البناية
شرح الهداية كتاب الذبائح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الذبائح]
[تعريف الذكاة]
م: (كتاب الذبائح) ش: قال الشراح كلهم: المناسبة بين المزارعة والذبائح
لكونها إتلافا في الحال للانتفاع في المال، فإن المزارعة إنما تكون بإتلاف
الحب في الأرض بما يثبت فيها، والذبائح إتلاف الحيوان بإزهاق روحه في الحال
للانتفاع بلحمه بعد ذلك.
قلت: كان ينبغي أن يذكر المناسبة بين الذبائح والمساقاة لأنها مذكورة عقب
المساقاة دون المزارعة، وكل من المزارعة والمساقاة مستندة بأداتها مخصوصة
بأحكامها، ولهذا صرح كل منهما بالكتاب، ولو كانت المساقاة تابعة للمزارعة
من كل وجه.
يقال بأن المساقاة على ما لا يخفى، ولكن يمكن أن يقال: إن وجه المناسبة بين
المساقاة والذبائح من حيث التضاد، فإن المساقاة إحياء النخل والشجر، وفي
الذبائح الإماتة. ولو قلنا: إن المساقاة تابعة للمزارعة فالمناسبة بينهما
ما ذكرنا أيضا لأن في المزارعة إحياء الأرض وهذا مما سنح به خاطري، فعلى
المراد أن يأتي بوجه أحسن منه وإلا فليرعو عن القلب في عوض الغير ظنا منه
أنه على شيء.
ثم الذبائح جمع ذبيحة وهي اسم لما ذبح وكذلك الذبح بكسر الذال وسكون الباء.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]
فعل بمعنى مفعول، والذبيح المذبوح، والأنثى ذبيحة، وإنما جاءت بالهاء لغلبة
الاسم عليها، وأصل الذبح الشق. قال: كان بين فكها والفك فأرة مسك ذبحت في
سك، أي فبقيت ولكنه يستعمل في قطع الأوداج.
والذكاة الذبح أيضا، سمي به لأنه يجوز أن يكون في اللغة مأخوذا من أحد
الأمرين، إما من الحدة يقال سراج ذكي إذا كان - نيرا غاية - لأنه حينئذ في
غاية الحدة، ويقال فلان ذكي إذا كان سريع الفهم لحدة خاطره، ويقال: مسك ذكي
إذا كان يقدح غاية وإما من الطهارة، «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " دباغ الأديم ذكاته» ، ويجوز إطلاقه على الذبح لكلا المعنيين
لما فيه من سرعة الموت وطهارة المذبوح عن الدم المسفوح الذي هو نجس.
ثم الذبح مباح شرعا وغير محظور عقلا، وقالت الأولوية والهيضانية الضلال من
(11/524)
قال: الذكاة شرط حل الذبيحة لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المجوس: محظور عقلا، فلا يرون إباحة ذبح الحيوان، قالوا: فيه إذهاب الروح
الذي هو من أجزاء [......] ، وذهب العراقيون إلى أن الذبح محظور عقلا، ولكن
الشرع أحله لأن فيه إضرارا بالحيوان، وقال الشيخ أبو الحسن القدوري -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه ": الذبائح محظورة بالعقل لأن الأشياء في
الأصل عندنا على الإباحة إلا ما كان فيه إدخال ضرر في الحيوان.
وقال شمس الأئمة السرخسي: هذا عندي باطل، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتناول اللحم قبل مبعثه، ولا يظن به أنه كان يأكل
ذبائح المشركين لأنهم كانوا يذبحون بأسماء الأصنام، فعرفنا أنه كان يذبح
ويصطاد بنفسه وما كان يفعل ما كان محظورا عقلا كالكذب والظلم والسفه.
وأجيب بأنه يجوز أن يكون ما كان يأكل إلا ذبائح أهل الكتاب، وليس الذبح
كالكذب والظلم لأن المحظور العقلي ضربان: ما يقطع بتحريمه فلا يرد الشرع
بإباحته إلا عند الضرورة، وما فيه نوع تجويز من حيث مقدار منفعته فيجوز أن
يرد الشرع بإباحته، وتقدم عليه قبله نظرا إلى نفعه كحجامة الأطفال وتداويه
بما فيه ألم.
قلت: كل من الكلامين لا يخلو عن نظر. أما الأول فلأنه يحتاج إلى دليل على
أنه كان يذبح بنفسه ويصطاد بنفسه قبل البعثة، وأما الثاني فلذلك يحتاج إلى
دليل فلأنه يحتاج إلى دليل على أنه يأكل من ذبائح أهل الكتاب قبل البعثة،
فلم لا يجوز أنه لم يكن أكل شيئا من الذبيحة إلا بعد البعثة؟
[الذكاة شرط حل الذبيحة]
م: (قال: الذكاة شرط حل الذبيحة) ش: قال الأترازي: وهذا وقع خلاف وضع
الكتاب لأنه إذا ذكر لفظا قال في أول المسألة كان يشير به إلى ما ذكره في "
الجامع الصغير " أو " مختصر القدوري "، وهنا لم تقع الإشارة إلى أحدهما
ولهذا لم يذكره في البداية، وكان ينبغي أن لا يورد لفظ قال، أو يقول قال
العبد الضعيف مشيرا به إلى نفسه.
قلت: هذا تطويل بلا فائدة لأنه ذكر في مواضع كثيرة من الكتاب لفظة قال
بإضمار الفاعل وأراد به نفسه، فهذا أيضا مثله ولا يلزم تعيين الفاعل.
ألا ترى أنه عند إسناد القول إلى القدوري أو محمد بن الحسن لم يصرح بفاعله،
فكذلك عند إسناده إلى نفسه، ولا يخفى هذا إلا على من لم يميز مسائل القدوري
من مسائل " الجامع الصغير "، ومن لم يميز بينهما لا يستحق الخوض في الهداية
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] .
(11/525)
ولأن بها يتميز الدم النجس من اللحم
الطاهر، وكما يثبت به الحل يثبت به الطهارة في المأكول وغيره فإنها تنبئ
عنها، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذكاة الأرض يبسها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: بعد قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] استثنى من الحرمة المذكى
فيكون حلالا.
والمترتب على المشتق معلول الصفة المشتق منها، لكن لما كان الحل ثابتا
بالشرع جعلت شرطا م: (ولأن بها) ش: أي بالذكاة، وذكر الضمير باعتبار الذبح
م: (يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر) ش: ولا يلزم الجراد والسمك لأن
حلهما بلا ذبح ثبت بالنص، وفي السنة المشهورة فخرجا من عموم الآية م: (وكما
يثبت به) ش: أي بالذكاة على تأويل الذبح م: (الحل يثبت به الطهارة في
المأكول وغيره) ش: أي غير المأكول إلا الآدمي والخنزير، فإن الذكاة لا
تلحقهما.
قال الفقيه أبو الليث وذكر عن الكرخي أنه قال: إذا صلى ومعه شيء من لحم
السباع وقد ذبح جازت صلاته، ولو وقع في الماء لم ينجسه. وكان الفقيه أبو
جعفر يقول: هو نجس لا يجوز الصلاة معه ولو وقع في الماء أفسده، وهو موافق
لقول نصير وبه نأخذ. هكذا ذكره في النوازل في كتاب الصلاة.
م: (فإنها تنبئ عنها) ش: أي فإن الذكاة تنبئ عن الطهارة م: (ومنه قوله -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذكاة الأرض يبسها» ش: أي وكون الذكاة
عبارة عن الطهارة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكاة
الأرض يبسها» أي طهارة الأرض عن رطوبة النجاسة يبسها بالشمس أو الهواء،
وهذا ليس بحديث. قال في " الفائق ": هو من كلام محمد بن علي وهو محمد بن
الحنفية لا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ذكاة
الأرض يبسها، وأخرج عنه وعن أبي قلابة قال: إذا جفت الأرض فقد ذكيت.
وروي عن عبد الرزاق في " مصنفه " وقال: أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة
قال: جفوف الأرض طهورها. والعجب من صاحب النهاية وشيخه الكاكي قبله كيف لم
يتعرضا لهذا وسكتا عليه جزما منهما أنه حديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وآفة هذه الأشياء التقليد!
وقال في " القاموس " معناه: إذا يبست الأرض من رطوبة النجاسة فذاك يطهرها
كما أن الذكاة تحل الذبيحة، وثم قال: الذكاة الحياة، من ذكت النار إذا حيت
واشتعلت وكأن الأرض
(11/526)
وهي اختيارية كالجرح فيما بين اللبة
واللحيين، واضطرارية وهي الجرح في أي موضع كان من البدن. والثاني كالبدل عن
الأول؛ لأنه لا يصار إليه إلا عند العجز عن الأول، وهذا آية البدلية؛ وهذا
لأن الأول أعمل في إخراج الدم، والثاني أقصر فيه. فاكتفى به عند العجز عن
الأول، إذ التكليف بحسب الوسع
ومن شرطه: أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد، إما اعتقادا كالمسلم، أو دعوى
كالكتابي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا نجست ماتت وإذا طهرت حيت م: (وهي) ش: أي الذكاة على نوعين، أحدهما ذكاة
م: (اختيارية كالجرح فيما بين اللبة واللحيين) ش: أراد أن ذكاة الاختيار
وجرح مقدور، وهو قطع الأوداج في محل معلوم وهو ما بين اللبة واللحيين.
واللبة بفتح اللام وتشديد الباء الموحدة، وفسرها الشراح الرقبة وليس كذلك،
إنما هو طرف المصدر من ناحية الصدر.
قال في " العباب ": اللبة النحر، والصدر ليس بموضع النحر، واللحي بفتح
اللام، وسكون الحاء وهو منبت اللحية من الإنسان وغيره، والثاني ذكاة م:
(واضطرارية وهي الجرح في أي موضع كان من البدن) ش: وعند بعضهم جرح مدى، في
أي محل كان، والأصل في باب الذكاة هو الأول.
م: (والثاني كالبدل من الأول لأنه لا يصار إليه) ش: أي إلى الثاني م: (إلا
عند العجز عن الأول) ش: أي عن الذكاة الاختيارية، وإنما قال: كالبدل ولم
يقل بدل لأن الأبدال عرفت بالنص ولم يرد فيه نص وقد وجدت فيه أمارة
البدلية، وقال: كالبدل م: (وهذا آية البدلية) ش: أي المصير إلى الثاني عند
العجز عن الأول علامة البدلية.
م: (وهذا) ش: أي كون الأول مبدلا عنه، والثاني كالبدل م: (لأن الأول أعمل
في إخراج الدم) ش: أي لأن الجرح فيما بين اللبة واللحيين أكثر عملا في
إخراج دم المسفوح النجس. م: (والثاني أقصر فيه) ش: أي الخروج في أي موضع
كان أكثر من البدن اقتصر في إخراج الدم. م: (فاكتفي به) ش: أي إذا كان كذلك
اكتفي بالثاني م: (عند العجز عن الأول) ش: أي عن الجرح فيما بين اللبة
واللحيين.
م: (إذ التكليف بحسب الوسع) ش: كلمة " إذ " للتعليل، أي لأن التكليف بحسب
وسع المكلف {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:
286] .
[شروط الذابح]
م: (ومن شرطه) ش: أي شرط الذبح م: (أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد، إما
اعتقادا كالمسلم) ش: أي إما من حيث الاعتقاد م: (أو دعوى كالكتابي) ش: أي
أو من حيث الدعوى كالكتابي، فإنه يدعي التوحيد بخلاف المجوسي فإنه ليس له
ملة التوحيد ولا دعوى ولا اعتقاد، إلا أنه يقول لصانعين أحدهما خالق الخير
والآخر خالق الشر، فلا تحل ذبيحته. ولو قال صاحب ملة التوحيد إما الاعتقاد
أو الدعوى كالمسلم
(11/527)
وأن يكون حلالا خارج الحرم على ما نبينه إن
شاء الله تعالى.
قال: وذبيحة المسلم والكتابي حلال لما تلونا، ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإما دعوى كالكتابي لكان أحسن.
م: (وأن يكون حلالا خارج الحرم) ش: أي ومن شرطه أن يكون الذابح حلالا غير
محرم هذا الشرط في الصيد. وأن لا يكون في الحرم، وأن المحرم لا تحل ذبيحته
سواء كان في الحرم أو خارج الحرم. والحلال لا تحل ذبيحته في الحرم وله شروط
غير ما ذكر، فكذلك قال: ومن شرطه ثمن البعضية. وفي " الغاية " فأما شرط
وقوع الذكاة ذكاة أربعة أشياء: آلة جارحة بالإجماع، وأن يكون الذابح ممن له
ملة التوحيد على ما بيناه. والثالث أن يكون المحل من المحلات، إما من كل
وجه كمأكول اللحم أو من وجه عندنا بأن كان مما يباح الانتفاع بجلده، إن كان
مما لا يحل أكله، والرابع التسمية وهي شرط عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ -.
وفي " الأجناس ": يعتبر في حصول الذكاة أربع شرائط: أحدها صفة في الفاعل
بأن يكون معتقدا بكتاب نزل في دين مقر فيه. والثاني صفة في الفعل وهو وجود
ذكر الله سبحانه وتعالى في حق المذكى. والثالث صفة في الآلة بأن يكون ما
يقطع له حد. والرابع صفة في الموضع فيه وهو قطع الأوداج. والأوداج أربعة:
الحلقوم والمريء والودجان م: (على ما نبينه إن شاء الله تعالى) ش: أي في
الكتاب.
[حكم ذبيحة الكتابي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وذبيحة المسلم والكتابي
حلال لما تلونا) ش: أراد به قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}
[المائدة: 3] لأن الخطاب عام. م: (ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ش: قال البخاري - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في " صحيحه ": قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: طعامهم
ذبائحهم.
وقال الأزهري: لا بأس بذبيحة نصارى العرب، فإن سمعته يسمي بغير الله فلا
تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله سبحانه وتعالى وعلم بكفرهم. ويذكر عن علي
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بوجه انتهى. ولا يجوز أن يحل طعامهم
على غير الذبائح لأنه لو كان كذلك لم يخص بأهل الكتاب.
فإن قلت: هذا لم يكتف بالآية الواحدة.
قلت: لما استقر أن يقال إلا ما ذكيتم عام مخصوص بخروج الوثني والمرتد
والمجوسي، فلا يكون قاطعا في الإفادة ضم إليه الآية الأخرى.
ثم ذبيحة الكتابي حلال مطلقا سواء كان قائلا بثالث ثلاثة أو بغير، وقال
الشافعي
(11/528)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه: إذا اعتقد أن المسيح والعزير ابن الله لا
يحل. ولا يتفاوت في كون الكتابي حربيا أو ذميا بإجماع أهل العلم، فلو ترك
الكتابي التسمية عمدا أو ذبح وسمى باسم المسيح لم تحل ذبيحته بإجماع
الفقهاء وأكثر أهل العلم.
وعن عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومكحول -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا ذبح النصراني باسم المسيح حل لأنه أحل لنا ذبيحته.
وقد علم أنه سيقوله، ولنا قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ} [المائدة: 3] أريد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم. فقال علي - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إذا سمعتموه يسمى بغير الله فلا تأكلوه. وهو
قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن عن جماعة - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ - وفي " المستصفى ": هذا إذا لم يعتقد أن المسيح إله،
أما إذا اعتقد فهو والمجوسي سواء فلا تحل ذبيحته، وهذا مخالف لعامة
الروايات ولظاهر الكتاب، وهو قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] . مع أنهم قالوا المسيح: ابن
الله، وسئل ابن عباس عن ذبائحهم فقال: قد أحل الله لكم، فقيل: إنهم يهلون
لغير الله، فقال: إن الذي أحل ذلك منهم هو أعلم بما يقولون.
ولو ذبح الكتابي ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه مثل كل ذي ظفر قال قتادة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هي الإبل والنعام والبط وما ليس مشقوق الأصابع،
أو ذبح دابة لها شحم يخير عليه يحل عند الأكثر، وحكي عن مالك في اليهودي
يذبح الشاة لا يأكل من شحمها. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا مذهب
دقيق، فظاهر هذا أنه لم يره صحيحا لأنه سبحانه وتعالى قال: {وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] وهذا ليس من طعامهم، فقال
الضحاك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومجاهد وسوار ومالك والقاضي الحنبلي، وقلنا:
المراد من طعامهم ذبائحهم كما ذكرنا، ولأن المراد من طعامهم لا يجوز أن
يكون عاما بالاتفاق لأن الخنزير والميتة والدم من طعامهم وهو حرام
بالإجماع.
وقولنا قول عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأبي الدرداء وابن
عباس وابن عمر وأبي أمامة الباهلي وعبادة بن الصامت والعرباض بن سارية
وأكثر الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثم عند الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل من دخل في دين كتابي بعد بعث النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأولاده لا يحل ذبيحته ولا ذبيحة من يخرج من
دين كتابي إلى كتابي كالمرتد عن الإسلام، والمتولد من كتابي وغير كتابي يحل
صيده وذبيحته، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك وأحمد:
إذا كان الأب كتابيا وإلا لا تحل في رواية عن أحمد، وفي قول لا يحل تغليبا
للحرمة، وعندنا هو تبع خير الأبوين
(11/529)
ويحل إذا كان يعقل التسمية الذبيحة ويضبط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دينا.
وقال الكرخي في " مختصره ": ويجوز ذبح الصابئين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وهم أهل الكتاب وهم فرقة من النصارى عنده. وليس يريد الضرب الآخر
من الصابئين الذين لا يؤمنون بعيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ولا يقرون بنبوته، ولهم شرع آخر ليس النصارى عليه، فهؤلاء لا تؤكل ذبائحهم.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه ": وإنما أجاب أبو حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - على من يؤمن بنبي وكتاب ويعظم الكواكب كتعظيم المسلم
القبلة وهما حملا الأمر على من يعظم الكواكب، تعظيم عبادة، فهو عابد وثن،
فلا يجوز أكل ذبيحته. ثم قال القدوري: وحال هذه الفرقة مشكلة لأنهم يدينون
بكتمان اعتقادهم، فلا يعرف حالهم.
فأما حمل أبي الحسن لقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على صابئ يؤمن
بعيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو من لا يعرفه منهم، وإنما
يؤمنون بإدريس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعظمونه دون غيره من
الأنبياء. وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه لمختصر
الطحاوي ": لا خلاف بينهم في المعنى في هذه المسألة. وذلك أن الصابئين
طائفتان: طائفة منهم يحلون دين المسيح - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ويقرون
بالإنجيل، وهم في ناحية البطيحة من عمل واسط، فهؤلاء في قولهم جميعا تؤكد
ذبائحهم. وفرقة أخرى من الصابئين في ناحية حران وديار ربيعة، لا يتحملون
كتابا لنبي ويعبدون الكواكب والأصنام فهؤلاء أهل الأوثان لا تؤكل ذبائحهم
ولا تنكح نساؤهم في قول أصحابنا جميعا.
م: (ويحل إذا كان) ش: الذابح م: (يعقل التسمية) ش: وقيل يعقل لفظ التسمية،
وقيل: يعلم أن حل الذبيحة بالتسمية. وقال شيخ الإسلام خواهر زاده -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح المبسوط ": ويعقل التسمية والذبيحة بأن كان
يعقل أنه يباح بالتسمية، ولا يباح بغير التسمية، وذلك لأنه متى لم يعقل
التسمية لا يصح منه التسمية كما لا يصح منه الإسلام متى لم يعقل الشهادة،
ولا البيع ولا النكاح إذا لم يعقل المعاملات.
والتسمية شرط الإباحة وقال في الأصل أرأيت الصبي يذبح ويسمي هل تؤكل
ذبيحته. قال: إن كان يضبط ويعقل التسمية والذبيحة فلا بأس به، وإن كان لا
يعقل ذلك فلا م: (والذبيحة) ش: أي ويعقل الذبيحة. وفي النسخ الصحيحة
والذبحة بكسر الذال وسكون الباء، والمعنى ويعقل كيف الذبح. م: (ويضبط) ش:
شرائط الذبح من قطع الأوداج وغيره وضبط الشيء حفظه بالحرم.
(11/530)
وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة. أما إذا
كان لا يضبط ولا يعقل التسمية، فالذبيحة لا تحل؛ لأن التسمية على الذبيحة
شرط بالنص وذلك بالقصد وصحة القصد بما ذكرنا، والأقلف والمختون سواء لما
ذكرنا. وإطلاق الكتابي ينتظم الكتابي الذمي والحربي والعربي والتغلبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن كان صبيا) ش: أي وإن كان الذابح صبيا بعد أن كان يعقل ويضبط، م:
(أو مجنونا) ش: قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي معتوها، فالمجنون لا
قصد له ولا بد منه كما ذكر في الحجر هكذا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في الأظهر ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ
- وإذا كانا لا يعقلان لا يصح، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وفي وجه يصح.
وفي كتاب " التفريع " للمالكية: ولا يجوز ذبيحة السكران ولا المجنون م: (أو
امرأة) ش: أي أو كان الذابح امرأة ولا خلاف فيه م: (أما إذا كان لا يضبط
ولا يعقل التسمية، فالذبيحة لا تحل؛ لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص
وذلك بالقصد وصحة القصد بما ذكرنا) ش: أي بما إذا كان يعقل التسمية،
والذبيحة لا تحل؛ لأن التسمية على الذبيحة م: (شرط بالنص) ش: وذلك بالقصد
وصحة العقد بما ذكرنا أي بما إذا كان يعقل التسمية والذبيحة م: (والأقلف
والمختون سواء لما ذكرنا) ش: أشار به إلى الآيتين وهما قوله سبحانه وتعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] لأن
الخطاب عام وإنما قيد بالأقلف احترازا بما روي عن ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أنه كان يكره ذبيحته.
وفي " الدراية ": ولا خلاف فيه لعامة العلماء إلا ما روي عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: شهادة الأقلف وذبيحته لا يجوز، وهو
رواية عن أحمد، وذبيح الأخرس يجوز بإجماع العلماء ولا خلاف فيه، والأقلف
الذي لم يتخير وهو الأقلف، وهو أفعل من القلفة، وهي الجلدة التي يقطعها
الختان من رأس الذكر، وكذلك القلفة أشار به إلى الآيتين. وهما قوله سبحانه
وتعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وقوله سبحانه وتعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] لأن الخطاب عام.
م: (وإطلاق الكتابي) ش: يعني في القدوري وطعامه وذبيحة المسلم والكتابي
حلال. م: (ينتظم الكتابي الذمي والحربي والعربي والتغلبي) ش: عطف التغلبي
على العربي من عطف الخاص على العام لأن تغلب قوم فلاحون يسكنون بعرب الروم
وهو بفتح التاء المثناة وسكون الغين المعجمة وكسر اللام وفي آخره باء
موحدة، والتسمية إليه تغلبي بفتح اللام استيحاشا لتوالي الكسرتين مع ياء
النسب. وربما قالوه بكسرها لأن فيه حرفين غير مكسورين وفارق النسبة إلى
ثمر.
(11/531)
لأن الشرط قيام الملة على ما مر.
قال: ولا تؤكل ذبيحة المجوسي لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
«سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكرخي في " مختصره ": ولا بأس بذبح نصارى بني تغلب الفلاحين وغيرهم،
وذلك لأنهم على دين النصارى وإن لم يتمسكوا بكل شرائعهم فصاروا كالنصارى
الأصليين إذا لم يتمسكوا ببعض الشرائع.
وفي " شرح الأقطع ": وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن ذبائح بني
تغلب وذبائح نصارى العرب لا تؤكل، وهذا لا يصح م: (لأن الشرط قيام الملة
على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: ومن شرطه أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد
إما اعتقادا كالمسلم، أو دعوى كالكتابي، قيل: فيه نظر لأن وجود الشرط لا
يستلزم المشروط، وأجيب بأنه شرط في معنى العلة فافهم.
[ذبيحة المجوسي والمرتد]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا تحل ذبيحة المجوسي
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير
ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» ش: وفي بعض النسخ ولا تؤكل ذبيحة المجوسي،
وهذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وإنما المروي هو الذي أخرجه عبد الرزاق وابن
أبي شيبة - رحمهما الله - في " مصنفيهما " عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد
بن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم، قبل
منه ومن لم يسلم ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» .
فإن قلت: هذا مرسل ومع إرساله فيه قيس بن مسلم وهو ابن الربيع.
وقد اختلف فيه، قال ابن القطان: وهو ممن ساء حفظه بالقضاء كشريك وابن أبي
ليلى - رحمهما الله -. ولأجل هذا ذهب بعض أهل الظاهر أن حكم المجوسي كحكم
الكتابي، وروي ذلك أيضا عن ابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذه
الرواية وإن كانت مرسلة فقد رواها الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسندة، قال
ابن سعد في " الطبقات ": أخبرنا محمد بن عمر الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
حدثني عبد الحكم بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي عبد الله بن عمرو بن سعيد
بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فإن أبوا عرض
عليهم الجزية بأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم» ولئن سلمنا أنه مرسل
فالمرسل حجة عندنا، خصوصا إذا عمل به أكثر الصحابة وأكثر التابعين -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
(11/532)
ولأنه لا يدعي التوحيد فانعدمت الملة
اعتقادا ودعوى.
قال: والمرتد لأنه لا ملة له فإنه لا يقر على ما انتقل إليه،
بخلاف الكتابي إذا تحول إلى غير دينه لأنه يقر عليه عندنا فيعتبر ما هو
عليه عند الذبح لا ما قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والفقهاء.
وروى أحمد بن حنبل بإسناده أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«إذا نزلتم بناس نبطيا فإذا اشتريتم لحما فإن كانت من يهودي أو نصراني
فكلوا، وإن كان من مجوسي فلا تأكلوا» . قال إبراهيم الحربي خرق أبو ثور
الإجماع. روي عن ابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافه، وقال
البيهقي: وقد تأكد هذا المرسل بالإجماع، ولا خلاف أن صيدهم السمك والجراد
يباح أكله. وما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في تحريم
صيدهم بإسناده كيفما روي عن حذيفة في جواز نكاحهم فغير صحيح.
م: (ولأنه) ش: أي المجوسي م: (لا يدعي التوحيد فانعدمت الملة اعتقادا
ودعوى) ش: أي من حيث الاعتقاد ومن حيث الدعوى. وقد مر أن الشرط أن يكون
الذابح من أهل ملة التوحيد إما اعتقادا كالمسلم أو دعوى كالكتابي، ولم يوجد
واحد منهما في المجوسي.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والمرتد) ش: بالجر عطفا
على قوله المجوسي يعني لا تؤكل ذبيحة المجوسي وذبيحة المرتد. ولا خلاف في
المرتد أنه لا تؤكل ذبيحته م: (لأنه لا ملة له فإنه لا يقر على ما انتقل
إليه) ش: من الدين الباطل فصار كالوثني الذي لا دين له فلا تؤكل ذبيحته.
[ذبيحة الكتابي إذا تحول إلى غير دينه]
م: (وبخلاف الكتابي إذا تحول إلى غير دينه) ش: يعني النصراني إذا تهود،
واليهودي إذا تنصر، فإنما تنصر على ما انتقل إليه بخلاف ما لو تمجس، فإنه
لا تؤكل ذبيحته بلا خلاف. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وداود لا تؤكل
ذبيحته إذا تحول إلى غير دينه مطلقا، لأن لخروجه إلى غير دينه نقض الذمة
فيباح قتله، فصار كالكفر الأصلي. قلنا: إذا تحول دين كتابي يكون من أهل
الملة دعوى حال الذبح وقبله، والكفر كله ملة واحدة. وإن ارتد غير الكتابي
إلى دين أهل الكتاب أكلت ذبيحته نظرا إلى حاله ودينه وفي حال ذبحه دونما
سواه. كذا في " مختصر الكرخي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن
الكتابي م: (يقر عليه) ش: أي على الدين الذي انتقل إليه م: (عندنا) ش:
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكرنا م: (فيعتبر ما هو عليه) ش:
أي يعتبر الذي كان هو - أي المرتد - عليه م: (عند الذبح لا ما قبله) ش: أي
لا يعتبر ما كان قبل الذبح وهو الإسلام لأنه كان مسلما قبله فلا يعتبر ذلك
الذبح لوجوده مرتدا عنده، ويجوز أن يتعلق قوله فيعتبراه بمسألة الكتابي، أي
يعتبر ما كان هو عليه من اليهودية أو النصرانية وقت
(11/533)
قال: والوثني لأنه لا يعتقد الملة. قال:
والمحرم يعني من الصيد وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد
والإطلاق في المحرم ينتظم الحل والحرم والذبح في الحرم يستوي فيه الحلال
والمحرم، وهذا لأن الذكاة فعل مشروع وهذا الصنيع محرم. فلن تكن ذكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذبح. فإن كان حينئذ يهوديا أو نصرانيا جاز، وإن لم ينقل بأن انتقل إلى
دين المجوسي لا يجوز ولا يعتبر ما قبله، وإن كان مجوسيا قبل الذبح ثم تنصر
أو تهود، يوجد يهوديا أو نصرانيا عند الذبح يجوز. فافهم.
[ذبيحة الوثني وحكم ما ذبح في الحرم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والوثني) ش: بالجر أيضا
أي ولا تحل ذبيحة الوثني وهو الذي يعبد الوثن، وهو الصنم لأنه ليس له ملة
التوحيد م: (لأنه لا يعتقد الملة) ش: لا دعوى ولا اعتقادا م: (قال:
والمحرم) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا تحل ذبيحة المحرم،
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (يعني من الصيد) ش: وهذا القيد لا بد
منه لأنه تحل ذبيحته من الأهلي م: (وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد)
ش: سواء كان الذابح محرما أو حلالا، وينبغي أن يقرأ ما ذبح على صيغة بناء
المفعول على ما لا يخفى على الفطن.
م: (والإطلاق في المحرم) ش: أي الإطلاق بقوله والمحرم م: (ينتظم الحل
والحرم) ش: يعني يشتمل ما ذبح في الحل وما ذبح في الحرم، لأن الذكاة فعل
مشروع وذبح المحرم الصيد ليس بمشروع، وكذا ذبح الصيد في الحرم ليس بمشروع
سواء كان حل حلالا أو محرما، أشار إليه بقوله: م: (والذبح في الحرم يستوي
فيه الحلال والمحرم) ش: لأنه لحق الله سبحانه وتعالى.
