البناية شرح الهداية

كتاب الإكراه الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطانا كان أو لصا؛ لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء أهليته، وهذا إنما يتحقق إذا خاف المكره تحقيق ما توعد به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الإكراه]
[تعريف الإكراه وما يثبت به حكمه]
م: (كتاب الإكراه) ش: إنما ذكره عقيب كتاب الولاء لاشتمال كل منهما على التغيير، فإن الموالاة تغيير حال المولى الأعلى عن حرمة أكل مال المولى الأسفل بعد موته إلى حله، والإكراه يغير حال المكره من الحرمة إلى الحل وهو مصدر أكرهه إذا حمله على أمر يكرهه ولا يريد. والكره بالفتح والضم اسم، وفي الشرع ما ذكره المصنف بقوله لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغير فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء أهليته، وفي " الإيضاح ": هو فعل يوجد من المكره فيحدث في المحل معنى يصير به مدفوعا إلى الفعل الذي طلب منه. وفي " الوافي " هو عبارة عن تهديد القادر غيره على ما هدده ويكره على أمر بحيث ينتفي به الرضاء.
م: (الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به) ش: أي خوفه م: (سلطانا كان أو لصا) ش: لأن تحققه يتوقف على خوف المكره تحقيق ما توعد به لا يخاف إلا إذا كان المكره قادرا على ذلك، ولا فرق بين السلطان وغيره عند تحقيق القدرة م: (لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه) ش: أي فيما يصير آلة كالبيع م: (أو يفسد به اختياره) ش: أي فيما لا يصير آلة له كالإتلاف، وذلك بأن يكون الإكراه كاملا بأن يكون بالقتل أو القطع، أو في الرضاء.
ويفسد الاختيار لتحقق الإيحاء إذ الإنسان يحتوي على حب الحياة فيفسد به الاختيار ويظهر المفاوتة في الأحكام، فإن الإكراه بالحبس والقيد على إجراء كلمة الكفر لا يثبت الرخصة والإكراه بالقتل أو القطع يثبتها م: (مع بقاء أهليته) ش: هذه إشارة إلى أن الإكراه لا يسقط عن المكره الخطاب بالأهلية وهي باقية.
وإذا كانت الأهلية هنا تثبت كان المكره مخاطبا. قال تاج الشريعة: مع بقاء أهليته، أي للثواب والعقاب؛ لأن فساد الاختيار لا يمنع الأهلية.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى ما ذكره من قوله لأن الإكراه إلى آخره م: (إنما يتحقق إذا خاف المكره تحقيق ما توعد به) ش: بضم الياء على صيغة المجهول.

(11/39)


وذلك إنما يكون من القادر والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة، والذي قاله أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان، لما أن المنعة له والقدرة لا تتحقق بدون المنعة، فقد قالوا هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان، ولم تكن القدرة في زمنه إلا للسلطان، ثم بعد ذلك تغير الزمان وأهله، ثم كما تشترط قدرة المكره لتحقق الإكراه يشترط خوف المكره وقوع ما يهدد به، وذلك بأن يغلب على ظنه أنه يفعله ليصير به محمولا على ما دعي إليه من الفعل.
قال: وإذا أكره الرجل على بيع ماله أو على شراء سلعة أو على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي بعض النسخ ما توعد به م: (وذلك) ش: على ما ذكرنا من الشرائط م: (إنما يكون من القادر والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة) ش: سيان بكسر السين أي مثلان وهو تثنية سي والجمع سواء: م: (والذي قاله أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان، لما أن المنعة له) ش: بتحريك النون، يقال فلان في عز ومنعة، يعني يمنع أهله وعشيرته، يعني يحوطهم وينصرهم.
وعن ابن السكيت: وقد تسكن النون، وكذا قيل الملك لا يكون ملكا إلا بالمنعة، وهي شرط للملك كالوضوء للصلاة. ويجوز أن تكون المنعة جمع مانع، يعني له منعة يمنعون من يخالفه أو من يريده بالسوء.
م: (والقدرة لا تتحقق بدون المنعة) ش: لما أن المنعة شرط للقدرة والمشروط لا يتحقق بدون الشرط، وهذا كما رأيت حقق الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، وكذا حققه خواهر زاده في "مبسوطه " وذكر الطحاوي في "مختصره " قول أبي يوسف مع أبي حنيفة.
وقال الأسبيجابي "في شرحه ": وقول أبي يوسف مع محمد في ظاهر الرواية م: (فقد قالوا) ش: أي المشايخ م: (هذا) ش: أي الذي ذهب إليه أبو حنيفة. وفي بعض النسخ هو م: (اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان) ش: لأن مناط الحكم القدرة م: (ولم تكن القدرة في زمنه إلا للسلطان، ثم بعد ذلك تغير الزمان وأهله) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه» ، فإذا كان الزمان شرا يكون أهله أشرارا. م: (ثم كما يشترط قدرة المكره) ش: بكسر الراء م: (لتحقق الإكراه يشترط خوف المكره) ش: بفتح الراء م: (وقوع ما يهدد به) ش: أي بالذي يهدد م: (وذلك) ش: إشارة إلى قوله خوف المكره وقوع ما يهدد به م: (بأن يغلب على ظنه أنه) ش: أي المكره بكسر الراء م: (يفعله) ش: أي يفعل ما يهدد به م: (ليصير به) ش: أي ليصير المكره بالفتح بما يغلب على ظنه م: (محمولا) ش: أي مضطرا م: (على ما دعي إليه من الفعل) ش: الذي هدده به.

[أكره الرجل على بيع ماله أو على شراء سلعة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أكره الرجل على بيع ماله أو على شراء سلعة أو على

(11/40)


أن يقر لرجل بألف أو يؤجر داره فأكره على ذلك بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس فباع أو اشترى فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع؛ لأن من شرط صحة هذه العقود التراضي. قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] (النساء: 29) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يقر لرجل بألف أو يؤجر داره فأكره على ذلك) ش: أي على ما ذكر من البيع والشراء والإقرار والإجارة م: (بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس) ش: أراد به الحبس المديد، فإن حكم الحبس بيوم سيجيء م: (فباع أو اشترى) ش: أو أقر أو أجر ثم زال الإكراه م: (فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع؛ لأن من شرط صحة هذه العقود) ش: أي البيع والشراء والإقرار والإجارة م: (التراضي، قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] (سورة النساء: 29) .
ش: فإن قلت: الآية وإن أثبت الحرمة بدون الرضاء ولكن مطلق قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] يوجب الجواز بدون التراضي.
قلت: البيع لغة مبادلة المال بالتراضي، والأصل ورد الشرع على وفاق الحقيقة، ولأنه مخصوص محض بدون الرضا.
فإن قلت: هذا بمنزلة الشرط وأنه يقتضي الوجود عند الوجود أما لا يقتضي العدم عند العدم، كما في قَوْله تَعَالَى {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] (سورة النساء: الآية 25) .
قلت: أول الآية {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] واستثنى منه التجارة بالتراضي، فيبقى غيره في صدر الكلام يوضحه أن المستثنى لما كان بصفة التراضي يكون المستثنى منه بخلاف التراضي وهو المكره، وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء» أي كيلا بكيل، فلما استثنى البيع الجائز مع الكيل علم أن المستثنى منه بيع المكيل أيضا، فصار، كأنه قال لا تأكلوا أموالكم بينكم بالتجارة الباطلة كرها، حتى تكون عن تراض فيكون الرضاء شرطا ولكن لا ينعدم به أصل البيع.
فإن قلت: ينبغي أن يكون البيع باطلا بقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] (سورة النساء: الآية 25) .
قلت: المراد من قوله بالباطل أي بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا.
وقوله: عن تراض صفة التجارة، أي تجارة صادرة عن تراض، وخص التجارة بالذكر

(11/41)


والإكراه بهذه الأشياء يعدم الرضاء فيفسد، بخلاف ما إذا أكره بضرب سوط أو حبس يوم أو قيد يوم؛ لأنه لا يبالى به بالنظر إلى العادة، فلا يتحقق به الإكراه، إلا إذا كان الرجل صاحب منصب يعلم أنه يستضر به لفوات الرضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن أسباب الرزق أكثرها يتعلق بها، والتراضي رضى المتبايعين بما تعاقدوا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول، وهو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند الشافعي تفرقهما عن مجلس العقد متراضيين.
م: (والإكراه بهذه الأشياء) ش: يعني بالبيع وأخواته م: (يعدم الرضاء فتفسد) ش: أي هذه العقول المذكورة. لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، م: (بخلاف ما إذا أكره بضرب سوط) ش: هذا يتصل بقوله والإكراه بهذه الأشياء يعدم الرضاء بخلاف ما إذا أكره على البيع أو الشراء أو الإقرار أو الإجارة بضرب سوط م: (أو حبس يوم أو قيد يوم) ش: حيث لا يكون إكراها م: (لأنه لا يبالي به) ش: بفتح اللام، أي لا يلتفت إلى مثل هذه الأشياء، م: (بالنظر إلى العادة) ش: فإن الرجل قد يقيم في المنزل يوما أو يومين بالاختيار من غير أن يثقل عليه، وكذا ضرب سوط؛ لأن هذا القدر يعيب به ويؤدب به الصغير.
والإنسان يجعل القيد في رجله ثم يمشي مشبها بالمقيد، والحبس الذي هو إكراه ما يجيء منه الاغتمام البين والضرب الذي هو الإكراه ما يوجد منه الألم الشديد، وذلك على قدر ما يرى الحاكم إذا رفع إليه ذلك؛ لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس.
م: (فلا يتحقق به الإكراه) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فلا يتحقق به الإكراه.
م: (إلا إذا كان الرجل) ش: الذي أكره بضرب سوط أو حبس يوم أو قيد يوم م: (صاحب منصب) ش: بفتح الميم وبكسر الصاد، وهو في اللغة الأصل.
وأراد به هاهنا أن يكون ذا جاه م: (يعلم أنه يستضر به) ش: أي بضرب سوط واحد ونحوه كما يتضرر واحد من أوساط الناس بالضرب الشديد، فحينئذ يكون ذلك إكراها وذلك كالقاضي وعظيم البلد، فإن مطلق القيد والحبس إكراه في حقه، حتى لو توعد به وهو رجل وجيه كان ذلك إكراها.
وبه قال بعض الشافعيين ومالك وأحمد رحمهما الله في رواية.
وقال في رواية: الوعيد ليس بإكراه، وعن شريح: القيد والوعيد إكراه والضرب والشتم باختلاف أحوال الناس، حتى قال بعض المشايخ: لو شدت أذن واحد من أشراف الناس في مجلس السلطان يكون مكرها م: (لفوات الرضاء) ش: فإذا فات الرضاء ثبت الإكراه لوجود

(11/42)


وكذا الإقرار حجة لترجح جنبة الصدق فيه على جنبة الكذب، وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة، ثم إذا باع مكرها وسلم مكرها يثبت به الملك عندنا، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يثبت لأنه بيع موقوف على الإجازة. ألا ترى أنه لو أجاز، جاز والموقوف قبل الإجازة لا يفيد الملك ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله والفساد لفقد شرطه وهو التراضي، فصار كسائر الشروط المفسدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العلة.
م: (وكذا الإقرار حجة) ش: هذا عطف على قوله والإكراه بهذه الأشياء بعدم الرضاء فيفسد، أي والإقرار أيضا يفسد بالإكراه بهذه الأشياء، وذلك لأن الإقرار إنما صار حجة في غير الإكراه م: (لترجح جنبة الصدق فيه على جنبة الكذب) ش: أراد أن الإقرار في نفسه دائر بين الصدق والكذب لأنه اختيار، ولكن يترجح الصدق حال الطواعية بدلالة الحال، إذ الظاهر أن الإنسان لا يكذب على نفسه.
م: (وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة) ش: والشراء لإظهار ما كان عليه فلا يكون حجة، بخلاف ما إذا أكره على الإقرار بأن يضرب سوطا ويحبس يوما فأقر فهو إقرار كما في البيع إذا كان المكره صاحب منصب كما ذكرنا.
م: (ثم إذا باع مكرها وسلم) ش: أي المبيع حال كونه م: (مكرها يثبت به الملك عندنا) ش: أي يثبت بالإكراه الملك الفاسد عند أصحابنا الثلاثة م: (وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يثبت) ش: أي الملك م: (لأنه بيع موقوف على الإجازة، ألا ترى أنه) ش: أي المكره بفتح الراء م: (لو أجاز) ش: أي البيع م: (جاز والموقوف قبل الإجازة لا يفيد الملك) ش: عند الثلاثة لا يجوز. ولو أجاز كالبيع بشرط الخيار، وكذا عند الثلاثة إلا أن عندهم لا يكون موقوفا بل باطلا.
م: (ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله) ش: لأن الإيجاب والقبول صدر من المالك البالغ العاقل وصادف محله وهو المال م: (والفساد) ش: أي فساد البيع م: (لفقد شرطه وهو التراضي) ش: قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وتأثير انتفاء الشرط في فساد العقد لا غير كانتفاء المساواة في باب الربا.
م: (فصار) ش: أي الإكراه م: (كسائر الشروط المفسدة) ش: إنما ألحقه بالشروط المفسدة لأن خلو البيع عنها شرط صحة البيع فكذا خلو البيع عن الإكراه.
فاعلم أن بيع المكره يشبه البيع الموقوف من حيث إنه يتوقف على إجازة المالك فلشبهه به يعود جائزا إذا أجاز في أي وقت شاء ويشبه البيع الفاسد من حيث صدوره من المالك وانعدم شرط الجواز وهو الرضاء، فيفيد الملك بعد القبض، وإنما عملنا هكذا إذ لو أظهرنا شبه الوقوف

