البناية شرح الهداية

باب ضمان الأجير قال: الأجراء على ضربين، أجير مشترك وأجير خاص، فالمشترك من لا يستحق الأجرة حتى يعمل كالصباغ والقصار لأن المعقود عليه إذا كان هو العمل أو أثره، كان له أن يعمل للعامة؛ لأن منافعه لم تصر مستحقة لواحد فمن هذا الوجه يسمى أجيرا مشتركا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب ضمان الأجير]
[ضمان الأجير المشترك]
م: (باب ضمان الأجير) ش: الأجير على وزن فعيل لكن بمعنى فاعل، أي آجر. قال الأترازي: فعيل بمعنى مفاعل من باب أجر، واسم الفاعل منه مؤجر.
قلت: هذا غلط؛ لأن فعيلا بمعنى فاعل لا يكون إلا من الثاني، وكيف يقول بمعنى مفاعل من باب أجره يعني به من المزيد بدليل قوله واسم الفاعل منه مؤجر.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الأجراء على ضربين) ش: الأجراء على وزن فعلاء جمع أجير، قيل: هذا انقسام الشيء إلى نفسه وهو باطل.
أجيب: بأن الانقسام إذا دخل على الجمع ولا معهود يبطل معنى الجمع، فيكون الجنس فيصح الانقسام م: (أجير مشترك) ش: وسؤال عن وجه تقديمه على الخاص دوري م: (وأجير خاص) ش: أي والثاني أجير خاص م: (فالمشترك من لا يستحق الأجرة حتى يعمل كالصباغ والقصار) ش: قيل: هذا التعريف دوري، لأنه لا يعلم من لا يستحقها قبل العمل حتى يعلم الأجير المشترك فيكون معرفة المعروف موقوفة على معرفة المعرف وهو الدور.
أجيب: بأنه قد علم مما سبق في باب الأجرة متى تستحق أن بعض الأجراء يستحق الأجرة بالعمل فلم يتوقف معرفته على معرفة معرف. وقال الكاكي: هذا تعريفه بالأجلى الأشهر.
قلت: بل هو تعريف بالمساوي على ما لا يخفى. قيل: قوله من لا يستحق الأجرة حتى يعمل مفرد، والتعريف بالمفرد لا يصح عند أكثر المحققين. أجيب: بأن قوله كالقصار، الصباغ منضم إليه فصار تعريفا بالمثال وهو صحيح. قيل: فيه نظر؛ لأن قوله: لأن المعقود عليه ينافي ذلك؛ لأن التعليل على التعريف غير صحيح.
قلنا: هذا من التعريفات اللفظية فلا يحتاج إلى هذه التكلفات.
م: (لأن المعقود عليه إذا كان هو العمل) ش: هو القصارة م: (أو أثره) ش: أي أو أثره، أي أثر العمل كالصبغ م: (كان له أن يعمل للعامة؛ لأن منافعه لم تصر مستحقة لواحد، فمن هذا الوجه) ش: أي من حيث إن منافعه لم تصر مستحقة لواحد م: (يسمى أجيرا مشتركا) ش: بين الناس غير مخصوص لواحد بعينه.

(10/311)


