البناية شرح الهداية

فصل في البيع قال: ولا بأس ببيع السرقين، ويكره ببيع العذرة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز بيع السرقين أيضا؛ لأنه نجس العين، فشابه العذرة وجلد الميتة قبل الدباغ. ولنا: أنه منتفع به؛ لأنه يلقى في الأراضي لاستكثار الريع فكان مالا، والمال محل للبيع بخلاف العذرة؛ لأنه ينتفع بها مخلوطا، ويجوز بيع المخلوط هو المروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح.
وكذا يجوز الانتفاع بالمخلوط لا بغير المخلوط في الصحيح والمخلوط بمنزلة زيت خالطته النجاسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل في البيع]
[ببيع السرقين]
م: (فصل في البيع) ش: أخر هذا الفصل عن فصل الأكل والشرب واللمس والوطء لأن أمر تلك الأفعال متصل ببدن الإنسان، وهذا لأن ما كان أكثر اتصالا كان أحق بالتقديم. م: (قال: ولا بأس ببيع السرقين) ش: أي قال في " الجامع الصغير " والسرقين بكسر السين هو السرجين، ويقال له: العوة بضم العين المهملة وتشديد الواو والهاء. وفي حديث سعيد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أنه كان بدليل أرضه بالعوة. أي يصلح أرضه ويحسن معالجتها، ومنه سمى الدمال لأن الأرض تصلح به. وفسر العوة في الفائق: بالسرجين، وفسرها الأصمعي بعذرة الناس. وقال في " الجمهرة ": العودة البعر وما أشبه مما تشابه الأرض. م: (ويكره ببيع العذرة) ش: وهو رجيع الآدمي م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز بيع السرقين أيضا؛ لأنه نجس العين فشابه العذرة وجلد الميتة قبل الدباغ) ش: وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله.
م: (ولنا: أنه) ش: أي السرقين م: (منتفع به؛ لأنه يلقى في الأراضي لاستكثار الريع فكان مالا، والمال محل للبيع بخلاف العذرة؛ لأنه ينتفع به مخلوطا) ش: لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها إلا مخلوطا بالتراب أو الرماد م: (ويجوز بيع المخلوط) ش: لأنه مال ونجاسة العين يمنع الأكل ولا يمنع الانتفاع م: (هو المروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح) ش: واحترز به عن ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا بأس ببيع غير المخلوط أيضا.

[الانتفاع بالمخلوط]
م: (وكذا يجوز الانتفاع بالمخلوط لا بغير المخلوط في الصحيح) ش: احترز به عما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا بأس بالانتفاع بالعذرة الخالصة.
والروايتان نقلهما الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح "الجامع الصغير ". م: (والمخلوط بمنزلة زيت خالطته النجاسة) ش: أي الخلوط من العذرة بالتراب بمنزلة زيت خالطته النجاسة حيث يجوز بيعه والانتفاع به كالاستصباح ونحوه اتفاقا فذلك العذرة المخلوطة بالتراب الغالب يجوز بيعه قياسا عليه، والجامع كونهما منتفعا بها لأن الناس ينتفعون بها مخلوطة.

(12/201)