(11/43)


فيثبت الملك عند القبض، حتى لو قبضه وأعتقه أو تصرف فيه تصرفا لا يمكن نقضه، جاز ويلزمه القيمة كما في سائر البياعات الفاسدة، وبإجازة المالك يرتفع المفسد، وهو الإكراه وعدم الرضا، فيجوز إلا أنه لا ينقطع به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في عدم الملك لا يبقى لشبهة الآخر عمل فيعمل العمل بالشبهين، لا يقال لو كان بمنزلة البيع الفاسد لما عاد إلى الجواز بالإجازة كما في البيوع الفاسدة؛ لأن النفاذ لسقوط الفساد وأنه لم يستحكم.
فإن قلت: ينبغي أن لا يثبت الملك بعد القبض كما في البيع بشرط الخيار مع وجود الرضاء بالعقد.
قلت: إنما لا يثبت الملك ثمة لاختلاف الشرط عن الفائدة، وهنا ما وجد الشرط فيثبت الملك.
فإن قلت: بيع الهازل لا يفيد الملك وأنه كالبيع الذي نحن فيه من حيث صدورها من المالك مع عدم الرضاء، فينبغي أن لا يثبت الملك.
قلت: الهازل لا يكون مختارا لثبوت الملك للمشتري، أما هنا المكره قد أكره على بيع يثبت الملك، فإقدامه على ذلك يدل على اختيار ثبوت الملك للمشتري إذ لو لم يكن مختارا لذلك لما أتى بما أكره هو عليه.
م: (فيثبت الملك عند القبض حتى لو قبضه) ش: أي المشتري من المكره بالفتح م: (وأعتقه أو تصرف فيه) ش: أي في المبيع م: (تصرفا لا يمكن نقضه) ش: كالتدبير والاستيلاد م: (جاز ويلزمه القيمة) ش: أي جاز تصرف المشتري وتلزمه قيمة المبيع.
وكذا الحكم في الهبة تلزمه القيمة. وفي " الذخيرة ": المالك بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته يوم سلمه إلى المشتري أو الموهوب له، وإن شاء ضمن المشتري والموهوب له.
م: (كما في سائر البياعات الفاسدة) ش: حيث يلزم فيها القيمة بعد القبض والتصرف اللازم م: (وبإجازة المالك يرتفع المفسد) ش: هذا جواب عما يقال: لو كان كسائر البياعات الفاسدة لما عاد جائزا بالإجازة لهن.
وتقرير الجواب: أن بإجازة المالك يرتفع المفسد م: (وهو الإكراه وعدم الرضاء فيجوز) ش: بخلاف سائر البياعات الفاسدة لأن المفسد فيها باق م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله كما في سائر البياعات الفاسدة، ذكره للفرق بين الإكراه والبيع الفاسد. الضمير في أنه للشأن م: (لا ينقطع به) ش: أي بسبب الإكراه.

(11/44)


حق استرداد البائع وإن تداولته الأيدي ولم يرض البائع بذلك بخلاف سائر البياعات الفاسدة لأن الفساد فيها لحق الشرع، وقد تعلق بالبيع الثاني حق العبد، وحقه مقدم لحاجته. أما هاهنا الرد لحق العبد وهما سواء فلا يبطل حق الأول لحق الثاني. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن جعل البيع الجائز المعتاد بيعا فاسدا يجعله كبيع المكره حتى ينقض بيع المشتري من غيره، لأن الفساد لفوات الرضاء ومنهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (حق استرداد البائع وإن تداولته الأيدي) ش: ما لم يتصرف المشتري فيه تصرفا لازما يمكن نقضه م: (ولم يرض البائع بذلك) ش: أي والحال أن البائع لم يرض بذلك.
م: (بخلاف سائر البياعات الفاسدة) ش: حيث ينقطع فيها حق الاسترداد إذا تداولته الأيدي م: (لأن الفساد فيها لحق الشرع) ش: لأنه أقدم على ما نهاه عنه م: (وقد تعلق بالبيع الثاني حق العبد، وحقه مقدم لحاجته) ش: وعني صاحب الشرع م: (أما هاهنا) ش: أي في مسألة الإكراه م: (الرد لحق العبد) ش: وهو المكره، وأنه باق بعد البيع الثاني والثالث.
م: (وهما سواء) ش: أي البائع المكره والمشتري منه الذي باعه لآخر سيان في الحق م: (فلا يبطل حق الأول) ش: وهو البائع المكره م: (لحق الثاني) ش: أي لأجل حق الثاني وهو المشتري منه الذي باعه لآخر، وكذا الحكم في الثالث والرابع وهلم جرا.
وفي " الذخيرة ": البيع حصل بتسليط البائع الأول. وفي البياعات الفاسدة، وهاهنا ما حصل بتسليط المكره وهذا فرق جيد.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي صاحب الهداية: م: (ومن جعل البيع الجائز المعتاد بيعا فاسدا يجعله كبيع المكره) ش: وأراد به بيع الوفاء، وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت هذا منك بمالك علي من الدين على أني متى قضيت الدين فهو لي. وقال تاج الشريعة: صورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بكذا على أني لو دفعت إليك الثمن تدفع العين إلي.
أو تقول: بعت منك هذا بمالك من الدين على أني متى قضيت الدين فهو لي، فقوله "ومن" موصولة تتضمن معنى الشرط، وقوله: جعل البيع.. إلى آخره صلتها. وقوله: بيعا فاسدا مفعول ثان القول جعل البيع. وقوله: يجعله في محل الرفع على أنه خبر لقوله من وهم مشايخ بخارى فإنهم جعلوا هذا البيع كبيع المكره م: (حتى ينقض بيع المشتري من غيره، لأن الفساد لفوات الرضاء) ش: كما في بيع المكره عليه.
م: (ومنهم) ش: أي ومن المشايخ كالقاضي الإمام السند أبو شجاع السمرقندي والقاضي

(11/45)


من جعله رهنا لقصد المتعاقدين، ومنهم من جعله باطلا اعتبارا بالهازل. ومشايخ سمرقند - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جعلوه بيعا جائزا مفيدا لبعض الأحكام على ما هو المعتاد للحاجة إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على السعدي، والقاضي الإمام الحسن الماتريدي، وشيخ الإسلام عطاء وحمزة وغيرهم م: (من جعله) ش: أي البيع المذكور.
م: (رهنا لقصد المتعاقدين) ش: لأنهما قصدا أن يكون البيع محبوسا بالثمن المؤدى إلى حين رد الثمن إلى المشتري، فكان رهنا معنى، لأنهما وإن سميا بيعا لكن غرضهما الرهن والعبرة للمقاصد والمعاني فلا يملكه المرتهن ولا يطلق له الانتفاع إلا بإذن مالكه وهو ضامن كما أكل من ثمرة واستهلك من عينه والدين ساقط بهلاك في يده إذا كان وفاء بالدين، ولاضمان عليه في الزيادة إذا هلك بغير صنعه وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق عندنا بينه وبين الرهن.
م: (ومنهم) ش: أي ومن المشايخ م: (من جعله باطلا اعتبارا بالهازل) ش: لأنهما تكلما بلفظ البيع وليس قصدهما فكان لكل منهما أن يفسخ بغير رضا صاحبه. ولو أجاز أحدهما لم يجز على صاحبه والهازل أيضا راض بمباشرة السبب لكنه غير راض ولا مختار لحكمه فكان كخيار الشرط مؤبدا فالعقد فاسد غير موجب للملك.
م: (ومشايخ سمرقند - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جعلوه بيعا جائزا) ش: قال الإمام نجم الدين النسفي: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعا وكان عليه بعض السلف لأنهما تلفظا بلفظ البيع، والعبرة للملفوظ دون المقصود كمن تزوج امرأة بقصد أن يطلقها بعدما جامعها صح العقد، يعني لم يكن متعة، كذا في الفصول للأستروشني.
وذكر في " فتاوى قاضي خان " والإمام ظهير الدين: والصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنا، ثم ينظر إن كانا ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع، وإن لم يذكرا وتلفظا بالبيع جاز. وعندهما هذا البيع عبارة عن بيع غير لازم، فكذلك أي فاسد.
وإن ذكر البيع من غير شرط ثم ذكر الشرط على وجه الميعاد جاز البيع ويلزم الوفاء بالميعاد، لأن المواعيد قد تكون لازمة فيجل هذا الميعاد لازما
لحاجة
الناس م: (مفيدا لبعض الأحكام) ش: هو الانتفاع به دون البعض، وهو المبيع والهبة من آخره. واختار المصنف هذا القول، وأشار إليه بقوله البيع الجائز المعتاد م: (على ما هو المعتاد للحاجة إليه) ش: أي
لحاجة
الناس إليهم، لأنهم في عرفهم لا يفهمون لزوم البيع بهذا الوجه، فلا يجيزونه إلى أن يرد البائع الثمن إلى المشتري وبقي المشتري يرد البيع إلى البائع أيضا ولا يمنع عن الرد، فلهذا سموه بيع الوفاء لأنه وفى بما عاهد من رد المبيع.

(11/46)


قال: فإن كان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع لأنه دليل الإجازة كما في البيع الموقوف، وكذا إذا سلم طائعا بأن كان الإكراه على البيع لا على الدفع، لأنه دليل الإجازة، بخلاف ما إذا أكره على الهبة ولم يذكر الدفع فوهب ودفع حيث يكون باطلا لأن مقصود المكره الاستحقاق لا مجرد اللفظ، وذلك في الهبة بالدفع، وفي البيع بالعقد على ما هو الأصل فدخل الدفع في الإكراه على الهبة دون البيع. قال: وإن قبضه مكرها فليس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[أثر الإكراه في الضمان]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن كان قبض) ش: أي البائع المكره م: (الثمن طوعا) ش: أي حال كونه طائعا م: (فقد أجاز البيع، لأنه دليل الإجازة كما في البيع الموقوف) ش: إذا قبض المالك الثمن كان إجازة ودلالة تقوم مقام الإجازة.
م: (وكذا إذا سلم طائعا) ش: أي وكذا تكون إجازة إذا سلم المشتري المكره المبيع حال كونه طائعا م: (بأن كان الإكراه على البيع) ش: أي على نفس العقد م: (لا على الدفع) ش: أي دفع المبيع إلى البائع يعني إذا أكره على البيع دون دفع المبيع فدفع طائعا جاز البيع م: (لأنه دليل الإجازة بخلاف ما إذا أكره على الهبة ولم يذكر الدفع فوهب ودفع) ش: أي العين الموهوبة إلى الموهوب له م: (حيث يكون باطلا) ش: أي حيث يكون العقد فاسدا يوجب الملك بعد القبض كالهبة الصحيحة بناء على أن أصلنا أن إفساد السبب لا يمنع وقوع الملك بالقبض، فإن تصرف فيه بعد تصرفه عليه ضمان قيمتها.
م: (لأن مقصود المكره) ش: بكسر الراء، وفي بعض النسخ مقصود الإكراه، والأول أصح، وهذا إشارة إلى الفرق بين مسألتي الإكراه على البيوع والإكراه على الهبة تقريره أن مقصود المكره م: (الاستحقاق) ش: أي ما يتعلق به الاستحقاق ليتضرر به المكره م: (لا مجرد اللفظ) ش: يعني لا صورة العقد م: (وذلك) ش: إشارة إلى الاستحقاق م: (في الهبة بالدفع وفي البيع بالعقد) ش: تقريره أن ما يتعلق به الاستحقاق إنما يكون في الهبة بالدفع إلى الموهوب له معنى لا يكون من غير قبض م: (على ما هو الأصل) ش: يعني الأصل في البيع أن يثبت الاستحقاق من غير قبض م: (فدخل الدفع) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فوقع الدفع.
م: (في الإكراه على الهبة) ش: يعني كان الإكراه على الهبة إكراها على الدفع نظرا إلى مقصود المكره وهو حمله على شيء يتعلق به الاستحقاق وإزالة الملك ليتضرر به م: (دون البيع) ش: حيث لا يكون الإكراه على المبيع إكراها على الدفع أي الإقباض، فيكون الدفع على اختيار منه فيدل على الإجازة.
م: (قال: وإن قبضه مكرها) ش: أي بأن قبض المشتري الثمن حال كونه مكرها م: (فليس

