البناية شرح الهداية

باب الحجر بسبب الدين قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أحجر في الدين، وإذا وجبت ديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه لأن في الحجر إهدار أهليته، فلا يجوز لدفع ضرر خاص فإن كان له مال يتصرف فيه الحاكم لأنه نوع حجر، ولأنه تجارة لا عن تراض فيكون باطلا بالنص،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب الحجر بسبب الدين]
م: (باب الحجر بسبب الدين) ش: أي هذا باب في بيان الحجر بسبب الدين. أخره عن حجر السفيه؛ لأن هذه الحجر موقوف على طلب الغرماء، فيكون فيه وصف زائد على المشاركة في أصل الحجر، فصار كالمركب فأخر لذلك.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أحجر في الدين) ش: هذا كلام مجمل وفصله بقوله م: (وإذا وجبت ديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه) ش: إنما أسند الفعل إلى نفسه في الموضعين تنبيها على شدة تأكيده على منع الحجر لا يقال: إن فيه تعظيما للنفس، لأن المعنى لو استفتيت أو رفع أمره إلى الحاكم لم أحجر عليه والكلام في موضعين:
أحدهما: أن من ركبه الديون وليس في ماله وفاء وخيف أن يلجأ ماله بطريق الإقرار، ويبيع التحلية وطلب الغرماء من القاضي الحجر عليه، لا يحجر عليه عند أبي حنيفة، وقالا: يحجر عليه، وبه قالت: الثلاثة.
والآخر: أنه لا يباع على المديون ماله في قوله، خلافا لهم والعروض، والعقار فيه سواء، عند مبادلة أحد النقدين بالآخر، فللقاضي أن يفعل ذلك عنده استحسانا لقضاء دينه م: (لأن في الحجر إهدار أهليته، فلا يجوز لدفع ضرر خاص) ش: وهو ضرر الدائن.
فإن قلت: العبد محجور لدفع ضرر خاص وهو ضرر المولى.
قلت: العبد أهدر أهليته وآدميته بالكفر.
م: (فإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم، لأنه نوع حجر) ش: لأن بيع ماله غير مستحق لقضاء الدين لإمكان أدائه بوجه آخر فلا يكون للقاضي أن يباشر ذلك عليه عند امتناعه كما في الإجارة والتزويج إذ يمكنه قضاؤه بالاستقراض والاستيهاب.
م: (ولأنه تجارة لا عن تراض) ش: أي ولأن بيعه ما له بغير رضاه تجارة من غير تراض م: (فيكون باطلا بالنص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً

(11/115)


ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه. وقالا: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء، لأن الحجر على السفيه إنما جوزناه نظرا له، وفي هذا الحجر نظر للغرماء، لأنه عساه يلجئ ماله فيفوت حقهم. ومعنى قولهما: ومنعه من البيع أن يكون بأقل من ثمن المثل. أما البيع بثمن المثل لا يبطل حق الغرماء والمنع لحقهم فلا يمنع منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] (النساء: الآية 29) ، م: (ولكن يحبسه أبدا) ش: ولكن القاضي يحبس ماله أبدا.
وفي بعض النسخ ولكن يحبسه وأبدا نصب على الظرف م: (حتى يبيعه في دينه إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه) ش: الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين منه والحبس بالدين مشروع بالإجماع.
فإن قلت: روى الدارقطني من حديث ابن مالك، عن أبيه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ماله في دين كان عليه» . وعن عبد الرحمن بن كعب قال: كان معاذ شابا سخيا، وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله في الدين، فأتى غرماؤه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم، فلو ترك أحد لترك معاذ لأجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماله حتى قام معاذ بغير شيء. قلت: هذا حكاية حال على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنو الآن ما لم يكن وفاء لدينه فالتمس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن بينوا لي بيع ماله لبقي بدينه بواسطة بموكب تصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنا نقول أنه مرسل وهو ليس بحجة عند الخصم.
م: (وقالا: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء، لأن الحجر على السفيه إنما جوزناه نظرا له، وفي هذا الحجر نظر للغرماء، لأنه عساه يلجئ ماله) ش: أي لأن المفلس المديون عسى أن يبيع ماله تلجئة من عظيم لا يمكن الانتزاع من يده، أو بقوله بماله.
وقال تاج الشريعة: أي يقر لغير الغرماء حتى لا يصل إليهم وهو بتشديد الجيم من لجأ تلجئة، وثلاث لجاء ولجأت إليه يجاء بالتحريك وملجأ والموضع لجاء وملجأ أيضا م: (فيفوت حقهم) ش: أي حق الغرماء.
م: (ومعنى قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (منعه من البيع أن يكون بأقل من ثمن المثل) ش: أي أن يبيع بالغبن يسيرا كان أو فاحشا م: (أما البيع بثمن المثل لا يبطل حق الغرماء والمنع لحقهم فلا يمنع منه) ش: أي المنع إنما كان لحق الغرماء، فإذا كان بثمن المثل لا يمنع.

