسه وجميع المسمى بمقابله ذلك، وإنما يضمن ما شغله بركوب الغير ولا أجر بمقابلة ذلك ليسقط عنه لا يقال حين تقرر عليه ضمان نصف القيمة قد ملك نصف الدابة من حيث ضمن فينبغي أن لا يلزمه نصف الأجر؛ لأنا نقول إن الضرر ليس من قبل ثقل الراكب وخفته، وإنما هو باعتبار العدد، ولهذا يوزع الضمان نصفين.
وعن الثانية أنه إذا أركب غيره فهو مخالف في الكل، وهنا هو موافق فيما شغله بنفسه مخالف فيما شغله بغيره. ألا ترى أنه لو استأجرها لركوبه لم يجب الأجر إذا حمل عليها غيره ووجب الأجر إذا ركبها وحمل مع نفسه غيره.

[استأجر دابة ليحمل عليها مقدارا فحمل عليها أكثر منه فعطبت]
م: (وإن استأجرها ليحمل عليها مقدارا من الحنطة فحمل عليها أكثر منه) ش: أي من المقدار الذي عينه م: (فعطبت ضمن ما زاد الثقل) ش: بكسرالثاء وفتح القاف وهو ضد الخفة وهو اسم معنى وبالسكون الحمل وهو اسم غيره م: (لأنها عطبت بما هو مأذون فيه وما هو غير مأذون فيه) ش: وقوله ما زاد الثقل مقيد بما إذا كان المزيد من جنس المسمى، بخلاف ما إذا كان من غير جنسه كما لو استأجرها ليحمل عليها كر شعير فحمل عليها حنطة بمثل ذلك الكيل فهلك ضمن جميع قيمتها.
والفرق أن في الأول هو مأذون في حق المزيد عليه، وفي حق الزيادة فلا يضمن لما أذن فيه. وفي الثاني تحققت المخالفة في الجميع فيضمن، وعند الشافعي وأحمد يضمن قيمتها كلها كما في الغصب، لأنه متعد إذا لم يكن معها صاحبها، وإن كان صاحبها معها فإن تلف بعد التسليم إلى صاحبها لم يضمن، وإن تلف في حال الحمل ضمن.
وفي قدر الضمان قولان، أحدهما: نصف القيمة. والثاني: أنه يسقط وما قابل الزيادة يجب، وإن لم يهلك يجب المسمى، وفيما زاد أجر المثل. وعن مالك خير المالك بين تضمين القيمة بالتعدي وبين أجر المثل.
فإن قيل: ما ذكرتم يتنقض بما إذا استأجر ثورا للطحن به عشرة مخاتيم حنطة فطحن أحد عشر مختوما فهلك ضمن الجميع، وإن كانت الزيادة من الجنس.
أجيب: بأن الطحن إنما يكون شيئا فشيئا فكما طحن العشرة انتهى الإذن فبعد ذلك هو مخالف في استعمال الدابة بغير الإذن فيضمن الجميع. فأما الحمل فيكون جملة واحدة فهو مأذون

(10/258)