(11/47)


ذلك بإجازة وعليه رده إن كان قائما في يده لفساد العقد. قال: وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره ضمن قيمته للبائع، معناه والبائع مكره لأنه مضمون عليه بحكم عقد فاسد، وللمكره أن يضمن المكره إن شاء لأنه آلة له فيما يرجع إلى الإتلاف، فكأنه دفع مال البائع إلى المشتري فيضمن أيهما شاء كالغاصب وغاصب الغاصب، فلو ضمن المكره رجع على المشتري بالقيمة لقيامه مقام البائع، وإن ضمن المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته العقود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك بإجازة عليه) ش: أي على المكره م: (رده) ش: أي رد الثمن م: (إن كان قائما في يده لفساد العقد) ش: فيكون الثمن أمانة عند المكره لأنه كذلك، لأنه كان مكرها على قبضه. وإن كان هالكا فلاشيء عليه لأنه هلك أمانة.
م: (قال: وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره ضمن قيمته للبائع) ش: لأنه قبضه للتملك م: (معناه) ش: أي معنى قول القدوري وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غيره مكره، أي والحال أنه غير مكره، (والبائع مكره لأنه مضمون عليه بحكم عقد فاسد) ش: لعدم الرضا، وما كذلك فهو مضمون بالقيمة.
م: (وللمكره) ش: بفتح الراء م: (أن يضمن المكره) ش: بكسر الراء م: (إن شاء لأنه) ش: أي المكره م: (آلة له) ش: أي للمكره م: (فيما يرجع إلى الإتلاف) ش: وإن لم يصلح آلة له من حيث إنه كلام، لأن التكلم بلسان الغير لا يصح م (فكأنه) ش: أي فكأن المكره م: (فع مال البائع إلى المشتري) ش: أي أراد به البائع المكره بفتح الراء م: (فيضمن) ش: أي المكره بالفتح م: (أيهما شاء كالغاصب وغاصب الغاصب) ش: حيث يتخير المال في تضمين أيها شاء.
م: (فلو ضمن المكره) ش: أي فلو ضمن المكره بالفتح المكره بالكسر م: (رجع على المشتري بالقيمة) ش: أي رجع المكره بالكسر على المشتري بقيمة المقبوض م: (لقيامه مقام البائع) ش: أي لقيام المكره مقام البائع بأداء الضمان لأن المضمون يصير ملكا للضامن من وقت سبب الضمان.
م: (وإن ضمن المشتري) ش: يعني وإن ضمن المكره بالفتح، أي مشتركان بعد الأول م: (نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته العقود) ش: أي تناولته، وقال الأترازي: يعني في صورة الغصب إذا تداولت الأيدي وتناسخت العقود بأن باع هذا من ذلك وذلك من آخر ثم ضمن المالك المشتري الثاني مثلا نفذ كل شراء بعد شراء الثاني لأنه ملك بالزمان فتعين أنه باع ملك نفسه ولا ينفذ ما كان بالشراء قبل الشراء الثاني، لأن إسناد الملك إلى وقت الضمان لا غير، بخلاف البائع المكره إذا جاز بعض العقود ينفذ الكل، لأن العقود موقوفة على الإجازة، فلما وجدت جاز الكل.
قال تاج الشريعة: إذا تداولته الأيدي وضمن البائع المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه،

(11/48)


لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه باع ملكه ولا ينفذ ما كان قبله، لأن الاستناد إلى وقت قبضه، بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا منها حيث يجوز ما قبله وما بعده، لأنه أسقط حقه وهو المانع فعاد الكل إلى الجواز، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن المشتري حينئذ باع ملك نفسه وكذلك لو ضمنه مشتريا آخر من هؤلاء المشترين ينفذ كل شراء كان بعد شرائه دون ما كان قبل شرائه. وفي " الكافي ": فإن ضمن أحد المشترين وقد تناسخته العقود، أي تداولته نفذ كل شراء بعد شرائه ولا ينفذ ما كان قبله، أي قبل شراء المشتري أو قبل الضمان.
م: (لأنه) ش: أي لأن المشتري م: (ملكه بالضمان فظهر أنه باع ملكه) ش: أي ملك نفسه م: (ولا ينفذ ما كان قبله) ش: أي قبل شراء المشتري أو قبل الضمان م: (لأن الاستناد إلى وقت قبضه) ش: أي استناد ثبوت الملك إلى وقت قبضه فقط.
م: (بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا منها) ش: أي من العقود التي تناسختها الأيدي م: (حيث يجوز ما قبله وما بعده) ش: لأنه م: (أسقط حقه) ش: جواب عما يقال ما الفرق بين تضمينه مشتريا وإجازة عقدا منها حيث اقتصر النفاذ هاهنا على ما كان بعده وعم الجمع هنالك، وتقديره أن المالك أسقط حقه. يعني في صورة الإجازة م: (وهو) ش: أي حقه هو م: (المانع، فعاد الكل إلى الجواز، والله أعلم) ش: نظيره اشترى دارا ولها شفيع فباع المشتري حتى تناسخته العقود وأجاز الشفيع واحدا منها فإنه يجوز الكل، وكذا الراهن باع حتى تناسخت العقود ثم أجاز المرتهن واحدا من العقود فإنه يجوز الكل، بخلاف الفضولي إذا باع وتناسخت البيوع وأجاز المالك، ولهذا يجوز ما أجازه بعينه، لأنه باع كل واحد منهم ملك غيره، وهنا باع كل واحد ملكه.
فإن قيل: ما الفرق بين إجازة المكره وإجازة المغصوب منه، فإنه إذا أجاز بيعا من البيوع نفذ ما أجازه خاصة. أجيب: بأن الغصب لا يزيل ملكه بكل بيع من هذه البيوع توقع على إجابته لمصادفته ملكه فيكون إجازته أحد البيوع تمليكا للعين من المشتري بحكم ذلك البيع فلا ينفذ ما سواه، وأما المشتري من المكره نفذ ملكه بالبيع من كل شراء صادف ملكه، وإنما توقف نفوذه على سقوط حكم المكره في الاسترداد وفي هذا لا يفترق الحال بين إجازته البيع الأول والآخر، فلهذا أنفذ البيوع كلها بإجازته عقدا منها.

(11/49)


فصل وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر فأكره على ذلك بحبس أو بضرب أو قيد لم يحل له إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، فإذا خاف على ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه، وكذا على هذا الدم ولحم الخنزير؛ لأن تناول هذه المحرمات إنما يباح عند الضرورة كما في حالة المخمصة لقيام المحرم فيما وراءها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[حكم الإكراه الواقع في حقوق الله]
م: (فصل) ش: لما ذكر حكم الإكراه الواقع في حقوق العباد شرع في بيان حكم الإكراه الواقع في حقوق الله، وقد الأول لأن حق العبد مقدم لحاجته.
م: (وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر فأكره على ذلك بحبس أو بضرب أو قيد) ش: أراد بالضرب الضرب الخفيف الذي لا يخاف منه تلف نفس أو تلف عضو م: (لم يحل له) ش: أي الإقدام على ذلك. وفي " المبسوط ": كل ضرب لا يخاف منه تلف نفس أو عضو في أكبر الرأي لا يحل لأن غالب الرأي يقام مقام الحقيقة.
وقد قال بعض العلماء في ذكر أدنى الحد أربعين، حتى لو تهدد بأقل من أربعين منها لم يحل الإقدام على ذلك، لأن ما دون ذلك مشروع بطريق التعزير، والتعزير يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا.
ولكنا نقول نص المقدار بالرأي لا يكون ولا نص في التقدير هنا، وأحوال الناس مختلفة في أحوال بدنهم، فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه. فإن وقع غالب رأيه أنه متلف نفسا له أو عضوا يحل له الإقدام، والأول في " الذخيرة ". ولو هدد بضرب سوط أو سوطين فهو لا يعتبر إلا أن يقول لأضربنك على عينك أو على مذاكيرك.
م: (إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه، فإذا خاف على ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه، وكذا على هذا) ش: أي وكذا الحكم على ما ذكر م: (الدم ولحم الخنزير) ش: يعني إذا أكره على شرب الدم وأكل لحم الخنزير لا يحل الإقدام إلا إذا خاف على نفسه أو عضو من أعضائه م: (لأن تناول هذا المحرمات إنما يباح عند الضرورة كما في حالة المخمصة) ش: فإنه تعالى استثنى حالة الضرورة من التحريم بقوله {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] (سورة الأنعام: 199) ، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] (سورة المائدة: الآية:3) ، يتحقق بالإكراه م: (لقيام المحرم فيما ورائها) ش: أي فيما وراء الضرورة.

(11/50)


ولا ضرورة إلا إذا خاف على النفس أو على العضو، حتى لو خيف على ذلك بالضرب الشديد وغلب على ظنه ذلك يباح له ذلك ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به، فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم؛ لأنه لما أبيح كان بالامتناع معاونا لغيره على إهلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يأثم لأنه رخصة، إذ الحرمة قائمة فكان آخذا بالعزيمة. قلنا: حالة الاضطرار مستثنى بالنص وهو تكلم بالحاصل بعد الثنيا فلا محرم، فكان إباحة لا رخصة، إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا ضرورة إلا إذا خاف على النفس أو على العضو، حتى لو خيف على ذلك بالضرب الشديد) ش: أي التلف م: (وغلب على ظنه يباح له ذلك ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به، فإن صبر حتى أوقعوا به) ش: أي قتلوه أو أتلفوا عضوه م: (ولم يأكل فهو آثم) ش: أي في ظاهر الرواية، وكذا هذا فيمن أصابته مخمصة.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول صحيح وأحمد في رواية ومالك م: (لأنه لما أبيح) ش: من حيث إن حرمة هذه الأشياء كانت باعتبار خلل يعود إلى البدن أو العقل أو العرض وحفظ ذلك مع فوات النفس غير ممكن م: (كان بالامتناع) ش: عن الإقدام م: (معاونا لغيره على إهلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يأثم) ش: وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية م: (لأنه رخصة) ش: أي لأن الإقدام على ذلك رخصة م: (إذ الحرمة قائمة) ش: أي إذ الحرمة بصفة أنها ميتة أو خمر قائمة، فإذا امتنع عن ذلك م: (فيكون آخذا بالعزيمة) ش: فلا يأثم.
م: (قلنا: حالة الاضطرار مستثنى بالنص) ش: هذا منع لما قاله أبو يوسف، تقريره لا نسلم أن الحرمة قائمة، لأن الله تعالى استثنى حالة الاضطرار وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] (سورة الأنعام: 119) .
م: (وهو) ش: أي الاستثناء دل عليه قوله مستثنى م: (تكلم بالحاصل بعد الثنيا) ش: يعني الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، فكان لبيان أن المستثنى لم يدخل في صدر الكلام م: (فلا محرم) ش: أي إذا كان كذلك فلا يحرم حينئذ م: (فكان إباحة لا رخصة) ش: أي كان إباحة ابتداء، لأنه داخل في الحرمة ثم خرج فامتناعه من تناول الطعام الحلال حتى تلفت نفسه أو عضوه فكان آثما.
م: (إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة) ش: هذا جواب إشكال كأنه يقول: إذا ثبت إباحته ينبغي أن لا يأثم، إذ الإنسان لا يأثم بترك المباح، فأجاب: بأنه يأثم إذا علم بالإباحة ولم يأكل حتى تلف، لأنه يصير ساعيا في إتلاف نفسه، أما إذا لم يعلم ذلك فلا يأثم

(11/51)


لأن انكشاف الحرمة خفاء فيعذر بالجهل فيه كالجهل بالخطاب في أول الإسلام أو في دار الحرب
قال: وإن أكره على الكفر بالله تعالى والعياذ بالله أو سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه؛ لأن الإكراه بهذه الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر لما مر، ففي الكفر وحرمته أشد أولى وأحرى. قال: وإذا خاف على ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به ويوري، فإن أظهر ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه لحديث «عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن في انكشاف الحرمة خفاء) ش: لأنه أمر يستأثر بمعرفته الفقهاء، فيكون أوساط الناس مغرورين فيه م: (فيعذر بالجهل فيه) ش: لخفائه عليه م: (كالجهل بالخطاب في أول الإسلام) ش: حيث كان عذرا م: (أو في دار الحرب) ش: بأن أسلم في دار الحرب لا يجب عليه شيء ما لم يعلم بأوامر الشرع.
فإن قيل: إضافة الإثم إلى ترك المباح من باب فساد الوضع وهو فاسد. فالجواب: أن المباح إنما يجوز تركه والإتيان به إذا لم يترتب عليه محرم، وهاهنا قد ترتب عليه قتل النفس المحرم فصار الترك حراما، لأن ما أفضى إلى الحرامِ حرام.