قال: والمتاع أمانة في يده، فإن هلك لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويضمنه عندهما إلا من شيء غالب كالحريق الغالب والعدو المكابر. لهما ما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك، ولأن الحفظ مستحق عليه إذ لا يمكنه العمل إلا به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: والمتاع أمانة في يده، فإن هلك لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والحسن بن زياد والشافعي في قول، وأحمد في رواية وإسحاق والمزني.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ويضمنه عندهما) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، ومالك وابن أبي ليلى وعطاء وطاووس ومجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا من شيء غالب كالحريق الغالب والعدو المكابر) ش: لأن الحفظ عنه غير واجب فلا يضمن لعدم الجناية والتقصير.
م: (لهما ما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك) ش: روى البيهقي من طريق الشافعي أخبرنا إبراهيم بن يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أنه كان يضمن الصباغ والصائغ وقال: لا يصلح للناس إلا ذلك ".
وروي عن خلاس عن على - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يضمن الأجير. قال البيهقي: الأول فيه انقطاع يعني بين أبي جعفر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والثاني يضعفه أهل الحديث ويقولون أحاديث خلاس عن علي من كتاب. واستدل ابن الجوزي في " التحقيق " على أنه لا ضمان على الأجير المشترك بما رواه الدارقطني حدثنا الحسين بن إسماعيل ثنا عبد الله بن شبيب حدثني إسحاق بن محمد ثنا يزيد بن عبد الملك عن محمد بن عبد الرحمن الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضمان على مؤتمن» وقال صاحب التنقيح: هذا إسناد لا يعتمد عليه ويزيد بن عبد الملك ضعفه أحمد وغيره. وقال النسائي: متروك الحديث وعبد الله بن شبيب ضعفوه.
م: (ولأن الحفظ مستحق عليه) ش: أي واجب م: (إذ لا يمكنه العمل إلا به) ش: أي بالحفظ.

(10/312)


فإذا هلك بسبب يمكن الاحتراز عنه كالغصب والسرقة كان التقصير من جهته فيضمنه كالوديعة إذا كانت بأجر، بخلاف ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت حتف أنفه والحريق الغالب وغيره؛ لأنه لا تقصير من جهته، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العين أمانة في يده؛ لأن القبض حصل بإذنه، ولهذا لو هلك بسبب لا يمكن الاحتراز عنه لا يضمنه. ولو كان مضمونا يضمنه كما في المغصوب، والحفظ مستحق عليه تبعا لا مقصودا، ولهذا لا يقابله الأجر، بخلاف المودع بالأجر؛ لأن الحفظ مستحق عليه مقصودا حتى يقابله الأجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[هلاك العين المؤجرة بسبب يمكن الاحتراز عنه]
م: (فإذا هلك بسبب يمكن الاحتراز عنه كالغصب والسرقة كان التقصير من جهته فيضمنه كالوديعة إذا كانت بأجر) ش: لأنه صار بالتقصير تاركا ذلك الحفظ المستحق فيضمن، فصار مثل الدق، فالمستحق بالعقد دق سليم عن عيب التحرق، فإذا انحرق كان ضامنا م: (بخلاف ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت حتف أنفه والحريق الغالب وغيره) ش: مثل بسيل الغالب والفار على بلد هو فيه م: (لأنه لا تقصير من جهته) ش: فلم يكن متعديا فلا يضمن.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العين أمانة في يده، لأن القبض حصل بإذنه) ش: لإقامة العمل فيه فلا يكون مضمونا عليه كالمودع وأجير الواحد م: (ولهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لو هلك بسبب لا يمكن الاحتراز عنه لا يضمنه ولو كان مضمونا) ش: يعني ولو كان المتاع مضمونا في يده م: (يضمنه كما في المغصوب) ش: أي كما يضمن في المغصوب في الحالين م: (والحفظ مستحق عليه تبعا) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: الاعتبار غير صحيح، لأن ما نحن فيه الحفظ مستحق عليه تبعا م: (لا مقصودا) ش: أي غير معقود عليه، لكنه وسيلة إليه وذلك، لأن العقد وارد على العمل لكونه أجيرا مشتركا، والحفظ ليس بمقصود أصلي بل لإقامة العمل، فكان تبعا فلم يكن مقصودا م: (ولهذا) ش: أي ولكون الحفظ مستحقا عليه تبعا لا مقصودا م: (لا يقابله الأجر) ش: أي لا يقابل الحفظ الأجر.
م: (بخلاف المودع بالأجر، لأن الحفظ مستحق عليه مقصودا) ش: لأن المقصود بالذات هو الحفظ م: (حتى يقابله الأجر) ش: أي حتى يقابل الحفظ فيها مقصودا بخلاف الأجير المشترك، فإن المقصود فيه العمل فلا يكون عقد معاوضة فلا يقتضي السلامة.
قيل: هذه المسألة مختلفة بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فلهذا اختار المتأخرون الفتوى بالصلح على النصف، لأن فيه عملا بأقوال الصحابة وفيه نظر، لأن هذا قول خارج عن أقوال الصحابة وترك للعمل بأقوالهم أن الصحابة اختلفوا على القولين لا غير إما الضمان أو عدم الضمان.
وفي " الخلاصة ": بعض العلماء أفتوا بقولهما، وأئمة سمرقند أفتوا بالصلح على

