البناية شرح الهداية

كتاب الغصب الغصب في اللغة عبارة عن أخذ الشيء من الغير على سبيل التغليب للاستعمال فيه بين أهل اللغة وفي الشريعة: أخذ مال متقوم محترم بغير إذن المالك على وجه يزيل يده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الغصب]
[تعريف الغصب]
م: (كتاب الغصب) ش: إيراده عقيب كتاب الإذن لكونه من أنواع التجارة في المستقبل، ألا ترى أن إقرار المأذون لما صح بدون غيرها صح بديون التجارة دون غيرها صح بدون الغصب، ولم يصح بدين الغصب، ولم يصح بدين الحر لكون الأول من التجارة دون الثاني: فكان ذكر النوع بعد ذكر الجنس مناسبا. وجه المناسبة التقابل، لأن المأذون يتصرف بالإذن الشرعي والغاصب بخلافه، فلذلك قدم كتاب المأذون عليه؛ لأنه مشروع دون الغصب.
م: (الغصب في اللغة عبارة عن أخذ الشيء من الغير على سبيل التغلب) ش: أي أخذ الشيء ظلما وقهرا، تقول غصبه منه وغصبه عليه بمعنى، قيل وغصبه إياه أيضا، والشيء أغصب ومغصوب، قلت قولهم شيء غصب تسمية بالمصدر فهذا الذي ذكره يتناول متقوما وغير متقوم، يقال غصب زوجة وحمر فلان م: (للاستعمال فيه بين أهل اللغة) ش: أي استعمال لفظ الغصب في أخذ الشيء من الغير على سبيل التغلب.
م: (وفي الشريعة: أخذ مال) ش: أي الغصب في اصطلاح الشريعة أخذ مال، وهذا بمنزلة الجنس للحد وباقي قيوده كالفصل؛ لأنه يتناول المحدود وغيره. وقوله م: (متقوم) ش: احتراز عن الخمر.
وقوله م: (محترم) ش: احتراز عن مال الحربي فإنه غير محترم. وقوله م: (بغير إذن المالك) ش: احتراز عما إذا أخذه بإذن مالكه، فإنه لا يسمى غصبا. وقوله م: (على وجه يزيل يده) ش: أي يد المالك لبيان أن إزالة يد المالك لا بد منها في حد الغصب عندنا؛ لأن الشرط عندنا إزالة اليد المتحققة وإثبات المبطلة وعند الثلاثة يبقى فيه إثبات اليد المبطلة، وعلى هذا تخرج المسائل على ما نذكرها إن شاء الله تعالى. غير أن إزالة اليد الحقة بالنقل والتحويل.
وعندهما إثبات اليد في المنقول بالنقل إلا في الدابة، فيكفي فيها الركوب، وفي الفراش الجلوس عليه. وفي العقار الغصب يتحقق عندهم بالدخول، وإزعاج المالك حتى لو أزعج ولم يدخل لم يضمن.
ولو دخل ولم يزعج ولم يقصد الاستيلاء لم يضمن، والضعيف إذا دخل دار القوي وهو

(11/181)


حتى كان استخدام العبد وحمل الدابة غصبا دون الجلوس على البساط، ثم إن كان مع العلم فحكمه المأثم والمغرم، وإن كان بدونه فالضمان؛ لأنه حق العبد، فلا يتوقف على قصده ولا إثم، لأن الخطأ موضوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها وقصد الاستيلاء لم يضمن، كذا في " الذخيرة " وشرحه. وقال الناطفي في كتاب " الأجناس " الغصب عبارة عن إيقاع فعل فيما يمكن نقله بغير إذن مالكه على وجه يتعلق به الضمان بذلك عليه من منع رجل من دخول داره ثم يمكنه من أخذ ماله لم يكن غاصبا بذلك لعدم المعنى الذي ذكرناه، وإن كان حال بينه وبين ماله أو إن نقل ماله عن موضعه صار غاصبا.
م: (حتى كان استخدام العبد) ش: هذه إشارة إلي بيان مظهر فائدة التعريف الذي عرف الغصب به، أي حتى يكون على ما ذكرنا استخدام العبد م: (وحمل الدابة غصبا) ش: لأن فيه إزالة يد المالك م: (دون الجلوس على البساط) ش: يعني لا يكون غصبا لعدم إزالة يد المالك. وعند الثلاثة يكون هذا غصبا على ما ذكرنا من الأصل، وكذا تظهر ثمرة الاختلاف بيننا وبينهم في زوائد المغصوب كولد المغصوبة وثمرة البستان وأنها ليست بمضمونة عندنا لعدم إزالة اليد، وعندهم مضمونة لإثبات اليد، وكذا لو غصب حمارا وساقه فتأخر عنها جحشه فأكله الذئب لا يضمن عندنا إن لم يسق الجحش معه، وكذا لو منع أصحاب المواشي حتى ضاعت لم يضمن عندنا وعند الشافعي أيضا، ولكن ذكر في " فتاوى قاضي خان " مسألة تخالف هذا الأصل، فإنه لو قال غصب عجولا فاستهلك حتى يبس لبن أمه.
قال أبو بكر البلخي: يضمن قيمة العجول ونقصان اللبن وإن لم يفعل في الأم شيئا.
م: (ثم إن كان) ش: أي الغصب م: (مع العلم) ش: أي بأنه ملك المغصوب منه م: (فحكمه المأثم) ش: أي الإثم في الآخرة م: (والمغرم) ش: أي الغرامة في الدنيا، وهذا بالكتاب قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] (سورة البقر: الآية 188) إلى غير ذلك من الآيات.
والسنة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه الله من سبع أرضين» رواه البخاري ومسلم. وعليه إجماع العلماء.
م: (وإن كان بدونه) ش: أي بدون العلم بأن ظن المأخوذ ماله أو اشترى عينا ثم ظهر استحقاقه م: (فالضمان) ش: أي فحكمه الضمان م: (لأنه حق العبد فلا يتوقف على قصده) ش: وكذا إذا كان الآخذ معذورا لحمله وعدم قصده م: (ولا إثم؛ لأن الخطأ موضوع) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .

(11/182)


قال: ومن غصب شيئا له مثل كالمكيل والموزون فهلك في يده فعليه مثله، وفي بعض النسخ فعليه ضمان مثله ولا تفاوت بينهما وهذا لأن الواجب هو المثل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (سورة البقرة: الآية 194) ولأن المثل أعدل لما فيه من مراعاة الجنس والمالية فكان أدفع للضرر. قال: فإن لم يقدر على مثله فعليه قيمته يوم يختصمون وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[هلاك المغصوب]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن غصب شيئا له مثل كالمكيل والموزون فهلك في يده فعليه مثله) ش: أي مثل الذي غصب، وأراد بالمكيل مثل الحنطة والشعير ونحوهما وبالموزون مثل الدراهم والدنانير، ولكن يشترط أن لا يكون الموزون مما يضر بالتبعيض، يعني غير المصوغ منه؛ لأن الوزن في الذي في تبعيضه مضرة يلحق بذوات القيم م: (وفي بعض النسخ) ش: أي وفي بعض نسخ القدوري م: (فعليه ضمان مثله ولا تفاوت بينهما) ش: أي بين المستحقين والكلامين م: (وهذا) ش: أي عدم التفاوت م: (لأن الواجب هو المثل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (سورة البقرة: الآية 194) ش: سمي الفعل الثاني إلى ما هو مثل صورة ومعنى.
م: (ولأن المثل أعدل) ش: أي ولأن المثل صورة ومعنى أقرب إلى العدل م: (لما فيه) ش: أي لما في المثل م: (من مراعاة الجنس) ش: لأن الحنطة مثلا مثل الحنطة جنسا م: (والمالية) ش: لأن مالية الحنطة المؤداة مثل مالية الحنطة المغصوبة؛ لأن الجودة ساقطة العبرة في الديونات م: (فكان أدفع للضرر) ش: أي فكان المثل أشد دفعا للضرر عن المغصوب منه؛ لأن الغاصب فوت عليه الصورة والمعنى ني، فالجبر التام أن يتداركه بما هو مثل له صورة ومعنى.
م: (قال فإن لم يقدر على مثله) ش: أي قال في " الجامع الصغير " فإن لم يقدر الغاصب على مثل الذي غصبه بأن انقطع عن أيدي الناس فلم يقدر على مثله الكامل م: (فعليه قيمته يوم يختصمون) ش: أي يوم الخصومة.
م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وجوب القيمة يوم الخصومة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال أكثر أصحاب الشافعي ومالك، ولم يذكر في " الجامع الصغير " خلافا؛ لأن صورته فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة قال: كل شيء غصب مما يكال أو يوزن فلم يقدر على مثله فخوصم فيه فعليه قيمته يوم يختصمون. وإن كان مما لا يكال ولا يوزن فعليه قيمته يوم غصبه.
ولم يذكر الخلاف فيه كما ترى، فعلم بهذا أن المثلي إذا انقطع تجب على الغاصب القيمة يوم الخصومة باتفاق علمائنا الثلاثة في ظاهر الرواية، وبهذا قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -

(11/183)


وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم الغصب. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم الانقطاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في شرح " الجامع الصغير "، وروي عن أبي يوسف أن عليه قيمته يوم الغصب.
وروي عن محمد أن عليه قيمته يوم الانقطاع وهو مذهب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كان الشيء مما لا يكال ولا يوزن فعليه قيمته يوم الغصب في قول علمائنا. وفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه أكثر القيمتين يوم الغصب ويوم الهلاك، ولأن في أصله أن زيادة الغصب مضمونة، انتهى.
والاختلاف مذكور في " النوادر "، كذا قال فخر الإسلام في شرح " الجامع الصغير ".
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم الغصب) ش: أي عليه قيمته يوم الغصب م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم الانقطاع) ش: أي عليه قيمته يوم انقطاع مثله عن أيدي الناس، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحد الانقطاع ما ذكر أبو بكر البلخي هو أن لا يوجد في السوق الذي يباع فيه، وإن كان يوجد في البيوت، وعلى هذا انقطاع الدراهم.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولكن أصح أن يكون الشيء بحيث يوجد في زمان خاص فمضى زمانه كالرطب مثلا، والدليل على هذا ما ذكره الشيخ أبو الحسن الكرخي في " مختصره " وغصب ما يوجد في زمان دون زمان، فإذا غصبه غاصب ثم اختصما في حال انقطاع وعدمه، فإن أبا حنيفة قال يحكم على الغاصب بقيمته يوم يختصمون.
وقال يعقوب يوم غصبه. وقال محمد: يحكم بقيمته عند آخر انقطاعه، ويدل عليه أيضا ما ذكره في شرح " الطحاوي " أيضا قال: ومن أتلف شيئا لرجل مما له مثل من جنسه ثم انقطع ذلك عن أيدي الناس، وصار مثله غير موجود بثمن غال ولا بثمن رخيص فصاحب المال بالخيار إن شاء انتظر إلى وجود مثله ويأخذ المال، وإن شاء لم يتربص ويأخذ القيمة.
واختلفوا فيه على ثلاثة أقوال. قال أبو حنيفة يعتبر قيمته يوم الخصومة. وقال أبو يوسف يضمن قيمته يوم الاستهلاك أو وقت الغصب. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يغرم قيمته آخر ما كان موجودا، وبه أخذ الطحاوي، إلى هذا لفظ الأسبيجابي. وفي " الجواهر " للمالكية ليس له إلا مثله ويصبر حتى يوجد، قاله ابن القاسم.
وقال أشهب: المالك بالخيار إن شاء صبر وإن شاء أخذ القيمة، وفي قيمته التفريع لهم. ومن غصب أرضا أو حيوانا فتلف عنده ضمن قيمته يوم غصبه لا يوم تلف، ولأكثر القيمتين. ومن غصب شيئا من المثليات والموزونات فتلف عنده وجب عليه رد مثله ولا تلزمه قيمته يوم غصبه.

(11/184)


لأبي يوسف رحمه الله أنه لما انقطع التحق بما لا مثل له فيعتبر قيمته يوم انعقاد السبب إذ هو الموجب ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الواجب المثل في الذمة وإنما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع فيعتبر قيمته يوم الانقطاع ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن النقل لا يثبت بمجرد الانقطاع، ولهذا لو صبر إلى أن يوجد جنسه له ذلك، وإنما ينتقل بقضاء القاضي فيعتبر قيمته يوم الخصومة والقضاء بخلاف ما لا مثل له لأنه مطالب بالقيمة بأصل السبب كم وجد فيعتبر قيمته عند ذلك قال: وما لا مثل له فعليه قيمته يوم غصبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما قدم قوله في التعليل باعتبار ترتيب الأوقات، فإن أول الأوقات الثلاثة يوم الغصب ثم يوم الانقطاع ثم يوم الخصومة. وإيراد الأقوال على هذا الأزمنة لم يتأت إلا بتقديم قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن مما له مثل م: (لما انقطع التحق بما لا مثل له، فيعتبر قيمته يوم انعقاد السبب) ش: وهو يوم الغصب، أي يوم انعقاد سبب الضمان م: (إذ هو الموجب) ش: أي لأن الغصب هو الموجب للأصل، والحلف يجب بالسبب الذي يجب به الأصل فيعتبر قيمته يوم الغصب.
م: (ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الواجب المثل في الذمة) ش: بالنص الذي ذكرناه م: (وإنما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع فيعتبر قيمته يوم الانقطاع) ش: أي يوم الانقطاع عن أيدي الناس م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن النقل) ش: من الواجب الأصلي م: (لا يثبت بمجرد الانقطاع) ش: إذ الفعل باعتبار العجز عن الأصل م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم ثبوت النقل بمجرد الانقطاع م: (لو صبر) ش: أي المغصوب منه م: (إلى أن يوجد جنسه له ذلك) ش: لأن حقه في مثله من جنسه، حتى لو أتى الغاصب بالقيمة لا يجبر على القبول.
ولو كان انتقل إليها يجبر كما في غير المثلي، وكما إذا قضى القاضي بالقيمة م: (وإنما ينتقل) ش: أي المثل إلى القيمة م: (بقضاء القاضي فيعتبر قيمته يوم الخصومة والقضاء) ش: لأنها زمان النقل كما في ولد المغرور أنه بمنزلة العبد في حق المستحق فإِذا خاصمه المستحق صار المغرور مانعا له باعتبار حقه في الحرية، فاعتبر الحق منتقلا عن العين إلى القيمة يوم الخصومة، فكذلك هذا.
م: (بخلاف ما لا مثل له) ش: حيث تجب القيمة يوم الغصب م: (لأنه) ش: أي لأن الغاصب م: (مطالب بالقيمة بأصل السبب) ش: أي بسبب الضمان وهو الغصب م: (كما وجد فيعتبر قيمته عند ذلك) ش: أي عند وجود أصل السبب.
م: (قال: وما لا مثل له) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": وما لا مثل له م: (فعليه قيمته يوم غصبه) ش: أي يوم غصب الغاصب، وقد أضيف يوم هاهنا إلى الجملة كما في قوله تعال:

(11/185)


معناه العدديات المتفاوتة لأنه لما تعذر مراعاة الحق في الجنس فيراعى في المالية وحدها دفعا للضرر بقدر الإمكان أما العددي المتقارب فهو كالمكيل حتى يجب مثله لقلة التفاوت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] (سورة المائدة: الآية 119) ، ويجوز يوم غصبه بإضافة يوم إلى المصدر المضاف إلى فاعله أو مفعوله، فافهم م: (معناه) ش: أي معنى قول القدوري لا مثل له م: (العدديات المتفاوتة) ش: كالبطيخ والرمان والسفرجل والثياب والدواب.
وقال الأترازي هذا تفسير عجيب من صاحب الهداية؛ لأنه يعتبر الكلي بالجزئي؛ لأن ما لا مثل له يشتمل الحيوانات والزرعيات، والعددي المتفاوت كالبطيخ والرمان، والوزني الذي في تبعيضه مضرة وهو المصوغ منه. قلت: هذا تفسير جيد؛ لأن معنى قول القدوري وما لا مثل له، أي الشيء الذي لا يضمن بمثله من جنسه؛ لأن الذي لا مثل له على الحقيقة هو الله تعالى، وذلك مثل العدديات المتفاوتة والثياب والدواب، كذا ذكرنا.
وأما العددي المتقارب كالجوز والبيض والفلوس فهو كالمكيل، وبه قال مالك. وفي " الكافي ": وقال مالك في العدديات المتقاربة يضمن مثله بصورة من جنس ذلك، ولكن ذكر في " الجواهر " للمالكية، وكذا العددي تستوي أبعاد جملته في الصفة غالبا كالبيض والجوز ونحوه، وهذا يدل على أن قوله: في العدديات المتفاوتة كقولنا.
وقال زفر: في العدديات المتفاوتة يجب القيمة أيضا، وفي " المبسوط " في العدديات المتفاوتة كالثياب والدواب تجب القيمة، وبه قالت الثلاثة وأكثر الفقهاء، وقال أهل المدينة يجب المثل وبه قال أصحاب الظاهر، لكن قالوا: إذا لم يوجد مثله يصبر حتى يوجد أو يأخذ القيمة.
م: (لأنه لما تعذر مراعاة الحق في الجنس فيراعى في المالية وحدها) ش: وهي القيمة م: (دفعا للضرر بقدر الإمكان) ش: وذلك؛ لأن قيمة الشيء معنى ذلك الشيء، والمعنى هو الأصل والصورة تابعة، وإذا تعذر اعتبار الصورة للتفاوت فيها اعتبر المعنى دفعا للضرر وتعذر المعنى وقال أهل المدينة: الواجب هنا المثل وقد مر بيانه. وقال بعضهم: إذا لم يمكن رد عينه يجب نظيره ذاتا وصفة، وهو مذهب ابن سيرين، كذا في شرح " الكافي ".
م: (أما العددي المتقارب) ش: وهو ما يتقارب آحاده في المالية كالجوز والبيض ونحو ذلك م: (فهو كالمكيل حتى يجب مثله لقلة التفاوت) ش: في المالية، هذا مذهب أصحابنا الثلاثة.
وعند زفر تجب القيمة؛ لأنها ليست بأمثال متساوية، ولهذا يجري فيها الربا، وهذا فرع على جواز السلم فيها وقد مر في البيوع.

(11/186)


وفي البر المخلوط بالشعير القيمة لأنه لا مثل له.
قال: وعلى الغاصب رد العين المغصوبة، معناه ما دام قائما لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبا ولا جادا، فإن أخذه فليرده عليه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قيل إنما اقتصر على المكيل ولم يقل والموزون؛ لأن في الموزونات ما ليس بمثل، وهو الذي في تبعيضه ضرر كالمصوغ من القمقم والطشت وليس بواضح؛ لأن في المكيل ما هو كذلك كالبر المخلوط بالشعير، فإنه لا مثل له ففيه القيمة. م: (وفي البر المخلوط بالشعير القيمة؛ لأنه لا مثل له) ش: لتعذر اعتبار المماثلة فيصار إلى القيمة دفعا للضرر.

[رد العين المغصوبة]
م: (قال: وعلى الغاصب رد العين المغصوبة، معناه ما دام قائما) ش: أي ما دام المغصوب قائما يعني ما دامت عينه موجودة، وهذا لا خلاف فيه م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد ") » ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن سعيد بن أبي هريرة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «-: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي) » ش: ثم نسي الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه.
قال الترمذي: حديث حسن أخرجه أبو داود والترمذي في البيوع، والثاني في العارية وابن ماجه في الأحكام وليس في حديثه قصة الحسن. ورواه أحمد في مسنده والطبراني في " معجمه " والحاكم في " المستدرك " في البيع وقال: حديث صحيح على شرط البخاري. وتعقبه الشيخ تقي الدين في الإمام فقال: وليس كما قال بل هو على شرط الترمذي. وقال الحافظ المنذري: وقول الترمذي فيه حسن يدل على أنه يثبت سماع الحسن من سمرة. ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " في البيوع وقال فيه حتى تؤديه مالها. قال ابن القطان في كتابه: وهو بزيادة الهاء موجب لرد العين ما كانت قائمة.
وقال ابن طاهر في كلامه على أحاديث الشبهات إسناده حسن متصل، وإنما لم يخرجاه في الصحيح لما ذكر أن الحسن لم يسمع من سمرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا حديث العقيقة، والله أعلم.
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبا ولا جادا، فإن أخذه فليرده عليه ") » ش: هذا الحديث رواه اثنان من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:

(11/187)


ولأن اليد حق مقصود وقد فوتها عليه فيجب إعادتها بالرد إليه وهو الموجب الأصلي على ما قالوا، ورد القيمة مخلص خلفاً لأنه قاصر، إذ الكمال في رد العين والمالية وقيل: الموجب الأصلي القيمة ورد العين مخلص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أبو السائب أخرج حديثه أبو داود في كتاب " الأدب في باب المزاح "، والترمذي في أول الغبن عن ابن أبي ذئب عن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده يزيد بن أبي السائب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه» قال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي ذئب، والسائب بن يزيد له صحبة سمع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو غلام، وقبض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسائب ابن سبع سنين. وأبو يزيد بن السائب وهو من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وروى عنه أحاديث.
ورواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم والبخاري في كتابه " المفرد في الأدب " والحاكم في " المستدرك " في الفضائل وسكت عنه. ووقع في روايته لاعبا جادا بدون حرف العطف.
ومعنى قوله لاعبا لا يريد سرقة ويريد إدخال الغيظ على أخيه فهو لاغية في مذهب السرقة جار في إدخال الأذى عليه قاصد اللعب، وهو يريد أن يجد في ذلك ليغيظه، وقال الخطابي في شرح " السنن " قوله لاعبا جادا هو أن يأخذه على سبيل الهزل واللعب ثم يحبسه ولا يرده، فيكون ذلك جادا.
م: (ولأن اليد حق مقصود) ش: لأنها تتوصل إلى التصرف والانقطاع وفي " المبسوط " والضمان في المدبر ليس إلا لتقوية اليد، فعلم أن اليد حق مقصود.
وقيل: بدليل جواز إذن العبد في التجارة، فإنه لا حكم بشرائه في حقه سوى التصرف باليد لاسيما إذا كان مديونا، فإنه ليس هناك شائبة النيابة عن المولى في التصرف، فعلم أن اليد حق مقصود م: (وقد فوتها عليه فيجب إعادتها بالرد إليه) ش: أي إلى صاحب اليد.
م: (وهو) ش: أي رد العين م: (الموجب الأصلي على ما قالوا) ش: أي المشايخ م: (ورد القيمة مخلص) ش: أي إلى صاحب اليد، أي موضع للخلاص، ويجوز أن يكون مصدرا اسميا أي خلاص الغاصب عن يد المغصوب منه م: (خلفا) ش: أي حال كون القيمة خلفا عن العين م: (لأنه) ش: أي لأن رد القيمة م: (قاصر، إذ الكمال في رد العين والمالية) ش: أراد أن الكمال في رد الصورة والمعنى.
م: (وقيل: الموجب الأصلي القيمة ورد العين مخلص) ش: وهذا القول عكس القول الأول.

(11/188)


ويظهر ذلك في بعض الأحكام قال: والواجب الرد في المكان الذي غصبه لتفاوت القيم بتفاوت الأماكن، فإن ادعى هلاكها حبسه الحاكم حتى يعلم أنها لو كانت باقية لأظهرها، أو تقوم بينة ثم قضى عليه ببدلها لأن الواجب رد العين والهلاك بعارض فهو يدعي أمرا عارضا خلاف الظاهر فلا يقبل قوله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأول أصح؛ لأن الموجب الأصلي لو كان القيمة ورد العين مخلصا عنه كان للغاصب أن يقول: خذ قيمة هذا المغصوب وهو جعل الدين وجب أصالة.
وهذا خلاف ما يقتضيه الكتاب؛ لأنه أكل مال الغير بالباطل؛ لأن المالك لم يرض إلا بعين حقه، قال الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] (سورة النساء: الآية 29) .
م: (ويظهر ذلك) ش: أي كون الموجب الأصلي قيمته ورد العين مخلصا م: (في بعض الأحكام) ش: منها إذا أبرأها الغاصب، وعن الضمان حال قيام العين يصح ويبرأ حتى لو هلك بعد ذلك في يده لا ضمان عليه، ولو لم يكن وجوب القيمة في هذه الحالة لما صح الإبراء؛ لأن الإبراء عن العين لا يصح، ومنها عن الكفالة لا تصح بالعين وتصح الكفالة بالمغصوب، فعلم أن الموجب الأصلي وهو القيمة، ومنها أن الغاصب إذا كان له نصاب في ملكه، وقد غصب شيئا فلا تجب عليه الزكاة إذا انتقض بالنصاب بمقابلة وجوب المغصوب عليه.
والجواب عن مسألة الإبراء هو بعرضية أن يوجد فله شبهة الوجود في الحال والقيمة كذلك، فكان الإبراء صحيحا من ذلك الوجه. وعن مسألة الكفالة أن الكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها صحيحة، والمغصوب منها، ألا ترى إلى ما قال شمس الأئمة البيهقي في " كفايته ": رجل قال لآخر غصبني فلان عبدا فقال: أنا ضامن العبد الذي تدعي فهو ضامن للعبد. فإن مات أو استحقه آخر فهو ضامن لقيمته، وعن مسألة الزكاة ما ذكرناه في مسألة الإبراء.
م: (والواجب الرد) ش: أي رد المثل والقيمة للعين المغصوب إلى مالكها م: (في المكان الذي غصبه) ش: أي في المكان الذي غصب للمغصوب فيه م: (لتفاوت القيم بتفاوت الأماكن) ش: وكذا تفاوت المثل بتفاوت الأماكن، ولو ذكره المصنف لكان أحسن وأكثر فائدة م: (فإن ادعى هلاكها) ش: أي فإن ادعى الغاصب هلاك العين المغصوبة م: (حبسه الحاكم حتى يعلم أنها لو كانت باقية لأظهرها، أو تقوم بينة) ش: ومقدار ذلك مفوض إلى رأي الحاكم م: (ثم قضى عليه ببدلها) ش: البدل يشمل المثل والقيمة م: (لأن الواجب رد العين والهلاك بعارض) ش: أي هلاك العين المغصوبة يكون بأمر عارض م: (فهو يدعي أمرا عارضا) ش: أي الغاصب يدعي أمرا عارضا م: (خلاف الظاهر) ش: لأن الظاهر بقاؤها م: (فلا يقبل قوله) .

(11/189)


كما إذا ادعى الإفلاس وعليه ثمن متاع فيحبس إلى أن يعلم ما يدعيه، فإذا علم الهلاك سقط عنه رده فيلزمه رد بدله وهو القيمة.
قال: والغصب فيما ينقل ويحول لأن الغصب بحقيقته يتحقق فيه دون غيره؛ لأن إزالة اليد بالنقل وإذا غصب عقارا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وفي " المبسوط " غصب جارية فغيبها فأقام المغصوب منه بينة أنه قد غصبها فإنه يحبس حتى يجيء بها فيردها.
وقال أبو بكر الأعمش: تأويل المسألة أن الشهود شهدوا على إقرار الغاصب بذلك؛ لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة. أما الشهادة على فعل الغصب لا يقبل مع جهالة المغصوب إذ لا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول فلا بد من الإشارة في الدعوى والشهادة، والأصح أن الدعوة صحيحة لأجل الضرورة فيثبت غصبه بالبينة كثبوته بإقراره فيحبس. ولو قال الغاصب ماتت أو بعتها ولا أقدر عليها تلزم القاضي يومين أو ثلاثة، ومقدار التلوم مفوض إلى رأي القاضي. ولو رضي المالك بالقضاء بالقيمة لا يتلوم.
وفي " الذخيرة " ذكر محمد في السير أنه إذا قضي عليه من غير تلوم قيل: في المسألة روايتان. وقيل: لكن ذكر في السير جواب الجواز بمعناه لو قضى من غير تلوم جاز، وما ذكر في الأصل أن التلوم أفضل.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول للغاصب مع يمينه في لزوم البدل وجهان: أحدهما لا يلزمه حتى يصدقه المالك، والثاني يلزم وهو الأصح، وهذا بعد الحبس وبه قال مالك وأحمد.
م: (كما إذا ادعى) ش: رجل م: (الإفلاس وعليه ثمن متاع فيحبس إلى أن يعلم ما يدعيه) ش: من الإفلاس، وكذا الغاصب إذا ادعى الهلاك يحبس إلى أن يعلم ما يدعيه من الهلاك م: (فإذا علم الهلاك سقط عنه رده) ش: أي سقط عن الغاصب رد المغصوب عينه م: (فيلزمه رد بدله وهو القيمة) ش: أو رد مثله إن كان المغصوب من ذوات الأمثال كما عرف قبل.

[محل الغصب]
م: (قال والغصب فيما ينقل ويحول) ش: أي القدوري والغصب يتحقق فيما ينقل ويحول فقوله والغصب مبتدأ، وقوله فيما ينقل خبره، وقوله ويحول عطف عليه.
فإن قلت: النقل والتحويل واحد فما فائدة ذكرهما معا؟.
قلت: التحويل هو النقل من مكان وإثبات في مكان آخر كما في تحويل الباذنجان والنقل يستعمل بدون الإثبات في مكان آخر. م: (لأن الغصب بحقيقته يتحقق فيه) ش: أي فيما ينقل ويحول م: (دون غيره؛ لأن إزالة اليد بالنقل) ش: أي لأن إزالة يد المالك لا تتحقق إلا بنقل المغصوب ولا نقل في العقار، والغصب بدون الإزالة لا يتحقق م: (وإذا غصب عقارا) ش: في

(11/190)


فهلك في يده لم يضمنه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. يضمنه وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، وبه قال الشافعي؛ لتحقق إثبات اليد، ومن ضرورته زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة، فتحقق الوصفان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" المغرب " العقار الضيعة، وقيل كل ما له أصل كالدار والأرض.
وفي " العباب " العقار والأرض والضياع والنخل، ومنه قولهم ماله دار ولا عقار م: (فهلك في يده) ش: بأن غلب السيل على الأرض فيثبت تحت الماء أو غصب دارا فهدمت بآفة سماوية أو جاء سيل فذهب بالبناء م: (لم يضمنه) ش: أي العقار م: (وهذا) ش: أي عدم الضمان م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله) .
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنه وهو قول أبي يوسف الأول، وبه قال الشافعي) ش: ومالك وأحمد لخلاف في الغصب لا في الإتلاف، وصورة الخلاف ما ذكرناه وصورة الإتلاف بأن يهدم الحيطان أو عزقها أو كشط تراب الأرض أو ألقى الحجارة فيها أو نقص بفرسه أو بنائه فإنه يضمنه بلا خلاف.
وقد اختلفت عبارات مشايخنا في غصب الدور والعقار على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف، فقال بعضهم يتحقق فيها الغصب، ولكن لا على وجه يوجب الضمان، وإليه مال القدوري في قوله وإذا غصب عقارا فهلك في يده لم يضمنه عند أبي حنفية وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه أثبت الغصب ونفى الضمان. وقال بعضهم لا يتحقق أصلا وإليه مال أكثر المشايخ م: (لتحقق إثبات اليد) ش: بالسكنى ووضع الأمتعة وغير ذلك، وهذا تعليل لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده؛ لأن عند الشافعي يتحقق الغصب بإثبات اليد بدون إزالة يد المالك.
م: (ومن ضرورته) ش: أي ومن ضرورة إثبات اليد المبطلة م: (زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين) ش: أراد به المتمانعين يد الموافقتين فإنه يجوز كالشريكين في عين واحدة من جنس واحد، احترز به عما إذا أجر داره من رجل فإنها في يد المستأجر حقيقة، وفي يد الآخر حكما لكنهما يدان مختلفتان م: (على محل واحد في حالة واحدة) ش: احترز به عما إذا كان على محلين أو في حالتين، فإن هذا لا يكون غصبا بأن ضرب على يد إنسان فوقعت درة من يده في الحجر أو ضرب على ظهره فطار طير كان على ظهره يجب الضمان وإن انعدم الإثبات ولو تجرد، والإثبات عن إزالته لم يصح سببا للضمان م: (فتحقق الوصفان) ش: وهما إزالة يد المالك وإثبات يد الغاصب.