[الإكراه على الكفر أو سب الرسول]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن أكره على الكفر بالله، والعياذ بالله أو سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه لأن الإكراه بهذه الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر لما مر) ش: في أول الفصل م: (ففي الكفر وحرمته) ش: أي والحال أن حرمة الكفر م: (أشد أولى وأحرى) ش: بأن لا يكون إكراها.
وقوله: أشد خبر لقوله وحرمته، وقوله أولى خبر لقوله ففي الكفر تقديره عدم كون الإكراه في الكفر أولى.
م: (قال: فإذا خاف على ذلك) ش: يعني على نفسه أو على عضو من أعضائه م: (وسعه أن يظهر ما أمروه به) ش: الضمير في أمروه يرجع إلى المكره بالفتح وفي يد إلى ما في قوله ما أمروه م: (ويوري) ش: بنصب الياء، أي وأن يوري عطفا على قوله أن يظهر وهو من التورية وهو أن يظهر خلاف ما يضمره وهو الإتيان بلفظ يحتمل معنيين بأن يظهر الكفر باللسان مع إضمار الإيمان في قلبه.
م: (فإن أظهر ذلك) ش: أي التلفظ بالكفر م: (وقلبه مطمئن بالإيمان) ش: أي والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان م: (فلا إثم عليه) ش: أي فلا إثم عليه حينئذ م: (لحديث «عمار بن ياسر

(11/52)


حين ابتلي به وقد قال له النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "كيف وجدت قلبك؟ " قال: مطمئنا بالإيمان، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "فإن عادوا فعد»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حين ابتلي به، وقد قال له النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "كيف وجدت قلبك؟ "، قال: مطمئنا بالإيمان، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "إن عادوا فعد» .
ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك في تفسير سورة النحل من حديث عبيد الله بن عمر الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: «أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوني حتى سببت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر آلهتهم بخير، فلما أتاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] ما وراءك؟ قال: سر يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: "كيف تجد قلبك"، قال: مطمئنا بالإيمان، قال: "فإن عادوا فعد» وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه البيهقي في "المعرفة " وأبو نعيم في " الحلية " في ترجمة عمار، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري به، وعن عبد الرزاق رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده " في مسند عمار بن ياسر.
قوله: فإن عادوا قال بعض الشراح: أي إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب لا إلى إجراء كلمة الكفر، إذ لا يجوز منه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الأمر بإجراء كلمة الكفر.
وقال صاحب " العناية ": معناه عد إلى طمأنينة القلب لا إلى الإجراء والطمأنينة جميعا، لأن أدنى درجات الأمر الإباحة فيكون إجراء كلمة الكفر مباحا وليس كذلك، لأن الكفر مما لا تنكشف حرمته.
وقال تاج الشريعة: وبعض العلماء يحملون قوله فإن عادوا فعد على ظاهره، يعني إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى ما كان منك من النيل مني وذكر آلهتهم بخير وهو غلط، فإنه لا يظن برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الشرك، ولكن مراده إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب بالإيمان، وهذا لأن التكلم إن كان مرخصا به فالامتناع منه أفضل.
وقال الأترازي: يعني إن عاد الكفار إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب بالإيمان.
يعني فاثبت على الطمأنينة وهو أمر بالثبات على ما كان لا أمر بما ليس بكائن من

(11/53)


وفيه نزل قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (النحل: الآية 106) ولأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه الميل إليه. قال: فإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا، لأن خبيبا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صبر على ذلك حتى صلب وسماه رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سيد الشهداء، وقال في مثله: «هو رفيقي في الجنة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطمأنينة كما في قَوْله تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] معناه إن عادوا إلى الإكراه ثانيا فعد أنت إلى مثل ما أتيت به أولا من إجراء كلمة الكفر على اللسان وطمأنينة القلب بالإيمان، انتهى.
قلت: هذا صواب من الكل لأن مقتضى التركيب هذا على ما لا يخفى ولا نسلم أنه أمر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بالتكلم بكلمة الشرك، بل هذا التشريع للمبتلى بالإكراه فكيف يفعل، لأن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبين مشرع فافهم.
م: (وفيه) ش: أي وفي عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (نزل قول تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (سورة النحل: الآية 106) ش: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقصته أنه خرج مهاجرا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع جماعة، فأخذهم كفار مكة، وقالوا إنكم تريدون محمدا، وعذبوهم وأكرهوهم على الكفر فصبر بعضهم حتى قتل وتكلم عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما أكرهوه وقلبه مطمئن بالإيمان فخلوا عنه، فلما قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بذلك فنزلت الآية.
م: (ولأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق) ش: هذا دليل معقول وتقريره أن الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والتصديق هو الركن الأصلي، وهو قائم حقيقة والإقرار ركن زائد وهو قائم تقديرا، لأن التكرار ليس بشرط فلا يفوت الإيمان بذلك حقيقة م: (وفي الامتناع) ش: عن إتيان ما تهدد به م: (فوت النفس حقيقة) ش: فكان مما اجتمع فيه فوت حق العبد يقينا وفوت حق الله توهما م: (فيسعه الميل إليه قال: فإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا، لأن خبيبا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صبر على ذلك حتى صلب وسماه رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سيد الشهداء وقال في مثله: «هو رفيق في الجنة» .
ش: هذا الحديث بهذا الوجه لم يثبت وقتل خبيب في " صحيح البخاري " في مواضع وليس فيه أنه صلب ولا أنه أكره، ولا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه سيد الشهداء ولا قال فيه: وهو رفيقي في الجنة فأخرج البخاري في الجهاد عن عمر بن أبي سفيان الثقفي عن أبي هريرة قال: «بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رجل رام فاقتصوا آثارهم

(11/54)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر ترددوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم.
فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا لكم العهد والميثاق إن أنزلتم إلينا عاصما في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق فنزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها.
فقال الرجل الثالث الذي معهم: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا على قتله استعار موسي من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته.
قالت فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذك مني وفي يده الموسي فقال أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله، وكانت تقول ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يوما يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال دعوني أصلي ركعتين، فصلى ثم رجع إليهم فقال لهم: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لأطلت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله وبعثت قريش إلى عاصم بن ثابت ليأتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء» انتهى.
قال عبد الحق: وقصة خبيب كانت في غزوة الرجيع، والرجيع على ثمانية أميال من عسفان، وعسفان على مرحلة من خليص في الجنوب ومن عسفان إلى بطن مر ثلاثة وثلاثون ميلا ومن بطن مر إلى مكة مسيرة يوم، وخليص بضم الخاء المعجمة. وعسفان بضم العين المهملة. وبطن مر بفتح الميم وتشديد الراء.
وغزوة أحد كانت في النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة.

(11/55)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: إلى فدفد بفائين مفتوحتين ودالين مهملتين، وهي الأرض المستوية، وقيل الأرض المرتفعة. وقال ابن دريد: الفدفد هي الأرض الغليظة المرتفعة ذات الحصى، فلا تزال الشمس تبرق فيها.
قوله: " من قطف عنب " أي عنقود عنب وهو بكسر القاف وسكون الطاء وفي آخره فاء.
وقال الليث: القطف اسم للثمار المقطوفة، يقال قطفت العنب أقطفه قطفا جنيته. قوله: شلو بكسر الشين المعجمة وسكون اللام وهو العضو من أعضاء اللحم وأشلاء الإنسان أعضاؤه. قوله: ممزع من التمزيع وهو التفريق، ومادته ميم وزاي معجمة وعين مهملة. قوله: لأن خبيبا صبر على ذلك حتى صلب، وهو بضم الخاء المعجمة وفتح الباء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة أخرى.
وقد ذكرنا أن صلبه لم يثبت في الصحيح ولكن محمد بن إسحاق ذكره في كتاب السيرة وقال: ابتاع خبيبا حجير بن أبان التيمي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليقتله بأبيه ثم أخرجوه إلى التنعيم وصلبوه على خشبة وقتلوه.
قوله: وسماه، أي خبيبا، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سيد الشهداء، هذا لم يثبت والمعروف من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سيد الشهداء» أنه في حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. رواه الحاكم في الفضائل من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال سمعت جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سيد الشهداء عند الله يوم القيام حمزة " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» .
وأخرجه الطبراني عن أبي إسحاق الشيباني عن علي بن حذور عن الأصبغ بن نباتة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «إن أفضل الخلق يوم يجمعهم الله الرسل، وأفضل الناس بعد الرسل الشهداء، وأفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد تكلم به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . حديث آخر نحو ذلك ورد في بلال: رواه البزار في مسنده من حديث زيد بن أرقم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نعم المرء بلال وهو سيد الشهداء» .. الحديث.
قوله: وقال في مثله، أي فيه أي في خبيب، وكلمة مثل زائدة، هو رفيقي في الجنة. وقيل: لفظ مثل عبارة عن الذات، أي قال في ذاته أي ذات خبيب.
وقال تاج الشريعة: أي في مثل خبيب في الصبر على أذى المشركين وصلبهم وعدم إجراء كلمة الكفر فمن كان كذلك يكون باذلا نفسه لإعزاز الدين فيكون مثل خبيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

(11/56)


ولأن الحرمة باقية والامتناع لإعزاز الدين عزيمة بخلاف ما تقدم للاستثناء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: المفهوم من كلامه أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو رفيقي في الجنة» في حق غير خبيب ولكن يدخل فيه خبيب بمشاركته غيره في الصبر على الأذى وغيره، والمفهوم مما ذكرنا أولا، أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا في حق خبيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والأحرى ما قاله تاج الشريعة، لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا لم يثبت في حق خبيب، وإن كان هو من رفقاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنة.
م: (ولأن الحرمة باقية) ش: لتناهي قبيح الكفر، فكان بالصبر على الإكراه مجتنبا محرم الشرع ممتثلا نهيه م: (والامتناع لإعزاز الدين عزيمة) ش: أي الامتناع عن إظهار ما توعد به لأجل إعزاز الدين عزيمة، أي أخذ بالعزيمة، ولا شك أن الأخذ بالعزيمة أفضل من الأخذ بالرخصة ولا سيما في مثل هذا الموضع م: (بخلاف ما تقدم) ش: من أكل الميتة وشرب الخمر، فإن الحرمة هناك لم تكن باقية م: (للاستثناء) ش: أراد به قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] (سورة الأنعام الآية: 199) ، والاستثناء من التحريم إباحة.
فإن قلت: الله تعالى كما استثنى في إجراء كلمة الكفر أيضا في قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] (سورة الأنعام: الآية 106) . قلت: من كفر بالله شرط مبتدأ وحذف جوابه لأن جواب {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] دال عليه، كأنه قيل من كفر بالله فعليهم غضب إلا من أكره {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} [النحل: 106] ولا يلزم من انتفاء الغصب الإباحة. وتقريره أن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقديره من كفر بالله من بعد إيمانه وشرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فالله تعالى ما أباح إجراء كلمة الكفر على لسانهم حالة الإكراه، وإنما وضع عنه العذاب والغضب وليس من ضرورة نفي الغضب وهو حكم الحرمة، لأنه ليس من ضرورة عدم الحكم عدم العلة كما في شهود الشهر في حق المسافر والمريض، فإن السبب موجود والحكم متأخر فجاز أن يكون النصب منفيا مع قيام العلة الموجبة للغضب وهو الحرمة، فلم يثبت إباحة إجراء كلمة الكفر.
هذا ما قالوه وفيه نظر، لأن المراد بالعلة إن كان هو المصطلح فذاك ممتنع التخلف عن الحكم الذي هو معلوله، وإن كان المراد بها السبب الشرعي كما مثل به فإنما يتخلف الحكم عنه بدليل آخر شرعي يوجب تأخيره كما في المثال المذكور من قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] (سورة البقرة: الآية 185) ، ولا دليل فيما نحن فيه على ذلك.
وعن هذا ذهب أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن الأمر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن عادوا فعد» للإباحة، وقولهم لأن الكفر فيما لا تنكشف حرمته صحيح، ولكن الكلام في إجراء كلمة

(11/57)


قال: وإن كان أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك؛ لأن مال الغير يستباح للضرورة كما في حالة المخمصة وقد تحققت، ولصاحب المال أن يضمن المكره؛ لأن المكره آلة للمكره فيما يصلح آلة له والإتلاف من هذا القبيل.
وإن أكره بقتله على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما، فكذا بهذه الضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفر مكرها لا في المكره.