(10/313)


قال: وما أتلف بعمله كتخريق الثوب من دقه وزلق الحمال وانقطاع الحبل الذي يشد به المكاري الحمل وغرق السفينة من مده مضمون عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النصف. وكان الإمام المرغيناني يفتي بقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقيل له: من قال بالصلح هل يجبر لو امتنع؟، قال: لا. وقال: كنت أفتي زمانا بالصلح فرجعت لهذا، القاضي الإمام قاضي خان يفتي بقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال تاج الشريعة: ذكر الفقيه أبو الليث أن الفتوى على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم عندهما إن شاء المالك ضمنه المقصور وأعطى الأجرة غير مقصورة ولا أجر له.
م: (قال: وما أتلف بعمله) ش: أي بعمل الأجير المشترك م: (كتخريق الثوب من دقه وزلق الحمال وانقطاع الحبل الذي يشد به المكاري الحمل، وغرق السفينة من مده) ش: من مد الملاح السفينة، فالمصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل مطوي ذكره، والغرق بفتح الراء مصدر غرق في الماء إذا غار.
م: (مضمون عليه) ش: أي على الأجير المشترك، ورفع مضمون على أنه خبر المبتدأ وهو قوله وما به. قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول: وروي ذلك عن عمر وعبيد الله بن عتبة وشريح والحسن والحكم.
وقال الكرخي في " مختصره ": وأجمع أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى أنه مضمون بالعمل الذي يأخذ عليه الأجر فيضمن القصار ما تحرق في دقه أو من عده أو من غمزه أو من بسطه.
وكذلك الصباغ في ذلك كله. ويضمن أيضا في طبخ الثوب إذا كان مما يطبخ، وكذلك الملاح يضمن ما كان في مدة أو خدمة أو ما يعالج به السفينة للمسيرة. وكذلك الحمال إذا أسقط ما حمله من رأسه أو يده أو عثر فسقط ما معه فإنه يضمن ذلك كله، وكذلك المكاري إذا كان من سوقه أو من قوده وانقطع الحبل الذي شده على المتاع وفسد كل هؤلاء يضمنون ما يفسد به المتاع من فساد يلحقه منه عند حمله سفينة أو بسوقه لدابة عليها المتاع أو قوده.
وقال حماد بن أبي سليمان وزفر والحسن بن زياد: هو مؤتمن في ذلك لم يضمن إلا إن تعدى.
وفي " التحفة " وإن تخرق بدق أجير القصار لا ضمان عليه، ولكن يجب الضمان على الإسناد. وفي " شرح الكافي ": ولو وطئ الأجير على ثوب القصار مما لا يوطأ فخرقه كان ضمانه عليه.

(10/314)


وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا ضمان عليه؛ لأنه أمره بالفعل مطلقا فينتظمه بنوعيه المعيب والسليم وصار كأجير الواحد ومعين القصار. ولنا أن الداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد وهو العمل المصلح؛ لأنه هو الوسيلة إلى الأثر وهو المعقود عليه حقيقة. حتى لو حصل بفعل الغير يجب الأجر فلم يكن المفسد مأذونا فيه. بخلاف المعين؛ لأنه متبرع فلا يمكن تقييده بالمصلح؛ لأنه يمتنع عن التبرع، وفيما نحن فيه يعمل بالأجر فأمكن تقييده. وبخلاف الأجير الواحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وانقطاع الحبل من قلة اهتمامه فكان من صنيعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا ضمان عليه) ش: قال الربيع هذا مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروي ذلك عن عطاء وطاووس م: (لأنه أمره) ش: أي لأن صاحب المتاع من الأجير المشترك م: (بالفعل مطلقا) ش: بأن استأجره ليدق الثوب ولم يرد على ذلك ما يدل على السلامة.
م: (فينتظمه بنوعيه) ش: أي فينتظم المطلق بنوعي الفعل م: (المعيب والسليم) ش: بالجر فيهما على أنه عطف بيان أو بدل، ويجوز الرفع فيهما على تقدير أحدهما المعيب والآخر السليم م: (وصار كأجير الواحد ومعين القصار) ش: حيث لا ضمان عليهما.
م: (ولنا أن الداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد وهو العمل المصلح) ش: وفي بعض النسخ الصالح م: (لأنه هو الوسيلة إلى الأثر) ش: الحاصل في العين من فعله م: (وهو المعقود عليه حقيقة) ش: لكونه هو المقصود م: (حتى لو حصل بفعل الغير يجب الأجر) ش: وإذا كان كذلك كان الأمر مقيدا بالسلامة م: (فلم يكن المفسد) ش: من العمل م: (مأذونا فيه) ش: كما لو وصف نوعا من الدق فجاءه بنوع آخر.
م: (بخلاف المعين) ش: أي معين القصار م: (لأنه متبرع فلا يمكن تقييده) ش: أي تقييد عمله م: (بالمصلح، لأنه يمتنع عن التبرع وفيما نحن فيه يعمل بالأجر فأمكن تقييده) ش: أي بالمصلح قبل الملتزم أن يلتزم جواز الامتناع عن التبرع فيما يحصل به المضرة لغير من تبرع له.
ولو علل بأن التبرع بالعمل بمنزلة الهبة وهي لا تقتضي السلامة كان أسلم م: (وبخلاف الأجير الواحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: أي أجير المستأجر الواحد، وسيأتي في آخر الباب.
م: (وانقطاع الحبل) ش: جواب عما عسى أن يقال انقطاع الحبل ليس من صنع الأجير، فما وجه ذكره من جملة ما تلف بعمله، فأجاب بقوله: م: (من قلة اهتمامه فكان من صنيعه) ش: أراد أنه إنما انقطع من قلة افتقاده كل ساعة، لأنه ربما ينحل انبرامه أو يبلى من كثرة الاستعمال ولا

(10/315)


قال: إلا أنه لا يضمن به بني آدم ممن غرق في السفينة أو سقط من الدابة وإن كان بسوقه وقوده؛ لأن الواجب ضمان الآدمي وأنه لا يجب بالعقد، وإنما يجب بالجناية، ولهذا يجب على العاقلة وضمان العقود لا تتحمله العاقلة. قال: وإذا استأجر من يحمل له دنا من الفرات فوقع في بعض الطريق فانكسر فإن شاء ضمنه قيمته في المكان الذي حمله ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته في الموضع الذي انكسر وأعطاه أجره بحسابه أما الضمان فلما قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يهون عليه تجديده وتبديله بأقوى منه م: (قال: إلا أنه) ش: استثناء من قوله مضمون، أي إلا أن الأجير المشترك م: (لا يضمن به) ش: أي بفعله م: (بني آدم ممن غرق في السفينة أو سقط من الدابة وإن كان بسوقه وقوده) ش:
قيل: إذا كان يستمسك على الدابة ويركب وحده وإلا فهو كالمتاع، والصحيح أنه لا فرق.
وكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الوضيع، وكذا ذكره التمرتاشي. وفي " الاختيار ": ولو غرقت في موج أو ريح أو صدم جبل أو زوحم الجمال فلا ضمان عليهم، لأنهم لا فعل لهم في ذلك م: (لأن الواجب ضمان الآدمي وأنه) ش: أي ضمان الآدمي م: (لا يجب بالعقد، وإنما يجب بالجناية، ولهذا يجب على العاقلة وضمان العقود لا تتحمله العاقلة) ش: لأنهم لا يتحملون إلا ضمان الجنايات.