(11/191)


وهو الغصب على ما بيناه فصار كالمنقول وجحود الوديعة ولهما أن الغصب إثبات اليد بإزالة يد المالك بفعل في العين، وهذا لا يتصور في العقار؛ لأن يد المالك لا تزول إلا بإخراجه عنها وهو فعل فيه لا في العقار فصار كما إذا بعد المالك عن المواشي وفي المنقول النقل فعل فيه وهو الغصب. ومسألة الجحود ممنوعة، ولو سلمت في الضمان هناك بترك الحفظ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو الغصب) ش: أي تحقق الوصفين هو الغصب دل عليه قوله فيتحقق كما في قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة: الآية 8) أي العدل أقرب للتقوى م: (على ما بيناه) ش: يعني عنده على وجه يزيل يده م: (فصار كالمنقول) ش: أي صار غصب العقار كغصب المنقول في تحقيق الوضعين م: (وجحود الوديعة) ش: في العقار، فإنه إذا كان وديعة في يد شخص فجحده كان ضامنا بالاتفاق.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة، أي بفعل حاصل من الغاصب في العين المغصوبة تقريره م: (أن الغصب إثبات اليد بسبب إزالة يد المالك بفعل في العين) ش: ولهذا إذا تجردت الإزالة عن الإثبات يصلح سببا للضمان كما في الوديعة، فإنها إثبات اليد لكن لما لم يتضمن الإزالة لم يصلح سببا م: (وهذا) ش: أي هذا المجموع م: (لا يتصور في العقار؛ لأن يد المالك لا تزول إلا بإخراجه عنها) ش: أي بإخراج المالك عن العقار، وتأنيث الضمير بتأويل الصيغة والدار.
م: (وهو فعل فيه) ش: أي الإخراج فعل في المالك م: (لا في العقار) ش: فانتفت إزالة اليد والكل ينتفي بانتفاء جزئه م: (فصار كما إذا بعد المالك عن المواشي) ش: حتى تلفت، فإن ذلك لا يكون غصبا لها وبعد بتشديد العين، وفي بعض النسخ أبعد من الإبعاد م: (وفي المنقول النقل فعل فيه) ش: أي في المنقول م: (وهو الغصب) ش: أي النقل من المالك هو الغصب؛ لأن فيه يتحقق معنى الغصب وهو تفويت يد المالك المعني في المحل.
م: (ومسألة الجحود) ش: للدين المعلوم م: (ممنوعة) ش: أي جحود الوديعة العقار، يعني لا نسلم أنه إذا جحد الوديعة يضمن وذكر الإمام علاء الدين العالم في طريقة الخلاف: وإذا أودع عند إنسان عقارا فجحد عند أبي حنيفة لا يضمن.
وذكر في " المبسوط " أنه لا يضمن عندهما في الأصح. وقال الناطفي في كتاب " الغصب من الأجناس " كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: إنه على وجهين إن نقل الوديعة عن الموضع الذي كان فيه حال جحوده وهلكت ضمن وإن لم ينقلها عن موضعها حتى هلكت لا يضمن.
م: (ولو سلمت) ش: وجوب الضمان بجحود الوديعة م: (في الضمان هناك بترك الحفظ

(11/192)


الملتزم وبالجحود تارك لذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الملتزم وبالجحود تارك لذلك) ش: أي للحفظ الملتزم. وفي " المبسوط " إنما يتضمن بالمنع بعد الطلب لا بالجحود وبالجحود يحصل المنع بعد الطلب. قيل ولو سلم أن الجحود غصب حقيقة كما قال بعض أصحابنا، ولكنه ليس بغصب موجب للضمان كغصب الخمر والخنزير في حق المسلم، وهذا الموضع هو الذي وعد المصنف قبل باب السلم بقوله: وبينته في الغصب عند قوله: ومن باع دارا لرجل فأدخلها المشتري في بنائه لم يضمن البائع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي يوسف آخرا.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غصب شبرا من الأرض طوقه الله به يوم القيامة عن سبع أرضين» صريح في إطلاق اسم الغصب في الدور والعقار، فلو لم يكن الغصب متحققا فيها لم يطلق، والكلام على حقيقته ما لم يقم دليل على المجاز.
قلت: الحديث لا يدل على ذلك؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل جزاء غصب الأرض التطويق يوم القيامة. ولو كان الضمان واجبا لبينه؛ لأن الضمان في أحكام الدنيا، والحاجة إليه أمس.
والمذكور جميع جزائه، فمن زاد عليه كان نسخا، وذا لا يجوز بالقياس وإطلاق لفظ الغصب عليه لا يدل على تحقيق الغصب الموجب للضمان، كما أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق لفظ البيع على الحر بقوله من باع حرا، ولا يدل ذلك على البيع الموجب لحكم، على أنه جاء في الصحيحين الحكم بلفظ أخذ، فقال: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما، فإنه يطوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين» فعلم أن المراد من الغصب الأخذ ظلما لا غصبا موجبا للضمان.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» يدل على ذلك بإطلاقه، والتقييد بالمنقول خلافه.
قلت: هذا مجاز؛ لأن الأخذ حقيقة لا يتصور في العقار؛ لأن حد الأخذ أن يصير المأخوذ تبعا ليده؛ لأنه مفعول فيه فكان منصرفا إلى المنقول ضرورة ليعمل بالأخذ على حقيقته.
فإن قلت: إزالة اليد ليست بشرط في الغصب، كما لو ركب الدابة وهلكت من غير فعل فإنه يضمنها بالإجماع، وكما لو وهب دارا لرجل بما فيها من الأمتعة فهلكت الأمتعة قبل أن ينقلها الموهوب له، ثم استحقت الدار فللمستحق أن يضمن الموهوب له بلا خلاف، والمسألة في الزيادات ولم تزل إلا منفعته من يد المالك ليست بشرط.

(11/193)


قال: وما نقص منه بفعله أو سكناه ضمنه في قولهم جميعا لأنه إتلاف، والعقار يضمن به كما إذا نقل ترابه؛ لأنه فعل في العين ويدخل فيما قاله إذا انهدمت الدار بسكناه وعمله، فلو غصب دارا وباعها وسلمها وأقر بذلك والمشتري ينكر غصب البائع ولا بينة لصاحب الدار فهو على الاختلاف في الغصب هو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قيل ذلك الجواب غير مستقيم على أصل محمد؛ لأنه واقفا على أنه يضمنه بدون الفعل، بل الجواب فيه أن الواهب نقل يده إلى الموهوب له، ويد الواهب في الأمتعة كانت مفوتة ليد المالك، فانتقلت بصفتها والضمان في مسألة الراكب باعتبار الإتلاف لا بالغصب، ولهذا لو ركب أو تلف تحته يضمن، والله أعلم.

[ضمان المغصوب]
م: (وقال وما نقص منه بفعله أو سكناه ضمنه في قولهم جميعا) ش: أي قال القدوري وما نقص الغاصب من العقار بفعله بأن هدم شيئا أو انهدم بسكناه ضمنه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أما على قول محمد والشافعي فظاهر، وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف فكذلك م: (لأنه إتلاف، والعقار يضمن به كما إذا نقل ترابه؛ لأنه فعل في العين) ش: فيكون إتلافا فيجوز أن يضمن بالإتلاف ولا يضمن بالغصب. م: (ويدخل فيما قاله) ش: أي الذي قاله القدوري من قوله ومن نقصه منه بفعله إلى آخره م: (إذا انهدم الدار بسكناه وعمله) ش: بأن يحمل الحدادة والقصارة، وقيد بقوله بسكناه وعمله؛ لأنه لو انهدم بغير سكناه وفعله بآفة سماوية لا يضمن عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
فإن قلت: كيف يعرف نقصان الأرض؟
قلت: قيل ينظر بكم تستأجر قبل أن تزرع وبكم تستأجر بعد. وقيل بكم تباع قبل ذلك وكم تباع بعده، فيغرم ما بين ذلك من النقصان.
م: (فلو غصب دارا وباعها وسلمها) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري فلذلك ذكره بالفاء، وهي من مسائل الأصل، ومعناه إذا باعها ثم اعترف بالغصب، وهو معنى قوله م: (وأقر بذلك) ش: أي بالغصب م: (والمشتري ينكر غصب البائع ولا بينة لصاحب الدار) ش: على أنها ملكه، قيد به؛ لأنه إذا كان له بينة لا ضمان على البائع بالاتفاق؛ لأنه يمكنه أخذ دار بالبينة م: (فهو على الاختلاف) ش: المشهور م: (في الغصب) ش: أي في غصب العقار فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا ضمان عليه خلافا لمحمد وزفر والشافعي م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما قال بعضهم أنه يجب على الكل هنا الضمان بالبيع والتسليم بالاتفاق، ألا ترى إلى ما قال الحاكم الشهيد في " كافيه " رجل غصب دار رجل فباعها وتسلمها ثم أقر بذلك، وليس لرب الدار بينة. قال لا ضمان على الغاصب؛ لأنه لم يغيرها عن حالها.

(11/194)


قال: وإن انتقص بالزراعة يغرم النقصان لأنه أتلف البعض فيأخذ رأس ماله ويتصدق بالفضل قال رضي الله عنه - وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف: لا يتصدق بالفضل وسنذكر الوجه من الجانبين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو يوسف: أنا أراه ضامنا قيمتها، استحسن ذلك، وهو قول محمد، ورجع أبو يوسف عن هذا إلى قول أبي حنيفة أنه لا ضمان عليه.
فإن قيل: إذا شهد بدار الإنسان وقضى له بها ثم رجعا ضمنا قيمتها للمشهود عليه بالاتفاق وإتلافهما كإتلاف البائع بالبيع والتسليم، ولا ضمان على بائعه عندهما.
وأجيب: بأن مسألة الشهادة على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى تقدير أن يكون قول الجميع فالفرق بين المسألتين أن الإتلاف في مسألة الشهادة حصل بشهادتهما حتى لو أقام بالبينة على الملك لنفسه لا يقبل بينته والعقار يضمن بالإتلاف. وأما مسألتنا فالإتلاف لم يحصل بالبيع والتسليم بل يعجز المالك عن إثبات ملكه بينته، ألا ترى أنه لو أقام البينة على أنها ملكه قضى له بها، فلهذا لا يكون البائع ضامنا.
م: (قال: وإن انتقص بالزراعة يغرم النقصان) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، وإذا انتقص بالزراعة، يعني المغصوب والمكان المغصوب بالزراعة ضمن النقصان ولا يعلم فيه خلاف، وقد مر تفسير النقصان عن قريب. وقال السعدي: إن كان عرف أهل تلك القرية أنهم يزرعون أرض الغير بغير إذنه على وجه المزارعة من غير إذن وعقد لرب الأرض أن يطالبه بحصة الأرض به.
وذكر أبو الليث في هذه الصورة الزرع للزارع وعليه نقصان الأرض م: (لأنه أتلف البعض) ش: أي بعض الأرض والعقار يضمن بالإتلاف بلا خلاف م: (فيأخذ رأس ماله ويتصدق بالفضل) ش: أي يأخذ الغاصب رأس ماله، وهو البذر وما أنفق وما غرم، أي قدر ما غرم من نقصان الأرض ويتصدق بما زاد؛ لأنه مستفاد كسب خبيث صورة مثلا خرجت أربعة أكرار ونقصتها الزراعة وبذره كر ولحقته مؤنة، وقدر قيمة النقصان كر فالفضل الخارج عن رأس ماله كر فيتصدق به.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) ش: أي وجوب التصدق بالفضل عندهما م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتصدق بالفضل) ش: لأن المنهي عنه ربح ما لم يضمن، وهو قد ضمن م: (وسنذكر الوجه من الجانبين) ش: أي عند قوله ومن غصب عبدا فاستغله فنقصه.

(11/195)


قال: وإذا هلك النقل في يد الغاصب بفعله أو بغير فعله ضمنه، وفي أكثر نسخ المختصر: وإذا هلك الغصب والمنقول هو المراد لما سبق أن الغصب فيما ينقل وهذا لأن العين دخل في ضمانه بالغصب السابق، إذ هو السبب وعند العجز عن رده تجب رد القيمة أو يتقرر بذلك السبب، ولهذا تعتبر قيمته يوم الغصب وإن نقص في يده ضمن النقصان لأنه دخل جميع أجزائه في ضمانه بالغصب فما تعذر رد عينه يجب رد قيمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: وإذا هلك النقلي) ش: أي الذي ينقل م: (في يد الغاصب بفعله أو بغير فعله ضمنه) ش: لأن الغصب فيما ينقل على ما مر م: (وفي أكثر نسخ المختصر) ش: أي القدوري م: (وإذا هلك الغصب) ش: أي المغصوب م: (والمنقول هو المراد لما سبق أن الغصب فيما ينقل) ش: أي يكون فيما ينقل؛ لأنه لا يتصور في غير المنقول، والمغصوب مضمون عليه لمجرد الغصب على معنى أنه يجب رده إن كان قائما، ومثله في المثلي إن كان هالكا، وقيمته إن لم يكن مثليا، فإذا كان الضمان بالغصب تقرر الضمان بالهلاك فلم يتفاوت بين أن يكون هلاكه بفعله أو بغير فعله، ولهذا وجب عليه قيمته يوم الغصب.
م: (وهذا) ش: أي وجوب الضمان م: (لأن العين دخل في ضمانه بالغصب السابق، إذ هو) ش: أي الغصب م: (السبب) ش: أي سبب الضمان على ما قررناه آنفا م: (وعند العجز عن رده) ش: أي رد المغصوب عينه م: (تجب رد القيمة) ش: هذا على قول من قال إن الموجب الأصلي في الغصب رد العين. م: (أو يتقرر بذلك السبب) ش: أي وتقرر القيمة بذلك السبب هذا على قول من قال: الموجب الأصلي هو القيمة، وإنما ذكر كلامه بالترديد تنبيها على ما ذكر قبل هذا من اختلاف المشايخ في الموجب الأصلي م: (ولهذا) ش: أي ولكون الغصب السابق هو السبب م: (تعتبر قيمته يوم الغصب) ش: فعلم أن الموجب الأصلي هو القيمة.
م: (وإن نقص في يده ضمن النقصان) ش: أي إذا رد المغصوب بعدما نقص في يده يلزم النقصان، سواء كان النقصان في يده بأن كانت جارية فاعورت أو شابة صارت عند الغاصب عجوزة أو ناهدة الثديين وانكسر ثديها، أو لم يكن في يده بأن كان عبدا محترفا نسي ذلك عند الغاصب أو قارئا نسي القرآن ففي هذا كله يضمن النقصان ولا يعلم فيه خلاف، هذا إذا كان النقصان يسيرا. أما إذا كان كثيرا يتخير المالك بين الأخذ وتضمين النقصان، والترك مع تضمين جميع قيمته، كذا في " المبسوط " وعند الثلاثة للمالك أخذ العين مع قيمة النقصان، سواء كان فاحشا أو يسيرا م: (لأنه دخل جميع أجزائه في ضمانه بالغصب) ش: أي لأن الشأن دخل جميع أجزاء المغصوب في ضمان الغاصب بسبب الغصب.
م: (فما تعذر رد عينه يجب رد قيمته) ش: أي إذا تلف جزء من أجزاء المغصوب وتعذر رد

(11/196)


بخلاف تراجع السعر إذا رد في مكان الغصب؛ لأنه عبارة عن فتور الرغبات دون فوت الجزء، وبخلاف المبيع؛ لأنه ضمان عقد، أما الغصب فقبض، والأوصاف تضمن بالفعل لا بالعقد على ما عرف. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومراده غير الربوي. أما في الربويات لا يمكنه تضمين النقصان مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عينه يجب رد قيمته. وأما إذا جبر نقصانه بمثل أن ولدت المبيعة عند الغاصب فردها وفي قيمة الولد وفاء بنقصان الولادة فلا يضمن الغاصب شيئا عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (بخلاف تراجع السعر) ش: أي لا يضمن الغاصب ما نقص من قيمته بتراجع السعر بلا خلاف بين العلماء م: (إذا رد في مكان الغصب) ش: قيد به؛ لأنه إذا لم يكن فيه يخير المالك بين أخذ القيمة والانتظار إلى الذهاب إلى ذلك المكان، فيسترده؛ لأن النقصان دخل من قبل الغاصب بنقله إلى هذا المكان. فكان له أن يلزم الضرر ويطالبه بالقيمة وله أن ينتظر م: (لأنه) ش: أي لأن تراجع السعر م: (عبارة عن فتور الرغبات دون فوت الجزء) ش: لأن فتور الرغبات شيء أحدثه الله في قلوب العباد، فلا يوجب ذلك تغيير الأحكام.
م: (وبخلاف المبيع) ش: على قوله بخلاف تراجع السعر، يعني إذا نقص شيء من قيمة المبيع في يد البائع بفوات وصف منه قبل أن يقبضه المشتري لا يضمن البائع شيئا لنقصانه، حتى لا يسقط شيء من الثمن عن المشتري بسبب نقصان الوصف، وإن فحش النقصان، كما لو اشترى جارية بمائة مثلا فاعورت في يد البائع فصارت تساوي خمسين كان المشتري مخيرا بين إمضاء البيع وفسخه، فلو اختار البيع وجب عليه تسليم تمام المائة كما شرط م: (لأنه ضمان عقد) ش: أي لأن ضمان المبيع ضمان عقد، والأوصاف لا تضمن بالعقد.
م: (أما الغصب فقبض) ش: لأنه فعل على الذات بجميع أجزائها وصفاتها، فكانت مضمونة، وهو معنى قوله م: (والأوصاف تضمن بالفعل لا بالعقد) ش: أي لا يضمن بالعقد؛ لأن العقد يرد على الأعيان لا على الأوصاف م: (على ما عرف) ش: عند قوله إن الغصب إثبات اليد بإزالة يد المالك بفعل في العين.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومراده غير الربوي) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومراد القدوري بقوله: وإن نقص في يده ضمن النقصان غير المال الربوي م: (أما في الربويات) ش: أي أما في الأموال الربويات، والأموال الربويات التي لا يجوز بيعها بجنسها متفاضلا م: (لا يمكنه تضمين النقصان مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا) ش: لأنه إذا كان المغصوب من الأموال الربوية لا يجوز له تضمين النقصان إذا أخذ العين احترازا عن الربا.

(11/197)


قال: ومن غصب عبدا فاستغله فنقصته الغلة فعليه النقصان لما بينا، ويتصدق بالغلة، قال - رضي الله عنه -: وهذا عندهما أيضا وعنده لا يتصدق بالغلة وعلى هذا الخلاف إذا آجر المستعير المستعار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد قال الكرخي في " مختصره ": وإن كان مما لا يجوز بيعه بجنسه متفاضلا مثل أن يغصب حنطة وصب فيه ماء أو غير ذلك من الحبوب، أو يغصب إناء فضة أو درهم أو دنانير فيتهشم الإناء من يده، أو يكسر الدراهم فتصير عله أو الدنانير فتصير قراضة. فإن صاحب ذلك بالخيار إن شاء أخذ ذلك لا شيء له غير، وإن شاء تركه وضمنه مثل قيمته من الذهب، وكذلك إذا كان الإناء من ذهب فهو بالخيار إن شاء أخذه بعينه، وإن شاء أخذ قيمته من الفضة، وكذلك يلزمه الصفر والنحاس والشبة والرصاص. وفي " المبسوط " استهلك قلب فضة فعليه قيمته من الذهب مصوغا.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن قيمته. ولأصحابه فيه وجهان أصحهما أنه يضمنه بجنسه وتكون الزيادة بمقابلة الصنعة، وبه قال الحنبلي؛ لأن الربا يجري في العقود لا في الغرامات. وفي وجه يضمن نقصه بغير جنسه، وبه قال.

[غصب عبدا فاستغله فنقصته الغلة]
م: (قال: ومن غصب عبدا فاستغله) ش: هذا لفظ الصدر الشهيد حسام الدين في " الجامع الصغير "، ومعنى استغله أجره وأخذ الأجرة م: (فنقصته الغلة) ش: أي العمل في الإجارة جعله مهزولا. وفي " المبسوط ": لم يذكر نقص الغلة م: (فعليه النقصان لما بينا) ش: أي عند قوله: لأنه دخل جميع أجزائه في الضمان بالغصب، ويجوز أن يكون بيانا، ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله: لأنه أتلف البعض والغلة للغاصب.
وقال الشافعي، وأحمد، ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن الأجر عوض للمنافع المملوكة لرب العبد فلم يملكها الغاصب. قلنا: وجوب الأجرة بالعقد؛ لأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد والعاقد هو الغاصب فهو الذي جعل منافعه بالعقد مالا فكان هو أولى، لكن يتصدق بها، أشار إليه بقوله: م: (ويتصدق بالغلة) ش: لأنها حصلت بكسب خبيث.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا) ش: أي قال المصنف التصدق بالغلة م: (عندهما أيضا) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله م: (وعنده) ش: أي وعند أبي يوسف م: (لا يتصدق بالغلة) ش: لأنه يطيب له، وهذا قوله الآخر مثل قولهما، هكذا ذكر الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (إذا آجر المستعير المستعار) ش: وأخذ أجرته لا يطيب له عنده خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا على الخلاف، ولو أجر المودع

(11/198)


لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه حصل في ضمانه وملكه، أما الضمان فظاهر، وكذلك الملك في المضمون؛ لأن المضمونات تملك بأداء الضمان مستندا إلى وقت الغصب عندنا، ولهما: أنه حصل بسبب خبيث وهو التصرف في ملك الغير وما هذا حاله فسبيله التصدق، إذ الفرع يحصل على وصف الأصل والملك المستند ناقص فلا ينعدم به الخبث. فلو هلك العبد في يد الغاصب حتى ضمنه له أن يستعين بالغلة في أداء الضمان؛ لأن الخبث لأجل المالك، ولهذا لو أدى إليه يباح له التناول، فيزول الخبث بالأداء إليه، بخلاف ما إذا باعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوديعة م: (لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه حصل في ضمانه، وملكه أما الضمان فظاهر، وكذا الملك في المضمون؛ لأن المضمونات تملك بأداء الضمان مستندا إلى وقت الغصب عندنا) ش: أي حال كون التملك مسندا إلى وقت الضمان فيكون مالكا تملك من وقت الضمان، فيطيب له ككسبه المبيع بعد القبض.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله م: (أنه) ش: أي أن الغلة، وتذكير الضمير باعتبار الكسب م: (حصل بسبب خبيث وهو التصرف في ملك الغير) ش: والحكم يثبت مضافا إلى سببه فلا بد من ثبوت الخبث فيها بحكم ذلك السبب م: (وما هذا حاله) ش: ما بمعنى الذي، وذا إشارة إلى قوله: وهو التصرف في ملك الغير م: (فسبيله التصدق إذ الفرع يحصل على وصف الأصل) ش: أصله حديث الشاة المصلية على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى م: (والملك المستند ناقص فلا ينعدم به الخبيث) ش: فأجاب بقوله: الملك المستند إلى الضمان ناقص، يعني في كونه ثابتا فيه من وجه دون وجه، ولهذا يظهر في حق القائم دون الغائب فلا ينعدم به الخبث.
م: (فلو هلك العبد في يد الغاصب) ش: سواء كان بفعله أو بفعل غيره م: (حتى ضمنه) ش: أي حتى ضمن الغاصب العبد م: (وله) ش: أي الغاصب م: (أن يستعين بالغلة في أداء الضمان) ش: لأن ما ملكه والخبث حق الملك، أشار إليه بقوله م: (لأن الخبث لأجل المالك، ولهذا) ش: أي ولأجل كون الخبث حق المالك ولم يكن لكونها ملكا له م: (لو أدى) ش: أي الغاصب الغلة م: (إليه) ش: أي إلى المالك مع أداء العبد م: (يباح له التناول فيزول الخبث بالأداء إليه) ش: أي إلى المالك؛ لأن الخبث كان لحق المالك فيزول بالصرف إليه.
قيل: هذا إذا كان فقيرا، وإن كان غنيا فيه روايتان، قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - علاء الدين الأسبيجابي في " شرح الكافي ": والصحيح أنه يجوز الصرف إلى المالك وإن كان غنيا عوضا عن الهلاك لما قلنا.
م: (بخلاف ما إذا باعه) ش: هذا يتعلق بقوله: فإن هلك العبد في يد الغاصب، يعني إذ

(11/199)


فهلك في يد المشتري، ثم استحق وغرمه ليس له أن يستعين بالغلة في أداء الثمن إليه؛ لأن الخبث ما كان لحق المشتري إلا إذا كان لا يجد غيره؛ لأنه محتاج إليه فله أن يصرفه إلى حاجة نفسه، فلو أصاب مالا يتصدق بمثله إن كان غنيا وقت الاستعمال، وإن كان فقيرا فلا شيء عليه لما ذكرنا.
قال: ومن غصب ألفا فاشترى بها جارية فباعها بألفين، ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف درهم فإنه يتصدق بجميع الربح، وهذا عندهما. وأصله: أن الغاصب أو المودع إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح لا يطيب له الربح عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باع الغاصب العبد المغصوب بعد الاستغلال م: (فهلك في يد المشتري) ش: أي فهلك العبد في يده م: (ثم استحق) ش: أي البعد بأن ظهر له مستحق م: (وغرمه) ش: أي غرم المشتري العبد، أي قيمته م: (ليس له أن يستعين بالغلة في أداء الثمن إليه) ش: أي ليس للبائع أن يستعين بغلة العبد في أداء الثمن إلى المشتري م: (لأن الخبث ما كان لحق المشتري) ش: حتى يزول بالصرف إليه، بخلاف الأول؛ لأن الخبث فيه لحق الملك فيزول بوصول الغلة إليه.
م: (إلا إذا كان) ش: أي الغاصب م: (لا يجد غيره) ش: أي غير الغلة بتأويل الكسب أو الأجر أو المال م: (لأنه محتاج إليه) ش: لتفريغ ذمته وتخليص نفسه عن الحبس م: (فله) ش: أي وللمحتاج م: (أن يصرفه إلى حاجة نفسه) ش: وهو أولى بذلك؛ لأنها ملكه وإن كان فيه خبث م: (فلو أصاب مالا) ش: يعني لو أصاب مالا، بعد أن صرف الغلة عن الضمان م: (يتصدق بمثله إن كان غنيا وقت الاستعمال) ش: أي وقت استهلاك الثمن.
م: (وإن كان فقيرا) ش: يوم استهلك الثمن م: (فلاشيء عليه) ش: يعني ليس عليه أن يتصدق بشيء من ذلك م: (لما ذكرنا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه محتاج إليه، كذا قال الأترازي. وقال الكاكي: هذا إشارة إلى قوله: وما هذا حاله فسبيله التصدق.
وفي " الذخيرة ": هذا إذا أجر العبد أما إذا أجر العبد نفسه صحت الإجارة، فإنه يأخذ العبد الأجرة يأخذها المالك مع العبد بلا خلاف لأحد، ولو أخذه الغاصب من العبد وأتلفه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يجب عليه الضمان، وبه قالت الثلاثة؛ لأنه أتلف مال الغير وله نعم أنه مال المالك؛ ولكنه لا عصمة له في حق الغاصب، فأشبه نصاب السرقة بعد القطع.

[نماء المغصوب وزيادته في يد الغاصب]
م: (قال: ومن غصب ألفا) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": م: (فاشترى بها جارية فباعها بألفين ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف درهم، فإنه يتصدق بجميع الربح، وهذا عندهما) ش: أي التصدق بجميع الربح عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه ملك خبيث، وبه قال الشافعي في الجديد، وأحمد في رواية، وبعض أصحاب مالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال

(11/200)


خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد مرت الدلائل. وجوابهما في الوديعة أظهر؛ لأنه لا يستند الملك إلى ما قبل التصرف؛ لانعدام سبب الضمان فلم يكن التصرف في ملكه، ثم هذا ظاهر فيما يتعين بالإشارة، أما فيما لا يتعين كالثمنين فقوله في الكتاب: اشترى بها إشارة إلى أن التصدق إنما يجب إذا اشترى بها ونقد منها الثمن. أما إذا أشار إليها ونقد من غيرها أو نقد منها وأشار إلى غيرها أو أطلق إطلاقا ونقد منها يطيب له، وهكذا قال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الإشارة إذا كانت لا تفيد التعيين لا بد أن يتأكد بالنقد لتحقق الخبث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الربح للمالك، والمشتري ملكه.
ولو دفع الملك من الحر إلى آخر مضاربة فالحكم في الربح على ما ذكرنا من الخلاف، وليس للمالك من أجر العامل شيء عند أحمد؛ لأنه لم يأذن له بالعمل في ماله، ولا على الغاصب إن كان المضارب عالما بالغصب وإن عمل لزم أجر عمله على الغاصب كالعقد الفاسد.
م: (وأصله) ش: أي أصل الخلاف م: (أن الغاصب أو المودع إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح لا يطيب له الربح عندهما خلافا لأبي يوسف، وقد مرت الدلائل) ش: أي في مسألة: ومن غصب عبدا فاستغله م: (وجوابهما) ش: أي جواب أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله م: (في الوديعة أظهر؛ لأنه لا يستند الملك إلى ما قبل التصرف لانعدام سبب الضمان فلم يكن التصرف في ملكه) ش: فيكون الربح خبيثا.
م: (ثم هذا) ش: أي عدم طيب الربح م: (ظاهر فيما يتعين بالإشارة) ش: كالعروض؛ لأن العقد يتعلق بها حتى لو هلك قبل القبض يبطل البيع فيستفيد الرقبة، واليد في المبيع بملك خبيث فيتصدق به م: (أما فيما لا يتعين كالثمنين) ش: أي الدراهم والدنانير م: (فقوله في الكتاب) ش: أي قول محمد في " الجامع الصغير " م: (اشترى بها إشارة إلى أن التصدق إنما يجب إذا اشترى بها، ونقد منها الثمن) ش: قال فخر الإسلام.؛ لأن ظاهر هذه العبارة يدل على أنه أراد بها.
م: (أما إذا أشار إليها، ونقد من غيرها، أو نقد منها وأشار إلى غيرها أو أطلق إطلاقا ونقد منها يطيب له) ش: وهذه أربعة أوجه، ففي واحد منها لا يطيب، وفي الباقي يطيب، وذكر في " المبسوط ": وجها آخر لا يطيب فيه أيضا، وهو أنه دفع إلى البائع تلك الدراهم أولا ثم اشترى منه بتلك الدراهم م: (وهكذا قال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أراد أن هذا التفصيل في الجواب هو قول الكرخي م: (لأن الإشارة إذا كانت لا تفيد التعيين) ش: يستوي وجودها وعدمها فعند ذلك م: (لا بد أن يتأكد بالنقد) ش: منها م: (لتحقق الخبث) ش: والفتوى على قول الكرخي، ذكره في " التتمة "، و " الذخيرة " لكثرة الحرام دفعا للحرج عن الناس.

(11/201)


وقال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يطيب له قبل أن يضمن، وكذا بعد الضمان بكل حال وهو المختار لإطلاق الجواب في الجامعين والمضاربة قال: وإن اشترى بالألف جارية تساوي ألفين فوهبها، أو طعاما فأكله لم يتصدق بشيء، وهذا قولهم جميعا؛ لأن الربح إنما يتبين عند اتحاد الجنس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يطيب له قبل أن يضمن، وكذا بعد الضمان بكل حال) ش: أي في الوجوه كلها م: (وهو المختار لإطلاق الجواب في الجامعين) ش: أي في " الجامع الكبير "، و " الجامع الصغير " م: (والمضاربة) ش: أي وفي المضاربة من كتاب " المبسوط "، حيث قال: يتصدق بجميع الربح مطلقا.
م: (قال: وإن اشترى بالألف جارية) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وإن اشترى الغاصب بالألف المغصوبة والحرام جارية م: (تساوي ألفين فوهبها، أو طعاما) ش: أي أو كان طعاما م: (فأكله لم يتصدق بشيء) ش: بل يرد عليه مثل ما غصب م: (وهذا قولهم جميعا؛ لأن الربح إنما يتبين عند اتحاد الجنس) ش: بأن يصير الأصل، وما زاد عليه دراهم ولم يصر فلا يظهر الربح.
وفي " جامع أبي اليسر ": هل يباح له الوطء والأكل؟ الصحيح أنه لا يباح؛ لأن في السبب نوع خبيث، ولهذا المعنى بعض الظلمة الذين فيهم قليل تقوى يشترون الأشياء نسيئة ويصرفونها إلى حوائجهم، ثم يقضون الأثمان.
وفي " جامع المحبوبي "، و" نوادر أبي سماعة ": غصب ثوبا، أو كرا فاشترى به طعاما لا يسعه أن يأكل حتى يؤدي قيمة الثوب أو مثل الكر. ولو غصب دراهم فاشترى بها طعاما وسعه أكله؛ لأن الثوب إذا استحق ينتقض البيع، بخلاف ما إذا استحقت الدراهم. ولو اشترى بالثوب، والكر المغصوبين جارية لا يحل له وطؤها. أما لو تزوج بالثوب أو بالكر حل وطؤها؛ لأن باستحقاق المهر لا ينتقض النكاح.