[الإكراه على إتلاف مال]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، وسعه أن يفعل ذلك) ش: أي إتلاف مال مسلم م: (لأن مال الغير يستباح للضرورة، كما في حالة المخمصة) ش: أي يعامل به معاملة المباح، لا أنه يجعل مباحا في تلك الحالة، ولهذا لو لم يتناول، حتى قتل، يثاب على ذلك.
وفي الخمر لو لم يشرب حتى قتل يأثم، قالوا هذه المسألة تدل على أن تناول مال الغير أشد حرمة من شرب الخمر م: (وقد تحققت) ش: أي الضرورة م: (ولصاحب المال أن يضمن المكره) ش: بكسر الراء م: (لأن المكره) ش: بفتح الراء م: (آلة للمكره) ش: (بكسر الراء) م: (فيما يصلح آلة له) ش: قد مر أن في كل موضع يصلح كون المكره آلة للمكره يكون الضمان على المكره، واحترز بقوله فيما يصلح عن الأكل والتكلم والوطء، فإنه فيها لا يصلح آلة له إذ الأكل.
بفم الغير والتكلم بلسان الغير لا يتصور م: (والإتلاف من هذا القبيل) ش: أي من قبيل أن يصلح آلة بأن يأخذه ويلقيه على مال فيتلفه.

[الإكراه على القتل]
م: (وإن أكره بقتل على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يقتل) ش: بأن قال له غيره إن لم تقتل فلانا لأقتلنك لا يسعه الإقدام على قتله. قوله ويصبر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي وهو يصبر على ذلك ولا يجوز نصبه عطفا على أن يقدم عليه لفساد المعنى فافهم.
م: (فإن قتله كان آثما، لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما) ش: إذ دليل الرخصة خوف التلف والمكره عليه في ذلك سواء فسقط حق المكره في حق تناول دم المكره عليه للتعارض، بخلاف ما إذا صبر على إتلاف مال الغير، فإن دليل الرخصة قائمة وحرمة النفس فوق حرمة المال.
م: (فكذا بهذه الضرورة) ش: أي فكذا لا يباح بهذه الضرورة وهي الإكراه على قتل النفس فيقول الإكراه يبيح ما تبيحه الضرورة وما تبيحه الضرورة لا يبيحه الإكراه ثم قتل المسلم لا يباح لضرورة ما، فكذا لا يباح بالإكراه.

(11/58)


قال: والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والقصاص على المكره) ش: بكسر الراء م: (إن كان القتل عمدا) ش: أي إن كان القتل قتل عمد، وإن كان القاتل عامدا م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا عند أبي حنيفة ومحمدا رحمهما الله) ش: أي قال المصنف: المذكور وهو وجوب القصاص على المكره بكسر الراء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول. وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سواء كان الآمر عاقلا بالغا أو معتوها أو غلاما غير بالغ، فالقود على الآمر وعزاه إلى المبسوط.
ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل لو كان المكره الآمر بمنزلة الآلة للمباشرة في القتل والمكره المأمور آله لوجب أن لا يجب القصاص على الآمر فيما إذا كان صبيا أو معتوها؛ لأن انتقال فعل المكره إليه لا يكون أقوى من مبشرته بنفسه، وفيما باشر الصبي القتل العمد لا يجب القصاص عليه.
وقد ذكر في المبسوط أن القصاص يجب على الصبي إذا أمر غيره بالقتل العمد بالإكراه كما ذكرت، فما وجهه؟
قلنا لما انتقل فعل المأمور إلى الآمر انتقال مع وصفه من العقل والبلوغ، فصار ذلك بمنزلة جناية الآمر بيد المأمور في أحكام القتل، فلهذا لم يعتبر عقد الآمر وبلوغه بخلاف ما لو باشر بنفسه لأنه لا واسطة هناك أحد يوصف بالعقل والبلوغ لينتقل قوله إليه بذلك الوصف، فكان ذلك قتلا خاصا من الصبي لا غير، ولا اعتبار لعمد الصبي من القتل في إيجاب القصاص.
وقال الشيخ علاء الدين بن عبد العزيز رحمهما الله: ما نقله السغناقي عن " المبسوط " سهو فإنه ذكر في هذا الباب، إذا عرفنا هذا فنقول سواء كان المكره عاقلا بالغا أو معتوها أو غلاما غير بالغ فالقود على المكره، لأن المكره صار كالآلة له والعقل والبلوغ غير معتبر في حق الآلة، وإنما المعتبر تحقق الإلجاء فعلم أن قوله سواء كان المكره بالغا أو معتوها بفتح الراء وبكسرها والدليل الذي ذكره ينادي عليه فتوهمه بكسر الراء، وذلك غير سديد يؤيده ما قال أبو اليسر في " المبسوط "، ولو كان المكره الآمر صبيا أو مجنونا لا يجب القصاص على أحد، لأن القاتل في الحقيقة هذا الصبي والمجنون وهو ليس بأهل لوجوب العقوبة به عليه.
وذكر الحلواني في "مبسوطه " ولو كان المأمور مختلط العقل، أو صبيا يجب القصاص على المكره الآمر؛ لأن فعل القاتل ينقل، إليه فيكون الصبي، والبالغ في حقه سواء، فعلم بهذا، أن إيجاب القصاص على الصبي الآمر سهو، وما ذكره من الفرق بين المباشر والآمر غير

(11/59)


وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب على المكره. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب عليهما. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب عليهما. لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الفعل عن المكره حقيقة وحسا وقرر الشرع حكمه عليه وهو الإثم، بخلاف الإكراه على إتلاف مال الغير؛ لأنه سقط حكمه وهو الإثم فأضيف إلى غيره، وبهذا يتمسك الشافعي في جانب المكره ويوجبه على المكره أيضا لوجود التسبيب إلى القتل منه، وللتسبيب في هذا حكم المباشرة عنده كما في شهود القصاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم؛ لأن المنتقل الفعل ووصفه من العمد والخطأ لا وصف القاتل من العقل والبلوغ، ألا ترى أن المأمور لو كان صبيا أو معتوها لا ينتقل وصف الصبا والقسر إليه، حتى لا يجب القصاص على المكره احتيالا للدرء في القصاص.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب على المكره) ش: بفتح الراء، أراد به يجب القصاص على المكره المأمور وهو وراية عنه وفي رواية أخرى عنه كقول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب عليهما) ش: أي لا يجب القصاص على المكره والمكره جميعا، م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب عليهما) ش: أي على المكره والمكره جميعا، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله.
م: (لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الفعل من المكره) ش: أي أن الفعل وهو القتل حاصل من المكره بفتح الراء م: (حقيقة) ش: أي من حيث الحقيقة لصدوره منه بغير واسطة م: (وحسا) ش: أي ومن حيث الحس، فإنه معاين مشاهد م: (وقرر الشرع حكمه) ش: أي حكم القتل م: (عليه) ش: أي على القاتل.
م: (وهو) ش: أي حكم القتل م: (الإثم) ش: بالإجماع، فإيجاب القصاص على غيره غير معقول وغير مشروع م: (بخلاف الإكراه على إتلاف مال الغير؛ لأنه سقط حكمه وهو الإثم) ش: فلم يكن مقدرا عليه شرعا م: (فأضيف إلى غيره) ش: أي إلى غير المكره.
م: (وبهذا) ش: أي بما ذكره زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الدليل م: (يتمسك الشافعي في جانب المكره) ش: بفتح الراء، يعني في وجوب القصاص م: (ويوجبه) ش: أي ويوجب الشافعي القصاص م: (على المكره أيضا) ش: بكسر الراء م: (لوجود التسبيب في القتل منه) ش: أي من المكره الآمر حيث أحدث فيه معنى كان حاملا له على القتل.
م: (وللتسبيب في هذا) ش: أي في القتل م: (حكم المباشرة عنده) ش: أي عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (كما في شهود القصاص) ش: يعني إذا شهد على رجل بالقتل العمد فاقتص المشهود عليه فجاء المشهود بقتله حيا، فإنه يقتل الشاهدان عنده للتسبب لأنهما قتلاه حكما،

(11/60)


ولأبي يوسف: أن القتل بقي مقصورا على المكره من وجه نظرا إلى التأثيم، وأضيف إلى المكره من وجه نظرا إلى الحمل فدخلت الشبهة في كل جانب، ولهما: أنه محمول على القتل بطبعه إيثارا لحياته فيصير آلة للمكره فيما يصلح آلة له وهو القتل بأن يلقيه عليه، ولا يصلح آلة في الجناية على دينه فبقي الفعل مقصورا عليه في حق الإثم كما تقول في الإكراه على العتاق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قيل في عبارة المصنف تسامح، لأن دليل زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يدل على عدم جواز إضافة القتل إلى غير المكره، فكيف يجعل ذلك دليلا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو يضيفه إلى غيره أيضا.
أجيب بأن دليله يدل على عدم جواز إضافته إلى غير المكره مباشرة، والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يضيفه إلى الغير تسبيبا فلا تنافي.
م: (ولأبي يوسف: أن القتل مقصورا على المكره) ش: بفتح الراء م: (من وجه نظرا إلى التأثيم) ش: للتسارع إياه، فإنه يدل على تقرر الحكم وقصره عليه م: (وأضيف إلى المكره) ش: بكسر الراء م: (من وجه نظرا إلى الحمل) ش: بفتح الحاء، أي حمل المكره عليه، تقديره أن كونه محمولا على الفعل يدل على أنه كالآلة والفعل ينتقل عنه، وكل ما كان كذلك كان شبهة م: (فدخلت الشبهة في كل جانب) ش: والقصاص يندفع بها.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله م: (أنه) ش: أي أن المكره بالفتح م: (محمول على القتل) ش: أي ملجأ إليه بواسطة التهديد بالقتل م: (بطبعه) ش: يعني يصير المكره القاتل في ذلك قاتلا بطبعه، أي باقتضاء طبعه، ذلك كالسيف يقطع بطبعه فإن طبعه يقتضي القطع.
وذلك م: (إيثارا لحياته) ش: أي لأجل إيثاره حياته على حياة غيره لأن الإنسان جبل على حب حياة نفسه، فحينئذ نفذ اختياره م: (فيصير آلة للمكره) ش: بكسر الراء م: (فيما يصلح آلة له وهو القتل بأن يلقيه عليه) ش: فلا يكون على المكره قصاص ولا دية ولا كفارة لأن الفعل يضاف إلى الفاعل لا إلى الآلة.
م: (ولا يصلح آلة له في الجناية على دينه) ش: هذا جواب عما يقال لو كان آلة لأضيف الإثم إلى المكره كالقتل، فأجاب بقوله ولا يصلح أي المكره آلة له، أي للمكره بكسر الراء في الجناية على دينه؛ لأن القتل من حيث إنه يوجب المأثم جناية على دين القاتل، لأنه إنما أكرهه ليجني عليه دينه، فلو أضيف إليه لصار جناية على دين المكره، وفي بطلان الإكراه.
م: (فبقي الفعل) ش: من حيث كونه جناية على دينه م: (مقصورا عليه) ش: أي على المكره بالفتح م: (في حق الإثم كما تقول في الإكراه على الإعتاق) ش: ومن حيث الإتلاف منقولا إلى

(11/61)


وفي إكراه المجوسي على ذبح شاة الغير ينتقل الفعل إلى المكره في الإتلاف دون الذكاة حتى يحرم كذا هذا. - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قال: وإن أكره على طلاق امرأته أو عتق عبده ففعل وقع ما أكره عليه عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المكره من حيث الإتلاف حتى يجب الضمان على المكره ومن الإعتاق بقي مقصورا على المكره حتى يكون الولاء له.