قال: ومن علم بجارية أنها لرجل فرأى آخر يبيعها، وقال: وكلني صاحبها ببيعها، فإنه يسعها أن يبتاعها ويطأها؛ لأنه أخبر بخبر صحيح لا منازع له، وقول الواحد في المعاملات مقبول على أي وصف كان لما مر من قبل. وكذا إذا قال: اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي لما قلنا، وهذا إذا كان ثقة، وكذا إذا كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق؛ لأن عدالة المخبر في المعاملات غير لازمة للحاجة على ما مر. وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له أن يتعرض لشيء من ذلك؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ومن علم بجارية أنها لرجل فرأى آخر يبيعها، وقال: وكلني صاحبها ببيعها، فإنه يسعه أن يبتاعها ويطأها) ش: أي قال في " الجامع الصغير "؛ م: (لأنه أخبر بخبر صحيح) ش: لأنه صدر عن عقل ودين مع اعتقاد حرمة الكذب م: (لا منازع له) .
م: (وقول الواحد من المعاملات مقبول على أي وصف كان) ش: يعني حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، رجلا كان أو امرأة، عدلا كان أو غير عدل، صبيا كان أو بالغا، بعد أن كان عاقلا مميزا م: (لما مر من قبل) ش: أي في فصل الأكل والشرب أن قول الواحد يقبل في المعاملات دفعا للحرج.
م: (وكذا إذا قال: اشتريتها منه) ش: أي وكذا الحكم إذا قال الذي في يده الجارية: اشتريتها من فلان وهو الذي كان يعلم الرجل أنها له م: (أو وهبها لي أو تصدق بها علي لما قلنا) ش: أشار بها إلى قوله لأنه أخبر بخبر صحيح لا منازع له. م: (وهذا) ش: أي قبول قوله، وصحة العمل به م: (إذا كان ثقة) .
فإن قلت: هذا مناقض قوله: على أي وصف كان؟. قلت: معنى قوله ثقة، أن يكون من يعتمد كلامه، وإن كان فاسقا يجوز أن لا يكذب الفاسق لمروءته ولوجاهته.
م: (وكذا إذا كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق) ش: أي وكذا الحكم إذا كان المخبر غير ثقة، والحال أن أكبر رأيه أن المخبر صادق. م: (لأن عدالة المخبر في المعاملات غير لازمة للحاجة على ما مر) ش: أي في فصل الأكل والشرب. م: (وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له أن يتعرض لشيء من ذلك) ش: وفي ضبط تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسع له أن يعرض، ثم فسره بقوله: أن يتعرض. وفي "شرح الأترازي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يسع له أن يعزم بشيء موضع قوله: لا يسع له أن يتعرض لشيء من ذلك. ثم فسره بقوله: أي يقصد بشيء من الانتفاع والوطء يعني لا يشتريها ولا يطأها.

(12/202)


لأن أكبر الرأي يقام مقام اليقين، وكذا إذا لم يعلم أنها لفلان ولكن أخبره صاحب اليد أنها لفلان، وأنه وكله ببيعها أو اشتراها منه والمخبر ثقة قبل قوله، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي؛ لأن إخباره حجة في حقه، وإن لم يخبره صاحب اليد بشيء، فإن كان عرفها للأول لم يشترها حتى يعلم انتقالها إلى ملك الثاني؛ لأن يد الأول دليل ملكه، وإن كان لا يعرف ذلك له أن يشتريها، وإن كان ذو اليد فاسقا؛ لأن يد الفاسق دليل الملك في حق الفاسق والعدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال في " الكافي ": وكذلك الطعام والشراب في جميع ذلك م: (لأن أكبر الرأي يقام مقام اليقين) ش: فيما هو أعظم من هذا كالفروج.
ألا ترى أن من تزوج امرأة فأدخلها عليه إنسان، وأخبره أنها امرأته فله أن يعتمد على خبره ويطأها إذا كان ثقة عنده، أو كان أكبر رأيه أنه صادق.
وكذا إذا دخل رجل على غيره ليلا شاهرا سيفه فلصاحب المنزل أن يقتله، وإن كان أكبر رأيه أنه لص قصد قتله وأخذ ماله، وإن كان أكبر رأيه أنه هارب من لص لم يعجل بذلك، مؤيده ما ذكرنا من قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] جعل أكبر الرأي بمنزلة اليقين إذ العلم بإيمان الغير يقينا لا يكون إلا بأكبر الرأي فاسقا أو عدلا، «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوابصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "ضع يدك على صدرك واستفت قلبك، فما حاك في صدرك فدعه وإن أفتاك الناس به» .
م: (وكذا إذا لم يعلم أنها لفلان ولكن أخبره صاحب اليد أنها لفلان) ش: أي وكذا الحكم إذا لم يعلم الرجل أن الجارية لفلان، ولكن الذي في يده أخبره أنها لفلان. م: (وأنه) ش: أي وأن فلانا م: (وكله ببيعها أو اشتراها منه) ش: أي وأخبره أنه اشترى الجارية من فلان م: (والمخبر ثقة) ش: أي والحال أن المخبر ثقة م: (قبل قوله، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي؛ لأن إخباره حجة في حقه) ش: أي في حق نفسه فيما يرجع إليه وهو قوله، ليس لي، بل لفلان، ولكن غير حجة فيما لا يرجع إليه وهو قوله: وكلني أو اشتريت منه، فلا بد من حجة وهو أكبر الرأي.
م: (وإن لم يخبره صاحب اليد بشيء، فإن كان عرفها للأول) ش: هذا أيضا في الصورة المذكورة وهو أن يعلم بجارية أنها لفلان مثلا ثم رآها في غير يده ولم يخبره بشيء، فإنه لا يشتريها حتى يعلم انتقالها إليه، وهو معنى قوله: فإن كان عرفها للأول، م: (لم يشترها حتى يعلم انتقالها إلى ملك الثاني) ش: بشيء من أسباب الملك. م: (لأن يد الأول دليل ملكه، وإن كان لا يعرف ذلك) ش: أي كونها للأول.
م: (له أن يشتريها، وإن كان ذو اليد فاسقا؛ لأن يد الفاسق دليل الملك في حق الفاسق والعدل) ش: يعني هذا التركيب أن يد المتصرف دليل شرعي للملك وفي حق هذا الدليل الفاسق والعدل

