البناية شرح الهداية

باب الإجارة الفاسدة قال: الإجارة تفسدها الشروط كما تفسد البيع؛ لأنه بمنزلته، ألا ترى أنه عقد يقال ويفسخ،
والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب الإجارة الفاسدة]
م: (باب الإجارة الفاسدة) ش: عقبها بالصحيحة لأنها تأخذ الحكم منها، وتأخيرها عن الصحيحة إيقاعها في حكمها.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الإجارة تفسدها الشروط) ش: المخالفة لمقتضى العقد كما لو استأجر رحى ماء على أنه إن انقطع ماؤه فالأجر عليه، وكذا لو اشترط تطيين الدار ومرمتها أو تعليق باب عليها أو إدخال جذع في سقفها على المستأجر.
وكذلك اشتراط كرى نهر في الأرض أو ضرب مسنات عليها أو حفر بئر فيها أو أن تصرفها على المستأجر لأنه جعل هذه الأعمال من جملة الأجر وإنها مجهولة غير معلومة، وجهالة بعض الأجر توجب جهالة الباقي فتفسد به الإجارة م: (كما تفسد البيع لأنه) ش: أي لأن الإجارة والتذكير باعتبار العقد م: (بمنزلته) ش: أي بمنزلة البيع.
م: (ألا ترى أنه عقد يقال ويفسخ) ش: كما أن البيع كذلك، وقوله: يقال من الإقالة لا من القول، فإذا كانت مثل القول تفسد بالشروط؛ لأنها مبنية على المضايقة والمماكسة، فالاشتراط يكون مفضيا إلى المنازعة كالبيع، ألا ترى أن النكاح لا يفسد بالشروط لما أنه بني على المسامحة، وأراد بالشروط شروطا لا يقتضيها العقد لا كل شرط كما في البيع.
ولهذا لو استأجر دابة إلى بغداد بشرط أن يعطيه الأجرة إذا رجع من بغداد صح وليس له المطالبة بالأجر إلى أن يرجع، إلا إذا مات ببغداد فحينئذ له أن يأخذ أجر الذهاب، وكذا لو استأجر رجلا ليعمل له هذا العمل بدرهم وشرط عليه أن يفرغ منه اليوم جاز بالاتفاق. بخلاف ما لو استأجر ليعمل هذا العمل اليوم عند أبي حنيفة، كذا في " الفتاوى الصغرى ".

[الواجب في الإجارة الفاسدة]
م: (والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى) ش: هذا إذا كان فساد الإجارة بسبب شرط فاسد، لا باعتبار جهالة المسمى ولا باعتبار عدم التسمية، لأنه لو كان باعتبار واحد منها يجب الأجر بلغ ما بلغ، ذكره في " المغني " و " الذخيرة " و " فتاوى قاضي خان ".
وقال تاج الشريعة: قوله لا يجاوز به المسمى، أي إلا إذا كان المسمى مجهولا نحو ما إذا استأجره على دابة أو ثوب أو أجر منه دارا ليسكنها بعشرة على أن يعمرها ويؤدي نوابها، فإنه ثمة يجب أجر المثل بالغا ما بلغ.

(10/269)


وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: يجب بالغا ما بلغ اعتبارا ببيع الأعيان. ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد لحاجة الناس إليها فيكتفى بالضرورة في الصحيح منها، إلا أن الفاسد تبع له فيعتبر ما يجعل بدلا في الصحيح عادة لكنهما إذا اتفقا على مقدار في الفاسد فقد أسقطا الزيادة،
وإذا نقص أجر المثل لم يجب زيادة المسمى لفساد التسمية، بخلاف البيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال زفر والشافعي -رحمهما الله - يجب بالغا ما بلغ) ش: أي يجب أجر المثل حال كونه بالغ ما بلغ. وقوله ما بلغ مفعول بالغا، وبه قال مالك وأحمد م: (اعتبارا ببيع الأعيان) ش: أي معتبرين اعتبارا بيع المنافع ببيع الأعيان، فإن البيع إذا فسد وجبت القيمة بالغة ما بلغت، وهذا بناء على أن المنافع عندهم كالأعيان.
م: (ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها) ش: لأن التقويم يستدعي الإحراز وما لا يبقى كيف يحرز م: (بل بالعقد) ش: أي بل يتقوم بالعقد، يعني صارت متقومة شرعا بالعقد م: (لحاجة الناس إليها) ش: أي لأجل حاجة الناس إلى الإجارة التي هي بيع المنافع. حاصل الكلام أن المنافع أغراض لإبقائها، فكما توجد تتلاشى، ولا قيمة لها، ولكنها تقومت بعقد الإجارة لضرورة دفع الحاجة عن الناس، والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة وهو معنى قوله م: (فيكتفى بالضرورة في الصحيح منها) ش: يعني إذا كان الأمر كذلك يكتفى بالضرورة في العقد الصحيح من الإجارة لأن الضرورة تتقدر بقدر الضرورة وهي تندفع بالإجارة الصحيحة، فيكتفى بها.
م: (إلا أن الفاسد تبع له) ش: هذا جواب عما يقال ينبغي أن لا يجب أجر المثل في الفاسد لعدم الضرورة. فأجاب بأن الفاسد تبع للصحيح فيثبت فيه ما يثبت في الصحيح باعتبار أنه تبعه، والاعتبار للأصل لا للتبع، فصار كأنه لا وجود للفاسد م: (فيعتبر ما يجعل بدلا في الصحيح عادة) ش: هذا من تتمة الجواب، أي يعتبر في الإجارة الفاسدة ما يجعل به لا في العقد الصحيح عادة، وهو قدر أجر المثل م: (لكنهما إذا اتفقا على مقدار في الفاسد فقد أسقطا الزيادة) ش: هذا أيضا جواب عما يقال ينبغي على ما ذكرتم أن يجب أجر المثل بالغا ما بلغ، فأجاب بقوله لكنهما، أي لكن المتعاقدين إذا اتفقا على مقدار معين في العقد الفاسد فقد أسقط الزيادة على المقدار المعين لتراضيهما بالتسمية على ذلك.

[الحكم لو نقص أجر المثل في الإجارة]
م: (وإذا نقص أجر المثل لم يجب زيادة المسمى لفساد التسمية) ش: هذا أيضا جواب عما يقال لما سقطت الزيادة في الفاسدة باتفاقهما على مقدار كان ينبغي أن يجب الأجر المسمى بالغا ما بلغ. فأجاب بقوله: وإذا نقص أجر المثل عن المسمى لم تجب الزيادة على المسمى لأجل فساد التسمية، واستقر الواجب على ما هو الأقل من أجر المثل والمسمى.
م: (بخلاف البيع) ش: جواب أيضا عما يقال ينبغي أن لا يعتبر تراضيهما في سقوط الزيادة

(10/270)


لأن العين متقوم في نفسه وهو الموجب الأصلي، فإن صحت التسمية انتقل عنه وإلا فلا.
ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في شهر واحد فاسد في بقية الشهور، إلا أن يسمي جملة شهور معلومة؛ لأن الأصل أن كلمة كل إذا دخلت فيما لا نهاية له تنصرف إلى الواحد لتعذر العمل بالعموم، فكان الشهر الواحد معلوما فصح العقد فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما في البيع الفاسد، فأجاب بقوله بخلاف البيع م: (لأن العين متقوم في نفسه) ش: يعني بالأصالة بلا ضرورة م: (وهو الموجب الأصلي) ش: أي القيمة هو الموجب الأصلي، وذكر الضمير لتذكير الخبر.
م: (فإن صحت التسمية) ش: في البيع م: (انتقل عنه) ش: أي عن الموجب الأصلي الذي هو القيمة إلى المسمى لصحة التسمية، والضمير في انتقل يرجع إلى الواجب الذي دل عليه قوله هو الموجب الأصلي، وهو أقرب من قول الكاكي انتقل إلى التسمية على تأويل ذكر التسمية، وكذا من قول الأترازي أي انتقل البدل عن الموجب الأصلي إلى المسمى م: (وإلا فلا) ش: أي وإن لم تصح التسمية فلا ينتقل الواجب على الموجب الأصلي الذي هو القيمة.
وفي " شرح الطحاوي ": في الإجارة الفاسدة لا يجب الأجر إذا لم ينتفع بها عندنا وأحمد، وعند الشافعي ومالك يجب أجر المثل بالتمكن ومن الاستيفاء كالصحيح. ولو استأجر شيئا ثم أجره قبل قبضه لا يجوز بلا خلاف. وقيل: يجوز في العقار عند أبي حنيفة.
وإن أجره بعد القبض يجوز بلا خلاف. فلو كانت أجرة الثانية أكثر لا يطيب له الفضل عندنا والثوري والشعبي والنخعي وابن المسيب وأحمد في رواية. وقال الشافعي وأحمد في آخره وأبو ثور وعطاء والحسن والزهري: يطيب له.

[حكم من استأجر دارا كل شهر بدرهم]
م: (ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في شهر واحد فاسد في بقية الشهور إلا أن يسمي جملة شهور معلومة) ش: بأن يقول عشرة أشهر كل شهر بدرهم، وبه قال الشافعي في الأجل. واختاره الإصطخري وأحمد وقال الشافعي في الأصح: الإجارة باطلة. وقال مالك: الإجارة صحيحة، وكلما مضى شهر استحق الأجرة؛ لأن الإجارة لا تكون لازمة عنده، لأن المنافع مقدرة بتقدير الأجر فلا يحتاج إلى ذكر المدة.
م: (لأن الأصل أن كلمة كل إذا دخلت فيما لا نهاية له تنصرف إلى الواحد لتعذر العمل بالعموم) ش: لأن جملة الشهور مجهولة والبعض منها غير محصور، وترجيح البعض من الشهور المتوسط بين الأدنى والجمع ترجيح بلا مرجح، والواحد منها معلوم متيقن فيصح العقد فيه وهو معنى قوله: م: (فكان الشهر الواحد معلوما فصح العقد فيه) ش: أي في الشهر الواحد.

(10/271)


وإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد الصحيح. فلو سمى جملة شهور معلومة جاز؛ لأن المدة صارت معلومة. قال: فإن سكن ساعة من الشهر الثاني صح العقد فيه، وليس للمؤاجر أن يخرجه إلى أن ينقضي، وكذلك كل شهر يسكن في أوله؛ لأنه تم العقد بتراضيهما بالسكنى في الشهر الثاني، إلا أن الذي ذكره في الكتاب هو القياس وقد مال إليه بعض المشايخ، وظاهر الرواية أنه يبقى الخيار لكل واحد منهما في الليلة الأولى من الشهر الثاني ويومها؛ لأن في اعتبار الأول بعض الحرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: إذا كان العقد فاسدا في بقية الشهور لكان الفسخ جائزا في الحال.
أجيب: بأن الإجارة من العقود المضافة وانعقاد الإجارة في أول الشهر فقبل الانعقاد وكيف يفسخ. م: (وإذا تم) ش: أي الشهر م: (كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد الصحيح) ش: الذي كان في شهر واحد.
ثم إذا فسخ أحدهما الإجارة من غير محضر الأخير هل يصح؟
قال بعض المشايخ على قول أبي يوسف: يصح، وعلى قولهما لا يصح. وقال بعضهم: لا يصح إلا بحضرة صاحبه بالاتفاق كذا في " الذخيرة " م: (فلو سمى جملة شهور معلومة جاز، لأن المدة صارت معلومة) ش: فارتفعت الجهالة، ويجوز في معلومة الأولى الوجهان النصب على الحال من الشهور، والجر على الوصفية.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن سكن ساعة من الشهر الثاني صح العقد فيه) ش: لأن التراضي منهما جرى مجرى ابتداء العقد كالبيع بالتعاطي، وبه قال أحمد خلافا للشافعي م: (وليس للمؤاجر أن يخرجه إلى أن ينقضي) ش: أي الشهر، والكلام في المؤاجر قد مر مرة.
م: (وكذلك كل شهر يسكن في أوله، لأنه تم العقد بتراضيهما بالسكنى في الشهر الثاني) ش: أي كذلك يصح العقد في كل شهر يسكن في أوله ويتم أجرا م: (إلا أن الذي ذكره في الكتاب) ش: أي القدوري م: (هو القياس، وقد مال إليه بعض المشايخ) ش: من المتأخرين، لأن رأس كل شهر في الحقيقة هو الساعة التي يهل فيها الهلال فإذا هل مضى رأس الشهر فلا يمكن الفسخ.
م: (وظاهر الرواية أن يبقى الخيار لكل واحد منهما في الليلة الأولى من الشهر الثاني ويومها، لأن في اعتبار الأول بعض الحرج) ش: لأن رأس الشهر في العرف هو الليلة الأولى ويومها، فيبقى الخيار فيها اعتبارا للعرف.
واعلم أن مشايخنا قد اختلفوا في وقت الفسخ بعد تمام الشهر قال بعضهم: لكل واحد منهما حق الفسخ حين يتم الشهر الأول، أعني حين يهل الهلال حتى إذا سكن من الشهر الثاني

(10/272)


وإن استأجر دارا سنة بعشرة دراهم جاز، وإن لم يبين قسط كل شهر من الأجرة؛ لأن المدة معلومة بدون التقسيم، فصار كإجارة شهر واحد فإنه جائز، وإن لم يبين قسط كل يوم. ثم يعتبر ابتداء المدة مما سمى، وإن لم يسم شيئا فهو من الوقت الذي استأجره؛ لأن الأوقات كلها في حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ساعة لا يبقى حق الفسخ بعد ذلك، وإليه ذهب القدوري وبعض مشايخنا.
وقال الصدر الشهيد في " الواقعات " في باب الإجارة الجائزة بعلامة السين، والصحيح أن يفسخ في الليلة الأولى واليوم الأول من الشهر الثاني والثالث، فإن خيار الفسخ إنما يثبت له في أول شهر، وأول الشهر هذا. وقال بعض مشايخنا: له الفسخ في الليلة الأولى ويومها، واختاره صاحب " الهداية ".
وفي " الذخيرة " قيل: لم يرد محمد بقوله لكل منهما أن ينقض الإجارة رأس الشهر من حيث الحقيقة، بل مراده رأس الشهر عرفا وعادة هو الليلة التي يهل فيها مع يومها، كما قال محمد في كتاب " الأيمان ": حلف ليقضين حقه رأس الشهر فقضاه في الليلة التي يهل فيها لم يحنث استحسانا، وقيل: طريق فسخه أن يقول الفاسخ قبل مجيء الشهر: فسخت الإجارة رأس الشهر فتفسخ الإجارة إذا هل، إذا عقد الإجارة مضافا يصح، وكذا فسخه.
وذكر الحاكم أحمد السمرقندي في شروطه في هذه المسألة: لو أعجل أجرة شهرين أو ثلاثة وقبض الأجر ذلك ليس في أحدهما الفسخ في قدر ما عجل به. إذ التعجيل دلالة العقد فيما عجل. ثم إذا فسخ أحدهما الإجارة من غير محضر صاحبه هل يصح؟ من مشايخنا من قال: إنه على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد لا يصح. وعلى قول أبي يوسف يصح، ومنهم من قال: لا يصح الفسخ هنا إلا بمحضر من صاحبه بلا خلاف، كذا في " الذخيرة ".