[إكراه المجوسي على ذبح شاة الغير]
م: (وفي إكراه المجوسي) ش: أي وكما تقول في إكراه المجوسي أي إكراه المسلم المجوسي فالمصدر مضاف إلى مفعوله وطوى ذكر الفاعل، لأن المجوسي مكره وقد صرح به في الإيضاح وهو كما لو أكره مجوسيا م: (على ذبح شاة الغير يتنقل الفعل إلى المكره) ش: بكسر الراء م: (في الإتلاف) ش: يضمن قيمة الشاة م: (دون الذكاة حتى يحرم) ش: فلا يحل تناوله لأن حل الذبح يتعلق بأمور الدين م: (كذا هذا) ش: كذا حكم القتل.
فإن قلت: لو كان المأمور محمولا على القتل بطبعه لإيثار حياته ينبغي أن يسقط القصاص عن إصابة مخمصة فقتل إنسانا وأكل من لحمه حتى بقي حيا فما الفرق.
قلت: وملجأ هناك من جهة الغير فصار آلة، وأما المضطر فقيم ملجأ إلى القتل من جهة غيره حتى يصير آلة، ولهذا يجب عليه الضمان في المال فعلم أن الحكم مقصورا عليه.
فإن قلت: ينبغي أن لا يصلح المكره آلة له في الإعتاق من حيث الإتلاف، لأن الإتلاف يثبت في ضمن التلفظ بهذا اللفظ وهو لا يصلح آلة له في حق التلفظ، فكذا في حق ما يثبت في ضمنه.
قلت: نفس الإعتاق إتلاف إذ هو إزالة الملك وليس في قدرة العبد إلا ذلك وهو يصلح في إزالة الملك، أما إثبات القوة فخالص حق الله تعالى لا يقال يشكل بما إذا أكره محرم على صيد حتى قتله وأدى الضمان لا يرجع على المكره وإن صلح آلة له في الإتلاف، لأنا نقول الضمان في قتل الصيد إنما تجب بالجناية على إحرامه وهو لا يصلح آلة له في ذلك.

[الإكراه على التوكيل بالطلاق]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن أكره على طلاق امرأته) ش: أي إن أكره الرجل على أن يطلق امرأته، وفي بعض النسخ وإن أكرهه الرجل على طلاق امرأته م: (أو عتق عبده ففعل) ش: أي طلق امرأته أو أعتق عبده م: (وقع ما أكره عليه عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
ش: وبقول الشافعي قال مالك وأحمد رحمهما الله ثم الإكراه لا يعمل في أشياء: منها الطلاق والعتاق والنكاح والرجعة والتدبير والعفو عن القصاص واليمين والنذر والظهار

(11/62)


وقد مر في الطلاق. قال: ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف، فانضاف إليه فله أن يضمنه موسرا كان أو معسرا ولا سعاية على العبد؛ لأن السعاية إنما تجب للتخريج إلى الحرية أو لتعلق حق الغير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والإيلاء والفيء في الإيلاء والإسلام، لأنه إنشاء تصرف م: (وقد مر في الطلاق) ش: أي في فصل طلاق المكره والسكران.
وفي فتاوى قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - إكراه بوعيد القتل على الطلاق والعتاق فلم يفعل حتى قتل لم يأثم كما لو أكره بالقتل على إتلاف مال نفسه فلم يتلف كان شهيدا، فكذا في الامتناع عن إبطال ملك النكاح.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويرجع) ش: أي المكره بفتح الراء م: (على الذكر أكرهه بقيمة العبد، لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف، فانضاف إليه فله) ش: أي فللمكره المأمور م: (أن يضمنه) ش: أي المكره الآمر م: (موسرا كان أو معسرا) ش: لأن وجوب الضمان باعتبار مباشرة الإتلاف فيكون ضمان جيران، فلا يختلف باليسار والإعسار، ألا ترى أن شهود الإعتاق يضمنون إذا رجعوا موسرين كانوا أو معسرين.
فإن قلت: ينبغي أن لا يجب الضمان على المكره؛ لأنه أتلفه بعوض وهو الولاء والإتلاف بعوض كالإتلاف.
قلت: هذا يكون أن لو كان العوض مالا أو في حكم المال، والولاء ليس بمال ولا أشبه بالمال؛ لأنه بمنزلة النسب وهو ليس بمال.
م: (ولا سعاية على العبد؛ لأن السعاية إنما تجب للتخريج إلى الحرية) ش: وقد خرج فلا يمكن تخريجه ثانيا كما هو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المستسعى كالمكاتب والذي يحتاج إلى التخريج إلى الحرية كالعبد المشترك إذا أعتقه أحد الشريكين يحتاج إلى تخريجه إلى الحرية إما بالاستسعاء أو بالتضمين، أو يعتق الشريك الآخر كما عرف م: (أو لتعلق حق الغير) ش: أي أو السعاية إنما تجب لتعلق حق الغير بالعبد كما هو مذهبهما كعتق المريض عبده وعتق الراهن عبد المرهون، فإنه يجب السعاية على العبد فيما إن كان معسرا لتعلق حق الغير به.
وفي " الذخيرة " مسألة الإعتاق والطلاق على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يقول المكره خطر ببالي الإخبار بالحرية فيما مضى كاذبا وقد أردت ذلك لا الإنشاء بعتق العبد قضاء لا ديانة، ولا يضمن المكره شيئا لأنه عدل عما أكرهه وعتق العبد بإقراره طائعا.

(11/63)


ولم يوجد واحد منهما ولا يرجع المكره على العبد بالضمان لأنه مؤاخذ بإتلافه قال ويرجع بنصف مهر المرأة إن كان قبل الدخول، وإن لم يكن في العقد مسمى يرجع على المكره بما لزمه من المتعة؛ لأن ما عليه كان على شرف السقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها وإنما يتأكد بالطلاق فكان إتلافا للمال من هذا الوجه، فيضاف إلى المكره من حيث إنه إتلاف بخلاف ما إذا دخل بها لأن المهر قد تقرر بالدخول لا بالطلاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: أن يقول خطر ببالي الإخبار كاذبا وتركت ذلك وأردت عتقا مستقبلا كما طلب مني، ففي هذا عتق العبد قضاء وديانة ويضمن المكره قيمة العبد.
والثالث: أن يقول لم يخطر ببالي شيء وقد أتيت بما طلب مني، فالجواب فيه كالجواب في الوجه الثاني، والجواب في الإكراه على الطلاق وقد سمى لها مهرا قبل الدخول كالجواب في الإكراه على عتق العبد في الوقوع ورجوع الزوج على المكره، إلا أن في الطلاق الرجوع بنصف المهر، وفي الإعتاق بقيمة العبد.
م: (ولم يوجد واحد منهما) ش: أي من التخريج إلى الحرية وتعلق حق الغير م: (ولا يرجع المكره) ش: بكسر الراء م: (على العبد بالضمان لأنه مؤاخذ بإتلافه) ش: أي لأن المكره نفسه إنما يضمن من حيث إنه جعل متلفا للعبد حكما كأنه قتله والمقتول لا يسعى لأحد حكما.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويرجع بنصف مهر المرأة إن كان) ش: أي الإكراه م: (قبل الدخول) ش: بها. فإن قلت: المماثلة شرط في ضمان العدوان والمكره لم يضع غير تأكيد نصف المهر والإيجاب أعلى من التأكيد.
قلت: المماثلة في المضمون لا في الفعل، والمضمن نصف المهر بالاتفاق فتتحقق المماثلة م: (وإن لم يكن في العقد مسمى يرجع على المكره) ش: بكسر الراء م: (بما لزمه من المتعة، لأن ما عليه) ش: أي على الزوج م: (كان على شرف السقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها) ش: بتمكين أي الزوج منها بغير إكراه أو بالارتداد والعياذ بالله تعالى.
م: (وإنما يتأكد) ش: أي ما كان عليه إنما يتأكد م: (بالطلاق فكان إتلافا للمال من هذا الوجه فيضاف إلى المكره) ش: بكسر الراء م: (من حيث إنه إتلاف) ش: فإذا أضيف إليه يرجع المكره عليه لأن للتأكيد شبها فكان المكره بمنزلة الآلة فيرجع عليه.
م: (بخلاف ما إذا دخل بها) ش: حيث لا يضمن المكره الآمر شيئا وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن مهر المثل م: (لأن المهر قد تقرر بالدخول لا بالطلاق) ش: فبقي مجرد إتلاف ملك النكاح وهو ليس بمال عند الخروج وما ليس بمال لا يضمن

(11/64)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمال، ألا ترى أن الشاهدين إذا رجعا بعد الشهادة بالطلاق لا يضمنان. ثم إن المصنف لم يضمن الإكراه على النكاح.
قال محمد: في " الأصل " ولو أن رجلا أكره بوجه قتل أو بحبس أو بقيد أو بضرب حتى تزوج امرأة على عشرة آلاف ومهر مثلها ألف درهم كان النكاح جائزا، ويكون من العشرة آلاف درهم مهر مثلها ألف درهم ويبطل الفضل.
وذكر الطحاوي في "مختصره " أن الزوج يلزمه جميع ذلك فيرجع بالفضل على من أكرهه وهو ليس بظاهر الرواية، ولو أن المرأة هي التي أكرهت حتى تزوجها الزوج على ألف درهم ومهر مثلها عشرة آلاف أو زوجها أولياؤها مكرهين فالنكاح جائز ولا ضمان على المكره.
ثم هل للمرأة والأولياء الاعتراض على هذا النكاح. فالمسألة على وجهين إما أن يكون الزوج دخل بها أو لم يدخل بها وكل وجه على وجهين: إما أن تكون المرأة رضيت بما سمى لها من الصداق أو لم ترض، وكل وجه على وجهين: إما أن يكون الزوج كفؤا لها أو غير كفؤ، فإن كان كفؤا لها وقد رضيت بالمسمى كان للأولياء حق الاعتراض عند أبي حنيفة، وعندهما لا أصل.
ولو زوجت نفسها في الابتداء من كفؤ بأقل من مهر المثل كانت المسألة على الاختلاف، وإن كان الزوج غير كفؤ لها، فللأولياء الاعتراض على هذا النكاح، عندهم جميعا، هذا إذا رضيت بالمسمى، ولم يدخل بها الزوج، فإن لم ترض بالمسمى ينظر.
فإن كان الزوج كفؤا لها، فلها حق الاعتراض على هذا النكاح بسبب نقصان المهر عندهم جميعا، فإذا رفعت الأمر إلى القاضي بخير زوجها، فيقول: له أتم لها مهرها وإلا فرقت بينكما، فإذا أتم نفذ النكاح، وإن أبى يفرق بينهما ولا يكون لها مهر.
لأن الفرقة جاءت من قبلها لما لم ترض بالزيادة، والفرقة الواقعة من قبلها تسقط الصداق كله قبل الدخول كما في ارتدادها، وإن لم يكن الزوج كفؤا لها فلها، وللأولياء حق الاعتراض، على هذا النكاح، عند أبي حنيفة، لعدم الكفارة، ونقصان المهر. وعندهما ليس لها حق الاعتراض كذلك للأولياء لعدم الكفاءة لا غير.
هذا كله فيما إذا لم يدخل بها. فإن دخل بها وهي مكرهة فإن كان الزوج كفؤا لها فللأولياء والمرأة حق الاعتراض بسبب عدم الكفاءة، وأما إذا دخل بها وهي طائعة فقد رضيت بالمهر المسمى دلالة، فكان كما لو رضيت بالمسمى نصا، فعلى قول أبي حنيفة للأولياء حق

(11/65)