(11/116)


قال: وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين غرمائه بالحصص عندهما، لأن البيع مستحق عليه لإيفاء دينه حتى يحبس لأجله، فإذا امتنع ناب القاضي منابه كما في الجب والعنة. قلنا: التلجئة موهومة والمستحق قضاء الدين والبيع ليس بطريق متعين لذلك بخلاف الجب والعنة والحبس لقضاء الدين بما يختاره من الطريق، كيف ولو صح البيع كان الحبس إضرارا بهما بتأخير حق الدائن وتعذيب المديون، فلا يكون مشروعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[بيع المفلس ماله لقضاء الدين المستحق عليه]
م: (قال: وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين غرمائه بالحصص عندهما؛ لأن البيع مستحق عليه) ش: أي بيع المال لقضاء الدين المستحق عليه م: (لإيفاء دينه، حتى يحبس لأجله) ش: أي لأجل البيع ويحبس بالدفع، لأن حتى هاهنا للغاية كقولهم مرض فلان حتى لا يرجونه م: (فإذا امتنع) ش: عن البيع م: (ناب القاضي منابه كما في الجب) ش: بفتح الجيم وتشديد الباء وهو القطع لغة، والمراد هاهنا أن المرأة إذا وجدت زوجها مجبوبا فإنه يفرق بينهما، فإن امتنع عن ذلك ناب القاضي منابه.
م: (والعنة) ش: بضم العين وتشديد النون، وهو اسم من عن الرجل عن المرأة إذا منع عنها بالسحر، والعنين هو الذي لا تقوم له آلة، إما لعلة أو لسحر وأراد أن المرأة إذا وجدت زوجها عنينا فلها الخيار بعد الفصول الأربعة، فإن امتنع زوجها عن التفريق ناب القاضي منابه.
م: (قلنا) ش: هذا جواب عما قال أبو يوسف، ومحمد ومن تبعهما م: (التلجئة موهومة) ش: لأنه احتمال مرجوح فلا يهدر به أهلية الإنسان، ويرتكب البيع بلا تراض م: (والمستحق قضاء الدين، والبيع ليس بطريق متعين) ش: لأنه يمكنه الاستيفاء بالاستقراض والاستيهاب والسؤال من الناس فلا يجوز للقاضي تعيين هذا الجهة م: (لذلك) ش: أي لقضاء الدين.
م: (بخلاف الجب والعنة) ش: فإن التفريق هناك متعين، لأنه لم يمكنه الإمساك بالمعروف، يعني عليه التسريح بالإحسان، فلما امتنع عن التسريح بالإحسان مع عجزه عن الإمساك بالمعروف ناب القاضي منابه في التفريق م: (والحبس لقضاء الدين) ش: جواب عن قولهما حتى يحبس لأجله.
وتقريره: سلمنا بلزوم الحبس لكنه ليس لأجل البيع، بل القضاء الدين م: (بما يختاره من الطريق) ش: الذي ذكرنا من الاستقراض، والاستيهاب، وسؤال الصدقة وبيع ماله بنفسه م: (كيف) ش: أي كيف صح البيع م: (وإن صح البيع) ش: من القاضي م: (كان الحبس إضرارا بهما) ش: أي بالمديون والغريم م: (بتأخير حق الدائن) ش: إلى زمان تحقق امتناع المديون عن البيع م: (وتعذيب المديون) ش: بالحبس م: (فلا يكون) ش: الحبس م: (مشروعا)

(11/117)


قال: وإن كان دينه دراهم وله دراهم قضى القاضي بغير أمره، وهذا بالإجماع لأن للدائن حق الأخذ من غير رضاه فللقاضي أن يعينه. وإن كان دينه دراهم وله دنانير أو على ضد ذلك باعها القاضي في دينه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحسان، والقياس أن لا يبيعه كما في العروض، ولهذا لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه جبرا. وجه الاستحسان أنهما متحدان في الثمنية والمالية مختلفان في الصورة، فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي ولاية التصرف، وبالنظر إلى الاختلاف يسلب عن الدائن ولاية الأخذ عملا بالشبهين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: لكن الحبس مشروع بالإجماع، فدل ذلك على أنه ليس للقاضي ولاية البيع، وهذا لا ينقلب.
ولأن حبس المديون على اعتبار عدم ولاية البيع للقاضي لا يشمل على الدائن لما خير حقه، لأن للمديون ولاية البيع في كل لحظة بخلاف القاضي.
م: (قال: فإن كان دينه دارهم وله دراهم قضى القاضي بغير أمره، وهذا بالإجماع للدائن حق الأخذ من غير رضاه فللقاضي أن يعينه، وإن كان دينه دارهم وله دنانير أو على ضد ذلك) ش: بأن كان دينه دنانير وله دارهم م: (باعها القاضي في دينه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحسانا) .
ش: إنما خص أبا حنيفة بالذكر وإن كان ذلك بالإجماع لأن الشبهة ترد على قوله، لأنه كان لا يجوز بيع القاضي على المديون في العروض، فكان ينبغي أن لا يجوز في النقدين أيضا، لأنه نوع من البيع، وهو بيع الصرف م: (والقياس أن لا يبيعه كما في العروض، ولهذا لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه جبرا) ش: أي من غير قضاء، بخلاف ما لو ظفر بحبس حقه.
م: (وجه الاستحسان أنهما) ش: أي الدراهم والدنانير م: (متحدان في الثمنية والمالية) ش: ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة م: (مختلفان في الصورة، فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي ولاية التصرف، وبالنظر إلى الاختلاف يسلب عن الدائن ولاية الأخذ عملا بالشبهين) ش: تقريره: أن بالنظر إلى أنهما متحدان في الثمنية يثبت ولاية التصرف للقاضي وللغريم، وبالنظر إلى أنهما متحدان في الثمنية، ومختلفان صورة لا يثبت لهما أصلا، فعملنا بالوجهين وقلنا بولاية التصرف للقاضي دون الغريم، ولم نعكس، لأن ولاية القاضي أقوى من ولاية الغريم، فلما لم يثبت للقاضي فأولى أن لا يثبت للغريم، فيكون فيه إبطال حق الشبهين، فلهذا امتنع العكس.
وتوضيحه: أن من العلماء من يقول: إن لصاحب الدين أن يأخذ أحد النقدين بالآخر من غير قضاء، ولا رضاء، وهو ابن أبي ليلى، والقاضي مجتهد، فجعلنا له ولاية