(11/202)


فصل فيما يتغير بفعل الغاصب قال: وإذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وأعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها فلا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها كمن غصب شاة وذبحها وشواها، أو طبخها أو حنطة فطحنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل فيما يتغير بفعل الغاصب]
م: (فصل فيما يتغير بفعل الغاصب) ش: لما ذكر حقيقة الغصب، وحكمه، أعقبه بذكر ما يزول به ملك المالك؛ لأنه عارض وحقه الفصل.
م: (قال: وإذا تغيرت العين المغصوبة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (بفعل الغاصب) ش: قيد به احترازا عما إذا تغير بدون فعله، كما إذا صار العنب زبيبا، أو خلا بنفسه والحليب لبنا، والرطب تمرا، فالمالك بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، وضمنه. ولو صار العنب زبيبا يجعله ملكه.
كذا في " فتاوى العتابي " م: (حتى زال اسمها) ش: احترز به عن غصب شاة وذبحها، حيث لم يزل ملك مالكها؛ لأنه لم يزل اسمها يقال: شاة مذبوحة، شاة حية م: (وأعظم منافعها) ش: وذكر هذا ليتناول الحنطة إذا غصبها وطحنها، فإن المقاصد المتعلقة بعين الحنطة كجعلها هريسة وكشكا ونشا وبذرا، وغيرها يزول بالطحن.
والظاهر أنه تأكيد؛ لأن قوله: زال اسمها تناوله، فإنها إذا طحنت صارت تسمى دقيقا لا حنطة، ومثل ذلك بقوله: كمن غصب شاة إلى آخره م: (زال ملك المغصوب منه عنها) ش: حتى لو أراد أن يأخذ عين الدقيق مثلا ليس له ذلك م: (وملكها الغاصب وضمنها فلا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها) ش: أي بدل العين المغصوبة وهو المثل، أو القيمة.
م: (كمن غصب شاة وذبحها وشواها، أو طبخها) ش: هذا مثال لتغير العين المغصوبة، وقيد بالشي، والطبخ احترازا عما إذا ذبحها، يشو، ولم يطبخ، حيث لا ينقطع حق المالك عنها، ولهذا قال ظهير الدين إسحاق بن أبي بكر الولوالجي في " فتاواه ": ولو غصب شاة فذبحها فالمالك بالخيار إن شاء أخذها، ولا شيء له غيرها؛ لأن الذبح تقريب إلى مقصود وهو اللحم، ولا يعد غصبا، وإن شاء ضمنه قيمتها يوم الغصب لأجل التبديل، وكذا إذا سلخها، وأربها ولم يشوها، وقال محمد: إن شاء أخذ الشاة وضمنه النقصان، وهذا أصح؛ لأن بعض المنافع تفوت بالذبح، انتهى.
م: (أو حنطة فطحنها) ش: أي أو غصب حنطة فطحنها فصارت دقيقا. وقال الكرخي:

(11/203)


أو حديدا فاتخذه سيفا، أو صفرا فعمله آنية، وهذا كله عندنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا غصب حنطة فطحنها فإن أبا حنيفة، ومحمدا قالا: لا سبيل لرب الحنطة على الدقيق.
وكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعلى الغاصب الحنطة التي غصب، وقال ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يأخذ المغصوب منه الدقيق مكان الحنطة، لكن أبيع الدقيق، واشتري له حنطة مثل حنطته وهو أحق بذلك من جميع الغرماء إن مات الغاصب؛ لأنه شبه وهو أحق به من غيره، ولذلك لو غصب دقيقا فخبزه أو غزلا فنسجه أو قطنا فغزله ونسجه فهو مثل ذلك يباع له ذلك فيعطى مثل قطنه، ومثل طعامه إن أبى الغاصب أن يدفع إليه ذلك.
وروى ابن سماعة عنه في موضع آخر أن رب الحنطة بالخيار إن شاء ضمنه حنطة مثل حنطته ودفع إليه الدقيق، وإن شاء أخذ ذلك الدقيق وأبرأ الطاحن؛ لأن متاعه بعينه. قال: خالف أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا وجعله بالخيار على ما وضعت، وكذلك إن وهبه الغاصب أو باعه أو تصدق به، فإن ذلك كله باطل، ولرب الطعام أن يأخذ شيه بعينه.
وكذلك لو غصبه لحما فشواه أو طبخه، وكذلك لو غصبه سمسما أو زيتونا فعصره، وكذلك لو غصبه ترابا فلته أو طبخه آجرا أو اتخذ منه آنية الخزف، أو جعله جهبابا قال فإن لم يكن للتراب ثمن فلا شيء عليه ولا بأس بأن ينتفع به.
فإن غصب طعاما فزرعه فإن عليه مثله في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وتصدق بفضله، وفي قول أبي يوسف لا يتصدق بفضله، ولا بأس بأن ينتفع به قبل أن يرضى صاحبه وكذلك نوى غرسه واتخذ منه نخلا فهو ضامن لقيمته.
قال: وكذلك صنوف الشجر، انتهى كلام الكرخي.
وكذلك لو غصب بيضا فحضنه فصار دجاجا أو غصب زيتا فجعله في بزر له كثير فغلب عليه البزر فصار بزرا، أو غصب عصفرا فصبغ به فلا سبيل لصاحب هذه الأشياء على شيء مما ذكرناه، ولكن يضمن الغاصب حق الذي غصبه إياه، ولا شيء له من ذلك.
م: (أو حديدا فأتخذه سيفا، أو صفرا فعمله آنية) ش: أي أو غصب حديدا فاتخذه سيفا، أو غصب صفرا فعمله آنية، والصفر بالكسر.
قال أبو عبيد: الصفر بكسر الصاد وهو الذي يعمل منه الأواني.
قلت: هو نوع من النحاس وهو الأصفر في لون الذهب م: (وهو كله عندنا) ش: يعني زوال تملك المالك وتملك الغاصب وضمانه عندنا.

(11/204)


وقال الشافعي: لا ينقطع حق المالك وهو رواية عن أبي يوسف غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده لأنه يؤدي إلى الربا وعند الشافعي: يضمنه عن أبي يوسف أنه يزول ملكه عنه لكنه يباع في دينه وهو أحق به من الغرماء بعد موته للشافعي أن العين باق فيبقى على ملكه وتتبعه الصنعة كما إذا هبت الريح في الحنطة وألقتها في طاحونة الغير فطحنت ولا معتبر بفعله لأنه محظور فلا يصلح سببا للملك على ما عرف فصار كما إذا انعدم الفعل أصلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ينقطع حق المالك وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده) ش: أي عند أبي يوسف م: (لأنه يؤدي إلى الربا) ش: لأنه يأخذ عين حقه مع شيء آخر، إذ الدقيق هو عين الحنطة؛ لأن عمل الطحن وتفريق الآخر لا في إحداث ما لم يكن موجودا، وتفريق الآخر لا يبدل العين كالقطع في الثوب، ألا ترى أن الربا يجري بينهما ولا يجري الربا إلا باعتبار المجانسة.
م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنه) ش: أي النقصان، لأن على أصله تضمين النقصان مع أخذ العين في الأموال الربوية جائز، وهو رواية م: (عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يزول ملكه عنه لكنه يباع في دينه وهو أحق به من الغرماء بعد موته) ش: يعني فيشتري له به حنطة مثل حنطته، فلو مات الغاصب فالمالك أحق به من سائر الغرماء؛ لأنه زال ملكه ويده بسبب لم يرض به، وفي " الإيضاح " عن أبي يوسف ثلاث روايات، أحدها كقولهما وقد ذكرناها.
م: (للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العين باق فيبقى على ملكه) ش: هذا عطف على قوله؛ لأنه يؤدي إلى الربا، وتقريره أن بقاء العين المغصوبة يوجب بقاءها على ملك المالك لا الموجب الأصلي في الغصب رد العين عند قيامه، ولولا بقاؤه على ملك المالك لما كان كذلك، والعين باق فيبقى على ملكه م: (وتتبعه الصنعة) ش: الحادثة؛ لأنها تابعة للأصل فالمالك صاحب الأصل وللغاصب الشفعة، فيترجح صاحب الأصل على صاحب التبع.
م: (كما إذا هبت الريح في الحنطة وألقتها في طاحونة الغير فطحنت) ش: فإن الدقيق يكون لمالك الحنطة، كذلك هذا م: (ولا معتبر بفعله) ش: هذا جواب عما يقال: إن هذا تمثيل فاسد؛ لأنه تحلل في صورة النزاع، فعل الغاصب دون المستشهد به، أجاب بقوله ولا معتبر بفعله م: (لأنه محظور) ش: أي حرام م: (فلا يصلح سببا للملك على ما عرف) ش: في الأصول أن الفعل المحظور لا يصلح سببا للنعمة وهو الملك م: (فصار كما إذا انعدم الفعل أصلا) ش: وحينئذ صارت صورة

(11/205)


وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها. ولنا: أنه أحدث صنعة متقومة فصير حق المالك هالكا من وجه، ألا ترى أنه تبدل الاسم، وفات معظم المقاصد وحقه في الصنعة قائم من كل وجه، فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النزاع كالمستشهد به لا محالة م: (وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها) ش: بفتح الراء المشددة من التأريب، أو جعلها عضوا عضوا، فإن فعل الغاصب فيه موجود وليس بسبب للملك لكونه محظورا.
م: (ولنا: أنه) ش: أي الغاصب م: (أحدث صنعة متقومة) ش: لأن قيمة الشاة تزداد بطبخها وشيها، وكذلك قيمة الحنطة تزداد بجعلها دقيقا وإحداثها م: (فصير حق المالك هالكا من وجه) ش: لأن قيام الشيء إنما يعرف بصورته ومعناه، وقد فقدت الصورة.
م: (ألا ترى أنه تبدل الاسم) ش: وتبدل الاسم يدل على تبدل العين، فكأنه لم يبق العين الأولى م: (وفات معظم المقاصد) ش: فإن المطلوب من عين الحنطة الزراعة والقلي واتخاذها هريسة، وبالطحن بطل هذا المقصود.
فإن قلت: المقصود الأصلي في الحنطة وسائر المطعومات التغذي بها، فإن الله عز وجل ما خلقها إلا لمصالح الأنفس لتكون عدة لها، وبالزراعة استدامتها فكانت وسيلة إليه، وبالطحن لم يفت ما هو المقصود، ولهذا يجري الربا بين الحنطة والدقيق، ولا ربا بين الحنطة والدقيق، ولا ربا بدون المجانسة.
فإذا بقي ما هو المقصود لا يكون معظم المقاصد فائتا.
قلت: لا شك في فوات الصورة فيفوت المعنى؛ لأن معنى الشيء قائم بصورته، ولا نسلم أن المقصود هو الأكل، إذ العقلاء ما اعتادوا أكل عين الحنطة، بل بعد القلي، واتخاذها هريسة أو خبزا يستدعي وجود الدقيق والدقيق بوجود الحنطة، فكانت الوسيلة إلى هذا المقصد الأصلي من غير الحنطة هو الزراعة، وكذلك المقصود من عين السمسم هو الزراعة، ومن عين العنب وجريان الربا بشبهة المجانسة من حيث الصورة، ومبناه على الاحتياط.
م: (وحقه في الصنعة قائم من كل وجه) ش: هذا جواب عن قوله العين باق فيبقى على ملكه، تقريره أن حق الغاصب أولى باعتباره؛ لأن حقه قائم في الصفة من كل وجه، أي أنها موجودة من كل وجه فلا يضاف حدوثها إلى صاحب العين، بدليل أن المغصوب منه إذا اختار أخذ الدقيق يجب عليه أجرة الطحان، وكذلك لا يأخذ الثوب إلا ويعطيه ما زادت الصنعة فيه من الخياطة، وحق الآخر في المصنوع قائم من وجه هالك من وجه.

(11/206)


ولا نجعله سببا للملك من حيث إنه محظور، بل من حيث إنه إحداث الصنعة بخلاف الشاة لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ وهذا الوجه يشمل الفصول المذكورة ويتفرع عليه غيرها فاحفظه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن حقه في الثوب والثوب ثوب بالتركيب، والتركيب بالقطع زال من وجه وبقي من وجه، فلو زال كله لذهب ملكه، وكذلك بعض المنافع القائمة زال بالقطع وحدث بالخياطة ما لم يكن وهذا كمن غصب إبريسما فخاط بطن نفسه أو شاته لم يجز نزع الإبريسم؛ لأنه هالك من وجه، م: (فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه) ش: أي إذا كان كذلك فيترجح حق الغاصب على الأصل وهو حق المالك الذي هو فائت من وجه؛ لأن الصناعة قائمة بذاتها من كل وجه، والعين هالكة فصارت الصنعة راجحة في الوجود، وترجيحه يرجح إلى الحال، وترجيحنا إلى الوجود، فالرجحان في الذات أحق من الحال؛ لأنها تابعة للذات.
م: (ولا نجعله سببا للملك) ش: هذا جواب عن قوله ولا معتبر بفعله؛ لأنه محظور، تقريره أننا لا نجعل فعل الغاصب من الطحن وغيره سببا م: (من حيث إنه محظور، بل من حيث إنه إحداث الصنعة) ش: المتقومة، إذ إحداث الصنعة مشروع في نفسه، وإنما حرم هاهنا بأن جعل مال الغير بمنزلة آلة له، فأشبه الاحتطاب بقدوم الغير والاصطياد بقوس الغير.
م: (بخلاف الشاة) ش: هذا جواب عن قوله وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة، تقريره أن العلة حدوث الفعل من الغاصب على وجه تبدل الاسم، والشاة ليست كذلك م: (لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ) ش: حيث يقال شاة مذبوحة مسلوخة، كما يقال شاة حية.
فإن قيل: الكلام فيها بعد التأديب ولا يقال شاة مأربة، بل يقال لحم مأرب، فقد حصل الفعل وتبدل الاسم ولم ينقطع حق المالك.
أجيب بأنه كذلك إلا أنه لما ذبحها فقد أبقى اسم الشاة فيها مع ترجيح جانب اللحمية فيها، إذ معظم المقصود منها اللحم ثم السلخ ثم التأريب بعد ذلك لا يفوت ما هو المقصود بالذبح، بل يحققه فلا يكون تبديل العين، بخلاف الطبخ بعد؛ لأنه لم يبق ما هو المتعلق باللحم كما كان فلم يكن لصاحبها أن يأخذها.
م: (وهذا الوجه) ش: أي وجه الاستدلال ببقاء الاسم على عدم الانقطاع، وبفوات الاسم على الانقطاع م: (يشمل الفصول المذكورة) ش: أي التي ذكرها القدوري من غصب الشاة وذبحها وغصب الحنطة وطحنها، وغصب الحديد واتخاذه سيفا، وغصب الصفر وعمله آنية م: (ويتفرع عليه غيرها) ش: أي على الفصول المذكورة غيرها، مثل خبز الدقيق ونسج الغزل وغزل القطن وعصر السمسم، فإنه يقطع حق المالك عندنا خلافا للشافعي ومن تابعه م: (فاحفظه)

(11/207)


وقوله: ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها استحسانا، والقياس: أن يكون له ذلك وهو قول الحسن وزفر رحمهما الله، وهكذا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ووجهه ثبوت الملك المطلق للتصرف، ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه جاز. وجه الاستحسان قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضاء صاحبها: «أطعموها الأسارى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي فاحفظ الذي يتفرع عليها واستخرجه بالقياس.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (لا يحل له الانتفاع حتى يؤدي بدلها استحسانا) ش: فيه إشارة إلى أنه لا يحل له الانتفاع بالقضاء وقد نص في " المبسوط " أنه يحل بالقضاء؛ لأنه بمنزلة الأداء لحصول رضى المالك عنده؛ لأنه لا يقضي إلا بطلبه.
م: (والقياس أن يكون له ذلك) ش: أي الانتفاع قبل أداء البدل م: (وهو قول الحسن وزفر رحمهما الله وهكذا عن أبي حنيفة، رواه الفقيه أبو الليث) ش: قال الفقيه أبو الليث في باب الغصب بعلامة النون من الواقعات الحسابية رجل غصب لحما فطبخه، أو حنطة فطحنها كان عليه الضمان، فصار ملكا له وحل أكله في قوله أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه ملكه بالبدل.
وقال محمد: في العيون لا يحل حتى يرضى المالك، وهو وقول أبي يوسف، انتهى.
ونقل في آخر كتاب الغصب من خلاصة الفتاوى عن فتاوى أهل سمرقند رجل غصب طعاما فمضغه حتى صار مستهلكا، فلما ابتلع ابتلع حلالا عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وشرط الطيب عنده وجوب البدل، وعندهما أداء البدل، والفتوى على قولهما، انتهى.
وقال الكرخي في مختصره: قال الحسن: قال زفر: إذا طبخه أو شواه فقد صار مستهلكا له، وعليه القيمة، وله أن يأكله ويطعمه من شاء رضي صاحبه بالقيمة أو لم يرض، وبه يأخذ الحسن.
م: (ووجهه) ش: أي وجه القياس م: (ثبوت الملك المطلق) ش: بكسر اللام، أي: المجوز م: (للتصرف، ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه جاز) ش: لأنه ملكه بوجه محظور، فصار كالمقبوض على وجه بيع فاسد، حيث يصح بيعه. م: (وجه الاستحسان قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضاء صاحبها: «أطعموها الأسارى ") » ش: هذا الحديث رواه اثنان من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:
أحدهما: رجل من الأنصار أخرج حديثه أبو داود في سننه في أول البيوع ثنا محمد بن العلاء أنا ابن إدريس أنا عاصم بن كليب عن أبيه «عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع

(11/208)


أفاد الأمر بالتصدق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على القبر يوصي الحافر أوسع مع قبل رجليه أوسع من قبل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام، فوضع يده، ووضع القوم فأكلوا، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلوك لقمته في فمه. فقال: " إني أجد شاة أخذت بغير إذن أهلها "، فأرسلت المرأة، قالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع أشتري شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها فلم يأخذ، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت بها إلى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أطعميه الأسارى» .
ورواه أحمد في مسنده حدثنا معاوية بن عمر أبو إسحاق عن زائد عن عاصم بن كليب عن أبيه أن رجلا من الأنصار قال فذكره، وهذا مسند صحيح، إلا أن كليب ابن شهاب والد عاصم لم يخرجا له في الصحيح، وخرج له البخاري في رفع اليدين.
وقال ابن سعد: ثقة، وذكره ابن حبان في " الثقات "، ولا يضره قول أبي داود: وعاصم ابن كليب عن أبيه عن جده ليس بشيء، فإن هذا ليس من روايته عن أبيه عن جده، وأخرجه الدارقطني في " سننه " في الضحايا عن حميد بن الربيع ثنا إدريس به وحميد بن الربيع هو الخزاز بخاء معجمة وزاي مكررة.
وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": كذاب، وتعقبه صاحب التنقيح فقال: وثقه عثمان بن أبي شيبة وقد تابعه محمد بن العلاء كما رواه أبو داود.
والثاني ابن موسى أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " ثنا أحمد بن القاسم الطائي ثنا بشر بن الوليد ثنا أبو يوسف القاضي عن أبي حنيفة عن عاصم بن كليب عن أبي بردة «عن أبي موسى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قوما من الأنصار في دارهم فذبحوا له شاة فصنعوا له منها طعاما، فأخذ من اللحم شيئا ليأكله فمضغه ساعة لا يسيغه، فقال: ما شأن هذا اللحم، قالوا شاة لفلان ذبحناها حتى يجيء فترضيه في ثمنها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أطعموها الأسارى ".» ورواه في " معجمه الأوسط " ثنا أحمد بن القاسم الطاوي ثنا بشر بن الوليد به.
م: (أفاد الأمر بالتصدق) ش: أي أفاد الحديث الأمر بالتصدق، والحاصل أنه أفاد أمورا ثلاثة:

(11/209)


زوال ملك المالك، وحرمة الانتفاع للغاصب قبل الإرضاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: الأمر بالتصدق الذي يدل على زوال ملك المالك إذ لو بقي الملك للمالك لأمر بالرد إليه تحرزا عن إبطال ملك الإنسان، أو أمر بالبيع وحفظ الثمن عند خوف الفساد؛ لأن الإمام ولايته بيع مال الإنسان عند الحاجة.
الثاني: زوال ملك المالك، أشار إليه بقوله م: (زوال ملك المالك) ش: بالنصب، أي وأفاد أيضا زوال ملك المالك. ووجهه ما ذكرناه.
الثالث: حرمة الانتفاع قبل أداء البدل، أشار إليه بقوله: م: (وحرمة الانتفاع للغاصب قبل الإرضاء) ش: بالنصب أيضا، أي وأفاد أيضا حرمة انتفاع الغاصب بالمغصوب قبل إرضاء المالك بالتراضي أو بالقضاء.
وقال محمد بن الحسن: في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عاصم بن كليب عن أبيه به، ثم قال ولو كان هذا اللحم باقيا على ملك مالكه الأول لما أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يطعم الأسارى، ولكن لما رآه خرج من ملك الأول صار مضمونا على الذي أخذه أمر بإطعامه؛ لأن من ضمن شيئا فصار له عن وجه غصب فإن الأولى أن يتصدق به ولا يأكله.
وأخرج الدارقطني في " سننه " عن عبد الواحد بن زياد عن عاصم بن كليب به، ثم أخرج عن عبد الواحد بن زياد قال: قلت لأبي حنيفة: من أين أخذت قولك في الرجل يعمل في مال الرجل بغير إذنه أنه يتصدق بالذبح، قال: أخذته من حديث عاصم بن كليب هذا، انتهى.
فإن قلت: قال البيهقي: وهذا؛ لأنه كان يخشى عليها الفساد وصاحبها كان غائبا فرأى من المصلحة أن يطعمها الأسارى ثم يضمن لصاحبها.
قلت: الإمام إذا خاف التلف على ملك غائب يبيعه ويحبس ثمنه عليه كما ذكرنا. ولا يجوز له أن يتصدق به.
فإن قلت: هذا الحديث متروك الظاهر؛ لأن المذهب أن التصدق بالذبح لا يعين المغصوب، فكيف يصح التمسك به.
قلت: روي عن محمد أنه يتصدق بالأصل قبل أداء الضمان على أنا نقول: إن الحديث يقتضي انقطاع حق المالك والتصدق، إلا أن التصدق ترك للمعارض، فبقي الحكم الآخر على ظاهره، ولا يرد علينا اللقطة؛ لأن الشارع أمر بتصدقها بعد تعريفها وعجزها عن إصابة المالك وعن صيانة المال، وهاهنا المالك معلوم ويمكن الرد عليه فلا يجوز التصدق بدون رضاه، كما لو علم صاحب اللقطة وأمكن الرد عليه. كذا ذكره الإمام اليرعوي.

(11/210)


ولأن في إباحة الانتفاع فتح باب الغصب فيحرم قبل الإرضاء حسما لمادة الفساد ونفاذ بيعه وهبته مع الحرمة لقيام الملك كما في الملك الفاسد وإذا أدى البدل يباح له لأن حق المالك صار موفى بالبدل، فحصلت مبادلة بالتراضي، وكذا إذا أبرأه لسقوط حقه به، وكذا إذا أدى بالقضاء أو ضمنه الحاكم أو ضمنه المالك لوجود الرضى منه؛ لأنه لا يقضي إلا بطلبه. وعلى هذا الخلاف إذا غصب حنطة فزرعها أو نواة فغرسها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: المصلية أي المشوية من صليت اللحم وغيره أصليه صليا، مثل رميته أرميه رميا إذا شويته، وأراد بالأسارى المحبوسين، كذا فسره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قوله يلوك من اللوك وهو مضغ الشيء الصلب وإدارته في الفم، يقال لاك اللقمة ولاك الفرس اللجام.
قوله: لا يسيغه من ساغ الطعام مسوغا سهل دخوله في الحلق، وأسغته أنا أي ساغ لي.
م: (ولأن في إباحة الانتفاع فتح باب الغصب فيحرم قبل الإرضاء حسما لمادة الفساد) ش: هذا دليل معقول، وهو ظاهر.
وفي بعض النسخ قيل الإرضاء أي ساغ لي قبل إرضاء المالك، والحسم القطع بالحاء المهملة م: (ونفاذ بيعه) ش: هذا جواب عن قوله: ولهذا لو وهب أو باعه، أي نفاذ بيع المغصوب م: (وهبته) ش: أي نفاذ هبته، والمصدر في الموضعين مضاف إلى مفعوله م: (مع الحرمة لقيام الملك) ش: وذلك لا يستلزم الإباحة م: (كما في الملك الفاسد) ش: يعني كالمقبوض في البيع الفاسد.
م: (وإذا أدى البدل يباح) ش: هذا راجع إلى قوله حتى يؤدي بدلها، أي إذا أدى الغاصب بدل العين المغصوبة يباح الانتفاع م: (لأن حق المالك صار موفى بالبدل، فحصلت مبادلة بالتراضي، وكذا إذا أبرأه) ش: أي وكذا يباح الانتفاع إذا أبرأ المالك الغاصب م: (لسقوط حقه به) ش: أي لسقوط حق المالك بالإبراء.
م: (وكذا إذا أدى بالقضاء) ش: أي: وكذا يباح الانتفاع إذا أدى البدل بقضاء القاضي، وفي " المبسوط " لو قضى القاضي بالضمان يحل له الانتفاع بمجرد القضاء لوجود الرضى من المالك، إذ المالك لا يضمنه إلا بعد طلبه فكان راضيا به وقد ذكرناه مرة م: (أو ضمنه الحاكم) ش: بأن كان المغصوب مال اليتيم م: (أو ضمنه المالك) ش: أي أو طلب المالك من الغاصب الضمان يحل الانتفاع قبل أداء الضمان م: (لوجود الرضى منه) ش: أي من المالك م: (لأنه لا يقضي إلا بطلبه) ش: أي بطلب المالك ودعواه، فكان المالك ضمنه فيحل له الانتفاع بذلك.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أصحابنا وزفر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى م: (إذا غصب حنطة فزرعها أو نواة فغرسها) ش: يعني لا يحل الانتفاع بالمغصوب قبل أداء البدل

(11/211)


غير أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يباح الانتفاع فيهما قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه، بخلاف ما تقدم لقيام العين فيه من وجه، وفي الحنطة زرعها لا يتصدق بالفضل عنده خلافا لهما، وأصله ما تقدم.
قال: وإن غصب فضة أو ذهبا فضربها دراهم أو دنانير أو آنية لم يزل ملك مالكها عنها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيأخذها ولا شيء للغاصب. وقالا: يملكها الغاصب وعليه مثلها؛ لأنه أحدث صنعة معتبرة صيرت حق المالك هالكا من وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (غير أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يباح الانتفاع فيهما) ش: أي في الصورتين المذكورتين وهما غصب الحنطة وزرعها، وغصب النواة وغرسها م: (قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه) ش: لأن الحنطة صارت قصيلا، والنواة صارت زرعا.
م: (بخلاف ما تقدم) ش: من غصب الشاة وذبحها وطبخها، وغصب الحنطة وطحنها حيث لا يحل الانتفاع قبل إرضاء المالك م: (لقيام العين فيه من وجه) ش: لأن إجراء الشاة والحنطة باقية م: (وفي الحنطة يزرعها لا يتصدق بالفضل عنده) ش: أي عند أبي يوسف م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (وأصله ما تقدم) ش: أي أصل وجوب التصدق بالفضل عندهما خلافا لأبي يوسف ما تقدم عند قوله: ومن غصب عبدا فأشغله، وأراد بالأصل الدليل المذكور هناك.

[غصب فضة أو ذهبا فضربها دنانير أو دراهم]
م: (قال: وإن غصب فضة أو ذهبا فضربها دنانير أو دراهم أو آنية لم يزل ملك مالكها عنها عند أبي حنفية - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إلى هنا لفظ القدوري وتمامه فيه:
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يملكها الغاصب.
وقال الحاكم الشهيد في " كافيه ": وإن غصب فضة فضربها دراهم أو صاغها إناء قال يأخذها ولا أجر للغاصب ولا يشبه هذا الحديد والصفر؛ لأنه فضة بعينها لا تخرج من الوزن.
وقال أبو يوسف: ويعطيه مثل فضته، وكذلك الذهب، انتهى.
م: (فيأخذها ولا شيء للغاصب) ش: وبه قالت الثلاثة، وقيد بضربها دراهم أو دنانير؛ لأن في كسر الدراهم والدنانير وقلبهما يضمن مثله بالاتفاق؛ لأنه غيره بصنعه ولا يتم دفع الضرر عن صاحبه إلا بإيجاب المثل والمكسور للكاسر بعد الضمان، وإن شاء صاحبه أخذ المكسور ولم يرجع عليه بشيء، ويستوي إن نقصت ماليته بالكسر أو لم ينتقص، أما لو استهلك القلب فعليه قيمته مصوغا من غير جنسه، وعند الشافعي من جنسه.
م: (وقالا: يملكها الغاصب وعليه مثلها؛ لأنه أحدث صنعة معتبرة) ش: وهي الصياغة م: (صيرت حق المالك) ش: أي إحداث الصنعة صير حق المالك م: (هالكا من وجه) ش: لأن الاسم

(11/212)


ألا ترى أنه كسره وفات بعض المقاصد والتبر لا يصلح رأس المال في المضاربات والشركات، والمضروب يصلح لذلك. وله: أن العين باق من كل وجه، ألا ترى أن الاسم باق ومعناه الأصلي الثمنية، وكونه موزونا، وأنه باق حتى يجري فيه الربا باعتباره وصلاحيته لرأس المال من أحكام الصنعة دون العين، وكذا الصنعة فيها غير متقومة مطلقا؛ لأنه لا قيمة لها عند المقابلة بجنسها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تبدل بفعل الغاصب م: (ألا ترى أنه كسره) ش: أي أن الغاصب كسره وبالكسر يتبدل الاسم والمقصود.
فإن قبل الضرب يسمى ذهبا وفضة وبعده درهما ودينارا م: (وفات بعض المقاصد) ش: حيث كان يتعين في المعقود قبل الضرب وبعده لا يتعين وأشار أيضا إلى تبدله في بعض المقاصد بقوله: م: (والتبر) ش: وهو القطعة المأخوذة من المعدن م: (لا يصلح رأس المال في المضاربات والشركات، والمضروب يصلح لذلك) ش: أي ليكون رأس المال فيها، ففي هذا دليل على تغايرهما معنى واسما كما ذكرنا.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن العين باق من كل وجه، ألا ترى أن الاسم باق) ش: حيث يقال بعد الصنعة ذهب وفضة م: (ومعناه الأصلي الثمنية) ش: أراد أن المعنى الأصلي اللازم للعين وهو الثمنية قائم كما كان بلا خلاف م: (وكونه موزونا) ش: عطف على قوله الثمنية م: (وأنه باق) ش: أي وإن كل واحد من الثمنية وكونه موزونا باق، ثم بين بقاء هذين الشيئين بقوله م: (حتى يجري فيه الربا باعتباره) ش: أي باعتبار الوزن.
والحاصل أن الأحكام الأربعة المتعلقة بالذهب والفضة وهي الثمنية وكونه موزونا وجريان الربا ووجوب الزكاة، يدل على أن العين باق من كل وجه.
م: (وصلاحيته لرأس المال) ش: جواب عن قوله والتبر لا يصلح رأس المال وتقريره أن الصلاحية أمر زائد على مقتضى الطبيعة م: (من أحكام الصنعة دون العين) ش: يعني لا من حكم العين، ولهذا نقول ما لا يتفاوت من الفلوس الرائجة في هذا الحكم من الدراهم، فلا اعتبار ولا قيمة للصنعة في هذه الأموال منفردة عن الأصل وبه فارق الحديد والصفر، فإن الصنعة الحادثة تخرجهما من الوزن، حتى إذا باع قمقمة حديد بقمقمتين منه جاز إذا كان يدا بيد.
م: (وكذا الصنعة فيها) ش: أي في عين الفضة والذهب م: (غير متقومة مطلقا) ش: أي في جميع الأحوال، وهذا جواب عن قوله: أحدث صنعة معتبرة، تقريره أنها غير متقومة في كل حال م: (لأنه لا قيمة لها عند المقابلة بجنسها) ش: وإنما تتقوم عند المقابلة بخلاف جنسها، كمن استهلك قلب فضة فعليه قيمته من الذهب مصوغا عندنا.

(11/213)


قال: ومن غصب ساجة فبنى عليها زال ملك المالك عنها، ولزم الغاصب قيمتها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: للمالك أخذها والوجه عن الجانبين قدمناه، ووجه آخر لنا فيه: أن فيما ذهب إليه إضرارا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف، وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[غصب ساجة فبنى عليها]
م: (قال ومن غصب ساجة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والساجة بالسين المهملة وتخفيف الجيم خشبة عظيمة. وقيل خشبة منحوتة مهيأة للأساس، والأصح أنها خشبة صلبة قوية تجلب من بلاد الهند لها، ثم تعمل منها الأبواب، وأما الساحة بالحاء المهملة فستأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى م: (فبنى عليها زال ملك مالكها عنها ولزم الغاصب قيمتها) ش: وفي " الذخيرة ": هذا إذا كانت قيمة البناء أكثر من قيمة الساجة، أما إذا كانت قيمة الساجة أكثر من قيمة البناء لم يزل ملك مالكها عنها بالإجماع.
وفي " الكافي " للحاكم: وإن غصب ساجة أو خشبة فأدخلها في بنائه أو آجرة فأدخلها في بنائه أو جصا فبنى به، قال: عليه في ذلك كله قيمته، وليس للمغصوب منه نقض ما بناه وأخذ ساجته وخشبته وآجره على حوالي الساجة؛ لأنه غير متعد في البناء على ملكه فلا ينقض. وأما إذا بنى على نفس الساجة ينقض بناؤه؛ لأنه مطلقا وجعله الأصح، والدليل عليه أن القدوري بعد أن ذكر في شرحه " لمختصر الكرخي " ما ذكرناه قال في كتاب الصرف: ومن غصب درهما فجعله عروة مزادة سقط حق مالكه، والفضة لا تسقط حق مالكها عنها بالصياغة وإنما أسقط بكونها تابعة للموادة، وهذا لا يكون إلا بعمل يرفعه فيها على وجه التعدي، فدل على أن المسألة على إطلاقها، وأنه لا حق للمالك في الساجة في الوجهين على ما يأتي عن قريب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: للمالك أخذها) ش: أي أخذ الساجة، وبه قال زفر وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على ما يأتي عن قريب م: (والوجه عن الجانبين قدمناه) ش: أي الدليل في مسألة الساجة هو الذي ذكرناه من جانبنا وجانب الشافعي في المسألة المتقدمة في أول الفصل، يعني أن الغصب عندنا عدوان ويصلح سببا للملك. ولنا أنه أحدث صنعة متقومة إلى آخره. م: (ووجه آخر لنا فيه) ش: أي وجه آخر لنا في غصب الساجة، أي في تعليله م: (أن فيما ذهب إليه) ش: أي في الذي ذهب إليه الشافعي م: (إضرارا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف) ش: لأن فيه إبطال حقه م: (وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة) ش: فكان فوات حقه مجبورا بالقيمة، وضرر الغاصب ليس بمجبور بشيء فيفوت حقه لا إلى خلف، وكان قطع حق المالك أولى من قطع حق الغاصب.