ولو أكره على التوكيل بالطلاق والعتاق ففعل الوكيل جاز استحسانا لأن الإكراه مؤثر في فساد العقد والوكالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، ويرجع على المكره استحسانا لأن مقصود المكره زوال ملكه إذا باشر الوكيل، والنذر لا يعمل فيه الإكراه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاعتراض.
وإن كان الزوج غير كفؤ فللأولياء حق الاعتراض عند أبي حنيفة لعدم الكفاءة ونقصان المهر، وعندهما لعدم الكفاءة لا غير، هذا خلاصة ما ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو أكره على التوكيل بالطلاق والعتاق ففعل الوكيل) ش: أي طلق أو أعتق م: (جاز استحسانا) ش: أي يقع الطلاق والعتاق بفعل الوكيل. وفي القياس لا يقع، وبه قالت الثلاثة لأن القياس أن لا تصح الوكالة بالإكراه لأن الأصل أن كل عقد يؤثر فيه الهزل يؤثر فيه الإكراه وما لا فلا، لأنهما ينفيان الرضى، والوكالة تبطل بالهزل، فكذا مع الإكراه.
م: (لأن الإكراه) ش: إشارة إلى بيان وجه الاستحسان، تقريره أن الإكراه م: (مؤثر في فساد العقد) ش: فكان كالشرط الفاسد م: (والوكالة لا تبطل بالشروط الفاسدة) ش: فالإكراه لا يؤثر في فساد الوكالة أما أنه كالشرط الفاسد فلما تقدم أنه بعدم الرضى فيفسد به الاختيار فصار كأنه شرط شرطا فاسدا فإنه يفسد العقد ولا يمنع عن الانعقاد، وأما أن الوكالة لا تفسد بالشروط فلأنهما من الإسقاطات إذ الموكل يسقط حقه بالتعويض إليه، فإذا لم تبطل الوكالة ينفذ تصرف الوكيل.
م: (ويرجع على المكره) ش: بكسر الراء بما عزم من نصف الصداق وقيمة العبد م: (استحسانا) ش: والقياس أن لا يرجع عليه، لأن الإكراه وقع على الوكالة وزوال الملك لم يقع بها، فإن الوكيل قد يفعل وقد لا يفعل، فلا يضاف التلف إليه كما في الشاهدين شهدا أن فلانا وكل فلانا يعتق عبده فأعتق الوكيل ثم رجعا.
وجه الاستحسان هو وقوله م: (لأن مقصود المكره) ش: بالكسر م: (زوال ملكه إذا باشر الوكيل) ش: فكان الزوال مقصودا فيضمن ولا ضمان على الوكيل لأنه لم يوجد منه إكراه م: (والنذر لا يعمل فيه الإكراه) ش: يشير بهذا إلى بيان ما يعمل فيه الإكراه، وإما لا يعمل وضابط ذلك أن كل ما يؤثر فيه الفسخ بعد وقوعه لا يعمل فيه الإكراه، فإذا كان كذلك يصح النذر مع الإكراه بأن أكرهه بوعيد تلف حتى جعل على نفسه صدقة لله أو صوما أو حجا أو مثل ذلك لزمه كله خلافا للثلاثة.

(11/66)


لأنه لا يحتمل الفسخ ولا رجوع على المكره بما لزمه لأنه مطالب له في الدنيا فلا يطالب به فيها، وكذا اليمين والظهار لا يعمل فيهما الإكراه لعدم احتمالهما الفسخ، وكذا الرجعة والإيلاء والفيء فيه باللسان لأنها تصح مع الهزل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه) ش: أي لأن النذر م: (لا يحتمل الفسخ) ش: لأنه يمين لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النذر يمين» واليمين لا يحتمل الفسخ فلا يؤثر فيه الإكراه. وروى محمد في أوائل الإكراه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال أربع مقفلات مبهمات ليس فيهن رد بذي الإعتاق ولا الطلاق والنكاح والنذر، أراد بقوله مبهمات وقوعها وصحتها مطلقة بلا قيد الرضى والطواعية، والحل إذا صدرت عن المكلف.
م: (ولا رجوع على المكره) ش: بالكسر م: (بما لزمه لأنه لا مطالب له في الدنيا فلا يطالب) ش: أي المكره بالكسر م: (به) ش: أي لما أكرهوه م: (فيها) ش: أي في الدنيا م: (وكذا اليمين) ش: أي وكذا إذا أكره على يمين فحلف انعقدت.
م: (والظهار) ش: بأن أكره على أن يظاهر امرأته فظاهر صح م: (لا يعمل فيهما الإكراه لعدم احتمالهما الفسخ، وكذا الرجعة) ش: أي لعدم احتمالهما الفسخ والظهار من أسباب التحريم كالطلاق فيستوي فيه الجد والهزل والإكراه والطوع، خلافا للثلاثة لا يعمل فيها الإكراه لأنه استدامة للنكاح.
فكانت ملحقة به م: (والإيلاء) ش: أي وكذا الإيلاء لأنه يمين في المال والإكراه لا يمنع كل واحد منهما م: (والفيء فيه باللسان) ش: أي في الإيلاء بأن أكرهه على فيء إليها باللسان ففعل صح، لأنه كالهبة في استدامته أي الرجعة في الاستدامة م: (لأنها) ش: أي الرجعة والإيلاء والفيء في بعض النسخ لأنه، أي لأن كل واحد من المذكورات.
م: (تصح مع الهزل) ش: وما صح مع الهزل لا يحتمل الفسخ، فإن أكره على إعتاق عبد عن كفارة اليمين أو الظهار ففعل أجزأه عنها ولم يرجع على المكره بقيمته لأنه أمره بالخروج عما لزمه وذلك منه حسبة لا إتلافا بغير حق وإن عين عبدا لذلك ففعل عتق ولم يجز عن الكفارة رجع على المكره بقيمته، لأنه أتلف عليه مالية العبد حيث لم يكن مستحقا عليه.
وإذا ثبت له الرجوع لم يكن كفارة لأنها ليست بمضمونة على أحد، وإن ترك التي آلى منها أربعة أشهر حتى بانت ولم يكن دخل بها وجب عليه نصف المهر ولا يرجع به على المكره،

(11/67)


والخلع من جانبه طلاق أو يمين لا يعمل فيه الإكراه، فلو كان هو مكرها على الخلع دونها لزمها البدل لرضاها بالالتزام.
قال: وإن أكره على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن يكرهه السلطان. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يلزمه الحد، وقد ذكرناه في الحدود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه كان متمكنا من القرآن على المكره بشيء لأنه أتى بضد ما أكرهه عليه.
م: (والخلع من جانبه يمين) ش: أي من جانب الزوج يمين لوجود الشرط والجزاء، واليمين لا يعمل فيه الإكراه م: (أو طلاق) ش: هذا ظاهر، والإكراه لا يمنع وقوع الطلاق بغير جعل، فكذا بالجعل م: (لا يعمل فيه) ش: أي في الخلع م: (الإكراه) ش: لما ذكرنا م: (فلو كان هو) ش: أي الزوج م: (مكرها على الخلع دونها) ش: أي دون المرأة م: (لزمها البدل لرضاها بالالتزام) ش: البدل طائعة بإزاء ما سلم جاء من البينونة ولا شيء على المكره للزوج، لأنه أتلف عليه ما ليس بمال وهو النكاح فلا يضمن به.
فإن قيل: إن خالعها وهي غير ملموسة فاستحقت نصف الصداق هل يرجع به الزوج على المكره لتأكيده ما كان على شرف السقوط أولا.
قلنا: لا يخلو إما أن يكون ساق الزوج إليها المهر كله أو لا، فإن ساق رجع على المكره بنصفه بالاتفاق، أما عندهما فظاهر، لأن الخلع على مال مسمى لا يوجب البراءة عما يستحق كل منهما قبل صاحبه بحكم النكاح، وأما عند أبي حنيفة رحمه فلأنه وإن أوجب البراءة لكنها براءة مكرها، والبراءة مع الإكراه لا تصح. وإن لم يسمه رجع عندهما خلافا له، لأنه غير مكره في هذه الصورة على البراءة.

[الإكراه على الزنا]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن كان أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بانتشار آلته، وذلك لا يكون إلا بلذة، وذلك دليل على الطواعية، وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا أن يكرهه السلطان) ش: يعني لا يجب الحد حينئذ، لأن الحد للزجر ولا حاجة إليه مع الإكراه، فكان قصده بهذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة، فيصير ذلك شبهة في الإسقاط وانتشار الآلة قد يكون طبعا بالفحولة التي ركبها الله عز وجل في الرجال، ألا ترى أن النائم تنتشر آلته بلا اختيار له في ذلك ولا قصدا.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يلزمه الحد وقد ذكرناه في الحدود) ش: في الصورتين جميعا، ودليلهما ما ذكره أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إكراه السلطان على الزنا قبل تقييد الإكراه بالسلطان من قبيل اختلاف العصر كما تقدم.

(11/68)


قال: وإذا أكره على الردة لم تبن امرأته منه لأن الردة تتعلق بالاعتقاد. ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئنا بالإيمان لا يكفر وفي اعتقاده الكفر شك فلا تثبت البينونة بالشك، فإن قالت المرأة: قد بنت منك وقال هو قد أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان فالقول قوله استحسانا؛ لأن اللفظ غير موضوع للفرقة وهي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: من قبيل اختلاف الحكم، ثم في كل موضع يجب الحد على المكره لا يجب لها المهر، لأن الحد والمهر لا يجتمعان عندنا بفعل واحد، وفي كل موضع سقط الحد وجب المهر، لأن الوطء في غير الملك لا ينتقل عن أحدهما، فإذا سقط الحد وجب المهر إظهارا لخطر المحل، سواء كانت مستكرهة على الفعل أو أذنت له بذلك، أما الأول فظاهر لأنها لم ترض بسقوط حقها. وأما الثاني فلأن الإذن له ليس يحل الوطء، فكان إذنها كفؤا لكونها محجورة عن ذلك شرعا.

[من أكره على الردة هل تبين منه امرأته]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا أكره على الردة لم تبن امرأته منه، لأن الردة تتعلق بالاعتقاد) ش: يعني الردة تكون بتبدل الاعتقاد م: (ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئنا بالإيمان لا يكفر، وفي اعتقاده الكفر شك) ش: لأن الإيمان ثابت باليقين والردة تعتمد محض الاعتقاد وقد وقع الشك في اعتقاده الكفر بالارتداد كرها م: (فلا تثبت البينونة بالشك) ش: لأنها تترتب على وجود الردة من غير شك، والمترتب على ما شك فيه لا يثبت، ويجوز أن يكون قوله لأن الردة تتعلق بالاعتقاد دليلا مستقلا. وقوله: وفي اعتقاد الكفر شك دليلا آخر.
وجه الأول تبدل الاعتقاد ليس بثابت لقيام الدليل، وهو الإكراه.
ووجه الثاني: أن الرد باعتقاد الكفر وفي اعتقاد الكفر شك لأنه أمر معين لا يطلع عليه إلا بترجمة اللسان، وقيام الإكراه يصرف من صحة الترجمة فلا تثبت البينونة المترتبة على الكفر بالشك.
م: (فإن قالت المرأة: قد بنت منك) ش: أي فإن اختلف الزوجان فقالت المرأة اعتقدت بقلبك الكفر حيث أجريت على لسانك كلمة الكفر بالإكراه وبنت منك م: (وقال هو) ش: أي الزوج م: (قد أظهرت ذلك) ش: أي الكفر بلساني خوفا من القتل م: (وقلبي مطمئن بالإيمان) ش: ولم يتبدل اعتقادي م: (فالقول قوله استحسانا) ش: فيبن به، لأن في القياس القول قولهما حتى يفرق بينهما، لأن كلمة الكفر سبب لحصول البينونة كلفظ الطلاق، فيستوي فيه الطائع والمكره، وأشار إلى وجه الاستحسان بقوله.
م: (لأن اللفظ) ش: يعني كلمة الكفر م: (غير موضوع للفرقة) ش: يعني لم يظهر فيها ظهورا بينا من حيث الحقيقة يكون صريحا يقوم اللفظ فيه مقام معناه كما في الطلاق م: (وهي)

(11/69)


بتبدل الاعتقاد، ومع الإكراه لا يدل على التبدل فكان القول قوله. بخلاف الإكراه على الإسلام حيث يصير به مسلما لأنه لما احتمل واحتمل رجحنا الإسلام في الحالين؛ لأنه يعلو ولا يعلى. وهذا بيان الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يعتقده فليس بمسلم. ولو أكره على الإسلام حتى حكم بإسلامه ثم رجع لم يقتل لتمكن الشبهة وهي دارئة للقتل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي الفرقة م: (بتبدل الاعتقاد ومع الإكراه لا يدل على التبدل) ش: فلا تقع الفرقة م: (فكان القول قوله) ش: يعني فإذا كان كذلك يكون القول قول الزوج.
م: (بخلاف الإكراه على الإسلام) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال كيف قلتم إن الاعتقاد مع الإكراه لا يدل على التبدل وقد حصل تبدل الاعتقاد مع الإكراه في صورة الإكراه على الإسلام، لأنه لم يعتبر كافرا كما كان بل اعتبر مسلما لتبدل اعتقاده من الكفر إلى الإسلام.
وتقرير الجواب أن حكم الارتداد بالإكراه م: (حيث يصير به) ش: أي بالإكراه م: (مسلما لأنه) ش: أي لأن الإنسان م: (لما احتمل) ش: أن يكون لفظه يوافق اعتقاده م: (واحتمل) ش: أن لا يكون م: (رجحنا الإسلام في الحالين) ش: أي في حالة إجراء كلمة الكفر بالإكراه بالإسلام وتحقيقه إن وجدت حقيقة الإسلام مع الإكراه فيكون مسلما، لأن الإسلام إنما يتحقق بالتصديق بالقلب والإقرار باللسان وقد سمعنا إقراره بلسانه، واللسان يعبر عما في القلب فيحكم بإسلامه، يؤيده قوله عز وجل {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] (سورة آل عمران: الآية 83) ، بخلف الردة فإنها تحصل بتبدل الاعتقاد، والإكراه دليل ظاهر على عدمه.
م: (لأنه) ش: أي الإسلام م: (يعلو) ش: على غيره م: (ولا يعلى) ش: أي ولا يعلو غيره عليه م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا من الحكم بإسلامه مع الإكراه م: (بيان الحكم) ش: في الدنيا م: (أما فيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يعتقد الإسلام فليس بمسلم) ش: هذا كأنه إشارة إلى ما قاله الإمام أبو منصور الماتريدي وهذا المنقول عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإيمان هو التصديق والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام ليس ذلك مذهب أهل أصول الفقه، فإنهم يجعلون الإقرار ركنا.
م: (ولو أكره على الإسلام حتى حكم بإسلامه ثم رجع لم يقتل لتمكن الشبهة) ش: أي شبهة عدم الارتداد، ولجواز أن يكون التصديق غير قائم بقلبه عند الشهادتين م: (وهي) ش: أي الشبهة م: (دارئة للقتل) ش: وهذا استحسان.
وفي القياس يقتل لأنه بدل دينه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» وهذا نظير القياس.