[استأجر من يحمل له دنا فوقع في بعض الطريق فانكسر]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا استأجر من يحمل له دنا من الفرات فوقع في بعض الطريق فانكسر فإن شاء ضمنه قيمته) ش: أي قيمة الدن م: (في المكان الذي حمله ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته في الموضع الذي انكسر وأعطاه أجره بحسابه) ش: قال السغناقي إنما وضع المسألة في الفرات، لأن الدنان الجديدة كانت تباع هنالك، قيد بقوله في بعض الطريق، لأنه لو انكسر بعدما انتهى إلى المكان المشروط من جناية يده فلا ضمان عليه وله الأجر. وكذا نقل الإمام صاعد النيسابوري، كذا في " المبسوط ".
وقوله: فانكسر ليس بقيد، فإنه لو كسره عمدا فالحكم كذلك عندنا. وعند زفر والشافعي - رحمهما الله - إن انكسر لا ضمان عليه لما قلنا.
وإن كسره يضمن قيمته في المكان الذي كسره ويعطيه أجر ما حمل. في شرط الطحاوي فلو زحمه الناس حتى انكسر فإنه لا يضمن بالإجماع، لأن ذلك بمنزلة الخرق الغالب والغرق الغالب، ولو أنه هو الذي زحم الناس حتى انكسر فإنه يضمن بالإجماع.
م: (أما الضمان فلما قلنا) ش: أنه أجير مشترك وقد تلف المتاع بصنعه فيضمن، وفي " شرح الطحاوي " والراعي بمنزلة الأجير المشترك إذا كان يرعى للعامة فما تلف من سوقه وضربه إياها بخلاف العادة فإنه يضمن، لأنه من جناية يده. وإذا ساق الدواب على السرعة، فإذا

(10/316)


والسقوط بالعثار أو بانقطاع الحبل وكل ذلك من صنيعه. وأما الخيار فلأنه إذا انكسر في الطريق والحمل شيء واحد تبين أنه وقع تعديا من الابتداء من هذا الوجه. وله وجه آخر وهو أن ابتداء الحمل حصل بإذنه فلم يكن من الابتداء تعديا عند الكسر فيميل إلى أي الوجهين شاء. وفي الوجه الثاني له الأجر بقدر ما استوفى. وفي الوجه الأول لا أجر له؛ لأنه ما استوفى عمله أصلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زحمت على القنطرة ودفعت بعضها بعضا فسقطت إلى الماء وعطبت فإنه يضمن، لأنه من جناية يده. ولو أن رجلا قال: استأجرتك لترعى غنمي خاصة مدة معلومة فهذا أجير الواحد.
وفي " الفتاوى الصغرى ": الراعي إذا كان مشتركا لا يجب عليه رعي الأولاد التي تحدث فإن شرط عليه في أصل العقد يجب عليه رعي الأولاد م: (والسقوط بالعثار) ش: أي سقوط الحامل يحصل بالعثار م: (أو بانقطاع الحبل، وكل ذلك من صنيعه وأما الخيار فلأنه إذا انكسر في الطريق والحمل شيء واحد) ش: أي والحال أن الحمل شيء واحد حكما إذ الحمل المستحق بالعقد ما ينتفع به وهو أن يجعله محمولا إلى موضع بعينه م: (تبين أنه وقع تعديا من الابتداء) ش: أي من ابتداء العقد م: (من هذا الوجه) ش: يتعلق بقوله وقع تعديا، وأراد به الوجه الذي ذكره وهو أن الحمل شيء واحد فيكون انكساره في الطريق كانكساره ابتداء.
م: (وله وجه آخر) ش: أي لوجوب الضمان وجه آخر. م: (وهو أن ابتداء الحمل حصل بإذنه فلم يكن من الابتداء تعديا) ش: لأن ابتداءه به في الحقيقة سليم م: (وإنما صار تعديا عند الكسر) ش: أراد أنه كان في الابتداء غير متعد، فلما كسره ظهر أنه متعد، ولكن ما كان ظهوره إلا عند الكسر، فإذا كان جهة الضمان دائر بين الأمرين م: (فيميل إلى أي الوجهين شاء) .
م: (وفي الوجه الثاني) ش: وهو ما إذا شاء تضمين قيمته في المكان الذي انكسر م: (له الأجر بقدر ما استوفى، وفي الوجه الأول) ش: وهو ما إذا شاء تضمين قيمته في المكان الذي حمله م: (لا أجر له، لأنه ما استوفى عمله أصلا) ش: فالوجه الأول وجه حكمي.
فلهذا قلنا: إنه ليس يجمع بين الأجر والضمان، لأنهما لا يجتمعان عنده إذا كانا في حالة واحدة، وقد اختلفت الحالة هنا، لأنه في الوجه الثاني جعل المتاع أمانة عنده من حيث حمل إلى أن كسر والأجر يجب في حالة الأمانة، وإنما صار مضمونا في حالة الكسر وهذه حالة أخرى.
فإن قلت: كان ينبغي أن لا يخير عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكن يضمن قيمته في المكان الذي انكسر، لأن المال أمانة عند الأجير المشترك عنده، وإذا كان أمانة وجب أن لا يضمن قيمته في المكان الذي حمله منه.