م: (وهذا) ش: أي استواء الحلال والمحرم في ذبح صيد الحرم م: (لأن الذكاة
فعل مشروع) ش: بالنص م: (وهذا الصنيع محرم) ش: أي قتل الصيد محرم بالنص،
وهو قَوْله تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
[المائدة: 95] ونهى عن الفعل الحسي وموجبه انعدام المشروعية. والذكاة فعل
مشروع فلا يكون فعله ذكاة، قيل: الأول أن يكون معنى قوله، ولهذا الصنيع أي
الذبح في الحرم محرم، وسياق الكلام يدل على هذا.
فإن قلت: قتل الشاة المغصوبة محرم وتؤكل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أطعموها الأسارى» .
قلت: شاة غير المحرم صالحة للذبح، والذابح أهل، وإنما حرم لتعلق حق الغير
به.
ولهذا لو كانت المصلحة في ذبحها بأن أشرفت على الهلاك يجوز ذبحها فكانت
حراما لغيره فتحل.
أما صيد الحرم فالذابح وإن كان أهلها، لكن الصيد لم يبق محلا لثبوت صفة
الأمان فيه فكان حراما لعينه فافترقا م: (فلم تكن ذكاة) ش: أي إذا كان كذلك
فلم يكن ذبح المحرم ذكاة،
(11/534)
بخلاف ما إذا ذبح المحرم غير الصيد أو ذبح
في الحرم غير الصيد صح لأنه فعل مشروع إذ الحرم لا يؤمن الشاة وكذا لا يحرم
ذبحه على المحرم.
قال: وإن ترك الذابح التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل وإن تركها ناسيا
أكل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكل في الوجهين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا ذبح المحرم غير الصيد أو ذبح في الحرم غير الصيد صح لأنه
فعل مشروع) ش: أي لأن ذبح المحرم غير الصيد مشروع، م: (إذ الحرم لا يؤمن
الشاة) ش: ونحوها من النعم، والأمن إنما يثبت بالنص للصيد. م: (وكذا لا
يحرم ذبحه على المحرم) ش: لأن الأصل حل الذبح والحرمة تثبت بالنص وهو مخصوص
بالصيد فلا يتعداه.
[شروط الذبح]
[حكم أكل متروك التسمية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن ترك الذابح التسمية عمدا) ش: أي ترك عمدا
ويجوز أن يكون حالا أي حال كونه عامدا م: (فالذبيحة ميتة لا تؤكل) ش: وكذا
الكتابي إذا ترك التسمية عامدا لم تؤكل ذبيحته، وإن كان ناسيا تؤكل وهو في
منزلة المسلم كذا قاله الكرخي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " مختصره " م:
(وإن تركها ناسيا أكل) ش: أي وإن ترك الذابح التسمية حال كونه ناسيا أكل ما
ذبحه.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكل في الوجهين وقال مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تؤكل في الوجهين) ش: أي فيما تركها عامدا أو ناسيا،
وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وهكذا ذكر عنه في المنظومة
وليس كذلك بل هذا هو ما ذكره ابن قدامة في " المغني " أن عند مالك تحل إذا
تركها ناسيا ولا تحل إذا تركها عامدا. وذكر ابن الجلاب في كتاب " التفريغ "
والتسمية شرط في صحة الذبيحة، فمن تركها عامدا لم تؤكل ذبيحته. وإذا تركها
ناسيا أكلت ذبيحته، انتهى.
المشهور عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قولنا، وقال الحربي: ومن ترك
التسمية على صيد عامدا أو ساهيا لم يؤكل، وإن ترك التسمية على ذبيحته عامدا
لم تؤكل. وإن تركها ساهيا أكلت ذبيحته، انتهى. وهذا هنا مروي عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وطاوس وابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
والحسن والثوري وإسحاق وعبد الرحمن بن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجعفر
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " التيسير " في سورة الأنعام وداود بن علي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يحرم متروك التسمية ناسيا. وقال في " النوازل " في قول
بشير: لا يؤكل إذا ترك التسمية عامدا أو ناسيا.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " شرحه لمختصر الكرخي ": وقد اختلف
الصحابة في النسيان، فقال علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ -: إذا ترك التسمية ناسيا أكل، وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: لا يؤكل. والخلاف في النسيان يدل على إجماعهم في العمد.
(11/535)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تؤكل
في الوجهين.
والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء وعلى هذا الخلاف إذا ترك التسمية عند
إرسال البازي والكلب وعند الرمي، وهذا القول من الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ
- مخالف للإجماع فإنه لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا.
وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيا. فمن مذهب ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه يحرم. ومن مذهب علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أنه يحل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: كيف صورة الناس متروك التسمية عمدا؟
قلت: أن يعلم أن التسمية شرط وتركها مع ذكرها، أما لو تركها من لم يعلم
باشتراطها فهو في حكم الناسي. ذكره في الحقائق.
[المسلم والكتابي في ترك التسمية سواء]
م: (والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء) ش: حتى إن الكتابي إذا تركها
عامدا لا تؤكل، وإذا تركها ناسيا تؤكل، وقد ذكرناه م: (وعلى هذا الخلاف) ش:
المذكور م: (إذا ترك التسمية عند إرسال البازي والكلب وعند الرمي) ش: أي
رمي السهم إلى الصيد -، فعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يؤكل في
الوجهين، وعند مالك لا يؤكل في الوجهين، وعندنا بالتفصيل المذكور م: (وهذا
القول من الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مخالف للإجماع، فإنه لا خلاف فيمن
كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا، وإنما الخلاف بينهم في متروك
التسمية ناسيا) ش: أي القول بجواز أكل متروك التسمية عامدا مخالف للإجماع،
لأن الإجماع انعقد على عدم جوازه قبل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
فالمخالف للإجماع المنعقد قبله خارق للإجماع فلا تسمع م: (فمن مذهب ابن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه يحرم) ش: أشار بهذا إلى بيان الخلاف في
متروك التسمية ناسيا فلذلك ذكره بالفاء أي يحرم متروك التسمية ناسيا.
وذكر أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأحكام " أن قصابا ذبح شاة
ونسي أن يذكر اسم الله سبحانه وتعالى عليها فأمر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - غلاما له أن يقوم عنده، فإذا جاء إنسان يشتري يقول له إن ابن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول لك: إن هذه شاة لم تذك فلم يشتر
منها شيئا.
م: (ومن مذهب علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنه يحل) ش: أي
متروك التسمية ناسيا يحل. وفي " موطأ " مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يحيى
بن سعيد أن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - سئل عن
الذي ينسى أن يسمي الله سبحانه وتعالى على ذبيحته فقال: يسمي الله ويأكل
ولا بأس. وقال الرازي في " الأحكام " وذكر عن علي وابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - ومجاهد وعطاء وابن المسيب والزهري وطاوس قالوا: لا بأس
بأكل ما نسي أن يسمي.
(11/536)
بخلاف متروك التسمية عامدا، ولهذا قال أبو
يوسف والمشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه
الاجتهاد، ولو قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا للإجماع. له:
قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المسلم يذبح على اسم الله
تعالى سمى أو لم يسم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عليه عند الذبح. وقالوا: إنما هو على الملة م: (بخلاف متروك التسمية
عامدا) . ش: حيث لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
في حرمته م: (ولهذا) ش: أي ولأجل انعقاد الإجماع على تحريم متروك التسمية
عامدا.
م: (قال أبو يوسف والمشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إن متروك التسمية عامدا
لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز بيعه) ش: أي بيع متروك التسمية
عامدا م: (لا ينفذ لكونه مخالفا للإجماع) ش: والقاضي إذا قضى بما يخالف
الكتاب والسنة والإجماع يرده كما إذا قضى بما يخالف الكتاب والسنة
المشهورة، والإجماع من أقوى الحجج، فلا يجوز مخالفته بلا خلاف.
م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قوله - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المسلم يذبح على اسم الله سبحانه وتعالى سمى
أو لم يسم» ش: والحديث بهذا اللفظ غريب ولكن جاءت أحاديث في معناه؛ منها ما
أخرجه الدارقطني ثم البيهقي عن محمد بن يزيد بن سنان عن عبيد الله الجزري
عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلم
يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم وليذكر اسم الله ثم يأكل» .
ومنها ما أخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن مروان بن سالم، عن
الأوزاعي عن عيسى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله سبحانه وتعالى، قال " اسم الله على كل
مسلم» وفي لفظ: «على فم كل مسلم» .
ومنها ما رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المراسيل " فقال: حدثنا
مسدد قال حدثنا عبد الله
(11/537)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن داود عن ثور بن يزيد عن الصلت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر» .
والجواب: أما الحديث الأول: فقال ابن القطان في كتابه: ليس في هذا الإسناد
من يتكلم فيه غير محمد بن يزيد بن سنان وكان صدوقا صالحا لكنه شديد الغفلة.
وقال غيره: معقل بن عبيد الله وإن كان من رجال مسلم، لكنه أخطأ في رفع هذا
الحديث وقد رواه سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي عن سفيان عن
عيينة عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قوله: ذكر البيهقي
وغيره فزادا في إسناده أبا الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس ووقفاه.
وقال ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التحقيق معقل هذا مجهول، وتعقبه
صاحب " التنقيح " فقال: بل هو مشهور، وهو ابن عبيد الله الجزري أخرج له
مسلم في " صحيحه ".
واختلف قول ابن معين فيه فمرة وثقه ومرة ضعفه. وقد ذكره ابن الجوزي في "
الضعفاء " فقال: معقل بن عبيد الله الجزري يروي عن عمرو بن دينار، قال
يحيى: ضعيف، لم يزد على هذا، ومحمد بن يزيد بن سنان الحريري هو ابن أبي
فروة الرهاوي. قال أبو داود: ليس بشيء.
وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: ضعيف، وذكره ابن حبان في
الثقات، والصحيح أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس - رضي الله عنهما هكذا
رواه ابن سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس،
انتهى كلامه.
قلت: أخرجه كذلك عبد الرزاق في " مصنفه " في الحج: حدثنا ابن عيينة عن عمرو
بن دينار عن أبي الشعثاء عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا - قال: إن في المسلم اسم الله، فإن ذبح ونسي أن يذكر اسم الله
فليأكل، وإن ذبح المجوسي وذكر اسم الله فلا يأكل ".
وأما الحديث الثاني فقال الدارقطني: مروان بن سالم ضعيف. وأعله بن القطان
أيضا به. وقال: هو مروان بن سالم العقاري وهو ضعيف. وليس مروان بن سالم
المكي. ورواه ابن عدي في " الكامل " وأسند تضعيفه عن أحمد والنسائي
وتابعهما. وقال: عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه.
وأما الحديث الثالث فإنه مرسل وهو ليس بحجة عنده. وقال ابن القطان: وفيه مع
(11/538)
ولأن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقطت
بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة. ولو كانت شرطا فالملة أقيمت مقامها
كما في الناسي. ولنا: الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . الآية نهي
وهو للتحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال ولا يعرف بغير هذا، ولا روى عنه
غير ثور بن زيد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
م: (ولأن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقطت بعذر النسيان كالطهارة في باب
الصلاة) ش: لأن شرط الشيء ما يتوقف الشيء على وجوده ولا يفترق الحال بين
النسيان والعمد كما في الطهارة واستقبال القبلة وستر العورة، فإن من نسي
الطهارة لا تجوز صلاته كما لو تركها عمدا، وإنما يفرق بينهما في الموجودات
كالأكل والشرب في الصوم م: (ولو كانت) ش: بين التسمية م: (شرطا فالملة
أقيمت مقامها) ش: يعني ولئن سلمنا أن التسمية شرط، لكن الملة أقيمت مقامها،
م: (كما في الناسي) ش: كما أقيمت الملة مقام التسمية في حق الناسي وإليه
أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن من ذبح فترك التسمية
ناسيا قال: «كلوا فإن تسمية الله تعالى في قلب كل امرئ مسلم» .
م: (ولنا: الكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الآية نهي وهو للتحريم)
ش: وجه الاستدلال أن الله سبحانه وتعالى نص على تحريم متروك التسمية عمدا
لأنه نهي.
والنهي لمطلق التحريم، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}
[الأنعام: 121] وأكد النهي بحرف من لأنه في موضع النهي للمبالغة فيقتضي
حرمة كل جزء منه، والهاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}
[الأنعام: 121] إن كانت كناية عن الآكل في الفسق أكل الحرام، وإن كانت
كناية عن المذبوح، فالمذبوح الذي يسمى فسقا يكون حراما كما في قوله سبحانه
وتعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وفي
الآية بيان أن الحرمة لعدم ذكر اسم الله سبحانه وتعالى، لأن التحريم يوصف
بذلك الوصف وهو الموجب للحرمة كالميتة والموقوذة. وبهذا يتبين فساد حمل
الآية على الميتة وذبائح المشركين، فإن الحرمة هناك ليست لعدم ذكر الله
سبحانه وتعالى؛ لأنه وإن ذكر اسم الله سبحانه وتعالى لا يحل.
فإن قلت: ما سوى حالة الذبح فليس بمراد بالإجماع. وأجمع السلف على أن
المراد حالة الذبح فلا يكون مجملا.
فإن قلت: لا نسلم أن المراد منه الذكر باللسان بل المراد منه الذكر عليه
مطلقا. والذكر.
(11/539)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقلب ذكر. قال الله سبحانه وتعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] والمراد منه الذكر بالقلب،
وقول القائل:
الله يعلم أن لست أذكره ... وكيف أذكره إذ لست أنساه
فإن الذكر والنسيان عمل القلب.
قلت: المراد بالنص الذكر باللسان، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى ذكر الذكر
عليه.
والذكر عليه لا يكون إلا باللسان، لأن الذكر عليه أن يقصد إيقاع الذكر
عليه، وإنما يقصد إلى الذكر بعد العلم به، لأن القصد إلى ما لا يعلم محال
وهذا لا يتصور بالقلب، لأنه لما خطر بالبال صار معلوما موجودا. فكيف يتصور
القصد إلى إيقاعه.
فإن قلت: الذكر بالقلب مراد بالإجماع، فلا يكون الذكر باللسان مرادا وإلا
لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. لأن الذكر من حيث القلب حقيقة لأن مدة
النسيان تكون بالقلب أو العموم للمشترك.
قلت: لا نسلم بذلك لأن الذكر للأمرين حقيقة لوجود الاستعمال فيهما عرفا
وشرعا، وضد الذكر السكوت أيضا. وهو يكون باللسان فكان حقيقة فيهما ولا يلزم
عموم المشترك لأنه مشترك معنوي وهو المطلق لا المشترك اللفظي.
فإن قلت: الناسي مخصوص بالإجماع، ولو أريد به ظاهره لجرت المحاجة في السلف
وظهر الانعقاد وارتفع الخلاف، فيخص العامل بالقياس وخبر الواحد.
قلت: الناسي غير مخصوص لأنه ذاكر تقدير الكلام القياس المسلم مقام الذكر في
حق الناسي بالحديث. وهو معذور مستحق للنظر والتحقيق. والعامد غير معذور.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فإن قلت: حالة النسيان مخصوصة.
قلت: لو خضت حالة العمد يؤدي إلى إلغاء النص، انتهى.
قلت: الناسي لا يخلو إما أن يكون مرادا منها أو لا، فإن كان مرادا لا يكون
مخصوصا وحينئذ يلزم إرادة العامد بالطريق الأولى. وإن لم يكن مرادا يلزم
إرادة العامد صونا للنص عن التعطيل.
فإن قلت: المراد بالآية الميتة لأن سبب نزول الآية مجادلة المشركين في
الميتة، حيث قالوا
(11/540)
والإجماع وهو ما بينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأكلون ما يقتلونه ولا يأكلون ما قتله الله سبحانه وتعالى.
قلت: سلمنا السبب ولكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؛ لأن اللفظ هو
الذي يدل على الحكم لا السبب. فلو كان مختصا بالسبب لم يتجاوز حكم الشرع
مكة والمدينة لأن سائر الأسباب ثمة واللفظ عام لأن قوله سبحانه وتعالى:
{مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] يتناول
الميتة وغيرها مما لم يذكر اسم الله تعالى.
فإن قلت: النصوص معارضة لهذا النص منها قوله سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِمَّا
فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] ومنها قوله سبحانه وتعالى:
{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] استثنى الذكاة من المحرمات، وهي
مذكاة، لأن الذكاة هي الجرح بين اللبة واللحيين. ومنها قوله سبحانه وتعالى:
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] بيانه أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخبر أنه لا يحرم سوى المذكورات في هذه
الآية. ومتروك التسمية غير مذكور في هذه الآية، فكان حلالا.
قلت: أما الجواب عن الآية الأولى فيقول نحن نوجب ذلك لأنه سبحانه وتعالى
أمر بأكل الحلال لا الحرام، ومتروك التسمية عامدا حرام، بما تلونا فلا يرد
علينا.
والجواب عن الآية الثانية فقول ليس المراد نفي الحرمة عما سوى المذكور من
هذه الآية مطلقا، لأن لحم الكلب ولحم الحمار والبغل حرام ولم يذكر في هذه
الآية، بل المراد منه أنه لم يجد محرما مما كانوا يعتقدونه حراما في هذه
الآية، والدليل عليه ما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 144] إلى أن قال:
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] .
فإن قلت ذبيحة أهل الكتاب حلالا، وإن كان متروك التسمية، لأن ما يعتقدونه
أنها ليست بآلة حقيقة، فعلم أن التسمية ليست بشرط.
قلت: إنما حل ذبيحة الكتابي لأنه وجد ذكر اسم الله تعالى من حيث الضرورة
لأنهم يدعون ملة التوحيد فاكتفى بذلك القدر في حق المحل، ألا ترى أنا إذا
سمعنا أنهم يذكرون اسم الله عزيرا واسم المسيح عند الذبح نقول بحرمة
ذبائحهم، ولهذا نقول بحرمة ذبيحة المجوسي لأنه لا يدعي ملة التوحيد.
م: (والإجماع وهو ما بينا) ش:، أشار به إلى قوله فإنه لا خلاف فيمن كان
قبله في حرمة
(11/541)
والسنة وهو حديث عدي بن حاتم الطائي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال في
آخره: «فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك» علل الحرمة بترك
التسمية "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متروك التسمية عامدا إلى آخره. م: (والسنة وهو حديث عدي بن حاتم الطائي -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- قال في آخره: «فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك» علل الحرمة
بترك التسمية) ش: حديث عدي. هذا أخرجه الأئمة الستة في كتبهم. عن عدي بن
حاتم.
«قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إني أرسل كلبي
وأسمي، فقال " إذا أرسلت كلبك وسميت، فأخذ فقتل فكل، وإن أكل منه فلا تأكل،
فإنما أمسك على نفسه ".
قلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر ولا أدري أيهما أخذه، فقال: " لا
تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر» . رواه البخاري عن آدم
عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - قال: قلت يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، إلى آخره.
وروى البخاري أيضا وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل عن ثابت بن يزيد عن عاصم عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك وسميت فأمسك
فقتل فكل وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالط كلابا لم يذكر
اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتل» ، انتهى.
وهذا كله يدل على حرمة متروك التسمية عامدا، لأنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الحرمة بترك التسمية عامدا.
فإن قلت: ما الدليل على أن المراد هو العمد.
قلت: روى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن سعيد قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا
لم يتعمد» .
(11/542)
ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحتج بظاهر ما
ذكرنا إذ لا فصل فيه، ولكنا نقول في اعتبار ذلك من الحرج ما لا يخفى؛ لأن
الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع. والسمع غير مجري على ظاهره، إذ لو أريد
به لجرت المحاجة وظهر الانقياد وارتفع الخلاف في الصدر الأول والإقامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحتج بظاهر ما ذكرنا إذ لا فصل فيه) ش: أي
لا فصل في ظاهر ما ذكرنا من الآية لأن قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ،
يشمل العمد والنسيان جميعا، لعدم القيد بأحدهما.
وقال صاحب " العناية ": واستدل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بظاهر قوله
سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، فإن فيه النهي بالمنع وجه وهو تأكيده بمن
الاستغراقية عن كل متروك التسمية، وهو بإطلاقه يقتضي الحرمة من غير فصل وهو
أقرب لا محالة من مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه مذهب ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
قلت: قدمنا أن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس كذلك وإنما مذهبه
كمذهبنا كما صرح به أصحابنا في كتبهم، والعجب من صاحب العناية لم يبينه على
هذا مع قدرته على كتب المالكية حتى قدر مذهبه بما قرره، ثم قال وهو أقرب.
فكأنه رأى هذا صوابا، وعجب منه صاحب " الهداية " مع جلالة قدره نسبه إلى
مالك ما ليس بمذهبه. ثم قرره ثم أجاب عنه م: (ولكنا نقول في اعتبار ذلك) ش:
أي النسيان م: (من الحرج ما لا يخفى؛ لأن الإنسان كثير النسيان والحرج
مدفوع) ش: بالنص وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
فيحمل على حالة العمد دفعا للتعارض م: (والسمع) ش: أي المسموع في هذا الباب
من الآية والحديث م: (غير مجري على ظاهره) ش: من حيث لم يرد منه العموم
ظاهرا، م: (إذا لو أريد به) ش: أي لأنه لو أريد النسيان بالنص م: (لجرت
المحاجة) ش: أي التحاجج بين الصحابة بالآية م: (وظهر الانقياد وارتفع
الخلاف في الصدر الأول) ش: وهم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
-.
تقرير هذا الكلام أن الصحابة اختلفوا في متروك التسمية ناسيا، ولم يحتج من
قال حرمت بالآية. فلو جرت الحاجة بها لارتفع الخلاف بينهم. فيه نظر انقياد
من قال: يحل متروك التسمية ناسيا، ورجع عن قوله حيث لم تجر المحاجة ولم
يرجع الخلاف علم أن الآية متروك الظاهر، وليس المراد به النسيان بل المراد
منه العمد. م: (والإقامة) ش: مرفوع بالابتداء.
وجواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أقيمت الملة مقام التسمية في حق
الناسي،
(11/543)
في حق الناسي، وهو معذور. لا يدلي عليها في
حق العامد ولا عذر. وما رواه محمول على حالة النسيان،
ثم التسمية في ذكاة الاختيار تشترط عند الذبح وهي على المذبوح وفي الصيد
تشترط عند الإرسال والرمي وهي على الآلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وينبغي أن يقام أيضا مقامه في حق العامد، وتقريره أن إقامة الملة مقام
التسمية م: (في حق الناسي وهو معذور) ش: أي والحال أنه معذور م: (لا يدلي
عليها) ش: خبر المبتدأ أعني قوله والإقامة.
أي لا يدل على الإقامة. م: (في حق العامد، ولا عذر) ش: أي والحال أنه لا
عذر موجود في العمد.
وذلك لأن النسيان من قبل من له حق أقام الملة مقام التسمية فجعله عذرا.
والعامد ليس بمعذور، فلا يقاس على الناسي؛ لأنه ليس في معناه.
م: (وما رواه) ش: أي ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم
يسم» ، م: (محمول على حالة النسيان) ش: بدليل ما روي في حديث راشد بن سعيد
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا لم يتعمد.
فإن قلت: روى البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده إلى «عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وكانت الأعراب قريبو عهد بالإسلام يأتونها باللحم فلا ندري أسموا عليه، أم
لم يسموا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سموا أنتم وكلوا»
". فلو كانت التسمية شرطا للحل لما أمرها بالأكل عند الشك فيها.
قلت: هذا دليل لنا لأنها سألت عن الأكل عند وقوع الشك في التسمية. فذلك
دليل على أنه كان معروفا عندها أن التسمية من شرائط الحل، وإنما أمرها
بالأكل بناء على الظاهر أن المسلم لا يدع التسمية عمدا، كمن اشترى لحما في
السوق يباح التناول بناء على الظاهر وإن كان يتوهم أنه ذبيحة مجوسي.
[حكم التسمية في ذكاة الاختيار]
م: (ثم التسمية في ذكاة الاختيار تشترط عند الذبح وهي على المذبوح) ش: أراد
أن التسمية في الذكاة الاختيارية تقع على الذبح فيشترط عند الذبح. وفي "
التحفة ": ينبغي أن يريد بالتسمية التسمية على الذبيحة أما لو أراد التسمية
عند افتتاح العمل لا يحل.
م: (وفي الصيد تشترط عند الإرسال والرمي) ش: أي إرسال الكلب ونحوه، ورمي
السهم.
م: (وهي على الآلة) ش: أي التسمية هنا على الآلة وهي السهم، والكلب. وفائدة
هذا تظهر في
(11/544)
لأن المقدور له في الأول: الذبح وفي
الثاني: الرمي والإرسال دون الإصابة، فتشترط عند فعل يقدر عليه، حتى إذا
أضجع شاة وسمى، فذبح غيرها بتلك التسمية لا يجوز.
ولو رمى إلى صيد وسمى وأصاب غيره حل. وكذا في الإرسال. ولو أضجع شاة وسمى
ثم رمى بالشفرة وذبح بالأخرى أكل ولو سمى على سهم ثم رمى بغيره صيدا لا
يؤكل.
قال: ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره وأن يقول عند الذبح: اللهم
تقبل من فلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسائل ذكرها بعد م: (لأن المقدور له في الأول الذبح) ش: أي المقدور للذابح
في ذكاة الاختيار الذبح.
م: (وفي الثاني: الرمي والإرسال) ش: أي المقدور له في ذكاة الاضطرار رمي
السهم، وإرسال الكلب م: (دون إصابة) ش: يعني الإصابة ليست في قدرته عند
الرمي والإرسال. م: (فتشترط عند فعل يقدر عليه) ش: أي إذا كان كذلك فيشترط
التسمية عند الفعل الذي يقدر عليه، ففي الأول يتعذر على الذبح، وفي الثاني
على الرمي والإرسال دون الإصابة.
م: (حتى إذا أضجع شاة) ش: هذا يظهر ما ذكره من اشتراط التسمية على الذبيح
في الذبح، وعلى الرمي والإرسال في غير صورته أضجع شاة ليذبحها. م: (وسمى
فذبح غيرها بتلك التسمية) ش: أي ذبح شاة غير الشاة التي أضجعها بتلك
التسمية الأولى م: (لا يجوز) ش: أي لا يحل أكلها لأن التسمية كانت على
الأولى.
[رمى إلى صيد وسمى وأصاب غيره]
م: (ولو رمى إلى صيد وسمى وأصاب غيره حل) ش: أي أصاب سهمه غير الصيد الذي
رمى إليه، حل، لأن التسمية هنا على الآلة وهي لم تتبدل م: (وكذا في
الإرسال) ش: أي، وكذا الحكم في إرسال الكلب، بأن أرسل كلبا إلى صيد، وسمى
فمسك غير الصيد الذي أرسله إليه فإنه يحل لما ذكرنا. وكذا لو أرسل فهدا أو
بازيا.
م: (ولو أضجع شاة وسمى ثم رمى بالشفرة) ش: أي السكين م: (وذبح بالأخرى أكل)
ش: أي ذبح الشاة التي أضجعها بشفرة أخرى أكل، لأن التسمية وقف على الشاة،
ولم تتبدل وتذكر الفعل باعتبار الذبيح. م: (ولو سمى على سهم ثم رمى بغيره
صيدا لا يؤكل) ش: لوقوع التسمية على السهم الأول. ولا خلاف فيه للثلاثة.
[يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره عند
التذكية]
م: (قال: ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره وأن يقول عند الذبح:
اللهم تقبل من فلان) ش: لم يثبت في النسخة الصحيحة لفظة. قال هنا، وصورة
المسألة في " الجامع الصغير "، عن محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أنه قال: يكره أن يذكر مع اسم الله شيئا غيره، ويكره أن يقول:
اللهم تقبل من فلان هذا الذبح. وقال: لا بأس به إذا كان قبل التسمية وقبل
(11/545)
وهذه ثلاث مسائل: إحداها أن يذكر موصولا لا
معطوفا فيكره، ولا تحرم الذبيحة. وهو المراد بما قال. ونظيره أن يقول: بسم
الله محمد رسول الله؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يضجع للذبح. انتهى.
وفي " كفاية " تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ينبغي أن ما يكون من
الدعاء يذكر قبل الذبح كما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يذبح أضحيته، قال: " اللهم هذا منك، ولك صلاتي
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من
المسلمين، بسم الله والله أكبر " ثم ذبح» وهكذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -.
م: (وهذه ثلاث مسائل) ش: أي المسألة المذكورة متنوعة ومتفرعة على ثلاث
مسائل: م: (إحداها) ش: أي إحدى المسائل الثلاث م: (أن يذكر موصولا لا
معطوفا) ش: أي أن يذكر الشيء مع اسم الله تعالى، كون ذلك الشيء موصولا باسم
الله سبحانه وتعالى، ولكن بغير عطف بحرف من حروف العطف م: (فيكره ولا تحرم
الذبيحة) ش: أي إذا كان كذلك يكره فعله هذا، ولا تحرم الذبيحة، لما يقوله
الآن م: (وهو المراد بما قال) ش: أي ما ذكره من كونه موصولا لا معطوفا هو
المراد بما قال في " الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ونظيره أن يقول: بسم الله محمد رسول الله) ش: برفع الدال في محمد ولو
خفضها لا تحل. ذكره في " النوازل "، وقيل: هذا إذا كان يعرف النحو، وقيل:
لا تحرم على قياس ما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يرى بتخفيضها
انخفاضا في النحو، معتبرا في باب الصلاة ونحوها. كذا في " الذخيرة "، وفي "
الفتاوى ": لو قال: بسم الله محمد رسول الله بالخفض لا يحل، وبالرفع يحل،
ولم يذكر النصب.