(11/118)


بخلاف العروض، لأن الغرض يتعلق بصورها وأعيانها. أما النقود فوسائل فافترقا ويباع في الدين النقود ثم العروض ثم العقار يبدأ بالأيسر فالأيسر لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين مع مراعاة جانب المديون ويترك عليه دست من ثياب بدنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاجتهاد، وفي مبادلة أحد النقدين بالآخر لقضاء الدين منه، ولا يوجد هذا المعنى في سائر الأموال، وفي إضرار بالمديون من حيث إبطال حقه من غير ملكه، وللناس في الأعيان أغراض وليس للقاضي أن ينظر لغرمائه على وجه يلحق الضرر به فوق ما هو يستحق وهذا المعنى لا يوجد في النقود، لأن المقصود هناك المالية دون العين.
م: (بخلاف العروض) ش: هذا إشارة إلي بيان الفرق بين الدراهم والدنانير وبين العروض حيث جاز بيع القاضي في الدين وفي الدراهم والدنانير، ولم يجز في العروض فقال بخلاف العروض حيث لا يجوز بيعه فيها م: (لأن الغرض يتعلق بصورها وأعيانها، أما النقود فوسائل) ش: إلى حصول المقصود ولا يتعلق الغرض بصورها وأعيانها م: (فافترقا) ش: أي الحكمان يعني حكم النقدين وحكم العروض م: (ويباع في الدين النقود) ش: هذا تفريع على قولهما.
يعني أن المديون لما جاز بيع ماله عندهما تباع أولا النقود م: (ثم العروض ثم العقار) ش: وفي " الذخيرة ": فعلى قولهما يبيع أو قاضي ماله ولكن يبدأ بدنانيره إذا كان الدين دراهم، قال فضل الدين مع ذلك بيع العروض أولا لا العقار، لأن العروض معدة للتلف والتصرف والاسترباح عليه فلا يلحقه كثير ضرر في بيعه، فإن لم يف فحينئذ بيع العقار وأما دون ذلك فلا يبيعه لأن العقار أعد للاقتناء فيلحقه ضرر كثير، وهذا الذي ذكره رواية عنهما.
وفي رواية يبدأ القاضي ببيع ما يخشى عليه التلف من عروضه ثم يبيعها لا يخشى عليه التلف من عروضه ثم يبيع ما لا يخشى عليه التلف ثم يبيع العقار م: (يبدأ بالأيسر فالأيسر لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين مع مراعاة جانب المديون) ش: حاصله أن القاضي نصب ناظرا فينبغي أن ينظر للمديون كما ينظر للغرماء فيبيع ما كان أنظر له م: (ويترك عليه دست من ثياب بدنه) ش: الدست بفتح الدال وسكون السين المهملة، وأراد به البدلة من قماش نحو القميص واللباس والعمامة.
وفي " العباب " الدست من الثياب ومن الورق ومن صدر البيت ومن اللعب معربات ليست من كلام العرب. وفي " الذخيرة " إذا كان للمديون ثيابا يلبسها ويمكنه أن يجترئ بعد من ذلك بيع ثيابه ويشتري بثمنه ثوبا يلبسه، وما فضل يقضي دينه؛ لأن ذلك للتجمل وقضاء الدين فرض عليه، وعلى هذا لو كان له مسكن وتمكينه أن يجترئ بما دون ذلك يبيع المسكن

(11/119)


ويباع الباقي، لأن به كفاية، وقيل: دستان، لأنه إذا غسل ثيابه لا بد له من ملبس. قال: فإن أقر في حال الحجر بإقرار لزمه ذلك بعد قضاء الديون، لأنه تعلق بهذا المال حق الأولين، فلا يتمكن من إبطال حقهم بالإقرار لغيرهم. بخلاف الاستهلاك لأنه مشاهد لا مرد له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويشتري بثمنه ما يجترئ وما فضل قضى دينه ولا يباع داره التي أغنى له عن سكناها، وبه قال أحمد.
وقال الشافعي ومالك: تباع ويستأجر من ثمنه مسكنا له ويقضي بالفضل دينه، وفي " الخلاصة " والنية ما لا يحتاج إليه في الحال كاللبد في السيف والنطع في الشتاء، ولو كان له كانون من حديد يباع ويتخذ من الطين. وعن شريح أنه يباع عمامة المحبوس وعن أبي يوسف هكذا وفي شرح الطحاوي: ولو باع القاضي أو أمينه مال المديون فالعهدة على المطلوب لا على القاضي وأمينه.
وقال الشافعي وأحمد: على المديون. وقال مالك: على الغرماء وإن كان الثمن جنس حقهم وإلا على المديون.
م: (ويباع الباقي لأن به كفاية) ش: يعولان بالدست من الثياب كفاية م: (وقيل: دستان، لأنه إذا غسل ثيابه لا بد له من ملبس) ش: أي من لبس ثياب.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن أقر في حال الحجر بإقرار لزمه ذلك بعد قضاء الديون) ش: أي قال القدوري في "مختصره ".
وقال في " شرح الأقطع ": وهذا على قولهما م: (لأنه تعلق بهذا المال حق الأولين، فلا يتمكن من إبطال حقهم بالإقرار لغيرهم) ش: أي فلا يتمكن المديون من إبطال حق الأولين، وهذا الظاهر م: (بخلاف الاستهلاك) ش: أي بخلاف ما إذا استهلك المحجور عليه قبل قضاء الدين مال إنسان حيث يكون المتلف عليه أسوة للغرماء بلا خلاف م: (لأنه مشاهد لا مرد له) ش: أي لأن فعله أعني الاستهلاك مشاهد محسوس فلا يرد، لأن الحجر لا يصح في الفعل الحسي.
وفي " الذخيرة ": لو كان سبب الدين ثابتا عند القاضي بعلمه أو بالشهادة بأن شهدوا على استقراضه أو شرابه بمثل القيمة شارك الغرماء وعند الشافعي لو أقر بدين لزمه قبل الحجر يصح ويلزمه في الأصح.
وفي قول: لا يلزمه وهو قول مالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وتصرفات المحجور من بيع أو هبة أو عتق لا تصح عند الشافعي في الأصح، وبه قال مالك، وأحمد في غير