(12/203)


ولم يعارضه معارض، ولا معتبر بأكبر الرأي عند وجود الدليل الظاهر، إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك، فحينئذ يستحب له أن يتنزه ومع ذلك لو اشتراها يرجى أن يكون في سعة من ذلك لاعتماده الدليل الشرعي،
وإن كان الذي أتاه بها عبدا، أو أمة لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل؛ لأن المملوك لا ملك له، فيعلم أن الملك فيها لغيره، فإن أخبره أن مولاه أذن له وهو ثقة قبل، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي. وإن لم يكن له رأي لم يشترها لقيام الحاجر فلا بد من دليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سواء حتى إذا تنازعه اثنان فالقول له، وكان حق التركيب أن يقول: لأن اليد دليل الملك في حق الفاسق والعدل. أو نقول: لأن يد الفاسق دليل الملك والفاسق والعدل فيه سواء.
م: (ولم يعارضه معارض) ش: فيعتمد على كلامه يشتريها ويطأها م: (ولا معتبر بأكبر الرأي عند وجود الدليل الظاهر) ش: لأن الدليل الظاهر أقوى من أكبر الرأي م: (إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك) ش: كدرة في يد الفقير لا يملك شيئا أو كتاب في يد جاهل لم يكن في إيابه وهو أهل لذلك م: (فحينئذ يستحب له أن يتنزه) ش: ويترك الشراء لأنه وقع التردد في حالة يوجب التنزه والاحتياط م: (ومع ذلك لو اشتراها يرجى أن يكون في سعة من ذلك) ش: أي من الشراء م: (الشرعي) ش: وهو اليد ظاهر لأن صاحب اليد يزعم أنه مالك. فالقول قوله شرعيا فيما زعم فالذي يريد الشراء يعتمد دليلا إلا أن حاله يخالف هذا الدليل فلم يثبت الجواز وعلة لذلك.

[بيع وشراء الصبي]
م: (وإن كان الذي أتاه بها عبدا أو أمة لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل) ش: وإن كان الذي أتى الرجل بالجارية عبدا أو أمة وقال: وهاهنا شك لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل عن ذلك لأنه عالم أنها لغيره واليد من حق الملك ليس بمطلق للتصرف م: (لأن المملوك لا ملك له) ش: فلا يصلح يده دليلا للملك لأن الرق منان للملك، م: (فيعلم أن الملك فيه لغيره) ش: أي فهو يعلم أن الملك في الذي أتاه به وهو الجارية لغيره لكونه مملوكا.
وكان الواجب أن يقول: فيعلم أن الملك فيها لغيره، ولكن تأويله ما ذكرناه.
م: (فإن أخبره أن مولاه أذن له وهو ثقة قبل) ش: قوله لأن الاسم الواحد مقبول في المعاملات، وهذا إخبار في غير موضع المنازعة فيقبل م: (وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي) ش: فإن كان أكبر رأيه أنه صادق صدقه. وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتعرض لشيء من ذلك م: (وإن لم يكن له رأي لم يشترها لقيام الحاجر فلا بد من دليل) ش: بالراء المهملة؛ لأن الرق حاجر عن التصرف أي مانع عنه، فما لم يوجد نوع دليل لا يعمل مجرد اليد.
وفي " الكافي " للحاكم: وكذا الصبي الذي لم يبلغ حرا كان أو مملوكا فيما يخبر أنه أذن

(12/204)