وفي رواية الزيد: ونسي النصب. كالخفض لا يحل. ولو قال: بسم الله، صلى الله
على محمد يحل. والأولى أن لا يفعل. ولو قال: بسم الله، وصلى الله على محمد،
مع الواو يحل أكله. ولو قال: باسم الله، وباسم فلان لا يحل، هو المختار.
ولو ذبح ولم يظهر الهاء في بسم الله إن قصد ذكر الله يحل، وإن لم يقصد أو
قصد ترك الهاء لا يحل كذا في " الخلاصة ".
وفي " النوازل ": سئل أبو نصر عن ذبح، وقال: بسم الله، وباسم فلان. قال:
سمعت محمد بن سلمة، قال: سمعت إبراهيم بن يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول:
تصير ميتة، وقال محمد بن سلمة: لا تصير ميتة، لأنه لو صارت ميتة صار الرجل
كافرا.
وفي " مبسوط " شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو قال: بسم الله، والله
أكبر، وصلى
(11/546)
لأن الشركة لم توجد فلم يكن الذبح واقعا له
إلا أنه يكره لوجود القران صورة فيتصور بصورة المحرم. والثانية: أن يذكره
موصولا على وجه العطف والشركة بأن يقول: بسم الله واسم فلان أو يقول بسم
الله وفلان أو بسم الله ومحمد رسول الله بكسر الدال فتحرم الذبيحة لأنه أهل
به لغير الله. والثالثة: أن يقول مفصولا عنه صورة ومعنى بأن يقول قبل
التسمية وقبل أن يضجع الذبيحة أو بعده، وهذا لا بأس به لما روي عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال بعد الذبح: «اللهم تقبل هذه
عن أمة محمد ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله على محمد. إن أراد بذكر محمدا الاشتراك في التسمية لا يحل، وإن أراد
التبرك دون الاشتراك يحل.
م: (لأن الشركة لم توجد) ش: لعدم العطف م: (فلم يكن الذبح واقعا له إلا أنه
يكره لوجود القران صورة فيتصور بصورة المحرم) ش: أي لوجود المعارضة بين
الكلامين بحسب الظاهر فيكره ذلك.
م: (والثانية) ش: أي: والمسألة الثانية م: (أن يذكره موصولا على وجه العطف،
والشركة بأن يقول: بسم الله، واسم فلان) ش: نحو اسم فلان م: (أو يقول: باسم
الله، وفلان) ش: بين نحو اسم فلان م: (أو بسم الله، ومحمد رسول الله بكسر
الدال) ش: أي أو يقول باسم الله، ومحمد رسول الله نحو محمد والكسر وإن كان
من ألقاب البناء.
ولكن قد يستعمل في الإعراب م: (فتحرم الذبيحة لأنه أهل به لغير الله) ش: أي
إذا كان كذلك فيحرم الذبيحة لأنه سمى بغير اسم الله سبحانه وتعالى، فصارت
ميتة.
م: (والثالثة) ش: أي والمسألة الثالثة م: (أن يقول: مفصولا عنه صورة ومعنى
بأن يقول قبل التسمية، وقبل أن يضجع الشاة أو بعده) ش: أي أو بعد أن يضجع
الشاة وفي بعض النسخ: وقبل أن يضجع الذبيحة م: (وهذا لا بأس به لما «روي عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال بعد الذبح: " اللهم
تقبل هذه من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن شهد لك
بالوحدانية ولي بالبلاغ» .
ش: والحديث رواه مسلم في الضحايا، عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير، عن
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في
سواد فأتي به ليضحي به، فقال: يا عائشة هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر،
ففعلت فأخذها، وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: " بسم الله، اللهم تقبل
من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد " ثم ضحى به» وهو عند أبي داود - رَحِمَهُ
اللَّهُ - بالواو قال «فأضجعه وذبحه، وقال: " بسم الله» وليس فيه مقصود
المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(11/547)
والشرط هو الذكر الخالص المجرد على ما قال
ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جردوا التسمية حتى لو قال عند الذبح:
اللهم اغفر لي لا يحل لأنه دعاء وسؤال، ولو قال: الحمد الله أو سبحان الله
يريد التسمية حل،
ولو عطس عند الذبح فقال: الحمد لله لا يحل في أصح الروايتين لأنه يريد به
الحمد على نعمة دون التسمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط ": وينبغي أن لا يذكر مع اسم الله غيره إذا أراد أن يدعو أو
يقول: تقبل من فلان، وينبغي أن يقدم ذلك على الذبح، أو يؤخره عنه، ولا يذكر
مع الحرف [ ... ] تأويل الحديث.
م: (والشرط هو الذكر الخالص المجرد) ش: أي وشرط حل الذكاة هو الذكر الخالص
لله سبحانه وتعالى المجرد عن غيره م: (على ما قال ابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: جردوا التسمية) ش: هذا غريب لم يثبت عن ابن
مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإنما ذكر عن أصحابنا في كتبهم م: (حتى
لو قال عند الذبح: اللهم اغفر لي، لا يحل لأنه دعاء وسؤال) ش: فلم يكن ذكرا
خالصا، وأشار به إلى أنه لو قدمه أو أخره لا بأس به م: (ولو قال: الحمد لله
أو سبحان الله يريد التسمية حل) ش: بلا خلاف.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأمالى ": أرأيت إن ذبح فقال الحمد
على ذبيحته، ولم يزد على ذلك أو قال: الله أكبر، أو سبحان الله، قال: إن
كان يريد بذلك التسمية فإنه يؤكل، وإن كان لا يريد بذلك التسمية فإنه لا
يؤكل. قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - خواهر زاده في " شرحه ": وهذا
لأن هذه الألفاظ ليست بصريحة في باب التسمية. والصريح في باب التسمية اسم
الله، وإذا لم تكن هذه الألفاظ صريحة في الباب كانت كناية، وإنما تقوم مقام
الصريح بالنية كما في كنايات الطلاق إن نوى الطلاق كان طلاقا، وإلا فلا
فكذا.
[عطس عند الذبح فقال الحمد لله]
م: (ولو عطس عند الذبح فقال: الحمد لله، لا يحل في أصح الروايتين؛ لأنه
يريد به الحمد على نعمة دون التسمية) ش: لأنه قال في الأصل: إذا قال الحمد
لله يريد به التسمية أكل، وإن لم يرد التسمية فلا، والعاطس لم يرد التسمية
على الذبح، بل أراد الحمد على نعم الله سبحانه وتعالى، فعلى رواية الكرخي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - ينبغي أن يحل لأنه قال: التحميد بمنزلة التسمية مطلقا.
أما لو قال الخطيب: الحمد لله عند العاطس يجوز أن يصلي به الجمعة بذلك
القدر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المبسوط " لأن هناك
المأمور به ذكر الله مطلقا، وهنا الذكر على الذبح، ولم يوجد.
(11/548)
وما تداولته الألسن عند الذبح وهو قوله:
بسم الله والله أكبر منقول عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في
قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:
36] .
قال: والذبح بين الحلق واللبة وفي " الجامع الصغير ": لا بأس بالذبح في
الحلق كله، وسطه، وأعلاه وأسفله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قول الذابح بسم الله والله أكبر]
م: (وما تداولته الألسن عند الذبح وهو قوله) ش: أي قول الذابح: م: (بسم
الله، والله أكبر منقول عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله
تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] ش:
هذا أخرجه الحاكم في " المستدرك "، في الذبائح من حديث شعبة عن سليمان عن
أبي ظبيان عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في قوله
سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]
قال: قياما على ثلاثة قوائم معقولة يقول: باسم الله، والله أكبر اللهم منك
وإليك، قال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وعنه في رواية أخرى: أخرجه في " التفسير " عن جرير عن الأعمش عن أبي ظبيان
عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله سبحانه وتعالى:
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] قال: إذا أردت
أن تنحر البدنة فأنمها ثم قل: الله أكبر، الله أكبر، منك ولك ثم سم ثم
انحرها.
وقال: صحيح على شرط الشيخين.
والعجب من المصنف كيف ترك الحديث المرفوع فيه، وحجر على نفسه. وهو ما أخرجه
الأئمة الستة في كتبهم في الضحايا عن قتادة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضحي بكبشين أملحين
أقرنين يذبحهما بيده اليمنى، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما» . وفي لفظ
لمسلم يقول: «بسم الله، والله أكبر» " ولعل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
أراد الاستدلال بالقرآن مفسرا به قول الصحابي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فإن كان ذلك فهو حسن. وفي " الذخيرة " قال البقال: والمستحب أن يقول: باسم
الله، الله أكبر، يعني بدون الواو.
ثم قال: وذكر شمس الأئمة الحلواني: ويستحب أن يقول: بسم الله. الله أكبر
يعني بدون الواو. لأن الواو تقطع فور التسمية. قال الأترازي - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: وفيه نظر.
قلت: نظره صحيح، لأن الذي ثبت في الحديث الصحيح على ما ذكرنا بالواو. فلا
ينبغي أن يترك اتباعا للحديث.
[مكان الذبح]
م: (قال: والذبح بين الحلق واللبة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -
في " مختصره ": المراد بذلك بيان محل الذبح م: (وفي " الجامع الصغير " لا
بأس بالذبح في الحلق كله، وسطه وأعلاه، وأسفله) ش: وفي " المبسوط ": ما بين
اللبة، واللحيين، واللبة رأس الصدر، واللحيان الذقن.
(11/549)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب " العناية ": وأتى بلفظ " الجامع الصغير " لأن فيه بيانا ليس في
رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذلك لأن في رواية القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: الذبح بين الحلق، واللبة، وليس بينهما مذبح غيرهما فيحمل على ما
يدل عليه لفظ " الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الكاكي -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما عاد لفظ " الجامع " لأن بين رواية " المبسوط "،
و " الجامع الصغير " - رحمهما الله - اختلافا من حيث الظاهر. فإن رواية "
المبسوط " تقتضي الحل، فيما إذا وقع الذبح فوق الحلق قبل العقدة؛ لأنه بين
اللبة واللحيين فيحل.
وفي رواية " الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يحل لأن على
رواية محل الذبح الحلق، فلما وقع قبل العقدة لم يكن الذبح على الحلق فلا
يجوز، فتكون رواية " الجامع " مقيدة لإطلاق رواية " المبسوط ".
وقد صرح في " الذخيرة ": أن الذبح إذا وقع أعلى من الحلقوم قبل العقدة لا
يحل، كذا ذكره في " فتاوي أهل سمرقند "، وبه قالت الثلاثة، ولكن ذكر الإمام
الرسعني في " فوائده ": يحل لأن المعتبر قطع أكثر الأوداج، وقد وجد سواء
كان فوق العقدة أو تحته.
وفي " الخلاصة ": هذا خلاف قول عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال
صاحب " النهاية ": كان شيخي يفتي به، وكان يقول: الإمام الرسعني معتمد في
القول والعمل. فلو أخذنا يوم القيامة بسبب العمل بقوله نحن نأخذه أيضا.
وقال الأترازي: وذكر في " فوائد الرسعني " أنه سئل عمن ذبح شاة فبقيت عقدة
الحلقوم مما يلي الصدر أتؤكل أم لا؟ قال: هذا قول العوام من الناس، وليس
هذا بمعتبر، ويجوز أكلها سواء كانت بقيت العقدة مما تلي الرأس أو مما يلي
الصدر.
وأما المعتبر عندنا قطع أكثر الأوداج، وهذا صحيح لأنه لا اعتبار بكون
العقدة من فوق أو من تحت. ألا ترى إلى قول محمد بن الحسن - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": لا بأس بالذبح في الحلق كله، أسفل الحلق
أو وسطه أو أعلاه. فإذا ذبح في الأعلى لا بد أن يبقي العقدة من تحت، ولم
يلتفت إلى العقدة لا في كلام الله سبحانه وتعالى، ولا في كلام رسوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل الذكاة بين اللبة، واللحيين
بالحديث، وقد حصلت كيفما بقيت العقدة، لا سيما على مذهب أبي حنيفة فإنه
يكتفي بالثلاث من الأربع أي ثلاث كانت. ويجوز ترك الحلقوم أصلا فالطريق
الأولى أن يحل الذبح إذا قطع الحلقوم من أعلاه، وبقيت العقدة إلى أسفل
الحلقوم.
وقال تاج الشريعة في " شرحه ": قوله: والذبح بين الحلق واللبة. أراد بذلك
بيان محل الذبح فيجوز في أعلى الحلق، وأسفله. ووسطه. وفي رواية " الجامع
الصغير ": تقتضي أن
(11/550)
والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «الذكاة ما بين اللبة واللحيين» ولأنه مجمع المجرى
والعروق. فيحصل بالفعل فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذبح فوق الحلق قبل العقدة لا يجوز لأنه جعل الحلق محلا، وإن كان فوق
العقدة.
وهكذا ذكر في " الفتاوى "، ووضع الأصل يقتضي أن يحل لأنه بين اللبة،
واللحيين، وإن كان فوق العقدة، لأن شمس الأئمة فسره، وقال: فيه دليل على أن
أعلى الحلق ووسطه، وأسفله سواء، فيكون المراد على هذا التفسير ما يكون في
الأصل مقيدا كما ذكر في الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيكون المراد
من كلمة بين ما يستفاد من كلمة في. وكان معناه: الذكاة في الحلق تؤيده
رواية " الجامع الصغير ".
قلت: لفظة بين في اللغة بمعنى وسط، يقول: جلست بين القوم أي وسطهم، ولفظه
للظرفية. ولكنها تجيء بمعنى بين أيضا كما في قوله سبحانه وتعالى:
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أي بين عبادي فحينئذ يستفاد من
أحدهما ما يستفاد من الآخر. فعلى هذا يحمل معنى ما ذكره القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ - على ما ذكره في " الجامع الصغير " فافهم.
م: (والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذكاة ما بين
اللبة واللحيين ") » ش: أي الأصل في الذبح قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ولم يثبت هذا الحديث بهذه العبارة.
وإنما أخرج الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن سعيد بن سلام
العطار - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثنا عبد الله بن بديل الخزاعي عن الزهري عن
سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بديل بن الورقاء الخزاعي على
جمل أورق يصيح في فجاج منى، ألا إن الذكاة في الحلق واللبة.» قال في "
التنقيح ": هذا إسناد ضعيف بمرة، وسعيد بن سلام أجمع الأئمة على ترك
الاحتجاج به، وكذبه ابن نمير، وقال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذكر بوضع
الحديث. وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحدث بالبواطيل متروك.
وأخرجه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " موقوفا على ابن عباس،
وعلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - الذكاة في الحلق واللبة.
وقد فسرنا اللبة واللحيين عن فرد. وهذا من باب تسمية الحال باسم المحل.
كقولهم جرى النهر، وسال الميزاب.
م: (ولأنه مجمع المجرى والعروق) ش: أي ولأن ما بين الحلق واللبة مجرى
الطعام والماء ومجمع العروق السارية في البدن م: (فيحصل بالفعل فيه) ش: أي
فيما بين الحلق واللبة وأراد
(11/551)
إنهار الدم على أبلغ الوجوه، فكان حكم الكل
سواء.
قال: والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجان لقوله
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أفر الأوداج بما شئت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفعل فعل الذبح م: (إنهار الدم على أبلغ الوجوه) ش: أي إسالة الدم. يقال:
أنهرت الدم إذا أسلته. وقال ابن دريد: أنهر العرق، إذا لم ينهر دمه زعموا،
وقال ابن عباد: أنهر بطنه، أي انطلق. وكذلك أنهر، ومنه أسقط. والنهر واحد
الأنهار م: (فكان حكم الكل سواء) ش: أراد به كل الحلق وسطه، وأعلاه،
وأسفله.
[العروق التي تقطع في الذكاة]
م: (قال: والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة) ش: أي قال القدوري: العروق
التي هي محل القطع في التذكية أربعة عروق م: (الحلقوم، والمريء، والودجان)
ش: الحلقوم بضم الحاء هو الحلق والميم فيه زائدة. والمريء بالهمزة، وذكره
في " العباب " في باب مرأ بالهمزة في آخره. وقال بقوله: مريء الجزور،
والشاة للمتصل بالحلقوم الذي يجر فيه الطعام، والشراب، والجمع مري. مثل:
سرير، وسرر، والودجان تثنية ودج.
قال الصنعاني: الودج، والوداج عرق في العنق. وهما ودجان.
وقال الليث: الودج عرق متصل من الرأس إلى النحر، والجمع الأوداج، وهي عروق
تكشف الحلق م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أفر الأوداج
بما شئت» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي - رحمهما الله -، وابن
ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكن بغير هذه العبارة " فروا ". عن سماك بن
حرب عن مري بن قطري عن «عدي بن حاتم - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قلت: يا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت أحدنا أصاب صيدا
وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا فقال: " أفر الدم بما شئت، واذكر
اسم الله» وفي لفظ النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أنهر الدم " وكذلك رواه
أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده "، قال الخطابي: ويروى أمرر، قال:
والصواب أمر بسكون الميم، وتخفيف الراء.
قلت: وبهذا اللفظ رواه ابن حبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " صحيحه "،
والحاكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " المستدرك "، وقال: صحيح على شرط
مسلم، ولم يخرجاه، وقال السهيلي في " الروض الأنف ": أمر الدم، بكسر الميم
أي أسله. يقال: الدم مائر أي سائل، قال: هكذا رواه النقاش، وفسره. ورواه
أبو عبيد بسكون الميم وجعله من مريت الضرع، والأول أشبه
(11/552)
وهي اسم جمع وأقله الثلاث فيتناول المريء
والودجين وهو حجة على الشافعي في الاكتفاء بالحلقوم والمريء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعنى. وجمع الطبراني في " معجمه " بين الروايات الثلاثة، وفيه رواية
رابعة عند النسائي في " سننه الكبرى " أهرق.
قلت: يكون الجميع برواية أبي عبيد خمس روايات توضيحها أن الأولى أمر من
الإمرار، والثانية: أفر من الإفراء، والثالثة: أنهر من الإنهار، والرابعة:
أهرق من الإهراق، وأصله أرق من الإراقة والهاء زائدة، والخامسة من المريء
ناقص يائي، قوله: أفر الأوداج أي اقطعها قالوا: هو بفتح الهمزة.
قلت: هنا مادتان: الفري والإفراء، فالأولى ثلاثي مجرد، والثاني: مزيد فيه،
والفرق بينهما في المعنى أن الفري هو القطع للإصلاح، والإفراء هو القطع
للإفساد، فعلى هذا يكون كسر الهمزة هنا أليق، فافهم.
م: (وهي اسم جمع وأقله الثلاث فيتناول المريء والودجين) ش: أي الأوداج اسم
جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وأقل الودج ودجان، فكان المراد الودجين والمريء
بطريق التغليب.
فإن قلت: الأوداج جمع ليس باسم جمع، وبينهما فرق كما عرف في موضعه.
قلت: المراد بالاسم مفهومه اللغوي أي لفظ جمع، ولا يريد به نحو القوم،
والرهط، أو يكون لفظه اسم معجمة.
فإن قلت: الألف واللام إذا دخلا على الجمع تصير للجنس، ويقع على الأدنى.
قلت: هذا إذا لم يكن ثمة معهود. وقد وجدنا هذا وهو الودجان فيه خلاف في
الإرادة والمريء أيضا لما ذكرنا، وإنما قلنا: إن النص يتناول المريء من حيث
اللفظ. والحلقوم بطريق الاقتضاء لأن قطع مجرى النفس أبلغ إلى حصول المقصود
من قطع مجرى العلف. وقد فسر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - المريء بمجرى
النفس على ما سيجيء إن شاء الله تعالى.
م: (وهو حجة على الشافعي في الاكتفاء بالحلقوم والمريء) ش: أي قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفر الأوداج وأنهر الدم بما شئت» ،
حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " وجيز الشافعية ": يصير
(11/553)
إلا أنه لا يمكن قطع هذه الثلاثة إلا بقطع
الحلقوم فيثبت قطع الحلقوم باقتضائه وبظاهر ما ذكرنا يحتج مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ولا يجوز الأكثر منها بل يشترط قطع جميعها وعندنا: إن قطعها حل
الأكل وإن قطع أكثرها فكذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا
بد من قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
هكذا ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الاختلاف في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قطع الحلقوم والمريء، وهذا دون الوريدين، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ
-، وعن الإصطرخي: يكفي قطع الحلقوم، والمريء، وفي " الحلية ": وهذا خلاف نص
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وخلاف الإجماع. م: (إلا أنه لا يمكن قطع هذه
الثلاثة إلا بقطع الحلقوم فيثبت قطع الحلقوم باقتضائه) ش: هذا كأنه جواب
عما يقال: إن الأوداج في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفر
الأوداج» جمع، وأقله ثلاثة، فأنتم شرطتم قطع الأربعة حيث قلتم: والعروق
التي تقطع في الذكاة أربعة، وتقرير الجواب: أن الحديث وإن كان دل على وجوب
قطع الثلاثة، ولكن إن لا يمكن قطعها إلا بقطع الحلقوم لأنه لا ينتهي قطع
الأوداج من غير حرج بدون قطع الحلقوم فثبت قطعه اقتضاء، والثابت قضاء
كالثابت نصا.
وصار كأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على قطع الحلقوم،
ونوع من المعقول يدل على هذا، وهو أن المقصود من إزالة الروح الذبح لتسييل
الدم المسفوح الذي هو النجس على وجه التعجيل. لأن في الإبطاء زيادة تعذيب
الحيوان، وهذا المقصود على التمام إنما يحصل بقطع هذه الأشياء الأربعة.
م: (وبظاهر ما ذكرنا يحتج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يجوز الأكثر منها
بل يشترط قطع جميعها) ش: أي بظاهر ما ذكرنا من قطع اشتراط الأربعة. يحتج
مالك حتى لا يجوز قطع الثلاثة بل يشترط قطع جميعها، هذا الذي نسبه المصنف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى مالك هو الذي ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده في " شرح
المبسوط "، حيث اشترط فيه على مذهب مالك قطع الأربع جميعا حتى إذا نقص واحد
منها لا يحل.
ولكن ذكر في كتاب " التفريع " للمالكية أن المعتبر عند المالكية - رَحِمَهُ
اللَّهُ - قطع ثلاثة أعضاء وهي الودجان، والحلقوم، وليس يراعي قطع الحلقوم،
وليس يراعي قطع المريء، فعلى هذا الذي ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
إما رواية عنه أو عن أحمد م: (وعندنا: إن قطعها) ش: أي الأربعة المذكورة م:
(حل الأكل وإن قطع أكثرها فكذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي
وإن قطع أكثر الأربعة، يعني أن عنده يكتفى للحل بقطع الثلاثة من الأربعة،
أي ثلاثة كانت.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ
- م: (لا بد من قطع الحلقوم، والمريء وأحد الودجين) ش: حتى لو قطع بعض
الحلقوم أو المريء لم يحل م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف
- رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (هكذا ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الاختلاف
في
(11/554)
" مختصره "، والمشهور من كتب مشايخنا -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أن هذا قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده.
وقال في " الجامع الصغير ": إن قطع نصف الحلقوم ونصف الأوداج لم يؤكل، وإن
قطع أكثر الأوداج والحلقوم قبل أن يموت أكل ولم يحك خلافا، واختلفت الرواية
فيه، والحاصل: أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا قطع الثلاث أي
ثلاث كان يحل وبه كان يقول أبو يوسف أولا ثم رجع إلى ما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" مختصره ". والمشهور من كتب مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أن هذا قول
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده) ش: أي أن قوله: لا بد من قطع الحلقوم
والمريء وأحد الودجين قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده. وذكر الكرخي
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " فإن قطع من هذه الأربعة ثلاثة.
قال بشير بن الوليد: روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أبا حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إذا قطع أكثر الأوداج أكل، إذا قطع ثلاثة منها
أكل، من أي جانب كان، وعلى أي وجه كان. وكذلك قال أبو يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ثم قال بعد ذلك: لا يأكل حتى يقطع الحلقوم والمريء، وأحد
الودجين. وذلك كله سواء في الإبل والبقر، والغنم، والصيد، وكل ذبيحة. قال:
وكذلك الناقة ينحرها الرجل فهي كذلك في القولين جميعا في قول أبي حنيفة:
إذا قطع أكثر الأوداج. وفي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يؤكل حتى
يقطع الحلقوم والمريء، وأحد الودجين، انتهى، ولم يذكر قول محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ -.
[قطع نصف الحلقوم ونصف الأوداج في الذكاة]
م: (وقال في " الجامع الصغير ": إن قطع نصف الحلقوم، ونصف الأوداج لم يؤكل،
وإن قطع أكثر الأوداج والحلقوم قبل أن يموت أكل ولم يحك خلافا) ش: يعني أنه
لو قطع النصف من كل واحد من الأربعة لا يحل ترجيحا لجانب الحرمة على جانب
الحل عند الاستواء، بخلاف ما إذا قطع أكثر من كل فرد لرجحان الموجب للحل،
قوله: ولم يحك خلافا: أي في " الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لم
يحك خلافا في هذه المسألة م: (واختلفت الرواية فيه) ش: أي في حكم هذه
المسألة.
م: (والحاصل أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا قطع الثلاث أي ثلاث
كان يحل وبه) ش: أي وبهذا القول م: (كان يقول أبو يوسف أولا، ثم رجع إلى ما
ذكرنا) ش: وهو قوله: لا بد من قطع الحلقوم، والمريء وأحد الودجين.
وفي " الغاية ": وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات: إحداها
بهذه يعني قطع الثلاث، أي ثلاث كانت، والثانية: اشتراط قطع الحلقوم مع
الأخرى، والثالثة: اشتراط قطع الحلقوم، والمريء وأحد الودجين.
(11/555)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يعتبر
أكثر كل فرد وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن كل فرد منها
أصل بنفسه لانفصاله عن غيره ولورود الأمر بفريه فيعتبر أكثر كل فرد منها.
ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المقصود من قطع الودجين إنهار الدم
فينوب أحدهما عن الآخر، إذ كل واحد منهما مجرى الدم. أما الحلقوم فيخالف
المريء فإنه مجرى العلف والماء والمريء مجرى النفس، فلا بد من قطعهما.
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من
الأحكام وأي ثلاث قطعها فقد قطع الأكثر منها. وما هو المقصود يحصل بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يعتبر أكثر كل فرد) ش: يعني لا بد
من قطع أكثر كل واحد من الأربعة م: (وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ -) ش: أي ما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن كل فرد منها) ش: أي من الأربعة م: (أصل
بنفسه لانفصاله عن غيره، ولورود الأمر بفريه) ش: أي قطعه وأراد بالأمر هو
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفر الأوداج، وأنهر ما شئت»
م: (فيعتبر أكثر كل فرد منها) ش: أي من الأربعة وللأكثر حكم الكل.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المقصود من قطع الودجين إنهار
الدم) ش: أي إسالته. م: (فينوب أحدهما عن الآخر إذ كل واحد منهما) ش: أي من
الودجين م: (مجرى الدم. أما الحلقوم فيخالف المريء فإنه) ش: أي فإن الحلقوم
م: (مجرى العلف والماء، والمريء مجرى النفس فلا بد من قطعهما) ش: أي من قطع
الحلقوم، المريء.
وهكذا فسر شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - خواهر زاده في " مبسوطه "
وقال: المريء عرق يحمل مجرى النفس. وقال صاحب الكشاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
في تفسير سورة الأعراف: الحلقوم مدخل الطعام، والشراب، وفسره القدوري بخلاف
ذلك في " شرح مختصر الكرخي "، فقال: الحلقوم مجرى النفس، والمريء مجرى
الطعام، والودجان مجرى الدم. وهكذا ذكره في " الإيضاح " وهو الصحيح يؤيده
قوله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:
83] .
وقال في " ديوان الأدب ": المريء الذي يدخل فيه الطعام والشراب. وفي "
المغرب ": المريء مجرى الطعام والشراب. وفي " الجمهرة ": مريء الإنسان
وغيره مجرى الطعام أي جوفه. وقيل: المذكور في المتن غير صحيح من النسخ،
والصحيح منها عكسه.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير
من الأحكام) ش: نحو مسح الرأس، وانكشاف العورة في الصلاة، وتغطية الرأس في
الإحرام ونحو ذلك م: (وأي ثلاث قطعها فقطع الأكثر منها) ش: أي من الأربعة.
م: (وما هو المقصود يحصل بها) ش: أي والذي هو المقصود من الذبح يحصل
بالثلاثة، أي
(11/556)
وهو إنهار الدم المسفوح والتوحية في إخراج
الروح لأنه لا يحيى بعد قطع مجرى النفس أو الطعام ويخرج الدم بقطع أحد
الودجين فيكتفى به تحرزا عن زيادة التعذيب، بخلاف ما إذا قطع النصف لأن
الأكثر باق فكأنه لم يقطع شيئا احتياطا لجانب الحرمة.
قال: ويجوز الذبح بالظفر والسن والقرن إذا كان منزوعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقطعها م: (وهو) ش: أي المقصود م: (إنهار الدم المسفوح) ش: أي إسالته. م:
(والتوحية في إخراج الروح) ش: أي الإسراع، والتعجيل في إزهاق الروح وهو
بالحاء المهملة من وحاه توحية إذا عجله، ومنه موت وحي أي سريع والوحا بالمد
والقصر السرعة م: (لأنه) ش: أي لأن الحيوان م: (لا يحيى بعد قطع مجرى النفس
أو الطعام ويخرج الدم بقطع أحد الودجين) ش: فلا يحتاج إلى قطع الآخر لحصول
المقصود بأحدهما.
م: (فيكتفى به تحرزا عن زيادة التعذيب) ش: أي اكتفي بقطع أكثر الأربعة
للاحتراز عن زيادة تعذيب الحيوان؛ لأن المقصود إذا حصل بالثلاثة يكون قطع
الزائد زيادة في تعذيب الحيوان بلا فائدة؛ لأن ما هو المقصود من قطع
الودجين يحصل بقطع أحدهما وهو التوحية لأن مجرى النفس إذا انقطع انقطع مجرى
الطعام والشراب، يموت الحيوان من ساعته، مقام الثلاثة من الأربعة في تحصيل
ما هو المقصود من قطع الأربعة مقام الكل.