(11/214)


فصار كما إذا خاط بالخيط المغصوب بطن جاريته أو عبده، أو أدخل اللوح المغصوب في سفينته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: الغاصب جان ولا يبالى بضرر الجاني إذا كان فيه دفع الضرر عن المجني عليه.
قلت: نعم ولكن حق الجاني فيما وراء جنايته مرعي ودفع الضرر عنه واجب.
فإن قلت: إنه أضر بنفسه حيث باشر سببه، وهو إدخال ساجة الغير في بنائه مع علمه بذلك فلا يبقى مستحقا للنظر بدفع الضرر عنه.
قلت: لا نسلم أنه أضر بنفسه، نعم إنه أدخل ساجة الغير في بنائه، وهذا ليس بسبب للنقض، بل هو سبب لانقطاع حق المالك وثبوت الملك له.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد عين ماله فهو أحق به» دليل على أن حقه لا ينقطع بإدخالها في البناء؛ لأنه وجد عين ماله.
قلت: نحن نقول بموجبه وهاهنا لم يجد عين ماله؛ لأن الساجة صارت هالكة من وجه، فصارت ملكا للغاصب. م: (فصار كما إذا خاط بالخيط المغصوب بطن جاريته أو عبده) ش: حيث لا يجب رد الخيط على صاحبه بلا خلاف، ولو خاط بالخيط المغصوب جرح حيوان يؤكل ففيه للشافعي وأحمد رحمهما الله قولان: في قول يجب رده، وفي الثاني ينتقل حقه إلى القيمة، وفي " مغني الحنابلة " فإن خاط به جرح حيوان محترم لا يحل أكله كالآدمي والبغل والحمار الأهلي وخيف التلف بنزعه لم يجب النزع؛ لأنه إضرار لصاحبه ولا يزال الضرر بالضرر، وإن كان الحيوان للغاصب، فقال القاضي يجب نزعه ورده.
وقال أبو الخطاب: فيه وجهان أحدهما هذا، والثاني لا. ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، انتهى.
ولو غصب خيطا وخاط به ثيابه لا يجب نقضه عندنا، وقالت: الثلاثة يجب نقضه ورد الخيط على صاحبه. م: (أو أدخل اللوح المغصوب في سفينته) ش: يعني ليس لصاحب اللوح نزعه، ولكن فيه تفصيل: وهو أنه إن كان في الساحل لزمه قلعه ورده، وبه قال الشافعي ومالك، وإن كان في لجة البحر واللوح في أعلاها بحيث لا يغرق بقلعه يقلع، وإن خيف غرقها

(11/215)


ثم قال الكرخي والفقيه أبو جعفر الهندواني: إنما لا ينقض إذا بنى في حوالي الساجة، أما إذا بنى على نفس الساجة ينقض؛ لأنه متعد فيه وجواب الكتاب يرد ذلك وهو الأصح. قال: ومن ذبح شاة غيره بغير أمره فمالكها بالخيار إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه، وإن شاء ضمنه نقصانها وكذا الجزور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم تقلع حتى يخرج إلى الساحل، ولصاحب اللوح المطالبة بالقيمة، فإذا أمكنه رد اللوح استرجعه ورد القيمة، وبه قال أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الأسرار ": صورة المجيء عليها فيما إذا كانت السفينة مع من عليها في لجة البحر وخيف الغرق.
فإن قلت: عدم جواز رد الخيط واللوح عنده من أن فيه تلف الناس؛ لأن المالك ملك ذلك بما صنع فلا يصلح للاستشهاد لاختلاف المناط.
قلت: ثبت في كل واحدة، أي من العلة أعني التلف وتملك الغاصب عنها حق الملك وغيره، وجعل حق غيره أولا؛ لأن بإبطاله زيادة الضرر بالنسبة إلى ضرر المالك فكانتا متساويتين.
م: (ثم قال الكرخي والفقيه أبو جعفر الهندواني: إنما لا ينقض إذا بنى في حوالي الساجة) ش: بفتح اللام، يقال فقد حوله وحوليه، ولا يقال حواليه بكسر اللام، وقعد حياله وبحياله. أي بإزائه، وذلك بأن يكون بعض البناء على ساجة لنفسه والبعض على الساجة المغصوبة؛ لأنه غير متعمد به من كل وجه م: (أما إذا بنى على نفس الساجة ينقض؛ لأنه متعد فيه) ش: من كل وجه فيقلع م: (وجواب الكتاب) ش: أي القدوري، وهو قوله بنى عليها م: (يرد ذلك) ش: أي التفصيل لما قلنا: إن ضرر المالك مجبور بالقيمة دون ضرر الغاصب م: (وهو الأصح) ش: أي جواب الكتاب هو الأصح، وقد مر بيان الأصحية عن قريب.
وفي " الذخيرة " لو أراد الغاصب نقض البناء ورد الساجة مع تملكها بالضمان بعد القضاء بقيمتها لا تحل، وقبل القضاء بهما قيل: يحل، وقيل: لا يحل؛ لأنه تضييع المال بلا فائدة.
م: (قال: ومن ذبح شاة غيره بغير أمره) ش: أي قال القدوري في " مختصره " ومن ذبح شاة غيره بغير إذنه م: (فمالكها بالخيار إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه) ش: أي إلى الذابح م: (وإن شاء ضمنه نقصانها) ش: أي نقصان الشاة م: (وكذا الجزور) ش: أي وكذا الحكم إذا غصب الجزور وذبحها، إما أن يأخذ العين مع نقصان الذبح، وإما أن يترك العين ويضمن جميع القيمة، والجزور بفتح الجيم ما أعد للجزر من الإبل، أي القطع وهو الذبح يذكر ويؤنث، ومن جعله بالتذكير فقط متوهم، وهو أن يقال إذا كان الجزور معدة للذبح لم يكن معنى الدر والنسل

(11/216)


وكذا إذا قطع يدهما هذا هو ظاهر الرواية. ووجهه أنه إتلاف من وجه باعتبار فوت بعض الأغراض من الحمل والدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها مطلوبا فكيف يلزم النقصان، بل الذبح زيادة فيه؛ لأنه يؤخذ لأجله العوض.
فأجاب عنه وقال لا يتفاوت الحكم بين أن يكون الحيوان معدا للذبح أو لم يكن؛ لأن الذبح في الحيوان نقص من حيث تفويت الحياة.
م: (وكذا إذا قطع يدهما) ش: أي وكذا الحكم إذا اقطع يد الشاة والجزور يعني أن المالك بالخيار إن شاء أخذ العين مع نقصان القطع، وإن شاء ترك العين للغاصب وضمنه جميع القيمة، وهذا رواية عن أصحابنا، والظاهر أن له تضمين جميع القيمة بلا خيار، ألا ترى إلى ما قال الحاكم الشهيد في " كافيه ": وأما الدابة إذا غصبها فقطع يدها أو رجلها فلا يشبه هذا، أي لا يشبه الخرق الكثير في الثوب.
قال: لأنه استهلكها وليس ينتفع صاحبها بما بقي، والغاصب بقيمة الدابة وهي له، وكذا لو كانت بقرة أو شاة أو جزورا فذبحها أو قطع يدها أو رجلها، انتهى.
وذلك؛ لأن الدابة بعد فوات يدها أو رجلها لا ينتفع بها انتفاع الدواب، فصارت هالكة ويصير الغاصب مستهلكا فيجب عليه القيمة، وتكون الدابة بخلاف الثوب، فإن الثوب بالخرق الفاحش لا يكون هالكا؛ لأنه يمكن أن ينتفع بالثياب فلا يضمنه القيمة بلا خيار، بل يكون الخيار للمالك.
وفي شرح " الكافي " روي في رواية أن له الخيار في مأكول اللحم؛ لأن اللحم مقصود كما أن عينها مقصود، واللحم لم يتلف فكان حقه قائما من وجه، فكان له الخيار إن شاء ترك اللحم عليه وضمنه قيمة الدابة، وإن شاء أخذ اللحم وضمنه قيمة النقصان.
م: (هذا هو ظاهر الرواية) ش: أي المذكور من ثبوت الخيار للمالك هو ظاهر الرواية، واحترز به عما رواه بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن صاحب الشاة بالخيار إن شاء أخذها ولا شيء له غيرها، وإن شاء تركها وضمنه قيمتها يوم غصبها، وكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، وكذلك إذا سلمها حين ذبحها أو قطع لحمها أعضاء ولم يطبخه والرأس قائم والجلد والأكارع والبطن، كان المغصوب بالخيار إن شاء أخذ ذلك، ولم يكن له غيره وإن شاء ضمنه قيمتها حية.
م: (ووجهه) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أنه) ش: أي الذبح م: (إتلاف من وجه باعتبار فوت بعض الأغراض من الحمل والدر) ش: بفتح الدال وتشديد الراء وهو اللبن، ومنه ناقة درور

(11/217)


والنسل، وبقاء بعضها وهو اللحم فصار كالخرق الفاحش في الثوب، ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها للمالك أن يضمنه جميع قيمتها لوجود الاستهلاك من كل وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ودار، أي كثيرة اللبن م: (والنسل وبقاء بعضها) ش: أي بعض الأغراض م: (وهو اللحم فصار) ش: أي الحكم في هذا م: (كالخرق الفاحش في الثوب) ش: على ما يجيء حكمه عن قريب، وهذا الذي ذكره لا يعم الجزور بظاهره، ولكنه يعمه من قوله فوت بعض الأغراض إذا لم يجعل البيان منحصرا فيما ذكر بقوله من الحمل والدر والنسل.
م: (ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها، للمالك أن يضمنه جميع قيمتها لوجود الاستهلاك من كل وجه) ش: قال الكاكي: في تقييد هذا الحكم بمأكول اللحم لا توجد زيادة فائدة لما أن الحكم في مأكول اللحم كغير مأكول؛ لأن بقطع الطرف للمالك اختيار تضمين جميع القيمة في المأكول وغيره، ذكره في " المبسوط ".
وقال الأترازي: هذا إنما هو على اختيار صاحب الهداية، والظاهر وجوب تضمين القيمة بلا خيار فيهما، يعني في مأكول اللحم وغير مأكوله إذا قطع طرفه فكان فائدة ذكره رد ذلك الظاهر.
وقال صاحب " العناية ": فيه نظر من وجهين أحدهما: أنه لو كان كذلك لكفى أن يقول وكذلك إذا كان غير مأكول اللحم.
والثاني: أن التعليل يدل على مغايرة الحكم بين قطع طرف مأكول اللحم وغير مأكوله، حيث قال في الأول إنه إتلاف من وجه، وفي الثاني بوجود الاستهلاك من كل وجه، والظاهر من كل أنه نفى اختيار المالك بين تضمين قيمتها وبين إمساك الخشبة وتضمين نقصانها، ويكون ذلك اختيارا منه. وإن كان نقل الكتب على خلافه، فإنه ذكر في " الذخيرة " و " المغني " فقال وفي " المنتقى " هشام عن محمد رجل قطع يد حمار أو رجله وكان لما بقي قيمته فله أن يمسك ويأخذ النقصان، قلت: أراد بذلك صاحب الهداية الإشارة إلى ما ذكره في الواقعات الحسامية في باب الغصب بعلامة السين رجل غصب دابة فقطع يدها فهذا على وجهين:
أما إن كانت لا يؤكل لحمها أو يؤكل ففي الوجه الأول لا يكون لصاحب الدابة خيار؛ لأنه استهلك من كل وجه، وفي الوجه الثاني له الخيار؛ لأنه استهلك من وجه، انتهى.
فإن قلت: ما أراد صاحب الهداية من قوله: فقطع الغاصب طرفها.
قلت: أراد به أحد قوائمها؛ لأن في عين الحمار أو البغل أو الفرس ربع القيمة، وكذلك

(11/218)


بخلاف قطع طرف المملوك حيث يأخذه مع أرش المقطوع؛ لأن الآدمي يبقى منتفعا به بعد قطع الطرف.
قال: ومن خرق ثوب غيره خرقا يسيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في عين البقر والجزور ربع القيمة، وفي عين الشاة ما نقصها على ما سيجيء في كتاب " الديات " إن شاء الله تعالى.
ونقل في " الأجناس " عن كتاب " الجنايات والديات " رواية بشر بن غياث. قال أبو حنيفة: في إحدى عيني الحمار أو البغل ربع القيمة ولو فقأ عين شاة أو حمل أو طير أو كلب أو دجاجة أو نعامة عليه ما نقصه.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك كله: عليه ما نقصه في جميع الربح، ثم قالوا في قطع أذن الدابة وذنبها يضمن النقصان وجعل ذلك نقصانا يسيرا. وعن شريح أنه إن قطع ذنب حمار القاضي يضمن جميع القيمة، وإن كان لغيره يضمن النقصان. وفي " المنتقى ": إذا ذبح الحمار له الخيار، وإن قتله ليس له الخيار؛ لأن جلده لا قيمة له حينئذ، أما في الذبح بمنزلة الذبائح.
م: (بخلاف قطع طرف المملوك) ش: هذا يتعلق بقوله للمالك أن يضمنه جميع القيمة، أي بخلاف العبد إذا قطع الغاصب طرفه م: (حيث يأخذه مع أرش المقطوع؛ لأن الآدمي يبقى منتفعا به بعد قطع الطرف) ش: ولا يصير مستهلكا من كل وجه، بخلاف الدابة فإنها بعد ذلك لا ينتفع بها، أي بما هو المقصود بها من الحمل والركوب وغير ذلك.
وهذا إذا لم تكن الجناية مستهلكة، أما إذا كانت مستهلكة فليس للمالك أن يأخذ الأرش مع إمساك الجناية عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما على ما عرف في موضعه. بيان ذلك أن كل جناية لو حصلت في الحر أوجبت كمال الدية، فإذا حصلت في العبد فتلك مستهلكة كفقء العينين وقطع اليدين والرجلين والذكر وقطع يد ورجل من جانب واحد.
وأما في قطع الأذنين وحلق الحاجبين إذا لم ينبت ففيه روايتان: في رواية جعله مستهلكا، وكل جناية في الحر لا يوجب كمال الدية كقطع يد أو رجل وقطع يد ورجل من خلاف، فتلك الجناية غير مستهلكة، ثم في الجناية المستهلكة على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - المولى بالخيار إن شاء حبس العبد لنفسه ولا يرجع بشيء وإن شاء سلمه إلى الجاني ويرجع بقيمته، وإن قال صاحباه: إن شاء سلم ورجع بالقيمة، وإن شاء حبس لنفسه ورجع بالنقصان كذا في " شرح الطحاوي ".

[خرق ثوب غيره خرقا يسيرا]
م: (قال: ومن خرق ثوب غيره خرقا يسيرا) ش: أي قال القدوري، والمراد من الثوب ما

(11/219)


ضمن نقصانه والثوب لمالكه، لأنه العين قائم من كله وجه، وإنما دخله عيب فيضمنه. قال: وإن خرق خرقا كثيرا تبطل عامة منافعه فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته؛ لأنه استهلاك من هذا الوجه فكأنه أحرقه. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه يترك الثوب عليه وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان؛ لأنه تعييب من وجه حيث إن العين باق، وكذا بعض المنافع قائم، ثم إشارة الكتاب إلى أن الفاحش ما يبطل به عامة المنافع، والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض العين وجنس المنفعة ويبقى بعض العين وبعض المنفعة، واليسير ما لا يفوت به شيء من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يلبس كالكرباس م: (ضمن نقصانه والثوب لمالكه؛ لأن العين قائم من كل وجه، وإنما دخله عيب فيضمنه) ش: أي النقصان م: (وإن خرق خرقا كثيرا) ش: بالثاء المثلثة، ويجوز بالباء الموحدة أيضا. وأشار إلى تفسير الخرق الكثير بقوله م: (بحيث تبطل عامة منافعه) ش: بأن لا يبقى شيء في منفعة الثبات بأن لا يصلح لثوب ما م: (فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته؛ لأنه استهلاك من هذا الوجه، فكأنه أحرقه) ش:. وفي شرح " الكافي " قال شيخ الإسلام: وقال بعض أصحابنا: هذا إذا كان الخرق بحال لا يمكن خياطته، فأما إذا أمكن خياطته ولم يبق بعد الخياطة نقصان فاحش لا يكون له تضمين جميع القيمة، ويؤخذ بالخياطة ثم يضمن النقصان إن بقي بعد كمن جرح إنسانا جرحا هل يؤخذ بأجرة الطبيب.
فإن بقي نقص بعد ذلك أخذ أرشه كذلك هاهنا، هذا إذا غصب ثوبا فخرقه، أما إذا غصب ثوبا فقطعه قميصا ولم يخطه فله أن يأخذه ويضمنه ما نقصه القطع، وكذا ذكر الحاكم في " الكافي ".
قال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي في شرحه: وإن شاء ضمنه قيمته؛ لأنه تعيب عنده بعيب فاحش، وإن خاطه قميصا أو غيره فليس لصاحبه أن يأخذه؛ لأنه صار شيئا آخر وتعلقت به مصلحة أخرى، فصار الأول هالكا من حيث المعنى، فكان للمالك ولاية التضمين.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومعنى قول القدوري فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته أنه م: (يترك الثوب عليه) ش: أي على الغاصب م: (وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان؛ لأنه تعييب من وجه من حيث إن العين باق، وكذا بعض المنافع قائم) ش: لأنه يمكن أن يفصل عنه ثوب للصغير.
م: (ثم إشارة الكتاب) ش: أي إشارة القدوري م: (إلى أن الفاحش ما يبطل به عامة المنافع، والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض العين) ش: من حيث الظاهر، إذ الظاهر أن الثوب إذا

(11/220)


المنفعة، وإنما يدخل في النقصان؛ لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل في الأصل قطع الثوب نقصانا فاحشا والفائت به بعض النافع.
قال: ومن غصب أرضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قطع يفوت من إجراء شيء لا محالة م: (وجنس المنفعة ويبقى بعض العين وبعض المنفعة) ش: أراد به أنه لا يبقي جميع منافعه بل يفوت بعض ويبقي بعض، كما إذا قطع الثوب قميصا منفعة الجبة والقباء.
م: (واليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يدخل فيه النقصان) ش: أي النقصان في مالية الثوب لسبب فوت الجودة. وفي " الفتاوى الصغرى " قال بعضهم إن أوجب الخوف النقصان ربع القيمة فصاعدا فهو فاحش وما دونه يسير. وقال بعضهم ما لا يصلح الباقي لثوب فهو فاحش، واليسير ما يصلح. والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض المنفعة وبعض العين، واليسير ما يفوت بعض المنفعة، انتهى.
وهو عكس ما قال صاحب " الهداية " حيث قال: واليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وكل منهما نص على الأصح بما ذهب إليه كما ترى. وقال تاج الشريعة: وقال الإمام رضي الدين النيسابوري: ما يستنكف أوساط الناس من لبسه مع ذلك الخرق هو الكثير واليسير ضده. وفي غير المخيط وغير المقطوع أن لا يمكن أن يخاط منه، واليسير ضده.
م: (لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل في الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (قطع الثوب) ش: بدون الخياطة م: (نقصانا فاحشا) ش: جعل للمالك ولاية تضمين جميع القيمة م: والفائت به) ش: أي بالقطع م: (بعض المنافع) ش: لا عامة المنافع كما أشار إليه القدوري. وأما لو خاطه ينقطع حق المالك عندنا، ذكره في " الذخيرة ". وعند الثلاثة لا ينقطع، وقالوا في الشق اليسير يأخذ الثوب ويضمنه النقصان. وفي الفاحش كذلك عند الشافعي وأحمد رحمهما الله وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - مخير كقولنا.
وقال شمس الأئمة: هذا الحكم الذي ذكرنا في الخرق في الثوب فهو الحكم في كل عين من الأعيان إلا في الأموال الربوية، فإن التغيير هناك فاحشا أو يسيرا، لصاحبه الخيار بين الإمساك والدفع والتضمين لقيمته، وفي الإمساك لا يضمن النقصان؛ لأنه يؤدي إلى الربا.

[غصب أرضا فغرس فيها أو بنى]
م: (قال: ومن غصب أرضا) ش: أي قال القدوري: وقال تاج الشريعة: سماه غصبا وإن لم يتحقق الغصب في العقار عندهما لما أنه يتصور بصورة الأملاك.
قلت: عبارة أصحابنا في غصب العقار مختلفة على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فقيل يتحقق فيه الغصب ولكن لا على وجه يوجب الضمان، وإليه مال القدوري: في قوله: وإذا غصب عقارا فهلك في يده لم يضمنه عندهما، فعلى هذا لا يرد

(11/221)


فغرس فيها أو بنى قيل له: اقلع البناء والغرس وردها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم حق»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السؤال فلا يحتاج إلى الجواب وقيل لا يتحقق فحينئذ يجاب بما ذكره تاج الشريعة.
م: (فغرس فيها أو بنى قيل له: اقلع البناء والغرس وردها) ش: يروى الغرس بفتح الغين وكسرها جميعا، فالأول مصدر أريد به المفعول أي المغروس من الشجر والنخل، والثاني اسم ما يغرس من الشجر والنخل، وهذا الحكم لا خلاف فيه.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم حق» ش: هذا الحديث رواه ستة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الأول: سعيد بن زيد أخرج حديثه أبو داود في الخراج والترمذي في الأحكام، والثاني في إحياء الموات عن عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب عن هشام بن عروة، عن سعيد بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا ميتة فهو له، وليس لعرق ظالم حق ".» قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقد رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا، قلت: منهم مالك في " الموطأ ". قال ابن عبد البر في البعض أرسله وجميع الرواة عن مالك لا يختلفون في ذلك، وأخرجه النسائي عن يحيى بن سعيد عن هشام ابن عروة مرسلا.
الثاني: عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني حدثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا فضل بن سليمان عن موسى بن عقبة، ثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت، ثنا عبادة بن الصامت عن قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وأنه ليس لعرق ظالم حق» .
الثالث: عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه الطبراني أيضا عن مسلم بن خالد الزنجي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر مرفوعا باللفظ الأول.

(11/222)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: عمرو بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه إسحاق بن راهويه والبزار في " مسنديهما " والطبراني في " معجمه " وابن عدي في " الكافي " عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف مزني، حدثني أبي أبان أخبره أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أحيا أرضا مواتا من غير أن يكون فيها حق مسلم فهي له، وليس لعرق ظالم حق» وأعله ابن عدي بكثير بن عبد الله.
الخامس: رجل من الصحابة أخرج حديثه أبو داود عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه مرفوعا قال عروة فلقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث وفي لفظه فقال رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبر ظني أنه أبو سعيد «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض غوين أحدهما غرس فيها نخلا والأرض للآخر فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله، وقال: " ليس لعرق ظالم حق» قال: فلقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث أنه رأى النخل تقطع أصولها بالقوس.
السادس: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الطيالسي في " مسنده "، ثنا زمعة عن الزهري عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البلاد بلاد الله والعباد عباد الله، ومن أحيا من موات الأرض شيئا فهو له وليس لعرق ظالم حق» .
ومن طريق الطيالسي رواه الدارقطني في " سننه " والبزار في " مسنده ". وقال أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قال هشام: عرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره فيستحقها بذلك، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: العرق الظالم كل ما أخذ واحتكر وغرس بغير حق.
وذكر في " النهاية " بتنوين عرق، وظالم صفة لا غير، ورواية الفقهاء على الصفة والإضافة. وفي: " المغرب ": ليس لعرق ظالم حق، وصف العرق بالظلم الذي هو صفة صاحبه مجازا، كأنه غرسها على وجه الاغتصاب ليستوجبها به. وقال تاج الشريعة وروي بالإضافة، أي ليس لعرق الغاصب حق، أي ثبوت ودوام بل يؤمر بقلعه.

(11/223)


ولأن ملك صاحب الأرض باق، فإن الأرض لم تصر مستهلكة والغصب لا يتحقق فيها، ولا بد للمالك من سبب فيؤمر الشاغل بتفريغها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: العرق في الأصل بكسر العين هو عرق الشجر والبدن، ويجمع على عروق.
فإن قلت: هذا حكم غرس الشجر والبناء فكيف حكم الزرع في أرض الغير؟.
قلت: روى أبو عبيدة في " كتاب الأموال " عن شريك عن أبي إسحاق عن عطاء بن رباح عن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته وليس له من الزرع شيء» فقضى على رب الأرض بنفقة الزرع وجعل الزرع لرب الأرض بنفقة الزارع.
قال: والفرق بين الزرع والنخل أن الزرع إنما يمكث في الأرض سنة، إذا انقضت السنة رجعت الأرض إلى ربها فلم يكن لتأخير نزعها وجه.
وذكر في " الواقعات الحسامية " في باب الغصب بعلامة العين رجل غصب أرضا فزرعها حنطة ثم اختصما وهي بذر لم ينبت بعد، فصاحب الأرض بالخيار إن شاء تركها حتى ينبت، ثم يقول له اقلع زرعك وإن شاء أعطاه ما زاد البذر فيه. أما الخيار فلأنه لا طريق لتفريغ الأرض إلا ذلك، فإن اختار إعطاء الضمان كيف يضمن؟ روى هشام عن محمد أنه يضمن ما زاد البذر فيه فتقوم الأرض غير مبذورة، وتقوم مبذورة لكن يبذر ولغيره حق النقض والقلع إذا نبت، ففصل ما بينهما قيمة بذر في أرض غيره.
وقال: فيه أيضا بعلامة الباء رجل ألقى بذره إلى أرضه وجاء رجل وألقى بذره وسقى الأرض فنبت البذران جميعا أو ألقى فيها بذره وقلب الأرض قبل أن ينبت بذر صاحب الأرض فنبت البذر لا جميعا فما نبت يكون للأرض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لأن خلط الجنس بالجنس استهلاك عنده وعليه للأول قيمة بذره، لكن مبذورا وفي أرض تكون ملكه.
وطريق معرفة ذلك ما مر، لكن ثمة يضمن قيمة بذره في أرض نفسه، فإن جاء صاحب الأرض وهو الأول فألقى فيها بذر نفسه مرة ثالثة وقلب الأرض قبل أن ينبت فيها البذران أو لم يقلب وسقى ما ثبت من المبذور كلها فهو له وعليه للغاصب مثل بذره مبذورا في أرض غيره؛ لأنه أتلف ذلك.
م: (ولأن ملك صاحب الأرض باق فإن الأرض لم تصر مستهلكة والغصب لا يتحقق فيها) ش: أي في الأرض م: (ولا بد للمالك من سبب فيؤمر الشاغل بتفريغها) ش: أي فيؤمر شاغل أرض

(11/224)


كما إذا شغل ظرف غيره بطعامه. قال: فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء وقيمة الغرس مقلوعا، ويكونان له؛ لأن فيه نظرا لهما ودفع الضرر عنهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغير بإخلائها عما شغلها م: (كما إذا شغل ظرف غيره بطعامه) ش: بأن غصب ظرفا فطرح فيه متاعه فإنه يؤمر بتفريغه، فكذا هذا.
م: (فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك) ش: أي بقلع الغرس والبناء م: (فللمالك أن يضمن له) ش: أي للغاصب م: (قيمة البناء وقيمة الغرس مقلوعا) ش: أي حال كون كل واحد من الغرس والبناء مقلوعا، وكان الأصوب أن يقول مقلوعين على ما لا يخفى، وليس المراد أن يقلعا ثم يقوما لدلالة الحال عليه، وإنما المراد يقومان وهما قائمان بقيمة ما لو كانا مقلوعين على ما يجيء الآن.
م: (ويكونان له) ش: أي يكون الغرس أو البناء لمالك الأرض م: (لأن فيه نظرا لهما ودفع الضرر عنهما) ش: أي لأن في هذا المذكور نظرا للمالك والغاصب جميعا؛ لأن في منع الغاصب من البناء والغرس إضرارا له؛ لأنه عين ماله فلا يجوز منعه منها، وفي قلعه وتسليمه ضرر على المالك وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وفيما ذكرنا نظر ورعاية للجانبين.
وفي " الذخيرة " و " المحيط ": لو غصب ساجة وبنى عليها لا ينقطع حق المالك، ثم قال: وكان الإمام أبو علي النسفي يحكي عن " الكرخي " أنه ذكر في بعض كتبه متصلا فقال: إن كان قيمة الساجة أقل من قيمة البناء ليس للمالك أن يأخذها، وإن كانت قيمة الساجة أكثر فله أن يأخذها.
قال مشايخنا: هذا قريب من مسائل حفظت عن محمد. قال: ومن كان في يده لؤلؤة فسقطت فابتلعتها دجاجة إنسان ينظر إلى قيمة الدجاجة واللؤلؤة، فإن كانت قيمة الدجاجة أقل يخير صاحب اللؤلؤة بين أخذ الدجاجة بقيمتها وبين ترك اللؤلؤة وأخذ قيمتها.
وكذا لو أودع رجلا فصيلا فكبر الفصيل حتى لم يكن إخراجه من البيت إلا بنقض الجدار ينظر إلى أكثرهما قيمة ويخير صاحب الأكثر بدفع قيمة الآخر إلى صاحبه ويتملك مال صاحبه. وكذا لو كان للمستأجر حب في الدار المستأجرة لا يمكن إخراجها إلا بهدم شيء من الحائط ينظر أيهما أكثر قيمة.
وكذا لو أدخل رجل أترجة في قارورة غيره فكبرت الأترجة فلا خيار لأحد وضمن الفاعل لصاحب الأترجة قيمتها، وتكون الأترجة والقارورة بالضمان، قيل: يمكن أن يجاب عنها بأن لا تعدي فيها بخلاف مسألة الغصب؛ لأنه متعد فلا يراعى حقه. وفي " خلاصة الفتاوى "

(11/225)


وقوله: قيمته مقلوعا، معناه: قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه؛ لأن حقه فيه إذ لا قرار له فيه فيقوم الأرض بدون الشجر والبناء ويقوم وبها شجر أو بناء، لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه فيضمن فضل ما بينهما.
قال: ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر، أو سويقا فلته بسمن فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ومثل السويق وسلمه للغاصب، وإن شاء أخذهما وغرم ما زاد الصبغ والسمن فيهما وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثوب: لصاحبه أن يمسكه ويأمر الغاصب بقلع الصبغ بالقدر الممكن اعتبارا بفصل الساحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رجل بنى حائطا في كرم رجل بغير أمر صاحب الكرم فإن كان للتراب قيمة فالحائط للباني وعليه قيمة التراب.
فإن غصب أرضا وبنى حائطا فجاء صاحبها وأخذ الأرض فأراد الغاصب النقض إن بنى الحائط من تراب هذه الأرض ليس له النقض وتكون لصاحب الأرض، وإن بنى الحائط من تراب غير هذا الأرض فله النقض.
م: (وقوله: قيمته مقلوعا) ش: أي قول القدوري يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعا م: (معناه: قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه؛ لأن حقه فيه) ش: أي لأن حق صاحب الغرس في الغرس م: (إذ لا قرار له) ش: أي للغرس أو البناء، يعني لا نهاية لهما بخلاف الزرع م: (فيه فيقوم الأرض بدون الشجر والبناء، ويقوم وبها شجر أو بناء لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه) ش: قوله لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه صفة لقوله شجر أو بناء.
م: (فيضمن فضل ما بينهما) ش: أي فيضمن صاحب الأرض فضل ما بين القيمتين مثلا إذا كانت قيمة الأرض بدون الشجر عشرة دنانير ومع الشجر الذي يستحق قلعه خمسة عشر دينارا فيضمن صاحب الأرض خمسة دنانير للغاصب فتسلم الأرض والشجر لصاحب الأرض وكذا في البناء.