والسبب الثقل فانقسم عليهما. إلا إذا كان حملا لا يطيقه مثل تلك الدابة فحينئذ يضمن كل قيمتها لعدم الإذن فيها أصلا، لخروجه عن العادة. وإن كبح الدابة بلجامها أو ضربها فعطبت، ضمن عند أبي حنيفة. وقالا: لا يضمن إذا فعل فعلا متعارفا؛ لأن المتعارف مما يدخل تحت مطلق العقد، فكان حاصلا بإذنه فلا يضمنه. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإذن مقيد بشرط السلامة؛ إذ يتحقق السوق بدونهما، وهما للمبالغة، فيتقيد بوصف السلامة كالمرور في الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في بعض، مخالف في بعض، فيوزع الضمان على ذلك.
وفي " تتمة الفتاوى ": استكرى دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فجعل في الجوالق عشرين مختوما، فأمر المكاري أن يحمل هو عليها فحمل هو ولم يشاركه المستكري في الحمل، لا ضمان عليه أصلا إذا هلكت الدابة. ولو حملاه جميعا يعني المكاري والمستكري في الحمل لا ضمان عليه أصلا إذا هلكت الدابة.
ولو حملاه جميعا يعني المكاري والمستكري ووضعاه على الدابه يضمن المستكري ربع القيمة. وإن كانت الحنطة في الجوالقين، فحمل كل واحد منهما جوالقا ووضعاهما على الدابة جميعا، لا يضمن المستأجر شيئا، وجعل حمل المستأجر ما كان مستحقا بالعقد.
م: (والسبب الثقل فانقسم عليهما إلا إذا كان حملا) ش: بكسر الحاء م: (لا يطيقه مثل تلك الدابة، فحينئذ يضمن كل قيمتها لعدم الإذن فيها أصلا لخروجه عن العادة) ش: وفي بعض النسخ لخروجه عن طاقة الدابة، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا، وفي الشرط يضمن القيمة. م: (وإن كبح الدابة بلجامها) ش: أي جذبها إلى نفسه لتقف ولا تجري م: (أو ضربها فعطبت ضمن عند أبي حنيفة. وقالا: لايضمن إذا فعل فعلا تعارفًا، لأن المتعارف مما يدخل تحت مطلق العقد فكان حاصلا بإذنه فلا يضمنه) ش: وبه قالت الثلاثة وإسحاق وأبو ثور. وقال صاحب " العناية ": وفي عبارته تسامح، لأن المتعارف مراد بمطلق العقد لا داخل تحته.
والجواب: أن اللام في المتعارف للعهد، أي الكبح المتعارف أو الضرب المتعارف، وحينئذ يكون داخلا لا مرادا، لأن العقد المطلق يتناوله وغيره.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإذن مقيد بشرط السلامة؛ إذ يتحقق السوق بدونهما وهما) ش: أي الكبح والضرب م: (للمبالغة فيتقيد بوصف السلامة كالمرور في الطريق) ش: فإنه مقيد بوصف السلامة. وفي " الفتاوى الصغرى ": معلم ضرب الصبي بإذن الأب أو الوصي لم يضمن، وهما لو ضربا بضمنان. وفي العيون: المعلم والأستاذ إذا ضربا الصبي بغير إذن الأب أو الوصي ضمنا، ولو ضرباه بإذنهما لا يضمنان، والأب والوصي إذا ضربه للتأديب فمات؛ ضمنا عند أبي حنيفة خلافا لهما.

(10/259)


وإن استأجرها إلى الحيرة فجاوز بها إلى القادسية، ثم ردها إلى الحيرة، ثم نفقت فهو ضامن. وكذلك العارية، وقيل: تأويل هذه المسألة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " التتمة ": الأصح أن أبا حنيفة رجع إلى قولهما. وفي " الفتاوى الصغرى " أيضا قال أبو سليمان: إذا ضرب ابنه على تعليم القرآن فمات، قال أبو حينفة: تجب الدية ولا يرثه. وقال أبو يوسف: لا شيء عليه ويرثه. ولو ضرب امرأته على المضجع فماتت يضمن ولا يرثها في قولهما، لأنه ضربها لمنفعة نفسها، بخلاف الأب مع الابن.

م: (وإن استأجرها إلى الحيرة) ش: بكسر الحاء المهمله وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء المهملة وهي مدينة على ميل من الكوفه كان يسكنها النعمان بن المنذر م: (فجاوز بها إلى القادسية) ش: وهو موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلا م: (ثم ردها إلى الحيرة ثم نفقت) ش: أي هلكت م: (فهو ضامن، وكذلك العارية) .
ش: أي في العارية أيضا يضمن إذا فعل ذلك، وبه قالت الثلاثة، وهل يجب أجر المثل في الزيادة؛ فعندنا وعند الثوري لا يجب، وعند الشافعي وأحمد يجب أجر المثل في الزيادة.
وحكي عن مالك إذا تجاوز بها إلى مسافة بعيدة خير صاحبها بين أجر المثل وبين المطالبة بقيمتها يوم التعدي، وقد طعن عيسى بن أبان وقال إلحاق الإجارة بالعارية - كما ذكره في الكتاب - غير مستقيم لما أن يد المستأجر كيد المالك حتى يرجع بما لحقه من الضمان على المالك كما في الوديعة، وهذا مؤنة الرد على المالك. بخلاف العارية حيث لا يرجع المستعير على المالك بشيء.
وأجيب عن هذا بأن يد المستأجر يد نفسه لأنه قبضه لمنفعة نفسه كالمستعير، ولكن رجوعه بالضمان للغرور المتمكن بعقد المعارضة، وذلك لا يدل على أن يده ليست كيد نفسه كالمشتري يرجع بضمان المغرور.
فإن قيل: لو استأجرت امرأة ثوبا لتلبسه أياما فلبسته ليلا كانت ضامنة. ثم إذا جاء النهار برئت عن الضمان فعلم أن المستأجر إذا عاد إلى الوفاق يبرأ المرأة الضمان.
قلنا: وجوب الضمان عليها لاستعمال دون اليد، فإن لها أن تمسكه بالليل والنهار، وقد انعدم الاستعمال الذي لم يتناوله العقد بمجيء النهار.
وهاهنا وجوب الضمان صح باعتبار إمساك الدابة بعد المجاوزة بدليله أنه لو لم يركبها فهلكت يضمن، والإمساك وإن أعادها إلى الحيرة يزول بالرد على المالك، أو إلى من نحو من قام مقامه ولم يوجد، كذا ذكره المحبوبي.
م: (وقيل: تأويل هذه المسألة) ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف المشايخ في معنى وضع