م: (بخلاف ما إذا قطع النصف) ش: هذا يتعلق بقوله: فيكتفى به، يعني إذا قطع
نصف الأربعة لا يكتفى به ولا يحل م: (لأن الأكثر) ش: أي أكثر المرخص وهو
الثلاثة م: (باق فكأنه لم يقطع شيئا) ش: لأن الاثنين لما كانا باقيين كان
أكثر [......] وهو الثلاثة باقيا فلا يحل وقيل: لما كان جانب الحرمة مرجحا
كان للنصف الباقي حكم الأكثر، فكأنه لم يقطع شيئا، وربما لوح لهذا بقوله:
م: (احتياطا لجانب الحرمة) ش: أي لأجل الاحتياط لجانب الحرمة.
فإن قلت: كيف قال لأن الأكثر باق، والشيء إنما يكون أكثر إذا كان ما يقابله
قليلا، وهذا القائل للنصف فلا يكون قليلا فلا يكون الباقي كثيرا.
قلت: الشرط قطع الثلاثة إذ المقصود من قطع العروق أنها لازم التوحية. ويحصل
ذلك بقطع الثلاثة فاكتفي به، فتركت الواحدة من الأربعة، وإذا ترك الاثنين
غير مقطوعين يكون الباقي أكثر من المشروط فافهم.
[آلة الذبح]
[الذبح بالظفر والسن والقرن]
م: (قال: ويجوز الذبح بالظفر والسن والقرن إذا كان منزوعا) ش: أي قال في "
الجامع الصغير ": وصورتها فيه: محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل يذبح الشاة بظفر منزوع، أو بقرن، أو
عظم، وسن منزوعة فينهر الدم ويفري الأوداج، قال: أكره
(11/557)
حتى لا يكون بأكله بأس إلا أنه يكره هذا
الذبح. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المذبوح ميتة لقوله - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا الظفر
والسن فإنهما مدى الحبشة» . ولأنه فعل غير مشروع، فلا يكون ذكاة كما إذا
ذبح بغير المنزوع. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنهر
الدم بما شئت» . ويروى «أفر الدم بما شئت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا الذبح وإن فعل فلا بأس م: (حتى لا يكون بأكله بأس إلا أنه يكره هذا
الذبح) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المذبوح ميتة) ش: أي المذبوح بهذه
الأشياء ميتة، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لقوله - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج، ما خلا الظفر
والسن فإنهما مدى الحبشة» ش: هذا الحديث ملفق من حديثين: الأول: ما رواه
الأئمة في الستة من حديث «رافع بن خديج، قال: كنا مع النبي في سفر، فقلت:
يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنا نكون من المغازي
فلا يكون معنا مدى فقال: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوا، ما لم
يكن سنا أو ظفرا، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة»
. أخرجوا هذا الحديث مختصرا، ومطولا.
الثاني: رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن جريج
عمن حدثه «عن رافع بن خديج قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الذبح بالليطة فقال: " كل ما أفرى الأوداج إلا سنا أو ظفرا»
.
والعجب من الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث ذكر حديث رافع هذا في
الاحتجاج للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يبينه لتلفيق الحديث الذي ذكره
المصنف ثم قال: بيانه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
استثنى الظفر والسن من الآلات التي يقطع بها الجرح، ولم يفصل بين القائم
والمنزوع فلم يجز الذبح بهما مطلقا «كل ما أنهر الدم» على حذف المضاف،
وإقامة المضاف إليه مقامه ومعناه: كل ما أنهر دمه إطلاقا لاسم الحال على
المحل في قوله سبحانه وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ} [الأعراف: 31]
معناه كل ما تحقق فيه إنهار الدم قوله مدى الحبشة، بضم الميم جمع مدية
بالضم أيضا وهي سكين القصاب.
م: (ولأنه فعل غير مشروع، فلا يكون ذكاة كما إذا ذبح بغير المنزوع) ش: أي
ولأن الذبح بالظفر والسن المنزوعين غير مشروع فإذا لم يكن ذكاة تكون ميتة
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنهر الدم بما شئت»
ويروى: «أفر الدم بما شئت» ش: قد مر الكلام في هذا الحديث عن قريب،
(11/558)
وما رواه محمول على غير المنزوع فإن الحبشة
كانوا يفعلون ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأحسن أن يستدل لأصحابنا بما رواه البخاري في " صحيحه ".
وقال: حدثنا محمد بن أبي بكر، قال: حدثنا معمر عن عبيد الله عن نافع قال:
سمعت ابن كعب بن مالك «عن ابن عمر أن أباه أخبره أن جارية لهم ترعى بسلع
فأبصرت بشاة من غنمها موتها فكسرت حجرا فذبحتها فقال لأهله: لا تأكلوا حتى
آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو حتى أرسل إليه من
يسأله، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بعث إليه،
فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكلها» .
وجه الاستدلال: أن الأصل في النصوص التعليل، والحجر يصلح آلة للذبح لمعنى
الجرح فكذا الظفر المنزوع، والسن المنزوعة بخلاف غير المنزوع، فإنه لا يصلح
آلة لكونه مدى الحبشة، وهو مجمل الحديث الأول.
م: (وما رواه) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (محمول على غير
المنزوع، فإن الحبشة كانوا يفعلون ذلك) ش: إظهارا للجلادة. فإنهم لا
يقتلعون ظفرا، ويحدون الأسنان بالمبرد، ويقاتلون بالخدش والعض. هكذا ذكره
النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " الأسرار ": لو لم يكن تعليله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنها مدى الحبشة» غير المنزوع لأن السن
والظفر مطلقا يذكره ويراد به غير المنزوع، أما المنزوع بذكر مقيد، يقال: سن
منزوع، والظفر المنزوع ولم يذكر مطلقا.
أما القرن ينبغي أن لا يكره، بالنظر إلى تعليله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وقد قال ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر حديث
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المذكور الذي أخرجه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ
- من حديث سفيان الثوري عن أبيه سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة بن رافع
بن خريج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الحديث فيه شك في شيئين في اتصاله، وفي قوله: «أما
السن فعظم» هل هو من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم
لا. فقد روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي الأحوص عن سعيد بن
مسروق، وسفيان الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عباية بن رفاعة بن رافع عن
أبيه عن جده «رافع ابن خديج - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال: أتيت النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت له: يا رسول الله: إنا ملاقو
العدو غدا، وليس عندنا مدى أفنذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوا
ما لم يكن سنا أو ظفرا» .
قال رافع: سأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة، قال:
فهذا كما ترى فيه زيادة رفاعة بن عباية وجده رافع، وفيه بيان قوله: أما
السن فمن كلام رافع، وليس في حديث مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - من رواية
الثوري وأخيه عن أبيهما ذكر لسماع عباية من جده رافع
(11/559)
ولأنه آلة جارحة فيحصل به ما هو المقصود،
وهو إخراج الدم وصار كالحجر والحديد، بخلاف غير المنزوع لأنه يقتل بالثقل،
فيكون في معنى المنخنقة، وإنما يكره لأن فيه استعمال جزء الآدمي ولأن فيه
إعسارا على الحيوان وقد أمرنا فيه بالإحسان.
قال: ويجوز الذبح بالليطة والمروة بكل شيء أنهر الدم إلا السن القائم
والظفر القائم، فإن المذبوح بهما ميتة لما بينا، ونص محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في " الجامع الصغير " على أنها ميتة لأنه وجد فيه نصا، وما لم
يجد فيه نصا يحتاط في ذلك فيقول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
، إنما جاءا به معنعنا، فبين أبو الأحوص أن بينهما واحدا، ولم يكن نصا في
حديث مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قوله: أما السن من كلام النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصا، فبين أبو الأحوص أنه من كلام رافع -
رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولأنه آلة جارحة) ش: أي ولأن كل واحد من الظفر، والقرن، والسن المنزوع
آلة تجرح وتخرج الدم م: (فيحصل به ما هو المقصود) ش: أي بكل واحدة من هذه
الأشياء م: (وهو) ش: أي المقصود م: (إخراج الدم وصار كالحجر والحديد، بخلاف
غير المنزوع) ش: من الظفر والسن م: (لأنه يقتل بالثقل) ش: لأنه يوجب الموت
بالفراة مع الحدة.
م: (فيكون في معنى المنخنقة) ش: فيكون حراما م: (وإنما يكره) ش: يعني الذبح
بالظفر المنزوع والسن المنزوعة م: (لأن فيه استعمال جزء الآدمي) ش: كالوصل
بشعر الآدمي والانتفاع بالفروة وهذا لا يتأدى في القرن.
م: (ولأن فيه إعسارا على الحيوان) ش: هذا وجه آخر للكراهة أي ولأن في الذبح
بهذه الأشياء إعسارا على الحيوان وإضرارا به لضعف الآلة فيؤدي إلى زيادة
تعذيب الحيوان م: (وقد أمرنا فيه بالإحسان) ش: أي والحال أنا قد أمرنا في
ذبح الحيوان بالإحسان على ما يجيء وهذا التعليل يشمل الكل.
[الذبح بالليطة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويجوز الذبح بالليطة) ش: بكسر اللام وسكون
الياء آخر الحروف وهو قشر القصب م: (والمروة) ش: وهو حجر أبيض رقيق يذبح
بها كالسكين م: (وبكل شيء أنهر الدم) ش: أي أسأله م: (إلا السن القائم،
والظفر القائم فإن المذبوح بهما ميتة لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأنه
يقتل بالثقل.
م: (ونص محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " على أنها ميتة
لأنه وجد فيه نصا) ش: على أن الذبيحة بالسن القائمة ميتة؛ لأنه أي لأن محمد
- رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وما لم يجد فيه) ش: أي في تحريمها نصا عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلذلك أطلق جوابها، وهذه طريقة محمد
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في المنصوص عليه بالتحريم أو بالتحليل أنه يثبت القول
وما لم يجز فيه م: (نصا يحتاط في ذلك فيقول
(11/560)
في الحل: لا بأس به، وفي الحرمة يقول يكره
أو لم يؤكل
قال: ويستحب أن يحد الذابح شفرته لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
-: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته»
ويكره أن يضجعها ثم يحد الشفرة؛ لما روي «عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - أنه رأى رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال: " لقد أردت أن
تميتها موتات هلا حددتها قبل أن تضجعها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الحل: لا بأس) ش: أي لا بأس بفعله على الفاعل. ثم قيل: كل موضع يقال فيه
لا بأس فتركه أولى، والأصح أن هذا ليس بكلي بل ينبغي أن ينظر فيه، فإن كان
ثمة شيء يدل على الجواز يتخير الفاعل، وإلا فتركه كان أولى م: (به وفي
الحرمة يقول: يكره أو لم يؤكل) ش: أي وفي الحرام يقول محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: يكره يعني فعله، أو يقول: لا يؤكل.
[ما يستحب في الذبح]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويستحب أن يحد الذابح
شفرته) ش: والشفرة بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء، وهي السكين العظيم،
وشفرة السيف حده م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الله
كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا
الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا
البخاري عن شراحيل بن أدة عن شداد بن أوس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب الإحسان» . الحديث أخرجوه في
الذبائح إلا الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه أخرجه في القصاص، قوله
القتلة بكسر القاف وهي الهيئة والحالة، وكذلك الذبحة بكسر الذال الهيئة
والحال. قوله: وليرح من الإراحة أي ليعطيها الراحة بالإسراع.
[ما يكره في الذبح]
[يضجع الذبيحة ثم يحد الشفرة]
م: (ويكره أن يضجعها ثم يحد الشفرة) ش: ذكره تفريعا في مسألة القدوري -
رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ويضجعها بضم الياء من الإضجاع، والضمير يرجع إلى الذبحة.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": إذا أراد الرجل أن يذبح
الذبيحة كره له أن يجرها برجلها إلى المذبح، وأن يضجعها ثم يحد الشفرة.
م: (لما «روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه رأى رجلا
أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال: " لقد أردت أن تميتها موتات، هلا حددتها قبل
أن تضجعها»
ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في " المستدرك " في الضحايا عن حماد بن زيد، عن
عاصم عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أن رجلا
أضجع شاة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتريد أن تميتها موتات، هلا حددت شفرتك قبل أن
تضجعها»
(11/561)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: حديث صحيح على شرط البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يخرجاه، وأعاده
في الذبائح وقال: على شرط الشيخين.
ورواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " عن عبد الرحمن بن سليمان
عن عاصم الأحول به، ورواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " في
الحج: حدثنا معمر عن عاصم عن عكرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رأى رجلا أضجع شاة، الحديث مرسل ورواه ابن ماجه في " سننه "،
عن ابن لهيعة عن قرة بن حيوئيل عن الزهري عن سالم عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: " إذا
ذبح أحدكم فليجهز» .
ورواه أحمد في " مسنده " عن ابن لهيعة عن عقيل، عن الزهري - رَحِمَهُ
اللَّهُ - به، وكذلك رواه الدارقطني في " سننه "، والطبراني في " معجمه "
وابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكامل "، وأعله بابن لهيعة، ومن جهة
الدارقطني ذكره عبد الحق في أحكامه. وقال: الصحيح في هذا عن الزهري -
رَحِمَهُ اللَّهُ - مرسل. والذي أسنده لا يحتج به. وفي " موطأ مالك " -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هشام عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رجلا أحد شفرة، وقد أخذ شاة ليذبحها، فضربه
عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بالدرة، وقال: أتعذب
الروح، هل فعلت هذا قبل أن تأخذها؟
قوله: إن تميتها موتات، أي مرات عديدة يعني موته.
فإن قلت: كيف يكون ذلك، ولا يعلم الحيوان بذبحه؛ لأنه لا عقل له.
قلت: هذا سؤال ساقط، وفيه سوء أدب؛ لأن الوهم في ذلك كاف وهو موجود فيه،
والعقل يحتاج إليه لمعرفة الكليات. وما نحن فيه ليس منها، وأجاب في "
المبسوط " بأن الحيوان يعرف ما يراد منه كما جاء في الخبر: ألهمت البهائم،
إلا عن أربعة: خالقها، ورازقها، وضعفها، وشقاؤها، فإذا كانت تعرف ذلك وهو
يحد الشفرة عندها كان فيه زيادة ألم غير محتاج إليه، ولهذا قيل: يكره أن
يذبح شاة والأخرى تنظر إليها.
(11/562)
قال: ومن بلغ بالسكين النخاع أو قطع الرأس
كره له ذلك وتؤكل ذبيحته. وفي بعض النسخ: قطع مكان بلغ،
والنخاع عرق أبيض في عظم الرقبة.
أما الكراهة فلما روي «عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أنه
نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[بلغ بالسكين نخاع الذبيحة أو قطع الرأس]
م: (قال: ومن بلغ بالسكين النخاع) ش: قال: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -
في " مختصره " م: (أو قطع الرأس) ش: أي رأس المذبوح م: (كره له ذلك وتؤكل
ذبيحته) ش: أي كره للذابح بلوغ السكين النخاع وقطع رأس المذبوح م: (وفي بعض
النسخ: قطع مكان بلغ) ش: أي بعض نسخ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (النخاع عرق أبيض في عظم الرقبة) ش: أي عرق أبيض في جوف عظم الرقبة،
يمتد إلى الصلب وهو بضم النون والفتح لغة.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: هو عرق وقد سهى، إنما ذلك
النخاع ثالثا وهو يكون في القفا من نخع الشاة، إذا بلغ بالذبح ذلك الموضع.
والنخع أبلغ من النخع بالنون.
وقال السغناقي أيضا: هو مشهور وإنما النخاع خيط أبيض في جوف عظم الرقبة
يمتد إلى الصلب.
وقال مقدم " صاحب العناية ": ورد بأن بدن الحيوان مركب، وسندهما في ذلك ما
قال في " المغرب ": النخاع خيط أبيض في جوف عظم الرقبة يمتد إلى الصلب من
الطعام، والأعصاب، والعروق هي شرايين وأوتار واضحة حتى يسمى بالخيط أصلا.
قلت: قال الصنعاني في " العباب ": قال الكسائي: النخاع: والنخاع بالحركات
الثلاث: الخيط الأبيض الذي في جوف القفاء، وقال في باب الهاء الموحدة:
النخاع بالكسر العرق الذي يكون في الصلب، وهو غير النخاع بالنون، فإنه
الخيط الأبيض الذي يجري في الرقبة. ونخع الشاة إذا بالغ في ذبحها وهو أن
يقطع عظم رقبتها ويبلغ بالذبح النخاع، ثم كثر حتى استعمل في كل مبالغة
انتهى، وكذلك قال الكرخي في " مختصره ": ويكره إذا ذبحها أن يبلغ النخاع
وهو العرق الأبيض الذي يكون في الرقبة، ويكره له أيضا أن ينخعها. قيل: أن
يتردد إن سلع أو نخع فلا بأس بذلك.
م: (أما الكراهة فلما «روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
أنه نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت» ش: هذا رواه محمد بن الحسن - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في كتاب الصيد من الأصل عن سعيد بن المسيب قال: «نهى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنخع الشاة إذا ذبحت» وهو مرسل
وبمعناه مرفوعا.
وقال الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه ": حدثنا أبو خليفة الفضل
بن الحباب حدثنا أبو
(11/563)
وتفسيره ما ذكرناه، وقيل: معناه: أن يمد
رأسه حتى يظهر مذبحه، وقيل: أن يكسر عنقه قبل أن يسكن من الاضطراب، وكل ذلك
مكروه وهذا لأن في جميع ذلك وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة،
وهو منهي عنه. والحاصل: أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه في الذكاة
مكروه.
ويكره أن يجر ما يريد ذبحه برجله إلى المذبح وأن تنخع الشاة قبل أن تبرد،
يعني تسكن من الاضطراب وبعده لا ألم. فلا يكره النخع والسلخ إلا أن الكراهة
لمعنى زائد وهو زيادة الألم قبل الذبح أو بعده فلا يوجب التحريم، فلهذا
قال: تؤكل ذبيحته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوليد الطيالسي حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن الذبيحة أن تفرس» .
ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بشهر بن حوشب وقال: إنه ممن لا يحتج
بحديثه، ولا نتدين به، وقال إبراهيم الحربي في " غريب الحديث ": الفرس أن
يذبح الشاة فتنخع، وروى البيهقي عن هشام الدستوائي وغيره عن يحيى بن أبي
كثير عن مغرور الكلبي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه نهى
عن الفرس في الذبيحة.
وقال أبو عبيدة: الفرس النخع، يقال: فرست الشاة ونخعتها وذلك أن ينتهي
الذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة. وقال: بل هو الذي يكون في فقار الصلب
شبيه بالملح فنهي أن ينتهي الذبح إلى ذلك.
وقال أبو عبيد: الفرس قيل هو الكسر، نهي أن تكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد.
م: (وتفسيره ما ذكرناه) ش: أي تفسير النخع ما ذكرناه. أراد به قوله: ومن
بلغ بالسكين النخاع: م: (وقيل: معناه أن يمد رأسه حتى يظهر مذبحه، وقيل: أن
يكسر عنقه قبل أن يسكن من الاضطراب) ش: قال البيهقي: قال الشافعي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - نهى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن النخع،
وأن تعجل الشاة أن تزهق، فالنخع أن تذبح الشاة ثم تكسر قفاها من موضع
الذبح، أو تضرب لتعجل قطع حركتها، وكره هذا، ولم يحرم لأنها ذكية.
م: (وكل ذلك مكروه) ش: أشار به إلى التفاسير الثلاث: م (وهذا) ش: حصول
الكراهة م: (لأن في جميع ذلك وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة
وهو منهي عنه) ش: أي تعذيب الحيوان بلا فائدة منهي عنه على ما مر في الآثار
المذكورة م: (والحاصل: أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه في الذكاة
مكروه) ش: أشار به إلى أصل جامع في إفادة معنى الكراهة، وهو كل ما فيه. اه.
[يجر ما يريد ذبحه برجله إلى المذبح]
م: (ويكره أن يجر ما يريد ذبحه برجله إلى المذبح) ش: لما روى البيهقي عن
عبد الرحمن بن حماد، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، أن رجلا رآه عمر -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يجر شاة ليذبحها فضربه بالدرة، وقال:
سقها لا أم لك إلى الموت سوقا جميلا م: (وأن تنخع الشاة قبل أن
(11/564)
قال: وإن ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى
قطع العروق حل لتحقق الموت بما هو ذكاة
ويكره لأن فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تبرد يعني تسكن من الاضطراب) ش: أي ويكره أيضا أن ينخع الشاة، وتفسير النخع
مستوفى مع الآثار الواردة فيه.
م: (وبعده) ش: أي وبعد أن تبرد م: (لا ألم فلا يكره النخع والسلخ) ش: أي
سلخ جلدها م: (إلا أن الكراهة) ش: أي غير أن الكراهة في ما ذكرنا م: (لمعنى
زائد وهو زيادة الألم قبل الذبح أو بعده فلا يوجب التحريم) ش: لوجود الذكاة
الشرعية م: (فلهذا قال: تؤكل ذبيحته) ش: أي فلأجل عدم موجب التحريم.
قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": وتؤكل ذبيحته بعد أن قال:
كره له ذلك هي ويكره الذبح لغير القبلة قال في الأصل: أرأيت الرجل يذبح
ويسمي ويوجه ذبيحته لغير القبلة متعمدا أو غير متعمد، قال: لا بأس بأكلها.
قال خواهر زاده في " شرح المبسوط ": أما الحل فلأن الإباحة شرعا متعلق قطع
الأوداج والتسمية، وقد وجد، وتوجه القبلة سنة مؤكدة لأنه توارثته الناس،
وترك السنة لا يوجب الحرمة، ولأنه يكره تركه من غير عذر.
وقال محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الآثار ": أخبرنا عبد
الرحمن بن عمر الأوزاعي عن واصل بن أبي جميل عن مجاهد، قال: «كره رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشاة سبعا: المرارة، والمثانة،
والغدة، [ ... ] ، والذكر والأنثيين، والدم» قال في تحفته ثم أبو حنيفة
فسرها فقال: الدم حرام بالنص القاطع وباقي السبعة مكروه لما أنه تستخبثه
الأنفس، وأراد به الدم المسفوح، وأما دم الكبد، والطحال، ودم اللحم فليس
بحرام، ذكره في " الغاية " هنا، فلذلك ذكرناه اتباعا له.
[ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى قطع العروق]
م: (قال: وإن ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى قطع العروق حل) ش: أي قال
القدوري: وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": قال أبو حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن ضرب عنق جزور بسيف فأبانها وسمى فإن كان ضربها من
قبيل الحلقوم فإنه يؤكل وقد أساء، وإن كان ضربها من قبل الظهر فإن كان قطع
الحلقوم والأوداج قبل أن تموت أكل وقد أساء، وكذلك هذا في الشاة، وكل
ذبيحة.
وقال أبو حنيفة: إن قطع رأس الشاة في الذبيحة أكل وإن تعمد ذلك، وقد أساء
في
(11/565)
زيادة الألم من غير حاجة، فصار كما إذا
جرحها ثم قطع الأوداج، وإن ماتت قبل قطع العروق لم تؤكل لوجود الموت بما
ليس بذكاة فيها.
قال: وما استأنس من الصيد فذكاته الذبح، وما توحش من النعم فذكاته العقر
والجرح، لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار على
ما مر. والعجز متحقق في الوجه الثاني دون الأول وكذا ما تردى من النعم في
بئر ووقع العجز عن ذكاة الاختيار لما بينا. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
-: لا يحل بذكاة الاضطرار في الوجهين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعمد. وكذلك قال أبو سيف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لتحقق الموت بما هو
ذكاة) ش: وهو قطع العروق، وبه قال أحمد ومالك - رحمهما الله -، وحكي عن
علي، وابن المسيب - رحمهما الله - أنها لا تؤكل. قلنا: عموم الأحاديث،
وتحقيق الذكاة.
م: (ويكره) ش: هذا لفظ القدوري م: (لأن فيه زيادة الألم من غير حاجة، فصار
كما إذا جرحها ثم قطع الأوداج) ش: حيث يحل ويكره م: (وإن ماتت قبل قطع
العروق لم تؤكل لوجود الموت بما ليس بذكاة فيها) ش: أي الشاة.
وفي " شرح الكافي ": قال الفقيه أبو بكر الأعمش: وإنما لو كانت تعيش قبل
قطع العروق أكثر ما يعيش المذبوح حتى يحل قطع العروق ليكون الموت مضافا
إليه، أما إذا كانت لا تعيش إلا كما يعيش المذبوح فإنه لا يحل؛ لأنه يحصل
الموت مضافا إلى الفعل السابق فلا يحل.
[ذكاة ما استأنس من الصيد]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وما استأنس من الصيد فذكاته الذبح) ش: وهو أي
الذي استأنس أي الحيوان الذي صار أنيسا لبني آدم في البيوت ثم أريد ذبحه
فذكاته الذبح وهو ما بين اللبة، واللحيين؛ لأنه صار كالشاة.
م: (وما توحش من النعم فذكاته العقر والجرح) ش: أي والحيوان الذي صار وحشيا
بأن اختلط بالموحش بالبوادي من النعم وهي الإبل والبقر والغنم. وكلمة من في
الموضعين للبيان، لأنه صار كالوحشي. وذكاة الوحشي بالعقر، والجرح كيفما
اتفق م: (لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار
على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: والثاني كالبدل من الأول. اهـ. م: (والعجز
متحقق في الوجه الثاني) ش: وهو توحش النعم م: (دون الأول) ش: وهو إيناس
الصيد.
م: (وكذا ما تردى من النعم في بئر) ش: أي سقط بأن وقع الجمل، أو البقر، أو
الشاة في بئر م: (ووقع العجز عن ذكاة الاختيار لما بينا) ش: أشار به إلى
قوله: لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليه عند العجز، وبقولنا قال الشافعي،
وأحمد، والثوري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
-: لا يحل بذكاة الاضطرار في الوجهين) ش: يعني في الاستئناس الصيد وتوحش
النعم.
(11/566)
لأن ذلك نادر، ونحن نقول: المعتبر حقيقة
العجز وقد تحقق فيصار إلى البدل، كيف وأنا لا نسلم الندرة بل هو غالب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبقوله قال الليث وربيعة م: (لأن ذلك نادر) ش: فلا يتغير عن حكمه الأصلي.
م: (ونحن نقول: المعتبر حقيقة العجز، وقد تحقق فيصار إلى البدل، كيف وأنا
لا نسلم الندوة بل هو غالب) ش: يدل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن لها أوابد كأوابد الوحش» يعني أن لها توحش كتوحش الوحش،
فقد اعتبر التوحش.
فإن قلت: روي أن ناضحًا وقع في بئر، فسئل سعيد بن المسيب - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: أو ننحر من مؤخره وكان رأسه في السفل، فقال: لا إلا في نحر
إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قلت: وروى مسلم عن زائدة: أخبرنا سعيد بن مسروق عن عباية عن جده قال: «كنا
مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي الحليفة، فأصاب
الناس جوع شديد فأصابوا إبلا وغنما، قال: وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أخريات القوم، فعجلوا وذبحوا وقد نصبت القدور،
فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقدور فأكفيت، ثم
قسم بينهم فعدل عشرا من الغنم ببعير فند بعير من إبل القوم، وليس في القوم
إلا خيل يسيرة، فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم
منها، فاصنعوا به هكذا» .
وأخرجه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا بإسناده إلى عباية بن رفاعة بن
رافع بن خديج عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وروى
محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الأصل "، وفي كتاب " الآثار " أيضا:
أخبرنا أبو حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية أبو رفاعة عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أن بعيرا تردى في بئر بالمدينة، فلم يقدر على
نحره فوخز بسكين من قبل خاصرته حتى مات، فأخذ منه ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا - عشيرا بدرهمين.
وقال محمد أيضا: أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم
في مترد في بئر على إذا لم يقدر على منحره فحيث ما جاءت فهو منحره. وقال
محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وبه أخذ، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ
-.
وقال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه ": ما ند من البهائم فهو
بمنزلة الوحش، وأجازه ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال ابن عباس:
ما أعجزك من البهائم مما في يديك فهو كالصيد، وفي بعير تردى في بئر من حيث
قدرت، ورأى ذلك علي، وعمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إلى هنا
لفظ البخاري في " صحيحه "، فإذا كان كذلك فالتمسك بقول ابن المسيب بعيدا
جدا قوله: فأكفيت أي أفرغت، قوله: فند بعير أي شذ وهرب، قوله: عشيرا بفتح
العين المهملة، وكسر الشين المعجمة.
(11/567)
وفي الكتاب: أطلق فيما توحش من النعم. وعن
محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشاة إذا ندت في الصحراء، فذكاتها العقر.
وإن ندت في المصر لا تحل بالعقر لأنها لا تدفع عن نفسها. فيمكن أخذها في
المصر فلا عجز، والمصر وغيره سواء في البقر والبعير لأنهما يدفعان عن
أنفسهما فلا يقدر على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال خواهر زاده في " شرحه ": فقد اختلفوا في تفسير العشير، قال بعضهم: هو
العشر؛ لأن العشر أو العشير سواء كالنصف والنصيف، وقال بعضهم: العشير
الأمعاء. قال الأترازي: هذا تفسير ما صح عندي، وما وجدته في كتب اللغة.
قلت: لعل هذا عشارة بضم العين وهي القطعة من كل شيء، وهو المناسب هنا على
ما لا يخفى، ويكون وقع فيه التصحيف من النساخ.
م: (وفي الكتاب أطلق فيما توحش من النعم) ش: أي في " مختصر القدوري " -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق الحكم، ولم يفصل بين الند في الصحراء، وفي المصر.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشاة إذا ندت في الصحراء فذكاتها
العقر، وإن ندت في المصر لا تحل بالعقر؛ لأنها لا تدفع عن نفسها فيمكن
أخذها في المصر فلا عجز. والمصر وغيره سواء في البقر والبعير لأنهما يدفعان
عن أنفسهما فلا يقدر أخذهما، وإن ندا في المصر فيتحقق العجز) ش: لأن البقر
يدفع بقرته، والبعير بشفره ونابه، ويخاف القتل منهما فيقع العجز عن ذكاة
الاختيار فيهما.