[غصب ثوبا فصبغه أحمر أو سويقا فلته بسمن]
م: (قال: ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر، أو سويقا) ش: أي قال القدوري، والسويق بالسين يعمل من حنطة مقلية. وقد قيل بالصاد وهي لغة بني العبير م: (فلته بسمن) ش: أي خلطه من باب طلب يطلب م: (فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ومثل السويق وسلمه للغاصب، وإن شاء أخذهما) ش: أي أخذ الثوب والسويق م: (وغرم ما زاد الصبغ والسمن فيهما) ش: أي الثوب والسويق، وبه قال مالك في الصبغ.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثوب: لصاحبه أن يمسكه ويأمر الغاصب بقلع الصبغ بالقدر الممكن اعتبارا بفصل الساحة) ش: بالحاء المهملة، يعني إن فصل الساحة يؤمر بالقلع إذا لم

(11/226)


بنى فيها؛ لأن التمييز ممكن، بخلاف السمن في السويق؛ لأن التمييز متعذر. ولنا: ما بينا أن فيه رعاية الجانبين، والخيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تتضرر الأرض به فكذلك هاهنا؛ لأن في كل منهما شغل ملك الغير بملكه م: (بنى فيها؛ لأن التمييز ممكن) ش: يعني بالغسل والعسر، وكذا في المخلط إذا كان التمييز ممكنا يجب التمييز والرد، وإن كان غير ممكن يجب رد مثله.
وفي " الوجيز " وشرحه لو كان قيمة الصبغ بقدر قيمة الثوب فهما شريكان يبيعان ويقسمان الثمن بينهما. وفي " الحلية " إذا طالبه صاحب الثوب بقلع صبغه وإذا امتنع الغاصب من ذلك ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر وهو قول أبي العباس، والثاني: يجبر وهو قول ابن خيران وأبي إسحاق.
ولو طلب الغاصب بيع الثوب وامتنع صاحبه ففيه وجهان: يجبر ليصل الغاصب إلى حقه، ولا يجبر. وفي الخلط إن كان بمثله وطلب المالك أن يدفع إليه حقه وامتنع الغاصب: في المنصوص الخيار للغاصب، وفي وجه يلزمه دفعه إلى المالك.
ولو خلطه بأجود وبذله الغاصب صاعا مثله ففيه وجهان: في المنصوص الخيار للغاصب. والثاني: أنه يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما، ولو خلطه بما دونه أجبر الغاصب على دفع ملك المالك. وعند مالك أخذه بالمثل من غيره.
ومن أصحابنا من قال يباع الجميع ويقسم الثمن على قدر القيمتين. ولو خلط من غير جنسه لزمه صاع من مثله. ومن أصحابنا من قال: يباع الجميع ويقسم الثمن على قدر قيمتهما، وبه قال مالك في الصورتين. وعن أحمد مثله.
وفي " مغني الحنابلة " لو خلطه بما لا قيمة له كالذائب بالماء فإن أمكن تخليصه خلصه ورد نقصه، وإن لم يمكن تخليصه، أو كان ذلك يفسد رجع عليه بمثله؛ لأنه صار مستهلكا وإن لم يفسد رده ورد ما نقصه. وإن احتيج في تخليصه إلى غرامة لزم الغاصب؛ لأنه بسببه، ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو مما ذكرنا.
م: (بخلاف السمن في السويق؛ لأن التمييز متعذر) ش: لأن السمن يدخل في أجزاء السويق. فلا يمكن إخراجه حتى لو كان يمكن فالحكم حينئذ يكون كما في الثوب.
م: (ولنا ما بينا) ش: يعني في مسألة الساجة بالجيم بقوله وجه آخر لنا م: (أن فيه) ش: أي في ثوب الخيار للمالك م: (رعاية الجانبين) ش: أي جانب المالك وجانب الغاصب م: (والخيرة) ش: أي الخيار، وهذا جواب عما يقال لم لا يكون الخيار لصاحب الصبغ إن شاء سلم الثوب

(11/227)


لصاحب الثوب لكونه صاحب الأصل. بخلاف الساحة بنى فيها؛ لأن النقض له بعد النقض، أما الصبغ فيتلاشى. وبخلاف ما إذا انصبغ بهبوب الريح؛ لأنه لا جناية لصاحب الصبغ ليضمن الثوب، فيتملك صاحب الأصل الصبغ. قال أبو عصمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصل المسألة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى مالكه وضمنه قيمة صبغه، وإن شاء ضمن قيمة الثوب أبيض فقال: الخيار م: (لصاحب الثوب لكونه صاحب الأصل) ش: لأن الثوب أصل والصبغ صفة، فيكون كالبائع له، والسويق بمنزلة الثوب، والسمن بمنزلة الصبغ.
م: (بخلاف الساحة) ش: بالحاء المهملة أيضا م: (بنى فيها؛ لأن النقض له بعد النقض) ش: أي الغاصب فلا يكون ماله ضائعا والنقض الأول بالنون المضمومة بمنزلة المنقوض، وهو كالحنث والأجر، والنقض الثاني بالفتح مصدر نقضت الشيء إذا فككت تركيبه م: (أما الصبغ فيتلاشى) ش: بالغسل ولم يحصل للغاصب شيء، فكذا أثبتنا الخيار له م: (وبخلاف ما إذا انصبغ) ش: الثوب م: (بهبوب الريح) ش: بأن هبت الريح بثوب إنسان وألقته في صبغ غيره حتى انصبغ، فإنه لا خيار له.
م: (لأنه لا جناية لصاحب الصبغ ليضمن الثوب) ش: أي يضمن صاحب الصبغ، وهو على صيغة المجهول بالتشديد، والثوب منصوب على أنه مفعول ثان م: (فيتملك صاحب الأصل الصبغ) ش: فيتملك صاحب الأصل، وهو الثوب بالرفع جواب شرط محذوف، أي إذا لم يكن صاحب الصبغ جانيا فيتملك صاحب الأصل وهو الثوب الصبغ بدفع قيمته إلى صاحب الصبغ، كذا ذكره في " الكافي " حيث قال: وبخلاف ما إذا انصبغ بهبوب الريح فإنه لا يثبت الخيار لرب الثوب، بل يؤمر به بدفع قيمة الصبغ؛ لأنه لا جناية من صاحب الصبغ ليضمن الثوب فيتملك صاحب الأصل الصبغ.
وفي " الإيضاح " لو انصبغ بغير فعل أحد فهو لرب الثوب ولا شيء عليه من قيمة الصبغ. وفي قول أبي حنيفة وإن كان عصفرا أو زعفرانا فرب الثوب بالخيار إن شاء أعطاه ما زاد الصبغ فيه، وإن شاء امتنع فيباع الثوب فيصرف بقيمته ثوبا أبيض وصاحب الصبغ بقيمة الصبغ في الثوب؛ لأنه لم يوجد من أحد فعل هو سبب للضمان، فانتفى الضمان، وصارا شريكين وبه قالت الثلاثة.
م: (قال أبو عصمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هو سعيد بن معاذ المروزي تلميذ إبراهيم بن يوسف، وهو تلميذ أبي يوسف القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في أصل المسألة) ش: أي في قوله ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر، واحترز بهذا القيد من أن يتوهم أن هذا الحكم الذي ذكره أبو عصمة

(11/228)


وإن شاء رب الثوب باعه ويضرب بقيمته أبيض وصاحب الصبغ بما زاد الصبغ فيه؛ لأن له أن لا يتملك الصبغ بالقيمة، وعند امتناعه تعين رعاية الجانبين في البيع، ويتأتى هذا فيما إذا انصبغ الثوب بنفسه وقد ظهر بما ذكرنا الوجه في السويق، غير أن السويق من ذوات الأمثال فيضمن مثله والثوب من ذوات القيم فيضمن قيمته. وقال في الأصل: يضمن قيمة السويق؛ لأن السويق يتفاوت بالقلي فلم يبق مثليا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متصل بما يليه من مسألة الانصباغ، وإن كانت مسألة الانصباغ كذلك، لكن وقع من أبي عصمة في أصل المسألة فلذلك قيد به تصحيحا للنقل م: (وإن شاء رب الثوب باعه ويضرب بقيمته أبيض وصاحب الصبغ) ش: أي فيضرب صاحب الصبغ.
م: (بما زاد الصبغ فيه؛ لأن له) ش: أي لصاحب الثوب م: (أن لا يتملك الصبغ بالقيمة، وعند امتناعه) ش: أي عند امتناع صاحب الثوب عن تملك الصبغ بالقيمة م: (تعين رعاية الجانبين في البيع) ش: لأنه طريق اتصال حق كل واحد منهما إلى صاحبه، معنى م: (ويتأتى هذا) ش: يعني يتيسر هذا الاختيار للمالك يعني قول أبي عصمة إن شاء رب الثوب. إلى آخره. م: (فيما إذا انصبغ الثوب بنفسه) ش: من غير أن يكون لصاحب الصبغ فعل فيه؛ لأنه إذا كان كذلك لا يكون له ولاية تضمين صاحب الصبغ بدون جناية منه، فعند امتناعه عن تملك الثوب وتعذر تضمنه جبرا تعين البيع طريقا للوصول إلى حقه إذا لم يرض صاحب الثوب بتملك الصبغ بالقيمة.
فأما في الغصب عند امتناع رب الثوب عن تملك الصبغ يتعين له تضمين الغاصب بالثوب الأبيض، والتحقيق أن ما قاله أبو عصمة لا يتأتى في أصل المسألة؛ لأن ثمة لصاحب الثوب أن يتملك الصبغ بالقيمة أو يضمن الغاصب، وإذا كان له ذلك لا يتعين البيع عند امتناعه عن التملك بالقيمة، وفيما إذا انصبغ ليس له أن يضمن صاحب الصبغ لما أنه غير جائز فيه فيتعين البيع عند امتناعه من التملك م: (وقد ظهر بما ذكرنا) ش: في مسألة الصبغ والانصباغ. م: (الوجه) ش: يعني جواب المسألة وتعليلها م: (في السويق) ش: من حيث الخلط والاختلاط بغير فصل.
والحاصل أن ما قلنا في غصب الثوب وصبغه فهو الوجه في غصب السويق ولته بالسمن، ويجيء قول أبي عصمة فيه، إلا أن بين السويق والثوب تفاوتا، وهو أن الضمان في غصب الثوب قيمته، وفي السويق مثله لكونه مثليا، أشار إليه بقوله: م: (غير أن السويق من ذوات الأمثال فيضمن مثله، والثوب من ذوات القيم فيضمن قيمته وقال في الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (يضمن قيمة السويق؛ لأن السويق يتفاوت بالقلي فلم يبق مثليا) ش: وقال الحاكم في " كافيه ": وإذا

(11/229)


وقيل: المراد منه المثل سماه به لقيامه مقامه، والصفرة كالحمرة. ولو صبغه أسود فهو نقصان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما زيادة. وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان،.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غصب سويقا فلته بسمن فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمة سويقه، وإن شاء أخذ سويقه وضمن للغاصب ما زاد فيه من السمن.
وقال الشيخ علاء الدين الأسبيجابي: وفيه إشكال، وهو أنه قال في الكتاب ضمنه قيمة السويق وأنه مثلي ولم يقل مثله، وقد اختلف أصحابنا في ذلك، والصحيح ما ذكره في الكتاب؛ لأن السويق أجزاء حنطة مقلية، والحنطة بالقلي تخرج من أن تكون من ذوات الأمثال؛ لأن القلي يسد طريق المماثلة فلا يكون السويق مثليا.
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في شرح " الكافي " أن السويق من ذوات القيم وإن كان مكيلا، وقال كل مكيل لا يكون مثليا وكذلك كل موزون لا يكون مثليا، إنما المثلي من المكيلات والموزونات ما هي متفاوتة فليس بمثلي كالعدديات، فإن للمتقاربة أمثال. وأما المتفاوتة فلا، وكأن المكيلات والموزونات والعديات سواء. وكذا يجب أن تكون الزرعيات على هذا، وبين السويق والسويق قد يكون تفاوت فاحش بسبب القلي فلا تكون أمثالا متساوية.
م: (وقيل: المراد منه) ش: أي من القيمة، ذكر الضمير بتأويل ما يقوم م: (المثل سماه به) ش: أي سمى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - المثل القيمة في قول يضمن قيمة السويق، وتذكير الضمير في به على التأويل الذي ذكرنا م: (لقيامه مقامه) ش: أي لقيام المثل مقام المغصوب م: (والصفرة كالحمرة) ش: يعني فيما إذا صبغ المغصوب بالصفرة فحكمه حكم ما إذا صبغه بالحمرة في الوجوه كلها مع الخلاف.
م: (ولو صبغه أسود) ش: أي ولو صبغ الثوب المغصوب صبغا أسود م: (فهو نقصان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإذا كان نقصانا فلرب الثوب أن يأخذه ولا يعطيه شيئا عنده م: (وعندهما زيادة) ش: كالحمرة والصفرة فيجزئ فيه ما يجزئ فيها.
م: (وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان) ش: فإن أبا حنيفة كان في زمن بني أمية وكانوا يمتنعون عن لبس السواد، فأجاب على ما شاهد، وهما أجابا على ما شاهدا من عادة بني العباس بلبس السواد، وكان أبو يوسف يقول أولا بقول أبي حنيفة فلما قلد القضاء وأمر بلبس السواد احتاج إلى التزام الزيادة بالصبغ وقال السواد زيادة.
وحكي أن هارون الرشيد شاور مع أبي يوسف في لون الثوب للبس فقال أبو يوسف أحسن الألوان ما يكتب به كتاب الله تعالى، فاستحسن هارون منه ذلك، واختار لون السواد وتبعه من بعده.

(11/230)


وقيل: إن كان ثوبا ينقصه السواد فهو نقصان، وإن كان ثوبا يزيد فيه السواد فهو، كالحمرة وقد عرف في غير هذا الموضع ولو كان ثوبا ينقصه الحمرة بأن كانت قيمته ثلاثين درهما فتراجعت بالصبغ إلى عشرين، فعن محمد: أنه ينظر إلى ثوب يزيد فيه الحمرة فإن، كانت الزيادة خمسة يأخذ ثوبه وخمسة دراهم لأن إحدى الخمستين جبرت بالصبغ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل: إن كان ثوبا ينقصه السواد فهو نقصان، وإن كان ثوبا يزيد فيه السواد فهو كالحمرة) ش: الحاصل من هذا لأنه لا خلاف في الحقيقة في هذه المسألة، وإنما يرجع إلى العادة في كل زمان، فإن كان السواد زيادة غرمه المالك وإلا لم يغرمه، كذا ذكره القدوري في شرحه لمختصر " الكرخي " م: (وقد عرف في غير هذا الموضع) ش: أي في شرح مختصر " الكرخي " وغيره من الكتب المبسوطة ".
م: (ولو كان ثوبا) ش: أي ولو كان المغصوب المصبوغ ثوبا م: (ينقصه الحمرة بأن كانت قيمته ثلاثين درهما فتراجعت بالصبغ إلى عشرين، فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه ينظر إلى ثوب يزيد فيه الحمرة) ش: ولا تنقص قيمته به م: (فإن كانت الزيادة خمسة يأخذ ثوبه وخمسة دراهم) ش: لأن صاحب الثوب استوجب نقصان الثوب عشرة واستوجب الصباغ على قيمة الصبغ خمسة، فالخمسة بالخمسة قصاص، ويرجع عليه ما بقي من النقصان وهي خمسة، وهو معنى قوله م: (لأن إحدى الخمستين جبرت بالصبغ) ش: هذه رواية هشام عن محمد، كذا في " العيون ".
وقال الولوالجي في فتاواه: ول غصب العصفر صاحب الثوب وصبغ به ضمن مثل ما أخذ؛ لأنه استهلكه، فإن لم يقدر عليه فهو على الاختلاف الذي عرف فيما ينقطع عن أيدي الناس وليس لصاحب العصفر أن يحبس الثوب؛ لأن الصبغ فيه كالهالك، والسواد هنا كالعصفر عند أبي حنفية - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أيضا؛ لأن الضمان يجب بإتلاف الصبغ.
ولو وقع الثوب بنفسه في الصبغ فانصبغ، فإن كان أسودا يأخذ رب الثوب ولا شيء عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كان عصفرا أو زعفرانا فرب الثوب بالخيار إن شاء أعطاه بما زاد الصبغ فيه، وإن شاء فيه باع الثوب ويضرب فيه صاحب الثوب بقيمته وصاحب الصبغ بقيمة الصبغ من الثوب؛ لأن المالك لم يرض بالتزام ضمان الصبغ، ولا يضمن صاحب الصبغ هاهنا؛ لأنه لا صبغ له بخلاف ما قبله.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله السواد والعصفر سواء، وكذلك السمن يختلط بالسويق والسويق بمنزلة الثوب؛ لأنه أصل والسمن كالصبغ. وأما العسل والسويق إذا اختلطا فكلاهما أصل.
ولو غصب ثوبا من رجل وصبغه بعصفر الآخر ثم ذهب الفاعل فلم يعرف فهو كما لو

(11/231)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اختلط بغير فعل لأحد؛ لأنه تعذر اعتبار فعله للضمان فهو كالعدم. ولو كان صاحب الثوب غصب العصفر ثم باعه فلا سبيل لصاحب العصفر على المشتري؛ لأن الغاصب استهلكه.
ولو أن صاحب العصفر غصب الثوب وصبغه ثم باعه وغاب وحضر صاحب الثوب، قضي له بالثوب؛ لأنه ملكه ويستوف منه بكفيل؛ لأن للغاصب فيه حقا وهو الصبغ. ولو غصب ثوبا وعصفرا لرجل واحد وصبغه كان للمالك أن يأخذه مصبوغا وبرئ الغاصب من الضمان؛ لأن مال الإنسان لا يستهلك بماله بالخلط، انتهى.
وقال في " شرح الطحاوي ": ولو اغتصب من رجل ثوبا ومن الآخر صبغا فصبغه ضمن لصاحب الصبغ صبغا مثل صبغه؛ لأنه أتلف صبغه حين صبغ به الثوب فصار بعد ذلك كأنه صبغ بصبغ نفسه، وقد مر بيان ذلك، ومما يتصل بالمسائل فتح رأس تنور حتى يرد فعليه قيمة الحطب مقدار ما يسخن به، وممكن أن يقال ينظر بكم يستأجر التنور المسجور للانتفاع فيضمن ذلك القدر أو ينظر إلى أجرته مسجورا وغير مسجور فيضمن تفاوت ما بينهما، والله أعلم بالصواب.

(11/232)


فصل ومن غصب عينا فغيبها فضمنه المالك قيمتها ملكها وهذا عندنا وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يملكها لأن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا للملك كما في المدبر ولنا: أنه ملك البدل بكماله والمبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك فيملكه دفعا للضرر عنه بخلاف المدبر؛ لأنه غير قابل للنقل لحق المدبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل مسائل متفرقة تتعلق بالغصب]
[من غصب عينا فغيبها فضمنه المالك قيمتها]
م: (فصل) ش: أي هذا الفصل محتوى على مسائل متفرقة تتعلق بالغصب، فلذلك أخره.
م: (ومن غصب عينا فغيبها) ش: بالغين المعجمة م: (فضمنه المالك قيمتها ملكها) ش: أي ملك الغاصب تلك العين، وبه قال مالك م: (وهذا عندنا) ش: أي تملك الغاصب العين المغصوبة بعد الضمان مذهبنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يملكها) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: حتى لو ظهر من يستردها ويرد القيمة. وقال البرغوي: فائدة الخلاف في ملك اكتسب ونفوذ البيع وجوب الثمن على الغاصب؛ لأنه ملكه عندنا م: (لأن الغصب عدوان محض) ش: أي حرام خالص ما فيه وجه إباحة م: (فلا يصلح سببا للملك) ش: لأن الملك مشروع، وغير المشروع لا يكون مفضيا إلى المشروع، إذ أدنى درجات السبب أن يكون إباحة فلا يملكه م: (كما في المدبر) ش: بأن غصبه وغيبه وضمن قيمته، فإنما يملكه بالاتفاق.
م: (ولنا: أنه) ش: أي المالك م: (ملك البدل) ش: وهو القيمة م: (بكماله) ش: أي يدا ورقبة وكل من ملك بدل شيء خرج المبدل عن ملكه في مقابلته ودخل في ملك صاحب البدل دفعا للضرر عن مالك البدل، لكن يشترط أن يكون المبدل قابلا للنقل من ملك إلى ملك، أشار إليه بقوله: م: (والمبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك) ش: احترز عن المبدل فإنه غير قابل للنقل على ما يجيء الآن م: (فيملكه) ش: أي إذا كان كذلك يملك الغاصب المغصوب أداء البدل م: (دفعا للضرر عنه) ش: أي عن الغاصب وتحقيقا للعدل كما في سائر المبادلات.
م: (بخلاف المدبر؛ لأنه غير قابل للنقل لحق المدبر) ش: وكلامه يشير إلى أن سبب الملك هو الغصب، وإلا لم يكن تعليل [ ... ] الثلاثة مالك مناسبا وهو مذهب القاضي أبي زيد، فإنه قال في " الأسرار ": قال علماؤنا: الغصب يفيد الملك في المغصوب عند القضاء بالضمان أو التراضي.
وقال شمس الأئمة في " المبسوط ": وهذا وهم، فإن الملك لا يثبت عند أداء الضمان من

(11/233)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقت الغصب للغاصب حقيقة، وهذا لا يسلم له الولد. ولو كان الغصب هو السبب للملك لكان إذا تم له الملك بذلك السبب يملك الزوائد المتصلة والمنفصلة ومع هذا في هذه العبارة بعض الشبهة، فالغصب عدوان محض، والملك حكم مشروع مرغوب فيه فيكون سببه مشروعا مرغوبا فيه، ولا يصلح أن يجعل العدوان المحض سببا له، فإنه ترغيب للناس فيه لتحصيل ما هو مرغوب لهم به. ولا يجوز إضافة مثله إلى المشروع.
قيل: فيه نظر؛ لأنه لا يراد بكون الغصب سببا للملك عند أداء الضمان أنه يوجبه مطلقا بل بطريق الاستناد، والثابت به ثابت من وجه دون وجه، فلا يظهر أثره في ثبوت الزيادة المنقطعة.
ولا نسلم أن يقال: الغصب موجب لرد العين وللقيمة عند تعذر رد العين، ثم يثبت الملك للغاصب شرطا للقضاء بالقيمة لا مقصودا بالغصب، ولهذا لا يملك الولد فإنه بعد الانفصال لا يبقى تبعا وما يثبت شرطا يثبت تبعا، والكسب ليس كذلك؛ لأنه بدل المنفعة فيكون تبعا محضا فيملكه الغاصب.
وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": فإذا أبق العبد المغصوب من يد الغاصب فالملك بالخيار إن شاء انتظر إلى ظهوره عليه فيأخذه، وإن شاء لم ينتظر وضمن الغاصب قيمته. فلو ظهر العبد بعد ذلك فإنه ينظر، إن أخذ صاحبه القيمة التي سماها ورضي بها إما بتصادقهما عليها، أو بقيام البينة، أو بنكول الغاصب عن اليمين، فلا سبيل له على العبد عندنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له أن يأخذ عبدا بعينه.
ولو أخذ القيمة بقول الغاصب ويمينه على ما يدعيه المالك من الزيادة فإن المالك بالخيار إن شاء حبس القيمة ورضي بها وسلم العبد إلى الغاصب، وإن شاء رد القيمة التي أخذها ويسترد العبد وللغاصب أن يحبس العبد حتى يأخذ القيمة. ولو مات العبد عند الغاصب قبل رد القيمة عليه فلا يرد القيمة ولكن يأخذ من الغاصب فضل القيمة إن كان في قيمة العبد فضل على ما أخذ، وإن لم يكن فيه فضل فلا شيء له سوى القيمة المأخوذة.
وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: إذا ظهر العبد وقيمته مثل ما قال المالك فلا خيار للمالك ولا سبيل له على العبد، في ظاهر الرواية له الخيار من غير تفصيل، ولو كان المغصوب مدبرا وأبق عند الغاصب فإنه يضمن القيمة؛ لأن المدبر يضمن بالغصب، ولكنه لا يصير ملكا للغاصب، حتى إنه لو ظهر يرده على مولاه ويسترد منه القيمة، وليس للغاصب حبسه لأجل القيمة؛ لأنه لا يجوز بيعه ولا يجوز حبسه بالدين.

(11/234)


نعم قد يفسخ التدبير بالقضاء لكن البيع بعده يصادف القن. قال: والقول في القيمة قول الغاصب مع يمينه لأن المالك يدعي الزيادة وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه إلا أن يقيم المالك البينة بأكثر من ذلك لأنه أثبته بالحجة الملزمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن كان المغصوب أم ولد فلا ضمان على الغاصب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن في أصله أن أم الولد ليست بمال، وعندهما هي كالمدبر. وفرق أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بينهما في الغصب وساوى بينهما في الشراء.
ولو قبضهما المشتري بتسليم البائع وهلك عند المشتري فلا ضمان عليه فيهما جميعا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما يضمن القيمة فيهما جميعا. ولو جني على كل واحد منهما وجب الأرش فيهما جميعا على الجاني بالإجماع، انتهى.
م: (نعم قد يفسخ التدبير بالقضاء) ش: هذا جواب عما يقال لا نسلم أن المدبر لا يقبل النقل، فإن مولاه لو باعه وحكم القاضي بجواز بيعه جاز البيع وفسخ التدبير. وتقرير الجواب القول بالوجوب يعني هو كذلك لكن في ضمن قضاء القاضي في الفصل المشار إليه م: (لكن البيع بعده يصادف القن) ش: لا المدبر فيجوز بيعه القن بهذا الطريق، وأما ما نحن فيه فلم ينفسخ التدبير والكلام فيه.
م: (قال: والقول في القيمة قول الغاصب مع يمينه) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا لا يعلم فيه خلاف م: (لأن المالك يدعي الزيادة وهو ينكر) ش: أي الغاصب ينكر تلك الزيادة.
م: (والقول قول المنكر مع يمينه) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على من أنكر» م: (إلا أن يقيم المالك البينة بأكثر من ذلك) ش: أي من الذي يدعيه الغاصب م: (لأنه أثبته) ش: أي لأن المالك أثبت ما ادعاه من الزيادة م: (بالحجة الملزمة) ش: وهي البينة، فإن عجز عن إقامة البينة وطلب يمين الغاصب وللغاصب بينة تشهد بقيمة المغصوب لم تقبل بينته بل يحلف على دعواه؛ لأن بينته تنفي الزيادة، والبينة على النفي لا تقبل.
وقال بعض المشايخ: ينبغي أن يقبل لإسقاط اليمين كالمودع إذا ادعى رد الوديعة فالقول قوله. ولو أقام البينة على ذلك قبلت، وكان القاضي أبو علي النسفي يقول: هذه المسألة عدت مشكلة. ومن المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من فرق بين هذا، ومسألة الوديعة وهو الصحيح؛ لأن المودع ليس عليه إلا باليمين، وبإقامة البينة أسقطها وارتفعت الخصومة. وأما الغاصب فعليه هاهنا اليمين والقيمة، وبإقامة البينة لم يسقط اليمين، فلا يكون في مانع المودع.
وفي " المبسوط " و " الذخيرة " في دعوى الغصب ذكر الجنس والصيغة ليس بشرط كما في

(11/235)


قال: فإن ظهرت العين وقيمتها أكثر مما ضمن وقد ضمنها بقول المالك أو ببينة أقامها أو بنكول الغاصب عن اليمن فلا خيار للمالك وهو للغاصب؛ لأنه تم له الملك بسبب اتصل به رضا المالك حيث ادعى هذا المقدار قال: وإن كان ضمنه بقول الغاصب مع يمينه فهو بالخيار إن شاء أمضى الضمان، وإن شاء أخذ العين ورد العوض؛ لأنه لم يتم رضاه بهذا المقدار حيث يدعي الزيادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سائر الدعاوى؛ لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر في الأصل أقام بينة على رجل أنه غصب جارية له يحبس المدعى عليه حتى يجيء بها ويردها. قال الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه المسألة مما يحفظ؛ لأنه قال: أقام بينة، ولم يذكر جنسها وصفتها وقيمتها. قال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: تأويل المسألة أنه ذكر الجنس والصفة والقيمة.
وقال أبو بكر الأعمش: تأويلها أن الشهود شهدوا على إقرار الغاصب بذلك، فأما الشهادة على فعل الغاصب فلا تقبل مع جهالة المغصوب، لكن القضاء بالمجهول غير ممكن ولكن الأصح أن هذه الدعوى والشهادة مقبولة بدون ذكر الجنس والصفة للضرورة؛ لأن الغاصب يمتنع عن إحضار المغصوب عادة وحين يغصب إنما يأتي من الشهود معاينة فعل الغصب دون العلم بأوصاف المغصوب فسقط اعتبار علمهم للتعذر فصار ثبوت ذلك الغصب بالبينة كثبوته بإقراره فيحبس.
م: (قال: فإن ظهرت العين) ش: أي قال القدوري: فإن ظهرت العين المغصوبة م: (وقيمتها أكثر مما ضمن) ش: أي والحال أن قيمتها أكثر مما ضمن الغاصب م: (وقد ضمنها بقول المالك) ش: أي والحال أنه قد ضمن الغاصب العين المغصوبة بقول صاحبها م: (أو ببينة أقامها) ش: أي وضمنها بينة أقامها المالك.
م: (أو بنكول الغاصب عن اليمن) ش: بأن عجز المالك عن إقامة البينة على ما ادعاه فطلب يمين الغاصب فنكل عنها وحكم عليه بما ادعاه المالك م: (فلا خيار للمالك) ش: في هذه الصور كلها وبه قال مالك. وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحمد له الخيار لعدم زوال ملكه عندهما عنه م: (وهو) ش: أي العين المغصوبة ذكر الضمير على تأويل المغصوب م: (للغاصب؛ لأنه تم له الملك بسبب اتصل به رضا المالك حيث ادعى هذا المقدار) ش: ولم يدع الزيادة.
م: (قال: وإن كان ضمنه) ش: أي قال القدوري، أي وإن كان المالك ضمن الغاصب م: (بقول الغاصب مع يمينه فهو بالخيار إن شاء أمضى الضمان، وإن شاء أخذ العين ورد العوض؛ لأنه لم يتم رضاه بهذا المقدار حيث يدعي الزيادة) ش: أراد أن رضاه بهذه المبادلة لم يتم، وإنما أخذه بما زعمه الغاصب ضرورة عدم البينة، وإن الشيء خير من لا شيء وعدم تمام الرضا يمنع لزوم

(11/236)


وأخذه دونها لعدم الحجة، ولو ظهرت العين وقيمتها مثل ما ضمنه أو دونه في هذا الفصل الأخير فكذلك الجواب في ظاهر الرواية وهو الأصح خلافا لما قاله الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا خيار له؛ لأنه لم يتم رضاه حيث لم يعط له ما يدعيه والخيار لفوات الرضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المبادلة، كما إذا باع مكرها وسلم مكرها م: (وأخذه دونها لعدم الحجة) ش: هذا جواب عما يقال إن أخذه القيمة.
وإن كانت ناقصة يدل على تمام الرضا فكانت المسألة كالأول، فأجاب بقوله وأخذه دونها، أي أخذ المالك ما دون الزيادة لا يدل على تمام الرضا؛ لأنه إنما أخذ ذلك للضرورة وهي عدم الحجة، فلا يدل على رضاه، بخلاف المسألة المتقدمة؛ لأن دعواه ملك القيمة كانت باختياره.
م: (ولو ظهرت العين وقيمتها) ش: أي والحال أن قيمتها م: (مثل ما ضمنه أو دونه في هذا الفصل الأخير) ش: يعني فيما ضمنه الغاصب بقوله مع يمينه م: (فكذلك الجواب) ش: يعني فهو بالخيار إن شاء أمضى الضمان، وإن شاء أخذ العين ورد العوض، م: (في ظاهر الرواية وهو الأصح) ش: لأنه هو المذكور في الأصل مطلقا، وكذلك الطحاوي أطلق الرواية في " مختصره ".
م: (خلافا لما قال " الكرخي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا خيار له) ش: لأنه توفر عليه بدل ملكه بكماله م: (لأنه لم يتم رضاه) ش: دليل قوله وهو الأصح؛ لا دليل قول " الكرخي " م: (حيث لم يعط له) ش: أي المالك، وهو على صيغة المجهول م: (ما يدعيه) ش: من القيمة م: (والخيار لفوات الرضا) ش: أي ثبوت الخيار له لفوات رضاه بما أعطي من القيمة، وقد ذهب القدوري في شرحه لمختصر " الكرخي " إلى ما ذهب إليه " الكرخي " حيث قال: فأما إذا قضى عليه بقوله ثم ظهرت العين وقيمتها مثل ما قال الغاصب أو أقل فلا سبيل لصاحبها عليها؛ لأنه استوفى البدل ولم يظهر فيه زيادة.
وأما إذا كانت القيمة أكثر مما قال الغاصب فالمغصوب منه بالخيار، وذلك؛ لأنه لم يستوف بدل العين الذي ادعاه ولم يرض بزوال ملكه عنها بما دون ذلك من البدل، فكان له الخيار.
ثم قال القدوري: وكان أبو بكر الرازي يقول إن هذا محمول على أن هذه الزيادة لا تجوز أن تكون مما يحدث مثلها فيما بين التضمين والظهور، فأما إذا كانت مما يجوز أن يحدث فادعى الغاصب أنها حدثت وادعى المغصوب منه إن كانت، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن التمليك قد صح، ويجوز أن يكون الأمر على ما قال الغاصب فلا يفسخ التمليك بالشك.
ثم قال القدوري: ومن أصحابنا من قال لا رواية في العين إذا ظهرت وقيمتها مثل ما قال

(11/237)


قال: ومن غصب عبدا فباعه فضمنه المالك قيمته فقد جاز بيعه، وإن أعتقه ثم ضمن القيمة لم يجز عتقه؛ لأن ملكه الثابت فيه ناقص لثبوته مستندا أو ضرورة، ولهذا يظهر في حق الأكساب دون الأولاد والناقص يكفي لنفوذ البيع دون العتق كملك المكاتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغاصب هل يثبت للمالك الخيار أم لا؟ وهو موضع محتمل، وقد قال محمد في الغصب ما يدل على أنه يثبت له الخيار؛ لأنه قال في تعليل مسألة القيمة إذا كانت ناقصة، لأن المالك لم يستوف ما ادعى من القيمة، وهذا يدل على أن القيمة إن كانت تامة فالخيار ثابت له، لأنه لم يستوف ما قال من القيمة. وذكر أبو يوسف في الإيلاء ما يدل على أنه لا خيار له؛ لأنه قال في تعليل مسألة نقصان القيمة؛ لأن المالك لم يستوف القيمة بكمالها، وهذا يدل على أنه إذا استوفاها لا خيار له، والله أعلم.

[غصب عبدا فباعه فضمنه المالك قيمته]
م: (قال: ومن غصب عبدا) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": ومن غصب عبد رجل م: (فباعه فضمنه المالك قيمته فقد جاز بيعه) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. وقال في أخرى: لا يجوز بيعه كالإعتاق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك، كتصرفات الفضولي.
م: (وإن أعتقه ثم ضمن القيمة لم يجز عتقه؛ لأن ملكه الثابت فيه ناقص لثبوته مستندا) ش: والثابت بالإسناد من وجه حكما لا حقيقة، فيكون ناقصا والناقص يكفي للبيع دون العتق على ما يجيء م: (أو ضرورة) ش: أي يثبت ملك الغاصب ضرورة القضاء بالضمان كيلا يلزم اجتماع البدل والمبدل في ملك واحد والثابت بالضرورة ثابت من وجه دون وجه. م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ثبوت الملك له ضرورة م: (يظهر في حق الأكساب دون الأولاد) ش: أي يظهر ثبوت ملك الغاصب في حق الأكساب، ولا يظهر في حق الأولاد بأن غصب جارية فكسبت أكسابا قبل أداء الغاصب الضمان، فالأكساب للغاصب.
ولو ولدت أولادا قبل أدائه الضمان ثم أدى الضمان فالأولاد للمغصوب منه فيكون الملك ناقصا، إذ لو كان تاما لكان الأولاد بأداء الضمان كما في البيع، فإن من اشترى جارية فولدت قبل أداء الثمن ثم أدى المشتري لتمام الملك.
م: (والناقص) ش: أي الملك الناقص م: (يكفي لنفوذ البيع دون العتق كملك المكاتب) ش: فإنه يملك البيع ولا يملك العتق؛ لأن ملكه ناقص، وإنما قال بإعتاق الغاصب ثم تضمينه احترازا عن إعتاق المشتري من الغاصب فإن فيه روايتين، في رواية يصح إعتاقه وهو الأصح قياسا على الوقف وفي رواية لا يصح.
وفي " الكافي " للحاكم هذا فيما إذا أعتق الغاصب، أما إذا أعتق المشتري الغاصب فأجاز

(11/238)


قال: وولد المغصوبة ونماؤها وثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب إن هلك فلا ضمان عليه إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها إياه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: زوائد المغصوب مضمونة متصلة كانت أو منفصلة لوجود الغصب، وهو إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه كما الظبية المخرجة من الحرم إذا ولدت في يده يكون مضمونا عليه. ولنا: أن الغصب إثبات اليد على مال الغير على وجه يزيل يد المالك على ما ذكرناه، ويد المالك ما كانت ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المالك البيع، فيه خلاف فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف يصح إعتاقه موقوفا على إجازة المالك البيع، فإذا أجاز نفذ على المشتري، ويكون الولاء له. وقال محمد وزفر رحمهما الله: لا يصح، وقال أبو سليمان: هذه رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف أنه لا يجوز عتقه. وقال ابن أبي ليلى: عتق المشتري من الغاصب قيمته، وإن كان مات ثم سلم رب العبد لم يجز البيع.