م: (وإن استأجر دارا سنة بعشرة دراهم جاز، وإن لم يبين قسط كل شهر من الأجرة، لأن المدة معلومة بدون التقسيم فصار كإجارة شهر واحد، فإنه جائز وإن لم يبين قسط كل يوم) ش: هاتان مسألتان لا يعلم فيهما خلاف، كذا قال الكاكي.
قيل: قال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي: وقال الشافعي: على القول الذي يجوز الإجارة أكثر من سنة لا يجوز حتى يبين حصة كل سنة.
قلت: هذا الخلاف فيما إذا أجر داره سنين معلومة، فإنه يصح عندنا وإن لم يذكر قسط كل سنة م: (ثم يعتبر ابتداء المدة مما سمى) ش: أي من الوقت الذي سمى بأن يقول من شهر رجب من هذه السنة مثلا.
م: (وإن لم يسم شيئا فهو من الوقت الذي استأجره، لأن الأوقات كلها في حق

(10/273)


الإجارة على السواء فأشبه اليمين، بخلاف الصوم؛ لأن الليالي ليست بمحل له. ثم إن كان العقد حين يهل الهلال فشهور السنة كلها بالأهلة لأنها هي الأصل. وإن كان في أثناء الشهر فالكل بالأيام عند أبي حنيفة - رحمه الله - وهو رواية عن أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإجارة على السواء) ش: لذكر الشهر منكور، وفي مثله بيقين الزمان الذي يتعقب السبب م: (فأشبه اليمين) ش: كما إذا حلف لا يكلم فلانا شهرا تعين الشهر الذي وجد منه اليمين فيه، لأن الظاهر من حال العاقد أن يقصد صحة العقد، وصحته بذلك لتعينه لعدم المزاحم م: (بخلاف الصوم) ش: حيث لا يتعين الشهر الذي يعقب نذره فيما إذا نذر أن يصوم شهرا ما لم يعينه، لأن الأوقات كلها ليست فيه على السواء م: (لأن الليالي ليست بمحل له) ش: يوضحه أن الشروع في الصوم لا يكون إلا بعزيمة منه، وربما لا يقترن ذلك بالسبب.
م: (ثم إن كان العقد حين يُهَل الهلال) ش: بضم الياء وفتح الهاء على بناء المفعول أي حين يبصر الهلال، أراد به اليوم الأول من الشهر، كذا قاله الكاكي. وقال الأترازي يجوز على صيغة المبني للفاعل، وعلى صيغة المبني للمفعول جميعا، قال في الجوهرة: هلَّ الهلال وأهل، ودفع الأصمعي هل وقال: لا يقال إلا أهل وأهللنا نحن إذا رأينا الهلال، وأجاز أبو زيد أهل الهلال.
وفسر بعضهم في شرحه قوله حين يهل الهلال بقوله: أراد به اليوم الأول من الشهر، وفيه نظر، لأنه ليس حين يهل الهلال بل هو أول الليلة الأولى من الشهر وهذا لأنه للمنافاة بين الإجارة والأوقات بل الأيام والليالي فيها سواء فلا حاجة إلى اعتبار المدة من أول أيام الشهر، بل يعتبر من أول الشهر وهو ما قلنا.
قلت: قال السغناقي: أهل الهلال على ما لم يسم فاعله ولم يقل غير هذا، وكفى به حجة، وكذانص عليه تاج الشريعة في شرحه.
م: (فشهور السنة كلها بالأهلة؛ لأنها) ش: أي لأن الأهلة م: (هي الأصل) ش: في الشهور العربية، فمهما كان العمل به ممكنا لا يصار إلى غيره، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] (البقرة: الآية 189) ، والأيام بدل عن الأهلة، وإنما يصار إلى البدل إذا تعذر اعتبار الأصل، وهاهنا ممكن فكان له أن يسكنها إلى أن يهل الهلال من الشهر الداخل.
م: (وإن كان) ش: أي العقد م: (في أثناء الشهر) ش: بأن وقعت الإجارة في نصف الشهر أو بعد مضي أيام م: (فالكل بالأيام عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فيكون ثلاثمائة وستين يوما. وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية م: (وهو) ش: أي قول أبي حنيفة م: (رواية عن

(10/274)


يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول بالأيام والباقي بالأهلة؛ لأن الأيام يصار إليها ضرورة، وهي في الأول منها. وله أنه متى تم الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة وهكذا إلى آخر السنة، ونظيره العدة، وقد مر في الطلاق قال: ويجوز أخذ أجرة الحمام والحجام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول) ش: أي الشهر الأول م: (بالأيام والباقي بالأهلة) ش: فيكون أحد عشر شهرا بالهلال وشهرا بالأيام، يكمل ما بقي من الشهر الأول من الشهر الأخير.
م: (لأن الأيام يصار إليها ضرورة وهي) ش: أي الضرورة إلى اعتبار الشهر بالأيام م: (في الأول منها) ش: أي في الشهر الأول من الشهور دون الباقي فلا يتعدى إلى غيره، وبه قال الشافعي في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (وله أنه) ش: أي ولأبي حنيفة أن الشأن م: (متى تم الأول بالأيام) ش: أي متى تم الشهر الأول بالأيام بالشهر الذي يليه م: (ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة) ش: أي ابتدأ الشهر الثاني بالأيام أيضا ضرورة تكميله، لأنه سمي شهرا وتمامه لا يكون إلا ببعض الثاني.
م: (وهكذا إلى آخر السنة) ش: أي هكذا يكون الحكم في الشهر الثالث والرابع إلى آخر السنة، فحينئذ يجب اعتبار العدد دون الأهلة ضرورة م: (ونظيره العدة) ش: أي نظير هذا الاختلاف مسألة العدة من حيث الاعتبار بالشهور أو بالعدد م: (وقد مر في الطلاق) ش: أي في أول كتاب الطلاق من الكتاب.
قال السغناقي: هذا حوالة غير رابحة مثل هذا الاختلاف لم يرد في الطلاق وما يتعلق به. قال الإمام المحقق برهان السمرقندي متعقبا ما قاله المصنف: غلط صاحب النهاية، فإن الحوالة رابحة، لأنه ذكر في أول كتاب الطلاق: ثم إن كان الطلاق في أول الشهر بقية الشهور بالأهلة - إلى قوله: وفي حق العدة كذلك عند أبي حنيفة.... إلى آخره.

[أجرة الحمام والحجام]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز أخذ أجرة الحمام والحجام) ش: خصهما بالذكر لأن لبعض الناس فيه خلافا. وفي " المبسوط " كره بعض العلماء غلة الحجام والحمام، أخذا بظاهر الحديث وقالوا: الحمام بيت الشياطين، وسماه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شر بيت، فإنه تكشف فيه العورات وتصب فيه الغسالات والنجاسات.

(10/275)


فأما الحمام فلتعارف الناس ولم يعتبر الجهالة لإجماع المسلمين، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» وأما الحجام فلما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احتجم وأعطى الحجام الأجرة. ولأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم من فصل بين حمام الرجال وحمام النساء، فقالوا: يكره اتخاذ حمام النساء. وقال القاضي الحنبلي عن أحمد أنه لا يباح أجر الحجام، وممن كره كسبه عثمان وأبو هريرة والحسن والنخغي لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كسب الحجام خبيث» رواه مسلم.
م: (فأما الحمام فلتعارف الناس) ش: يعني لجريان العرف بذلك بين الناس خصوصا في ديار الترك م: (ولم يعتبر الجهالة لإجماع المسلمين) ش: هذا إشارة إلى جواب الاستحسان، لأن القياس عدم الجواز للجهالة، فقال: فلم يعتبر الجهالة لإجماع المسلمين على ذلك م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» ش: ذكر هذا دليلا على أن المسلمين إذا أجمعوا على أمر يكون هذا مقبولا، لأن كل ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
ولكن رفع هذا الحديث إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير صحيح، وإنما هو موقوف على ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أحمد في " مسنده " حدثنا أبو بكر بن عياش حدثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن الله نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ» .
ورواه البزار في " مسنده " والبيهقي في " المدخل "، ورواه أيضا أبو داود الطيالسي في " مسنده " حدثنا المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله فذكره، إلا أنه قال عوض سيئ: قبيح.
ومن طريقه رواه أبو نعيم في " الحلية " في ترجمة ابن مسعود والبيهقي في كتاب " الاعتقاد "، والطبراني في " معجمه ".
قال ابن عبد الهادي في الكلام على أحاديث " المختصر ": وقد أخطأ بعضهم فرفعه، ثم قال: وقد روي مرفوعا من حديث أنس لكن إسناده ساقط.
م: (وأما الحجام فلما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احتجم وأعطى الحجام الأجرة» ش: أخرج البخاري ومسلم عن طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وأعطى الحجام أجره» .
زاد البخاري في لفظه: ولو كان حراما لم يعطه. وفي لفظ: ولو علم كراهيته لم يعطه.

(10/276)


استئجار على عمل معلوم بأجر معلوم فيقع جائزا.
قال: ولا يجوز أخذ أجرة عسب التيس، وهو أن يؤاجر فحلا لينزو على الإناث لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن من السحت عسب التيس» ، والمراد أخذ الأجرة عليه.
قال: ولا الاستئجار على الأذان والحج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولمسلم: ولو كان سحتا لم يعطه. والأحاديث التي وردت في تحريمه منسوخة م: (ولأنه) ش: أي ولأن الاستحجام م: (استئجار على عمل معلوم بأجر معلوم فيقع جائزا) ش: كما في سائر الإجارات الصحيحة.

[أخذ أجرة عسب التيس]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز أخذ أجرة عسب التيس، وهو أن يؤاجر فحلا لينزو على الإناث) ش: عسب الفحل ضرابه، يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا من باب فعَل يفعِل بالفتح في الماضي والكسر في الغابر وفسره المصنف بقوله: وهو ... إلى آخره، وهذا بلا خلاف بين الأئمة الأربعة. وخرج أبو المطالب الحنبلي وبعض أصحاب الشافعي وجهين في جوازه، لأنه انتفاع مباح.
والحاجة تدعو إليه فيجوز كإجارة الظئر للإرضاع، والبئر للاستقاء.
وحجة الجمهور الحديث، أشار إليه بقوله م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إن من السحت عسب التيس» ش: الحديث صحيح ولكن بغير هذا اللفظ، أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن علي بن الحكم عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن عسب الفحل» ووهم الحاكم حيث قال بعد إخراجه أنه على شرط البخاري ولم يخرجاه. وأعجب منه زكي الدين المنذري عزاه في " مختصره " للترمذي والنسائي ولم يعزه للبخاري.
وأخرج البزار في مسنده عن أشعث بن سوار عن ابن سيرين عن أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب وعسب التيس» . وعزاه عبد الحق للنسائي وليس في سننه م: (والمراد أخذ الأجرة عليه) ش: أشار به إلى تفسير الحديث، لأن نفس العسب ليس من السحت، وإنما المراد أخذ الأجر عليه فالمضاف محذوف تقديره: إن من السحت كري عسب التيس.

[الاستئجار على الطاعات كالأذان والحج ونحوها]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا الاستئجار على الأذان والحج) ش: أي ولا يجوز، وبه قال أحمد وهو قول عطاء والضحاك والزهري والحسن وابن سيرين وطاووس والنخعي والشعبي. وفي حاوي الحنابلة: ولا يصح الاستئجار على الأذان والإقامة والإمامة وتعليم القرآن والفقه والنيابة في الحج. وعنه يصح ويباح أجره.
كما لو أجره أعطي لذلك شيئا بلا شرط، نص عليه كالرزق من بيت المال لمن نفعه منهم متعد وكالرقبة، وقيل: يجوز تعليم الفقه والحديث والفرائض فقط، ويجوز إجارة كتب العلم المباح للقراءة والنسخ، وفي صحة إجارة المصحف وجهان، ويباح نسخه بأجرة، انتهى.

(10/277)


وكذا الإمامة وتعليم القرآن والفقه
والأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليه عندنا، وعند الشافعي يصح في كل ما لا يتعين على الأجير؛ لأنه استئجار على عمل معلوم غير متعين عليه فيجوز. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا الإمامة وتعليم القرآن والفقه) ش: أي وكذا لا يجوز. قال الأترازي: خلافا للشافعي وقال الحاكم في " الكافي ": ولا يجوز أن يستأجر رجل رجلا أن يعلم ولدا القرآن والفقه والفرائض، أو يؤمهم في رمضان، أو يؤذن، وفي " خلاصة الفتاوى " ناقلا عن الأصل: لا يجوز الاستئجار على الطاعات كتعليم القرآن والفقه والأذان والتذكير والتدريس والحج والقر ويعني الأجر.
وعند أهل المدينة يجوز وبه أخذ الشافعي وعصام وأبو نصر والفقيه أبو الليث، ثم قال وكذا لا يجوز. وفي الخلاصة الحيلة أن يستأجر المعلم مدة معلومة ثم يأمره بالتعليم، قيد بالفقه لأنه يجوز الاستئجار لأجل قراءة العلوم الأدبية كاللغة والنحو والتصريف ونحوها والعلوم الحكمية كالطب والمعقول ونحوهما.