(11/120)


ولو استفاد مالا آخر بعد الحجر نفذ إقراره فيه، لأن حقهم لم يتعلق به لعدم وقت الحجر. قال: وينفق على المفلس من ماله وعلى زوجته وولده الصغار وذوي أرحامه من يجب نفقته عليه؛ لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء، ولأنه حق ثابت لغيره فلا يبطله الحجر، ولهذا لو تزوج امرأة كانت في مقدار مهر مثلها أسوة للغرماء. قال: فإن لم يعرف للمفلس مال وطلب غرماؤه حبسه وهو يقول: لا مال لي حبسه الحاكم في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة وقد ذكرنا هذا الفصل بوجوهه في كتاب "أدب القاضي" من هذا الكتاب، فلا نعيدها، إلى أن قال: وكذلك إن أقام البينة أنه لا مال له: يعني خلى سبيله لوجوب النظرة إلى الميسرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العتق، وفي قول يصح ويكون موقوفا. فإن قضى دينه من غير نقض التصرف نفذ تصرفه، ولا يفسخ منها الأضعف فالأضعف يبدأ بالهبة ثم بالبيع ثم بالعتق. وعند أحمد وأبي يوسف رحمهما الله يصح عتقه، لأنه صدر عن مالك رشيد ولا يقبل الفسخ. وقال أحمد: في رواية لا يصح كالبيع والهبة وما فعله قبل الحجر يصح بلا خلاف.

[حكم المال الذي استفاده المفلس بعد الحجر]
م: (ولو استفاد مالا آخر بعد الحجر نفذ إقراره فيه، لأن حقهم لم يتعلق به) ش: أي بذلك المال، وهكذا هو في بعض النسخ م: (لعدم وقت الحجر) ش: أي لعدم ذلك المال وقت الحجر، فلا يتعلق به حق الأولين.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وينفق على المفلس من ماله) ش: أي ينفق على هذا المديون المحجور عليه عن التصرف، وينفق على صيغة بناء المجهول م: (وعلى زوجته وولده الصغار) ش: بضم الواو وسكون اللام جمع ولد م: (وذوي أرحامه من يجب نفقته عليه) ش: أي وينفق أيضا على ذوي أرحام المحجور عليه م: (لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء، ولأنه حق ثابت لغيره) ش: أي ولأن الإنفاق حق ثابت لغير المفلس وهو من يجب نفقته عليه.
م: (فلا يبطله الحجر، ولهذا) ش: أي ولأجل كون حاجته الأصلية مقدمة م: (لو تزوج امرأة كانت في مقدار مهر مثلها أسوة للغرماء) ش: لأن الزيادة تضاف إلى التزامه وفيه إبطال حق الغرماء ولا يلي ذلك، الأسوة بضم الهمزة وكسرها اسم من ائتسى به إذا اقتدى به واتبعه. ويقال: آسيته بمالي، أي جعلته أسوة أقتدي به، ويقتدي هو بي.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن لم يعرف للمفلس مال وطلب غرماؤه حبسه وهو) ش: أي المفلس م: (يقول: لا مال لي حبسه الحاكم في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة، وقد ذكرنا هذا الفصل بوجوه) ش: أي بطرقه م: (في كتاب " أدب القاضي " من هذا الكتاب، فلا نعيدها، إلى أن قال: وكذلك إن أقام البينة أنه لا مال له: يعني خلى سبيله لوجوب النظر إلى الميسرة) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] (سورة البقرة: الآية 280) ، أي وإن وجد ذو

(11/121)


ولو مرض في الحبس يبقى فيه إن كان له خادم يقوم بمعالجته وإن لم يكن أخرجه تحرزا عن هلاكه. والمحترف فيه لا يمكن من الاشتغال بعمله هو الصحيح ليضجر قلبه فينبعث على قضاء دينه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إعسار، أي فقر فالواجب نظرة أي انتظار إلى وقت اليسار والبينة على الإعسار بعد الحبس تقبل بالاتفاق فيطلقه القاضي بعد ذلك.
وأما إذا قامت قبل الحبس ففيه روايتان في إحداهما: تقبل وبه كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل. وفي الأخرى لا تقبل ما لم يحبس، وعليه عامة المشايخ، وإليه ذهب شمس الأئمة السرخسي في شرح "أدب القاضي " وهو الأصح.