(10/317)


قال: وإذا فصد الفصاد أو بزغ البزاغ ولم يتجاوز الموضع المعتاد فلا ضمان عليه فيما عطب من ذلك وفي " الجامع الصغير " بيطار بزغ دابة بدانق فنفقت، أو حجام حجم عبدا بأمر مولاه فمات فلا ضمان عليه، وفي كل واحد من العبارتين نوع بيان. ووجهه أنه لا يمكنه التحرز عن السراية؛ لأنه يبتنى على قوة الطبائع وضعفها في تحمل الألم فلا يمكن التقييد بالمصلح من العمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا ليس كذلك على الإطلاق، ولكن القبض يقع على وصف التوقف عنده، فإن ظهر بصنعه ظهر أنه كان مضمونا عليه، فجاز أن يكون له الخيار.

[فصد الفصاد أو بزغ البزاغ ولم يتجاوز الموضع المعتاد]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا فصد الفصاد أو بزغ البزاغ) ش: فصد من باب ضرب يستعمل في الآدمي، وبزغ من باب فتح يستعمل في الحيوان يقال بزغ البيطار الدابة إذا شقها بالمبزاغ وهو مثل مشرط الحجام، ومادته باء موحدة وزاي وغين معجمتان م: (ولم يتجاوز الموضع المعتاد فلا ضمان عليه فيما عطب من ذلك) ش: أي فيما هلك، ولا يعلم فيه خلاف.
قيد بقوله ولم يتجاوز الموضع المعتاد، لأنه إذا تجاوز الموضع المعتاد يضمن. وقال صاحب " الاختيار ": ولا ضمان على الفصاد والبزاغ، إلا أن يتجاوز الموضع المعتاد، لأنه إذا فعل المعتاد لا يمكنه الاحتراز عن السراية، لأنه ينبي على قوة المزاج وضعفه، وذلك غير معلوم فلا يتقيد فيه.
بخلاف دق الثوب، لأن رقته وثخانته تعرف لأهل الخبرة فيتقيد بالصلاح. وفي " الفتاوى الصغرى " و" التتمة ": إذا شرط على الحجام والبزاغ العمل على وجه لا يسري لا يصح هذا الشرط، لأنه ليس في وسعه ذلك. ولو شرط على القصار العمل على وجه لا ينخرق صح، لأنه وسعه ذلك.
م: (وفي " الجامع الصغير " بيطار بزغ دابة بدانق فنفقت) ش: أي هلكت م: (أو حجام حجم عبدا بأمر مولاه فمات فلا ضمان عليه) ش: إنما أعاد المسألة المذكورة بينهما على مزيد فائدة المار إليها بقوله م: (وفي كل واحد من العبارتين نوع بيان) ش: أراد بهما عبارة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبارة " الجامع الصغير ".
وأراد بنوع بيان من القدوري أنه ذكر عدم التجاوز عن الموضع المعتاد، ويفيد أنه إن تجاوز ضمن، وبنوع بيان من " الجامع الصغير " أنه بين الأجرة، وكون الحجامة بأمر المولى والهلاك، ويفيد أنه إذا لم يكن بأمره يضمن.
م: (ووجهه) ش: أي وجه عدم الضمان م: (أنه لا يمكنه التحرز عن السراية، لأنه يبتنى على قوة الطبائع وضعفها في تحمل الألم فلا يمكن التقييد بالمصلح من العمل) ش: لئلا يتقاعد الناس عنه