وفي " العيون ": قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل رمى حمامة أهلية في
الصحراء، وسمى فلا تؤكل لأنه ما [ ... ] إلى المنزل إلا لأن تكون حمامة لا
تهتدي إلى منزلها.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البعير أو الثور يند
فلا يقدر على أخذه قال: إن علم أنه لا يقدر على أخذه إلا أن يجتمع لها
جماعة كثيرة فله أن يرميه، وأما الشاة فلا يجوز إذا كانت في المصر؛ لأن
البعير يند ويصول ويمتنع. والثور نطيح فيمتنع، وفي الأصل: أرأيت إن أصاب
قرن البعير أو الظلف سهما هل يؤكل؟ قال: إن دمي حل، وإن لم يدم لا يحل.
وفي " النوادر ": دجاجة تعلقت بشجرة لا يصل إليها صاحبها فرماها، فقال: إن
كان يخاف فوتها يؤكل وإلا لا. وفي " النوازل ": بقرة تعسرت عليها الولادة
فأدخل صاحبها يده، وذبح الولد، حل أكله، وإن جرح في غير موضع الذبح إن كان
لا يقدر على مذبحه يحل أيضا، وإن كان لا يقدر لا يحل.
م: (والصيال كالند) ش: وفي بعض النسخ: كالند، والصيال الجملة م: (إذا كان
لا يقدر على
(11/568)
أخذهما، وإن ندّا في المصر فيتحقق العجز،
والصيال كالند إذا كان لا يقدر على أخذه حتى لو قتله المصول عليه وهو يريد
الذكاة حل أكله.
قال: والمستحب في الإبل والنحر، فإن ذبحها جاز ويكره، والمستحب في البقر
والغنم الذبح فإن نحرهما جاز ويكره أما الاستحباب فيه فلموافقة السنة
المتوارثة، ولاجتماع العروق فيها في المنحر، وفيهما في المذبح والكراهة
لمخالفة السنة، وهي لمعنى في غيره فلا تمنع الجواز والحل، خلافا لما يقوله
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخذه حتى لو قتله المصول عليه وهو يريد الذكاة حل أكله) ش: قال القدوري في
" شرحه لمختصر الكرخي ": وحكي في " المنتقى " وفي البعير إذا صال على إنسان
فقتله وهو يريد الذكاة حل أكله إذا كان لا يقدر على أخذه، وضمن قيمته فجعل
الصول بمنزلة الند.
[النحر للإبل]
م: (قال: والمستحب في الإبل النحر، فإن ذبحها جاز ويكره، والمستحب في البقر
والغنم الذبح) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والذبح هو قطع
العروق التي في أعلى العنق حتى اللحين، ولا خلاف بين أهل العلم أن النحر في
الإبل مستحب، والذبح فيما سواها.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أي
الجزور. وقال سبحانه وتعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:
107] وهو الكبش؛ «ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين
فذبحهما بيده، ونحر بدنة أي جزورا» . متفق عليه.
م: (فإن نحرهما جاز ويكره) ش: أي فإن نحر البقر والغنم جاز ويكره فعله إلا
المذبوح. م: (أما الاستحباب فيه فلموافقة السنة المتوارثة) ش: وهي ما رواه
البخاري في " صحيحه " بإسناده عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نحر
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع بدنات بيده قياما،
وذبح بالمدية كبشين أملحين أقرنين» . وروى مسلم بإسناده «عن جابر قال: كنا
نتمتع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذبح البقرة عن
سبعة» م: (ولاجتماع العروق فيها) ش: أي في البقر، والغنم م: (في المنحر،
وفيهما في المذبح) ش: وهو موضع الذبح.
م: (والكراهة) ش: بالرفع عطفا على قوله الاستحباب أي الكراهة الحاصلة في
نحر البقر والغنم وذبح الإبل م: (لمخالفة السنة) ش: وهي التي ذكرناها؛
ولأنه زيادة ألم لا يحتاج إليه في الذكاة كما لو جرحها في موضع آخر م:
(وهي) ش: أي الكراهة م: (لمعنى في غيره) ش: أي في غير الذبح والنحر
لمخالفته السنة لا لذات ذبح ما ينحر.
م: (فلا تمنع الجواز والحل) ش: أي إذا كان كذلك فلا يمنع النحر في موضع
الذبح أو الذبح في الموضع النحر جواز الفعل، وحل المذبوح. م: (خلافا لما
يقوله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحل) ش: قال في " شرح الأقطع ":
وعن مالك إذا ذبح البدن لم يؤكل وهذا بخلاف ما قاله أبو القاسم بن
(11/569)
قال: ومن نحر ناقة أو ذبح بقرة فوجد في
بطنها جنينا ميتا لم يؤكل أشعر أو لم يشعر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وهو قول زفر والحسن بن زياد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف ومحمد
- رحمهما الله -: إذا تم خلقته أكل، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ذكاة الجنين ذكاة أمه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجلاب في كتاب " التفريع "، والاختيار ذبح البقر، والغنم، ونحر الإبل، فإن
ذبح بعيرا من ضرورة فلا بأس بأكله، وإن كان من غير ضرورة أكلها، ومن نحر
شاة ضرورة أكلت، وإن كانت من غير ضرورة كره أكلها، ومن نحر من غير ضرورة أو
من ضرورة فلا بأس بأكلها انتهى.
[الحكم لو نحر ناقة أو بقرة فوجد بها جنينا]
م: (قال: ومن نحر ناقة، أو ذبح بقرة فوجد في بطنها جنينا ميتا لم يؤكل أشعر
أو لم يشعر) ش: أي القدوري: أشعر الجنين: إذا نبت شعره، مثل أعشب المكان
إذا نبت عشبه م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول زفر
والحسن بن زياد - رحمهما الله. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: إذا
تم خلقته أكل، وهو الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وأحمد، ومالك.
وفي " المبسوط ": إلا أنه روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما يؤكل
الجنين إذا أشعر وتمت خلقته، فأما ما قبل ذلك فهو بمنزلة المضغة فلا يؤكل،
وبه قال مالك، والليث، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال ابن الجلاب في " التفريغ ": وقال: إذا ذبحت الذبيحة فإذا وجد في جوفها
جنين ميت فلا بأس بأكله إذا تمت خلقته، ونبت شعره، فإذا لم تتم خلقته، ولم
ينبت شعره لم يجز أكله، فإن انفصل منها حيا، أو استهل خارجا انفرد بحكم
نفسه، ولم يجز أكله بذكاة أمه فإن ذكي جاز أكله، وإن مات قبل ذكاته لم يجز
أكله. وقال الخرقي: الحبلى ذكاتها ذكاة جنينها أشعر أو لم يشعر م: (لقوله -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ش: هذا الحديث
رواه أحد عشر نفسا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
الأول: أبو سعيد الخدري: أخرج حديث أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن مجالد
عن أبي الوداك عن الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» قال الترمذي:
هذا حديث حسن، وهذا لفظه، ورواه ابن حبان في " صحيحه " وأحمد في " مسنده "
عن موسى بن إسحاق عن أبي الوداك به. ورواه الدارقطني في " سننه "، وزاد
أشعر أو لم يشعر، فقال: الصحيح أنه موقوف. قال الحافظ: وقال المنذري:
إسناده حسن،
(11/570)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويونس وإن تكلم فيه، فقد احتج به مسلم في " صحيحه ".
الثاني: جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أخرج حديثه
أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبيد الله بن أبي زياد القداح عن أبي
الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وعبيد بن أبي زياد فيه
مقال: ورواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " حدثنا عبد الأعلى، حدثنا حماد
بن شعيب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا نحوه.
الثالث: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخرج حديثه الحاكم في "
المستدرك " عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن أبي هريرة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - مرفوعا، وقال: إسناده صحيح وليس كما قال: فإن عبد الله بن سعيد
المقبري متفق على ضعفه. وأخرجه الدارقطني عن عمر بن قيس عن عمرو بن دينار
عن طاوس عن أبي هريرة، وقال عبد الحق: لا يحتج بإسناده. قال ابن القطان:
وعلته عمر بن قيس وهو المعروف بسندل، فإنه متروك.
الرابع: ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أخرج حديثه الحاكم
عن محمد بن الحسن الواسطي، عن محمد بن إسحاق، وهو مدلس ولم يصرح بالسماع
فلا يحتج به، ومحمد بن الحسن الواسطي ذكره ابن حبان في " الضعفاء ". . وروى
له هذا الحديث، وله طريق آخر عنه الدارقطني عن عصام بن يوسف عن مبارك بن
مجاهد، عن عبيد الله بن عمر عن نافع به.
وقال ابن القطان: وعاصم رجل لا يعرف له حال، وقال في " التنقيح ": مبارك بن
مجاهد ضعفه غير واحد.
الخامس: أبو أيوب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أخرج حديثه الحاكم
عن شعبة عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أيوب مرفوعا.
السادس: عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أخرج
حديثه الدارقطني عن علقمة قال: أراه رفعه، ورجاله رجال الصحيح. إلا أن شيخ
شيخه أحمد بن الحجاج بن الصلت، قال
(11/571)
ولأنه جزء من الأم حقيقة لأنه يتصل بها حتى
يفصل بالمقراض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيخنا الذهبي في ميزانه: هو آفة.
السابع: عبد الله بن عباس، وموسى بن عثمان الكندي عن أبي إسحاق عن عكرمة عن
ابن عباس، وموسى هذا قال ابن القطان: مجهول.
الثامن: كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أخرج حديثه
الطبراني في " معجمه " عن إسماعيل بن مسلم عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب
بن مالك مرفوعا نحوه. قال ابن حبان في كتاب " الضعفاء ": إسماعيل بن مسلم
المكي أبو ربيعة ضعيف، ضعفه ابن المبارك، وتركه يحيى، وليس هذا إسماعيل بن
مسلم البصري العبدي صاحب المتوكل، ذاك ثقة.
التاسع: أبو أمامة.
العاشر: أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أخرج حديثهما
البزار في " مسنده " عن بشر بن عمارة، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن
معدان، عن أبي الدرداء، وأبي أمامة - رحمهما الله -، قالا: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وقال البزار:
وقد روى هذا الحديث من وجوه عن أبي سعيد الخدري، وأبي أيوب، وغيرهما. وعلى
من رواه أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ورواه الطبراني في " معجمه "، إلا أنه قال: عن راشد بن سعد، عوض خالد بن
معدان، وكذلك فعل ابن عدي في " الكامل " ولين بشر بن عمارة، ثم قال: وهو
عندي حديثه إلى الاستقامة أقرب، ولا أعرف له حديثا منكرا.
الحادي عشر: علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أخرج حديثه
الدارقطني، عن الحارث عنه. والحارث معروف، وفيه موسى بن عثمان الكندي، قال
ابن القطان: مجهول، قال عبد الحق في " أحكامه ": هذا حديث لا يحتج بأسانيده
كلها، وأقره ابن القطان عليه.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الجنين م: (جزء من الأم حقيقة لأنه يتصل بها حتى
يفصل بالمقراض) .
(11/572)
ويتغذى بغذائها ويتنفس بتنفسها. وكذا حكما
حتى يدخل في البيع الوارد على الأم ويعتق بإعتاقها. وإذا كان جزءا منها
فالجرح في الأم ذكاة له عند العجز عن ذكاته كما في الصيد وله: أنه أصل في
الحياة حتى يتصور حياته بعد موتها، وعند ذلك يفرد بالذكاة ولهذا يفرد
بإيجاب الغرة
ويعتق بإعتاق مضاف إليه، وتصح الوصية له وبه وهو حيوان دموي، وما هو
المقصود من الذكاة، وهو التمييز بين الدم واللحم لا يتحصل بجرح الأم، إذ هو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي حتى يفصل الجنين عن أمه بقطع سرته بالمقراض م: (ويتغذى بغذائها
ويتنفس بتنفسها) ش: أي بغذاء أمه، وهذا كله دليل على كونه جزءا من الأم.
م: (وكذا حكما) ش: أي وكذا جزء من الأم حكما من حيث الحكم م: (حتى يدخل في
البيع الوارد على الأم ويعتق بإعتاقها) ش: أي يعتق الجنين بإعتاق أمه في
بني آدم، وقال في " الأسرار ": لو قال: أعتقت الأمة إلا ما في البطن عتق ما
في البطن كما لو قال: أعتقتها إلا يدها.
م: (وإذا كان جزءا منها) ش: أي وإذا كان الجنين جزءا من الأم حقيقة وحكما
م: (فالجرح في الأم ذكاة له عند العجز عن ذكاته) ش: أي عند عدم القدرة على
ذكاة الاختيار في الجنين م: (كما في الصيد) ش: إذا لم يوجد القدرة على ذكاة
الاختيار، اكتفي بذكاة الاضطراب وهي الجرح في أي موضع كان، كما في البعير
الناد. فكذا اكتفي بذكاة الأم.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (أنه)
ش: أي الجنين م: (أصل في الحياة حتى يتصور حياته بعد موتها) ش: أي بعد موت
الأم، ولا يتوهم بقاء الجزء حيا بعد الانفصال وبعد موت الأصل.
م: (وعند ذلك) ش: أي عند كونه أصلا في الحياة م: (يفرد بالذكاة) ش: يعني
ذكر على حدة ولا يذكى بذكاة أمه م: (ولهذا) ش: أي ولكونه أصلا في الحياة م:
(يفرد بإيجاب الغرة) ش: يعني إذا أتلف الأم ومات الجنين من ذلك يضمن
التالف، ودية الأم وغرة الجنين. ولو كان جزء الأم لكان بمنزلة اليد والرجل.
ولا يجب في هذه الأعضاء شيء بعد إيجاب الدية.
م: (ويعتق) ش: أي الجنين م: (بإعتاق مضاف إليه) ش: أي إلى الجنين دون الأم.
م: (وتصح الوصية له وبه) ش: أي للجنين وبالجنين فلهذه الأشياء كلها أحكام
النفوس لا الأجزاء م: (وهو) ش: أي الجنين م: (حيوان دموي) ش: مثل أمه، فلا
يكون ذكاة أمه سببا بخروج الدم منه م: (وما هو المقصود من الذكاة، وهو
التمييز) ش: أي التمييز وهكذا هو في بعض النسخ أي الفصل من الرطوبات
السائلة النجسة. واللحم طاهر أشار إليه بقوله: م: (بين الدم واللحم لا
يتحصل بجرح الأم) ش: قوله: لا يحصل خبر لقوله: وما هو المقصود م: (إذ هو)
ش: الجنين م:
(11/573)
ليس بسبب لخروج الدم عنه، فلا يجعل تبعا في
حقه بخلاف الجرح في الصيد؛ لأنه سبب لخروجه ناقصا، فيقام مقام الكامل فيه
عند التعذر. وإنما يدخل في البيع تحريا لجوازه كيلا يفسد باستثنائه، ويعتق
بإعتاقها كيلا ينفصل من الحرة ولد رقيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ليس بسبب لخروج الدم عنه) ش: أي عن الجنين م: (فلا يجعل تبعا في حقه) ش:
أي فلا يجعل الجنين تبعا لأمه في حق خروج الدم.
م: (بخلاف الجرح في الصيد) ش: هذا جواب عن قولهما: كما في الصيد، تقريره أن
يقال: إن القياس على الصيد غير صحيح؛ لأن أصل الجرح وجد في الصيد م: (لأنه)
ش: أي الخروج في الصيد م: (سبب لخروجه ناقصا) ش: أي لخروج الدم عنه حال
كونه ناقصا لكونه من غير الذبح م: (فيقام مقام الكامل فيه عند التعذر) ش:
أي عند عدم القدرة على الأصل وهو الذبح في الحلق. فأقيم السبب الذي هو
الجرح وإسالة الدم مقام المسبب. بخلاف الجنين فإن لم يوجد فيه الجرح أصلا.
م: (وإنما يدخل في البيع) ش: جواب عن قولهما حتى يدخل في البيع الوارد على
الأم، تقريره إنما يدخل الجنين في بيع أمه م: (تحريا) ش: أي طلبا م:
(لجوازه) ش: البيع م: (كيلا يفسد) ش: أي البيع م: (باستثنائه) ش: أي
باستثناء الجنين لأن استثناءه يفسد البيع. م: (ويعتق بإعتاقها) ش: جواب عن
قولهما: ويعتق بإعتاقها، أي يعتق الجنين بإعتاق الأم م: (كيلا ينفصل من
الحرة ولد رقيق) ش: والولد يتبع الأم في الحرية والرقية.
ولم يجب على قولهما: وتغذى بغذائها، فجوابه أن يقال: لا نسلم ذلك، ولكن هل
يبقيه الله تعالى في بطن أمه من غير غذاء؟ . ويوصل الله سبحانه وتعالى
الغذاء إليه كيفما شاء فإن قدرته الباهرة لا تعجز عن ذلك.
فإن قلت: هل لأبي حنيفة أثر في ذلك؟
قلت: روى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الآثار " قال: أخبرنا أبو
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم قال: لا تكون ذكاة نفس ذكاة
نفسين، يعني الجنين، وإذا ذبحت أمه لم يؤكل حتى تذكر ذكاته.
فإن قلت: كيف جاز له ترك الحديث المرفوع الصحيح، والعمل بأثر التابعي. قال:
قلت: في " الأسرار ": لعل هذا الحديث لم يبلغ أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ
- فإنه لا تأويل له في " المبسوط "، لا يكاد يصح هذا.
قلت: فيه نظر لأننا قد بينا أن الحديث صحيح وما نقله في " الأسرار " حسن.
واستدل
(11/574)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضهم لأبي حنيفة بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن
الذكاة في الحلق واللبة» بين أن جنس الذكاة في الحلق واللبة لأنه ذكرهما
بلام التعريف. ولا معهود إن كان لتعريف الجنس. فلو حل الجنين بدون ذكاة في
اللبة والحلق لا يكون الجنس منحصرا فيه.
وقال ابن حزم: لا يترك نفس القرآن وهو قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وقوله: {إِلَّا مَا
ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] بالخبر المذكور، واختار في ذلك قول أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - واختاره أيضا زفر والحسن بن زياد كما ذكرناه.
وبهذا قال ابن المنذر، ولم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر العلماء
أن الجنين لا يؤكل إلا بإنشاء الذكاة فيه، إلا ما روي عن أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا أحسب أن أصحابه وافقوه عليه، وكيف يقول هذا وقد
وافقه من أصحابه زفر والحسن بن زياد وقال به إبراهيم النخعي كما بينا.
فإن قلت: لم لا يجيب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الحديث.
قلت: قال صاحب " العناية ": لأنه لا يصح الاستدلال، لأنه يروى ذكاة أمه
بالرفع والنصب فإن كان منصوبا فلا إشكال أنه شبيه، وإن كان مرفوعا فكذلك،
لأنه أقوى في التشبيه من الأول.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمراد من الحديث التشبيه لا الإنشاء
أي ذكاة الجنين كذكاة أمه كقول الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظيم الساق منك دقيق
أي عيناك شبيهة بعيني الجنية، ولولا المراد به بما قالوا لقال: " ذكاة الأم
ذكاة الجنين " كما يقال: لسان الوزير لسان الأمير، وإن كان يحتمل ما قاله
أو يحتمل ما قلنا أيضا فكان من المشترك، فلا يبقى حجة.
قلت: قول صاحب " العناية ": روي ذكاة أمه بالرفع والنصب فيه نظر لأن الحافظ
المنذري قال: فإن قلت: ما يقول في رواية أبي داود في حديث أبي سعيد الخدري
- رَحِمَهُ اللَّهُ - أي الذي
(11/575)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرناه قال «قلنا: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آل وأصحابه
وسلم ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟
فقال: " كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه» .
قلت: هو يعارض كتاب الله وهو قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ}
[المائدة: 3] والجنين الذي خرج ميتا ميتة ومتحقق، وشرط المعارضة المساواة،
ولا مساواة بين الكتاب وخبر الواحد فيحمل ذلك على النسخ ويؤول في بطنها
الجنين قريب من الموت.
(11/576)
فصل فيما يحل أكله وما لا يحل،
قال: ولا يجوز أكل ذي ناب من السباع ولا ذي مخلب من الطيور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيما يحل أكله وما لا يحل]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان م: (فيما يحل أكله) ش: من الحيوانات م:
(وما لا يحل) ش: ولما ذكر أحكام الذبح شرع في تفصيل المأكولات منها وغيره،
إذ المقصود الأصلي من شرعية الذبح التوصل إلى الأكل وقدم الذبح لأنه شرط
المأكول. والشرط مقدم.
وقال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأنسب أن يذكر مسائل هذا الفصل
جميعها في كتاب الصيد، لأن كل ما ذكره من الصيد إلا الفرس والبغل والحمار.
قلت: لا يلزم أن يكون كل ما ذكره من الصيد وقد يكون من جهة غير الصيد.
والمقصود بيان ما يؤكل وما لا يؤكل فيها لضرورة أن كلا منهما يحتاج إلى
الذبح. فالأول للحل والثاني ليطهر لحمه وجلده فيكون موضعها كتاب الذبائح.
[أكل كل ذي ناب من السباع]
م: (قال: ولا يجوز أكل كل ذي ناب من السباع) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: في " مختصره ": لا يجوز أكل صاحب الناب من السباع وهو قول
الشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث وأكثر أهل العلم، وعن بعض أصحاب مالك
هو مباح، وبه قال الشعبي وسعيد بن جبير - رحمهما الله - لعموم قوله سبحانه
وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام:
145] ولقوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:
3] . والمراد من ذي ناب السبع الذي يفترس بنابه ومن ذي مخلب هو الذي يصطاد
بمخلبه، وهو المراد بالإجماع لأن كل صيد لا يخلو عن مخلب.
وقال الكرخي في " مختصره ": فذو الناب من السباع: الأسد والذئب والنمر
والفهد والضبع والثعلب والسنور البري والأهلي. م: (ولا ذي مخلب من الطيور)
ش: أي ولا يجوز أيضا أكل ذي مخلب من الطير، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم.
وقال مالك والليث والأوزاعي ويحيى بن سعيد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يحرم
من الطير شيء. وهو قول أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو قول ابن
عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لعموم الآيات المحلة، وذي مخلب
من الطير: الصقر، والعقاب، والباز والشاهين، والنسر، والغراب والأبقع
والأسود وإن كان يأكل الجيف على ما يجيء والمخلب للطائر كالظفر للإنسان
والمراد به مخلب وهو سلاح.
(11/577)
«لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطيور، وكل ذي ناب من السباع»
وقوله: من السباع ذكره عقيب النوعين، فينصرف إليها فيتناول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: «لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن أكل كل ذي مخلب
من الطيور، وكل ذي ناب من السباع» ش: هذا الحديث رواه [ستة] من الصحابة -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - الأول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه مسلم في " الصيد " عن ميمون بن مهران عن
ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السبع وعن كل ذي مخلب من
الطير» . وقال ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " كتابه ": وهذا الحديث
لم يسمعه ميمون بن مهران من ابن عباس بل بينهما سعيد بن جبير.
هكذا رواه أبو داود في " سننه " من حديث علي بن الحكم عن ميمون بن مهران عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
الثاني: خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه أبو
داود عنه مرفوعا: وحرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من
السباع وكل ذي مخلب من الطير.
الثالث: علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه
أحمد في " مسنده " عن عاصم بن ضمرة عنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» .
الرابع: أبو ثعلبة الخشني ولكن روى شطر الحديث أخرجه الأئمة الستة من
حديثه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب
من السباع» .
الخامس: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك روى شطره أخرجه مسلم -
رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديثه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام» .
السادس: جابر بن عبد الله أخرج حديثه الكرخي في " مختصره " بإسناده إليه:
«نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من
السباع وكل ذي مخلب من الطير» وهذه الأحاديث نص صريح يخصص عموم الآيات.
م: (وقوله: من السباع) ش: أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
من السباع في آخر الحديث الذي م: (ذكره عقيب النوعين) ش: أي عقيب ذي مخلب
وذي ناب م: (فينصرف إليهما) ش: أي إلى النوعين م: (فيتناول
(11/578)
سباع الطيور والبهائم لا كل ما له مخلب أو
ناب، والسبع كل مختطف منتهب جارح قاتل عاد عادة. ومعنى التحريم والله أعلم:
كرامة بني آدم كيلا يعدو شيء من هذه الأوصاف الذميمة إليهم بالأكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سباع الطيور والبهائم) ش: فكأنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن أكل
كل ذي مخلب من الطير إنما انصرف قوله: " من السباع " إليهما لا إلى الجملة
الأخيرة لكون الخبر واحدا وهي " نهى " فيكون بمنزلة الجملتين المعقبتين
بالشرط، فالشرط ينصرف إليهما لا إلى الأخيرة.
كما إذا قال: امرأته طالق، وعبده حر إن كلم فلانا م: (لا كل ما له مخلب أو
ناب) ش: أي لا يتناول كل حيوان له مخلب كالحمامة أو ناب كالبعير، ويميل هذا
التقرير وشيخ الإسلام خواهر زاده في " شرح المبسوط " من هذا الموضع ولكن
فيه نظر قوي؛ لأنه لم يذكر قط في الحديث في روايات الثقات، لفظة: " من
السباع " إلا مقدمة على أكل ذي مخلب من الطير، فإن سبب صدق ذلك [ ... ]
الأحاديث التي مرت آنفا.
وأما حديث أبي ثعلبة الخشني الذي هو أقواها وأصحها لم يذكر فيه ذو مخلب،
فإذا تقرير المصنف، وشيخ الإسلام خواهر زاده بناء على غير أصل.
فإن قلت: لم لا يجوز أن تكون الرواية التي ذكرها صحيحة؟
قلت: لو كان كذلك لنقلها الثقات في كتبهم، وإنما الآفة من التقليد، وقال
الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو صحت تلك الرواية فيمتنع انصراف قوله
إلى النوعين جميعا؛ لأن قوله: «وكل ذي ناب» أولى بالانصراف إليه لكونه
أقرب.
م: (والسبع كل مختطف منتهب جارح قاتل عاد عادة) ش: إنما ذكر أوصاف السبع
بشيء من ذلك قوله: كيلا يعدو شيء إلى آخره. ومختطف من الخطفة، ومنتهب من
النهب، والفرق بينهما أن الاختطاف من فعل الطيور والانتهاب من فعل البهائم
والسباع، فلما كان السبع مقابلا وصف السبع بهذين الوصفين.
قال في " المبسوط ": المراد بذي الخطفة ما يخطف بمخلبه من الهواء كالباز
والعقاب. ومن ذي النهبة ما ينتهب بنابه من الأرض كالأسد والذئب. قوله: عادة
من عدى عليه عدوا أصله عادى فاعل إعلال قاض وقوله: عادة نصب على الظرف.
م: (ومعنى التحريم والله أعلم: كرامة بني آدم كيلا يعدو شيء من هذه الأوصاف
الذميمة إليهم بالأكل) ش: أي المعنى الذي ورد التحريم لأجله في ذي مخلب من
الطير، وذي ناب من السباع هو كرامة بني آدم بيانه أن الاختطاف والانتهاب
والقتل عادة أوصاف ذميمة فحرم الشرع سباع
(11/579)
ويدخل فيه الضبع والثعلب، فيكون الحديث حجة
على الشافعي في إباحتهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البهائم كيلا يعدو شيء من هذه الذميمة إلى الآكل لأن العدو أثر في ذلك كما
في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يرضع لكم الحمقى فإن
اللبن يعدي» وكانت الحرمة كرامة لبني آدم كما كانت الإباحة كذلك أو كان
معنى التحريم الإيذاء والخبث تارة يكون بالناب، وتارة يكون بالمخلب والخبث
يكون خلقة كما في الهوام والحشرات، أو بعارض كما في الجلالة.
م: (ويدخل فيه الضبع والثعلب) ش: أي في التحريم لأنها ذو ناب من السباع م:
(فيكون الحديث حجة على الشافعي في إباحتهما) ش: أي الحديث المذكور
وإباحتهما مصدر مضاف إلى مفعوله وطوى ذكر الفاعل، والتقرير في إباحتهما،
وبقوله قال مالك وأحمد - رحمهما الله - في الضبع، وأحمد أيضا في الثعلب في
رواية، وفي أكثر الروايات عنه أنه حرام، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وهو قولنا. واحتجوا في ذلك بما أخرجه الترمذي في الحج والأطعمة، والنسائي
في الصيد والذبائح، وابن ماجه في الأطعمة، كلهم «عن عبد الرحمن بن أبي عمار
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - عن الضبع: أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: أنت سألت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم» .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال في " علله ": قال البخاري: حديث صحيح،
ورواه ابن حبان في " صحيحه " بهذا السند. ورواه الحاكم في " المستدرك " عن
إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضبع صيد، فإذا
أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل» وقال: حديث صحيح، ولم يخرجاه.
وأخرجه أبو داود بسند " السنن "، ولم يذكر فيه الأكل، ولفظه قال: «سألت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع فقال " هو صيد
ويجعل فيه كبش إذا اصطاده المحرم» " وأخذوا من هذا اللفظ إباحة أكله زاعمين
أن الصيد اسم للمأكول، ومنشأ الخلاف في قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:
95] فعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو قتل السبع ونحوه مما لا يؤكل لا
يجب عليه شيء. وعندنا: يجب عليه الجزاء لأن الصيد اسم للممتنع المتوحش في
أصل الخلقة، قالوا: لو كان هذا مرادا لخلا عن الفائدة إذ كل أحد يعرف أن
الضبع ممتنعة متوحشة. فإنما سأل جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
عن أكلها سيما وقد ورد التصريح بأكلها.
(11/580)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: هذا ينعكس عليهم، لأنه لما سأله أصيد هي؟ قال له: نعم، ثم قال: سألته
آكلها؟ قال: نعم، فلو كان الصيد هو المأكول لم يعد السؤال.