قال: ولو أن امرأة أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات عنها، أو طلقها ثلاثا، أو كان غير ثقة وأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق ولا تدري أنه كتابه أم لا، إلا أن أكبر رأيها أنه حق، يعني بعد التحري، فلا بأس بأن تعتد ثم تتزوج؛ لأن القاطع طارئ، ولا منازع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
له وسعه، وأن فلانا بعث إليه معه هدية أو صدقة، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق وسعه أن يصدقه، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع أن يقبل منه شيئا وذلك لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين.
وقال شمس الأئمة السرخسي في " شرح الكافي ": كان شيخنا الإمام يقول يعني شمس الأئمة الحلواني: الصبي إذا أتى بقالا بفلوس يشتري منه، وأخبره أن أمه أمرته بذلك فإن طلب الصابون ونحوه، فلا بأس ببيعه منه، وإن طلب الزبيب وما يأكله الصبيان عادة لا ينبغي أن يبيعه منه؛ لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقوله، وقد عثر على فلوس أمه، فأراد أن يشتري بها حاجة نفسه. وفي العيون ولو أن صبيا جاء إلى القاضي بفلوس أو بخبز وغير ذلك فإن طلب منه شيء ينتفع به في البيت مثل الملح والفلفل ونحو ذلك فلا بأس أن يبيع منه، ولو أراد أن يشتري منه جوازا أو فستقا مثل ما يشتري به الصبيان فالأفضل أن لا يبيع منه حتى يسأل هل أذن له أبوه في ذلك أم لا.

[أخبرها ثقة أو غيره أن زوجها الغائب مات عنها أو طلقها ثلاثا]
م: (قال: ولو أن امرأة أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات عنها، أو طلقها ثلاثا، أو كان غير ثقة وأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق ولا تدري أنه كتابه أم لا، إلا أن أكبر رأيها أنه حق يعني بعد التحري) ش: يعني بعد أن تحرت علمت أنه كتابه حق م: (فلا بأس بأن تعتد ثم تتزوج؛ لأن القاطع طارئ) ش: لأن القاطع للزوجية طارئ أي عارض، وهو الموت أو الطلاق والزوجية السابقة لا تنازعه؛ لأنها لا تدل على البقاء وهو معنى قوله م: (ولا منازع) ش: يعني ولا منازع موجود هنا.
وفي بعض النسخ فلا منازع بالفاء، فيكون شرط محذوف أي إذا كان كذلك القاطع طارئا فلا منازع حينئذ. وقيد بقوله طارئ لأن القاطع إذا كان مقارنا فلا بد من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين. والأصل أن الأصل إذا لم يكن له منازع ولا يلزم عن الغير مفسد سواء كان المخبر رجلا أو امرأة، عبدا كان أو أمة، عدلا أو فاسقا. أما في المنكوحة فالإلزام يكون ضمنا لا قصدا.
فإن قلت: إن خبر جعل الواحد في إفساد النكاح بعد الصحة من هذا الوجه، فوجه آخر فيه يوجب عدم القبول، وهو أن الملك للزوج ثابت، والملك الثابت للغير فيها لا يبطل بخبر الواحد.
قلت: إن ذلك كان ثابتا بدليل موجب وملكه فيها ليس كذلك بل باستصحاب الحال،