م: (قال: وولد المغصوبة ونماؤها) ش: أي قال القدوري: أي ولد الجارية المغصوبة ونماؤها كالسمن والجمال سواء غصبها حاملا وولدت عنده أو حبلت في يد الغاصب م: (وثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب إن هلك فلا ضمان عليه، إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها إياه) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأما الكسب الحاصل باستغلال الغاصب ليس بنماء وغير مضمون على الغاصب؛ لأنه بدل المنفعة وهي غير مضمونة على الغاصب على ما يجيء.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: زوائد المغصوب مضمونة متصلة كانت) ش: كالسمن والجمال م: (أو منفصلة) ش: كالولد والثمر، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لوجود الغصب وهو إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه) ش: فتكون مضمونة م: (كما في الظبية المخرجة من الحرم إذا ولدت في يده يكون مضمونا عليه) ش: لأن ضمان الأصل باعتبارية مبطلة عليه، وهذه اليد ثابتة بعينها على الزيادة لحدوثها في ملك اليد فتصير مضمونة ضرورة.
م: (ولنا أن الغصب إثبات اليد على مال الغير على وجه يزيل يد المالك على ما ذكرناه) ش: في أول كتاب الغصب وإثبات اليد على ذلك الوجه ليس بموجود على ما نحن فيه؛ لأنها ما كانت ثابتة، وهو معنى قوله م: (ويد المالك ما كانت ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب) .
ش: فإن قيل: هذا يقتضي أن يضمن الولد إذا غصب الجارية حاملا؛ لأن اليد كانت ثابتة عليه، وليس كذلك فإنه لا فرق بين هذا وبين ما إذا غصبها غير حامل فحبلت في يد الغاصب وولدت، والرواية في " الأسرار ".

(11/239)


ولو اعتبرت ثابتة على الولد لا يزيلها، إذ الظاهر عدم المنع حتى لو منع الولد بعد طلبه يضمنه، وكذا إذا تعدى فيه كما قال في الكتاب وذلك بأن أتلفه أو ذبحه فأكله أو باعه وسلمه وفي الظبية المخرجة من الحرم لا يضمن ولدها إذا هلك قبل التمكن من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب: بأن الحمل قبل الانفصال ليس بمال، بل يعد عيبا في الأمة فلم يصدق عليه إثبات اليد على مال الغير.
سلمنا ذلك لكن لإزالة ثمة ظاهر، إذ الظاهر عدم المنع عند الطلب، أشار إليه بقوله م: (ولو اعتبرت ثابتة على الولد لا يزيلها، إذ الظاهر عدم المنع) ش: يعني لو اعتبر يد المالك ثابتة على الولد تقريرا تبعا لملك الأم، فإنه ما زال اليد التقديري لا يمنعه عند الطلب، بخلاف الأم، فإن الزائل ثمة اليد الحقيقي فيتحقق الغصب باعتباره م: (حتى لو منع الولد بعد طلبه يضمنه، وكذا إذا تعدى فيه كما قال في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (وذلك بأن أتلفه أو ذبحه فأكله أو باعه وسلمه) ش: إنما ذكر التسليم؛ لأن التعدي لا يتحقق بمجرد البيع بل بالتسليم بعد، فإن تفويت يده يحصل به؛ لأنه كان متمكنا من أخذ من الغاصب وقد زال ذلك بالبيع.
فإن قيل: إن الأم مضمونة ألبتة والأوصاف القارة في الأمهات تسري إلى الأولاد كالحرية والرقبة والملك في الشراء.
أجيب: بالضمان ليس بصفة قارة في الأم، بل هو لزوم حق في ذمة الغاصب، فإن وصف به المال كان مجازا.
فإن قيل: قد وجد الضمان في مواضع ولم تتحقق العلة المذكورة فيها فكان أمارة زيفها، وذلك كغاصب الغاصب، فإنه يضمن وإن لم يزل يد المالك بل أزال يد الغاصب والمسقط إذا لم يشهد مع القدرة على الإشهاد ولم يزل يدا، والغرور إذا منع الولد يضمن به الولد ولم يزل يدا في حق الولد ويضمن الأموال بالإتلاف تشبيها كحفر البئر في غير الملك، وليس ثمة إزالة يد أحد ولا إثباتها.
فالجواب إنما قلنا: إن الغصب على التفسير المذكور يوجب الضمان مطردا لا محالة. وأما إن كل ما يوجب الضمان كل غصب فلم يلتزم ذلك لجواز أن يكون الضمان حكما نوعيا يثبت كل شخص منه من العلة ما يكون تعديا.
م: (وفي الظبية المخرجة من الحرم) ش: هذا جواب عن قوله كما في الظبية المخرجة من الحرم، تقريره أن القياس غير صحيح؛ لأنه إن قاس عليها قبل التمكن من الإرسال فهو ظاهر الفساد؛ لأنه لا ضمان عليه، وهو معنى قوله م: (لا يضمن ولدها إذا هلك قبل التمكن من

(11/240)


الإرسال لعدم المنع، وإنما يضمنه إذا هلك بعده لوجود المنع بعد طلب صاحب الحق وهو الشرع، على هذا أكثر مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ولو أطلق الجواب فهو ضمان جناية ولهذا يتكرر بتكررها ويجب بالإعانة والإشارة، فلأن يجب بما هو فوقها وهو إثبات اليد على مستحق الأمن أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإرسال لعدم المنع) ش: وإن قال عليها بعد التمكن فكذلك؛ لأن الضمان فيه باعتبار المنع، وهو معنى قوله م: (وإنما يضمنه) ش: أي الولد م: (إذا هلك بعده) ش: أي بعد التمكن من الإرسال م: (لوجود المنع بعد طلب صاحب الحق وهو الشرع) ش: لا باعتبار أن الأم مضمونة م: (على هذا أكثر مشايخنا) ش: المتقدمين.
م: (ولو أطلق الجواب) ش: أي في ولد صيد الحرم بأن يقال يجب الضمان سواء هلك بعد التمكن من الإرسال أو قبل التمكن م: (فهو ضمان جناية) ش: أي الضمان في صيد الحرم ضمان جناية، أي إتلاف معنى الصيدية وقد حصل الإتلاف والإهلاك معنى بتفويت الأمن فوجب الضمان.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه ضمان جناية والإتلاف م: (يتكرر) ش: أي الجزاء م: (بتكررها) ش: أي بتكرر الجناية، فإنه لو أدى الضمان بسبب إخراج الصيد عن الحرم ثم أرسله فيه ثم أخرج ذلك الصيد من الحرم وجب جزاء آخر.
وفي " فتاوى الولوالجي " لو أخرج صيدا فكفر منه، ثم رماه بعد ذلك وقتله فعليه كفارة أخرى.
قيل: ويجوز أن يكون معناه يتكرر وجوب الإرسال بتكرر هذه الجناية التي هي الإخراج من الحرم. قلت: هذا له معنى ولكن الأقرب ما ذكر أولا.
م: (ويجب) ش: أي الضمان م: (بالإعانة) ش: بأن أعان رجلا لمن قتل صيد الحرم فإنه يجب على المعين أيضا جزاء كامل، كما يجب على القاتل إذا كانا محرمين.
وأما إذا كانا إحلالين فعليهما جزاء واحد، وعلى كل حال يجب على المعين كما يجب على المباشر م: (والإشارة) ش: بأن أشار غيره على صيد الحرم فقتله فإنهما مشتركان في الجزاء، وكذا المحرم إذا أشار محرما آخر على قتل صيد الحل فإنه يجب على كل منهما جزاء م: (فلأن يجب بما هو فوقها) ش: أي فوق الإعانة والإشارة.
م: (وهو إثبات اليد على مستحق الأمن) ش: وهو صيد الحرم؛ لأنه مستحق الأمن بالنص م: (أولى) ش: خبر لقوله فلأن يجب، وأن مصدرية، والتقدير فالوجوب بما هو فوقهما أولى م:

(11/241)


وأحرى. قال: وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب فإن كان في قيمة الولد وفاء به جبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب، وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجبر النقصان بالولد؛ لأن الولد ملكه، فلا يصح جابرا لملكه كما في ولد الظبية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وأحرى) ش: عطف على أولى، وهو أيضا بمعناه ذكر للتأكيد.
فإن قيل: تفويت الأمن في حق صيد الحرم سبب صالح لوجوب الضمان لا في حق كل الصيود، والولد ليس بصيد الحرم، بدليل أنه يحل بيعه وأكله، فلو كان صيد الحرم لما حل، ولأن تفويت الأمن يتصور بعد ثبوته في حق الولد؛ لأنه كما حدث خائفا فلا يتصور تفويت الأمن في حق الخائف.
أجيب: بأن الولد لم يكن صيد الحرم من كل وجه، بل من وجه بدليل أنه يجب إرساله وأكله وإن كان يحل ولكنه يكره. وإنه وإن حدث خائفا ولكنه مستحقا للأمن فصار كالآمن حكما، فافهم.
م: (قال: وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب) ش: أي قال القدوري: وقوله وما مبتدأ، أي والذي نقصت الجارية. وقوله في ضمان الغاصب خبره، والعائد على الموصول محذوف، أي والذي نقصته الجارية، صورته غصب أمة رجل تساوي ألفا مثلا، فولدت في يده ولدا قيمتها خمسمائة مثلا، أو نقصت بالولادة حتى صارت قيمتها خمسمائة فإنه يضمن النقصان ولكنه ينجبر بالولد على ما يأتي مفصلا، وبه قال مالك إذا جيئت بعد الغصب، أما لو غصب حاملا ضمن بعد الولادة ولا ينجبر بالولد، وعندنا ينجبر.
م: (فإن كان في قيمة الولد وفاء به) ش: أي بالذي نقص الجارية وهذا تفسير لقوله وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب فلذلك ذكره بالفاء، أي فإن كان قيمة الولد تفي ذلك النقصان م: (جبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب) ش: أي ضمان ما نقصت؛ لأنا قد قلنا في الصورة المذكورة أن نقصان الجارية خمسمائة فجبر ذلك النقصان برد الولد مع الأم ولا يلزم غير ذلك عندنا.
م: (وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجبر النقصان بالولد) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الولد ملكه) ش: أي ملك الغاصب م: (فلا يصح جابرا لملكه) ش: لأن الضمان جبر ما فات منه ولم يوجد.
م: (كما في ولد الظبية) ش: إذا أخرجها من الحرم ونقصت قيمتها بسبب الولادة وقيمة ولدها يساوي ذلك النقصان فإنه لا ينجبر بها، يجب ضمان النقصان مع وجوب ردها إلى الحرم.

(11/242)


وكما إذا هلك الولد قبل الرد أو ماتت الأم وبالولد وفاء وصار كما إذا جز صوف شاة غيره أو قطع قوائم شجرة غيره أو خصى عبد غيره أو علمه الحرفة فأضناه التعليم، ولنا: أن سبب الزيادة والنقصان واحد وهو الولادة أو العلوق على ما عرف وعند ذلك لا يعد نقصانا فلا يوجب ضمانا وصار كما إذا غصب جارية سمينة فهزلت ثم سمنت أو سقطت ثنيتها ثم نبتت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكما إذا هلك الولد قبل الرد) ش: أي قبل رد الأم، فإنه يجب ضمان النقصان م: (أو ماتت الأم) ش: أي بسبب الولادة، هكذا النص في " الأسرار " و " الإيضاح " م: (وبالولد وفاء) ش: أي والحال أن بقيمة الولد وفاء.
م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا جز صوف شاة غيره) ش: أي شاة لغيره فنبت صوف غيره م: (أو قطع قوائم شجرة غيره) ش: فنبت قوائم أخرى مكانها فإن بقيتها لا ينجبر بالنقصان م: (أو خصى عبد غيره) ش: بأن قلع خصيتيه فإنه نقصان فيه، ولكن ازدادت قيمته بسبب الخصي فإنه يضمنه نقصان الخصية كما لو تردد قيمته م: (أو علمه الحرفة) ش: أي أو علم عبد غيره الحرفة م: (فأضناه) ش: بسبب م: (التعليم) ش: فلا ينجبر ما أضناه بالتعليم بما ازدادت قيمته بسبب علم الحرفة.
م: (ولنا: أن سبب الزيادة والنقصان واحد وهو) ش: أي السبب م: (الولادة) ش: عندهما م: (أو العلوق) ش: عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (على ما عرف) ش: في طريق الخلاف تقرير هذا أن الولد خلف عن الخبر الفائت بالولادة بطريق اتحاد السبب، وهو أن الولادة أوجبت فوات جزء من مالية الأصل وحدوث مالية الولد.
لأنه وإن كان موجودا قبل الانفصال لكنه ما كان مالا بل كان عيبا في الأم وصفا لها، وإنما صار مالا مقصودا بعد الانفصال والسبب الواحد متى أثر في الزيادة والنقصان كانت الزيادة خلفا عن النقصان كالبيع لما زال المبيع عن ملك البائع وأدخل الثمن في ملكه كان الثمن خلفا عن مالية المبيع باتحاد السبب، حتى لو شهد الشاهدان عليه ببيع شيء بمثل القيمة ثم رجعا لم يضمنا شيئا.
م: (وعند ذلك) ش: أي كون الشيء الواحد سببا للزيادة والنقصان م: (لا يعد نقصانا) ش: أي لا يعد النقصان الحاصل نقصانا لحصول الزيادة في مقابلته م: (فلا يوجب ضمانا) ش: أي إذا كان كذلك فلا يوجب النقصان ضمانا، ثم أوضح ذلك بقوله م: (وصار كما إذا غصب جارية سمينة فهزلت ثم سمنت أو سقطت ثنيتها ثم نبتت) ش: أي ثنيتها غير الساقطة، والثنية واحدة الثنايا وهي الأسنان المتقدمة اثنتان فوق واثنتان أسفل، سميت بذلك؛ لأن كل واحدة منهما

(11/243)


أو قطعت يد المغصوب في يده وأخذ أرشها وأداه مع العبد يحتسب عن نقصان القطع وولد الظبية ممنوع، وكذا إذا ماتت الأم، وتخريج الثانية: أن الولادة ليست بسبب لموت الأم، إذ الولادة لا تفضي إليه غالبا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مضمونة إلى صاحبها.
م: (أو قطعت يد المغصوب في يده) ش: أي أو قطع يد العبد المغصوب في يد الغاصب م: (وأخذ أرشها) ش: أي وأخذ الغاصب أرش اليد المقطوعة من الجاني م: (وأداه مع العبد) ش: أي أدى الغاصب الأرش مع العبد إلى المالك م: (يحتسب عن نقصان القطع وولد الظبية ممنوع) ش: هذا جواب عن قول زفر والشافعي رحمهما الله، كما في ظبيته.
وتقريره لا نسلم أن نقصان الظبية بالولادة لا تنجبر بقيمة الولد كما قال، بل قيل: إنه يصلح أن يكون جابرا وإليه ذهب المصنف فعلى هذا يمنع قياسهما عليه.
م: (وكذا إذا ماتت الأم) ش: يعني أن القياس على موت الأم أيضا ممنوع، يعني لا نسلم أن الأم إذا ماتت لا تنجبر قيمتها بقيمة الولد إذا كان فيها وفاء، بل ينجبر كما قيل في غير ظاهر الرواية.
م: (وتخريج الثانية) ش: أي الرواية الثانية فإذا ماتت الأم لا تنجبر بالولد وهو ظاهر الرواية. الحاصل هاهنا أن في مسألة موت الأم روايتان، في أحدهما ينجبر النقصان فلا يتأتى علينا. وفي الثانية لا ينجبر ويتأتى علينا ظاهرا. ولكن أشار إلى الجواب عنه بقوله م: (أن الولادة ليست بسبب لموت الأم، إذا الولادة لا تفضي إليه غالبا) ش: أي لأنه لا تفضي الولادة إلى الموت في غالب الأحوال، أراد أن كلامنا فيما إذا كان السبب واحدا وهاهنا ليس كذلك فإن الولادة سبب للزيادة وليس بسبب لموت الأم، إذا لا يفضي إليه غالبا.
فإن قلت: إنها أفضت إليه في هذه الصورة فتكون سببا.
قلت: هو بالنظر إلى أوضاع أسباب التصرفات لا إلى أفرادها، ألا ترى أن الصبي لا يؤهل للطلاق والعتاق وإن تحقق النفع في صورة، لأنهما في الأصل سبب للمضار. وروي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية أخرى وهو أنه يجبر بالولد قدر نقصان الولادة، ويضمن ما زاد على ذلك من قيمة الأم؛ لأن الولادة لا توجب الموت، فالنقصان بسبب الولادة دون موت الأم ورد القيمة كرد العين. ولو رد عين الجارية كان النقصان مجبورا بالولد، فكذا رد قيمتها، فصار فيه ثلاث روايات.
وذكر في " الطريق البرهانية " إذا ماتت الأم وبالولد وفاء فقد روي عن أبي حنيفة رحمه

(11/244)


وبخلاف ما إذا مات الولد قبل الرد؛ لأنه لا بد من رد أصله للبراءة، فكذا لا بد من رد خلفه، والخصاء لا يعد زيادة لأنه غرض بعض الفسقة، ولا اتحاد في السبب فيما وراء ذلك من المسائل؛ لأن سبب النقصان القطع والجز، وسبب الزيادة النمو، وسبب النقصان التعليم والزيادة سببها الفهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله ثلاث روايات، في رواية يصير الولد خلفا، وفي رواية لا يكون خلفا، وفي رواية يكون خلفا عما انتقصت بالولادة. قال: فنحن نختار الرواية التي قال فيها أنه يكون خلفا عن الأم.
م: (وبخلاف ما إذا مات الولد قبل الرد) ش: هذا جواب عن قولهما، وكما إذا هلك الولد قبل الرد. وجهه أن كلامنا فيما إذا رد الأم بنقصان الولادة هل ينجبر النقصان برد الولد، وإذا كان الولد هالكا كيف ينجبر النقصان به، وهي معنى قوله م: (لأنه لا بد من رد أصله للبراءة، فكذا لا بد من رد خلفه) ش: يعني أن الواجب عليه رد الأصل بالصفة التي أخذها وما ردها بتلك الصفة، وإنما يكون بتلك الصفة أن لو ردها مع الولد الذي هو خلف عن النقصان فلا يبرأ.
م: (والخصاء) ش: على وزن فعال؛ لأنه مصدر خصى يخصى يعني أنه ممدود م: (لا يعد زيادة؛ لأنه غرض بعض الفسقة) ش: فلم يكن له اعتبار في الشرع؛ لأنه أمر حرام ورد النهي عنه م: (ولا اتحاد في السبب) ش: جواب عن مسألة جز صوف الشاة، وقطع قوائم الشجرة وتعليم العبد الحرفة، أراد أن كلامنا فيما إذا اتحد السبب ولا اتحاد في السبب م: (فيما وراء ذلك من المسائل) ش: أي فيما وراء ما ذكرنا من مسألة موت الأم وموت الولد، والخصاء، وأراد من المسائل مسألة جز صوف الشاة، ومسألة قطع قوائم الشجرة، ومسألة تعليم الحرفة لعبد غيره.
م: (لأن سبب النقصان القطع والجز) ش: أي القطع في قوائم الشجرة والجز في صوف الشاة، وسبب الزيادة كون المحل منبتا لا القطع، فإذا كان السبب مختلفا لم تجعل الزيادة خلفا م: (وسبب الزيادة النمو) ش: وهو كون المحل منبتا كما ذكرنا، فاختلف السببان وكلامنا في المتحد م: (وسبب النقصان التعليم) ش: في العبد؛ لأنه يوجب المشقة فيحصل به الهزال م: (والزيادة سببها الفهم) ش: وهو جودة الذهن والحذاقة، ولهذا يشترك الاثنان في التعليم ويسبق أحدهما الآخر في التعليم لسرعة فهمه، فإذا كان كذلك فقد اختلف السبب وكلامنا في المتحد.
فإن قيل: المذكور جواب المستشهد بها، وأصل نكتة الخصم وهو أن الولد ملك المولى فلا يصلح أن يكون جابر النقصان، وقع في ملكه فهو على حاله.
أجيب: بأن المصنف أشار إلى جوابه بقوله لا يعد نقصانا، وإذا لم يكن نقصانا لم يحتج

(11/245)


قال: ومن غصب جارية فزنى بها فحبلت ثم ردها وماتت في نفاسها يضمن قيمتها يوم علقت، ولا ضمان عليه في الحرة، هذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يضمن في الأمة أيضا، لهما: أن الرد قد صح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى جابر، فإطلاق الجابر عليه توسع في العبارة.
فإن قيل: لو كان الولد خلفا وبدلا عن النقصان لما بقي ملكا للمولى عند ارتفاعه بضمان الغاصب لئلا يجتمع البدلان في ملك واحد.
أجيب: بأنه ملك المولى لا محالة ومن حيث الملك ليس ببدل بل بدل من حيث الذات، فإذا ارتفع النقصان بطل الخليفة وبقي في ملك المولى.
فإن قيل: الولد عنده أمانة فكيف يكون خلفا عن المضمون.
فالجواب: ما أشار إليه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من عدم عده نقصانا لا تضمينه، وهذا الجواب صالح للدفع عن السؤال أيضا، فلله در المصنف عالما ما أدق تحريره وما أزكى قريحته وما أمعن نظره.

[غصب جارية فزنى بها فحبلت ثم ردها وماتت في نفاسها]
م: (قال: ومن غصب جارية فزنى بها فحبلت ثم ردها وماتت في نفاسها يضمن قيمتها يوم علقت) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وصورته فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل يغصب الجارية فزنى بها ثم يردها فتحبل فتموت في نفاسها قال هو ضامن لقيمتها يوم علقت وليس عليه في الحرة ضمان. وقال أبو يوسف ومحمد: لا ضمان عليه في الأمة أيضا إذا ماتت في نفاسها بعدما يردها، انتهى.
وقال الصدر الشهيد في " شرحه ": يريد به إذا زنى بها مكرهة أو مطاوعة. قال محمد: ذكره مطلقا ولم يقيده بحالة الطواعية، وإنما قيد بالحبل من الزنا؛ لأنه إذا كان من الزوج أو المولى فلا ضمان، ثم إن المصنف لم يتابعه في قوله ثم يردها فتحبل؛ لأنه قدم الحبل حيث قال: فحبلت ثم ردها لبيان أن الحبل كان موجودا وقت الرد، وهكذا هو في عامة النسخ.
ووقع في بعض النسخ، ثم ردها فتحبل بتقديم الرد متابعة لما قاله في " الجامع الصغير "، قوله: عقلت بسكر اللام تعلق علوقا، إذا حبلت م: (ولا ضمان عليه في الحرة) ش: لأنه لا يضمن بالغصب.
م: (هذا) ش: أي وجوب الضمان م: (عند أبي حنفية - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يضمن في الأمة أيضا) ش: إلا نقصان الحبل، وبه قالت الثلاثة م: (لهما: أن الرد قد صح) ش: لأنه أوصل الحق إلى المستحق وصحته توجب البراءة عن الضمان.

(11/246)


والهلاك بعده بسبب حدث في يد المالك، وهو الولادة فلا يضمن الغاصب، كما إذا حمت في يد الغاصب ثم ردها فهلكت أو زنت في يده، ثم ردها فجلدت فهلكت منه، وكمن اشترى جارية قد حبلت في يد البائع، فولدت عند المشتري وماتت في نفاسها لا يرجع على البائع الثمن بالاتفاق، وله: أنه غصبها وما انعقد فيها سبب التلف وردت وفيها ذلك فلم يوجد الرد على الوجه الذي أخذه. فلم يصح الرد وصار كما إذا جنت في يد الغاصب جناية فقتلت بها في يد المالك أو دفعت بها، بأن كانت الجناية خطأ يرجع على الغاصب بكل القيمة كذا هذا، بخلاف الحرة، لأنها لا تضمن بالغصب ليبقى ضمان الغصب بعد فساد الرد. وفي فصل الشراء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والهلاك بعده) ش: جواب عما يقال لا نسلم صحة الرد حيث هلكت بسبب كان عنده فقال والهلاك بعده، أي بعد الرد كان م: (بسبب حدث في يد المالك وهو الولادة) ش: لا بسبب كان عند الغاصب م: (فلا يضمن الغاصب كما إذا حمت) ش: أي إذا حصل للجارية حمى م: (في يد الغاصب ثم ردها فهلكت) ش: حيث لا يضمن الغاصب قيمتها ولكن يضمن النقصان م: (أو زنت في يده) ش: أي أو بما إذا زنت الجارية في يد الغاصب م: (ثم ردها فجلدت فهلكت منه) ش: أي من الجلد حيث لا يضمن الغاصب قيمتها ولكن يضمن النقصان.
م: (وكمن اشترى جارية قد حبلت عند البائع، فولدت عند المشتري) ش: والحال أن المشتري لم يعلم بالحبل م: (وماتت في نفاسها لا يرجع على البائع الثمن بالاتفاق) ش: ولكن يرجع بنقصان الحبل. قيد بقوله: في نفاسها؛ لأنه إذا ماتت بالولادة تضمن بالإجماع.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (أنه غصبها وما انعقد فيها سبب التلف) ش: أي أن الغاصب غصب الجارية والحال أنه ما كان انعقد فيها سبب التلف، يعني وقت الأخذ كانت فارغة ليس بها ما يفضي إلى التلف م: (وردت وفيها ذلك) ش: أي وردت الجارية والحال أن فيها سبب التلف م: (فلم يوجد الرد على الوجه الذي أخذه فلم يصح الرد) ش: لأن الصحيح منه أنه يكون على الوجه الذي أخذه.
م: (وصار كما إذا جنت في يد الغاصب جناية فقتلت بها) ش: أي بالجناية أي بسببها م: (في يد المالك أو دفعت بها) ش: أي بالجناية م: (بأن كانت الجناية خطأ يرجع على الغاصب بكل القيمة، كذا هذا) ش: أي حكم المسألة المتنازع فيها م: (بخلاف الحرة) ش: إذا زنى بها رجل كرها فحبلت فماتت في نفاسها م: (لأنها) ش: أي لأن الحرة م: (لا تضمن بالغصب ليبقى ضمان الغصب بعد فساد الرد) ش: بكونها حبلى، ولهذا لو هلكت عنده بدون الزنا لا يضمن بالإجماع.
م: (وفي فصل الشراء) ش: هذا جواب عن قولهما كمن اشترى جارية قد حبلت عند البائع

(11/247)


الواجب ابتداء التسليم، وما ذكرناه شرط صحة الرد والزنا سبب لجلد مؤلم لا جارح ولا متلف فلم يوجد السبب في يد الغاصب.
قال: ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنها فيجب أجر المثل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بطريق الفرق، وهو أن فصل الشراء م: (الواجب) ش: على البائع م: (ابتداء التسليم) ش: أي تسليم المبيع على الوجه الذي وقع عليه العقد وقد تحقق ذلك منه وموتها بالنفاس لا بعد التسليم.
م: (وما ذكرناه شرط صحة الرد) ش: أي ما ذكرنا من وجوب وجه الذي أخذه عليه شرط لصحة الرد ولم يوجد، فكان تمثيل ما لم يوجد بشرطه على ما وجد شرطه، وهو تمثيل فاسد.
وقال تاج الشريعة: وتحقيقه أن الشراء لم يتناول إلا العين إذ الأوصاف لا تدخل في الشراء، وهذا لا يقابلها شيء من الثمن، فكان الواجب على البائع تسليم العين الذي هو مال متقوم وقد وجد فلا يرجع المشتري عليه بالهلاك في يده.
وأما الغصب فإن الأوصاف داخلة فيه، ولهذا لو غصب جارية سمينة فهزلت في يد الغاصب وردها كذلك فإنه يضمن النقصان، وإذا دخلت الأوصاف فيه كان الرد بدونها ردا فاسدا. وأما إذا حمت في يد الغاصب فلأن سبب الموت ما بها من الحمى والضعف وقت الموت، ويحتمل أن يكون سببه عمارة كانت في يد الغاصب، أو حدثت في يد المالك بالشك.
م: (والزنا سبب لجلد مؤلم) ش: جواب عن قولهما أو زنت في يده إلى آخره، وتقريره أن الزنا الذي وجد في يد الغاصب، إنما كان واجبا لجلد مؤلم م: (لا جارح ولا متلف) ش: ولما جلدت في يد المالك بجلد متلف غير ما وجب في يد الغاصب فلا يضمن، وهو معنى قوله: م: (فلم يوجد السبب) ش: وهو الجلد المتلف م: (في يد الغاصب) ش:.

[ضمان الغاصب منافع المغصوب]
م: (قال: ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه) ش: أي وقال القدوري: وقال في " إشارات الأسرار " المنافع لا يضمن سواء عرفها إلى نفسه أو عطلها على المالك. وقال في " الطريقة البرهانية " المنافع لا تضمن بالغصب والاستهلاك في قول علمائنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وصورة المسألة: رجل غصب عبدا فأمسكه شهرا حتى صار غاصبا للمنافع، أو استعمله حتى صار مستهلكا لها عندنا لا تضمن هذه المنافع، وقال صدر الإسلام البزدوي في شرح " الكافي ": ليس على الغاصب في ركوب الدابة وسكنى الدار أجر وهو مذهب علمائنا م: (إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان) ش: أي إلا أن ينقص عين المغصوب باستعماله، فحينئذ يضمن النقصان.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنها) ش: أي المنافع م: (فيجب أجر المثل) ش: هذا

(11/248)


ولا فرق في المذهبين بين ما إذا عطلها أو سكنها. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن سكنها يجب أجر المثل وإن عطلها لا شيء عليه. له: أن المنافع أموال متقومة حتى تضمن بالعقود فكذا بالمغصوب. ولنا أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في مكانه، إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك؛ لأنها أعراض لا تبقى فيملكها دفعا لحاجته، والإنسان لا يضمن ملكه. كيف؟ وأنه لا يتحقق غصبها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفسير الضمان عنده، يعني أن المنافع مضمونة بأجر المثل عنده، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلف أصحاب مالك وذكروا أنها لا تضمن كقولنا في صورة الغصب، وكذا في صورة الإتلاف. وعن ابن القاسم يضمن غلة الرباع والإبل والغنم ولا يغرم غلة العبيد والدواب.
وقال بعضهم إن سلمها يجب أجر المثل، وإن عطلها لا، ولهذا لا يضمن على الإطلاق كقولنا م: (ولا فرق في المذهبين) ش: أي مذهبنا ومذهب الشافعي م: (بين ما إذا عطلها أو سكنها) ش: الغاصب، وربما سمي الأول غصبا، والثاني إتلافا في شمول العدم عندنا وشمول الوجود عنده.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن سكنها يجب أجر المثل وإن عطلها لا شيء عليه) ش: لأنه انتفع في الأول دون الثاني.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن المنافع أموال متقومة) ش: أما كونها أموالا فإنها تصلح صداقا، وأما كونها متقومة فلأن التقوم عبارة عن العزة، والمنافع عزيزة عند الناس.
ولهذا يبذلون الأعيان لأجلها م: (حتى تضمن بالعقود) ش: صحيحة كانت أو فاسدة بالإجماع م: (فكذا بالمغصوب) ش: أي فكذا يضمن بالمغصوب؛ لأن العقد لا يجعل غير المتقوم متقوما، كما لو ورد على الميتة.
م: (ولنا: أنها) ش: أي المنافع م: (حصلت في ملك الغاصب لحدوثها في مكانه) ش: أي تصرفه وقدرته وكسبه م: (إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك؛ لأنها أعراض لا تبقى فيملكها) ش: لأن ما حدث في إمكان الرجل فهو ملكه م: (دفعا لحاجته) ش: لأن الملك لم يثبت للعبد إلا رفعا لحاجته إلى إقامة التكاليف، فالمنافع حاصلة في ملك الرجل.
م: (والإنسان لا يضمن ملكه) ش: أي ملك نفسه، والتحقيق أن من استولى على شيء يملكه إلا إذا تضمن الاستيلاء لإزالة يد مالكه، فحينئذ لا يملكه، وهاهنا لا يتضمن فيملكه المتولى عليه دفعا لحاجته.
م: (كيف؟) ش: أي كيف يكون الضمان؟ م: (وأنه) ش: أي الشأن م: (لا يتحقق غصبها

(11/249)


وإتلافها؛ لأنه لا بقاء لها، ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان، وقد عرفت هذه المآخذ في المختلف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإتلافها) ش: أي غصب المنافع وإتلافها م: (لأنه لا بقاء لها) ش: أي للمنافع؛ لأنها أعراض تتلاشى ومما لا يبقى لا يتصور غصبه وإتلافه، إذا إتلاف الشيء وغصبه إنما يرد في حال بقائه م: (ولأنها) ش: أي ولأن المنافع أراد، ولئن سلمنا تحقق غصب المنافع وإتلافها، ولكن شرط الضمان المماثلة والمنافع م: (لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها) ش: أي فناء المنافع م: (وبقاء الأعيان) ش: فلم توجد المماثلة فلا يضمن.
فإن قيل: يرد عليه ما إذا أتلف ما يسرع إليه الفساد فإنه يضمن بالدراهم التي هي تبقى، فدل على المماثلة والبقاء غير معتبرة.
أجيب: بأن المماثلة المعتبرة هي ما تكون بين باق وباق، لا بين جوهر وعرض، ألا ترى أن بيع الثياب بالدراهم جائز، وإن كان أحدهما يبلى دون الآخر.
فإن قيل: يرد أيضا ما إذا استأجر الوصي اليتيم ما يحتاج إليه بدراهم اليتيم فإنه جائز لا محالة. ولو كان ما ذكرتم صحيحا لما جاز؛ لأن القربان إلى مال اليتيم لا يجوز إلا بالوجه الأحسن.
أجيب: بأنه لما جاز مع وجود التفاوت دل على أن القربان الأحسن في مال اليتيم هو ما لا يعد عيبا في التصرفات.
فإن قلت: ما ذكر يفضي إلى إهدار حق المالك وهو مظلوم، ورعاية جانب الغاصب وهو ظالم.
قلت: حق المالك يتراخى إلى دار الآخرة وحق الغاصب في الزيادة يفوت أصلا، والتأخير أهون من الإبطال.
فإن قلت: كلامنا في أحكام الدنيا.
قلت: بلى لكن المماثلة شرط على ما بينا، وحق المالك يفوت في الدنيا لا في الآخرة فيكون ثابتا من وجه دون وجه، وحق الغاصب في الزيادة يفوت في الدارين فيكون فائتا من كل وجه، فكان تحمل أدنى الضرر أولى.
م: (وقد عرفت هذه المآخذ) ش: هو جمع مأخذ أي التي هي مناط الحكم، أو أراد ما ذكره تماثل الأعيان إلى آخره م: (في المختلف) ش: أراد به مختلف الفقيه أبي الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - هكذا قال الأترازي. وتبعه على ذلك صاحب " العناية "، ولكن لم لا يجوز أن يكون أراد به

(11/250)


ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها، بل تتقوم ضرورة عند ورود العقد ولم يوجد العقد، إلا أن ما انتقص باستعماله مضمون عليه لاستهلاكه بعض أجزاء العين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مختلف الطريقة بيننا وبين الشافعي، فإن هذه المسألة من جملة المسائل المذكورة في علم الخلاف، بل الظاهر أن مراده هذا وتخصيص مختلف أبي الليث تحكم فافهم.
م: (ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها) ش: هذا جواب عن قوله المنافع أموال متقومة، تقديره أنا لا نسلم أن المنافع أموال متقومة في ذاتها؛ لأن التقوم لا يسبق الوجود والإحراز، وذلك فيما لا يبقى غير متصور م: (بل تتقوم ضرورة) ش: أي لضرورة دفع الحاجة م: (عند ورود العقد عليها ولم يوجد العقد) ش: في المتنازع فيه م: (إلا أن ما انتقص باستعماله مضمون عليه) ش: هذا استثناء منقطع، أي لكن ما ينقص بسبب استعماله مضمون عليه، وقيد باستعماله بحسب الغالب؛ لأن النقص غالبا يكون بالاستعمال.
ولكن الحكم ثابت فيما إذ انتقص بدون استعماله م: (لاستهلاكه بعض أجزاء العين) ش: أي لاستهلاك الغاصب بعض أجزاء العين المغصوبة.
قال مشايخنا: هذا إذا لم يكن معدا للاستقلال، فإن كان معدا له بضمن المنافع بالغصب والإتلاف. وفي " الفتاوى الكبرى " منافع المقار الموقوفة مضمونة سواء كان معدا للاستغلال أو لا نظرا للوقف.
وفي " المجتبى ": وأصحابنا المتأخرون يفتون بقول الشافعي في المسألات والأوفاق وأموال اليتامى، ويوجبون أجر منافعها على الغصبة. ثم في مسألة فتح رأس التنور المسجور إنما يضمن قيمة الحطب مع أن غصب المنافع وإتلافها غير متصور لما أنه أتلف ما هو المقصود من تسخين التنور، فصار هذا بمنزلة استهلاك العين، فلذلك ضمن الحطب.