(10/260)


إذا استأجرها ذاهبا لا جائيا لينتهي العقد بالوصول إلى الحيرة، فلا يصير بالعود مردودا إلى يد المالك معنى. أما إذا استأجرها ذاهبا وجائيا فيكون بمنزلة المودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق. وقيل: الجواب مجرى على الإطلاق، والفرق أن المودع مأمور بالحفظ مقصودا فبقي الأمر بالحفظ بعد العود إلى الوفاق فحصل الرد إلى يد نائب المالك.
وفي الإجارة والعارية يصير الحفظ مأمورا به تبعا للاستعمال لا مقصودا، فإذا انقطع الاستعمال لم يبق هو نائبا فلا يبرأ بالعود، وهذا أصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسألة المذكوره فمنهم من قال تأويلها م: (إذا استأجرها ذاهبا لا جائيا لينتهي العقد بالوصول إلى الحيرة فلا يصير) ش: أي الدابة م: (بالعود) ش: من القادسية إلى الحيرة م: (مردودا إلى يد المالك معنى) ش: فإنه لما كان مودعا معنى فهو نائب المالك والرد إلى النائب رد إلى المالك معنى.
م: (أما إذا استأجرها ذاهبا وجائيا فيكون بمنزلة المودع) ش: بفتح الدال م: (إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق) ش: حيث يخرج عن الضمان.
م: (وقيل: الجواب مجرى على الإطلاق) ش: يعني سواء استأجرها ذاهبا لا جائيا، أو ذاهبا وجائيا فإنه لا يبرأ بالعود عن الضمان، لأن بالمجاوزة صار غاصبا ودخلت الدابة في ضمانه، والغاصب لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك أو على نائبه ولم يوجد، لأن محمدا لم يفصل في " الجامع الصغير " في الجواب بل أطلق.
وقال: هو ضامن من غير قيد م: (والفرق) ش: يعني بين الوديعة وبين الإجارة والعارية م: (أن المودع مأمور بالحفظ مقصودا فبقي الأمر بالحفظ بعد العود إلى الوفاق فحصل الرد إلى يد نائب المالك) ش: أراد نائب المالك هو المودع بنفسه، لأنه نائبه في الحفظ لقيام الأمر به مطلقا، فإذا عادا إلى الوفاق حصل إلى نائب المالك فبرئ من الضمان.

[في الإجارة والعارية يصير الحفظ مأمورا به تبعا للاستعمال]
م: (وفي الإجارة والعارية يصير الحفظ مأمورا به تبعا للاستعمال لا مقصودا، فإذا انقطع الاستعمال) ش: بالتجارة عن الموضع المسمى م: (لم يبق هو نائبا) ش: أي المستأجر أو المعير م: (فلا يبرأ بالعود) ش: أي فلا يبرأ عن الضمان بالعود إلى الوفاق.
فإن قيل، غاصب الغاصب إذا رد المغصوب على الغاصب فإنه يبرأ، وإن لم يوجد الرد على المالك أو نائبه.
أجيب: بأنا نزيد في المأخوذ فنقول: يبرأ بالرد إلى أحد هذين أو إلى من لم يوجد منه سبب ضمان يرتفع بالرد عليه، كذا في الفوائد الظهيرية.
م: (وهذا) ش: أي الأجر على الإطلاق م: (أصح) ش: من التفصيل في الجواب. وفي الكافي وقيل: الأول أصح.