[مرض المحجور عليه في الحبس]
م: (ولو مرض في الحبس يبقى فيه) ش: أي في الحبس ويبقى بالتشديد م: (إن كان له خادم يقوم بمعالجته، وإن لم يكن أخرجه تحرزا عن هلاكه) ش: لأنه لا يجوز الإهلاك لمكان الدين، ألا ترى لو توجه إليه الهلاك لمخمصة كان له أن يدفعه بمال الغير؟ فكيف يجوز إهلاكه لأجل مال الغير؟.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يخرجه في هذه الصورة أيضا، لأن الهلاك لو كان لكان بسبب المرض وإنه في الحبس وغيره سواء. وفي " الواقعات ": المحبوس في السجن إذا مرض وليس له أحد يعاهده أخرج من السجن بكفيل، لأنه لو ترك كذلك يخاف عليه التلف، والمستحق الحبس لا التلف.
وفي " الخلاصة ": هذا إذا كان الغالب عليه الهلاك، والفتوى على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإنما يطلقه بكفيل، فإن لم يجد الكفيل لا يطلقه، فإن كفل رجل وأطلقه فحضرة الخصم ليست بشرط.
م: (والمحترف) ش: أي المحبوس الذي يحترف، يعني يكتسب بالحرفة وهي الصنعة قوله م: (فيه) ش: أي في الحبس م: (لا يمكن من الاشتغال بعمله هو الصحيح) ش: احترز به عن قول بعض مشايخنا لا يمنع من الاكتساب فيه، وبه قال الشافعي في الأصح، لأن فيه نظرا للجانبين، لأن نفقته ونفقة عليه فيمكن من الكسب.
وفي الخصاف: الأصح أنه يمنع منه، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول م: (ليضجر قلبه فينبعث على قضاء دينه) ش: فينبعث بالنصب عطفا على ليضجر، وذلك لأن الحبس للتضييق عليه، حتى يتسارع إلى الوفاء، فإذا أمكن من الاحتراف فيه صار بمنزلة القوت فلا يحصل المقصود.

(11/122)


بخلاف ما إذا كانت له جارية وفيه موضع يمكنه فيه وطؤها لا يمنع عنه، لأنه قضاء إحدى الشهوتين فيعتبر بقضاء الأخرى. قال: ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس بل يلازمونه
ولا يمنعونه من التصرف والسفر لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لصاحب الحق يد ولسان»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا كانت له جارية، وفيه) ش: أي وفي الحبس م: (موضع يمكنه فيه وطؤها لا يمنع عنه؛ لأنه قضاء إحدى الشهوتين) ش: أي لأن الوطء قضاء إحدى الشهوتين وهما شهوة البطن وشهوة الفرج م: (فيعتبر بقضاء الأخرى) ش: أي إذا كان كذلك فيعتبر إحدى الشهوتين التي هي شهوة الفرج بالشهوة الأخرى وهي شهوة البطن.
وفي " الخلاصة ": لا يضرب المديون ولا يغل ولا يقيد ويخوف ولا يقام بين يدي صاحب الحق إهانة، ولا يؤاجر. وفي " المنتقى " يقيد المديون إذا خيف الفرار ولا يخرج المديون لجمعة ولا عيد ولا حج ولا صلاة الجنازة ولا عيادة المريض ويحبس في موضع وحش لا يبسط له فرش ولا يدخل عليه أحد ليستأنس به، ذكره الإمام السرخسي.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يحول بينه وبين غرمائه) ش: أي لا يحول القاضي بين المديون المفلس وبين غرمائه م: (بعد خروجه من الحبس بل يلازمونه) ش: أي يدورون معه حيثما دار ولا يفارقونه في موضع لأنه حبس.
وقال الناصحي في " تهذيب أدب القاضي " قال: ابن كاس في أدب القاضي قال: أبو يوسف ومحمد إذا صح أنه معسر فلا سبيل إلى لزومه، وعلى قول إسماعيل بن حماد ليس للمدعي أن يلازمه، ولكن يأخذ كفيلا، ذكره شمس الأئمة في " شرح أدب القاضي " للخصاف.

[بيع وتصرف وسفر المحجور عليه لدين]
م: (ولا يمنعونه من البيع والتصرف والسفر) ش: لأن فيه ضررا بينا عاما م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لصاحب الحق يد ولسان» ش: هذا دليل لقوله يلازمون، والحديث رواه الدارقطني في سننه حدثنا أبو علي الصفار، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ثور، عن يزيد، عن مكحول قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لصاحب الحق اليد واللسان» .
وأخرج البخاري في "الاستقراض" ومسلم في "البيوع"، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل يتقاضاه فأغلظ له فهم به أصحابه فقال

(11/123)