(11/251)


فصل في غصب ما لا يتقوم قال: وإذا أتلف المسلم خمرا لذمي أو خنزيره ضمن قيمتهما، فإن أتلفهما لمسلم لم يضمن. وقال الشافعي: لا يضمنهما للذمي أيضا، وعلى هذا الخلاف إذا أتلفهما ذمي على ذمي أو باعهما الذمي من الذمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل في غصب ما لا يتقوم]
[أتلف المسلم خمرا لذمي أو خنزيره]
م: (فصل في غصب ما لا يتقوم) ش: ذكره عقيب غصب ما يتقوم هو المناسبة.
م: (قال: إذا أتلف المسلم خمرا لذمي أو خنزيره ضمن قيمتهما) ش: أي قال القدوري في مختصره، وهذا على أربعة أوجه.
الأول: إتلاف المسلم خمر الذمي أو خنزيره فإنه يضمن عندنا، وهكذا ذكره القدوري في " مختصره ". وفي " شرح مختصر الكرخي " وذكر صدر الإسلام البزدوي في " شرح الكافي " ولو أتلف مسلم على ذمي خنزيرا على قول أبي حنيفة لا يضمن شيئا.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد يضمن قيمته، وهذا كما ترى ذكر الخلاف وهو قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي مر في كتاب النكاح فيما إذا تزوج الذمي ذمية على خمر أو خنزير ثم أسلما أو أسلم أحدهما قبل القبض فلها الخمر والخنزير إذا كانا عينين، وإن كانا دينين فالجواب على التفصيل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ففي الخمر تجب القيمة، وفي الخنزير مهر المثل على ما عرف هناك.
الثاني: إتلاف المسلم خمر المسلم، أشار إليه بقوله م: (فإن أتلفهما) ش: أي وإن أتلف المسلم الخمر والخنزير الكائنين م: (المسلم لم يضمن) ش: بلا خلاف، ووقع في بعض النسخ إن أتلفها بتوحيد الضمير فلذلك تاج الشريعة قوله وإن أتلفها، أي أتلفهما، نظير قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] (سورة الجمعة: الآية 11) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] (سورة التوبة: الآية 24) .
الثالث: إتلاف الذمي خمر المسلم فإنه لا يضمن بلا خلاف، وهذا لم يذكره المصنف.
م: (وقال الشافعي: إنه) ش: أي المسلم م: (لا يضمنهما) ش: أي الخمر والخنزير الكائنين م: (للذمي أيضا) ش: أي كما لا يضمن إذا كان لمسلم، وبه قال أحمد م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور بيننا وبين الشافعي م: (إذا أتلفهما ذمي على ذمي) ش: وهذا هو الوجه الرابع، وبقول الشافعي قال أحمد أيضا.
وبقولنا قال مالك م: (أو باعهما الذمي من الذمي) ش: أو باع الخمر والخنزير الذمي من

(11/252)


له: أنه سقط تقومهما في حق المسلم، فكذا في حق الذمي؛ لأنهم أتباع لنا في حق الأحكام فلا يجب بإتلافهما مال متقوم وهو الضمان. ولنا أن التقوم باق في حقهم، إذ الخمر لهم كالخل لنا، والخنزير لهم كالشاة لنا، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذمي فإنه يجوز عندنا خلافا للشافعي وأحمد م: (له) ش: أي الشافعي م: (أنه سقط تقومهما) ش: أي تقوم الخمر والخنزير م: (في حق المسلم، فكذا في حق الذمي؛ لأنهم أتباع لنا في حق الأحكام) ش: أي لأن أهل الذمة أتباع للمسلمين في الأحكام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلين وعليهم ما على المسلمين» ، فبين أن كل حكم يثبت في حق المسلم يثبت في حق الذمي م: (فلا يجب بإتلافهما مال) ش: أي إذا كان كذلك فلا يجب بإتلاف الخمر والخنزير الذي ليسا بمتقومين مال م: (متقوم وهو الضمان) ش: أي ما يضمن به.
م: (ولنا: أن التقوم باق في حقهم) ش: دل على أن ذلك ما رواه أبو يوسف في " كتاب الخراج " تصنيفه في فصل من تجب عليه الجزية، وقال حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: سمعت ابن سويد بن غفلة يقول: حضر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واجتمع إليه عماله فقال: يا هؤلاء إنه بلغني أنكم تأخذون في الجزية الميتة والخنزير، فقال بلال: أجل إنهم يفعلون ذلك، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلا تفعلوا ولكن ولوا أربابها بيعها ثم خذوا الثمن منهم.
وجه الاستدلال بذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذن لهم في بيعها وثمن العقد عليها بيعا وبدلها ثمنا، والثمن لا يجب إلا في عقد صحيح، فدل على التقوم. وهذا؛ لأن قضايا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كانت تخفى على الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يثبت التكبر منهم على ذلك، فحل محل الإجماع.
م: (إذ الخمر لهم كالخل لنا، والخنزير لهم كالشاة لنا، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون) ش: يعني لا نجادلهم على الترك.
فإن قلت: ما الأمر بتركهم وما يدينون؟.
قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتركوهم وما يدينون» . والخمر كانت متقومة في شريعة من قبلنا وفي صدر شريعتنا، والمزيد هو قَوْله تَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] (سورة المائدة: الآية 90) . وجد في حقنا بدليل السياق والسباق، فبقي في حق من لم يدخل تحت الخطاب على ما كان من قبل.
فإن قلت: روي في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لعن

(11/253)


والسيف موضوع، فيتعذر الإلزام، وإذا بقي التقوم فقد وجد إتلاف مال مملوك متقوم فيضمنه بخلاف الميتة والدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخمر وحرم ثمنها، ولعن الخنزير وحرم ثمنه» .
قلت: نحن نقول بموجب ذلك وهما حرام علينا، ولكنهم أقروا على ذلك فكان حلالا لهم.
فإن قلت: الخمر نجس العين فلا يكون مالا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمر لعينها» ، ولا يضمن بالإتلاف.
قلت: حرام لعينها علينا لا عليهم؛ لأن الخطاب في الآية خاص.
فإن قلت: قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] (سورة المائدة: الآية 49) ، أي بين أهل الذمة وبما أنزل الله حرمة الخمر والخنزير فيجب الحكم عليهم بحرمتها.
قلت: المراد منه ما أنزل الله مطلقا لا ما أنزلت على المؤمنين خاصة كنكاح المشركات.
فإن قيل: ينتقض هذا بما إذا مات المجوسي عن ابنتين إحداهما امرأته فإنها لا تستحق بالزوجية شيئا من الميراث مع اعتقادهم صحة ذلك النكاح، وصحة النكاح توجب توريث المرأة من زوجها في جميع الأديان إذا لم يوجد المانع، ولم يجود في ديانتهم لِمَ لَمْ نتركهم وما يدينون؟.
أجيب: بأنا لا نسلم أنهم يعتقدون التوريث بأنكحة المحارم فلا بد له من بيان.
م: (والسيف موضوع) ش: يعني إبطال ما يزعمونه من المالية إنما يكون بالسيف، والسيف موضع أي متروك في حقهم لعقد الذمة م: (فيتعذر الإلزام) ش: على ترك الندين، فهذا يقتضي بقاء التقوم م: (وإذا بقي التقوم فقد وجد إتلاف مال مملوك متقوم فيضمنه) ش: لا؛ لأن الضمان موجب إتلاف المال المتقوم.
م: (بخلاف الميتة والدم) ش: هذا جواب المقيس عليه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن لم

(11/254)


لأن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولهما، إلا أنه تجب قيمة الخمر وإن كان من ذوات الأمثال؛ لأن المسلم ممنوع عن تمليكه لكونه إعزازا له، بخلاف ما إذا جرت المبايعة بين الذميين؛ لأن الذمي غير ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذكره في الكتاب م: (لأن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولهما) ش: أي تمول الميتة والدم، قيل المراد من الميتة الذي مات حتف أنفه، أما الذي خنقوه أو ضربوه حتى مات كما يفعله المجوس فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمنها المسلم بالغصب والإتلاف.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن كالميتة م: (إلا أنه تجب قيمة الخمر، وإن كان من ذوات الأمثال) ش: أي لا أن الشأن وجوب قيمة الخمر لا مثلها، وإنما ذكر الضمير في قوله وإن كان بتأويل الشأن أو المذكور م: (لأن المسلم ممنوع عن تمليكه) ش: أي تمليك الخمر م: (لكونه إعزازا له) ش: أي لكون التمليك إعزازا للخمر. وفي بعض النسخ إعزازا لها بتأنيث الضمير على الأصل، وأما التذكير فعلى التأويل الذي ذكرناه.
فإن قلت: ما الفرق بين ما إذا أتلف ذمي خمر ذمي ثم أسلم حيث لا يجب عليه شيء لا القيمة، ولا الخمر عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، والرواية في " المبسوط ": والإسلام المقارن لا يمنع وجوب القيمة فالطارئ أولى.
قلت: الفرق أنه حين أتلفه لم يكن إتلافه سببا لوجوب القيمة؛ لأنه لا يوجد بعد ذلك سبب الوجوب. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه قيمة الخمر؛ لأنه لا يمكن إيجاب الخمر؛ لأنه مسلم، ولا يمكن إبراؤه عن الضمان؛ لأن المتلف عليه ذمي، والخمر في حقه مال متقوم، وقد أمكن إيجاب القيمة فيجب. أما في الخنزير يبقى الضمان بإسلامهما أو إسلام أحدهما بالاتفاق؛ لأن الواجب هو القيمة، والإسلام لا ينافيها.
م: (بخلاف ما إذا جرت المبايعة بين الذميين) ش: هذا متصل بقوله: لأن المسلم ممنوع عن تمليكه، يعني أن المسلم لما كان ممنوعا عن تمليك الخمر وجب عليه قيمة الخمر إذا أتلفها، بخلاف ما إذا باعها ذمي من ذمي م: (لأن الذمي غير ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها) ش: ولذلك إذا أتلف ذمي خمر ذمي يجب عليه مثلها.
وقال القدوري في " شرحه لمختصر الكرخي " فيمن أتلف صليبا؛ لأنا أقررناهم على هذا الصنع، فصار كالخمر التي هم مقرون عليها، وقد قال أصحابنا: إن الذمي يمنع من كل شيء يمنع منه المسلم إلا شرب الخمر، وأكل الخنزير؛ لأنا استثنيناه بالأمان، ولو عتوا وضربوا بالعبد إن منعناهم من ذلك كله كما يمنع المسلمين؛ لأنه لم يستثن، كذا ذكره القدوري في " شرحه ".

(11/255)


وهذا خلاف الربا؛ لأنه مستثنى عن عقودهم، وبخلاف العبد المرتد يكون للذمي؛ لأنا ما ضمنا لهم ترك التعرض له لما فيه من الاستخفاف بالدين، وبخلاف متروك التسمية عامدا إذا كان لمن يبيحه؛ لأن ولاية الحاجة ثابتة
وبخلاف متروك التسمية عامدا إذا كان لمن يبيحه لأن ولاية الحاجة ثابتة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا بخلاف الربا) ش: أي عدم التعرض في مبايعتهم بخلاف الربا، فإنه يتعرض لهم في إبطال عقود الربا، حتى لو باعا درهما بدرهمين يسترد الدرهم الزائد. وقال الأترازي: أي هذا الذي ذكرناه من كون الذمي غير ممنوع عن تمليك الخمر؛ بخلاف الربا، فإنه ممنوع عنه.
وقيل: الأولى أن يتعلق بقوله نحن أمرنا أن نتركهم وما يدينون إلى آخره م: (لأنه مستثنى عن عقودهم) ش: أي لأن الربا مستثنى عن عقود أهل الذمة؛ لأنه لم يرد عليه عقد الأمان. ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى في سورة النساء: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} [النساء: 161]
م: (وبخلاف العبد المرتد يكون للذمي) ش: عطف على قوله: وهذا بخلاف الربا، يعني الذمي إذا اشترى عبدا مسلما ثم ارتد العبد فإنه يحبس حتى يتوب أو يقتل، ولا تجب قيمته للذمي. الحاصل أنا لا نقره على تموله وتملكه، بل نأخذه من يده فتقبله وإن كانت أمة نحبسها أبدا ونستتيبها [ ... ] قبل وهو أيضا مقيس عليه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ووجه الجواب ما أشار إليه بقوله م: (لأنا ما ضمنا لهم ترك التعرض له) ش: أي للعبد المرتد م: (لما فيه) ش: أي في ترك التعرض م: (من الاستخفاف بالدين) ش: بالترك والإعراض عنه.
فإن قلت: يشكل على هذا التعليل ما لو أتلف صليب نصراني حيث يضمن قيمته صليبا، وفي ترك التعرض استخفاف بالدين.
قلت: ذاك كفر أصلي والنصراني مقر على ذلك بخلاف الارتداد.

م: (وبخلاف متروك التسمية عامدا إذا كان لمن يبيحه) ش: يتعلق بقوله: أمرنا أن نتركهم وما يدينون يعني كما أمرنا أن نترك أهل الذمة على ما اعتقدوه من الباطل، وجب علينا أن نترك أهل الاجتهاد على ما اعتقدوه مع احتمال الصحة فيه بالطريق الأولى، وحينئذ يجب أن نقول بوجوب الضمان على ما أتلف متروك التسمية عامدا؛ لأنه مال متقوم في اعتقاد الشافعي ومن تابعه ووجه الجواب ما قاله بقوله م: (لأن ولاية الحاجة ثابتة) ش: أي ولاية الإلزام المحاجة ثابتة وقد ثبت بالنص حرمته، فلا يعتبر في إيجاب الضمان.
ولقائل أن يقول لا نسلم أن ولاية المحاجة ثابتة؛ لأن الدليل الدال على ترك المحاجة مع أهل الذمة دال على تركها مع المجتهدين بالطريق الأولى على ما قررتم. والجواب أن الدليل هو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتركوهم وما يدينون» ، وكان ذلك بعقد الذمة وهو متفق عليه في حق المجتهدين.

(11/256)


قال: فإن غصب من مسلم خمرا فخللها أو جلد ميتة فدبغه فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه، والمراد بالفصل الأول: إذا خللها بالنقل من الشمس إلى الظل ومنه إلى الشمس، وبالفصل الثاني: إذا دبغه بما له قيمة كالقرظ والعفص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[غصب من مسلم خمرا فخللها]
م: (قال: فإن غصب من مسلم خمرا فخللها) ش: أي قال في " الجامع الصغير ". ووقع في عامة النسخ وإن غصب بالواو وهذا أوجه، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل مسلم يغصب المسلم الخمر أو جلد الميتة فيتخلل الخمر ويدبغ جلد الميتة، قال لصاحب الخمر: أن يأخذ الخل بغير شيء.
وأما جلد الميتة فله أن يأخذه ويرد على الغاصب ما زاد على الدباغ في الجلد، فإن كان الغاصب استهلكهما جميعا ضمن الخل ولم يضمن الجلد المدبوغ.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يضمن قيمة الجلد مدبوغا أو يعطيه صاحب الجلد ما زاد الدباغ فيه بحساب ذلك، انتهى.
م: (أو جلد ميتة فدبغه) ش: أي أو غصب جلد ميتة فدبغه م: (فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه) ش: قال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي
: وهذا إذا أخذ الميتة من منزل صاحبها فدبغ جلدها، فأما إذا لقي صاحب الميتة الميتة في الطريق فأخذ رجل جلدها فدبغه فقد قالوا: إنه لا سبيل له على الجلد؛ لأن إلقاءها إباحة لأخذها فلا يثبت له الرجوع كإلقاء النوى. وعن أبي يوسف أن له أن يأخذه في هذه الصورة أيضا.
م: (والمراد بالفصل الأول) ش: يعني المراد بجوارها الفصل الأول. وفي " الجامع الصغير " وهو قوله فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير ثمن م: (إذا خللها بالنقل من الشمس إلى الظل ومنه) ش: أي ومن الظل م: (إلى الشمس) ش: وعند الشافعي وأحمد رحمهما الله لا يصير الخمر طاهرا بالتخليل فلا يجب ردها بل يجب إراقتها كما قبل التخليل.
أما لو تخللت بنفسها يجب ردها بالإجماع ويضمن متلفها بالإجماع. وفي جلد الميتة لو دبغه يلزم رده عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قول لا يلزمه رده وبه قال أحمد في وجه.
م: (بالفصل الثاني) ش: وهو قوله ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه م: (إذا دبغه بما له قيمة كالقرظ والعفص) ش: بفتح القاف والراء بعدها ظاء معجمة وهو ورق السلم يدبغ، ومن أديم مقروظ، وبالفارسية بزغيح.

(11/257)


ونحو ذلك. والفرق أن هذا التخليل تطهير له بمنزلة غسل الثوب النجس فيبقى على ملكه، إذ لا تثبت المالية به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " دستور اللغة ": القرظ اسم لشجر كالجوز عظيما إذا قدم أسود ويدبغ بثمره وورقه. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في كتاب السيئات: القرظة واحد القرظة وبها سمي الرجل قرظة وفيه نظر، والقرظ شجر عظام لها شوك غلاظ أمثال شجر الجوز وخشبه صلب يفل الحديد، وإذا هو قدم كان أسود كالأبنوس وهو قبل ذلك أبيض وورقه أصفر من ورق التفاح وله حيلة مثل قرون اللوبياء، وله حب يوضع في الموزاير ويدبغ بورقه وثمره كما يدبغ بالعفص، ومنابته القيعان وما كان من القرظ بأرض مصر فهو الذي يسمى الضبط ومنه أجود حطبهم وهو زكي الوقود قليل الرماد وهو بأسوان من أرض مصر عياض م: (ونحو ذلك) ش: كالشث والعفص.
م: (والفرق) ش: بين المسألتين م: (أن هذا التخليل تطهير له) ش: أي للخمر م: (بمنزلة غسل الثوب النجس) ش: يعني أنه أزال عنه صفة النجاسة والخمرية من غير أن يقام به شيء من ملكه، فكان كما إذا غصب ثوبا نجسا فغسله يكون لمالكه كذا هذا. وذلك لأن الغسل لم يزد في ذات الثوب شيئا، وإنما زال به النجاسة فلا يخرج بذلك عن ملك مالكه.
فإن قلت: الثوب ليس بنجس العين، والخمر نجس العين لكونها حراما بعينها قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمر لعينها» .
قلت: جواهر الخمر هي الجواهر التي كانت عصيرا، فلما اعترضت عليها صفة الخمرية صيرتها نجسة، فإذا زالت تلك الصبغة زالت النجاسة كالثوب، ولا يلزم بتبدله تبدل العين، فاعتراض الصفة عليها كما يعترض الصفات على الإنسان من غير تبدل الذات، وتأويل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمر لعينها» أي عينها حرام قليلها وكثيرها حرام، ولهذا قال بعد ذلك: «والسكر من كل شراب» .
م: (فيبقى على ملكه) ش: أي إذا كان كذلك فيبقى الخل على ملك صاحبه م: (إذ لا تثبت المالية به) ش: أي بالتخليل، قال فخر الإسلام البزدوي وغيره في " شرح الجامع الصغير "، قال مشايخنا: أما التخليل فعلى ثلاثة أوجه:
إما أن يخللها بالنقل من الظل إلى الشمس ومن الشمس إلى الظل، أو بإلقاء الملح فيها، أو بصب الخل فيها، ففي الوجه الأول الخل لصاحبها ولا شيء عليه؛ لأن الخمر نجس العين كالبول، إلا أن نجاستها قابلة للزوال بخلاف البول، فصار التخليل بمنزلة الغسل فلا يضاف

(11/258)


وبهذا الدباغ اتصل بالجلد مال متقوم للغاصب كالصبغ في الثوب فكان بمنزلته، فلهذا يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ الجلد، ويعطي ما زاد الدباغ فيه، وبيانه أن ينظر إلى قيمته ذكيا غير مدبوغ، وإلى قيمته مدبوغا فيضمن فضل ما بينهما، وللغاصب أن يحبسه حتى يستوفي حقه كحق الحبس في المبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى التقوم والمالية، بل كان ذلك بمنزلة إظهار التقوم والمالية، فلأجل ذلك صار صاحب الخمر أحق بالخل، والقسمان الآخران يأتيان في موضعها إن شاء الله تعالى.
م: (وبهذا الدباغ) ش: المذكور وهو الدباغ بما له قيمة كالقرض م: (اتصل بالجلد مال متقوم للغاصب كالصبغ في الثوب فكان بمنزلته) ش: الثوب الذي غصبه الغاصب حيث يأخذ الجلد ويعطي ما زاد الدباغ فيه كما في الثوب حيث يأخذه مالكه ويعطي ما زاد الصبغ فيه.
فإن أراد المالك أن يترك الجلد على الغاصب ويضمنه قيمة الجلد فليس له ذلك لأنه غصبه ولا قيمة له، بخلاف مسألة الثوب فإن هناك لصاحب الثوب أن يضمنه ويترك الثوب عليه؛ لأن الثوب قبل الصبغ كان مالا متقوما، ولا كذلك الجلد، حتى لو غصبه جلدا ذكيا غير مدبوغ كان لصاحب الجلد أن يضمنه.
قال فخر الدين قاضي خان: من المشايخ من قال هذا قول أبي حنيفة؛ لأنه لما تركه فقد عجز عن رده، فصار كعجزه بالاستهلاك. فأما على قولهما له أن يترك الجلد على الغاصب ويضمنه القيمة أيضا.
م: (فلهذا) ش: أي فلأجل أن التخليل لا يثبت المالية وبالدباغ يتصل به مال متقوم م: (يأخذ الخل) ش: أي صاحبه م: (بغير شيء ويأخذ الجلد) ش: أي صاحبه م: (ويعطي) ش: على بناء الفاعل، وأن يعطي صاحب الجلد م: (ما زاد الدباغ فيه) ش: أي في الجلد.
م: (وبيانه) ش: أي بيان إعطاء ما زاد الدباغ فيه م: (أن) ش: أي الشأن م: (ينظر إلى قيمته ذكيا غير مدبوغ) ش: أي حال كونه ذكيا غير مدبوغ؛ لأنه لا يكون قيمة لجلد الميتة فيقوم ذكيا كذلك م: (وإلى قيمته مدبوغا) ش: أي وينظر إلى قيمته حال كونه مدبوغا م: (فيضمن فضل ما بينهما) ش: أي فضل ما بين القيمتين مثلا إذا كانت قيمته ذكيا غير مدبوغ عشرة دراهم ومدبوغا اثني عشر درهما يضمن درهمين، وعلى هذا وقيل يضمنه قيمته جلدا ذكيا غير مدبوغ.
قال فخر الإسلام: وذلك مذكور في بعض نسخ " المبسوط " أنه ملحق بالذكي.
م: (وللغاصب أن يحبسه حتى يستوفي حقه كحق الحبس في المبيع) ش: يعني كما أن البائع له

(11/259)


قال: وإن استهلكهما ضمن الخل ولم يضمن الجلد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يضمن الجلد مدبوغا ويعطي ما زاد الدباغ فيه. ولو هلك في يده لا يضمنه بالإجماع. أما الخل فلأنه لما بقي على ملك مالكه وهو مال متقوم ضمنه بالإتلاف. ويجب مثله لأن الخل من ذوات الأمثال. وأما الجلد فلهما: أنه باق على ملك المالك حتى كان له أن يأخذه، وهو مال متقوم، فيضمنه مدبوغا بالاستهلاك، ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق حبس المبيع لأجل استيفاء الثمن.
م: (قال: وإن استهلكهما) ش: أي قال في " الجامع الصغير " وإن استهلك الغاصب الخل والجلد م: (ضمن الخل ولم يضمن الجلد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يضمن الجلد مدبوغا ويعطي) ش: على صيغة المجهول، أي يعطي الذي دبغه ثم استهلكه م: (ما زاد الدباغ فيه، ولو هلك في يده لا يضمنه بالإجماع) ش: أي في يد الغاصب لأنه لم يهلك بفعله ولم يكن منه جناية، كذا قال الفقيه أبو الليث، وإنما لم يذكر له دليلا لأنه مجمع عليه ودليله الإجماع.
وعند الثلاثة: لو تخللت الخمر بنفسها وهلكت في يد الغاصب يضمن، أما إذا تخلل بفعل الغاصب لا يضمن، وفي الجلد المدبوغ على قول لا يلزمه رده لا يضمن، وعلى قول يلزمه رده يضمن.
م: (أما الخل) ش: دليل صورة الاستهلاك والمراد منه الوجه الأول من وجوه التخلل وهو ما إذا خللها من غير خلط م: (فلأنه لما بقي على ملك مالكه وهو مال متقوم ضمنه بالإتلاف، ويجب مثله لأن الخل من ذوات الأمثال) ش: لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " ما إذا يضمن.
قالوا في شروحه: فالظاهر أنه يضمن المثل لأنه مثلي إلا أن يكون من نوع لا يوجد له مثل في تلك المواضع، فيجب قيمته. ونص الكرخي في "مختصره" على وجوب المثل.
م: (وأما الجلد فلهما) ش: أي فلأبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أنه) ش: أي الجلد م: (باق على ملك المالك حتى كان له أن يأخذه، وهو مال متقوم) ش: أما بقاؤه على ملكه فلأن الغاصب لم يحدث فيه إلا مجرد الصبغة وبذلك لا يزول ملك المغصوب، كما لو كان ثوبا فقصره.
وأما كونه متقوما فظاهر م: (فيضمنه مدبوغا بالاستهلاك) ش: أي إن كان كذلك فيضمن حال كونه مدبوغا بالاستهلاك م: (ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه) ش: أي يعطي المالك الغاصب ما زاد الدباغ فيه.

(11/260)


كما إذا غصب ثوبا فصبغه ثم استهلك يضمنه، ويعطيه المالك ما زاد الصبغ فيه، ولأنه واجب الرد فإذا فوته عليه خلفه قيمته كما في المستعار وبهذا فارق الهلاك بنفسه. وقولهما: يعطي ما زاد الدباغ فيه محمول على اختلاف الجنس. أما عند اتحاده فيطرح عنه ذلك القدر ويؤخذ منه الباقي لعدم الفائدة في الآخذ منه، ثم في الرد عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال فخر الإسلام وغيره في شروح " الجامع الصغير ": هذا إنما يستقيم إذا كان الجنس مختلفا، فأما إذا كان الجنس واحدا فلا فائدة أن يضمن الغاصب خمسة عشر درهما ويعطيه خمسا، وإنما معنى ذلك بيان قيمة مال المغصوب منه؛ لأنه لم يكن ذكيا متقوما قبل الدباغ ليعتبر ذلك، فإذا عرفت قيمته مدبوغا نظر إلى قيمته لو كان ذكيا غير مدبوغ، فيطرح ذلك من الغاصب ويعطي الباقي، ويجيء هذا عن قريب في الكتاب.

[غصب ثوبا فصبغه ثم استهلك]
م: (كما إذا غصب ثوبا فصبغه ثم استهلك يضمنه، ويعطيه المالك ما زاد الصبغ فيه) ش: أراد في مسألة غصب الجلد واستهلاكه بعد الدباغة كمسألة غصب الثوب واستهلاكه بعد الصبغ، حيث يضمن في كل منهما ويعطي ما زاد الدباغ والصبغ.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر لهما، أي ولأن الجلد م: (واجب الرد) ش: ولو كان قائما م: (فإذا فوته عليه) ش: أي فإذا فوت الرد على المالك م: (خلفه قيمته) ش: أي خلف الجلد قيمته، يعني قامت مقامه، وهو من قولهم خلف فلان فلانا، يخلفه بالضم إذا كان خليفته م: (كما في المستعار) ش: يعني أن المستعار واجب الرد، فإذا فوت المستعير الرد باستهلاكه تجب عليه القيمة، فإذا فات فلا، فكذا هنا الجلد واجب الرد.
فإذا فوت وجب عليه قيمته. وإذا هلك فلا م: (وبهذا فارق الهلاك بنفسه) ش: أي ربما ذكرنا فارق الهلاك بنفسه، أي ربما ذكرنا فارق الاستهلاك الهلاك بنفسه حيث لا يضمن في الهلاك؛ لأنه لم يفوت شيئا. وكذا الوديعة بشيء لا قيمة له يضمنه بالاستهلاك دون الهلاك.
م: (وقولهما: يعطي) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يعطي م: (ما زاد الدباغ فيه محمول على اختلاف الجنس) ش: بأن قوم القاضي الجلد بالدراهم والضيعة بالدنانير صار الجنس متخلفا فيضمن المالك الغاصب القيمة، ويأخذ ما زاد الدباغ.
أما إذا قومهما بالدراهم أو بالدنانير وهو معنى قوله م: (أما عند اتحاده) ش: أي اتحاد الجنس م: (فيطرح عنه ذلك القدر ويؤخذ منه الباقي لعدم الفائدة في الأخذ منه، ثم الرد عليه) ش: قال فخر الإسلام: فلا فائدة، أي يضمن الغاصب خمسة عشر درهما ويعطيه خمسة كما ذكرناه عن قريب.