(10/261)


ومن اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج يسرج بمثله الحمر فلا ضمان عليه؛ لأنه إذا كان يماثل الأول يتناوله إذن المالك، إذ لا فائدة في التقييد بغيره، إلا إذا كان زائدا عليه في الوزن فحينئذ يضمن الزيادة. وإن كان لا يسرج بمثله الحمر يضمن؛ لأنه لم يتناوله الإذن من جهته فصار مخالفا. وإن أوكفه بإكاف لا يوكف بمثله الحمر يضمن لما قلنا في السرج، وهذا أولى.
وإن أوكفه بإكاف يوكف بمثله الحمر ضمن عند أبي حنيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج يسرج بمثله الحمر]
م: (ومن اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج يسرج بمثله الحمر فلا ضمان عليه، لأنه إذا كان يماثل الأول) ش: أي السرج الثاني إذا كان منثل السرج الأول م: (يتناوله إذن الملك إذ لا فائدة في التقييد بغيره) ش: أي من حيث المنع، أي لا فائدة في القول بأن هذا مقيد بأن لا يسرج بغير هذا السرج الذي عينه صاحبه إذا كان غيره يماثله.
وفي بعض النسخ في التقييد بعينه وهو واضح. قال الكاكي: والأولى في اللفظ هنا أن يقال بعينه. وقال الأترازي: قوله في التقييد بغيره، أي في تقييد الضمان بغير ذلك السرج. ولو قيل بعينه كان أولى في تقييد الإذن بغير ذلك السرج، لأنه وما يماثله سواء فلم يفسد التقييد.
قلت: فكأنما ما وقفا على كون هذه نسخة، فلذلك قال هذا القول.
م: (إلا إذا كان زائدا عليه في الوزن) ش: استثناء من قوله: فلا ضمان عليه، يعني ضمن إذا كان السرج الثاني زائدا على الأول ثم بين كيفية الضمان بقوله م: (فحينئد يضمن الزيادة) ش: لأنه من جنس المسمى. قال تاج الشريعة: هذا إنما يستقيم إذا كان الهلاك من السرج الثاني. م: (وإن كان لا يسرج بمثله الحمر) .
ش: بأن سرجه بسرج البرذون م: (يضمن) ش: القيمة كلها م: (لأنه لم يتناوله الإذن من جهته فصار مخالفا) ش: فيضمن م: (وإن أوكفه بإكاف لا يوكف بمثله الحمر يضمن لما قلنا في السرج وهذا أولى) ش: أي الضمان هاهنا أولى من الضمان فيما إذا أسرجه بسرج لا يسرج بمثله الحمر، لأن السرج من جنس السرج والإكاف ليس من جنس السرج، ولأنه أثقل بالنسبه إلى السرج.

م: (وإن أوكفه بإكاف يوكف بمثله الحمر ضمن عند أبي حنيفة) ش: ولم يبين مقدار المضمون اتباعا لرواية " الجامع الصغير " لأنه لم يذكر فيه أنه ضامن لجميع القيمة، ولكن قال: هو ضامن.
وذكر في الإجارات يضمن بقدر ما زاد، فمن مشايخنا من قال: ليس في المسألة روايتان، وإنما المطلق محمول على المفسر، ومنهم من قال فيها روايتان في رواية الإجارات يضمن بقدر

(10/262)