أراد باليد الملازمة وباللسان التقاضي. قال: ويأخذون فضل كسبه يقسم بينهم بالحصص لاستواء حقوقهم في القوة. وقالا: إذا فلسه الحاكم حال بين الغرماء وبينه إلا أن يقيموا البينة أن له مالا، لأن القضاء بالإفلاس عندهما يصح فيثبت العسرة ويستحق النظرة إلى الميسرة. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتحقق القضاء بالإفلاس، لأن مال الله تعالى غاد ورائح؛ ولأن وقوف الشهود على عدم المال لا يتحقق إلا ظاهرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا» م: (أراد باليد الملازمة، وباللسان التقاضي) ش: وليس المراد باليد أن يتطاول عليه بيد، ولا باللسان بأن يؤذيه بالكلام الفاحش. وجه التمسك به أنه مطلق في حق الزمان فيتناول الزمان الذي يكون بعد الإطلاق عن الحبس وقبله.
م: (قال: ويأخذون فضل كسبه يقسم بينهم بالحصص) ش: أي يأخذ كل واحد منهم بقدر حصته من الدين، هذا إذا أخذوا فضل كسبه بغير اختياره أو أخذه القاضي وقسمه بينهم بدون اختياره. وأما المديون ففي حال صحته لو آثر أحد الغرماء على غيره بقضاء الدين باختياره له ذلك، نص على ذلك في فتاوى النسفي. فقال: رجل عليه ألف درهم لثلاثة فقر لواحد منهم خمسمائة ولآخر منهم ثلاثمائة ولآخر منهم مائتان وماله خمسمائة فاجتمع الغرماء فحبسوه بديونهم في مجلس القاضي كيف يقسم أمواله بينهم، قال: إذا كان المديون حاضرا فإنه يقضي ديونه بنفسه وله أن يقدم البعض على البعض في القضاء ويؤثر البعض على البعض لأنه يتصرف في خالص ملكه ولم يتعلق به حق أحد فيتصرف فيه على حسب مشيئته، وإن كان المديون غائبا والديون ثابتة عند القاضي يقسم المال بين الغرماء بالحصص، إذ ليس للقاضي ولاية تقديم بعضهم على بعض م: (لاستواء حقوقهم في القوة) ش: أي لاستواء حقوق الغرماء في قوة الثبوت فلا يترجح البعض على البعض م: (وقالا: إذا فلسه الحاكم) ش: بتشديد اللام، أي قال أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا حكم القاضي بإفلاس المديون وإعساره م: (حال بين الغرماء وبينه إلا أن يقيموا البينة أن له مالا، لأن القضاء بالإفلاس عندهما يصح فيثبت العسرة، ويستحق النظرة إلى الميسرة) ش: كما لو كان دينه مؤجلا، وبه قالت الثلاثة.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتحقق القضاء بالإفلاس؛ لأن مال الله غاد ورائح) ش: أي آت وذاهب، وكم من غني يمشي في مال جزيل ويصبح فقيرا، وكم من فقير يمسي ويصبح غنيا م: (ولأن وقوف الشهود على عدم المال لا يتحقق إلا ظاهرا) ش: إذ لا وقوف لهم على الحقيقة.

(11/124)


فيصلح للدفع لا لإبطال حق الملازمة. وقوله إلا أن يقيموا البينة، إشارة إلى أن بينة اليسار تترجح على بينة الإعسار، لأنها أكثر إثباتا إذ الأصل هو العسرة، وقوله في الملازمة: لا يمنعونه من التصرف والسفر دليل على أنه يدور معه أينما دار ولا يجلسه في موضع لأنه حبس فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيصلح) ش: أي الظاهر م: (للدفع لا لإبطال حق الملازمة. وقوله: إلا أن يقيموا البينة إشارة إلى أن بينة اليسار تترجح على بينة الإعسار) ش: أي قول القدوري في "مختصره "، واليسار بفتح الياء اسم للإيسار من اليسر إذا استغنى، والإعسار مصدر أعسر، أي افتقر. وفي بعض النسخ على بينة العسار بفتح العين بمعنى الإعسار. قال في "المغرب": هو خطأ، قيل: ذكر هذا على طريق الازدواج.
قلت: لم يقل أحد في الازدواج باللحن والخطأ في اللفظ على أنه لا يطلب إلى في الخطب والرسائل في كلام الفصحاء ويقع في كلام الله تعالى لابتداع أسلوبه ونهايته في منهج البلاغة والفصاحة، أو كلام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكونه مخصوصا بجوامع الكلم.
م: (لأنها) ش: أي لأن بينة اليسار م: (أكثر إثباتا إذ الأصل هو العسرة) ش: واليسار طارئ فصار كبينة ذي اليد في مقابلة بينة الخارج.
وفي خلاصة "الفتاوى ": فإن أقام المديون البينة على الإفلاس فأقام الطالب البينة على اليسار، فبينة الطالب أولى ولا حاجة إلى بيان ما يثبت به اليسار، وفي بينة الإفلاس لا يشترط حضرة المدعي وينبغي أن يقول الشهود إنه فقير لا نعلم له مالا ولا عرضا من العروض يخرج بذلك عن حال الفقير.
وعن أبي القاسم الصفار: ينبغي أن يقول الشهود نشهد أنه مفلس معدوم لا نعلم له مالا سوى كسوته التي عليه وثياب ليلة.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري: م: (في الملازمة لا يمنعونه من التصرف والسفر دليل على أنه يدور معه أينما دار ولا يجلسه في موضع) ش: أي لا يجلس الغريم المديون في موضع معين م: (لأنه حبس فيه) ش: أي إجلاسه في موضع معين حبس وليس له حق الحبس، لأنه ليس بمستحق عليه.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - للمدعي أن يحبسه في مسجد حيه أو بيته، لأنه ربما يطرق في الأسواق والسكك من غير حاجة فيتضرر به المدعي. وفي رواية عنه: يلازمه حيث أحب من المصر.
ولو كان لا معيشة له إلا من كسبه لا يمنعه أن يسعى في مقدار قوته يوما، فإذا حصل

(11/125)