واستدل الإمام فخر الدين في " تفسيره " على أن الصيد اسم للمأكول بقوله
سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا
دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] قال: فهذا يقتضي حل صيد البحر دائما وحل
صيد البر في غير وقت الإحرام. وفي البحر ما لا يؤكل كالتمساح. وفي البر ما
لا يؤكل كالسباع.
قال: قلت: إن الصيد اسم للمأكول، قلت: الصيد في الآية مصدر بمعنى الاصطياد،
ويكون الإضافة بمعنى في أي أحل لكم الاصطياد في البحر وحرم عليهم الاصطياد
في البر. بدليل أن المحرم يجوز له أكل لحم اصطياده حلالا عندنا وعندهم.
فعلم أن المراد بالصيد في الآية الاصطياد لا الحيوان.
وقد أشار إليه المصنف فيما بعد في مسألة أكل السمك وقال: إن المراد بالصيد
في قوله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]
الاصطياد لا الحيوان.
والجواب عن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال في
الابتداء ثم نسخ بقوله سبحانه وتعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . ولأن حديثنا مشهور لا شك في صحته ولا
يعارضه حديث جابر إن كان مشهورا صحيحا على ما قالوا. لأن حديثنا مروي من
عدة طرق، فلا يعارض به حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه أفرد به
عبد الرحمن بن أبي عمار - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس هو بمشهور بنقل أهل
العلم ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه. كذا قال صاحب " التمهيد
".
فإن قلت: رواه البيهقي أيضا من طريق عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ -.
قلنا: في ذلك الطريق شخصان فيهما كلام وهما حسان بن إبراهيم عن إبراهيم بن
ميمون الصائغ، أما حسان فقد ذكره النسائي في " الضعفاء " وقال: ليس بقوي.
أما الصائغ فقد ذكره الذهبي في كتاب " الضعفاء "، وقال: قال أبو حاتم لا
يحتج به على أن لنا أحاديث أخرى تدل على تحريم الضبع.
منها ما أخرجه الترمذي في كتاب " الأطعمة " عن إسماعيل بن مسلم المكي عن
عبد الكريم بن أبي المخارق - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حبان بن جزء عن أخيه
«خزيمة بن جزء قال: سألت رسول الله
(11/581)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل الضبع، فقال: " أويأكل الضبع
أحد فيه خير» .
وأخرج ابن إسحاق عن عبد الكريم بن أبي المخارق به، فقال: «ومن يأكل الضبع»
وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه "، وكذا في "
تاريخ البخاري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - و " معرفة الصحابة " لابن المنذر.
فإن قلت: هذا حديث ضعيف لأن الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: هذا حديث
ليس إسناده بالقوي ولا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن ابن أبي
المخارق، وقد تكلم بعضهم فيهما، وضعفه ابن حزم بأن إسماعيل بن مسلم ضعيف.
وابن أبي المخارق ساقط. وحبان بن جزء مجهول.
قلت: قال ابن معين: إسماعيل بن المخزومي المكي ثقة. وقال مرة: إسماعيل بن
مسلم المخزومي أصله بصري وكان بمكة وهو ضعيف. وقال ابن عدي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أحاديثه غير محفوظة إلا أنه ممن يكتب حديثه، وقال: عمر بن علي
كان صدوقا يكثر الغلط. وعبد الكريم ابن أبي المخارق وثقه بعضهم وإن كان
الجمهور على تضعيفه وحبان بن جزء معروف، وابن حزم ذكره في باب: الجرح
والتعديل، وهو أخو خزيمة بن جزء، وقال ابن [....] يروي عن حبان عن أبيه
جزء، وعن أخيه خزيمة، ولهما صحبة ورواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال عبد الكريم بن أمية: فإن كان الأمر كذلك لا يسقط الاحتجاج بالكلية ولا
سيما إذا اعتمدنا خبرا أصح منه، وحبان بكسر الحاء، وتشديد الباء الموحدة.
وجزء بالجيم والراء المعجمة، وأصحاب الحديث يكسرون الجيم، قاله الدارقطني -
رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال الخطيب: بسكون الراء، ولم يذكر حركة الجيم. وقال عبد الغني: جزء بفتح
الجيم، وكسر الراء، وخزيمة بضم الخاء، وفتح الزاء المعجمتين ومنه ما رواه
أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم " حدثنا جرير -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عن سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن يزيد السعدي رجل
من بني سعد بن بكر، قال: «سألت سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أن ناسا من قومي يأكلون الضبع، فقال: إن أكلها لا يحل. وكان عنده شيخ أبيض
الرأس
(11/582)
والفيل ذو ناب فيكره.
واليربوع وابن عرس من السباع الهوام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واللحية، فقال الشيخ: يا عبد الله ألا أخبرك بما سمعت أبا الدرداء يقول
فيه؟ فقلت: نعم، قال: سمعت أبا الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول:
نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل ذي خطفة،
ونهبة، ومجثمة، وكل ذي ناب من السباع، فقال سعيد: صدق» .
ومنها ما رواه عبد الرزاق في " مصنفه " عن الثوري عن سهيل بن أبي صالح،
قال: سأل رجل ابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أكل الضبع فنهاه،
فقال: إن قومك يأكلونها. فقال: إن قومي لا يعلمون. قال سفيان - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: وهذا القول أحب إليَّ. قلت لسفيان: فأين ما جاء عن عمر، وعلي
وغيرهما، فقال: أليس قد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن أكل كل ذي ناب من السباع» فتركها أحب إلي. وبه أخذ عبد الرزاق -
رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[حكم الفيل]
م: (والفيل ذو ناب فيكره) ش: فإن قلت: إن لم يكن من السباع فلا يكره.
قلت: الناس لا يعدونه من السباع، ولكن فيه معنى السبعية، وإلحاقه بالسباع
يكون بنوع من الاجتهاد، فهذا استعمل لفظ الكراهة، كذا قال تاج الشريعة -
رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: المراد من الكراهة التحريم، فأكله حرام. وبه قال: أكثر أهل العلم إلا
الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه رخص في أكله، لعموم قوله سبحانه وتعالى:
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]
الآية. وبه قال أصحاب الظاهر، وللعامة أنه ذو ناب فيدخل في عموم الحديث؛
لأنه مستخبث فيدخل في الخبائث.
[حكم اليربوع وابن عرس]
م: (واليربوع وابن عرس من السباع الهوام) ش: اليربوع بفتح الياء، دويبة
تحفر الأرض وتجعل لها موضعا تحت الأرض، وتجعل لهم بابين أحدهما يسمى
القاطعا وهي التي تنقطع فيها أو تدخل وللأخرى يسمى الناقص [ ... ] فإذا أتى
صياد من قبل القاطع هربت وأتت في الناقص فدفعتها برأسها وخرجت منها، ويسمى
بالفارسية موشى وشتى، يعنى فأرة الصحراء، أو ابن عرس، بالإضافة، دويبة.
قال الليث: دويبة دون السنور أشتر أصلم أسك، وربما ألف البيت فيوكر فيه،
والجمع بنات عرس، هكذا يجمع ذكرا كان أو أنثى، وأهل مصر يسمونه عرسة، يكثر
في بيوتها ويأخذ أفراخ الدجاج، والإوز، والحمام ونحوها ولا تأكلها ويسمى
بالفارسية راسواو، الهوام بتشديد الميم، جمع الهامة وهي الدابة من دواب
الأرض، وجمع الهوام، نحو اليربوع وابن عرس.
والقنفذ: ما يكون سكناه بالأرض والحدر مكروه أكله.
أما اليربوع فعند الشافعي، وأحمد في ظاهر الرواية، وأبي ثور: مباح، لأن عمر
- رضي
(11/583)
وكرهوا أكل الرخم والبغاث؛ لأنهما يأكلان
الجيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله تعالى عنه - حكم فيه [ ... ] ، ولأن الأصل فيه الإباحة، ولم يرو فيه
تحريم، وأما ابن عرس فعند الشافعي مباح؛ لأنه لا ناب له كالضب. قلنا: إنهما
من سباع الهوام فيدخلا في عموم النهي، وأنها من الخبائث، والخبائث حرام بلا
خلاف؛ لأنه ينهش بنابه، وكذا ابن آوى، وبه قال أحمد، وللشافعي فيه قولان
لأن ابن آوى يشبه الكلب، ورائحته كريهة، فيدخل في عموم قوله سبحانه وتعالى:
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] والكلب حرام عندنا،
وعند أكثر أهل العلم.
وعن مالك أنه يكره ولا يحرم كما في السباع، والقرد حرام بلا خلاف، قال ابن
عبد البر: ولا أعلم بين المسلمين خلافا أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه.
وروى الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن لحم القرد؛» لأنه سبع وهو ممسوخ أيضا فيكون من الخبائث
المحرمة.
وأما الدواب من السباع المحرمة، فعن أحمد: إن كان ذا ناب يغرس به فهو محرم.
فإن لم يكن له ناب أيضا فلا بأس به.
والوابر دويبة مثل ابن عرس أكحل العين وهو حرام عندنا، وعند الشافعي،
وأحمد، وأبي يوسف في رواية: مباح لأنه مثل الأرنب يعتلف النبات والبقول
فكان مباحا. قلنا: له ناب يفترس به، فيدخل في عموم الحديث.
[أكل الرخم والبغاث]
م: (وكرهوا أكل الرخم والبغاث؛ لأنهما يأكلان الجيف) ش: أي كره العلماء أكل
الرخم بفتح الراء، والخاء المعجمة. وهو جمع رخمة. قال أبو حاتم السجستاني
في كتاب " أسماء الطير وصفاتها ": الرخمة طائر يأكل الجيف ولا يصطاد، ولونه
أبيض [مبقع بسواد] ، ويقال له الأنوق، والجمع الرخم.
ويقال في أمثال العرب: أبعد من بيض الأنوق، وربما خالط لونها السمار يعني
النقط الصغار، ألا ترى أن الرخمة تعظم العقاب، ويقال لها: أم جعدات، وأم
رسالة، وأم قيس، وحفصة، وأم عجيبة، والذكر منها العديل، والفراغ، والمعانق،
ولا يلبث إلا في أرفع موضع يقدر عليه، وفي " الصحاح ": الرخمة طائر أبقع
يشبه النسر في الخلقة، قيل: هي تأكل عظام الميتات.
وأما البغاث فهو طائر أبغث اللون إلى الغبرة دون الرخمة، لا يصيد شيئا.
وقال أبو حاتم: قال أبو الخطاب: مما لا يصيد الطيور والرخام، والبغاث. وقال
أبو عبيده:
البغاث من الطير صفاتها ... وإذا بغثها ألوانها
(11/584)
قال: ولا بأس بغراب الزرع لأنه يأكل الحب
ولا يأكل الجيف، وليس من سباع الطير.
قال: ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف وكذا الغداف. وقال أبو حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بأكل العقعق لأنه يخلط، فأشبه الدجاجة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البغاث أولاد الرخم.
وقال الأصمعي: البغاث لئام الطير مثل للعرب، والبغاث بأرضنا يستنسر أي
يتشبه بالنسور. يضرب مثلا للئام الناس إذا تكبروا. وقال الأصمعي: إن البغاث
بكسر الباء وتستنسر بالتاء. فقال: وقال أبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- من جعل البغاث واحدا، قال في الجمع بغثان، ومن أجراه مجرى النعائم، وقال
بغثانة وبغاث.
قال [....
.....] وفي " العباب ": وفي المثل: إن البغاث بأرضنا تستنسر، [
] ، وأسنده أبو تمام للعباس بن مرداس السلمي وهو لمعاوية بن مالك يعد
الحكماء بغاث الطير أكثرها فراخا، وأم الصقر [ ... ] ، ثم قال: والثانية
ثلاث حركات، قلت: مادته باء موحدة وغين معجمة، وثاء مثلثة، والأبغث قريب من
الأغير.
[غراب الزرع]
م: (قال: ولا بأس بغراب الزرع) ش: أي قال القدوري: ولا خلاف فيه ويقال
الزاع. قال في " العباب ": الزاع غراب صغير يضرب إلى البياض م: (لأنه يأكل
الحب) ش: والجمع زيعان مثل طاق وطيقان. وقال الأزهري: الزاع هذا الطاعم،
وجمعه زيعان لا أدري عربي هو أم لا؟ م: (ولا يأكل الجيف، وليس من سباع
الطير) ش: فلم يكن من الخبائث، ولا يدخل تحت النهي في قوله: أي في الحديث
المذكور.
[الغراب الأبقع الذي يأكل الجيف والغداف]
م: (قال: ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف وكذا الغداف) ش: أي الغراب
الأبقع الذي يأكل الجيف والميتات، وقال الولوالجي في " فتاواه ": وأما
الغراب الأبقع والأسود فعلى ثلاثة أوجه:
إن كان يأكل الجيف يكره، وإن كان لا يأكل الجيف، ويأكل الحب والزرع لا
يكره، وإن كان يأكل الجيف ويأكل الحب يؤكل عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف:
لا يؤكل، أي وكذا الغداف وهو غراب القيظ يعني يجيء في زمان القيظ، ويكون
ضخم الجناحين، والجمع غدقان، قال في " العباب ": فربما سموا النسر بالكسر
المرسل: غدافا قلت: يعني غراب القيظ، يعني يجيء في زمن القيظ، وهو شدة
الحر.
م: (وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بأكل العقعق؛ لأنه يخلط
فأشبه الدجاجة) ش: العقعق طائر معروف أبلق بسواد وبياض، أديب يعقعق بصوته،
يشبه صوته العين والقاف إذا صات.
قال القدوري في " شرحه لمختصر الكرخي "، قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عن العقعق فقال: لا بأس به، فقلت: إنه يأكل الجيف،
فقال: إنه يخلط بشيء آخر،
(11/585)
وعن أبي يوسف: أنه يكره لأن غالب أكله
الجيف.
قال: ويكره أكل الضبع والضب والسلحفاة والزنبور والحشرات كلها؛ أما الضبع
فلما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فحصل في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ما يختلط لا يكره أكله
بدلالة الدجاج.
م: (وعن أبي يوسف: أنه يكره؛ لأن غالب أكله الجيف) . أي غالب أكل العقعق
الجيف. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أكل الجيف. وقال شيخ الإسلام
- رَحِمَهُ اللَّهُ - الأسبيجابي في " شرح الكافي ": لا خير في أكل النسور
والعقاب وأشباهه؛ لأنه ذو مخلب من الطير، ولأنه يأكل الجيف فيفسد لحمه،
وكذلك البازي والصقر والقعقع - يريد به اللقلق - لأنه يأكل الجيف، وأما
العقعق والسودانة وما أشبه ذلك مما لا مخلب له فلا بأس به، وكذلك غراب
الزرع لأنه يتوقى الجيف، ولا يأكل الحب. وقد قيل: إن العقعق يأكل الجيف،
وإن صح كره أكله.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": قال أبو يوسف في السنجاب
[ ... ] والسنور والدلف: كل شيء من هذا سبع مثل الثعلب، وابن عرس لا يؤكل
لحمه.
وفي " فتاوى الولوالجي ": أكل الخطاف، والفاختة والعقعق لا بأس به؛ لأنه
ليس بذي ناب من السباع، ولا ذي مخلب من الطيور، وأكل الهدهد لا بأس به؛
لأنه ليس بذي مخلب من الطيور.
وقال فخر الدين قاضي خان " فتاواه ": ولا يؤكل الخفاش، لأنه ذو ناب، وفيه
نظر؛ لأن كل ذي ناب ليس بمنهي عنه إذا كان لا يصطاد بنابه، وفي " الدراية
": والفاختة تؤكل، والدبسي بضم الدال وكذلك الخطاف ولا خلاف فيه لأكثر
العلماء. وأما الخفاش فقد ذكر في موضع أنه يؤكل، وفي موضع أنه لا يؤكل وبه
قال أحمد، وعن أحمد: الخطاف محرم [ ... ] لا تؤكل بلا خلاف، وعن أبي يوسف
يؤكل البوم لأنه يعتلف البقول.
[حكم أكل الحشرات وهوام الأرض]
م: (قال: ويكره أكل الضب والضبع والزنبور والسلحفاة والحشرات كلها) ش: أي
قال القدوري إلا الزنبور والسلحفاة، وليسا في القدوري، وفي " العباب ":
الضب دويبة والجمع ضباب وأضبة ومضبة على مفعلة، كما قالوا: الشيوخ مشيخة،
وفي المثل: أغر من ضب، لأنه ربما أكل حسوله، والأنثى ضبة، والضب لا يشرب.
والزنبور بضم الزاي، والسلحفاة بضم السين، وفتح اللام، وسكون الحاء. قال
تاج الشريعة: هي من حيوان الماء. قلت: لا تكون في البحر وكذلك تكون في
البر، والحشرات جمع حشرة وهي صغار دواب الأرض.
م: (أما الضبع فلما ذكرنا) ش: أشار بقوله: إلا أنه ذو ناب يدخل فيه الضبع،
يعني أنه ذو
(11/586)
وأما الضب فلأن النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين سألته
عن أكله. وهو حجة على الشافعي في إباحته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ناب، وقد استوفينا الكلام فيه هناك.
،: (وأما الضب فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عائشة
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حين سألته عن أكله) ش: هذا رواه محمد
بن الحسن عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدي له ضب، فلم يأكله، فسألته عن
أكله، فنهاها عن أكله، فجاء سائل على الباب فأرادت عائشة أن تعطيه فقال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تعطيه ما لا تأكليه» والنهي يدل
على التحريم، وروي عن عبد الرحمن بن شبل أخرجه أبو داود في الأطعمة عن
إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن
عبد الرحمن بن شبل «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نهى عن أكل لحم الضب» .
فإن قلت: قال البيهقي: تفرد به ابن عياش، وليس بحجة، وقال المنذري: إسماعيل
بن عياش، وضمضم فيهما مقال، وقال الخطابي: ليس إسناده بذاك، قلت: ضمضم شامي
وابن عياش إذا روى عن الشاميين كان حديثه صحيحا، كذا قاله البخاري، ويحيى
بن معين، وغيرهما.
كذا قال البيهقي في باب ترك الوضوء من الدم في " سننه "، وكيف يقول: هنا
وليس بحجة، ولهذا لما أخرج أبو داود هذا الحديث سكت عنه وهو حسن عنده على
ما عرف، وقد صحح الترمذي لابن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أُمَامَة،
وشرحبيل شامي.
وروى الطحاوي في " شرح معاني الآثار " مسندا إلى عبد الرحمن بن حسنة قال:
«نزلنا أرضا كثيرة الضباب، فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها، وإن القدر لتغلي
بها إذ جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ما
هذا؟ " فقلنا: ضباب أصبناها، فقال: " إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في
الأرض إني أخشى أن تكون هذه فأكفئوها» .
م: (وهو حجة على الشافعي في إباحته) ش: أكل الضب أي حديث عائشة - رضي الله
تعالى
(11/587)
والزنبور من المؤذيات، والسلحفاة من خبائث
الحشرات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنها - حجة على الشافعي في إباحته أكل الضب.
فالمصدر مضاف إلى فاعله، والفاعل محذوف أو يكون مضافا إلى مفعوله ويكون ذكر
مطويا.
وبقوله قال مالك، وأحمد، والطحاوي في " شرح الآثار "، [و] رجح إباحة أكل
الضب ثم قال: لا بأس بأكل الضب، فقال: وهو القول عندنا، واستدلوا بما روى
البخاري، ومسلم «عن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه دخل مع
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ميمونة وهي خالته
فوجد عندها ضبا محنوذا فأهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما قدمتن له، فقلن: هو الضب يا
رسول الله، فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده،
فقال خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: " لا،
ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " فأحترزته فأكلته ورسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر فلم ينهني.»
ومما أخرجناه أيضا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا - قال: «أهدت خالتي أم جفيد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطا، وسمنا، وضبا فأكل من الأقط، والسمن، وترك الضب
تقذرا، قال ابن عباس: وأكل على مائدته ولو كان حراما لما أكل على مائدة
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وبما أخرجاه عن الشعبي
عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معه فيهم سعد، وأتوا بلحم ضب، فنادت امرأة من
نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه لحم ضب. فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كلوا، فإنه حلال، ولكنه ليس
من طعامي» .
وبما رواه أبو يعلى في " مسنده " حدثنا زهير، حدثنا جرير عن يزيد بن أبي
زياد، عن يزيد بن الأصم، عن خالته ميمونة، قالت: «أهدي لنا ضب، وعندي رجلان
من قومي فصنعته ثم قربته إليهما فأكلا منه، ثم دخل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهما يأكلان فوضع يده فيه فقال: " ما هذا؟
قلنا له: ضب، فوضع ما في يده، وأراد الرجلان أن يضعا ما في أفواههما، فقال
لهما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تفعلا إنكم أهل نجد
تأكلونها، وإنا أهل تهامة نعافها» .
والجواب عن هذا: أنه يدل على الإباحة. وما استدللنا به يدل على الحرمة،
والتاريخ مجهول، فيجعل للحرم مؤخرا عن المبيح، فيكون ناسخا له تعليلا
للنسخ.
[الزنبور والسلحفاة]
م: (والزنبور من المؤذيات) ش: لأنه من ذوات السم م: (والسلحفاة من خبائث
الحشرات) ش: قال داود: السلحفاة حلال. وقال ابن الجلاب في " التفريع ": ولا
بأس بأكل السرطان،
(11/588)
ولهذا لا يجب على المحرم بقتله شيء، وإنما
تكره الحشرات كلها استدلالا بالضب؛ لأنه منها.
قال: ولا يجوز أكل الحمر الأهلية والبغال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والسلحفاة والضفدع، وقال أيضا: ولا بأس بأكل الطير كلها ما كان منها ذا ناب
مخلب، وغير ذي مخلب كالبزاة والعقاب، والرخم، والحدأة، والغربان، وسائر
سباع الطيور، وهي في ذلك بخلاف سباع الوحوش. وفي " الحلية ": والخنافس
والعناكب، والقطاع، [ ... ] من الخبائث.
[ ... ] : دويبة كالسمك تسكن بالرمل ثقلة الجلد يعرض مقدمها، ويدق مؤخرها
إذا أحست بإنسان غارت بالرمل. وكذا الخنفسة، أو سام أبرص [
] فسان، والزنانير، والذباب، وما أشبه ذلك، وما كان في بلاد العجم، وليس له
شبيه فيما يحل ولا يحرم، فيه وجهان، وقال مالك، وابن أبي ليلى، والأوزاعي
في ذلك كله الإباحة. وقال مالك: [ ... ] مباح إذا ذكيت واحتجوا بالعمومات
المبيحة من قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية.
ولنا قوله سبحانه وتعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:
157] م: (ولهذا) ش: أي ولكون الزنبور من المؤذيات والسلحفاة من الحشرات م:
(لا يجب على المحرم بقتله شيء) ش: أي بقتل كل واحد منهما.
م: (وإنما تكره الحشرات كلها استدلالا بالضب؛ لأنه منها) ش: أي لأن الضب من
الحشرات. فإذا رتب الحكم على الجنس صحت على جميع أفراده كما إذا قال طبيب
للمريض: لا تأكل لحم البعير، يتناول الكلام عن أكل جميع أفراده.
[أكل الحمر الأهلية والبغال]
م: (قال: ولا يجوز أكل الحمر الأهلية والبغال) ش: أي قال القدوري - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: قيد بالأهلية لأن في الحمر الوحشية لا خلاف لأحد في
إباحتها، قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أو في " الكافي "، وغيره من كتب
أصحابنا كان بشر المريسي ومالك يبيحان أكل الحمر، ولم أعثر على ذلك في
كتبهم، وكتب أصحاب الشافعي، وأحمد - رحمهما الله.
وقال في " المغني " لابن قدامة: قال ابن عبد البر: لا خلاف بين علماء
المسلمين اليوم في تحريمه، وإنما حكي عن ابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ - إباحته بظاهر قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ}
[الأنعام: 145] الآية، انتهى.
قلت: ذكر في " التفريع " للمالكية: ولا بأس بأكل لحوم الحمر الأهلية،
والبغال، ويكره أكل الخيل.
(11/589)
لما روى خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نهى عن
لحوم الخيل والبغال والحمر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شيخ الإسلام في " شرح الكافي ": وتكره لحوم الحمر، والبغال، وقال مالك
وبعض فقهاء الشام: لا بأس به، انتهى.
وأراد ببعض فقهاء الشام الأوزاعي، وبه صرح فخر الإسلام في " شرح الجامع
الصغير " وقد احتجوا بما أخرجه أبو داود في الأطعمة: عن منصور بن عبيد أبي
الحسن، عن عبد الرحمن، عن غالب بن أبجر قال: «أصابتنا سنة فلم يكن في مالي
شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حرم لحوم الحمر الأهلية، فأتيته فقلت: يا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابتنا السنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي
إلا سمان الحمر، وإنك حرمت الحمر الأهلية، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك
فإنما حرمتها من أجل جوال القرية» .
ورواه الطحاوي بلفظ: «أطعم أهلك من سمين مالك» " قوله: جوال القرية بالجيم
وتشديد اللام، جمع جالة بمعنى جلالة، وهي آكلة العذرة.
وللجمهور الكتاب، قوله سبحانه وتعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] (النحل: الآية 8) ،
خرجت مخرج الامتنان، وقد من الله سبحانه وتعالى بمنفعة الركوب والزينة، ولو
كان الأكل من هذه الأشياء حلالا لمن بذلك أيضا؛ لأن منفعة الأكل أكثر من
منفعة الركوب والزينة لأن الإنسان يحيى بلا ركوب وزينة، ولا يحيى بلا أكل.
ألا ترى أنه سبحانه وتعالى بدأ بذكر الأنعام قبل ذكر الزينة وحمل الأثقال.
فقال: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] إلى: {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7]
فلم يذكر هنا منفعة الأكل مع أنه فوق منفعة الركوب والزينة دال أنه إنما لم
يذكره لأن هذه الأشياء غير مأكولة اللحم.
والسنة وهي ما رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - منهم
خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أشار إليه بقوله.
م: (لما روى خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال
والحمر» ش: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن بقية، حدثني ثور بن
يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه، عن جده، عن خالد بن
الوليد -
(11/590)
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن
النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أهدر المتعة وحرم لحوم الحمر
الأهلية يوم خيبر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الخيل والبغال والحمير» هذا لفظ ابن ماجه.
ولفظ أبي داود قال: «غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خيبر فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم، فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألا لا تحل أموال
المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم الحمر الأهلية، وخيلها، وبغالها، وكل ذي
ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» وعنده بقية عن ثور لم يقل فيه حدثني.
وكذلك رواه الواقدي في " المغازي ": حدثني ثور بن يزيد عن صالح، به بلفظ
أبي داود، ثم قال الواقدي: ثبت عندنا أن خالدا لم يشهد خيبر وأسلم قبل
الفتح، هو وعمرو بن العاص، وعثمان بن أبي طلحة، أول يوم من صفر سنة ثمان،
انتهى كلامه.
ورواه أحمد في " مسنده "، والطبراني في " معجمه "، والدارقطني في " سننه ".
قال أبو داود: هذا منسوخ. وقال النسائي: لا أعلم رواه غير شعبة ويشبه إن
كان صحيحا أن يكون منسوخا لأن قوله في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وأذن في لحوم الخيل دليل على ذلك، وأخرجه عن صالح، به، وأخرجه الدارقطني عن
الواقدي، حدثنا ثور بن يزيد، به، ونقل عن موسى بن هارون، أنه قال: لا يعرف
صالح بن يحيى ولا أبوه ولا بجده وهذا حديث ضعيف.
وزعم الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أسلم بعد فتح خيبر. ثم أخرجه عن عمرو بن هارون البلخي حدثنا ثور
بن يزيد عن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه عن جده خالد بن الوليد -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكره، قال: لم يذكر في إسناده صالحا، وهذا إسناد
مضطرب، وقال البخاري في " تاريخه ": صالح بن يحيى بن المقدام فيه نظر، وقال
البيهقي في " المعرفة ": إسناده مضطرب وهو مخالف لحديث الثقات، انتهى.
ومنهم علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أشار إليه قوله:
م: (وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - أهدر المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» ش: أخرجه
البخاري، ومسلم عن عبد الله، والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن
أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر
الأنسية» .
(11/591)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكره البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " غزوة خيبر "، ومسلم في " الذبائح
"، وأخرجاه في " النكاح " أيضا كذلك، وفي لفظ البخاري عام خيبر، وفي لفظ
له: زمن خيبر.
ومنهم عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه
البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسندا إلى سالم، ونافع عن ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر،» ومنهم البراء، وابن أبي أوفى - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثهما البخاري أيضا بإسناده إليهما،
قالا: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر
الأهلية» ومنهم أبو ثعلبة أخرج البخاري أيضا حديثه قال: «حرم رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحوم الحمر الأهلية» .
ومنهم عبد الله بن عمر بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -
أخرج حديثه أبو داود عن طاوس عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «نهى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن لحوم الحمر
الأهلية، وعن الجلالة، وعن ركوبها، وأكل لحمها» .
ومنهم عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه
الطحاوي بإسناده إلى مجاهد، عن ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية» .
ومنهم أبو سليط، وكان بدريًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج
حديثه الطحاوي أيضا بإسناده إلى عبد الله بن أبي سليط عن أبيه وكان بدريا،
قال: «لقد أتانا نهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
أكل لحوم الحمر ونحن [ ... ] وإن القدور تفور بها فأكفأناها على وجوهها» .
ومنهم أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الطحاوي
أيضا بإسناده إلى ابن سيرين عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - قال: «لما افتتح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خيبر أصابوا حمرا فطبخوا منها، فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا أن الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ينهيانكم عنها فإنها نجس فأكفئت القدور» .
وأخرجه البيهقي أيضا في " سننه "، ومنهم أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- أخرج حديثه الترمذي عن محمد بن عمرو بن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع، والمجثمة، والحمر الإنسية»
. وقال: حديث حسن صحيح.
(11/592)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم المقداد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه البيهقي
أيضا من حديث معاوية بن صالح، حدثني ابن جابر أنه سمع المقدام صاحب النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «حرم رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء يوم خيبر ومنها الحمار الأهلي» . وقال
الذهبي: إسناده قوي.