م: (والأصل) ش: أي الأصل الذي بني عليه حرمة الاستئجار على هذه الأشياء م: (أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها عندنا) ش: لأن هذه الأشياء قربة تقع على العامل، قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] (النجم: الآية 39) ، فلا يجوز أخذ الأجرة من غيره كالصوم والصلاة، قيد بقوله: " يختص بها المسلم " يعني تختص بملة الإسلام، لأنه إذا لم يختص يجوز كما إذا استأجر مسلم ذميا على تعليم التوراة يجوز؛ لأن تعليمها لا يختص بملة الإسلام.
م: (وعند الشافعي يصح في كل ما لا يتعين على الأجير، لأنه استئجار على عمل معلوم غير متعين عليه فيجوز. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به» ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية وأبو ثور وأبو قلابة، قيد بقوله ما لا يتعين، فإنه أخرج هذا الحديث أحمد في مسنده أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام الدستوائي حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي راشد الحبراني قال: قال عبد الرحمن بن شبل سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تستكثروا به» ورواه إسحاق بن راهويه وابن أبي

(10/278)


وفي آخر ما عهد رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى عثمان بن أبي العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وأن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على الأذان أجرا» :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيبة في مصنفه، وعبد الرزاق في مصنفه، ومن طريق عبد الرزاق رواه عبد بن حميد وأبو يعلي الموصلي والطبراني.
وروي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
أما حديث عبد الرحمن بن عوف فأخرجه البزار في مسنده عن حماد بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف مرفوعا نحوه سواء.
وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن عدي في الكامل عن الضحاك بن نبراس البصري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
وأسند عن ابن معين أنه قال في الضحاك بن نبراس هذا: ليس بشيء. وعن النسائي قال: متروك الحديث. قوله: «ولا تأكلوا به» أي: بالقران مثل أن يستأجر رجلا يقرأ على رأس قبر، قيل: هذه القراءة لا يستحق بها الثواب لا للميت ولا للقارئ، قاله تاج الشريعة.
م: (وفي آخر ما عهد رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى عثمان بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وأن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على الأذان أجرا» ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة بطرق مختلفة وأبو داود والنسائي عن حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي العلاء عن مطرف بن عبد الله عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: «يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: " أنت إمامهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا» وكذلك رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وقال: على شرط مسلم.
وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن أشعث بن سوار عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال: «إن من آخر ما عهد إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا» قال الترمذي

(10/279)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث حسن.
وأخرج البخاري في تاريخه عن شبابة بن سوار حدثني المغيرة بن مسلم عن سعيد بن طهمان القطيعي عن مغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: " قد فعلت " ثم قال: " صل بصلاة أضعف القوم ولا تتخذ مؤذنا يأخذ على الأذان أجرا» قوله: عهد معناه أوصى يقال عهدت أي أوصيت. قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60] (يس: الآية 60) و {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] (البقرة: الآية 124) .
فإن قلت: استدل الشافعي بأنه «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - زوج رجلا بما معه من القرآن» متفق عليه.
وبقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» حديث حسن صحيح.
وبما روي من حديث أبي سعيد الخدري قال: «بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة وأتينا على رجل لديغ في جبهته فداووه فلم ينفعه شيء فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذي نزلوا بكم لعله يكون عندهم شيء ينفع فأتونا فقالوا أيها الرهط، إن سيدنا لديغ، فابتغينا له كل شيء فلم ينفعه، فهل عندكم من شيء؟
فقال بعضهم: نعم ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، لا نأتي حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق فجعل يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فكأنما نشط من عقال، فقام يمشي فآتوهم جعلهم فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتذكروا له الذي كان فننظر ما يأمرنا به فدخلوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا له ذلك فقال: (قد أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم» قلت: الجواب عن الأول ليس فيه تصريح بأن التعليم صداق، إنما قال: «زوجتكها بما معك من القرآن» فيحتمل أنه زوجها إياه بغير صداق إكراما له وتعظيما للقرآن كما روى أنس «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - زوج أم سليم أبا طلحة على إسلامه» .
وسكت عن المهر، لأنه معلوم أنه لا بد منه؛ لأن الفروج لا تستباح إلا بالأموال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] ولذكره تعالى في النكاح الطول وهو المال، والقرآن ليس بمال.
ويجوز أن تكون الباء مكان اللام، أي لما معك من القرآن؛ لأن ذلك سبب للاجتماع بينهما، ولعل المرأة وهبت مهرها له باعتبار ذلك.

(10/280)


ولأن القربة متى حصلت وقعت على العامل ولهذا تعتبر أهليته، فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره كما في الصوم والصلاة، ولأن التعليم مما لا يقدر المعلم عليه إلا بمعنى من قبل المتعلم، فيكون ملتزما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح. وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن الكريم اليوم؛ لأنه ظهر التواني في الأمور الدينية، ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن الثاني المراد منه الجعالة في الرقية، لأن ذكر ذلك في سياق حديث الرقية وهو حديث الذي ذكرناه آنفا عن أبي سعيد الخدري. والرقية نوع مداواة، والمأخوذ عليه جعل، والمداواة يباح أخذ الأجر عليها، وبهذا أخرج الجواب عن الحديث الثالث وقال ابن الجوزي: قد أجاب أصحابنا عن هذين الحديثين بثلاثة أجوبة:
أحدها: أن القوم كانوا كفارا فجاز أخذ أموالهم.
والثاني: أن حق التضييف واجب ولم يضيفوهم.
والثالث: أن الرقية ليست بقربة محضة فجاز أخذ الأجرة عليها. وقال القرطبي في شرح مسلم: ولا نسلم أن جواز الأجر في الرقى يدل على جواز التعليم بالأجر، والحديث إنما هو في الرقية.
م: (ولأن القربة متى حصلت وقعت عن العامل ولهذا تعتبر أهليته) ش: أي أهلية العامل ويشترط نيته لا نية الآمر، ولو انتقل فعل المأمور إلي الآمر بشرط أهليته ونيته كما في الزكاة حتى لو كان المأمور كافرا يصح أداء الزكاة، لأن المؤدي هو الأمري هنا بخلافه م: (فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره كما في الصوم والصلاة) ش: أي كما لا يجوز الاستئجار وأخذ الأجر في الصوم والصلاة بلا خلاف.
م: (ولأن التعليم مما لا يقدر المعلم عليه) ش: بكسر اللام، عليه أي على التعليم م: (إلا بمعنى من قبل المتعلم) ش: لأن المعلم يلقن الصبي وهو يتلقن بفهمه الثاقب ويتعلم بذهنه الرائق، وهذا يتفاوت بين الصبيان في التعليم وإن كان التعليم واحدا.
وفي بعض النسخ من قبل المعلَّم بفتح اللام المشددة م: (فيكون) ش: أي المعلم الذي يوجد نفسه لتعليم القرآن م: (ملتزما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح) ش: والتسليم شرط في الإجازة فيفسد بعدمه. وقوله ما لا يتقدر مفعول لقوله: ملتزما الإيفاء، فلا يصح في النتيجة.
م: (وبعض مشايخنا) ش: وهم أئمة بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لأنه ظهر التواني) ش: أي الفتور والكسل م: (في الأمور الدينية، ففي الامتناع تضيع حفظ القرآن) ش: لأن المتقدمين منعوا ذلك لرغبة الناس في التعليم حسبه ومروءة في

(10/281)


وعليه الفتوى.
قال: ولا يجوز الاستئجار على الغناء والنوح وكذا سائر الملاهي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مجازاة الإحسان بالإحسان بلا شرط وقد زال ذلك، ففي هذا الزمان في الامتناع عنه تضييع حفظ القرآن.
وقد تغير الجواب باختلاف الزمان فيفي بذلك إذا ضربوا مدة بذلك حتى يجبر الأب على دفع الأجر إلى العلم وإن لم تضرب أجر المدة بحسب أجر المثل، ويجبر على دفعه وكذا يجبر على الخلوة المرسومة. وقال الإمام الخيزاخزي يجوز لزماننا للإمام والمؤذن والمعلم اخذ الأجر كذا في " الروضة " و" الذخيرة ".
فائدة: الخيزاخزي بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الزاي المعجة والخاء الثانية وكسر الزاي الثانية نسبة إلى قرية خيزاخز من قري بخارى واسمه عبد الله بن الفضل كان مفتي بخارى ولم يقع لي تاريخ وفاته.
م: (وعليه الفتوى) ش: أي على استحسان مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال في تتمة الفتاوى: الاستئجار لتعليم الفقه لا يجوز كالاستئجار لتعليم القرآن وفي الاستئجار لتعليم الحرف روايتان في رواية المبسوط يجوز وفي رواية القدوري لا يجوز وذكر السرخسي عن مشايخ بلخ أنهم اختاروا قول أهل المدينة في جواز استئجار المعلم على تعليم القرآن فنحن أيضا نفتي بالجواز انتهى.
ثم قال فيما استأجر إنسانا ليعلم غلامه أو ولده شعرا أو أدبا أو حرفة مثل الخياطة ونحوها فالكل سواء إن بين المدة سواء بأن استأجره شهرا ليعلمه هذا العلم يجوز ويصح وينعقد العقد على المدة حتى تستحق الأجرة فعلم أو لم يتعلم إذا سلم الأستاذ نفسه لذلك أما إذا لم يبين المدة فينعقد لكن فاسدا، حتى لو علم استحق أجر المثل وإلا فلا.
وكذلك تعلم سائر الأعمال كالخط والهجاء والحساب على هذا، ولو شرط عليه أن يحذقه في ذلك العمل فهو غير جائز، لأن التحذيق ليس في وسع المعلم.

[الاستئجار على الغناء]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجوز الاستئجار على الغناء) ش: بكسر الغين وبالمد وبالكسر مع القصر اسم لليسار، وبالفتح مع القصر الإقامة، ومع المد الكفاية.
أما الأول من غنى بالتشديد غناء وأما الثاني من غنى يغني من باب علم يعلم غنى فهو غني وأما الثالث من غني بالمكان أي أقام وهو أيضا من الباب المذكور وأما الرابع من قولهم ما يغني عنك هذا أي ما ينفعك م: (والنوح) ش: البكاء ورفع الصوت م: (وكذا سائر الملاهي) ش: كالمزمار والطبل وغيرهما، وبه قالت الثلاثة وأبو ثور.

(10/282)


لأنه استئجار على المعصية، والمعصية لا تستحق على العقد قال: ولا يجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا من الشريك. وقالا: إجارة المشاع جائزة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي والنخعي نكير ذلك ويجوز، أما الاستئجار لكاتب يكتب له غناء ونوحا يجوز عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لهما والثلاثة، وعلى هذا الخلاف الاستئجار على حمل الخمر.
م: (لأنه استئجار على المعصية والمعصية لا تستحق بالعقد) ش: إذ لا يستحق على أخذ شيء يكون به عاصيا شرعا. وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي في شرح " الكافي ": ولا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح والمزامير والطبل أو شيء من اللهو ولا على الحداء وقراءة الشعر ولا غيره ولا أجر في ذلك، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، لأنه معصية ولهو ولعب.

[إجارة المشاع]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا من الشريك) ش: وبه قال زفر وأحمد - رحمهما الله تعالى - فيما يقسم كالأرض، وفيما لا يقسم كالعبد.
م: (وقالا: إجارة المشاع جائزة) ش: وبه قال الشافعي ومالك. وقال الكرخي في مختصره: ولا يجوز إجارة المشاع فيما يقسم وفيما لا يقسم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر - إلا أن يكون المستأجر شريكا في العقار فيستأجر نصيب شريكه أو شركائه كله في صفقة واحدة في قول أبي حنيفة، وكذلك قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجلين أجرا دارا لهما من رجل فهو جائز، وإن مات أحد المؤاجرين بطلب الإجارة، وفي نصيب الحي صحيحة على حالها، ولا يجوز أيضا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يستأجر من عقار مائة ذراع ولا من أرض جريبا أو جريبين إذا كانت أكثر من ذلك.
وفي شرح الطحاوي: إجارة المشاع من شريكه جائزة بالإجماع، ومن غير شريكه لا يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز، وبيع المشاع يجوز من غير شريكه بالإجماع سواء كان مما يحتمل القسمة أو مما لا يحتمل. ورهن المشاع من شريكه أو من غير شريكه سواء كان يحتمل القسمة أو لا يجوز، وعند الشافعي يجوز.
وهبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة جائز وفيما لا يحتمل لا يجوز عندنا وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -يجوز وقرض المشاع جائز بالإجماع، وأما وقف المشاع فأبو حنيفة لا يرى الوقف مشاعا كان أو غيره، وعندهما يجوز الوقف ثم على قول أبي يوسف وقف المشاع جائز وعندهما باطل.

(10/283)


وصورته أن يؤجر نصيبا من داره أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك. لهما أن للمشاع منفعة، ولهذا يجب أجر المثل والتسليم ممكن بالتخلية أو بالتهايؤ فصار كما إذا آجر من شريكه أو من رجلين وصار كالبيع. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه آجر ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز، وهذا لأن تسليم المشاع وحده لا يتصور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وصورته) ش: أي صورة عقد إجارة المشاع م: (أن يؤجر نصيبا من داره أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك) ش: أو يؤاجر نصف عبد أو نصف دابة من غير الشريك.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن للمشاع منفعة) ش: يعني فيجوز، لأن موجب الإجارة تملك المنفعة م: (ولهذا يجب أجر المثل) ش: أي ولكون المشاع له منفعة يجب أجر المثل عند أبي حنيفة إذا سكن المستأجر فيها، ولو كان فائت المنفعة لما انعقد أصلا إذا استأجر أرضا سبخة م: (والتسليم ممكن بالتخلية) ش: جواب عما يقال إنه إجارة ما لا يقدر على تسليمه، فأجاب بأن التسليم ممكن بالتخلية بأن يرفع الشريك المؤجر متاعه من الدار وخلى بينهما وبين المستأجر.
م: (أو بالتهايؤ) ش: هو تفاعل من التهيئة، يقال: هايأت زيدا وتهايأ القوم وهو أن يتواضعوا على أمر فيتراضوا به، وحقيقته أن يرضى كل واحد منهما بحالة واحدة ويختارها.
م: (فصار كما إذا آجر من شريكه) ش: فلو كان الشيوع مانعا لما جاز من شريكه كالهبة م: (أو من رجلين) ش: أي أو كما إذا آجر من رجلين فإنه يجوز.
وكل واحد من المستأجرين يملك منفعة النصف شائعا، وكذا لو أجر نصف داره شائعا يجوز م: (وصار كالبيع) ش: أي فصار حكم التخلية هنا كحكم التخلية في البيع من حيث إن التخلية تسليم فيه.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه آجر ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز) ش: هذا إما معاوضة وإما ممانعة.
فتقرير الأول: أنه أجر ما لا يقدر على تسليمه، لأن تسليم المشاع وجد سواء كان محتمل القسمة كالدار أو لا كالعبد غير متصور، وما لا يتصور تسليمه لا يصح إجارته لعدم الانتفاع به، والإجارة عقد على المنفعة فيكون هذا دليلا مبتدأ من غير تعرض لدليل الخصم.
وتقرير الثانية أن يقال: لا نسلم انتفاء المانع فإنه آجر ما لا يقدر على تسليمه وعدم التسليم يمنع صحة الإجارة م: (وهذا) ش: توضيح لكون إجارة المشاع إجارة ما لا يقدر على تسليمه م: (لأن تسليم المشاع وحده لا يتصور) ش: فلا يتصور استيفاء المنفعة، لأن الانتفاع أمر حسي

(10/284)