(10/318)


ولا كذلك دق الثوب ونحوه مما قدمناه؛ لأن قوة الثوب ورقته تعرف بالاجتهاد، فأمكن القول بالتقييد. قال: والأجير الخاص الذي يستحق الأجرة بتسليم نفسه في المدة وإن لم يعمل، كمن استؤجر شهرا للخدمة أو لرعي الغنم، وإنما سمي أجير واحد؛ لأنه لا يمكنه أن يعمل لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مع مساس الحاجة م: (ولا كذلك دق الثوب ونحوه مما قدمناه) ش: أشار به إلى قوله، لأن الاحتراز عن التحريق بالدق ممكن ليمكن التقييد بالمصلح م: (لأن قوة الثوب ورقته تعرف بالاجتهاد فأمكن القول بالتقييد) ش: بالمصلح.
وفي بعض النسخ ودقته بالدال، وكلاهما بمعنى واحد، ثم إذا تجاوز المعتاد يضمن، ولم يبين قدر ذلك الضمان على تقدير الحياة أو الموت كم هو؟ قيل: ذلك بحسب قدر التجاوز حتى إن الختان لو ختن فقطع الحشفة ينظر إن برئ فعليه كمال دية النفس وإن مات فعليه نصف الدية.
وهذا من العجب إذ هو مخالف لجميع مسائل الديات، فإنه كلما زاد أثر جنايته انتقص ضمانه وينبغي أن يزداد ضمانه، كما في قطع اليد وقتله خطأ، وقد ذكر السرخسي في " مبسوطه " فقال محمد في " النوادر ": أنه لما برئ كان عليه ضمان الحشفة وهي عضو مقصود لا ثاني له في النفس، فيتقدر بدله ببدل النفس كما في قطع اللسان.
ولو مات حصل تلف النفس بفعلين أحدهما مأذون فيه وهو قطع الجلد والآخر غير مضمون وهو قطع الحشفة فعليه نصف بدل النفس لذلك.
فإن قيل: التنصيف بالبدل يعتمد التساوي في السبب وقد انتفى، لأن قطع الحشفة أشد إفضاء إلى التلف من قطع الجلدة لا محالة، فكان كقطع اليد مع حر الرقبة.
أجيب: بأن كل واحد يحتمل أن يقع إتلافا وأن لا يقع، والتفاوت غير مضبوط فكان هذا بخلاف الحر، فإنه لا يحتمل أن لا يقع إتلافا.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والأجير الخاص الذي يستحق الأجرة بتسليم نفسه في المدة وإن لم يعمل) ش: ما كان يرد على الأجير المشترك يرد هنا، فالجواب هو الجواب، ثم إنه إنما يستحق الأجرة بتسليم نفسه بدون العمل إذا تمكن من العمل.
حتى لو سلم نفسه ولم يتمكن من العمل لعذر منعه لم يجب الأجر، فإنه ذكر في " الذخيرة " لو استأجره لاتخاذ الطين أو غيره في الصحراء فمطر ذلك اليوم بعدما خرج الأجير إلى الصحراء لا أجر له، وبه كان يفتي المرغيناني.
م: (كمن استؤجر شهرا للخدمة أو لرعي الغنم) ش: أي لو استأجر شهرا لرعي الغنم، هذا هو الأجير الخاص، لأنه مخصوص بواحد م: (وإنما سمي أجير واحد، لأنه لا يمكنه أن يعمل

(10/319)