وقالا: يضمن بحسابه؛ لأنه إذا كان يوكف بمثله الحمر كان هو والسرج سواء فيكون المالك راضيا به، إلا إذا كان زائدا على السرج في الوزن فيضمن الزيادة؛ لأنه لم يرض بالزيادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما زاد. وفي رواية الجامع الصغير، يضمن جميع القيمة. قال شيخ الإسلام: وهذا أصح.
م: (وقالا: يضمن بحسابه) ش: وهو رواية عن أبي حنيفة وتكلموا في معنى هذا فقيل: المراد المساحة، حتى لو كان السرج يأخذ من ظهر الدابة قدر شبرين، والإكاف قدر أربعة أشبار يضمن نصف قيمتها.
وقيل: بحسابه في الثقل والخفة، حتى لو كان وزن السرج منوين، والإكاف سته أمناء يضمن ثلثي قيمتها. وقال الحاكم في الكافي: ولو تكارى حمارا عريانا فأسرجه وركبه فهو ضامن له.
وقال الكرخي في " مختصره ": ولو اكترى حمارا عريانا فأسرجه ثم ركبه كان ضامنا. وقال الأسبيجابي في شرح الكافي: وهذا إذا كان حمارا لا يسرج مثله عادة، أما إذا كان يسرج ويركب بالسرج فلا ضمان عليه، لأن المقصود هو الركوب والسرج آلة، فلا يختلف بوضع السرج عليه.
وقال القدوري في شرحه " لمختصر الكرخي ": وقد فصل أصحابنا هذا وقالوا: استأجره ليركب إلى خارج المصر لم يضمن، لأن الحمار لا يركب من بلد إلى بلد بغير سرج ولا إكاف، فلما أجره كذلك فقد أذن له من طريق المعنى. وقالوا: وإن استأجره ليركبه في المصر وهو من ذوي الهيئات فله أن يسرجه، لأن مثله لا يركب بغير سرج، وإن كان من دون الناس فأسرجه ضمن، لأن مثله يركب في البلد بغير سرج.
ثم إذا ضمن يضمن جميع القيمة، أو بقدر ما زاد، لأنه ذكر الضمان مطلقا، قال فخر الدين قاضي خان في شرح " الجامع الصغير ": اختلفوا فيه والصحيح أنه يضمن جميع القيمة. وقال الأترازي: ينبغي أن يكون الأصح ضمان قدر الزيادة لأنه استأجر عريانا فأسرجه، فكان السرج كالحمل الزائد على الركوب.
وقال الكرخي في " مختصره ": إن لم يكن عليه لجام فألجمه فلا ضمان عليه إذا كان مثله يلجم بذلك اللجام، وكذلك إن أبدله وذلك لأن الحمار لا يختلف باللجام وغيره ولا يتلف به فلم يضمن بإلجامه.
م: (لأنه إذا كان يوكف بمثله الحمر كان هو والسرج سواء، فيكون المالك راضيا به، إلا إذا كان زائدا على السرج في الوزن فيضمن الزيادة، لأنه لم يرض بالزيادة) ش: فكان متعديا فيها فيضمنها

(10/263)


فصار كالزيادة في الحمل المسمى إذا كانت من جنسه. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإكاف ليس من جنس السرج؛ لأنه للحمل والسرج للركوب، وكذا ينبسط أحدهما على ظهر الدابة ما لا ينبسط عليه الآخر فيكون مخالفا، كما إذا حمل الحديد وقد شرط له الحنطة.
وإن استأجر حمالا ليحمل له طعاما في طريق كذا فأخذ في طريق غيره يسلكه الناس فهلك المتاع فلا ضمان عليه. وإن بلغ فله الأجر. وهذا إذا لم يكن بين الطريقين تفاوت؛ لأن عند ذلك التقييد غير مفيد. أما إذا كان تفاوت يضمن لصحة التقييد فإن التقييد مفيد، إلا أن الظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فصار كالزيادة في الحمل المسمى إذا كانت من جنسه) ش: أي فصار حكم الزيادة في السرج كحكم الزيادة في الحمل المسمى بأن قال: خمسون بأن كان المسمى حنطة فإنه يضمن الزيادة.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإكاف ليس من جنس السرج لأنه للحمل) ش: بفتح الحاء م: (والسرج للركوب، وكذا ينبسط أحدهما على ظهر الدابة ما لا ينبسط عليه الآخر) ش: أراد أن الإكاف ينبسط أكثر مما ينبسط السرج م: (فيكون مخالفا كما إذا حمل الحديد وقد شرط له الحنطة) ش: أي والحال أنه قد شرط للحمل الحنطة. قال صاحب " العناية ": فيه نظر، لأنه عكس ما نحن فيه من المثال، إلا اذا جعل ذلك للمخالفة فقط من غير نظر إلى الانبساط وعدمه.
قلت: ليس فيه عكس، لأن الحديد قدر وزن الحنطة المشروطة لا تأخذ من ظهر الدابة قدر ما تأخذ الحنطة، وهذا ظاهر على أن هذه التشقية والتشبيه لا عموم له فلا حاجة إلى النظر والجواب عنه.