(12/205)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وخبر الواحد أقوى منه ثم هذا الذي ذكره في الأخبار، أما في الشهادة فلا يصح، وإن كان الشاهد اثنين حتى لا يقضي القاضي بالفرقة لأنه قضاء على الغائب ذكره في " الفصول " للأستروشني، وفي " التتمة ": إذا شهد اثنين أن فلانا طلق امرأته والزوج غائب لا يقبل، وإن شهد عند المرأة حل لها أن تعتد وتتزوج بآخر، وكذا إذا شهد عندها رجل عدل ووقع في قلبها أنه صادق.
وفي " شرح الكافي " رجل تزوج امرأة فلم يدخل بها حتى غاب عنها فأخبر مخبر أنها قد ارتدت عن الإسلام، فإن كان المخبر عدلا ثقة حل له أن يتزوج بأختها أو بأربع نسوة سواها لعدم المنازع في أمر يتصور وقوعه وإن غلب على ظنه أنه كاذب لا يعمل بخبره. وكذا إذا كانت صغيرة فأخبر أنها ارتضعت من أمه أو أخته؛ لأن هذا من باب الديانة فقبل في خبر الواحد، ولو قال تزوجتها يوم تزوجتها وهي مرتدة أو معتدة أو بعدما ارتضعت من أهلك لم يسعه أن يتزوج بأختها أو أربع سواها. وإن كان المخبر عدلا لأن هذا الخبر في موضع المنازعة لأن الظاهر من حال العاقل أنه يدعي صحة عقده وهذا يدعي فساده فلا يقبل إلا إذا شهد عنده شاهدان عدلان على ذلك.
ولو قالت المرأة لرجل: قد طلقني زوجي وانقضت عدتي يحل له أن يتزوجها إذا غلب على ظنه صدقها. وكذلك المطلقة ثلاثا إذا أخبرت أنها استحلت بزوج ثان وطلقها وانقضت عدتها حل للزوج أن يتزوجها لأنها أخبرت عن أمر لا منازع لها فيه. ولو أتاها رجل فأخبر أن أصل نكاحها فاسد، وإن زوجها كان أخاها من الرضاعة، أو مرتدا، لم يسعها أن تتزوج بزوج آخر، وإن غلب على ظنها؛ لأنه في موضع المنازعة إذ الزوج يدعي صحة العقد، فلا يكون مقبولا.
وكذلك جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يدي رجل يدعي أنها له فلما كبرت، لقيها رجل فقالت: إن سيدي أعتقني، حل له أن يزوجها. ولو قالت: أنا حرة الأصل لم تحل له أن يتزوجها لأن الخبر الأول في غير موضع المنازعة، والثاني في موضع المنازعة.
وكذلك الحرة نفسها لو تزوجت رجلا ثم أتت غيره فأخبرته أن نكاحها كان فاسدا لم يحل له أن يتزوجها، ولو ادعت أنه طلقها، حل لمن سمع مقالتها أن يتزوجها لهذا المعنى.
وكذلك لو قالت ارتد عن الإسلام بعد ما تزوجني أو أقر بعد النكاح أنه كان مرتدا حين تزوجني؛ لأنها ادعت أمرا عارضا في غير محل التنازع فيقبل.
وقد أشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى هذه المسائل على ما يأتيك مفصلة، وهذه المسائل من

(12/206)


وكذا لو قالت الرجل: طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس بأن يتزوجها. وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث: انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي، فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول. وكذا لو قالت جارية: كنت أمة لفلان فأعتقني لأن القاطع طارئ، ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا، أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان، وكذا إذا أخبره مخبر: أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة لم يتزوج بأختها أو أربع سواها، حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن، والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده، فثبت المنازع بالظاهر، بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه؛ لأن القاطع طارئ والإقدام الأول لا يدل على انعدامه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: ولو أن امرأة أخبرها ثقة إلى قوله وإذا باع المسلم خمرا، من مسائل كتاب " الاستحسان "، ذكرها تفريعا على مسائل " الجامع الصغير ". وكذا لو قالت لرجل: طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس بأن يتزوجها. وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث: انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي، فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول. وكذا لو قالت جارية: كنت أمة لفلان فأعتقني لأن القاطع طارئ، ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا، أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان، وكذا إذا أخبره مخبر: أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة لم يتزوج بأختها أو أربع سواها، حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن، والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده، فثبت المنازع بالظاهر، بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه؛ لأن القاطع طارئ والإقدام الأول لا يدل على انعدامه.
قوله: ولو أن امرأة أخبرها ثقة إلى قوله وإذا باع المسلم خمرا، من مسائل كتاب "الاستحسان"، ذكرها تفريعا على مسائل " الجامع الصغير ".
م: (وكذا لو قالت لرجل: طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس أن يتزوجها) ش: المخبر إذا غلب على ظنه صدقها.

[قالت انقضت عدتي وتزوجت بآخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي]
م: (وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث: انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي، ثم طلقني وانقضت عدتي، فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول) ش: لأنها أخبرت عن أمر لا منازع فيه. م: (وكذا لو قالت جارية: كنت أمة لفلان فأعتقني) ش: يحل للمخبر له أن يتزوجها م: (لأن القاطع طارئ) ش: أي القاطع للرقبة، عارض وهو العتق ولا منازع.
م: (ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا، أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان) ش: لأن هذا خبر في موضع المنازعة.
م: (وكذا إذا أخبره مخبر: أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة، لم يتزوج بأختها أو أربع سواها حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن) ش: للعقد. م: (والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده) ش: أي العقد. م: (فثبت المنازع بالظاهر) ش: فلا يقبل قوله. م: (بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه) ش: أي في الإخبار بالارتضاع م: (لأن القاطع طارئ) ش: أي القاطع للزوجة عارض وهو الرضاع. م: (والإقدام الأول) ش: وهو ما تقدم من صحة عقد النكاح بدليل موجب له وهو العقد الذي م: (لا يدل على انعدامه) ش: أي على انعدام الارتضاع دل عليه قوله ارتضعت م:

(12/207)


فلم يثبت المنازع. فافترقا، وعلى هذا الحرف يدور الفرق،
ولو كانت جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعي أنها له، فلما كبرت لقيها رجل في بلد آخر، فقالت: أنا حرة الأصل، لم يسعه أن يتزوجها لتحقق المنازع وهو ذو اليد، بخلاف ما تقدم.
قال: وإذا باع المسلم خمرا وأخذ ثمنها وعليه دين فإنه يكره لصاحب الدين أن يأخذ منه، وإن كان البائع نصرانيا فلا بأس به، والفرق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فلم يثبت المنازع) ش: فلم يقبل قوله.
فإن قلت: ينبغي أن لا يقبل لما أن الملك الثابت فيها للغير لا يبطل بخبر الواحد، كما لو اشترى لحما، ثم أخبر واحدا أنه ذبيحة مجوسي حيث لا يبطل بهذا الخبر ملك المشتري ولا يرجع بالثمن على البائع؛ لأن ملك الغير لا يبطل بخبر الواحد.
قلت: قد أجيب لك في السؤال الماضي: أن ملك الغير في الحال ليس بدليل موجب بل باستصحاب الحال، وخبر الواحد أقوى منه. أما الخبر بكون ذبيحة المجوسي بخبر بالمقصد الطارئ، بل هو خبر بفساد البيع من الأول والإقدام على الشراء منازعة منه بصحة البيع فلا يقبل خبر الواحد بدون شهادة شاهدين.
م: (فافترقا) ش: أي حكم هذه المسألة. وحكم الشيء قبلها لوجود المنازعة في الأولى دون هذه فافهم. م: (وعلى هذا الحرف يدور الفرق) ش: أي على هذه الثلاثة يدور الفرق بين هذه المسائل التي فيها قبول قول الواحد، والتي ليس فيها ذلك، يعني إذا كان الإخبار في غير موضع المنازعة، ويقبل قول الواحد، وإذا كان في المنازعة لا يقبل.

م (ولو كانت جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعي أنها له، فلما كبرت) ش: بكسر الباء، يقال كبر بالكسر في السن، وكبر بالضم في الجثة والشرف. م: (لقيها رجل في بلد آخر، فقالت: أنا حرة الأصل، لم يسعه أن يتزوجها لتحقق المنازع وهو ذو اليد، بخلاف ما تقدم) ش: أراد به قوله أنها لو قالت: كنت أمة لفلان فأعتقني، حيث يقبل قولها؛ لأن الخبر الأول في غير موضع المنازعة.
وفي " النوازل " اشترى أمة فقالت: أنا حرة لا يرد بها على البائع، ولكن يتزوجها وحل له وطئها؛ لأنها أمة أو امرأة. وكان شداد إذا اشترى أمة يتزوجها ويقول: لا أدري لعلها حرة أو لعل جرى كلام الحرية على لسان أنسبائها هذا بطريق الاحتياط، ولكن لا يعتق بذلك.

م: (قال: وإذا باع المسلم خمرا وأخذ ثمنها وعليه دين فإنه يكره لصاحب الدين أن يأخذ منه، وإن كان البائع نصرانيا فلا بأس به) ش: أي قال في " الجامع الصغير " م: (والفرق) ش: بين

(12/208)