ولو دخل في داره لحاجته لا يتبعه بل يجلس على باب داره إلى أن يخرج، لأن الإنسان لا بد أن يكون له موضع خلوة،
ولو اختار المطلوب الحبس، والطالب الملازمة فالخيار إلى الطالب؛ لأنه أبلغ في حصول المقصود لاختيار الأضيق عليه إلا إذا علم القاضي أن يدخل عليه بالملازمة ضرر بين بأن لا يمكنه من دخوله داره، فحينئذ يحبسه
دفعا للضرر عنه
. ولو كان الدين للرجل على المرأة لا يلازمها لما فيها من الخلوة بالأجنبية ولكن يبعث امرأة أمينة تلازمها.
قال: ومن أفلس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك القدر في يومه فله منعه من الذهاب في ذلك ويجلسه.
وفي " الواقعات ": رجل قضى عليه بحق لإنسان فأمر غلامه أن يلازم الغريم، فقال الغريم: لا أجلس معه بل أجلس مع المدعي فله ذلك، لأنه ربما لا يرضى بالجلوس مع العبد فيكون عليه في ذلك الوقت زيادة ضرر.
م: (ولو دخل في داره لحاجته لا يتبعه بل يجلس على باب داره إلى أن يخرج، لأن الإنسان لا بد أن يكون له موضع خلوة) ش: وعن هذا قيل: إذا أعطاه الفداء أو أعداه موضعا لأجل إيفائه له أن يمنعه عن ذلك حتى لا يهرب من جانب آخر، كذا في " الذخيرة " وفي الأقضية إذا كان عمل الملزوم سقي الماء ونحوه لا يمنعه من ذلك إلا إذا كفاه نفقته ونفقة عياله، وهكذا في الدخول في البيت.

م: (ولو اختار المطلوب الحبس والطالب الملازمة فالخيار إلى الطالب؛ لأنه أبلغ في حصول المقصود لاختياره الأضيق عليه) ش: أي على المطلوب لأن ملازمة من لا يجالسه أشد من كل شديد م: (إلا إذا علم القاضي أن يدخل عليه) ش: أي على المطلوب م: (بالملازمة ضرر بيِّنٌ بأن لا يمكنه من دخوله داره فحينئذ يحبسه دفعا للضرر عنه. ولو كان الدين للرجل على المرأة لا يلازمها لما فيها من الخلوة بالأجنبية، ولكن يبعث امرأة أمينة تلازمها) ش: ولم يذكروا إذا كان الدين للمرأة على الرجل فعلى التعليل المذكور ينبغي أن يبعث رجلا أمينا من جهتها ملازمة.
وفي " الخلاصة ": فإن لم يجد امرأة إن شاء جعلها مع امرأة في بيت وهو على بابها والمرأة في بيت نفسها وهو على بابها ونقله عن النسفي.

[أفلس الرجل وعنده متاع لرجل بعينه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن أفلس) ش: وفي بعض النسخ فإن أفلس يقال أفلس الرجل إذا لم يبق في يده مال كأن دراهمه سارت فلو سارت يوما كما يقال أخبث الرجل إذا صار أصحابه خبثا وأقطن إذا صارت دابته قطونا، ويجوز أن يراد به إن صار إلى حال يذل فيها كما يقال أقهر الرجل إذا صار إلى حالة يقهر عليها وإذا صار إلى حال يذل فيها.

(11/126)


وعنده متاع لرجل بعينه ابتاعه منه فصاحب المتاع أسوة للغرماء فيه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحجر القاضي على المشتري بطلبه ثم للبائع خيار الفسخ؛ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن فيوجب ذلك حق الفسخ كعجز البائع عن تسليم المبيع، وهذا لأنه عقد معاوضة وقضيته المساواة فصار كالسلم. ولنا أن الإفلاس يوجب العجز عن تسليم العين، وهو غير مستحق بالعقد، فلا يثبت حق الفسخ باعتباره، وإنما المستحق وصف في الذمة، أعني: الدين وبقبض العين يتحقق بينهما مبادلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعنده متاع لرجل بعينه) ش: أي والحال أن عنده متاع لشخص معين م: (ابتاعه منه) ش: أي قد اشتراه من الرجل كما في قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] (سورة النساء: الآية 90) أي قد حصرت م: (فصاحب المتاع أسوة للغرماء فيه) ش: أي في المتاع.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحجر القاضي على المشتري بطلبه) ش: أي بطلب البائع الحجر عليه حتى لا ينفذ تصرفه بالبيع وغيره م: (ثم للبائع خيار الفسخ؛ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن فيوجب ذلك حق الفسخ كعجز البائع عن تسليم المبيع، وهذا) ش: إشارة إلى وجه القياس والجامع بين عجز المشتري عن إيفاء الثمن وعجز البائع عن تسليم المبيع م: (لأنه عقد معاوضة ومن قضيته المساواة) ش: أي لأن المبيع عند معاوضته وقضيته المساواة وهي فيما ذكرنا.
م: (فصار كالسلم) ش: هذا جواب عما يقال هذا قياس مع وجود الفارق وهو فاسد، وذلك لأن الثمن دين في الذمة وهو مانع عن الفسخ، بخلاف المبيع فإنه غير بدل عليه الفسخ، فأجاب بقوله فصار كالسلم يعني لا نسلم أن كونه دينا يمنع عن الفسخ، فإن المسلم فيه دين لا محالة، فإذا تعذر قبضه بانقطاعه عن أيدي الناس كان لرب السلم حق الفسخ، كذا هذا وبقولنا قال: الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك وأحمد والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وروي ذلك عن عثمان وعلي وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (ولنا أن الإفلاس يوجب العجز عن تسليم العين) ش: أي عين الدراهم المنقودة وعين الدنانير المنقودة م: (وهو غير مستحق بالعقد) ش: أي غير الدراهم المنقودة غير مستحق، بل المستحق به الدين وهو وصف في الذمة يعلم أنه عجز عن تسليم شيء غير مستحق بالعقد. م: (فلا يثبت حق الفسخ باعتباره) ش: أي باعتبار أنه غير مستحق بالعقد م: (وإنما المستحق وصف في الذمة أعني الدين) ش: ولا يلزم من العجز عن تسليم عين الدراهم أو عين الدنانير بالإفلاس العجز عن المستحق بالعقد م: (وبقبض العين يتحقق بينهما مبادلة) ش: حكمية، هذا جواب عما يقال: لما كانت العين المنقودة غير مستحقة بالعقد وجب أن تبرأ ذمة المديون بدفع المنقود.
وتقرير الجواب: أن المستحق بالعقد هو الوصف الثابت في الذمة وقضاء الدين