(11/261)


وله: أن التقوم حصل بصنيع الغاصب وصنعته متقومة لاستعماله مالا متقوما فيه، ولهذا كان له أن يحبسه حتى يستوفي ما زاد الدباغ فيه، فكان حقا له، والجلد تبع له في حق التقوم. ثم الأصل وهو الصنعة غير مضمون عليه، فكذا التابع كما إذا هلك من غير صنعه. بخلاف وجود الرد حال قيامه؛ لأنه يتبع الملك والجلد غير تابع للصنعة في حق الملك لثبوته قبلها، وإن لم يكن متقوما، بخلاف الذكي والثوب؛ لأن التقوم فيهما كان ثابتا قبل الدبغ والصبغ، فلم يكن تابعا للصنعة. ولو كان قائما فأراد المالك أن يتركه على الغاصب في هذا الوجه ويضمنه قيمته، قيل: ليس له ذلك؛ لأن الجلد لا قيمة له بخلاف صبغ الثوب؛ لأن له قيمة، وقيل: ليس له ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما: له ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن التقوم حصل بصنيع الغاصب) ش: أراد أنا لا نسلم أن الجلد مال متقوم بنفسه، وإنما حصل بصنيعة الغاصب م: (وصنعته متقومة لاستعماله مالا متقوما فيه، ولهذا كان له أن يحبسه حتى يستوفي ما زاد الدباغ فيه، فكان) ش: أي التقوم م: (حقا له) ش: أي للغاصب م: (والجلد تبع له) ش: أي بصنيعة الغاصب، وفي بعض النسخ والجلد تبعا لها، أي وكان الجلد تبعا لها م: (في حق التقوم) ش: لأنه ما كان متقوما قبل الصنعة فيكون صنعة الغاصب أصلا؛ لأن الأصل ما يبتنى عليه.
م: (ثم الأصل وهو الصنعة غير مضمون عليه فكذا التابع كما إذا هلك من غير صنعه) ش: فإن عدم الضمان هناك باعتبارات الأصل وهو الصنعة غير مضمون، فكذلك الجلد وإلا فالغصب موجب للضمان في الهلاك والاستهلاك.
م: (بخلاف وجوب الرد) ش: جواب عن قولهما، ولأنه واجب الرد، وتقريره أن وجوب الرد م: (حال قيامه؛ لأنه) ش: أي الرد م: (يتبع الملك والجلد غير تابع للصنعة في حق الملك لثبوته قبلها وإن لم يكن متقوما) ش: والحاصل أن الضمان يعتمد التقوم، والأصل فيه الصنعة وهي غير مضمونة فكذا ما يتبعها، والرد يعتمد الملك، والجلد فيه الأصل لأنه تابع فوجب رده يتبعه الصنعة.
م: (بخلاف الذكي والثوب) ش: جواب عن قولهما كما إذا غصب ثوبا، وأقحم الذكي استظهارا م: (لأن التقوم فيهما) ش: أي في الذكي والثوب م: (كان ثابتا قبل الدبغ والصبغ، فلم يكن تابعا للصنعة) ش: والتقوم يوجب الضمان م: (ولو كان قائما) ش: أي الجلد المدبوغ م: (فأراد المالك أن يتركه على الغاصب في هذا الوجه) ش: أي الذي كان فيه بشيء متقوم.
م: (ويضمنه قيمته، قيل: ليس له ذلك) ش: بلا خلاف م: (لأن الجلد لا قيمة له، بخلاف صبغ الثوب؛ لأن له قيمة، وقيل: ليس له ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما: له ذلك) ش:

(11/262)


لأنه إذا تركه عليه وضمنه قيمته عجز الغاصب عن رده، فصار كالاستهلاك، وهو على هذا الخلاف على ما بيناه، ثم قيل: يضمنه قيمة جلد مدبوغ ويعطيه ما زاد الدباغ فيه كما في الاستهلاك، وقيل يضمنه قيمة جلد ذكي غير مدبوغ.
ولو دبغه بما لا قيمة له كالتراب والشمس فهو لمالكه بلا شيء؛ لأنه بمنزلة غسل الثوب. ولو استهلكه الغاصب يضمن قيمته مدبوغا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي الترك على الغاصب وتضمين قيمته م: (لأنه) ش: دليل أن في المسألة خلاف إلا دليل المتخلفين.
وقال الأترازي: دليل لقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقولهما جميعا، أي لأن المالك م: (إذا تركه عليه) ش: أي إذا ترك الجلد على الغاصب م: (وضمنه قيمته عجز الغاصب عن رده فصار كالاستهلاك) ش: يعني لما أبى المالك أن يأخذه مدبوغا وقد عجز عن رده فالتحق هذا بالدباغ بالأدمة استهلاك، والحكم فيه ما ذكرناه.
م: (وهو) ش: أي الاستهلاك م: (على هذا الخلاف) ش: الذي تقدم ذكره أن عنده لا يضمن وعندهما يضمن م: (على ما بيناه) ش: أشار به إلى ما ذكر من الدليل لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولصاحبيه في استهلاك الجلد قبيل هذا.
قيل: فيه نظر؛ لأن العجز في الاستهلاك من جهة الغاصب وفيما تركه وضمنه القيمة من جهة المالك ولا يلزم من جواز التضمين في صورة تعدى فيها الغاصب جوازه فيما ليس كذلك.
م: (ثم قيل) ش: هذا إشارة إلى بيان الاختلاف في كيفية الضمان على قولهما، فقيل م: (يضمن قيمة جلد مدبوغ ويعطيه ما زاد الدباغ فيه كما في الاستهلاك) ش: أي في صورة الاستهلاك م: (وقيل يضمنه قيمة جلد) ش: أي يضمنه قيمة جلد م: (ذكي غير مدبوغ) ش: أي طاهر غير مدبوغ لأن صنعة الدباغ حصلت بفعله فلا يوجب الضمان عليه، ولكن من ضرورته زوال صفة النجاسة، وذلك غير حاصل بفعله، بل يتميز الجلد من الدسومات النجسة.

م: (ولو دبغه بما لا قيمة له كالتراب والشمس فهو لمالكه بلا شيء؛ لأنه بمنزلة غسل الثوب) ش: لأنه ليس فيه مال متقوم للغاصب، فكانت الدباغة إظهارا للمالية والتقوم، فصار كغسل الثوب الدنس.
م: (ولو استهلكه الغاصب) ش: أي ولو استهلك الغاصب الجلد الذي دبغه بشيء لا قيمة له م: (يضمن قيمته مدبوغا) ش: أي بالإجماع، نص عليه في " الذخيرة " لأنه صار مالا على ملك صاحبه، ولا حق للغاصب فيه فكانت المالية والتقوم جميعا حقا للمالك فيضمن

(11/263)


وقيل: طاهرا غير مدبوغ؛ لأن وصف الدباغة هو الذي حصله فلا يضمنه. وجه الأول - وعليه الأكثرون -: أن صفة الدباغة تابعة للجلد، فلا تفرد عنه، وإذا صار الأصل مضمونا عليه فكذا صفته.
ولو خلل الخمر بإلقاء الملح فيه قالوا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صار ملكا للغاصب ولا شيء له عليه، وعندهما: أخذه المالك، وأعطى ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد، ومعناه هاهنا: أن يعطي مثل وزن الملح من الخل، وإن أراد المالك تركه عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالاستهلاك م: (وقيل: طاهرا غير مدبوغ) ش: أي قيل يضمن قيمته حال كونه طاهرا غير مدبوغ م: (لأن وصف الدباغة هو الذي حصله فلا يضمنه) ش: لكن من ضرورته زوال صفة النجاسة، وذلك غير حاصل بفعله، بل يتميز الجلد من الدسومات النجسة، قالوا عند أبي حنيفة صار ملكا للغاصب ولا شيء عليه؛ لأنه استهلاك فيوجب الملك لكن بغير شيء لكون المستهلك غير متقوم.
م: (وجه الأول) ش: وهو قول من يقول يضمنه قيمته مدبوغا م: (وعليه الأكثرون) ش: أي على الوجه الأول م: (أن صفة الدباغة تابعة للجلد فلا تفرد عنه) ش: أي عن الجلد م: (وإذا صار الأصل مضمونا عليه فكذا صفته) ش: تكون مضمونة تابعة للأصل.
وقال القدوري: ولو أن الغاصب جعل هذا الجلد أديما أو زقا أو دفترا أو جوابا أو فروا لم يكن للمغصوب منه على ذلك سبيل؛ لأنه تبدل الاسم والمعنى بصنع الغاصب، فكان هو أولى، فإن كان الجلد ذكيا فعليه قيمته يوم الغصب، وإن كان ميتة فلا شيء له كذا في " الإيضاح " و" الذخيرة ".

[غصب خمرا فخللها بإلقاء الملح فيها]
م: (ولو خلل الخمر بإلقاء الملح فيه قالوا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صار ملكا للغاصب ولا شيء عليه) ش: لأنه استهلاك إلا أن الخمر لم تكن متقومة والملح كان متقوما فيرجح جانب الغصب فيكون له بغير شيء.
وقوله: قالوا، أي أكثر المشايخ وهذا يشير إلى أن ثمة قولا آخر وهو ما قيل أن هذا والأول سواء؛ لأن الملح صار مستهلكا فيها فلا يعتبر، وهذا هو الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة التي ذكرناها.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أخذه المالك وأعطى ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد) ش: وصبغ الثوب م: (ومعناه هاهنا) ش: أي معنى قوله وأعطى ما زاد الملح في مسألة تخليل الخمر بإلقاء الملح م: (أن يعطي) ش: أي صاحب الخل م: (مثل وزن الملح من الخل وإن أراد المالك تركه عليه) ش: أي على الغاصب.

(11/264)


وتضمينه فهو على ما قيل. وقيل في دبغ الجلد: ولو استهلكها لا يضمنها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، كما في دبغ الجلد. ولو خللها بإلقاء الخل فيها، فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إن صار خلا من ساعته يصير ملكا للغاصب، ولا شيء عليه؛ لأنه استهلاك له وهو غير متقوم،
وإن لم تصر خلا إلا بعد زمان، بأن كان الملقى فيه خلا قليلا، فهو بينهما على قدر كيلهما؛ لأنه خلط الخل بالخل في التقدير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وتضمينه فهو على ما قيل. وقيل في دبغ الجلد) ش: أشار بتكرير قيل إلى القولين المذكورين في دبغ الجلد، يعني قيل ليس له ذلك بالاتفاق، وقيل ليس له ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
الحاصل أنه يعتبر هذه المسألة بمسألة الدبغ إذا أراد المالك تركه على الغاصب وتضمينه وفيه قولان، في أحدهما قال يضمنه قيمة جلد مدبوغ.
وفي الثاني قال يضمنه قيمة جلد مذكى غير مدبوغ، وهاهنا كذلك إذا تركه عليه في قول يضمنه قيمة الخل ويعطيه ما زاد الملح فيه، وفي آخر يضمنه قيمة مثله عصيرا، وهذه التفريعات كلها على قولهما في الصورتين لا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويحتمل أن يكون القولان ما قيل قبل هذين القولين.
م: (ولو استهلكها لا يضمنها) ش: وفي النسخ الكثيرة ولو استهلكه لا يضمنه، أي ولو استهلك الخل الذي جعل خلا بإلقاء الملح فيه م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خلافا لهما كما في دبغ الجلد) ش: وقد مر بيانه.
ومن المشايخ من جعل الجواب في الملح على التفصيل، فإن كان يسيرا لا قيمة له فحكمه حكم التخليل بغير شيء كالشمس، وإن ألقى فيها ملحا كثيرا يأخذها المالك عندهم جميعا ويعطي الغاصب ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد وصبغ الثوب، كذا ذكر قاضي خان في "شرحه ".
م: (ولو خللها بإلقاء الخل فيها) ش: أي ولو خلل الخمر التي غصبها بإلقاء خل فيها، وهذا هو القسم الثالث من الأوجه الثلاثة التي ذكرناها م: (فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إن صار خلا من ساعته يصير ملكا للغاصب ولا شيء عليه لأنه استهلاك له) ش: فيصير ملكا للمستهلك م: (وهو غير متقوم) ش: أي والحال أنه غير متقوم.

م: (وإن لم تصر خلا إلا بعد زمان، بأن كان الخل الملقى فيه خلا قليلا فهو بينهما) ش: أي بين الغاصب والمالك م: (على قدر كيلهما؛ لأنه خلط الخل بالخل في التقدير) ش: يعني أنه وإن كان

(11/265)


وهو على أصله ليس باستهلاك وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو للغاصب في الوجهين، ولا شيء عليه لأن نفس الخلط استهلاك عنده، ولا ضمان في الاستهلاك؛ لأنه أتلف ملك نفسه. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن بالاستهلاك في الوجه الأول لما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلط الخل بالخمر وهما جنسان مختلفان، وخلط الجنسين المختلفين استهلاك لكنه في التقدير كأنه خلط الخل بالخل نظرا إلى المال.
وهذا لأن في الخمر صلاحية أن يصير خلا وهي في حق المسلمين لا يصلح إلا لهذا، فإن تخللت بنفسها وطبعها لا ينقطع حق المالك عنها؛ لأنه لم يعارضها شيء، وإن تخللت بإلقاء شيء فيها وإن تخللت من ساعته يصير ملكا للخالط لأنه صار تبعا لملكه، فأضيف تخللها إلى ذلك. وإن تخللت بعد زمان يضاف تخللها إلى طبعها عملا بالدليلين فصار كأنه خلط الخل بالخل في التقدير.
م: (وهو على أصله ليس باستهلاك) ش: أي خلط الخل بالخل على أصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس باستهلاك إذ خلط الجنس ليس باستهلاك وهو قول أبي يوسف أيضا، فيكون الخل مشتركا بينهما لأنه صار خالطا خل نفسه بخل غيره، فإذا أتلفه فقد أتلف خل نفسه وخل غيره، كذا في " جامع أبي اليسر ".
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو للغاصب في الوجهين) ش: يعني فيما إذا صارت خلا من ساعتها، وفيما إذا صارت بعد زمان م: (ولا شيء عليه لأن نفس الخلط استهلاك عنده ولا ضمان في الاستهلاك؛ لأنه أتلف ملك نفسه) ش: أراد به الاستهلاك الحكمي بالخلط، وهذا تقريب لقوله؛ لأن نقص الخلط استهلاك عنده، يعني أن نفس الخلط استهلاك عنده ولا ضمان في هذا الاستهلاك.
ولما لم تكن هذه المقدمة مسلمة، استدل بقوله لأن أتلف ملك نفسه؛ لأنه خلط الخل بالخمر وقد ذكرنا أن الاستهلاك هنا عبارة عن فعل لا يصل الإنسان بسببه إلى عين حقه وإتلاف ملك نفسه لا يوجب الضمان، وأنه وإن أتلف الخمر أيضا لكنها غير متقومة، وإتلاف غير المتقوم لا يوجب الضمان أيضا.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن بالاستهلاك في الوجه الأول) ش: أراد به فيما إذا صارت خلا من ساعته. وقال تاج الشريعة: أراد به الاستهلاك الحقيقي بعد أن صار خلا؛ لأنه بالخلط صار مستهلكا ولا ضمان عليه بهذا الاستهلاك؛ لأنه لاقى محلا غير متقوم، والاستهلاك الحقيقي بعده ورد على ملكه م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأنه استهلاك له

(11/266)


ويضمن في الوجه الثاني؛ لأنه أتلف ملك غيره. وبعض المشايخ أجروا جواب الكتاب على إطلاقه أن للمالك أن يأخذ الخل في الوجوه كلها بغير شيء؛ لأن الملقى فيه يصير مستهلكا في الخمر، فلم يبق متقوما، وقد كثرت فيه أقوال المشايخ، وقد أثبتناها في " كفاية المنتهي ".
قال: ومن كسر لمسلم بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو غير متقوم م: (ويضمن في الوجه الثاني) ش: وهو ما إذا صارت خلا بعد زمان م: (لأنه أتلف ملك غيره) ش: فيضمن.
م: (وبعض المشايخ أجروا جواب الكتاب على إطلاقه) ش: أي جواب " الجامع الصغير " م: (أن للمالك أن يأخذ الخل في الوجوه كلها بغير شيء) ش: أي في الوجوه الثلاثة وهي التخليل بغير شيء، والتخليل بإلقاء الملح والتخليل بصب الخل.
وقالوا في شروح " الجامع الصغير ": إن قوله لصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء محمول على الوجه الأول: وهو التخليل بغير شيء. ومنهم من جعل الخل اليسير إذا صبه فيها كالشمس، فأما إذا خللها بخل كثير له قيمة، وينقطع حق المالك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كما لو خلط خله بخل المغصوب منه، ولا يضمن شيئا؛ لأنه استهلك خمر المسلم، وخمر المسلم لا يضمن بالإتلاف، وعندهما يشتركان.
وقال كثير من المتأخرين: هذا إذا حمضت بعد حين، أما إذا حمضت من ساعتها فهي للغاصب؛ لأنه غلب عليه خله، واستهلك خمر المسلم، وخمر المسلم لا يضمن. وذكر في " المنتقى " رجل صب في خمر إنسان خلا، فصارت كلها خلا وهما نصفان قال: صاحب الخمر يأخذ نصفها خلا، كذا قال فخر الدين قاضي خان.
م: (لأن الملقى فيه يصير مستهلكا في الخمر، فلم يبق متقوما) ش: فلا يضمن؛ لأنه استهلاك غير متقوم م: (وقد كثرت فيه) ش: أي في حكم هذه المسألة م: (أقوال المشايخ، وقد أثبتناها في " كفاية المنتهي ") ش: منها ما قال بعضهم يصير المخلوط مشتركا بينهما بالإجماع؛ لأن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إما ينقطع حق المالك بالاستهلاك إذا ضمنه بالمخلوط كالمكيل والموزون إذا غصبه وخلطه بمثله من ملك نفسه، فأما إذا لم يكن مضمونا عليه لا ينقطع، ووجود الاستهلاك كعدمه فبقي مشتركا كالمكيل إذا اختلط بنفسه بمكيل آخر لغيره، كذا ذكره المحبوبي.

[كسر لمسلم بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا]
م: (قال: ومن كسر لمسلم بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وصورته فيه في باب الضمان محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل يكسر

(11/267)


أو أراق له سكرا أو منصفا فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يضمن، ولا يجوز بيعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للرجل المسلم بربطا، أو طبلا، أو مزمارا، أو دفا قال: هو ضامن وقال: بيع ذلك كله جائز. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ليس في شيء من ذلك ضمان ولا يجوز بيعه، انتهى.
والبربط بفتح الباء الموحدة، قال الليث: وهو معرب لأنه ليس من كلام العرب وهو أعجمي فأعربته العرب حين سمعت به. وقال غيره: أصله بربط بكسر الراء وسكون الطاء شبه بصدر البطاء وبر بالفارسية الصدر.
قلت: البربط هو الذي يسمى شتة وهي مثل العود أيضا. والطبل وهو الذي يضرب وهو مشهور ويجمع على طبول. والمزمار بكسر الميم وهو القصبة التي ينفخ فيها، وقد يتخذ من عود، ويقال لها زمارة أيضا، ومنه يقال زمر الرجل يزمر ويزمر زمرا فهو زمار، ولا يكاد يقال زامر، ويقال للمرأة زامرة، ولا يقال زمارة، وفعلهما الزمارة بالكسر كالكتابة، والدف بفتح الدال، وضمها الذي يضرب به، قاله أبو عبيدة.
م: (أو أراق له سكرا أو منصفا) ش: وهو أيضا من مسائل " الجامع الصغير "، وصورتها فيه قال محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل المسلم يهريق المنصف للمسلم، أو يهريق السكر قال: هو ضامن، وقال: بيعه جائز. وقال يعقوب ومحمد رحمهما الله: ليس في شيء من ذلك ضمان ولا يجوز بيعه، انتهى.
وأصل إهراق أراق بمعنى صب وسكب والهاء فيه زائد وهو بسكون الهاء، وجاء هراق أيضا، أصله أراق أبدلت من الهمزة هاء، والمزرع فيها يهريق بضم الياء، وجاء هريق يهرق على وزن أفعل والمفعول منه مهرق، ومن الأولين مهراق، ومهراق أيضا بالتحريك وهو شاذ، والسكر بفتح السين، والكاف هو الذي من ماء الرطب.
والمنصف بضم الميم وفتح النون وتشديد الصاد هو الذي ذهب نصفه بالطبخ، والباذق هو المبطوخ أدنى في طبخه م: (فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يضمن، ولا يجوز بيعها) ش: وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان ذلك إذا فصل يصلح لنفع مباح، وإذا كسر لم يصلح له لزمه ما بين قيمته متصلا ومكسورا؛ لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه.

(11/268)


وقيل: الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو، فأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس يضمن بالإتلاف من غير خلاف، وقيل: الفتوى في الضمان على قولهما.
والسكر اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد، والمنصف ما ذهب نصفه بالطبخ. وفي المطبوخ أدنى طبخة وهو الباذق عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان في التضمين والبيع. لهما: أن هذه الأشياء أعدت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو أتلف شيئا من الملاهي التي اقتنيت في البيت لا للهو ضمن قيمتها عنده، وفيه إشارة إلى أنه إذا اقتنى الملاهي لأجل التلهي لا ضمان بالاتفاق.
م: (وقيل: الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو، فأما طبل الغزاة، والدف الذي يباح ضربه في العرس فيضمن بالإتلاف من غير خلاف) ش: وفي " الذخيرة " قال أبو الليث: ضرب الدف في العرس مختلف بين العلماء، قيل: يكره، وقيل: لا يكره.
أما الدف الذي يضرب في زماننا من الصيحات والجلاجلات ينبغي أن يكون مكروها، وإنما الخلاف في الذي كان يضرب في الزمان المتقدم. وفي " الغاية " قال الفقيه أبو الليث: وهذا الذي حكي أن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله قالا: لا ضمان عليه في الدف والطبل إذا كان للهو.
وأما إذا كان طبل الغزاة أو الصبيات، أو الصيادين ينبغي أن يضمن، وكذلك الدف إذا لم يكن للهو فينبغي أن يضمن إذا كان مثل ذلك يجوز ضربه في العرس. وقال الإمام العتابي في "شرح الجامع الصغير ": ولو كان طبل الحاج، أو طبل الصيد، أو دف يلعب به الصبية في البيت يضمن بالاتفاق.
م: (وقيل: الفتوى في الضمان على قولهما) ش: أي على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أي يعني بعدم الضمان لكثرة الفساد في الناس، ذكره في " جامع أبي اليسر ".

م: (والسكر اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد، والمنصف ما ذهب نصفه بالطبخ وفي المطبوخ أدنى طبخة وهو الباذق) ش: وقد مر الكلام في هذه الأشياء عن قريب. قيل: الباذق كلمه فارسية عربت، وهو تعريب باذة، ومما أعرب من التركيب البياذقة للرجالة، وهو تعريب بياذة، ومنه بيذق الشطرنج م: (عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان في التضمين والبيع) ش: أراد في التضمين من يهريق الباذق روايتان عن أبي حنيفة وهو كذلك في جواز بيعه روايتان عنه.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أن هذه الأشياء أعدت

(11/269)


للمعصية فبطل تقومها كالخمر، ولأنه فعل ما فعل أمرا بالمعروف، وهو بأمر الشرع فلا يضمنه، كما إذا فعل بإذن الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للمعصية، فبطل تقومها كالخمر) ش: فصار متلفها مستهلكا بشيء غير متقوم فلا يضمن، ولا يجوز بيعها لعدم التقوم م: (ولأنه) دليل ثان لهما، أي لأن متلف هذه الأشياء م: (فعل ما فعل أمرا) ش: أي حال كونه أمرا م: (بالمعروف، وهو) ش: أي الكسر والإراقة م: (بأمر الشرع) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأى أحدكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» ، فكان كسرها وإراقتها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر باليد م: (فلا يضمنه، كما إذا فعل بإذن الإمام) ش: أي كما إذا كسر أو أوراق بإذن الإمام فإنه لا يضمن بالاتفاق.
وقال الولوالجي في آخر كتاب السير في " الفتاوى ": رجل له خمر فشق رجل زقه وأهراق الخمر على سبيل الحسبة لا يضمن الخمر، ويضمن الزق؛ لأن الخمر ليس بمتقوم والزق متقوم، إلا أن يفعل ذلك أيام يرى ذلك، فحينئذ لا شيء عليه لأنه مختلف فيه، ونظير هذا الذمي إذا أظهر بيع الخمر والخنزير في دار الإسلام يمنع، فإن أراقه رجل أو قتل خنزيرا يضمن إلا أن يكون إماما يرى ذلك فلا يضمن؛ لأنه مختلف فيه.
وفي " الفتاوى الصغرى " في آخر كتاب الجنايات: كسر دن الخمر إن كان بإذن الإمام لا يضمن وإلا ضمن، فقال حكاه عن "السير الكبير" في أدب القاضي في باب [......] من أدب القاضي رواية عن أصحابنا أنه يهدم البيت على من اعتاد الفسق وأنواع الفساد حتى قالوا أيضا: لا بأس بالهجوم على بيت المفسدين، وقيل: يراق العصير أيضا قبل أن يشتد ويقذف بالزبد على من اعتاد الفسق.
لأنه روي عن عمر أنه هجم حين بلغه عن نائحة من نساء أهل المدينة هجم عليها، وضربها بالدرة حتى سقط خمارها فقيل: يا أمير المؤمنين قد سقط خمارها فقال: إنه لا حرمة لها، قالوا: معنى قوله حين اشتغلت بما لا يحل في الشرع فقد أسقطت حرمتها. وروي أنه أحرق البيت على الثقفي حين سمع شرابا في بيته.
وعن أبي يوسف إن كان لا يتيسر إراقتها إلا بشق الذق لا يضمن ككسر المعازف. وعند الشافعي وأحمد في رواية يضمن، كذا في " جامع المحبوبي "، وفي " الذخيرة " و" المغني " و" بستان أبي الليث ": الأمر بالمعروف على وجوه إن كان يعلم بأكبر رأيه أنه لو أمر بالمعروف يقبلون منه ويمتنعون عن المنكر فالأمر واجب عليه لا يسعه تركه.
ولو علم بأكبر رأيه أنهم يقذفونه بذلك ويشتمونه فتركه أفضل، وكذا لو علم أنهم يضربونه ولا يصبر على ذلك ويقع بينهم العداوة ويهيج منه القتال فتركه أفضل. ولو علم أنه

(11/270)


ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع، وإن صلحت لما لا يحل، فصار كالأمة المغنية، وهذا لأن الفساد بفعل فاعل مختار فلا يوجب سقوط التقوم وجواز البيع والتضمين مرتبان على المالية والتقوم
والأمر بالمعروف باليد إلى الأمراء لقدرتهم، وباللسان إلى غيرهم. وتجب قيمتها غير صالحة للهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصبر على ضربهم ولم يشك إلى أحد فلا بأس به وهو مجاهد.
ولو علم أنهم لا يقبلون منه ولا يخاف منهم ضربا ولا شتما فهو بالخيار، والأمر بالمعروف أفضل. وذكر المحبوبي مطلقا فقال: الأمر بالمعروف واجب، أو فرض إذا غلب على ظنه أنهم يتركون الفسق بالأمر، ولو غلب على ظنه أنهم لا يتركون لا يكون إثما في تركه.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها) ش: أي الآلات المذكورة وهي البربط وأخواته م: (أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع، وإن صلحت لما لا يحل) ش: أراد أن أعيانها ليست بمحرمة لأنها تصلح للانتفاع بها لغير اللهو، ولكنها أعدت للهو مع صلاحيتها لغيره فلم تناف الضمان م: (فصار كالأمة المغنية) ش: والحمامة الطيارة، فإن الضمان يجب على متلفها.
م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن الفساد بفعل فاعل مختار فلا يوجب سقوط التقوم) ش: أراد أن الفساد ليس في المحل، والمحل مال متقوم فيضمن م: (وجواز البيع والتضمين مرتبان على المالية والتقوم) ش: ولما وجدت المالية والتقوم في الأشياء المذكورة جاز بيعها ويضمن متلفها.

م: (والأمر بالمعروف باليد إلى الأمراء لقدرتهم، وباللسان إلى غيرهم) ش: هذا يتعلق بقوله كما إذا فعله بإذن الإمام، يعني لما كان الأمر بالمعروف باليد للأمر لم يلزم الضمان على الكاسر بإذنهم، فإذ فعل بغير إذنهم يلزم م: (وتجب قيمتها غير صالحة للهو) ش: وفي بعض النسخ فيجب بالفاء، أي إذا كان الأمر كذلك يجب قيمة هذه الآلات حال كونها غير صالحة للهو، يعني تجب قيمتها صالحة لغير المعصية، ففي الدف يضمن قيمته دفا يوضع القطن فيه. وفي البربط يضمن قيمته قصعة يحل فيها الثريد ونحو ذلك، قاله قاضي خان.
وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي ": يضمن قيمته خشبا منحوتا. وقال في " المنتقى " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن قيمته خشبا مخلعا، إنما الذي يحرم به التأليف. وقال الفقيه أبو الليث: كانوا يقولون إن معنى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يضمن قيمته أن لو اشترى بشيء آخر سوى اللهو فينظر لو أن إنسانا أراد أن يشتريه ليجعله وعاء الملح أو غير ذلك بكم يشتري فيضمن قيمته بذلك المقدار.

(11/271)


كما في الجارية المغنية والكبش النطوح والحمامة الطيارة والديك المقاتل والعبد الخصي تجب القيمة غير صالحة لهذه الأمور، كذا هذا.
وفي السكر والمنصف تجب قيمتهما ولا يجب المثل؛ لأن المسلم ممنوع عن تملك عينه وإن كان لو فعل جاز، وهذا بخلاف ما إذا أتلف على نصراني صليبا حيث يضمن قيمته صليبا لأنه مقر على ذلك.
قال: ومن غصب أم ولد أو مدبرة فماتت في يده ضمن قيمة المدبرة ولا يضمن قيمة أم الولد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يضمن قيمتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كما في الجارية المغنية والكبش النطوح والحمامة الطيارة والديك المقاتل والعبد الخصي تجب القيمة غير صالحة لهذه الأمور) ش: إذا أتلفها وأراد بهذه الأمور الغناء في الجارية، والمناطحة في الكبش، والطيران السريع في الحمامة، والمقاتلة في الديك، والخصي في العبد، فإن هذه الأشياء كلها معصية، ولكن المحل مال متقوم، فذلك يجوز بيعها ويضمن متلفها م: (كذا هذا) ش: أي كذا حكم الآلات المذكورة إذا بيعت أو أتلفت.

[غصب السكر والمنصف فأتلفها]
م: (وفي السكر والمنصف تجب قيمتهما ولا يجب المثل؛ لأن المسلم ممنوع عن تملك عينه) ش: أي عن تملك عين كل واحد منهما لأنه حرام م: (وإن كان لو فعل جاز) ش: أي فإن كان أخذ المثل في الضمان جاز لعدم سقوط التقوم والمالية م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرنا في ضمان الآلات المذكورة.
م: (وهذا بخلاف ما إذا أتلف على نصراني صليبا حيث يضمن قيمته صليبا) ش: أي حال كونه صليبا لا حال كونه صالحا لغيره م: (لأنه) ش: أي لأن النصراني م: (مقر على ذلك) ش: أي على هذا الصنع، فصار كالخمر التي هم مقرون عليها. وقال أحمد لا يضمن، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتفصيل كما ذكرنا.
وقال القدوري في "شرحه": قال محمد: إذا أحرق الرجل بابا منجورا عليه تماثيل منقوشة ضمن قيمته غير منقوش، وذلك لأن نقش التماثيل معصية فلا يجوز أن يتقوم في الضمان، كما لا يتقوم الغناء في الجارية المغنية. فإذا قطع رؤوس التماثيل فذلك نقش غير ممنوع منه وقوم على الغاصب، فقال فيمن أحرق بساط منه تصاوير رجال ضمن قيمته مصورا؛ لأن التماثيل في البساط ليس تكرمة؛ لأن البساط موطأ. وإذا لم تكن محرقة ضمنها. وقال فيمن هدم بيتا مصورا بالأصباغ تماثيل قيمته قيمة البيت وأصباغه غير مصور؛ لأن التماثيل في البيت منهي عنها، كذا ذكره القدوري في "شرحه".

[غصب أم ولد أو مدبرة فماتت في يده]
م: (قال: ومن غصب أم ولد؛ أو مدبرة فماتت في يده ضمن قيمة المدبرة ولم يضمن قيمة أم الولد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يضمن قيمتها) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": محمد

(11/272)


لأن مالية المدبرة متقومة بالاتفاق، ومالية أم الولد غير متقومة عنده، وعندهما متقومة، والدلائل ذكرناها في كتاب العتاق من هذا الكتاب والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل غصب أم ولد لرجل فماتت في يده قالا: لا ضمان عليه، وإن غصب مدبرته فماتت فهو ضامن بقيمتها. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يضمن أي في أم الولد كما يضمن في المدبرة م: (لأن مالية المدبرة متقومة بالاتفاق، ومالية أم الولد غير متقومة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (وعندهما متقومة، والدلائل ذكرناها في كتاب العتاق من هذا الكتاب والله أعلم بالصواب) ش: وقد بينا فيه خلاف الثلاثة أيضا.
فوائد: غصب ثوبا فكساه للمالك أو طعاما فقدمه بين يديه فأكله وهو لا يعلم بأنه ثوبه أو طعامه، يبرأ الغاصب عندنا عن الضمان، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قول، ومالك في قول لا يبرأ. ولو باعه أو وهبه وسلمه، أو أودعه وسلمه وأعاره وسلمه، أو أجره وسلمه والمالك لا يعلم به يبرأ عن الضمان عندنا، وبه قال الشافعي في وجه ومالك وأحمد. وقال الشافعي في وجه لا يبرأ. ولو رهنه المالك عند الغاصب لم يبرأ عن الضمان عند الشافعي، وعندنا ومالك وأحمد يبرأ، ولو حل رباط دابة أو فتح قفص طير أو حل قيد عبد فذهب عقيب ذلك لم يضمن عندنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وفي قول يضمن وبه قال مالك وأحمد. وعن محمد يضمن سواء طار من فوره أو مكث ساعة ثم طار أما لو مكث ساعة ثم طار لا يضمن عندنا، وعند الشافعي خلافا لمالك وأحمد. ولو حل رأس الزق فسأل البائع أو قطع علاكتي قنديل فانكسر ضمن، ولو كان الدهن جامدا فذاب بالشمس فسال لم يضمن، وبه قال الشافعي في وجه.
وقال في وجه، يضمن وبه قال مالك وأحمد، والغصب لا يتحقق في الحر بالإجماع فلا يضمن بالغصب. أما لو استعمله مكرها لزمه أجر مثله عند الثلاثة؛ لأنه استوفى منافع متقومة فلزمه ضمانها كمنافع العبد، وعنده لا يضمن ولو حبسه مدة لا يجب أجر مثله عندنا أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد في وجه ومالك وقالا في وجه أنه يضمن كما في العبد، ولو غصب كلبا له منفعة وحبسه مدة يجب أجره في أحد الوجهين عند الشافعي، وعندنا وأحمد ومالك والشافعي في وجه لا يجب ولا يضمن إذا هلك أو أتلفه عند الثلاثة، وعندنا يضمنه لأنه مال حتى يجوز بيعه عندنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(11/273)