والتخلية اعتبرت تسليما لوقوعه تمكينا وهو الفعل الذي يحصل به التمكن ولا تمكن في المشاع بخلاف البيع لحصول التمكن فيه. وأما التهايؤ فإنما يستحق حكما للعقد بواسطة الملك وحكم العقد يعقبه والقدرة على التسليم شرط العقد، وشرط الشيء يسبقه، ولا يعتبر المتراخي سابقا. وأما إذا أجر من شريكه فالكل يحدث على ملكه فلا شيوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشائع لا يحتمله.
م: (والتخلية اعتبرت تسليما) ش: جوابا عما قالا والتسليم ممكن بالتخلية.
ووجهه أن التخلية لم تعتبر تسليما لذاتها، حيث اعتبرت، بل لكونها تمكينا، وهو معنى قوله: م: (لوقوعه تمكينا) ش: أي لوقوع التخلية تمكينا من القبض وتذكير الضمير على تأويل رفع الموانع م: (وهو) ش: أي التمكين م: (الفعل الذي يحصل به التمكن) ش: من الانتفاع حسًّا م: (ولا تمكن في المشاع) ش: لأنه معدوم فيه، فالحاصل أن التخلية كأنها اعتبرت علة وهو وسلة إلى التمكن، والتمكين في المشاع غير حاصل ففات المعلول. وإذا فات المعلول لا معتبر بالعلة.
م: (بخلاف البيع لحصول التمكن فيه) ش: لأن المقصود به ليس الانتفاع بل الرقبة، ولهذا جاز بيع الجحش فكان التمكن بالتخلية فيه حاصلا.
م: (وأما التهايؤ) ش: جواب عن قولهما أو بالتهايؤ. وحاصله أن التهايؤ من أحكام العقد بواسطة الملك، وهو معنى قوله: م: (فإنما يستحق حكما للعقد بواسطة الملك) ش: يعني حكما لثبوت الملك م: (وحكم العقد يعقبه) ش: أي يعقب العقد، لأن حكم الشيء هو الأثر الثابت بعد الضرورة يتأخر عنه م: (والقدرة على التسليم شرط العقد وشرط الشيء يسبقه) ش: أي: سبق الشيء لتوقف وجود المشروط على وجود الشرط، فالمتوقف عليه سابق لا محالة م: (ولا يعتبر المتراخي سابقا) ش: وهو التهايؤ، لأنه حكم، فمتى اعتبر سابقا يلزم قلب الحكم شرطا، وذا لا يجوز.
م: (وأما إذا أجر من شريكه) ش: جواب عن قولهما فصار: كما إذا أجر من شريكه. ووجهه أنه إذا أجره من شريكه م: (فالكل يحدث على ملكه فلا شيوع) ش: يعني أن البعض له بحكم الملك، والبعض بحكم الإجارة، وكل المنفعة تحدث على ملكه فلا شيوع حينئذ.
قيل: لو لم يكن فيه الشيوع لجاز الهبة والرهن من الشريك، لكنه لم يجز.
وأجيب: بأن المراد بأن لا شيوع يمنع التسليم وهو المقصود فيما نحن فيه، فالمنفي شيوع موصوف، ويجوز أن يكون الشيوع مانعا فحكم باعتبار دون آخر، فيمنع عن جواز الهبة من حيث القبض، فإن القبض التام لا يحصل في الشائع ويمنع جواز الرهن لانعدام المعقود عليه

(10/285)


والاختلاف في النسبة لا يضره على أنه لا يصح في رواية الحسن عنه. وبخلاف الشيوع الطارئ لأن القدرة على التسليم ليس بشرط للبقاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو المنفعة، وإنما يتعذر التسليم وذلك لا يوجد في حق الشريك. والتحقيق في هذا الموضع أن الشيوع إما في العين أو في المنفعة، فإن كان في العين فقد منع من الهبة، والرهن دون التسليم في الإجارة، وإن كان في المنفعة فقد منع عن التسليم فيها إن كان ابتداء وإن كان طارئا لم يمنع، فافهم.
م: (والاختلاف في النسبة لا يضره) ش: جواب عما يقال سلمنا أن الكل يحدث على ملكه، لكن مع اختلاف النسبة، لأن الشريك ينتفع بنسبة الملك بنصيب شريكه بالاستئجار فيكون الشيوع موجودا.
فأجاب: بأن الاختلاف في النسبة لا يضره، أي لا يضر كون حدوث كل الانتفاع على ملكه، لأنه لا عبرة لاختلاف الأسباب مع اتحاد الحكم م: (على أنه لا يصح) ش: أي على أن عقد إجارة المشاع من شريكه أيضا لا يصح م: (في رواية الحسن عنه) ش: أي عن أبي حنيفة. وذكر القدوري في التقريب روي الحسن عن أبي حنيفة وزفر بطلان العقد في الجميع يعني إجارة المشاع من الشريك وغيره.
م: (وبخلاف الشيوع الطارئ) ش: بأن أجر رجل من رجلين ثم مات أحدهما فإنه يبقي الإجارة في نصيب الحي شائعا في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي عن خالد بن صبيح عن أبي حنيفة أنه يفسد في حق الحي.
وقال صاحب " العناية ": قوله: " وبخلاف الشيوع الطارئ " ليس له تعلق ظاهر، أراد أن ذكره هاهنا غير مناسب، وليس كذلك، بل تعلقه ظاهر لأنهما أجازا إجارة المشاع قياسا على ما إذا أجر داره من رجلين ثم مات أحدهما، فإنه تبقى الإجارة مع أن فيها الشيوع، كما إذا ذكرنا لا يقال على هذا يكون قوله وبخلاف ما إذا أجر من رجلين تكرارا، لأن قوله بخلاف الشيوع الطارئ مثل أصل قاعدة.
وقوله: " بخلاف ما إذا أجر من رجلين " من الفروع المبنية على هذا الأصل، فلا تكرار في ذكر الأصل من الفرع.
وإنما التكرار يكون إذا كانا رجلين متحدين أو فرعين متحدين م: (لأن القدرة على التسليم ليس بشرط للبقاء) ش: عند الابتداء، كما أن تكبيرة الافتتاح شرط لابتداء الصلاة وليس بشرط للبقاء.

(10/286)


وبخلاف ما إذا أجر من رجلين؛ لأن التسليم يقع جملة ثم الشيوع بتفرق الملك فيما بينهما طارئ.
قال: ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] (الطلاق: الآية 6) ، ولأن التعامل به كان جاريا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبله وأقرهم عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وبخلاف ما إذا أجر من رجلين، لأن التسليم يقع جملة) ش: لأن العقد أضيف إلى كل الدار، ولا شيوع فيه، لأن كل واحد منهما يستوفي منافعها على ملك المؤجر ويخرج من ملكه جملة م: (ثم الشيوع) ش: الحاصل م: (بتفرق الملك فيما بينهما طارئ) ش: يعني بعد ثبوت الملك لهما، فيتحقق بعد العقد، فيكون طارئا.
فإن قيل: لا نسلم أنه طارئ بل هو مقارن، لأنها تنعقد ساعة فساعة.
أجيب: بأن بقاء الإجارة له حكم الابتداء من وجه لأنها عقد لازم، فلا يكون مقارنا.
قيل: هذا الجواب فاسد، لأن العقد الغير اللازم هو الذي يكون للبقاء فيه حكم الابتداء كما تقدم في الوكالة على أنه لو ثبت هنا ابتداء ذو بقاء سقط الاعتراض، وإنما الخصم يقول لا بقاء للعقد فيها. والصواب أن يقال الطرآن إنما يكون على التسليم لا على العقد، وذلك مما لا شك فيه.
فإن قيل: ينبغي أن تجوز الهبة في اثنين، لأن الشيوع الطارئ فيهما لا يمنع أيضا.
قلت: عدم العلة لا يوجب عدم الحكم لجواز ثبوته لعله أخرى، وهنا لم يوجد قران الشيوع في الهبة، ولكن وجد مانع آخر وهو عدم إمكان القبض إلا في ضمن قبض نصيب الآخر، والضمني كالعدم. والقبض منصوص عيه في الهبة فاعتبر كماله، والكمال مع كونه ضمنيا لا يتصور.

[استئجار الظئر]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز استئجار الظئر) ش: بكسر الظاء المعجمة وسكون الهمزة وهي المرضعة.
م: (بأجرة معلومة) ش: قيد به لأن الأجرة إذا كانت مجهولة لا تصح م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] (الطلاق: الآية 6) ش: المراد بعد الطلاق، أي فإن أرضعن أولادكم لأجلكم فأعطوهن أجورهن، أمر بإيتاء أجورهن فيكون دليلا على جواز إجارة الظئر، يعني إذا لم يتطوعن.
م: (ولأن التعامل به) ش: أي باستئجار الظئر م: (كان جاريا في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي في زمانه م: (وقبله) ش: أي قبل عهده م: (وأقرهم عليه) ش: أي على التعامل به، وتقريرهم

(10/287)


ثم قيل إن العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي والقيام به، واللبن يستحق على طريق التبع بمنزلة الصبغ في الثوب. وقيل إن العقد يقع على اللبن والخدمة تابعة، ولهذا لو أرضعته بلبن شاة لا تستحق الأجر، والأول أقرب إلى الفقه؛ لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودا، كما إذا استأجر بقرة ليشرب لبنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه تشريع لهم بذلك م: (ثم قيل) ش: قائله صاحب " الإيضاح "، وصاحب " الذخيرة " وبعض أصحاب أحمد والشافعي م: (إن العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي والقيام به) ش: أي بأموره م: (واللبن يستحق على طريق التبع بمنزلة الصبغ في الثوب) ش: فيكون كالاستئجار على الخدمة.
م: (وقيل) ش: أي قائله شمس الأئمة السرخسي م: (إن العقد يقع على اللبن والخدمة تابعة) ش: قال شمس الأئمة في " المبسوط ": والأصح أن العقد يرد على اللبن، لأنه هو المقصود وما سوى ذلك من القيام بمصالحه تبع م: (ولهذا) ش: توضيح لما ذهب إليه شمس الأئمة م: (لو أرضعته) ش: أي لو أرضعت الظئر الصغير م: (بلبن شاة لا تستحق الأجر) ش: فدل أن اللبن غير تابع بل معقود عليه م: (والأول أقرب إلى الفقه) ش: أشار بهذا إلى أنه اختار هذا القول، أي القول الأول أقرب إلى الأصول م: (لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودا كما إذا استأجر بقرة ليشرب لبنها) ش: فإنه لا يجوز، واختار حافظ الدين أيضا هذا القول حيث قال في الكافي: والصحيح هو الأول.
وقال السغناقي: قال شمس الأئمة في " المبسوط ": وزعم بعض المتأخرين أن المعقود عليه المنفعة وهي القيام بخدمة الصبي وما يحتاج إليه. وأما اللبن فيمنع فيه، لأن اللبن عين والعين لا تستحق بعقد الإجارة كلبن الأنعام.
ثم قال: والأصح أن العقد يرد على اللبن، لأنه هو المقصود، وما سوى ذلك من القيام بمصالحه تبع، والمعقود عليه ما هو المقصود وهو منفعة الثدي ومنفعة كل عضو على حسب ما يليق به، هكذا ذكر ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه قال: استحقاق لبن الآدمية بعقد الإجارة دليل على أنه لا يجوز بيعه.
وجواز بيع لبن الأنعام دليل على أنه لا يجوز استحقاقه. وقد ذكر في الكتاب إنها لو ربت الصبي بلبن الأنعام لا تستحق الأجر وقد قامت بمصالحه، فلو كان اللبن تبعا ولم يكن البدل مقابله لا يستوجب الأجر.
ثم قال السغناقي: عجبا لمن تبع بعد هذا الإمام الكبير وبعد أن رأى مثل هذا الدليل الواضح والرواية المنصوصة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رأي من خالفه وليس هذا إلا تقليد صرف.

(10/288)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب العناية: الدليل ليس بواضح، لأن مدار قوله لأنه هو المقصود وهو ممنوع، بل المقصود هو الإرضاع وانتظام أمر معاش الصبي على وجه خاص يتعلق بأمور وسائط منها اللبن فجعل العين المربية منفعة ونقض القاعدة الكلية أن عقد الإجارة عقد على إتلاف المنافع مع الغنى عن ذلك بما هو وجه صحيح ليس بواضح ولا نسلم له بما روى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ليس بظاهر الرواية.
ولئن كان فنحن بمعنى أن يستحق بعقد الإجارة وإنما الكلام في استحقاقه من حيث كونه مقصودا أو تبعا وليس في كلام محمد ما يدل على شيء من ذلك.
قلت: قول شمس الأئمة هو الأقرب إلى الفقه، لأن الأعيان تحدث شيئا فشيئا من يقع أصلها بمنزلة المنافع فتجوز إجارتها كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده، والعرية لمن يأكل ثمرة الشجرة ثم يردها، والمتخذ لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها، وإجارة الظئر ثابتة بنص القرآن الموافق للقياس الصحيح.
فيجب أن يكون أصلا يقاس عليها إجارة الشجر لثمرها وإجارة البقر للبنها والشاة ونحوها لا أن تجعل إجارة البقر لشرب لبنها باطلة ويقاس عليها إجارة الظئر كما ذكره المصنف.
وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدة للبنه، ثم من أصحابه من جوز ذلك مطلقا تبعا لنصه، ومنهم من منعه، ومنهم من شرط فيه شروطا.
وقد ورد عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضمن حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وهذا بمشهد من الصحابة ولم يرد أن أحدا منهم أنكره عليه.
وجوز ذلك بعض أصحاب أحمد، وجوز مالك ذلك تبعا للأرض قدر الثلث ولا شك أن المقصود من الظئر إنما هو اللبن والحمل والخدمة فتبع.
وإذا قيل: إن الخدمة هي الأصل كان في ذلك قلب للوضع، ونظير ذلك ما قيل في الحمام، وأن الأجرة في مقابله العقود في الحمام، وإن استعمال الماء الجاري فيه تبع، وهذا قلب الموضوع أيضا.
بل الحق أن استئجار الظئر إنما هو لإرضاع الولد بلبنها على جاري العادة في ذلك، وإن حمله وإلقامه الثدي ونحو ذلك تبع غير مقصود بالقصد الأول. ومن كابر في ذلك كان بمنزلة المكابر في الحسيات.
وكذلك دخول الحمام إنما هو المقصود فيه بالقصد الأول استعمال مائه. وكيف يقول

(10/289)


وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت ما ذكرنا يصح إذا كانت الأجرة معلومة اعتبارا بالاستئجار على الخدمة
قال: ويجوز بطعامها وكسوتها استحسانا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يجوز؛ لأن الأجرة مجهولة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب العناية بل المقصود هو الإرضاع إلى آخره، حيث يجعل اللبن مع كونه أصلا ومقصودا بالذات فرعا وجزءا من جملة الأمور والوسائط التي يتعلق بها انتظام أمر الصبي.
وكيف يقول لما روى ابن سماعة عن محمد غير ظاهر الرواية، وهو من كبار أصحاب محمد وأبي يوسف القاضي وكان من العلماء الكبار الصالحين وكان يصلي كل يوم مائة ركعة.
م: (وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة إن شاء الله تعالى) ش: أراد به الجواب عن قول أهل المقالة الثانية حيث قالوا: ولهذا لو أرضعته بلبن شاة لا تستحق الأجر وسيأتي ذلك قريبا من صفحة، بقوله: لأنها لم تأت بعمل فتستحق عليها م: (وإذا ثبت ما ذكرنا) ش: يعني من جواز الإجارة بأحد الطريقين.
م: (يصح إذا كانت الأجرة معلومة اعتبارا بالاستئجار على الخدمة) ش: يعني أن الإجارة لما جازت باعتبار الخدمة فتعتبر باستئجار العبد للخدمة، فكل ما جاز ثمة يجوز هنا، وكل ما لا يجوز ثمة لا يجوز هنا، غير أن جواز استئجار الظئر بالطعام والكسوة باعتبار أنها لا تفضي إلى المنازعة.
قيل: هذا تكرار لأنه قد علم من أول المسألة جوازها، حيث صدر الحكم فاستدل فلم يقع هذا التكرار؟
أجيب: أنه أثبت أولا جوازها بالكتاب والسنة ثم رجع إلى إثباتها بالقياس. ويجوز أن يكون توطئة لقوله: ويجوز بطعامها وكسوتها، يعني جازت بأجرة معلومة كسائر الإجارات وبطعامها وكسوتها أيضا، والأصوب أن يجاب بما قلنا آنفا، يعني غرضه من هذا أن يبين أن استئجار الظئر كاستئجار العبد على الخدمة، فكل ما جاز هناك يجوز هنا والعكس أيضا مع اعتبار أمر آخر هنا كما ذكرناه.