[استأجر حمالا ليحمل له في طريق فسلك غيره فهلك المتاع]
م: (وإن استأجر حمالا ليحمل له طعاما في طريق كذا فأخذ في طريق غيره يسلكه الناس) ش: أي غير الطريق الذي عينه المستأجر، هذه جملة في محل الجر؛ لأنها صفة لقوله: في طريق غيره. قيد بها، لأنه إذا كان لا يسلك الناس فيه يضمن م: (فهلك المتاع فلا ضمان عليه) ش: لعدم مرداة التقييد م: (وإن بلّغ) ش: بالتشديد، كذا السماع من المشايخ، أي فإن بلغ الحمال المتاع ذلك الموضع الذي اشترط أن يحمل إليه - ويجوز التخفيف -، والتأويل م: (فله الأجر) ش: لحصول المقصود م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه من عدم الضمان ووجوب الأجر م: (إذا لم يكن بين الطريقين تفاوت، لأن عند ذلك) ش: أي عند عدم التفاوت م: (التقييد غير مفيد، أما إذا كان تفاوت) ش: أي إذا كان بين الطريقين تفاوت، وهو أن يكون الذي سلكه أوعر أو أخوف م: (يضمن لصحة التقييد فإن التقييد مفيد) ش: لأنه إنما قيد ليحفظ متاعه، فإذا خالفه صار متعديا فيضمن، وإن بلغ إليه المكان مع ذلك فله الأجر لحصول المقصود، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (إلا أن الظاهر) ش: هذا جواب إشكال يرد على التفصيل، تقريره أن يقال: إن محمدا أطلق الرواية بأنه لا ضمان عليه فيما إذا أخذ في الطريق الذي يسلكه الناس ولم يقيد فما هذا

(10/264)


عدم التفاوت إذا كان طريقا يسلكه الناس فلم يفصل. وإن كان طريقا لا يسلكه الناس فهلك ضمن لأنه صح التقييد فصار مخالفا. وإن بلغ فله الأجر؛ لأنه ارتفع الخلاف معنى وإن بقى صورة، قال: وإن حمله في البحر فيما يحمله الناس في البر ضمن لفحش التفاوت بين البر والبحر، وإن بلغ فله الأجر لحصول المقصود وارتفاع الخلاف معنى.
قال: ومن استأجر أرضا ليزرعها حنطة فزرعها رطبة ضمن ما نقصها؛ لأن الرطاب أضر بالأرض من الحنطة لانتشار عروقها فيها وكثرة الحاجة إلى سقيها فكان خلافا إلى شر فيضمن ما نقصها، ولا أجر له؛ لأنه غاصب للأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التفصيل؟ فأجاب بقوله إلا أن الظاهر م: (عدم التفاوت إذا كان طريقا يسلكه الناس فلم يفصل) ش: يعني بين الطريقين بالتفاوت م: (وإن كان طريقا لا يسلكه الناس فهلك ضمن، لأنه صح التقييد فصار مخالفا) ش: صورة ومعنى فيضمن م: (وإن بلغ) ش: بالتشديد يعني وإن بلغ الحمال المتاع ذلك الموضع الذي عينه.
ويجوز بالتخفيف على إسناد الفعل إلى المتاع، يعني إن بلغ المتاع إلى المكان الذي عينه مع سلوكه في الطريق الذي لا يسلكه الناس م: (فله الأجر، لأنه ارتفع الخلاف) ش: أراد به مخالفة المستأجر م: (معنى) ش: أي من حيث المعنى لحصول غرض المستأجر م: (وإن بقي) ش: الخلاف م: (صورة) ش: أي من حيث الصورة، وذلك لأنه سلك غير ما عينه.
م: (قال: وإن حمله في البحر) ش: والحال أنه أمره بالمسير في البر م: (فيما يحمله الناس في البر) ش: أراد حمله في طريق في البحر لا يحمل الناس فيه م: (ضمن لفحش التفاوت بين البر والبحر) ش: حتى إن للمودع أن يسافر بالوديعة من طريق البر دون البحر م: (وإن بلغ) ش: يعني المكان الذي عينه مع حملانه في البحر م: (فله الأجر لحصول المقصود) ش: وهو بلوغ ذلك الشيء إلى الموضع الذي عينه م: (وارتفاع الخلاف معنى) ش: دون صورة وهو ذهابه في غير الطريق الذي عينه ولكن هذا الخلاف غير معتبر بعد حصول المقصود.