(11/127)


هذا هو الحقيقة فيجب اعتبارها إلا في موضع التعذر كالسلم، لأن الاستبدال ممتنع فأعطي للعين حكم الدين والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واجب، وذلك بالوصف غير متصور، وجعل الشارع العين بدلا عنه، فإن قبض العين بدلا عنه تحقق بينهما مبادلة من حيث إنه ثبت لكل واحد منهما في ذمه الآخر وصف فيلتقيان قصاصا.
م: (هذا) ش: أي تحقق المبادلة م: (هو الحقيقة) ش: في قضاء الدين م: (فيجب اعتبارها إلا في موضع التعذر كالسلم) ش: حيث يكون للمسلم فيه الذي هو الحنطة أو الشعير حكم الدين الذي هو الوصف الثابت في الذمة لتعذر القول بالاستبدال م: (لأن الاستبدال ممتنع) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» م: (فأعطي للعين حكم الدين) ش: تحرزا عن الاستبدال فيكون العين مستحقا بالعقد، فصار العجز عنه، كالعجز عن تسليم المبيع.
فإن قيل: ما تقول في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به» ، وقد روي هذا الحديث بوجوه مختلفة.
قلت: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما رجل باع سلعة فأدركها عند رجل قد أفلس فهو ماله بين غرمائه» أخرجه الدارقطني، فاختلفت الرواية، وذلك يوجب وهنا في الحديث على ما عرف.
فإن قلت: في إسناده ابن عياش، وهو ضعيف.
قلت: قد وثقه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد احتج بالحديث الخصاف، والرازي.
فإن قلت: قال الدارقطني لا يثبت هذا الحديث عن الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسندا، وإنما هو مرسل.
قلت: المرسل عندنا حجة، وأسند الخصاف والرازي، ولئن سلمنا فمعناه إذا باع شيئا على أنه بالخيار فوجد المشتري مفلسا في مدة الخيار فهو أحق بماله، أي فيتخير الفسخ ويكون معناه إرشادا إلى ما هو الأوثق كما في قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وغيره. وقيل: هذا محمول على الغصب، فإن المغصوب منه أحق بماله إذا وجد عند الغاصب، وفيه نظر لأن

(11/128)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله قد أفلس يبقى حقه حينئذ ضائعا؛ لأن أحقية الملك ثابت في الغصب وجد مفلسا أو مليئا.
وقيل: هو محمول على الوديعة وفيه نظر أيضا. وقيل محمول على أنه قبض المبيع بغير إذن البائع وفي هذا الموضع له حق الاسترداد وما ذهبا إليه هو قول جماعة من الجلة الأكابر.
قال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: أيما رجل باع من رجل سلعة فأفلس المشتري فإن وجد البائع سلعة بعينها فهو أحق بها، فإن كان قبض من ثمنها شيئا فهو والغرماء سواء، وإن مات المشتري فالبائع أسوة الغرماء، وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز. وروي أيضا عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن شريح قال: أيما غريم اقتضى منه شيئا بعد إفلاسه فهو والغرماء سواء يخاصم به، وبه كان يفتي ابن سيرين، وإليه ذهب ابن جنيد ذكره صاحب " التمهيد "، وفي الاستذكار قال النخعي وأبو حنيفة وأهل الكوفة هو أسوة الغرماء على كل حال.
وروي ذلك عن خلاص عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن حزم صحيح روايته. وحكى الخطابي هذا القول عن ابن شبرمة أيضا.
فإن قلت: روى أحمد في " مسنده " عن سمرة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من وجد متاعا عند مفلس فهو أحق به ".»
قلت: في إسناده عمر بن إبراهيم قال أبو حاتم: لا يحتج به.
فإن قلت: روى البيهقي عن الشافعي قال: قرأنا على مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به» .
قلت: هذا مرسل وهو ليس بحجة عندنا.
فإن قلت: روى البيهقي من حديث معمر عن أيوب عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن دينار عن هشام بن يحيى عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفلس الرجل ووجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء» .
قلت: قد مر الجواب عن حديث أبي هريرة في هذا الباب.
فإن قلت: روى الطيالسي عن ابن أبي ذئب حدثني أبو المعتمر «عن عمر بن خالد، قال أتينا أبا هريرة في صاحب لنا يعني أفلس فأصاب رجل متاعه بعينه، قال أبو هريرة هذا الذي قضى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من أفلس أو مات فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به، إلا أن يدع

(11/129)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجل وفاء» . وذكر البيهقي عن الشافعي أنه قال الذمي أحدث به أولى، يعني حديث ابن خلدة من قبل أن ما أحدث به موصول يجمع فيه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين الموت والإفلاس. وحديث ابن شهاب منقطع.
قلت: قال عبد الحق في أحكامه، قال أبو داود: من يأخذ بهذا، أبو المعتمر من هو، أي: لا يعرف. وقال الطحاوي: لا نعرف من هو ولا سمعنا له ذكرا إلا في هذا الحديث. وفي " الإشراف ": الحديث مجهول الإسناد، والله أعلم بالصواب.

(11/130)