م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز بطعامها وكسوتها استحسانا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وأحمد في حاوي الحنابلة. ويصح استئجار الظئر بطعامها وكسوتها ولها الوسط، ومع النزاع كإطعام الكفارة.
م: (وقالا: لا يجوز، لأن الأجرة مجهولة) ش: لأن الطعام مجهول الجنس والقدر والصفة، وكذا الكسوة، وبه قال الشافعي.

(10/290)


فصار كما إذا استأجرها للخبز والطبخ. وله أن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن في العادة التوسعة على الأظآر شفقة على الأولاد، فصار كبيع قفيز من صبرة. بخلاف الخبز والطبخ؛ لأن الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة. وفي " الجامع الصغير " فإن سمى الطعام دراهم ووصف جنس الكسوة وأجلها وذرعها فهو جائز، يعني بالإجماع، ومعنى تسمية الطعام دراهم أن يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانها، وهذا لا جهالة فيه ولو سمى الطعام وبين قدره جاز أيضا لما قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي شرح " الكافي ": قال أبو يوسف ومحمد: إن سموا لها طول كل ثوب وعرضه ورفعته وضروبا لذلك أجلا فهو جائز، وكذلك الطعام إن سموا لها كل يوم كيلا من الدقيق فهو جائز، وإنما وجب لها الوسط من الطعام والكسوة إذا لم يوصف عند أبي حنيفة، لأن البدل إذا ثبت في الذمة مطلقا وجب الوسط منه، كالمهر والدية م: (فصار كما إذا استأجرها للخبز والطبخ) ش: يعني كما استأجر امرأة للخبز له كل يوم عشرة أمناء وتطبخ له عشرة أرطال من اللحم مثلا، وتكون الأجرة الطعام والكسوة فإنه لا يجوز، وهذا يلزم مالكا وأحمد فإنهما يخيران ذلك.
م: (وله أن الجهالة) ش: أي الجهالة المذكورة م: (لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن في العادة التوسعة على الأظآر شفقة على الأولاد) ش: والجري على موجب مرادهن ولا يمنع إلا الجهالة المفضية إلى المنازعة، والأظآر على وزن أفعال جمع ظئر م: (فصار كبيع قفيز من صبرة) ش: فإنه يجوز وللبائع أن يعطي من أي جانب شاء، لأنها جهالة لا تفضي إلى المنازعة م: (بخلاف الخبز والطبخ، لأن الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة) ش: فلذلك لا يجوز.
م: (وفي " الجامع الصغير " فإن سمى الطعام دراهم ووصف جنس الكسوة وأجلها) ش: أي أجل الكسوة، أراد به وقت العطاء م: (وذرعها فهو جائز يعني بالإجماع) ش: ذكر رواية الجامع الصغير إشارة إلى ما يجعله مجمعا عليه بمعرفة الجنس والأجل والمقدار م: (ومعنى تسمية الطعام دراهم أن يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانها) ش: أي مكان المسمى من الدراهم م: (وهذا لا جهالة فيه) ش: أي جعل الأجرة على هذا الوجه لا جهالة فيه.
قال السغناقي: هذا التفسير الذي ذكره لا يستفاد من ذلك اللفظ، ولكن يحتمل أن يكون معناه مسمى الدراهم المقدرة بمقابلة طعامها ثم أعطى الطعام بأن الدراهم المسماة؛ لأنه ذكر في " الجامع الصغير " لفخر الإسلام.
أما إذا سمى الطعام دراهم فإن معناه أن يجعل الدراهم به فلا شك في جوازه ثم يستبدل به طعاما فيصح، قيل: لو زيد في كلام المصنف بعد قوله: أن يجعل الأجرة دراهم لفظة بدلا استفاد المعنى الذي، قاله السغناقي م: (ولو سمى الطعام وبين قدره جاز أيضا لما قلنا) ش: أشار به

(10/291)


ولا يشترط تأجيله؛ لأن أوصافها أثمان، ويشترط بيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة خلافا لهما، وقد ذكرناه في البيوع وفي الكسوة يشترط بيان الأجل أيضا مع بيان القدر والجنس؛ لأنه إنما يصير دينا في الذمة إذا صار مبيعا، وإنما يصير مبيعا عند الأجل كما في السلم.
قال: وليس للمستأجر أن يمنع زوجا من وطئها لأن الوطء حق الزوج فلا يتمكن من إبطال حقه، ألا ترى أن له أن يفسخ الإجارة إذا لم يعلم به صيانة لحقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى قوله لا جهالة فيه.
م: (ولا يشترط تأجيله) ش: أي تأجيل الطعام المسمى أجرة، م: (لأن أوصافها) ش: أي أوصاف الطعام والتأنيث بتأويل الحنطة م: (أثمان) ش: أراد أن المكيل والموزون إذا كان موصوفا غير مشار ثمن بدليل ثبوته في الذمة فلا يشترط بيان الأجل كما في سائر الأثمان.
وهذا احتراز عن الطعام إذا كان مسلما فيه فإن الطعام فيه مبيع مع كونه دينا فاشترط تأجيله م: (ويشترط بيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة) ش: إن كان له حمل ومؤنة م: (خلافا لهما، وقد ذكرناه في البيوع) ش: أي في باب السلم م: (وفي الكسوة يشترط بيان الأجل أيضا) ش: يعني إذا استأجرها بثياب يشترط فيه جميع شرائط السلم من بيان الأجل م: (مع بيان القدر والجنس) ش: لأن وجوب الثياب دينا في الذمة عرف شرعا.
بخلاف القياس، فيقتصر على مورده، والشرع ورد بطريق السلم فيشترط جميع شرائط السلم م: (لأنه) ش: أي لأن وجوب الكسوة م: (إنما يصير دينا في الذمة إذا صار مبيعا، وإنما يصير مبيعا عند الأجل كما في السلم) ش: وفي بعض النسخ: إنما صار مبيعا والمعنى فهم مما ذكرنا آنفا.

م: (قال: وليس للمستأجر أن يمنع زوجها) ش: أي زوج الظئر م: (من وطئها، لأن الوطء حق الزوج فلا يتمكن) ش: أي المستأجر م: (من إبطال حقه) ش: وبه قال الشافعي وأحمد. وقال مالك: ليس له وطؤها إلا برضى المستأجر، لأنه ينقص اللبن وقد يقطعه بالحبل.
قلنا: الوطء حق مستحق له قبل العقد بعقد النكاح وهو باق فلا يسقط بأمر موهم.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لما سبقه م: (أن له) ش: أي لزوج الظئر م: (أن يفسخ الإجارة إذا لم يعلم به) ش: أي بعقد الإجارة م: (صيانة لحقه) ش: أي لحق الزوج، وبه قالت الثلاثة. وعن الشافعي في وجه لا يصلح العقد بغير رضاه وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو زوج بعد عقد الإجارة له الفسخ بالإجماع.
وقيل: إن كان الزوج ممن يشبه أن تكون امرأة ظئرا فله الفسخ لدفع الضرر عنه وإلا لا.

(10/292)


إلا أن المستأجر يمنعه عن غشيانها في منزله؛ لأن المنزل حقه. فإن حبلت كان لهم أن يفسخوا الإجارة إذا خافوا على الصبي من لبنها؛ لأن لبن الحامل يفسد الصبي، فلهذا كان لهم الفسخ إذا مرضت أيضا وعليها أن تصلح طعام الصبي؛ لأن العمل عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأصح: أنه له ذلك مطلقا، وهذا كان زوجها معروفا وكان مجهولا لا يعرف أنها امرأته إلا بقولها فليس له الفسخ، لأن العقد قد لزمها وقولها غير مقبول في المستأجر، لأنه يمكن منه المواضعة مع هذا الرجل، وهو نظير المنكوحة إذا كانت مجهولة الحال فأقرت بالرق على نفسها لا يصدق في إبطال النكاح.
م: (إلا أن المستأجر يمنعه) ش: أي يمنع زوج المرضعة م: (عن غشيانها في منزله، لأن المنزل حقه) ش: فلا يدخل إلا بإذنه م: (فإن حبلت) ش: أي الظئر م: (كان لهم) ش: أي لأهل الصغير م: (أن يفسخوا الإجارة إذا خافوا على الصبي من لبنها، لأن لبن الحامل يفسد الصبي فلهذا كان لهم الفسخ إذا مرضت أيضا) ش: وكذا إذا كانت سارقة يخاف منها على المتاع. وكذا إذا تقيأ الصبي لبنها. وكذا إذا كانت فاجرة بينا فجورها، بخلاف ما إذا كانت كافرة حيث لا تفسخ، لأن كفرها في اعتقادها ولا يضر بالصبي. وكذا إذا أرادوا السفر فتأبى الخروج معهم فهو عذر.
وأما عذرها فمرض يصيبها لا تستطيع معه الإرضاع، وكذا إذا لم تكن معروفة بالظؤورة فلها أن تفسخ. وكذا إذا لم يكفوا عن إيصائها بسنتهم كان لها الفسخ، كذا في " المبسوط ".
ولو استأجر امرأته لإرضاع ولده منها لا يجب الأجر، وبه قال الشافعي: والقاضي الحنبلي. وقال مالك وأحمد: يجوز.
قلنا: هذا يجب عليه ديانة وإن كانت لا تجبر على ذلك، كما لو استأجرها لكنس البيت أو الطبخ أو الغسل أو غير ذلك. وفي " المبسوط ": ولو استأجرها لإرضاع ولدها منه بمال الولد، وللولد مال صح في رواية ابن رستم عن محمد ويكون لها الأجرة في مال الولد. ولو استأجرها لإرضاع ولده من غيرها لا يجوز بلا خلاف وكان لها الأجر. ولو استأجر خادمها لترضع ولدا منها لا يجب الأجر.
ولو استأجر مكاتبتها جاز. ولو أرضعت خادمة الظئر الصبي فلها الأجر، لأنه لم يشترط الإرضاع بنفسها، كذا في " الذخيرة ".
وقال أحمد، وأبو ثور: لا أجر لها كما لو اشترى لبن الغنم، ويجوز استئجار أمته وأخته وابنته لرضاع ولده وكذا سائر أقاربه بلا خلاف.
م: (وعليها) ش: أي على الظئر م: (أن تصلح طعام الصبي، لأن العمل عليها) ش: أي العمل

(10/293)


والحاصل أنه يعتبر فيما لا نص عليه العرف في مثل هذا الباب فما جرى به العرف من غسل ثياب الصبي وإصلاح الطعام وغير ذلك فهو على الظئر. أما الطعام فعلى والد الولد. وما ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدهن والريحان على الظئر فذلك من عادة أهل الكوفة.
وإن أرضعته في المدة بلبن شاة فلا أجر لها؛ لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها وهو الإرضاع، فإن هذا إيجار وليس بإرضاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الراجع إلى منفعة الصبي على الظئر. م (والحاصل أنه يعتبر فيما لا نص عليه العرف في مثل هذا الباب) ش: أراد أن الأصل في الإجارة إذا وقعت على عمل فيما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط في الإجارة على الأجير فالمرجع فيه العرف م: (فما جرى به العرف من غسل ثياب الصبي وإصلاح الطعام وغير ذلك فهو على الظئر) ش: وبه قالت الثلاثة.
وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه لا يلزمها. قال تاج الشريعة: أراد غسل الثياب عن البول والغائط لا عن الدرن والوسخ م: (أما الطعام فعلى والد الولد) ش: أراد طعام الصبي.
م: (وما ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدهن والريحان على الظئر فذلك من عادة أهل الكوفة) ش: لأن في توابع المقصود يرجع إلى العادة، ولهذا قالوا فيمن استأجر فيمان فالزنبيل واللبن على صاحب اللبن للعرف، وإن كان العرف في بلد على خلافهم يؤخذ به. وقالوا في الخياط الخيط عليه، وحط التراب على القبر على الحافر إن كان في بلد يتعاملون به.
وقالوا في الطباخ إذا استؤجر في عرس إخراج المرق عليه، فإن طبخ قدرا خاصة فليس عليه، وهذا مبني على العادة. وإدخال الحمل المنزل فيما إذا تكارى الدابة فعلى ما يفعله الناس.
فأما الصعود به على السطح أو الغرفة فليس عليه إلا إذا شرط. ولو كان حمالا على ظهره فيجب عليه الإدخال وليس عليه الصعود به للعرف، وأراد بالدهن الزيت غالبا، لأن الصغير لا بد من دهنه بالزيت أحيانا وإن كان يتناول غيره من الأدهان. وأراد بالريحان الآس، وهو الذي يقال له المرسين بلغة أهل مصر، فإن كان الصغير لا يستغنى عنه البتة، والريحان اسم لكل نبت طيبة الريح.

م: (وإن أرضعته في المدة بلبن شاة فلا أجر لها) ش: وبه قالت الثلاثة م: (لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها وهو الإرضاع فإن هذا إيجار وليس بإرضاع) ش: هذا هو العذر الموعود قبله بقوله: وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة.
وقال صاحب " العناية ": وهذا دليل ظاهر على ما قدمنا، فإنه إنما لم يجب الأجر لاختلاف العمل لا لانتفاء اللبن، ولهذا لو أوجر الصبي بلبن الظئر في المدة لم يستحق الأجرة

(10/294)


وإنما لم يجب الأجر لهذا المعنى أنه اختلف العمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعلم بهذا أن المعقود عليه هو الإرضاع والعمل دون العين وهو اللبن.
قلت: قد مر الجواب عن هذا على أن السغناقي قال يجوز أن يكون هذا الحكم غير مسلم عند شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: إيجار مصدر أوجرته إذا صببت في وسط فمه دواء. وكذا وجرته. والوجور بفتح الواو اسم لتلك الدواء.
فإن قلت: الظئر أجير خاص أو أجير مشترك؟
قلت: دل كلام مصنف المبسوط أنها أجير خاص، حيث قال: لو ضاع الصبي في يدها أو وقع فمات أو سرق الصبي أو من متاعه وثيابه في يدها لم تضمن الظئر، لأنها بمنزلة الأجير الخاص لورود العقد على منافعها في المدة. ألا ترى أنها ليس لها أن تؤجر نفسها من غيرهم لمثل ذلك العمل، والأجير الخاص أمين فيما في يده.
ودل كلام صاحب " الذخيرة " أنها تجوز أن تكون خاصا وأن يكون مشتركا، فإنها لو أجرت نفسها لقوم آخرين لذلك ولم يعلم الأولون فأرضعت كل واحد منهما وفوعت أثمت، وهذا جناية منها ولها الأجر منهما كاملا على الفريقين وهذا يدل على أنها تحتملها فاعتبار أنها تستحق الأجر منهما كاملا كالأجير المشترك وباعتبار أنها أتمت لما فعلت كالأجير الخاص وفيه نظر لا يخفى.
وقال علاء الدين الأسبيجابي في شرح " الكافي ": المسائل متعارضة في هذا الباب بعضها يدل على أنها في معنى أجير الواحد وبعضها يدل على أنها في معنى الأجير المشترك، والصحيح: أنه إن دفع الولد إليها لترضعه فهي أجير مشترك. وإن حملها إلى منزله فهي أجير واحد.
وقال الكرخي في " مختصره ": والظئر بمنزلة الأجير الخاص وليس لها أن تؤجر نفسها من غير الأولين م: (وإنما لم يجب الأجر لهذا المعنى) ش: وهو المعنى الذي ذكره من قوله، لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها ... إلى آخره.
م: (أنه اختلف العمل) ش: بفتح همزة أن لأنها بدل من المعنى وفي بعض النسخ وهو أنه وفي بعضها: لأنه والصحيح الذي ضبطه مشايخنا هو الأول.
وقال الأسبيجابي في شرح " الكافي ": ولو استأجر ظئرا ترضع صبيا في بيتها فجعلت تؤجر بلبن الغنم وتغذوه بكل ما تصلحه حتى استكمل الحولين ولها لبن لم ترضعه منه بشيء أو ليس لها لبن فلا أجر لها، لأنها لم ترضعه.