ومنهم سلمة [بن الأكوع]- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرجه حديثه
البخاري، ومسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه قال: «لما قدمنا خيبر رأى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نيرانا توقد قال: علام توقد
هذه النيران؟ قالوا له: على لحوم الحمر الأهلية، قال: " أهريقوا، واكسروها
" فقيل: يا رسول الله: " أونهريقها ونغسلها؟ " قال: أو ذاك» .
ومنهم جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما يأتي عن قريب فهؤلاء الأربعة
عشر صحابيا رووا تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، والجواب عن حديث غالب بن
الحر أنه حديث في إسناده اختلاف كثير، منهم من يقول: عن عبيد الله بن
الحسن، منهم من يقول: عن عبد الرحمن بن معقل، ومنهم من يقول: عن ابن معقل،
وغالب بن الحر ويقال: الحر بن غالب، ومنهم من يقول: غالب بن ذريح بن غالب،
ومنهم من يقول: عن أناس من مزينة أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنهم من يقول أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذه الاختلافات بعضها في " معجم الطبراني " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبعضها
في " مصنف " ابن أبي شيبة، وبعضها في " مصنف " عبد الرزاق، وبعضها في "
مسند البزار "، وقال البزار - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعلم لغالب بن الحر
غير هذا الحديث.
وقد اختلف فيه فبعض أصحاب عبيد بن الحسن يقول: عن غالب بن الحر، ومنهم من
يقول: عن الحر بن غالب، ومنهم من يقول: عن غالب بن ذريح، انتهى.
وكذلك اختلف في الميتة. فمنهم من يقول: كل من سمين مالك، وقال البيهقي -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المعرفة " وحديث غالب بن الحر إسناده مضطرب وإن صح
فإنما رخص له عند الضرورة حيث يباح الميتة. وقال في " سننه الكبرى ": ومثل
هذا لا يعارض الصحاح المصرحة بالتحريم، انتهى.
قلت: الدليل على أنه أباح ذلك عند الضرورة ما حدث الطحاوي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في " شرح الآثار " مسندا إلى غالب بن ذريح، «قيل للنبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه أصابتنا سنة، وإن سمين مالنا في الحمر
فقال: كلوا من سمين مالكم» فأخبر أن ما كان أباح لهم ذلك في عام سنة ضرورة،
ولا يدل
(11/593)
قال: ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول مالك. وقال أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ
- والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا بأس بأكله لحديث جابر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل يوم خيبر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك على الإباحة، ونقول: ما روى غالب بن الحر يدل على الإباحة، وما روى
غيره يدل على التحريم، والتاريخ مجهول فيجعل دليل الحرمة مؤخرا تغليبا
للنسخ، أو يقال: معنى قوله: «كل من سمين مالك» ؛ أي كل ثمنه، كما يقال: أكل
فلان عقاره أي ثمنه، قال الشاعر:
إن لنا حمرا عجافا ... يأكل كل ليلة أكانا
والمراد ثمن الأكان لا يقال حرمها لقلة الحمير يوم خيبر بل لأنها [ ... ]
لم تخمس لأن ابن أبي أوفى يعني ابن [
] له ذلك، فقال له: حرمها البتة فتبين أنه ما حرمها لقلة الحمر؛ ولأنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإكفاء القدور بعد ما صار لحما ما
بقي فيه منفعة الحمر وصار هو مأكولا وفيه منفعة القائمين بالطعام فلا بأس
بالإكفاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما البغال فكذلك حرام أكلها لقوله سبحانه وتعالى: {وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ} [النحل: 8] كما قد ذكرنا؛ ولأن الولد قد يتبع الأم في الحل
والحرمة، وأما البغل، أو الفرس، أو الحمار، وأيا ما كان فالبغل مكروه لأن
الأم مكروهة الأكل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال ظهير الدين الولوالجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " فتاواه ": أما البغال
إن كان الفرس نزا على الحمار يكره لأن لما للإناث غيره بالجماع، وأما
الحمار إذا نزا على الرمكة فكذلك قيل هذا قول أبي حنيفة، وأما على قولهما:
فلا بأس به لأنه ليس لماء الفحل غيره فبقي ماء الأم، وعندهما لا بأس بأكل
الأم وينكر أن يسمى بغلا، والظاهر أن الأول قول الكل.
[لحم الفرس]
م: (قال: ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال
القدوري في " مختصره ": م: (وهو قول مالك) ش: أي قول أبي حنيفة هو قول
مالك، وبه قال الأوزاعي، وأبو عبيد م: (وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا بأس بأكله) ش: وبه قال أحمد، وأبو ثور، وابن
المبارك، وابن سيرين، وابن الزبير، والحسن، وعطاء، والأسود بن يزيد، وسعيد
بن جبير - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم
الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل يوم خيبر» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري
في غزوة خيبر، وفي الذبائح. وأخرجه مسلم في " الذبائح " عن عمرو بن دينار -
رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم
خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل» . ولفظ البخاري: «ورخص في
لحوم الخيل» .
(11/594)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله
تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَةً} [النحل: 8] خرج مخرج الامتنان والأكل من أعلى منافعها. والحكيم
لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] خرج مخرج
الامتنان والأكل من أعلى منافعها) ش: أي من أعلى منافع الخيل م: (والحكيم
لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها) ش: قد قررنا معنى هذا الكلام
عن قريب.
فإن قلت: إنما لم يذكر؛ لأنه يفهم الأعلى بذكر الأدنى بالطريق الأولى كما
في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يفهم
منه حرمة الضرب، والشتم بالطريق الأولى دون العكس.
قلت: إنما يصح ذلك إذا كان البيان بطريق الكفاية وما نحن بصدده من قبيل
بيان النهاية ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى فيما سبق: {وَالْأَنْعَامَ
خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: 5] . ثم عطف عليها،
والخيل، والبغال، والحمير من غير ذكر شيء آخر من المنافع فلما قال:
{لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] علم أن حكم المعطوف عليه حكم المعطوف.
فإن قلت: إنما يستقيم هذا إذ لو كان المقصود من النص الامتنان بمطلق النعمة
المخصوصة، فلا يستقيم هذا، وإن سلمنا. لكن لم قلتم إن منفعة الأكل في الخيل
يتعلق بها البقاء في الجملة، ولكن غيره يسد مسده في تعليق إبقائه هو البقر،
والغنم، وغيرهما. ومنفعة الركوب، والزينة في الخيل تحصل على وجه لا يحصل
بغيره من الحيوانات.
فكانت منفعة الركوب والزينة في الجملة بترك الامتنان في منفعة الأكل في
الخيل لا يدل على حرمة الأكل، كترك الامتنان بنعمة الدار، والنسل، والبيع.
قلت: وجه الامتنان لا يتعلق باختصاص هذه المنافع بهذه الأشياء إنما يتعلق
برجوع هذه المنافع إلى العباد؛ لأن وجه النعمة في ذلك لا في اختصاصها
ومنفعة الأكل في الخيل بالإضافة إليها فوق منفعة الركوب والزينة في كونها
نعمة.
على أنا نقول: إن منفعة الركوب والزينة لا تختص بهذه الحيوانات بل توجد في
غيرها، وهو البقر، والإبل وغير ذلك فلا يكون القصد منه ذكر المنافع بها.
أما قوله: لم قلتم إن منفعة الأكل في الحيوانات يتعلق بها البقاء على ما
ذكرنا. ومنفعة الركوب والزينة لا يتعلق بها البقاء ".
وأما قوله: غيره يسد مسده في تعليق البقاء، قلنا: ذلك لا يخرج كون منفعة
الأكل من أن يكون فوق منفعة الركوب والزينة.
وأما منفعة البيع والحمل فقد ذكرها دلالة، وإن لم يذكرها صريحا؛ لأنه متى
تبين كونه
(11/595)
ولأنه آلة إرهاب العدو فيكره أكله احتراما
له، ولهذا يضرب له بسهم في الغنيمة، ولأن في إباحته تقليل آلة الجهاد،
وحديث جابر معارض بحديث خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والترجيح للمحرم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منتفعا به في ذاته ثبت أنه مال متقوم، ويحل للبيع.
فإن قلت: الآية نزلت بمكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة أكل جماعة من الصحابة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الحمار، والفرس إلى يوم خيبر، فلو كانت الآية
دالة على الحرمة لما جاز أكلهم ولما صح سكوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البيان في مثل هذه الصورة.
قلت: إنما لم يبين - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل فتح خيبر؛ لأنه يمكن أنه لم
يطلع على فعلهم، فلما اطلع يوم خيبر نهى وإنما أكلوا لعدم وقوفهم على هذه
الدلالة لعمومها.
فإن قلت: ترك ذلك الحمل عليه وينبغي أن لا يحمل عليه وهو فاسد.
قلت: الكلام في أن ترك أعلام النعم والذهاب إلى ما دونه دليل حرمة الأعلى
والحمل وليس كذلك.
م: (ولأنه) ش: أي الفرس: (آلة إرهاب العدو فيكره أكله احتراما له) ش: أي
احتراما له لأن ما كان بسبب لإخافة العدو يستحق الإكرام، وفي ذبحه إهانة
له.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه آلة لإرهاب العدو م: (يضرب له بسهم في الغنيمة) ش:
لأن الفارس إنما يستحق السهمين بواسطة فرسه م: (ولأن في إباحته تقليل آلة
الجهاد) ش: أي لأن في أكله تقليل مادة الجهاد وهو حرام، ولا شك أن منفعة
حياته تربوا على منفعة لحمه بوجوه م: (وحديث جابر معارض بحديث خالد -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والترجيح للمحرم) ش: أراد بحديث جابر المذكور في
معرض استدلال أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد، وبحديث خالد المذكور في
تعرض الاستدلال في تحريم الحمر الأهلية، قيل: فيه نظر؛ لأن حديث جابر صحيح،
وحديث خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - متكلم فيه إسنادا، ومتنا.
منهم من ادعى نسخه، بحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه قال فيه:
فأذن، وفي لفظ: ورخص. قال الحازمي في كتابه: والإذن والرخصة يستدعي سابقة
المنفع، ولو لم يرد هذا اللفظ لتعذر القطع بالنسخ لعدم التاريخ، فوجب
المصير إليه.
وقيل: ليس فيه نسخ، ولكن الاعتماد على أحاديث الإباحة بصحتها ولكثرة
رواتها.
وحديث خالد هذا ورد في قضية معينة وهو أن سبب التحريم في الخيل متحد وفي
البغال،
(11/596)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحمير مختلف. وذلك أنه نهي عن البغال، والحمير لذاتها، وعن الحمير لأنهم
سارعوا إلى طبخها يوم خيبر قبل أن تخمس، فأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بإكفائها تغليظا عليهم. فلما رأوا نهيه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تناول لحوم الخيل والبغال والحمير، اعتقدوا أن سبب
التحريم واحد. وحتى «نادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إن الله تعالى ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس» .
فحينئذ فهو أن سبب التحريم مختلف وأن الحكم بتحريم الحمار الأهلي على
التأبيد، وأن الخيل إذا كان عن تناول ما لم ينجس فيكون قوله: إذن، أو رخص
دفعا لهذه الشبهة.
قلت: مسند حديث خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيد، ولهذا أخرجه أبو داود،
وسكت عنه فهو حسن عنده. وقال النسائي: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرني
بقية أخبرني ثور بن يزيد عن صالح فذكره بسنده، وقد صرح فيه بقية بالحديث عن
ثور، وثور حمصي أخرج له البخاري، وغيره وبقية: إذا صرح بالحديث كان سنة
حجة. كذا قال ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي، وغيرهم، خصوصا إذا
كان الذي حدث عن بقية عاما.
قال ابن عدي: إذا روى بقية عن أهل الشام فهو ثبت، وصالح، وذكره ابن حبان -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثقات، وأبو يحيى ذكره الذهبي في " الكاشف " وقال:
وثق وأبوه المقدام بن معد يكرب صحابي فهذا سند جيد كما ترى. فكيفما كان
كذلك صحت المعارضة. فإذا تعارضا ترجح المحرم كما ذكرنا ولا يصح الاستدلال
على نسخ حديث خالد بقوله: أذن أو رخص؛ لأنه يحتمل أن يكون إذنه في حالة
المخمصة إذ هي أغلب أحوال الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
وفي " الصحيح ": أنهم ما وصلوا إلى خيبر إلا وهم جياع، فلا يدل على
الإطلاق.
فإن قلت: لو كانت الإباحة للمخمصة لما اختصت بالخيل.
قلت: يمكن أن يكون في زمن الإباحة بالفرس ما أصابوا البغال والحمير.
فإن قلت: قال ابن حزم في حديث خالد دليل الوضع لأن فيه عن خالد - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: غزوت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خيبر. وهذا باطل لأن خالدا لم يسلم إلا بعد خيبر بلا خلاف.
قلت: ليس كما قال بل فيه خلاف فقيل: هاجر بعد الحديبية، وقيل: بل كان
إسلامه بين الحديبية وخيبر، وقيل: بل كان إسلامه سنة خمس بعد فراغ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني قريظة وكانت الحديبية
في ذي القعدة سنة ست، وخيبر بعدها سنة سبع، ولو سلم أنه أسلم بعدها فغاية
ما فيه أنه أرسل الحديث، ومراسيل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في
حكم الموصول المسند، لأن روايتهم، عن الصاحبة كما ذكره ابن الصلاح وغيره.
(11/597)
ثم قيل: الكراهية عنده كراهية تحريم، وقيل:
كراهية تنزيه والأول أصح، وأما لبنه فقد قيل: لا بأس به، لأنه ليس في شربه
تقليل آلة الجهاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: يشكل عن قوله سؤرة فإنه طاهر.
قلت: ذكر خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه أن الحسن روى عن أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤره [ ... ] مثل سؤر الحمار.
فإذا أخذنا بهذا فالسؤال ساقط ولئن سلمنا فالجواب عنه أن حرمة أكل لحمه
إنما كانت للاحترام لا للنجاسة فصار كسؤر الآدمي.
فإن قلت: يشكل على قوله بقوله لأنه كبول ما يؤكل لحمه عنده.
قلت: إنما جعله كذلك للتحقيق لعموم البلوى وقد علم أن له أثرا في التحقيق
فافهم.
م: (ثم قيل: الكراهية عنده كراهية تحريم) ش: أي كراهية لحم الفرس عند أبي
حنيفة كراهية تحريم.
ثم قال صاحب المنظومة: وأكل لحم الخيل، وقال: ويكره، والمراد الحرمة لا
التنزيه واختلف المشايخ في معنى الكراهية في معنى الكراهية لاختلاف اللفظ
المروي عنه؛ لأنه ذكر في " المبسوط " في كتاب " الصيد " قال أبو حنيفة: رخص
بعض العلماء في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله.
وما قال في الجامع يكره الخيل عنده، يدل على أن المراد كراهية التحريم؛ لأن
أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا
قلت: في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
التحريم.
وحكي عن عبد الرحيم الكرمني أنه قال: كنت مترددا في هذه المسألة فرأيت أبا
حنيفة في المنام يقول لي كراهية تحريم يا عبد الرحيم.
م (وقيل: كراهية تنزيه) ش: ذكره فخر الإسلام وأبو المعين - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في " جامعيهما ": الصحيح أنه كراهية تنزيه لأن كراهته تعني
كرامته، لئلا يحصل تقليل آلة الجهاد بإباحته، ولهذا كان سؤره طاهرا في ظاهر
الرواية، وفي " الفتاوى الصغرى " قال قاضي خان أنه كراهية تنزيه؛ لأنه ذكر
في كتاب " الصلاة " وسوى بين بوله وبول ما يؤكل لحمه.
م: (والأول أصح) ش: أي القول بكراهية التحريم أصح وأشار به إلى اختياره.
هكذا قال صاحب [ ... ] ، وكذا قال [في] " التتمة ": الأصح أنه كراهية
تحريم.
م: (وأما لبنه فقد قيل: لا بأس به؛ لأنه ليس في شربه تقليل آلة الجهاد) ش:
ولبن الفرس هو
(11/598)
قال: ولا بأس بأكل الأرنب لأن النبي -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أكل منه حين أهدي إليه مشويا وأمر
أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بالأكل منه:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي يسمى " قمز " في لغة الترك بكسر القاف والميم وفي آخره زاي معجمة،
وسماه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الحدود " مباحا. وقال: السكر
المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك.
وقال فخر الدين قاضي خان: فأما الألبان فلبن المأكول حلال ولبن الرماك كذلك
في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، ويكره في قول أبي حنيفة واختلفوا
في كراهيته فقال بعضهم: مكروه كراهية التنزيه لا كراهية التحريم.
وذكر شمس الأئمة السرخسي في أثناء الكلام أنه مباح كالبنج، وعامة المشايخ -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: قالوا مكروه كراهية التحريم إلا أنه لا يحد وإن زال
عقله كما لو تناول البنج وارتفع إلى رأسه حتى زال عقله يحرم ذلك ولا يحد
فيه؛ لأنه ليس في شربه أي شرب اللبن تقليل آلة الجهاد وفي " الخلاصة ": وهو
الأصح.
قال الكاكي: وعلى هذا قيل أكله حلال في هذا الزمان في ديار التبر لأن [ ...
] يبق
[أكل الأرنب]
م: (قال: ولا بأس بأكل الأرنب) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
ولا خلاف فيه لأحد من العلماء.
قال الكرخي في " مختصره ": ولم يروا جميعا بأسا بأكل الأرنب قال أبو يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما الوهر فلا أحفظ فيه عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - شيئا وهو عند مثل الأرنب وهو يعتلف البقول والنبت، انتهى.
وفي الجمهرة: والوهر دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون لا ذنب لها توجد في
البيوت ويجمع على وهار.
م: (ولأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أكل منه حين أهدي
إليه مشويا وأمر أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بالأكل منه) ش: هذا
الذي ذكره مركب من حديثين.
الأول: رواه البخاري في " صحيحه - في كتاب الهبة " عن هشام بن زيد عن أنس
بن مالك قال: «أهيجنا أرنبا بمر الظهران، فسعا القوم فبلغوا، فأدركتها
فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة، فذبحها، وبعث بوركها إلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قال: فخذيها - فقبله، قلت: وأكل منه؟ قال
وأكل منه، ثم قال بعد قبله» .
أخرجه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " حدثنا محمد بن جعفر، وحجاج
قال: ثنا شعبة
(11/599)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن هشام بن زيد عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلفظه سواء وفي آخره: قال
حجاج: قال شعبة: فقلت له أكله؟ قال نعم: أكله، ثم قال لي بعد: قبله.
رواه البخاري في " الذبائح " فلم يذكر فيه الأكل.
والحديث الثاني: رواه النسائي في " سننه " - في الصوم " عن عبد الملك بن
عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء
أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأرنب قد شواها،
فوضعها بين يديه فأمسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فلم يأكل، وأمر القوم أن يأكلوا» وزاد في لفظ: «فأني لو اشتهتها أكلتها» .
رواه أحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه "، والبزار في " مسنده "
ورواه إسحاق ابن راهويه في " مسنده "، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا محمد بن
عبد الرحمن مولى آل طلحة عن موسى بن طلحة عن ابن الحوتكية عن عمر بن الخطاب
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن أعرابيا جاء إلى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأرنب يهديها إليه، فقال: " ما هذا؟ " قال
هدية، - وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأكل من
الهدية حتى يأمر صاحبها فيأكل منها من أجل الشاة التي أهديت إليه بخيبر -
فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل " قال: إني
صائم، قال " تصوم ماذا؟ " قال: ثلاثا من كل شهر، قال: " فاجعلها في البيض
الغر: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ". قال: فأهوى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده إلى الأرنب ليأخذ منها. فقال الأعرابي:
أما إني رأيتها تدمي - أي تحيض - فقال للقوم: " كلوا ". ولم يأكل» .
وروى ابن حبان أيضا في صحيحه " عن عاصم الأحول عن الشعبي «عن محمد بن صفوان
الأنصاري أنه صاد أرنبين، فمر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو معلقهما فقال: يا رسول الله إني أتيت غنم أهلي فاصطدت
هاتين فلم أجد أذكيهما بها فذكيتهما بمروة أفأطعمهما؟ قال: نعم» .
ورواه الترمذي في " علله الكبرى "، حدثنا محمد بن يحيى القطعي البصري حدثنا
عبد الأعلى، عن سعيد عن قتادة عن الشعبي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن رجلا من قومه صاد أرنبين، الحديث.
(11/600)
ولأنه ليس من السباع ولا من أكلة الجيف
فأشبه الظبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه "، عن يزيد بن عياض، عن
عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أهدي إلى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرنبا وأنا نائمة فخبأ لي
منه العجز فلما قمت أطعمني» . ويزيد ابن عياض ضعيف. وروى البيهقي في " سننه
" من حديث محمد بن خالد بن الحويرث قال: سمعت أبا خالد بن الحويرث قال:
أخبرنا عبد الله بن عمرو، وكان بالصفاح - مكان في مكة -، «وأن رجلا جاءنا
بأرنب قد صادها، فقال يا عبد الله بن عمرو ما تقول؟ قال قد جيء بها رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه
عن أكلها، وزعم أنها تحيض» .
ورواه أيضا أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله أهيجنا أي أثرنا، وعدينا هو
مادته هاء، وياء، وجيم، قوله بمر الظهران بفتح الميم وتشديد الراء وهو موضع
قريب من عرفة.
م: (ولأنه) ش: أي الأرنب م: (ليس من السباع ولا من أكلة الجيف فأشبه الظبي)
ش: فلا يرحم الأكل والجيف جمع جيفة.
فإن قلت: إذا كان كذلك فلم قال: لا بأس بأكل الأرنب، ولم يقل: يحل نحره؟
قلت: لأن له شبهان شبها بالحمار، فإن أذنه تشبه أذن الحمار، والحمار حرام،
وشبه بالآدمي في كونه يحيض فيحرم أكله كما يحرم أبو حنيفة الفرس لأن له
شبها بالآدمي من حيث إنه يستحق سهما مقدرا من الغنيمة كالرجل. ولكن لما
نطقت الأحاديث المذكورة بإباحة أكله لم يحرم قطعا، ولكن لما ذكرنا استعمل
فيه لفظة، " لا بأس ".
قال تاج الشريعة: وإنما استعمل كلمة " لا بأس " لأنه روي أن الأرنب كانت
امرأة لا تغتسل من الحيض فمسخت، انتهى.
قلت: لم يصح مسخ هذا ولئن مسخ لم يبق من نسل الممسوخ شيء. وكان جنسه موجودا
قبل المسخ والله سبحانه وتعالى أعلم.
فوائد: القنفذ عندنا حرام ومالك وأحمد، ورخص فيه الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فكأنه ما جعله من الخبائث ولا من السباع. قلنا: «إن أبا هريرة -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ذكر القنفذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو
حسبه من الخبائث» .
(11/601)
قال: وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه طهر جلده
ولحمه
إلا الآدمي والخنزير فإن الذكاة لا تعمل فيهما. أما الآدمي فلحرمته
وكرامته، والخنزير لنجاسته كما في الدباغ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في من أكل الجلالة من الشاة
والبقر والبعير. وبه قال الشافعي: وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية:
حرام وتزول الكراهة بحبسها بلا خلاف.
وعندنا وأحمد يكره ركوبها مدة الحبس، في الدجاجة ثلاثة أيام، وفي البقرة
والبعير أربعون يوما، وقيل سبعة أيام في الشاة وعن أحمد ثلاثة أيام في
الكل.
وقال الأسبيجابي في شرح " الكافي ": ويكره لحوم الجلالة والعمل عليها وذلك
حالها إلى أن تحبس أياما وتعلف لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الجلالة» ولأن تناول النجاسات توجب فساد لحمها
فتقرر سنته في فساد أكله. وليس الدجاج كذلك لأن الأثر جاء في الجلالة وليس
لها علف غير ذلك. والدجاج يخلط بالعذرة غيره، حتى إذا علم أنها لا تتناول
غير النجاسات فقلنا بحرمة أكلها إلى أن تحبس.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ": ولم يقدر
في ذلك مقدارا في الكتاب. وروي في غير رواية الأصول أنه قدر في الإبل شهرا
وفي البقر عشرين وفي الشاة عشرة أيام وفي الدجاجة ثلاثة أيام.
وقال الولوالجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " فتاواه "، ذكر في " النوادر ":
لو أن جديا غذي بلبن الخنزير فلا بأس بأكله لأنه لم يتغير لحمه وما غذي صار
مستهلكا لم يبق أثره. وعلى هذا يقال: لا بأس بالدجاجة التي تختلط بالعذرة،
لأنه لا يغير لحمه. والرأي يروي بحبس الدجاجة ثلاثة أيام فذلك على سبيل
التنزيه.
وفي الدراية: والزرع والثمار السفه بالنجاسات لا يكره، ولا يحرم عند أكثر
الفقهاء.
[طهارة جلد ملا يؤكل لحمه بالذكاة]
م: (قال: وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه، طهر جلده ولحمه) ش: أي قال القدوري إذا
ذبح حيوان مما لا يؤكل لحمه من ذي الناب يطهر لحمه وجلده.
وقال الحاكم في " الكافي "، ولا يكره الصلاة على جلد ما يكره أكله من ذي
الناب إذا ذبح أو دبغ. وهذا الذي قاله هو الذي اعتمد عليه عامة أصحابنا على
قول نصير بن يحيى وابن جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز
بيعه. وقد مر بيانه في أول الكتاب.
[جلد الآدمي والخنزير]
م: (إلا الآدمي والخنزير فإن الذكاة لا تعمل فيهما. أما الآدمي فلحرمته
وكرامته، والخنزير لنجاسته كما في الدباغ) ش: أي كما في حكم الدابغ. فإن
المدباغ يطهر جلد كل حيوان إلا الآدمي لكرامته لا يستعمل. والخنزير لنجاسة
عينه، أو لعدم قبول الدباغ كما
(11/602)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الذكاة
لا تؤثر في جميع ذلك لأنه لا يؤثر في إباحة اللحم أصلا
وفي طهارته وطهارة جلده تبعا، ولا تبع بدون الأصل وصار كذبح المجوس. ولنا:
أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات
والدماء السيالة وهي النجسة دون ذات الجلد واللحم، فإذا زالت طهر كما في
الدباغ، وهذا الحكم مقصود في الجلد كالتناول في اللحم وفعل المجوسي إماتة
في الشرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرنا في أول الكتاب مستوفى.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الذكاة لا تؤثر في جميع ذلك) ش: أي
في اللحم والجلد وسائر الأجزاء م: (لأنه لا يؤثر في إباحة اللحم أصلا) ش:
أي لأن الذكاة والتذكية بتأويل الذبح يؤثر في إباحتها اللحم من حيث
الأصالة.
م: (وفي طهارته وطهارة جلده تبعا) ش: أي ويؤثر في إباحتها طهارة اللحم
وطهارة الجلد من حيث التبعية. م: (ولا تبع بدون الأصل) ش: إذا قام بالأصل
وهاهنا لم تفد الذكاة الأصل الذي هو إباحة اللحم فكذا لا يفيد التبع م:
(وصار كذبح المجوسي) ش: حيث لا يفيد إباحة الأكل ولا غيره وكذا ذبح الوثني
م: (ولنا: أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات) ش: احترز بها عن دم اللحم
فإنه طاهر وهي النجسة أي الرطوبات.
م: (والدماء السيالة وهي النجسة دون ذات الجلد واللحم فإذا زالت) ش: أي تلك
الرطوبات والدماء السيالة النجسة م: (طهر) ش: أي المذبوح أي جلده ولحمه م:
(كما في الدباغ) ش: أي يطهر في الدباغ بزوال تلك الرطوبات النجسة م: (وهذا
الحكم مقصود في الجلد) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن
تأثر الذكاة في إباحة اللحم أصل، وفي الطهارة اللحم والجلد تبع، فقال: هذا
أي الطهارة حكم مقصود في الجلد م: (كالتناول في اللحم) ش: يعني كما أن
التناول حكم مقصود بالذات في اللحم، وكذلك الطهارة.
وحكم مقصود في الجلد والحاصل؛ أن طهارة الجلد واللحم غير تابعة لطهارة
اللحم بل كل منهما حكم مقصود بالذات، فإذا حصلت الذكاة فإن كان المذكى من
الحيوان الذي يؤكل، تحصل الطهارة في جميع أجزائه بالأصالة. وإن كان مما لا
يؤكل يحصل في لحمه وجلده ثم لا يلزم في حصول الطهارة إباحة الأكل كما عرف
م: (وفعل المجوسي، إماتة في الشرع) ش: هذا جواب، عن قياس الشافعي تقريره:
أن ذبح المجوسي ليس بمشروع فيكون إماتة، وهذا؛ لأن الفعل، إنما يقع متطهرا
إذا أنفق بالحسن لإفادة الأثر الحسن، والحسنات محل الثواب فلا يصير المجوسي
أهلا لها.
فإن قيل: كما أن المجوسي ليس من أهل الذكاة فكذا الكلب ليس من جنس ما يذكى
ولا
(11/603)
فلا بد من الدباغ، وكما يطهر لحمه يطهر
شحمه حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده خلافا له، وهل يجوز الانتفاع به
في غير الأكل؟ قيل: لا يجوز اعتبارا بالأكل، وقيل: يجوز كالزيت إذا خالطه
ودك الميتة، والزيت غالب لا يؤكل وينتفع به في غير الأكل.
قال: ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فرق بين أن يكون الذبح من غير أهل الذكاة وبين أن يكون المذبوح من جنس
المذكى ألا ترى أن المسلم لو ذبح خنزيرا لا يحل أكله كما أن المجوسي لو ذبح
شاة لا يحل أكلها.
قلنا: قد اتفقا في أن المجوسي أيضا على أنه ليس من أهل الذكاة فلم يتفق على
أن الكلب والفهد ليس من جنس المذكى بل هو من جنس الذكاة؛ لأنه مختلف في
إباحة أكله كذا في " مختصر الأسرار ".