[استأجر أرضا ليزرعها حنطة فزرعها رطبة]
م: (قال: ومن استأجر أرضا ليزرعها حنطة فزرعها رطبة ضمن ما نقصها) ش: بلا خلاف بين أهل العلم م: (لأن الرطاب أضر بالأرض من الحنطة لانتشار عروقها فيها وكثرة الحاجة إلى سقيها، فكان خلافا إلى شر فيضمن ما نقصها ولا أجر له) ش: أي للمستأجر على المؤجر، لأن الأجر والضمان لا يجتمعان م: (لأنه غاصب للأرض) ش: وعند الشافعي وأحمد رب الأرض مخير بين أخذ الأجر وما نقصت الأرض، وبين أخذ أجر المثل للجميع. وعن أحمد عليه أجر المثل كالغاصب م: (على ما قررناه) ش: إشارة إلى قوله لأن الرطاب أضر بالأرض.

(10/265)


على ما قررناه. ومن دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قميصا بدرهم فخاطه قباء فإن شاء ضمنه قيمة الثوب، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثله ولا يجاوز به درهما. قيل: معناه القرطق الذي هو ذو طاق واحد؛ لأنه يستعمل استعمال القباء. وقيل هو مجرى على إطلاقه لأنهما يتقاربان في المنفعة، وعن أبي حنيفة أنه يضمن من غير خيار؛ لأن القباء خلاف جنس القميص. وجه الظاهر أنه قميص من وجه؛ لأنه يشد وسطه، وينتفع به انتفاع القميص فجاءت الموافقة والمخالفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قيمصا بدرهم فخاطه قباء]
م: (ومن دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قيمصا بدرهم فخاطه قباء فإن شاء ضمنه قيمة الثوب) ش: ويكون القباء للخياط، لأنه ملك الثوب بأداء الضمان م: (وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثله ولا يجاوز به درهما) ش: لأن المنافع عندنا لا تتقوم إلا بالعقد، وليس فيما وراء المسمى عقد كما لو شرط على النساج أن ينسجه صفيقا فحاكه رقيقا، أو على العكس حيث يلزمه أجر مثله لا يجاوز به ما سمى م: (قيل معناه) ش: أي المراد من القباء هو م: (القرطق الذي هو ذو طاق واحد) ش: وهو تعريب - كرته وبك ناهي - والقرطق الذي يلبسه الأتراك مكان القميص، يقال له بالفارسية - بكهتي - وقال الأترازي: وكان سماعنا بفتح الطاء في القرطق، وهكذا كان تصحيح الإمام حافظ الدين الكبير البخاري، ولكن حفظناه في كتاب مقدمة الأدب سماعا عن الثقات بضم الطاء، ولهما وجه؛ لأنه لما كان معربا تلاعبت به الألسنة كما شاءت.
قلت: ينبغي أن يكون بالفتح، لأنه تعريب - كرته - كما ذكرنا وهو مفتوح التاء، فلما عربوه قلبوا التاء طاء، ولا يلزم منه تغيير الحركة أيضا فافهم. وفي " المغرب " القرطق ذو طاق واحد. وقال الإمام ظهير الدين: القميص إذا قد من قبل كان قباء طاق، واذا خيط جانباه كان قميصا، وهو المراد من القرطق، كذا في " الحياوتة " م: (لأنه يستعمل استعمال القباء) ش: أي لأن القرطق يستعمل استعمال القباء، لأنه يلبس مثل ما يلبس القباء ويدخل اليدان في الكمين فيه كما في القباء.
م: (وقيل: هو مجرى على إطلاقه) ش: أي القباء مجرى على إطلافه من غير أن يأذن أن معناه القرطق م: (لأنهما) ش: أي لأن القميص والقباء م: (يتقاربان في المنفعة) ش: أي في منفعة اللبس من دفع الحر والبرد وستر العورة. م: (وعن أبي حنيفة أنه يضمن من غير خيار) ش: لصاحب الثوب، وهذه الرواية رواها الحسن عن أبي حنيفة وهي قياس قول الثلاثة م: (لأن القباء خلاف جنس القميص) ش: فكان مخالفا من كل وجه، فكان غاصبا من كل وجه، وحكم الغاصب من كل وجه هذا.
م: (وجه الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية م: (أنه) ش: أي القباء م: (قميص من وجه، لأنه يشد وسطه وينتفع به انتفاع القميص) ش: من دفع الحر والبرد وستر العورة م: (فجاءت الموافقة والمخالفة)