(10/295)


قال: ومن دفع إلى حائك غزلا لينسجه بالنصف فله أجر مثله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن جحدت ذلك وقالت: قد أرضعته فالقول قولها مع يمينها إلا أن تقوم البينة على خلاف ذلك فيؤخذ بها؛ لأنها أقوى. وإن أقاما جميعا البينة أخذت بينتها، لأنها تثبت استحقاق الأجر عليه، فإن استأجرت له ظئرا فأرضعته كان مثل هذا في القياس، ولكن استحسن أن يكون لها الأجر.

[دفع إلى حائك غزلا لينسج بالنصف]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن دفع إلى حائك غزلا لينسج بالنصف) ش: فالإجارة فاسدة فلذلك قال: م: (فله أجر مثله) ش: أي فللحائك أجر مثله، لأن هذا حكم الإجارة الفاسدة.
وفي " المبسوط " حكى الحلواني عن أستاذه أبي علي النسفي أنه كان يفتي بجواز دفع الثوب إلى الحائك لينسجه بالنصف في دياره بنصف؛ لأن فيه عرفا ظاهرا، وكذا مشايخ بلخ يفتون بجواز هذه الإجارة من الثياب للتأمل والقياس قد يتركه بالتعامل كما في الاستصناع.
قال: والأصح عندي أن ما ذكره في الكتاب أصح، لأن هذا في معنى قفيز الطحان على ما يجيء عن قريب.
وقالوا في شرح " الجامع ": وكذلك إذا استأجر حمارا ورجلا يحمل طعاما بقفيز منه محمولا فالإجارة فاسدة ويجب أجر المثل، وقال الفقيه أبو الليث: هذا قول المتقدمين، ولأن مشايخ بلخ يجيزون ذلك مثل نصر بن يحيى ومحمد بن مسلمة.
وفي " خلاصة الفتاوى ": رجل دفع إلى حائك غزلا وأمره بأن ينسج له ثوبا وبين صفته على أن ربعه أو ثلثه للحائك أجرا لعمله لم يجز، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يفتي بجوازه ويجعله بحكم العرف.
قال: والفتوى على جواب الكتاب. وفي " صحيح البخاري " قال إبراهيم وابن سيرين وعطاء والحاكم والزهري وقتادة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا بأس أن يعطي الثوب بالثلث والربع ونحوه.
قال صاحب " العناية ": فإن قيل إذا كان عرف دياره على ذلك فهل يترك به القياس. قيل: لا، لأنه في معناه من كل وجه، يعني في معنى قفيز الطحان بالعرف.
قلت: الدلالة لا عموم لها حتى يخص عرف ذلك في موضعه. انتهى
قلت: قال تاج الشريعة: كان تجويز هذا يعني بها الإجارة التي أفتى بها مشايخ بلخ وأبو علي النسفي بطريق تخصيص دلالة النص الذي يحوك الثوب ببعضه، غير أن الحائك نظيره

(10/296)


وكذا إذا استأجر حمارا يحمل عليه طعاما بقفيز منه فالإجارة فاسدة؛ لأنه جعل الأجر بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيكون النص وارد فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحائك علمنا في قفيز الطحان كان تخصيصا لدلالة النص لا تركا للنص أصلا، انتهى. فهذا صريح أن دلالة النص تخص، والتخصيص لا يكون إلا في العموم، على أنا نقول إن هذا الحديث الذي يتمسكون تارة بعمومه وتارة بخصوصه غير صحيح.
قال ابن قدامة في " المغنى ": وهذا الحديث لا نعرفه ولا يثبت عندنا صحته. وقال الشيخ شمس الدين ابن القيم: هذا الحديث لا يثبت بوجه، مع أن لفظ الحديث «نهي عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان على ما نبينه عن قريب» .
وقوله: نهي مبنى لما لم يسم فاعله، ولا يلزم أن يكون الناهي هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأي فرق بين أن يستأجره ليطحن له حنطة بقفيز حنطة أو بقفيز من طحين غيرها، بل هذا فرق صوري لأنا ننزله ولا يتعلق بذلك مفسدة قط لا جهالة ولا ربا ولا عذر ولا منازعة ولا ضرر. وأي غرر أو مفسدة في أن يدفع إليه غزله لينسجه ثوبا بذراع أو زيتونا ليعصرها زيتا بجزء معلوم منه وأمثال ذلك
مما هو مصلحة للمتعاقدين
فقد لا يكون معه أجرة سوى ذلك الغزل أو الحب، ويكون الأجر محتاجا إليه وقد تراضيا بذلك فجوزناه.
وقال القياس: وحاجة الناس وهو قول عطاء والزهري وأيوب ويعلى بن حكيم وقتادة وأحمد وإسحاق. واحتج أحمد بحديث جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أعطى خيبر على الشطر» .
ولم يثبت عن الشارع ما يمنع ولا يترتب عليه شيء من الفساد بل هو
مصلحة محضة،
والمصنف أيضا لم يقم دليلا على ما ادعاه من الفساد سوى أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر وهو بعض المنسوخ أو المحمول، وحصول بفعل الأجير فلا بعد هو قادر بفعل غيره، وهذا لا يعول، فإن المزارع يأخذ جزءا من الخارج والمضارب جزءا من الربح. والمعنى المذكور موجود في كل منهما، بل هذا أولى بالجواز من المضاربة والمزارعة، فإن الذي يأخذ منه الجزء هنا محقق الوجود وهناك معدوم على خطر الوجود لم يكن هذا المعنى مانعا من جواز المزارعة والمضاربة، فهنا أحق وأولى أن لا يمنع.

[استأجر حمارا يحمل عليه طعاما بقفيز منه]
م: (وكذا إذا استأجر حمارا يحمل عليه طعاما بقفيز منه فالإجارة فاسدة، لأنه جعل الأجر بعض

(10/297)


ما يخرج من عمله فيصير في معنى قفيز الطحان، وقد نهى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عنه وهو أن يستأجر ثورا ليطحن له حنطة بقفيز من دقيقه، وهذا أصل كبير يعرف به فساد كثير من الإجارات لا سيما في ديارنا، والمعنى فيه أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر وهو بعض المنسوج أو المحمول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما يخرج من عمله فيصير في معنى قفيز الطحان) ش: فإذا صار في معناه صار حكمه كحكمه م: (وقد نهى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عنه) ش: أي نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن قفيز الطحان. وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في " سننيهما " عن عبيد الله بن موسى، ثنا سفيان عن هشام بن أبي كليب، عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهي عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان» . وأخرجه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " عن ابن المبارك ثنا سفيان به، وذكره عبد الحق في " أحكامه " من جهة الدارقطني قال فيه: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا مبنيا للفاعل كما قاله المصنف، وتعقبه ابن القطان في كتابه، وقال: إني تتبعته في كتاب الدارقطني من كل الروايات فلم أجده إلا هكذا: «نهي عن عسب الفحل وقفيز الطحان» مبنيا للمفعول.
م: (وهو) ش: أي قفيز الطحان، أي تفسيره م: (أن يستأجر ثورا ليطحن له حنطة بقفيز من دقيقه) ش: وكذا لو استأجر رجلا ليطحن له هكذا، والحنطة في جواز ذلك أن يشترط صاحب الحنطة قفيزا من الدقيق الجيد ولم يقل من هذا الحنطة، لأن الدقيق إذا لم يكن مضافا إلى حنطة بعينها يجب في الذمة. ثم إذا جاز يعطيه من دقيق هذه الحنطة م: (وهذا أصل كبير) ش: أي جعل الأجر بعض ما يخرج من عمل الأجير أصل عظيم م: (يعرف به فساد كثير من الإجارات) ش: كما إذا استأجر أن يعصر له سمسما بمن من دهنه، وكذا إذا دفع أرضه ليغرس شجرا على أن تكون الأرض والشجر بينهما نصفان لم يجز ذلك والشجر لرب الأرض وعليه قيمة الشجر وأجر ما عمل.
وكذا لو استأجر امرأة لتقول هذا القطن وهذا الصوف برطل في الغزل وكذا عجن الطحن بالنصف، ودياس الدخن بالنصف، وحصاد الحنطة بالنصف ونحو ذلك، وكل ذلك لا يجوز م: (لا سيما في ديارنا) ش: أي خصوصا في ديارنا ودياره بلاد فرغانة وراء جيحون ومدينة مرغينان، وهي من بلاد فرغانة.
م: (والمعنى فيه) ش: أي في النهي عن قفيز الطحان م: (أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر) ش: لأن المسمى غير مقدور التسليم عند العقد م: (وهو بعض المنسوج) ش: في مسألة الحائك م: (أو المحمول) ش: أي وبعض المحمول في مسألة استئجار الحمال لحمل الطعام وليس له حكم

(10/298)


وحصوله بفعل الأجير فلا يعد هو قادرا بقدرة غيره، وهذا بخلاف ما إذا استأجره ليحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا يجب له الأجر؛ لأن المستأجر ملك الأجر في الحال بالتعجيل فصار مشتركا بينهما. ومن استأجر رجلا لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب الأجر؛ لأنه ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه فيه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوجود لأنه غير واجب في الذمة فكان معدوما فيعجز عن تسليمه، لأن وجوده م: (وحصوله بفعل الأجير فلا يعد) ش: أي المستأجر م: (هو قادرا بقدرة غيره) ش: إذ العبرة بقدرة نفسه.
وفي " مبسوط صدر الإسلام وجامعه " معنى النهي في قفيز الطحان، ونظائره أنه جعل شرط صحة العقد بناء على حكم العقد، لأنه لا يمكنه تسليمه إلا بعد العمل، وشرط العقد لا يجوز أن يكون حكم العقد، لأنه خلاف وضع الشرع إذ الشرط يسبقه والحكم يعقبه.
م: (وهذا) ش: أي وهذا الذي ذكرنا من فساد الإجارة فيما إذا استأجر حمارا ليحمل طعاما بقفيز منه م: (بخلاف ما إذا استأجره) ش: أي الحمار م: (ليحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا يجب له الأجر) ش: هذا من مسائل إجارات " الجامع الكبير ".
وهنا مسألة أخرى وهي ما إذا استأجر رجلا ليحمل له كر حنطة إلى بغداد مثلا بنصفه كانت الإجارة فاسدة وله أجر مثله إن بلغ بغداد لا يجاوز قيمته نصف الكر عندنا. والفرق بينهما أن الحنطة هنا صارت محمولة بعمل الأجير فكان في معنى قفيز الطحان فيكون فاسدا فيجب أجر المثل.
وأما في مسألة الكتاب فلما أشار إليه بقوله م: (لأن المستأجر) ش: بفتح الجيم وهو الأجير م: (ملك الأجر في الحال بالتعجيل) ش: لأن تسليم الأجرة بحكم التعجيل يوجب الملك في الأجرة م: (فصار مشتركا بينهما. ومن استأجر رجلا لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب الأجر، لأنه ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه فيه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه) ش: وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قيل: هاهنا نظير أن الأول في قوله حيث لا يجب الأجر كيف يقول لا يجب، لأنه قد وجب وقبض وهو نصف الطعام، ثم يقول لأن المستأجر ملك الأجر.
والثاني في قوله لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه نظر، فإن هذا ممنوع، لأن صورة المسألة أن الطعام مشترك بينهما، فكيف يقال إن كل جزء منه يكون الشريك الحامل له عاملا لفسد، وإن كان مراده أن ما من جزء إلا وهو مشترك بينهما فيكون بهذا الاعتبار عاملا لشريكه يعكس عليه ويقال: إنه إذا كان ما من جزء إلا وهو مشترك ببينهما فيكون بهذا الاعتبار عاملا لشريكه.

(10/299)


ولا يجاوز بالأجر قفيزا؛ لأنه لما فسدت الإجارة فالواجب الأقل مما سمى ومن أجر المثل؛ لأنه رضي بحط الزيادة، وهذا بخلاف ما إذا اشتركا في الاحتطاب حيث يجب الأجر بالغا ما بلغ عند محمد، لأن المسمى هناك غير معلوم فلم يصح الحط. قال: ومن استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة المخاتيم اليوم بدرهم فهو فاسد، وهذا عند أبي حنيفة - رحمه الله - وقال أبو يوسف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولكن الحق أن الجزء الذي لشريكه ليس هو عاملا لنفسه فيه، بل لشريكه فهو في الحقيقة عامل لنفسه، وعامل لشريكه فأخذه الأجرة في مقابلة عمله لشريكه. ولو قال ما من قفيز أو ما من حبة أو نحو ذلك لكان أقرب من قوله من جزء، لأن الجزء ينطلق على الشائع والتعميم فيه غير ممنوع.
م: (ولا يجاوز بالأجر قفيزا) ش: هذا يتصل بقوله وكذا إذا استأجر حمارا ليحمل طعاما بقفيز منه، وانتصاب قفيزا على المفعولية والفاعل هو قوله بالأجر على رأي من يجوز إسناد الفعل إلى الجار والمجرور، وهذا إذا كان لا يجوز على البناء للفاعل يكون الفاعل هو الضمير في لا يجاوز الراجع إلى المستأجر، وتكون الباء للمصاحبة، والتقدير: لا يجاوز المستأجر مع الأجر قفيز الذي كان أجرة م: (لأنه لما فسدة الإجارة فالواجب الأقل مما سمى ومن أجر المثل؛ لأنه) ش: أي لأن الحامل م: (رضي بحط الزيادة) ش: أي الزيادة على أحدهما من المسمى ومن أجر المثل، أما رضاه بالمسمى فعقده عليه، وأما رضاه بأجر المثل فإقدامه على الإجارة الفاسدة.
م: (وهذا بخلاف ما إذا اشتركا في الاحتطاب حيث يجب الأجر بالغا ما بلغ عند محمد لأن المسمى هناك) ش: وهو نصف الحطب م: (غير معلوم فلم يصح الحط) ش: وعند أبي يوسف: لا يجاوز بأجره نصف ثمن ذلك لأنه قد رضي بنصف المسمى حيث اشتركا كما لو استأجر لحمل الحنطة بقفيز منها.

[استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة اليوم بدرهم]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة المخاتيم) ش: وهو جمع مختوم وهو الصاع بعينه ويشهد عليه حديث الخدري «الوسق ستون مختوما» وسمي به لأنه يجعل على أعلاه خاتم مطبوع كيلا يزاد ولا ينقص.
وفي " المبسوط ": المختوم والقفيز واحد قوله هذه مفعول بقوله ليخبز، والعشرة، صفته، والمخاتيم مجرور بالإضافة كما في قولك الخمسة الأثواب على رأي الكوفيين، وقوله: م: (اليوم) ش: نصب على الظرف أي اليوم.
م: (بدرهم) ش: يتعلق بقوله استأجر م: (فهو فاسد) ش: أي عقد هذه الإجارة فاسد م: (وهذا) ش: أي فساد هذا العقد م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف:

(10/300)


ومحمد - رحمهما الله - في الإجارات: هو جائز؛ لأنه يجعل المعقود عليه عملا، ويجعل ذكر الوقت للاستعجال تصحيحا للعقد فترتفع الجهالة. وله أن المعقود عليه مجهول؛ لأن ذكر الوقت يوجب كون المنفعة معقودا عليها وذكر العمل يوجب كونه معقودا عليه ولا ترجيح، ونفع المستأجر في الثاني ونفع الأجير في الأول فيفضي إلى المنازعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومحمد - رحمهما الله - في الإجارات) ش: أي من إجارات " المبسوط " م: (هو جائز) ش: وبه قالت الثلاثة.
وإنما قيد قولهما بهذا القيد، لأنه لم يذكر قولهما في " الجامع الصغير " وفي " المبسوط " قولهما استحسان م: (لأنه يجعل المعقود عليه عملا) ش: لأنه المقصود في الإجارات.
م: (ويجعل ذكر الوقت للاستعجال) ش: لا لتعلق العقد به، فكان إذا استأجره بعمل على أن يفرغ منه في نصف النهار كان له الأجر كاملا، ولو لم يفرغ في اليوم فعليه أن يعمله في الغد، لأنه صار أجيرا مشتركا والحمل على هذا ما لا بد منه م: (تصحيحا للعقد فترتفع الجهالة) ش: بما ذكرنا من الحمل.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن المعقود عليه مجهول) ش: لأنه ذكر سببين مختلفين يصلح كل واحد منهما أن يكون معقودا عليه م: (لأن ذكر الوقت يوجب كون المنفعة معقودا عليها، وذكر العمل يوجب كونه معقودا عليه ولا ترجيح) ش: لأحدهما على الآخر في الأولوية.
م: (ونفع المستأجر في الثاني) ش: وهو كون العمل معقودا عليه حتى لا يجب الأجر إلا بتسليم العمل إليه م: (ونفع الأجير في الأول) ش: وهو كون ذكر الوقت موجبا لكون المنفعة معقودا عليها، حتى يستحق الأجر بمجرد تسليم النفس في المدة وإن لم يعمل فجاز أن يطلب الأجير أجره نظرا إلى الأول ويمنعه المستأجر نظرا إلى الثاني م: (فيفضي إلى المنازعة) .
ش: فإن قيل: ما الفرق بين هذه وبين ما إذا قال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم؟، فإن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أجاز الشرط الأول، وجعل ذكر الوقت للتعجيل وبينهما وبين ما إذا استأجر رجلا ليخبز له قفيز دقيق على أن يفرغ عنه اليوم فإن الإجارة فيها جائزة بالإجماع.
أجيب في الفرق بينهما وبين الأول بأن دليل المجاز وهو نقصان الأجر للتأخير فيها صرفه عن حقيقته التي هي للتوقيت آتي المجاز الذي هو التعجيل، وليس في مسألتنا ما يعرفه عنها فلا يصار إلى المجاز، وكذلك بينها وبين الثانية، فإن كله " على " فيها معنى الشرط على ما عرف في موضعه، فحيث جعله شرطا دل على أن مراده التعجيل.

(10/301)


وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تصح الإجارة إذا قال في اليوم وقد سمي عملا. لأنه للظرف فكان المعقود عليه العمل بخلاف قوله اليوم وقد مر مثله في الطلاق.
قال: ومن استأجر أرضا على أن يكربها ويزرعها ويسقيها فهو جائز؛ لأن الزراعة مستحقة بالعقد ولا يتأتى الزراعة إلا بالسقي والكراب فكان كل واحد منهما مستحقا، وكل شرط هذه صفته يكون من مقتضيات العقد فذكره لا يوجب الفساد، فإن شرط أن يثنيها أو يكري أنهارها أو يسرقنها فهو فاسد؛ لأنه يبقى أثره بعد انقضاء المدة وأنه ليس من مقتضيات العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، وما هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يؤيده ما روي عن أبي حنيفة وهو قوله م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تصح الإجارة إذا قال في اليوم وقد سمي عملا) ش: أي سمي المعقود عليه عملا كأنه قال: إن عملت في بعض اليوم م: (لأنه للظرف) ش: أي لأن في الظرف لا للمدة والمظروف لا يستغرق الظرف م: (فكان المعقود عليه العمل) ش: لأنه كأنه قال: إن عملت في بعض اليوم وذلك يفيد التعجيل فكان العمل هو المعقود عليه.
م: (بخلاف قوله اليوم) ش: لأنه للمدة، لأنه بدون في فيستقر جميع الظرف فيصلح أن يكون معقودا عليه، ويلزم الجهالة. وقال تاج الشريعة: إذا لم يذكر حرف في مستوعب الظرف فبالنظر إلى قوله لتخبز لي هذه العشرة المخاتيم يكون المعقود عليه هو العمل.
وبالنظر إلى قوله اليوم يكون المعقود عليه هي المنفعة فجهل المعقود عليه ففسدت الإجارة م: (وقد مر مثله في الطلاق) ش: أي فصل إضافة الطلاق إلى الزمان في قوله أنت طالق في غد وقال: نويت آخر النهار.

[استأجر أرضا على أن يكربها ويزرعها ويسقيها]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن استأجر أرضا على أن يكربها) ش: من كرب الأرض كربا قلبها للحرث من باب طلب يطلب م: (ويزرعها ويسقيها فهو جائز، لأن الزراعة مستحقة بالعقد ولا يتأتى الزراعة إلا بالسقي والكراب، فكان كل واحد منهما مستحقا وكل شرط هذه صفته يكون من مقتضيات العقد فذكره لا يوجب الفساد) ش: لأن الشرط الملائم لا يفسد العقد.
م: (فإن شرط أن يثنيها) ش: من التثنية ويجيء الآن، أما المراد من التثنية م: (أو يكري أنهارها) ش: أي يحضر من الكري وهو الحضر م: (أو يسرقنها) ش: من سرقنت الأرض إذا جعلت السرقين ويسمى السرجين وهي الزبل م: (فهو فاسد) ش: أي فإن العقد فاسد م: (لأنه يبقى أثره) ش: أي أثر كل واحد من المذكورات وهي التثنية والكري والسقنة م: (بعد انقضاء المدة، وأنه ليس من مقتضيات العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين) ش: وهو رب الأرض م: (وما هذه

(10/302)


حاله يوجب الفساد؛ لأن مؤاجر الأرض يصير مستأجرا منافع الأجير على وجه يبقى بعد المدة، فيصير صفقتان في صفقة وهو منهي عنه. ثم قيل المراد بالتثنية أن يردها مكروبة ولا شبهة في فساده. وقيل أن يكربها مرتين وهذا في موضع تخرج الأرض الربع بالكراب مرة والمدة سنة واحدة. وإن كانت ثلاث سنين لا تبقى منفعة، وليس المراد بكري الأنهار الجداول بل المراد منها الأنهار العظام هو الصحيح، لأنه تبقى منفعته في العام القابل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاله يوجب الفساد، لأن مؤاجر الأرض يصير مستأجرا منافع الأجير على وجه يبقى بعد المدة فيصير صفقتان في صفقة وهو منهي عنه) ش: أي كون الصفقتين في صفقة منهي عنه، أي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
روى أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " حدثنا حسن وأبو النصر وأسود بن عامر قالوا: ثنا شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صفقتين في صفقة واحدة» . قال شريك: قال سماك هو أن يبيع الرجل بيعا فيقول هذا نقدا بكذا ونسيئة بكذا وقد مر الكلام فيه مستوفى في البيوع.
م: (ثم قيل: المراد بالتثنية أن يردها) ش: أي الأرض م: (مكروبة ولا شبهة في فساده) ش: لأنه لا يقتضيه العقد، لأن الزراعة لا تتوقف عليه م: (وقيل أن يكربها مرتين وهذا في موضع تخرج الأرض الربع بالكراب مرة، والمدة) ش: أي مدة الإجارة م: (سنة واحدة) ش: فإذا كان كذلك يفسد العقد أيضا، لأن فيه منفعة لأحدهما.
م: (وإن كانت) ش: أي المدة م: (ثلاث سنين لا تبقى منفعة) ش: فلا يفسد العقد أيضا، لأن فيه من مقتضيات العقد، وكذا إذا كان الكراب مرتين والمدة سنة، ولكن لا تخرج الأرض البديع إلا بالكراب مرتين، لأنه ليس فيه منفعة لأحدهما.
وقد ذكر الفقيه أبو الليث عن مشايخنا أنهم قالوا: هذا الجواب في بلادهم، أما في بلاد الخضرة نحو المزارعة بهذا الشرط لأن منفعة التثنية في بلاد الخضرة لا تبقى بعد انقضاء المدة، فإن الأرض وإن كربت مرارا قلما تبقى منفعتها إلى العام الثاني.
م: (وليس المراد بكري الأنهار الجداول) ش: وهو جمع جدول وهو النهر الصغير م: (بل المراد منها الأنهار العظام هو الصحيح) ش: احترز به عن قول من قال: المراد بالأنهار الجداول وهو قول خواهر زاده، وبه كان يفتي، فإنه كان سوى بين الأنهار، وبين الجداول عملا بإطلاق لفظ الكتاب م: (لأنه تبقى منفعته) ش: أي منفعة كري الأنهار العظام م: (في العام القابل) ش: ومنفعة

(10/303)


قال: وإن استأجرها ليزرعها بزراعة أرض أخرى فلا خير فيه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو جائز، وعلى هذا إجارة السكنى بالسكنى، واللبس باللبس، والركوب بالركوب. له أن المنافع بمنزلة الأعيان حتى جازت الإجارة بأجرة دين ولا يصير دينا بدين. ولنا أن الجنس بانفراده يحرم النساء عندنا فصار كبيع القوهي بالقوهي نسيئة، والى هذا أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجداول لا تبقى إلى العام القابل، كذا ذكره المحبوبي.
فكان المستأجر هو المنتفع بالجداول خاصة وهو واجب على المستأجر بدون الشرط، فكان شرطا يفيد العقد فلا يفسد به. وصاحب المحيط اختار القول الذي نفاه المصنف.

م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن استأجرها ليزرعها بزراعة أرض أخرى فلا خير فيه) ش: أي لا يجوز أصلا.
هكذا فسره غالب الشراح ولم يبين أحد منهم وجه العدول عن لفظه لا يجوز أو يفسد إلى هذا اللفظ إلا تاج الشريعة، فإنه قال من دأب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يذكر الأخير فيما لم يجد نصا صريحا في فساده ليكون بيان الفساد بطريق الاقتضاء لا بالإفصاح.
فإن قلت: ما وجه تفسير لا خير هل يجوز أصلا؟
قلت: لأن النفي للجنس، فإذا انتفت الخيرية من كل وجه ينتفي الجواز أصلا.
م: (وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو جائز) ش: اختلف جنس المنفعة وأنفق، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -، وعلى هذا الخلاف م: (وعلى هذا إجارة السكنى بالسكنى واللبس باللبس والركوب بالركوب) ش: بأن أجر داره ليسكنها بسكنى دار أخرى أو ثوبا ليلبسه بلبس ثوب آخر ودابة ليركبها بركوب دابة أخرى م: (له) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أن المنافع بمنزلة الأعيان حتى جازت الإجارة بأجرة دين) ش: على المؤجر ولو لم تكن المنافع بمنزلة الأعيان لكان ذلك دينا بدين، وهو لا يجوز، أشار إليه بقوله م: (ولا يصير دينا بدين) ش: أي الإجارة بأجرة دين.
م: (ولنا أن الجنس بانفراده يحرم النَّساء عندنا) ش: بفتح النون أي التأجيل م: (فصار كبيع القوهي بالقوهي نسيئة) ش: صار حكم هذه الإجارة كحكم بيع الثوب القوهي بالثوب القوهي إلى أجل. وهو بضم القاف وسكون الواو وكسر الهاء نسبة إلى قوهستان كورة من كور فارس.
وإنما لم يجز البيع هنا، لأن أحد وصفي علة الربا كاف في حرمة النساء وهو الجنس، فكذا في المنافع إذا وجد فيها الجنس يحرم م: (وإلى هذا أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي ما ذكر من الحكمين، أعني حكم استئجار الأرض لزراعتها بزراعة أرض أخرى وما أشبهها.

(10/304)


ولأن الإجارة جوزت بخلاف القياس للحاجة ولا حاجة عند اتحاد الجنس. بخلاف ما إذا اختلف جنس المنفعة
قال: وإذا كان الطعام بين رجلين فاستأجر أحدهما صاحبه أو حمار صاحبه على أن يحمل نصيبه فحمل الطعام كله فلا أجر له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحكم بيع القوهي بقوهي أشار محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ما روى ابن سماعة كتب من بلخ إلى محمد، وقال لم لا يجوز إجارة سكنى دار بسكنى دار؟ فكتب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جوابه: إنك أطلت الفكرة فأصابتك الحياة وجالست الجنائي فكانت منك ذلة، أما علمت أن إجارة سكنى دار بسكنى دار كبيع قوهي بقوهي نساء. الجنائي اسم محدث ينكر الخوض على ابن سماعة في هذه المسائل ويقول لا برهان لكم عليها.
م: (ولأن الإجارة جوزت بخلاف القياس للحاجة) ش: هذا طريق آخر في فساد الإجارة المذكورة، وهي أن الإجارة إنما شرعت على خلاف القياس لحاجة الناس م: (ولا حاجة عند اتحاد الجنس) ش: لأنه كان متمكنا من السكنى قبل ذلك العقد فلا يحصل بالعقد إلا ما كان متمكنا منه باعتبار ملكه، والكمال من باب الفصول والإجارة ما شرعت لاستيفاء الفصول م: (بخلاف ما إذا اختلف جنس المنفعة) ش: بأن استأجر ركوبا بلبوس لتحقق الحاجة فيجوز.
فإن قيل: النساء ما يكون عن اشتراط أجل في العقد، وتأخير المنفعة فيما نحن فيه ليس كذلك.
أجيب: إنهما لما أقدما على عقد يتأخر المعقود عليه فيه ويحدث شيئا فشيئا كان ذلك أبلغ في وجوب التأخير من المشروط، فألحق به دلالة احتياطا عن شبهة الحرمة، قيل فيه نظر، لأن النساء شبهة الحرم فبالإلحاق به يكون شبهة الشبهة وليس بحرمة. أجيب بأن الثابت بالدلالة كالثابت بالعبارة فبالإلحاق تثبت الشبهة لا شبهتها.
فإن قيل: قبل النساء إنما يتصور في مبادلة موجود في الحال بما ليس كذلك، وفيما نحن فيه ليس كذلك، فإن كل واحد منهما ليس بموجود بل يحدثان شيئا فشيئا.
أجيب: بأن الذي لم تصحبه الباء يقام فيه العين مقام المنفعة ضرورة تحقق المعقود عليه دون ما تصحبه لفقدانها فيه ولزوم وجود أحدهما حكما وعدم الآخر وتحقق النساء. ثم لو استوفى المنفعة عند اتحاد الجنس فعليه أجر المثل في ظاهر الرواية، لأنه استوفى المنفعة بالإجارة الفاسدة وذكر الكرخي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا شيء عليه.