(11/70)


ولو قال الذي أكره على إجراء كلمة الكفر: أخبرت عن أمر ماض، ولم أكن فعلت بانت منه حكما لا ديانة لأنه أقر أنه طائع بإتيان ما لم يكره عليه وحكم هذا الطائع ما ذكرناه. ولو قال: أردت ما طلب مني وقد خطر ببالي الخبر عما مضى بانت ديانة وقضاء، لأنه أقر أنه مبتدئ بالكفر هازل به حيث علم لنفسه مخلصا غيره، وعلى هذا إذا أكره على الصلاة للصليب وسب محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ففعل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والاستحسان في المولود بين المسلمين إذا بلغ مرتدا يجبر على الإسلام ولا يقتل استحسانا للشبهة المتمكنة فيه بسبب اختلاف العلماء.
م: (ولو قال الذي أكره على إجراء كلمة الكفر أخبرت عن أمر ماض) ش: هذا معطوف على قوله وقال هو قد أظهرت ذلك، يعني لو قال في جواب قولها قد ثبت منك أخبرت عن أمر ماض، يعني خطر ببالي كفرت بالله أن أخبر عن أمر ماض كذابا م: (ولم أكن فعلت) ش: ذلك فيما مضى.
م: (بانت منه حكما لا ديانة) ش: يعني تقع البينونة بينهما قضاء لا ديانة، يعني لا تبين منه فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه ادعى ما يحتمله لفظه م: (لأنه أقر أنه طائع بإتيان ما لم يكره عليه، وحكم هذا الطائع ما ذكرناه) ش: هذا دليل وقوع البينونة حكما لا ديانة لأن من أقر بالكفر طائعا ثم قال عنيت به الكذب لا يصدقه القاضي، لأنه خلاف الظاهر، إذ الظاهر هو الصدق حالة الطواعية.
م: (ولو قال أردت ما طلب مني) ش: يعني قال خطر ببالي الإخبار عن الكفر بالماضي والكذب، ولكن لم أرد ذلك، بل أردت ما طلب مني، يعني من الكفر يعني أردت كفرا مستقبلا جوابا لكلامهم م: (وقد خطر ببالي) ش: أي والحال أنه قد خطر ببالي م: (الخبر عما مضى بانت ديانة وقضاء) ش: يعني فيما بينه وبين الله وفي قضاء القاضي، لأن إنشاء الكفر بمنزلة إجراء كلمة الكفر طائعا فيحكم بكفره قضاء وديانة فبانت امرأته قضاء وديانة م: (لأنه أقر أنه مبتدئ بالكفر) ش: يعني منشئا إياه.
م: (هازل به حيث علم لنفسه مخلصا) ش: وهو أن ينوي الخبر عن الكفر في الزمان الماضي كاذبا من غير إظهار ذلك م: (غيره) ش: أي غير ابتداء الكفر وإنشائه. وهاهنا وجه ثالث، وهو أن يقول لم يخطر ببالي شيء ولكن كفرت بالله كفرا مستقبلا وقلبي مطمئن لم تبن منه امرأته استحسانا ذكره في " المبسوط " و" الذخيرة ".
م: (وعلى هذا) ش: أي على التفصيل المذكور م: (إذا أكره على الصلاة للصليب) ش: أي يسجد له م: (وسب محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي إذا أكره على سب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (ففعل)

(11/71)


وقال: نويت به الصلاة لله تعالى ومحمدا آخر غير النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بانت منه قضاء، لا ديانة، ولو صلى للصليب وسب محمدا النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقد خطر بباله الصلاة لله وسب غير النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بانت منه ديانة وقضاء لما مر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي سجد للصليب أو سب محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (وقال نويت به الصلاة لله تعالى ومحمدا آخر) ش: أي ونويت به محمدا آخر م: (غير - النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بانت منه قضاء) ش: أي بانت امرأته منه حيث الحكم لأنه لما قال نويت به الصلاة لله فقد أقر أن ما وجد منه لم يكن مكرها فيه، والإكراه واقع عليه فصار بمنزلة ما إذا صلى بين يدي الصليب بدون الإكراه من أحد، وقال عنيت به الصلاة لله يصدق ديانة لا قضاء، كذا هاهنا م: (لا ديانة) ش: أي لا يقع فيما بينه وبين الله.
م: (ولو صلى للصليب وسب محمدا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقد خطر) ش: أي والحال أنه قد خطر م: (بباله الصلاة لله وسب غير النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بانت منه ديانة وقضاء لما مر) ش: أشار به إلى قوله لأنه مبتدئ بالكفر هازل به حيث علم لنفسه مخلصا غيره، وتحقيق الكلام أنه لما قال خطر ببالي أن أصلي لله وتركته ذلك وصليت للصليب فإنه يكفر قضاء وديانة، لأنه صلى للصليب طائعا.
لأنه لما خطر بباله أن يصلي لله تعالى فقد أمكنه دفع الإكراه بذلك، لأن المكره لا يعرف أنه يصلي لله دون الصليب، لأن الآمر لا اطلاع له على ما في ضميره، فإذا أمكنه دفع الإكراه بهذا القدر كان طائعا في الصلاة للصليب، ومن صلى للصليب طائعا فقد كفر قضاء وديانة، وكذلك الكلام في قوله خطر ببالي أن أسب فلانا اسمه محمد غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتركت ذلك فإنه يكفر أيضا قضاء وديانة، لأنه شتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في غير موضع الضرورة كفر.
واعلم أن كل واحد من هذين الحكمين يتصور على ثلاثة أوجه كما في مسألة الإكراه على إجراء كلمة الكفر: ففي وجه يكفر قضاء لا ديانة، وفي وجه: يكفر قضاء وديانة، وهما المذكوران في المتن، وفي وجه: لا يكفر لا قضاء ولا ديانة وهو أن يخطر بباله أن يصلي لله وقد صلى لله لا للصليب، وقد شرح ذلك في " الكافي " للحاكم، وشرحه فقال إن رجلا لو قال له أهل الحرب وقد أخذوه أسيرا لتكفرن بالله أو لتقتلن، فكفر بالله في وجه لا يصير كافرا لا في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، حتى وفي وجهه يكفر في القضاء حتى يفرق القاضي بينه وبين امرأته إن كانت له امرأة ولا يكفر فيما بينه وبين الله عز وجل حتى وسعه إمساك امرأته فيما بينه وبين الله تعالى، وفي وجه يكفر في القضاء وفيما بينه وبين ربه.
أما الوجه الأول: فهو ما أكره على الكفر بوعيد تلف فتكلم ولم يخطر بباله شيء على ما أكره عليه وقلبه مطمئن بالإيمان، ففيه لا يكفر أصلا لا قضاء ولا ديانة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(11/72)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (سورة النحل: الآية 106) .
وأما الوجه الثاني: وهو أن يكفر قضاء لا ديانة فيما إذا خطر بباله الخبر بالكفر عما مضى بالكذب ولم أرد به كفرا مستقبلا، وإنما كفر قضاء لأنه عدل عما أكره عليه لأنه أكره على إنشاء الكفر لا على الإخبار عن الماضي والإخبار عن الإنشاء، فكان طائعا في الإخبار.
ومن أقر بالكفر فيما مضى طائعا ثم قال عنيت به الكذب لا يصدقه القاضي لأنه خلاف الظاهر، لأن الظاهر هو الصدق حالة الطواعية، ولكن يصدق ديانة لأنه ادعى ما يحتمله لفظه.
وأما الوجه الثالث: وهو أنه يكفر قضاء وديانة فيما إذا قال خطر على بالي الإخبار عن الكفر الماضي بالكذب ولم أرد ذلك بل أردت كفرا مستقبلا جوابا لكلامهم، وذلك لأنه أنشأ كفرا طائعا، ومن أنشأ كفرا طائعا يكفر قضاء وديانة، وإنما قلنا: إنه طائع لأنه لما خطر بباله الإخبار بالكفر الماضي كاذبا أمكنه التخلص عما أكره عليه بالأدنى، لأن الإخبار دون الإنشاء، ألا ترى أنه لو أكره على إقرار بالعتق فأقر لا يعتق العبد، ولو أكره على العتق فأعتق يعتق.
ولو قيل له: لنقتلنك أو لتصلين لهذا الصليب فالمسألة على ثلاثة أوجه: إما أن يقول خطر على بالي أن أصلي لله وقد صليت له ولم أصل للصليب، أو يقول خطر ببالي أن أصلي لله فلم أفعل ذلك وصليت للصليب، أو يقول لم يخطر ببالي شيء وقد صليت للصليب مكرها.
ففي الأول: لا يكفر، لأنه صلى لله لا للصليب. ولا فرق أن يكون مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وبه صرح الكرخي في مختصره. وأما إذا قال خطر على بالي أن أصلي لله تعالى وتركت ذلك وصليت للصليب فإنه يكفر قضاء وديانة لأنه صلى للصليب طائعا، لأنه لما خطر على باله أن يصلي لله تعالى فقد أمكنه دفع الإكراه، لأن المكره لا يعرف أنه يصلي لله دون الصليب لأنه لا اطّلاع له على ما في ضميره، فإذا أمكنه دفع الإكراه بهذا القدر كان طائعا في الصلاة للصليب، ومن صلى للصليب طائعا كفر قضاء وديانة. فأما إذا قال لم يخطر ببالي شيء وقد صليت للصليب مكرها لا يكفر أصلا قضاء ولا ديانة، لأنه فعل ذلك مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان.
ولو أكره على شتم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشتمه فالمسألة على ثلاثة أوجه أيضا: إما أن يقول خطر على بالي محمد آخر رجل من النصارى فأردت بالشتم ذلك الرجل النصراني أو يقول خطر على بالي رجل من النصارى اسمه محمد فلم أشتمه وإنما شتمت محمدا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنا غير راض بذلك. أو يقول لم يخطر على بالي شيء فشتمت محمدا كما طلب مني وأنا غير راض بذلك.

(11/73)


وقد قررناه زيادة على هذا في " كفاية المنتهي "، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ففي الوجه الأول: لا يكفر لأنه لم يشتم محمدا. وفي الثاني: يكفر قضاء وديانة، لأنه لما خطر بباله محمد آخر أمكنه التخلص عن الإكراه بشتم ذلك الرجل، فلما شتم محمدا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان طائعا في الشتم، ومن شتمه طائعا كفر قضاء وديانة. وفي الرجل الثالث لا يكفر لأنه مضطر فيما فعل، فصار كما لو تلكم بكلمة الكفر ولم يخطر على باله شيء وقلبه مطمئن بالإيمان.
م: (وقد قررناه) ش: أي حكم المسائل المذكورة م: (زيادة على هذا) ش: أي تقرير زيادة، أي زائدة على ما قررناه هاهنا م: (في " كفاية المنتهي "، والله أعلم) ش: يتعلق بقوله قررناه، وهو اسم الكتاب الذي ألفه المصنف ولم يقع في هذه الديار ويذكر عنه أنه كتاب عظيم مشتمل على مسائل كثيرة ودلائل غريبة.

(11/74)