لأن منافعه في المدة صارت مستحقة له، والأجر مقابل بالمنافع، ولهذا يبقى الأجر مستحقا وإن نقض العمل. قال: ولا ضمان على الأجير الخاص فيما تلف في يده ولا ما تلف من عمله. أما الأول فلأن العين أمانة في يده؛ لأنه قبض بإذنه وهذا ظاهر عنده، وكذا عندهما؛ لأن تضمين الأجير المشترك نوع استحسان عندهما لصيانة أموال الناس، ولأجير الواحد لا يتقبل الأعمال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لغيره) ش: أي لغير المستأجر. وقوله أجير مضاف إلى لفظة وحد، والوحد بفتح الواو وسكون الحاء بمعنى الواحد وهو صفة موصوفها محذوف تقديره أجير مستأجر واحد، ويجوز تحريك الحاء أيضا م: (لأن منافعه في المدة) ش: أي منافع الأجير الخاص في المدة المضروبة للعمل م: (صارت مستحقة له) ش: أي للمستأجر م: (والأجر مقابل بالمنافع، ولهذا) ش: أي ولأجل أن الأجر مقابل بالمنافع، والمنافع مستحقه له م: (يبقى الأجر مستحقا، وإن نقض العمل) ش: على بناء المجهول في نقض، بخلاف الأجير المشترك، فإنه روي عن محمد لو فتق الخياط أو غيره الثوب بعدما عمل قبل أن يقبض رب الثوب فلا أجر للخياط، لأنه لم يسلم العمل لرب الثوب ولا يجبر الخياط على أن يعيد العمل، لأنه لو أجبر عليه أجبر بحكم العقد الذي جرى بينهما، وذلك العقد قد انتهى بتمام العمل وإن كان الخياط وهو الذي فتق فعليه أن يعيد العمل، ولو كان أجيرا خاصا فينقضه استحق الأجر والإسكاف كالخياط.

[ضمان الأجير الخاص]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا ضمان على الأجير الخاص فيما تلف في يده) ش: بأن سرق منه أو غاب أو غصب م: (ولا ما تلف من عمله) ش: بأن انكسر القدوم في عمله أو تخرق الثوب من دقه أو انفسد الطبخ أو احترق الخبز ونحو ذلك، وبه قالت الثلاثة. وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه قولان: في قول: يضمن كالأجير المشترك وهو المنصوص عليه، ذكره في " الحلية ". ومنهم من قال: لا يضمن قولا واحدا، هذا كله إذا لم يتعمد الفساد، فإن تعمد ذلك ضمن كالمودع بلا خلاف.
م: (أما الأول) ش: وهو ما إذا تلف في يده م: (فلأن العين أمانة في يده، لأنه قبض بإذنه) ش: أي بإذن المستأجر م: (وهذا ظاهر عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكذا عندهما، لأن تضمين الأجير المشترك نوع استحسان عندهما لصيانة أموال الناس) ش: فإنه يقبل أعيانا كثيرة رغبة في كثرة الأجر، وقد يعجز عن قضاء حق الحفظ فيها فيضمن حتى لا يقصر في حفظها ولا يأخذ إلا ما يقدر على حفظه م: (ولأجير الواحد) ش: بإضافة الأجير إلى الواحد، ولا يمتنع في هذه الإضافة دخول اللام في المضاف، لأن الإضافة لفظية. وفي بعض النسخ وأجير الواحد بدون اللام في الأجير.
وهذا أشهر وأصوب وهو مبتدأ وخبره قوله م: (لا يتقبل الأعمال) ش: بل يسلم نفسه م:

(10/320)


فتكون السلامة غالبا فيؤخذ فيه بالقياس. وأما الثاني فلأن المنافع متى صارت مملوكة للمستأجر، فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح ويصير نائبا منابه، فصار فعله منقولا إليه كأنه فعل بنفسه، فلهذا لا يضمنه والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فتكون السلامة غالبا فيؤخذ فيه بالقياس) ش: وهو عدم الضمان.
م: (وأما الثاني) ش: وهو ما إذا تلف بعمله م: (فلأن المنافع متى صارت مملوكة للمستأجر) ش: بتسليم النفس، ولهذا يستحق الأجر بتسليم نفسه بدون العمل م: (فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح ويصير) ش: أي الأجير م: (نائبا منابه، فصار فعله منقولا إليه كأنه فعل بنفسه، فلهذا لا يضمنه والله أعلم) ش: كما في الإكراه الملجئ.

(10/321)