[استأجره على أن يحمل نصيبه من الطعام فحمل الطعام كله]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كان الطعام بين رجلين فاستأجر أحدهما صاحبه أو حمار صاحبه على أن يحمل نصيبه فحمل الطعام كله فلا أجر له) ش: يعني: لا المسمى ولا أجر المثل.

(10/305)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له المسمى " لأن المنفعة عين عنده وبيع العين شائع جائز، فصار كما إذا استأجر دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام أو عبدا مشترك ليخيط له الثياب. ولنا أنه استأجره لعمل لا وجود له؛ لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعلى قياس قول أبي حنيفة ينبغي أن يجب أجر المثل كما في إجارة المشاع، لكن الفرق أن فساد العقد هناك للعجز عن استيفاء المعقود عليه على الوجه الذي أوجبه العقد لا لانعدام الاستيفاء أصلا " وهنا البطلان لتعذر الاستيفاء أصلا وبدون الاستيفاء لا يجب الأجر في العقد الفاسد.
وقال الكرخي في " مختصره ": قال ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن الطعام بين رجلين ولأحدهما سفينة فأراد أن يخرجا بالطعام من بلدهما إلى بلد آخر فاستأجر أحدهما نصف سفينة صاحبه بحصته بعشرة دراهم فهو جائز، وكذلك لو أراد أن يطبخ الطعام فاستأجر نصف الرحى الذي لشريكه، قال وكذلك لو استأجر منه نصف جواليقه هذا ليحمل فيها هذا ليحمل فيها هذا الطعام إلى مكة فهو جائز.
ولو استأجر عبد صاحبه أو دابة صاحبه أو دابة عبد صاحبه ليحمل، أو استأجر العبد ليحفظ الطعام وهو استأجر العبد والدابة كله أو نصفه فإن ذلك لا يجوز. فإن حمل على الدابة فلا أجر له. ثم قال الكرخي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكل شيء استأجر من صاحبه، مما يكون عملا فإنه لا يجوز، وإن عمله فلا أجر له، وكل شيء ليس يكون عملا استأجر أحدهما من صاحبه فهو جائز.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له المسمى، لأن المنفعة عين عنده وبيع العين شائع جائز) ش: وبه قال أحمد م: (فصار كما إذا استأجر دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام أو عبدا مشتركا ليخيط له الثياب) ش: حيث يجب الأجر.
م: (ولنا أنه استأجره) ش: أي أن أحد الشريكين استأجر الآخر م: (لعمل لا وجود له) ش: فصار كإجارة ما لا منفعة له.
قيل: هذا ممنوع بل لعمله وجود، وإلا يلزم أن الحصة التي لشريكه لا وجود لها لكونها شائعة، ولو كان ذلك صحيحا لكانت حصته أيضا لا وجود لها لكونها شائعة، وهذا من نوع السفسطة وإن كان الحقائق، وفيه نظر، لأن معنى قوله وجود له لا يتميز وجوده، ومنكر هذا منكر الحقائق م: (لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع) ش: إذ الحمل يقع على معين، والشائع ليس بمعين وهذا ضرب النصب الشائع في العبد المشترك لا يتصور.
وكذا وطء الجارية المشركة لا يتصور. وكذا وطء الجارية المشتركة في النصيب الشائع لعدم تصور الفعل الحسي في الشائع.

(10/306)


بخلاف البيع؛ لأنه تصرف حكمي، وإذا لم يتصور تسليم المعقود عليه لا يجب الأجر. ولأن ما من جزء يحمله إلا وهو شريك فيه فيكون عاملا لنفسه فلا يتحقق التسليم، بخلاف الدار المشتركة؛ لأن المعقود عليه هنالك المنافع، ويتحقق تسليمها بدون وضع الطعام. وبخلاف العبد؛ لأن المعقود عليه إنما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلنا: إذا حمل الكل فقد حمل البعض لا محالة، فيجب الأجر.
قلت: حمل الكل حمل المعين ونصيبه ليس بمعين فيما وجد نصيبه.
م: (بخلاف البيع) ش: جواب عن قياس الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على البيع، فأجاب بأن البيع ليس كذلك م: (لأنه تصرف حكمي) ش: أي شرعي، والتصرف في الشائع شرعا كما إذا باع أحد الشريكين نصيبه م: (وإذا لم يتصور تسليم المعقود عليه لا يجب الأجر) ش: لأن الأجر يترتب على ذلك.
م: (ولأن ما من جزء يحمله) ش: دليل آخر على المطلوب وجهه أن حامل الشيء ما يحمل من جزئه م: (إلا وهو شريك فيه) ش: وكل من حمل شيئا كان شريكا فيه م: (فيكون عاملا لنفسه) ش: ومن كان عاملا لنفسه م: (فلا يتحقق التسليم) ش: منه فلا يستحق أجرا على غيره.
فإن قيل: لا يخلو من أنه عامل لنفسه فقط، أو عامل لنفسه ولغيره فالأول ممنوع فإنه شريك والثاني حق، لكن عدم استحقاقه الأجر على فعله لنفسه لا يستلزم عدمه بالنسبة إلى ما وقع لغيره.
أجيب: أنه عامل لنفسه فقط؛ لأن عمله لنفسه فقط أصل وموافق للقياس، وعمله لغيره ليس بأصل بل يتأتى على أمر مخالف للقياس للحاجة، وهي تندفع بجعله عاملا لنفسه لحصول مقصود المستأجر، فاعتبر جهة كونه عاملا لنفسه فقط فلم يستحق الأجر.
فإن قيل: المحمول مشترك فينبغي أن يكون الحمل كذلك.
أجيب: بأن وقوع الحمل مشتركا محال لأنه عوض يتجزأ.
م: (بخلافه الدار المشتركة) ش: جواب عن قياس الخصم على استئجار الدار المشتركة فقال: م: (لأن المعقود عليه هنالك المنافع) ش: أي منافع الدار والبدل بمقابلتها ولا شركة له في ذلك. م (ويتحقق تسليمها بدون وضع الطعام) ش: فإنه إذا تسلم البيت ولم يضع فيه الطعام أصلا وجب عليه الأجر بخلاف الحمل، فان المعقود عليه هو العمل، وتسليمه في الشائع لا يتحقق كما مر.
م: (وبخلاف العبد) ش: جواب عن قياس على استئجار العبد المشترك، ووجهه أن المستأجر للعبد المشترك يملك منفعة نصيب صاحبه، وهو معنى قوله م: (لأن المعقود عليه إنما هو

(10/307)


ملك نصيب صاحبه، وأنه أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع. ومن استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها أو أي شيء يزرعها فالإجارة فاسدة؛ لأن الأرض تستأجر للزراعة ولغيرها. وكذا ما يزرع فيها مختلف فمنه ما يضر بالأرض وما لا يضر بها غيره فلم يكن المعقود عليه معلوما. فإن زرعها ومضى الأجل فله المسمى، وهذا استحسان. وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه وقع فاسدا. فلا ينقلب جائزا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ملك نصيب صاحبه) ش: وفي بعض النسخ ملك صاحبه.
م: (وأنه) ش: أي ملك نصيب صاحبه م: (أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع) ش: كما في البيع، بخلاف الحمل، لأنه فعل حسي.

[استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها]
م: (ومن استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها) ش: أي استأجرها للزراعة ولم يبين م: (أو أي شيء يزرعها) ش: من أنوع الحبوب م: (فالإجارة فاسدة) ش: بجهالة المعقود عليه وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - في الصورتين، وكان له أن يفعل في الأول ما يشبهه من البناء والغرس، والزرع، فإن أشبه الجميع وكان بعضه بالأرض من بعض لم يصح العقد.
وفي الثاني وهو أن يذكر الزرع صح العقد ولا يزرع إلا ما يشبهه، ذكره في الجواهر. أما لو استأجرها ليزرع فيها ما شاء أو يغرس ما شاء يجوز بالإجماع. ولو قال لتزرعها ما شئت وتغرسها ما شئت صح أيضا وهو المنصوص عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وخالفه أكثر صحبه.
وقالوا: لا يجوز لأنه لا يدرك كم يزرع وكم يغرس. وقال بعضهم يصح ويغرس نصفها ويزرع نصفها م: (لأن الأرض تستأجر للزراعة ولغيرها) ش: نحو البناء والغرس وحفظ الأمتعة ونحوها. م: (وكذا ما يزرع فيها مختلف فمنه) ش: أي مما يزرع م: (ما يضر بالأرض وما لا يضر بها غيره) ش: كالدرة والدرزقان ضررهما بالأرض أكثر من ضرر الحنطة والشعير، ومنه ما لا يضر كالقطن والبطيخ م: (فلم يكن المعقود عليه معلوما) ش: فيفسد العقد للجهالة.
م: (فإن زرعها) ش: أي الأرض نوعا من أنوع الزراعة في المسألة المذكورة م: (ومضى الأجل) س: المضروب فيها م: (فله المسمى) ش: أي فللمولى ما سمي عند العقد م: (وهذا) ش: أي وجوب المسمى لانقلاب العقد صحيحا.
م: (استحسان. وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والشافعي وأحمد م (لأنه) ش: أي العقد م: (وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا) ش: فيجب أجر المثل.
م: (وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت) س: بوقوع ما وقع فيها من الزرع م: (قبل تمام العقد) ش: ينقض القاضي م: (فينقلب جائزا) ش: لأن الإجارة عقد يعقد للاستقبال، فإذا شهد المزروع في بعض المدة وعرف أنه ضار وليس بضار فقد ارتفعت الجهالة المفضية إلى النزاع في ذلك الوقت.

(10/308)


وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد فينقلب جائزا كما إذا ارتفعت في حالة العقد، وصار كما إذا اسقط الأجل المجهول قبل مضيه والخيار الزائد في المدة.
ومن استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم ولم يسم ما يحمل عليه فحمل ما يحمل الناس فنفق في بعض الطريق فلا ضمان عليه؛ لأن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر وإن كانت الإجارة فاسدة، فإن بلغ إلى بغداد فله الأجر المسمى استحسانا على ما ذكرنا في المسألة الأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كما إذا ارتفعت في حالة العقد) ش: لأن كل جزء منه بمنزلة ابتدائه. ولو ارتفعت من الابتداء جاز فكذا هنا م: (وصار كما إذا اسقط الأجل المجهول قبل مضيه) ش: بأن باع إلى الحصاد والدياس فأسقط الأجل قبل أوان الحصاد والدياس م: (والخيار الزائد في المدة) ش: بأن شرط الخيار أربعة أيام مثلا ثم أسقط اليوم الرابع قبل هذا رد المختلف على المختلف، فإن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقل بالانقلاب إلى الجواز لا هنا ولا هناك.
أجيب: بأنه لما أثبت ذلك بدليله فيما تقدم ذكره هنا بطريق مبادئ فيكون مثل الإيضاح لما وقع الكلام فيه من المقيس فيه، وإن كان هو مختلفا في نفسه.
وقيل: هذا تكرار، لأنه ذكر في الأول باب ما يجوز من الإجارة، ويجوز استئجار الأراضي للزراعة ولا يصح العقد حتى يسمى ما يزرع فيها.
أجيب: بأن ذلك وضع القدوري وهذا وضع الجامع الصغير يشتمل على زيادة فائدة، وهي قوله: وإن زرعها ومضى الأجل فله المسمى وفيه نظر؛ لأن اختلاف الوضعين لا ينبغي التكرار في حكم واحد وكان ينبغي ذكر الفائدة الزائدة هناك.

[استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم فحمل ما يحمل الناس فنفق]
م: (ومن استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم ولم يسم ما يحمل عليه فحمل ما يحمل الناس فنفق) ش: أي الحمار أي هلك م: (في بعض الطريق فلا ضمان عليه، لأن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر) ش: لأنه قبضها بإذن المالك م: (وإن كانت الإجارة فاسدة) ش: حرف إن واصلة بما قبله. لأن حكم الفاسد يؤخذ من الصحيح، ولا يعلم خلاف بأن هذه الإجارة فاسدة، والفاسدة في حكم الصحيحة في أن العين المستأجرة أمانة فلا يضمن بلا تعد، وإنما قيد بقوله حمل ما يحمله الناس، وأراد به الحمل المعتاد لأنه إذا حمل غير المعتاد فهلك الحمار يجب أن يضمن، وإنما لم يجب الضمان في الحمل ألمعتاد لعدم المخالفة؛ لأن مطلق الإذن ينصرف إلى المعتاد ولم يتعد المعتاد.
م: (فإن بلغ إلى بغداد فله الأجر المسمى استحسانا على ما ذكرنا في المسألة الأولى) ش: وهو قوله وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد، فإنه لما حمل عليه ما يحمل الناس من

(10/309)


وإن اختصما قبل أن يحمل عليه. وفي المسألة الأولى قبل أن يزرع نقضت الإجارة دفعا للفساد إذ الفساد قائم بعد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحمل فقد تعين الحمل وارتفعت الجهالة المفضية إلى النزاع، فانقلب إلى الجواز ووجب المسمى. وفي القياس يجب أجر المثل وهو قول زفر والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وإن اختصما قبل أن يحمل عليه) ش: أي على الحمار م: (وفي المسألة الأولى قبل أن يزرع) ش: أي واختصما في المسألة الأولى وهي ما إذا استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها ... إلى آخره.
م: (نقضت الإجارة دفعا للفساد، إذ الفساد قائم بعد) ش: أي فساد العقد باق وثابت بعد الإجارة قبل الحمل على الحمار وقبل الزراعة في الأرض قال دفعا للفساد بالدال. ولو قال رفعا للفساد بالراء كان أولى لأن الفساد قائم يحتاج إلى الرفع، والدفع لا يكون إلا في غير القائم فافهم.

(10/310)