م: (فلا بد من الدباغ) ش: يعني إذا كان ذبح المجوسي إماتة في الشرع فلا بد
من الدباغ في جلد ما ذكاه لعدم حصول الطهارة بذبحه ثم أعلم أنهم اختلفوا في
أن الموجب لطهارة ما لا يؤكل لحمه مجرد الذبح والذبح مع التسمية قبل مجرد
الذبح؛ لأنه يؤثر في إزالة الدم المسفوح وقيل الذبح مع التسمية لأن المطهر
هو الذكاة ولا ذكاة بدون التسمية كما في غريب [ ... ] للفربري م: (وكما
يطهر لحمه يطهر شحمه حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده) ش: قيد بالقليل
لأن الكثير لا يفسد بلا خلاف خصوصا على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
فإن عنده إذا بلغ الماء قلتين لا ينجس إلا باليقين والقلتان عنده كثير.
م: (خلافا له) ش: للشافعي، أن شحمه أيضا لا يطهر كما لا يطهر لحمه وجلده،
م: (وهل يجوز الانتفاع به في غير الأكل؟) ش: أي نحو الاستصباح، ودهن
الجلود، ونحوها.
م: (قيل: لا يجوز اعتبارا بالأكل، وقيل: يجوز كالزيت إذا خالطه ودك الميتة)
ش: الودك بفتح الواو والدال وهو الدسم م: (والزيت غالب) ش: أي والحال أن
الزيت غالب م: (لا يؤكل) ش: أي الزيت مما إذا لم يجز أكله فيما إذا كان
الزيت غالبا، ففيما إذا كان مغلوبا بالطريق الأولى.
(وينتفع به) ش: أي بالزيت المذكور م: (في غير الأكل) ش: كالاستصباح ونحوه
كما ذكرنا.
[حيوان البحر من السمك ونحوه]
م: (قال: ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في " مختصره ": وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كره أصحابنا
كل ما في البحر إلا السمك خاصة فإنه حلال أكله إلا ما طفى منه فإنهم كرهوه.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: ويكره أكل ما سوى السمك من دواب البحر عندنا
كالسرطان، والسلحفاة، والضفدع وخنزير الماء. م:
(11/604)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجماعة من
أهل العلم بإطلاق جميع ما في البحر، واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان
وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أطلق ذلك كله، والخلاف في الأكل
والبيع واحد لهم: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}
[المائدة: 96] من غير فصل، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في
البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . ولأنه لا دم في هذه الأشياء إذ الدموي
لا يسكن الماء، والمحرم هو الدم فأشبه السمك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجماعة من أهل العلم) ش: ابن أبي ليلى
والشافعي في قوله وأصحاب الظاهر م: (بإطلاق جميع ما في البحر) ش: أي إباحة
جميع ما في البحر من الحيوان م: (استثنى بعضهم) ش: أي بعض الجماعة المذكورة
وأراد به الشافعي؛ لأنه قال: جميع ما في البحر يؤكل.
م: (الخنزير والكلب والإنسان) ش: أي خنزير البحر وكلبه وإنسانه وهو قول
الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
أنه أطلق ذلك كله) ش: أي جميع ما في البحر وبه قال أحمد في رواية عن
الشافعي يؤكل جميع ما في البحر إلا الضفدع. وبه قال أحمد في رواية، وقال
ابن الجلاب البصري في " التفريع ": وصيد البحر حلال أكله ويكره أكل كلب
الماء وخنزيره من غير تحريم له.
م: (والخلاف في الأكل والبيع واحد) ش: أي الخلاف المذكور بيننا وبين مالك
وجماعة والشافعي سواء في جواز الأكل وجواز البيع م: (لهم) ش: أي للشافعي م:
(قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] من غير
فصل) ش: أي من غير فرق بين السمك وغيره، فإطلاق الآية يتناول الكل م:
(وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في البحر: «هو الطهور ماؤه
الحل ميتته»
ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من
طريق مالك عن صفوان عن سعيد بن سلمة من آل الأزرق عن المغيرة بن أبي بردة
وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
يقول: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال يا
رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا
أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال الترمذي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حديث حسن صحيح.
م: (ولأنه لا دم في هذا الأشياء إذ الدموي لا يسكن الماء) ش: لأن طبع الدم
يضاد طبع الماء لأن الدم حار والماء بارد م: (والمحرم هو الدم فأشبه السمك)
ش: أي فأشبه ما في البحر من الحيوانات كلها كالسمك في عدم الدم الذي هو
المحرم إلا الضفدع استثناه الشافعي في قول: «لنهيه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتله،» رواه النسائي.
(11/605)
ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وما سوى السمك خبيث، ونهى رسول
الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن دواء يتخذ فيه الضفدع ونهى
عن بيع السرطان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}
[الأعراف: 157] ، وما سوى السمك خبيث) ش:؛ لأن الخبيث ما يستخبثه الطبع
السليم، وما سوى السمك يستخبثه الطبع السليم فيحرم.
م: «ونهى رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن دواء يتخذ فيه
الضفدع» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود في " الطب " وفي " الأدب ". والنسائي
في " الصيد " عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب «عن عبد
الرحمن بن عثمان القرشي أن طبيبا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الضفدع يجعلها في دواء فنهى عن قتلها» .
ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في " مسانيدهم " والحاكم
في " المستدرك - في الطب " وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال البيهقي: هو
أقوى ما ورد في الضفدع.
وقال الحافظ المنذري: فيه دليل على تحريم أكل الضفدع؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتله والنهي عن قتل الحيوان إما
لحرمته كالآدمي، وإما لتحريم أكله كالصرد والهدهد والضفدع ليس بمحترم فكان
النهي منصرفا إلى الوجه الآخر.
م: (ونهى عن بيع السرطان) ش: أي «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن بيع السرطان» وهو ليس بموجود في الكتب المشهورة في الحديث
وليس له أصل.
فإن قلت: روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره مسندا إلى جابر - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح نتلقى عيرا لقريش
وزودنا جرابا جرابا من تمر لم يجد له غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة
تمرة كنا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى
الليل وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء، فنأكله. وانطلقنا على ساحل
البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر،
فقال أبو عبيدة: ميتة، ولا تحل لنا، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم إليه
فكلوا، فأقمنا عليه شهرا، ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، فلما قدمنا إلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكرنا ذلك له، فقال: " هو رزق
أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا [منه] ) ؟ " فأرسلنا [منه]
إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأكل» .
(11/606)
والصيد المذكور فيما تلا محمول على
الاصطياد وهو مباح فيما لا يحل، والميتة المذكورة فيما روي محمولة على
السمك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا يدل على إباحة ما في البحر سوى السمك.
قلت: المراد منها السمك والدليل عليه ما رواه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -
عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة،
فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر، فأكلنا
منه نصف شهر وأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته، والخبط بفتحتين
الورق.
م: (والصيد المذكور فيما تلا محمول على الاصطياد) ش: جواب عن استدلالهم
فيما ذهبوا إليه في قوله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}
[المائدة: 96] .
تقريره: أن المراد من لفظ الصيد هو المصدر وهو الاصطياد فيتناول ما يحل وما
يحرم وليس المراد منه الاسم، وقد قررناه فيما مضى.
فإن قلت: لو كان يستقيم حمله لكانت الكناية من قوله سبحانه وتعالى:
{وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] لا يستقيم حمله على الاصطياد فإنها راجعة إلى
الصيد.
قلت: الطعام المذكور محمول على السمك لأن المتعارف أنه طعام البحر والكناية
تنصرف إلى البحر قوله: " فيما تلا " الصواب " فيما تلي " على صيغة المجهول
وهكذا هو في النسخ الصحيحة.
م: (وهو) ش: أي الاصطياد م: (مباح فيما لا يحل) ش: لمنافع أخرى غير الأكل
م: (والميتة المذكورة فيما روي محمولة على السمك) ش: هذا أيضا، جواب على
استدلالهم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو
الطهور ماؤه الحل ميتته» أي الميتة المذكورة في الحديث، محمولة على السمك.
وقوله: روي على صيغة المجهول أيضا على ما لا يخفى على الفطن.
فإن قلت: هذا خبر آحاد فكيف يجوز تخصيص الكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] .
قلت: هذا خبر مشهور قد تأيد بالإجماع فيجوز تخصيص الكتاب به، على أن حكم
السمك ثبت بقوله سبحانه وتعالى: {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12]
. مع أنه لا تعارض بين الكتاب والخبر لأن الميتة المحلاة باللام جنس إذا لم
يكن معهودا، والميتة من الدمويات المعهودة بدليل قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ
دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فعلم أن الميتة تكون ميتة باعتبار الدم
المسفوح، ولا دم للسمك فيصرف إلى العهد فلا يبقى التعارض.
(11/607)
وهو حلال مستثنى من ذلك لقوله - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك
والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو حلال مستثنى من ذلك) ش: أي السمك حلال مستثنى عما لا يحل م: (لقوله
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما
الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» .
ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب " الأطعمة " عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم عن أبيه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أحلت لنا.» . " إلى
آخره.
ورواه أحمد والشافعي وعبد بن حميد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسانيدهم ".
ورواه ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الضعفاء " وأعله بعبد
الرحمن، وقال: إنه كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من
رفع الموقوفات وإسناد المراسيل، فاستحق الترك.
وأخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن عبد الله وعبد
الرحمن ابني زيد بن أسلم عن أبيهما. وأخرجه ابن عدي في " الكامل " عن عبد
الله فقط.
وعبد الله وعبد الرحمن ضعيفان إلا أن أحمد وثق عبد الله، وأسند ابن عدي إلى
أحمد أنه قال: عبد الله ثقة، وأخواه عبد الرحمن وأسامة ضعيفان.
وقال ابن عدي: وهذا الحديث يدور على هؤلاء الإخوة الثلاثة، وأسند ابن معين
أنه قال: ثلاثتهم ضعفاء قال ليس حديثهم بشيء في " التنقيح " هو موقوف في
حكم المرفوع.
وقال الدارقطني في " علله ": وقد رواه المسور بن الصلت عن زيد بن أسلم.
وقال ابن عدي: وابن وهب يرويه عن سليمان بن بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
موقوفا فرواه عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا، وعن ابن زيد بن أسلم يرويه عن زيد
بن أسلم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - موقوفا وهو الصواب.
قال في " التنقيح " وهذه الطريق رواها الخطيب بإسناده إلى المسور بن الصلت.
والمسور ضعفه أحمد والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم وقال النسائي متروك
الحديث، انتهى.
قلت: وله طريق آخر قال ابن مردويه في " تفسيره - في سورة الأنعام " حدثنا
عبد الباقي
(11/608)
قال: ويكره أكل الطافي منه وقال مالك
والشافعي - رحمهما الله - لا بأس به لإطلاق ما رويناه ولأن ميتة البحر
موصوفة بالحل بالحديث، ولنا ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن
النبي (- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) أنه قال: «ما نضب عنه الماء
فكلوا، وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن قانع حدثنا محمد بن بشر بن مطر حدثنا داود بن راشد حدثنا سويد بن عبد
العزيز حدثنا أبو هشام الأيلي قال: سمعت زيد بن أسلم يحدث عن ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «يحل من الميتة اثنتان ومن الدم اثنان، فأما الميتة فالسمك
والجراد، وأما الدم فالكبد، والطحال» . .
[أكل الطافي من السمك]
م: (قال: ويكره أكل الطافي منه) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - "
منه أي من السمك، والطافي هو الذي يموت فيعلو على وجه الماء ويظهر، من طفى
الشيء يطفو طفوا إذا علا.
هكذا قال معنى الطافي اسم فاعل كالقاضي من قضاء، وهو الذي يموت في الماء
حتف أنفه من غير سبب معلوم ويعلو على وجه الماء.
م: (وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: لا بأس به) ش: أي الطافي وبه قال
أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحاب الظاهر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وبعض
التابعين.
م: (لإطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . فإنه مطلق يفصل بين ما إذا مات بآفة
أو بغير آفة. م: (ولأن ميتة البحر موصوفة بالحل بالحديث) ش: أراد به قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان» الحديث.
م: (ولنا ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه
الماء فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا» ش: هذا الحديث، بهذا اللفظ غريب.
ولكن أبا داود وابن ماجه أخرجا عن يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن أبي
الزبير عن جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه» .
فإن قلت: ضعف البيهقي هذا الحديث وقال: يحيى بن سليم كثير الوهم وقد رواه
غيره موقوفا.
(11/609)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا نسلم ذلك فإن يحيى بن سليم أخرج له الشيخان فهو ثقة وزاد فيه
الرفع. ونقل ابن القطان في كتابه عن ابن معين قال: هو ثقة ولكن في حفظه شيء
ومن أجل ذلك تكلم الناس فيه.
فإن قلت: قال ابن الجوزي: إسماعيل بن أمية متروك. قلت: ليس كذلك لأنه ظن
أنه إسماعيل بن أمية أبو الصلت الذارع وهو متروك الحديث وأما هذا فهو
إسماعيل بن أمية القرشي الأموي والذي في ظنه ليس في طبيعته.
فإن قلت: قال أبو داود: رواه الثوري وأيوب [وحماد] عن أبي الزبير موقوفا
على جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد أسند من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب
عن أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما صطدتموه وهو حي فكلوه، وما وجدتم
ميتا طافيا فلا تأكلوه» .
وقال الترمذي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث
فقال: ليس بمحفوظ، ويروى عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلاف هذا ولا
أعرف لابن أبي ذئب عن أبي الزبير شيئا.
قلت: قول البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أعرف لابن أبي ذئب عن أبي الزبير
شيئا هو على مذهبه في أنه يشترط لاتصال الإسناد ثبوت السماع. وقد أنكر مسلم
ذلك إنكارا شديدا وزعم أن المتفق عليه أنه يكفي للاتصال إمكان اللقاء، وابن
أبي ذئب أدرك زمان أبي الزبير بلا خلاف، فسماعه منه ممكن.
فإن قلت: قال البيهقي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ورواه بعد العزيز بن عبد
الله، عن وهب بن كيسان، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا وعبد
العزيز ضعيف لا يحتج به.
قلت: أخرج الحاكم في " المستدرك " في أبواب " الأحكام " حديثا عنه وصحح
سنده.
وأخرج حديثه هذا الطحاوي في " أحكام القرآن " فقال: حدثنا الربيع بن سليمان
المرادي بن أشد ابن موسى، حدثنا إسماعيل بن عياش حدثني عبد العزيز بن عبد
الله عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«ما جزر البحر وما أبقى فكل وما وجدته طافيا فوق الماء فلا تأكل» .
(11/610)
وعن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]
عام خص منه غير الطافي من السمك بالاتفاق وبالحديث المشهور. والطافي مختلف
فيه فبقي داخلا في عموم الآية.
قوله: " وما نضب " بالنون والضاد المعجمة والباء الموحدة من النضوب وهو
ذهاب الماء.
قوله " ولفظه " أي رماه لأن اللفظ في اللغة الرمي، يقال: لفظت الرحى الدقيق
أي رمته وقوله: وما طفا أي على وجه الماء.
م: (وعن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا) ش: أي وروى عن جماعة من الصحابة مثل
مذهبنا أن الطافي لا يحل وقد روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " كراهية الطافي
عن جابر بن عبد الله وعلي بن أبي طالب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
-.
وكذا عن ابن المسيب وأبي الشعثاء، والنخعي وطاوس والزهري - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وكذا نقل عبد الرزاق في " مصنفه " وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ
- في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: كل ما جزر
عنه الماء وما قذف به، ولا تأكل ما طفا. يقال جزر الماء يجزر إذا قل ماؤه
والجزر ضد الماء ومادته جيم ثم زاء معجمة.
فإن قلت: روى البيهقي من حديث الثوري عن عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن
ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: السمك
الطافي حلال لمن أراد أكله. وزاد فيه وكيع عن سفيان: الطافية على الماء.
وروى أيضا من حديث هشام حدثنا قتادة عن جابر بن زيد أن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجراد والنون ذكي كله.
وروى غيره أيضا عن الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الحيتان والجراد ذكي كله.
وروى غيره عن أبان عن ابن عباس عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ما طفا البحر» .
قلت: روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن علي بن مسهر عن الأجلح عن ابن أبي
الهذيل سأل رجل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إني آتي البحر
فأجده قد جعل سمكا كثيرا فقال: كل ما لم تر سمكا طافيا.
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " عن الثوري عن الأجلح عن
عبد الله بن أبي الهذيل قال: سمعت ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
يقول: لا تأكل طافيا.
وحديث عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا ينافيا حديث جابر. وأما
حديث أبان فإنه
(11/611)
وميتة البحر ما لفظه البحر ليكون موته
مضافا إلى البحر لا ما مات فيه من غير آفة.
قال: ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي وأنواع من السمك والجراد من غير ذكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منكر جدا، قال شعبة لأن أزني سبعين زنية أحب إلي من أروي حديث أبان بن أبي
عياش.
ذكره الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكام القرآن ".
[ميتة البحر تعريفها وحكمها]
م: (وميتة البحر ما لفظه البحر ليكون موته مضافا إلى البحر لا ما مات فيه
من غير آفة) ش: هذا جواب عما تمسكوا من قولهم أن ميتة البحر موصوفة بالحل.
يعني ميتة البحر ما لفظه أي رماه البحر حتى يكون موته مضافا إلى البحر لأنه
إذا رماه البحر ومات، يكون موته بسبب رمي البحر إياه، فيطلق عليه أنه ميتة
بخلاف ما إذا مات في البحر من غير آفة. فإن مات حتف أنفه فإن موته لا يضاف
إلى البحر.
[أكل الجريث والمارماهي وأنواع السمك والجراد
من غير ذكاة]
م: (وقال: ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي وأنواع السمك والجراد من غير
ذكاة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والجريث بكسر الجيم وتشديد
الراء بعده آخر الحروف ساكنة وفي آخره ثاء مثلثة.
قال في كتب اللغة: هو نوع من السمك. وفي " الغاية " الجريث الجري. وقال
الكاكي الجريث بالفارسية ما هي بأي جوشق.
قلت: الجريث السمك السود والمارماهي السمكة التي تكون في صورة الحية، وما
هي هو السمك وإنما أحل أنواع السمك لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان» . الحديث.
وروى محمد في الأصل عن عمرو بن وهب عن عمرة بيان الطبيخ قالت: خرجت مع
وليدة لنا فاشترينا جريثة بقفيز حنطة فوضعناه في زنبيل فخرج رأسها من جانب
وذنبها من جانب آخر، فمر بنا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: بكم
أخذت؟ قال: فأخبرته. فقال: أطعمه ما أرخصه وأوسعه للعيال، فيه دليل على أن
الجريث يؤكل لأنه نوع من السمك فيجعل كسائر الأنواع. وهذا الحديث حجة لنا
على بعض الرافضيين وأهل الكتاب فإنهم يكرهون أكل الجريث ويقولون: إنه كان
ديوثا يدعو الناس إلى حليلته فمسخ به.
وهو متروك بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كذا قال خواهر زاده -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه " وروى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن
ابن عباس أنه سئل عن الجريث فقال: أما نحن فلا نرى به بأسا، وأما أهل
الكتاب فيكرهون. فإذا صح عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن
(11/612)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحل
الجراد إلا أن يقطع الآخذ رأسه ويشويه لأنه صيد البر، ولهذا يجب على المحرم
بقتله جزاء يليق به فلا يحل إلا بالقتل كما في سائره والحجة عليه ما روينا.
وسئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيها
الميت وغيره، فقال: كله كله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إباحة الجريث ولم يرد عن غيرهما خلاف حل
ذلك محل الإجماع.
وكذا الجراد حلال سواء مات حتف أنفه أو قتله الآخذ بأن قطع رأسه.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل الجراد إلا أن يقطع الآخذ رأسه
ويشويه لأنه صيد البر ولهذا يجب على المحرم) ش: أي ولأجل كونه صيدا يجب على
المحرم م: (بقتله جزاء يليق به) ش: أما كونه صيدا فلا خلاف فيه لأنه متوحش،
وأما جزاؤه فهو أن يتصدق بما شاء كما في قتل القمل وقد مر في باب الحج.
م: (فلا يحل إلا بالقتل كما في سائره) ش: أي إذا كان كذلك، فلا يحل، إلا
بالقتل كما في سائر الصيد حتى قالوا: إنه إذا غفل عنه حتى مات حتف أنفه، أو
جعل الكل في غراره، وماتوا؛ فإنه لا يحل. كذا ذكره الشيخ الإمام خواهر زاده
- رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي شرح كتاب " الصيد " م: (والحجة عليه ما روينا) ش: أي على مالك، أراد
بقوله: ما رويناه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا
ميتتان» الحديث. ولا يرد علينا كراهة الطافي لأنه مخصوص بالحديث الآخر.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل: بلغنا عن علي بن أبي طالب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ذكاة السمك والجراد واحدة. م: (وسئل علي
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيها الميت
وغيره فقال: كله كله) .
ش: هذا ذكره محمد في الأصل، وقد بلغنا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه سئل عن الجراد إلى آخره فدل على حل الجراد مطلقا سواء مات حتفه أنفه أو
مات بعلة بأن أصابه المطر في الطريق فمات.
وفي " الكافي ": ولأن موته لا بد أن يكون بسبب فإنه يجري الأصل مجرى المعاش
كما قيل: إن بيض السمك إذا انحشر عليه الماء يصير جرادا. فإذا مات في البر
فقد مات في غير موضع أصله، وإذا مات في الماء فقد مات في غير موضع معاشه
وذلك سبب لموته. وروى ابن مريم سألت لحما هينا فرزقت الجراد، وعمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - كان يأكل الجراد.
(11/613)
وهذا عد من فصاحته ودل على إباحته وإن مات
حتف أنفه بخلاف السمك إذا مات من غير آفة لأنا خصصناه بالنص الوارد في
الطافي،
ثم الأصل في السمك عندنا أنه إذا مات بآفة يحل كالمأخوذ،
وإذا مات حتف أنفه من غير آفة لا يحل كالطافي وتنسحب عليه فروع كثيرة
بيناها في كفاية المنتهى، وعند التأمل يقف عليه المبرز منها: إذا قطع بعضها
فمات يحل أكل ما أبين وما بقي؛ لأن موته بآفة، وما أبين من الحي وإن كان
ميتا فميتته حلال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كله، كله م: (عد من
فصاحته) ش: حيث أجاب بلفظتين متجانستين في اللفظ مختلفتين في المعنى. فإن
قوله كله، أمر من أكل، يأكل، والضمير فيه يرجع إلى الجراد.
وقوله: كله، تأكيد لما بعده، وهو من ألفاظ التوكيد المعنوي. م: (ودل على
إباحته وإن مات حتف أنفه) ش: أي على إباحة أكل الجراد وإن مات من غير آفة
م: (بخلاف السمك إذا مات من غير آفة لأنا خصصناه بالنص الوارد في الطافي)
ش: وهو حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم: وحديث جابر لم يكن فرق بين
السمك والجراد فافهم.
[السمك إذا مات بآفة أو حتف أنفه]
م: (ثم الأصل في السمك عندنا: أنه إذا مات بآفة) ش: كالصدمة وإلقائه الماء
على طرف ونحو ذلك م: (يحل كالمأخوذ) ش: هذا أصل في اشتراط الآفة في موت
السمك لتصير حلالا، وهو أنه إذا مات بآفة يحل كالمأخوذ، أي كالسمك المأخوذ
من الماء، فإن أخذه سبب لموته.
فإن قلت: يتوهم فيما ينبذه الماء ما كان طافيا قبل النبذ.
قلت: لم يعتبر هذا الوهم منا وإنما يعتبر في غير السمك من الحيوانات، فإنه
إذا توارى عنه الصير، ولم يتبع لا يحل لاحتمال أنه مات من هوام الأرض.
والقياس أن لا يعتبر التوهم في موضع، وإنما اعتبرناه بالنص في ماء السمك،
ولم يعتبر هنا لأنه قال: ما لفظ البحر كله.
م: (وإذا مات حتف أنفه من غير آفة لا يحل) ش: لعدم الشرط وهو الآفة، ولهذا
قال م: (كالطافي) ش: لأنه ميت حتف أنفه بغير آفة م: (وتنسحب عليه) ش: أي
يمتد على الأصل المذكور م: (فروع كثيرة بيناها في كفاية المنتهي وعند
التأمل يقف عليها) ش: أي على الفروع م: (المبرز) ش: بالتشديد، من برز
الرجل، فإنه أصحابه فضلا أو شجاعة، وثلاثية من برز الرجل يبرز بروزا، أي
ظهر، وقوله سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] أي
ظهروا.
م: (منها) ش: أي من الفروع م: (إذا قطع بعضها فمات يحل أكل ما أبين وما
بقي؛ لأن موته بآفة، وما أبين من الحي وإن كان ميتا) ش: يعني في سائر
الحيوانات م: (فميتته حلال) ش: أي
(11/614)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ميتة السمك حلال بخلاف غيره من الحيوانات.
ومنها: وجد في بطنها سمكة أخرى أو قتلها طير الماء، فلا بأس بأكلها لأن
الموت يحال إلى سبب ظاهر وهو ابتلاع السمك أو قتل الطير.
ومنها: إذا ألقى سمك في جب ماء فماتت فيه، فلا بأس بأكلها، لأنها ماتت بسبب
ضيق المكان عليها، فكان موتها بآفة ظاهرة فيحل دمها إذا جمعها في حظيرة لا
يستطيع الخروج منها، وهو يقدر على أخذها بغير صيد، لأن الجمع في مكان ضيق
سبب لموتها، وإن كانت تؤخذ بغير صيد، فلا خير في أكلها لانعدام سبب ظاهر
يحال الموت إليه، فكان موتها حتف أنفها، فلا يحل.
قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه ": روى هشام عن محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في السمك إذا كان بعضها في الماء، وبعضها على الأرض إن
كان رأسها في الأرض، أكلت لأنه موضع نفسها.
وإذا كان خارجا من الماء، فإن الظاهر أنها ماتت بسبب. وإن كان رأسها
وأكثرها في الماء لم تؤكل لأنه موضع حياتها فكان الظاهر أنها ماتت بغير سبب
وإن كان رأسها في الماء وأكثرها في الأرض، أكلت لأنه ليس موضع حياتها، فعلم
أن موتها بسبب.
وقد شنع ابن حزم على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا فقال: هذا قول مخالف
للقرآن والسنة، ولأقوال العلماء، والقياس والمعقول. قيل في جوابه: هذا من
غاية تعصبه لأن محمدا قال ذلك بالاستدلال من حديث جابر ووجه ما مر.
وقال الولوالجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " فتاواه ": إذا ماتت السمكة في
الشبكة وهو لا يقدر على التخلص منها أو أكلت شيئا ألقاه في الماء لتأكله
فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأنها ماتت بآفة.
وفي " الفتاوى الصغرى " ناقلا عن " الجامع الصغير ": إذا وجد السمك ميتا
على الماء وبطنه من فوق، لم يؤكل لأنه طافٍ. وإن كان ظهره من فوق أكل لأنه
ليس بطاف. وفي " الذخيرة ": لو وجد سمكة في بطن طائفة يؤكل، وإن كانت
الطافية لا تؤكل. ولو وجد في حوصلة طائر يؤكل وعند الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - لا يؤكل لأنه كالرجيع، ورجيع الطائر عنده نجس.
قلنا: إنما يصير رجيعا إذا تغير. وفي السمك الصغار التي تقلى من غير أن يشق
(11/615)
وفي الموت بالحر والبرد روايتان، والله
أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جوفها، قال أصحابنا: لا يحل أكله لأن رجيعته نجس. وعندنا وسائر أجزائه تحل.
م: (وفي الموت بالحر والبرد روايتان) ش: أي في موت السمك بحرارة الماء أو
برودته روايتان.
إحداهما: أنه لا يؤكل لأنه مات بسبب حادث، فهو كما لو ألقاه الماء على
اليبس، والرواية الأخرى: لا يؤكل لأن الحر والبرد صفة من صفات الزمان،
فليست من الموت غالبا.
وأطلق القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه مختصر الكرخي الروايتين ولم
ينسبها إلى أحد وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب
" الصيد ": وقد ذكره في غير رواية الأصول خلافا، وقال على قول أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل، وعلى قول محمد: يحل. فكذلك قال في " العيون "
حيث قال: وقال أبو حنيفة: إذا قتلها برد الماء أو حره لم يؤكل، فهو في
منزلة الطافي.
وقال محمد: يؤكل لأنه مات بآفة. فوائد: وفي " الكافي " للحاكم ولا يحل صيد
المجوسي ولا ذبيحته إلا فيما يحتاج إليه من التذكية من سمكة أو جرادة وبيضة
يأخذها، وما أشبه ذلك، وكذلك المرتد، ولا بأس بصيد المسلم بكلب المجوسي
المعلم، كما يذبح بسكينه، ولو ذبح شاة أو بقرة فتحركت بعد الذبح أو خرج
منها دم تحل، وإن لم تتحرك ولم يخرج منها الدم، لم تحل، وهنا إذا لم يدرك
حياته وقت الذبح، فإن علم حل. ولو ذبح الموقوذة أو المسفوفة البطن أو
المريضة وفيها حياة، حل في ظاهر المذهب، بقوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَا
ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فيما ذبح، ولا يفصل في ظاهر الرواية.
وفي " المحيط ": وعليه الفتوى. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان
بحال يعيش يوما لولا الذكاة يحل وإلا لا.
وعن أبي يوسف: إذا كان بحال يعيش أكثر اليوم لولا الذكاة يحل وإلا لا.
وفي " المحيط " ذبح شاة وقيل: إن كان أكثر رأيه أنها حية أكل، وإلا لا.
وقيل: إن تحركت أكل خرج الدم أو لا، وإن خرج الدم ولم يتحرك لم يؤكل تم
الجزء الحادي عشر من البناية في شرح الهداية. ويليه الجزء الثاني مبتدئا
بكتاب الأضحية.
(11/616)
|