(10/266)


فيميل إلى أي الجهتين شاء، إلا أنه يجب أجر المثل لقصور جهة الموافقة، ولا يجاوز به الدراهم المسمى كما هو الحكم في سائر الإجارات الفاسدة على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى. ولو خاطه سراويل وقد أمر بالقباء، قيل: يضمن من غير خيار للتفاوت في المنفعة، والأصح أنه يخير للاتحاد في أصل المنفعة، وصار كما إذا أمر بضرب طست من شبه فضرب منه كوزا فإنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: الموافقة من حيث إن القباء يشبه القميص من الوجه المذكور. وأما المخالفة فظاهرة، لأنه أمره قميصا وخاطه قباء م: (فيميل) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فيميل صاحب الثوب م: (إلى أي الجهتين شاء) ش: فإن مال إلى الخلاف ضمنه قيمة ثوبه وترك القباء عليه. وإن مال إلى الوفاق أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله، وهو معنى قوله م: (إلا أنه يجب أجر المثل لقصور جهة الموافقة) ش: لأنه ما رضي بهذه الصفة وإنما رضي بتلك الصفة المخصوصة. ألا ترى أنه لو خاطه قميصا مخالفا لما وضعه لم يجب المسمى لفوت وصف يقابله المسمى، فهنا أحق.
م: (ولا يجاوز به الدراهم المسمى، كما هو الحكم في سائر الإجارات الفاسدة على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى) ش: وعند الثلاثة يجب أجر المثل بالغا ما بلغ.
ثم اعلم أن هذا كله إذا تصادق على الأمر بخياطة القميص. ولو قال رب الثوب: أمرتك بخياطة القميص. وقال الخياط بل أمرتني بخياطة القباء فالقول لرب الثوب، وبه قال مالك وأحمد وابن أبي ليلى وأبو ثور.
وعن أحمد في رواية: القول للخياط.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنههم من قال: في المسألة قولان كالمذهبين، ومنهم من قال: الصحيح أن القول لرب الثوب. ومنهم من قال: إنهما يتحالفان كالمتبايعين يختلفان في الثمن، فإن أقاما البينة فالبينة بينة الخياط. وإن اختلفا في الأجر فالقول للمالك لأنه منكر الزيادة، والبينة بينة الخياط، لأنها تثبت الزيادة.
م: (ولو خاطه سراويل وقد أمر بالقباء) ش: أي والحال أنه قد أمر بخياطة القباء م: (قيل يضمن من غير خيار للتفاوت في المنفعة) ش: وبه قالت الثلاثة م: (والأصح أنه يخير) ش: إن شاء ضمن الخياط قيمة الثوب ولا أجر عليه. وإن شاء أخذ المخيط وأعطاه أجر مثله ولا يجاوز به المسمى م: (للاتحاد في أصل المنفعة) ش: أي منفعة اللبس وستر العورة م: (وصار) ش: أي حكم هذه المسألة م: (كما إذا أمر بضرب طست من شبه) ش: بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة وهو ضرب من النحاس.
قال أبو عمر: والطست والطستة والطس لغات في الطست والجمع طسوس وطساس وطسس وطسات، قال [....] عن أبي عبيد: الطست معربة م: (فضرب منه كوزا فإنه) ش: أي

(10/267)


يخير، كذا هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن الأمر م: (يخير) ش: بين أن يأخذ الكوز وإعطاءه أجر مثله، وبين أن يضمن المأمور قيمة الشبه ولا أجر عليه م: (كذا هذا) ش: أي فيما إذا خاطه سراويل وقد أمر بالقباء. وقال شمس الأئمة البيهقي في " الكفاية ": قالوا: لو قطعه سراويل لم يجب له أجره إلا أن الرواية تخالف هذا. وقال في " الإيضاح ": كانوا يقولون لو قطعه سراويل لم يجب له أجر من المنفعة فلم يوجد المعقود عليه. قال: والرواية تخالف هذا، فإنه روي عن محمد أنه لو دفع شبها إلى رجل ليُضرب له طست إلى آخر ما ذكره المصنف.

(10/268)