أن البيع في الوجه الأول قد بطل؛ لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم فبقي الثمن على ملك المشتري فلا يحل أخذه من البائع. وفي الوجه الثاني: صح البيع؛ لأنه مال متقوم في حق الذمي، فملكه البائع فيحل الأخذ منه.
قال: ويكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوجهين م: (أن البيع في الوجه الأول قد بطل؛ لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم فبقي الثمن على ملك المشتري فلا يحل أخذه من البائع) ش: يعني أن العقد على الخمر غير منعقد في حق المسلمين فيكون الثمن المقبوض مستحق الرد على البائع شرعا، فصار كالمغصوب في يده، ومن قضى بالدراهم المغصوبة لا يحل للقابض أن يقبضه إذا علم به فهذا مثله.
م: (وفي الوجه الثاني: صح البيع؛ لأنه مال متقوم في حق الذمي، فملكه البائع فيحل الأخذ منه) ش: لأن الخمر لهم كالعصير لنا لأنه رخص لهم في البيع.
قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: ولو هم ببيعها وأخذوا العشر من أثمانها.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كان القضاء والاقتضاء بالتراضي، فأما إن كان بالقضاء بأن قضى القاضي عليه بهذا الثمن، ولم يعلم القاضي بكونه ثمن الخمر يطيب له ذلك بقضائه، وإنما حرم عند الاقتضاء بالتراضي.
وفي " فتاوى الولوالجي ": رجل مات وكسبه من بيع البازق إن تورع الورثة عن أخذ ذلك كان أولى، ويردون على أربابها؛ لأنها ممكن فيه نوع حيث وإن لم يعرفوا أربابها تصدقوا بها، وكذلك الجواب فيما أخذ رشوة وظلما إن تورع الورثة كان أولى. وأما المغني والنائحة والقول والأمل فيه أيسر؛ لأن فيه أعطى بالرضا من غير شرط وعقد، وأما الإهدار والضيافة فينظر إن كان غالبا المهدي والضيف لا يقبله ما لم يجز أن ذلك المال حلال، وإن كان غالب ماله حلالا فلا بأس بأن يقبل حتى يتبين عنده أنه حرام.
رجل مات وابنه يعتمد أنه كان يكتسب من حيث لا يحل لكن لا يعلم ذلك بعينه ليرد عليه، فالميراث له حلال في الحكم لوجود المطلق وانعدام المانع بعينه فيتصرف فيه حيث شاء ولا يؤمر بالتصدق، فإن تورع وتصدق كان أولى لكن يصدق بينه خصى أبيه.
رجل جمع المال وهو مطرب مغن، هل يباح له ذلك إن كان أخذ المال من غير شرط يباح له لأنه أعطى المال عن طوع، كذا في " فتاوى الولوالجي ".
وفي " الدراية " ولو قضى دينه بدراهم أو دنانير مغصوبة لا يحل للقابض قبضه إذا علم.

[الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم]
م: (قال: ويكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله)

(12/209)


وكذلك التلقي. فأما إذا كان لا يضر فلا بأس به، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون".»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والاحتكار الجمع والحبس، يقال: احتكر الطعام وغيره إذا جمعه يتربص به الغلاء، كذا في " ديوان الأدب ". وفي " المجمل ": الحكر حبس الطعام إرادة غلائية وهو الحكر، والحكر أيضا.
وفي " الكافي ": الاحتكار حبس الطعام للغلاء، افتعال من حكر، إذا ظلم. وقيل حبس وحكر الشيء إذا استبد به وحبسه عن غيره.
وفي اصطلاح أهل الشرع: حبس أقوات الناس والبهائم عن البيع يتربص الغلاء شهرا فما زاد فيهما اشتراه في المصروفية إضرارا بالناس.
م: (وكذلك التلقي) ش: أي وكذا يكره التلقي: الجلب، إذا كان في بلد يضر أهله، وإلا فلا، والمراد منه أن يخرج من البلدة إلى القافلة التي جلبت الطعام، فاشتراها خارج البلد، يكره وإلا فلا، إذا كان لا يضر فلا بأس به.
م: (فأما إذا كان لا يضر فلا بأس به) ش: وكذا التلقي كما ذكرنا م: (والأصل فيه) ش: أي في كون الاحتكار مكروها، وفي التلقي أيضا، والأحسن أن يقال: والأصل في كون كل واحد من الاحتكار والتلقي مكروها إذا كانا يضران بالبلد.
فإن قلت: كيف يقول الأحسن هذا؟ والحديث لا يدل على كراهته الاحتكار وحديث التلقي باي.
قلت: علة كراهة الاحتكار، التضييق على الناس وهي موجودة في التلقي، فصح أن يكون حديث الاحتكار أصلا في البابين، وحديث التلقي الذي يأتي فيما بعد يكون زيادة بيان وتوضيح لأنه صريح في بابه فافهم.
م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في التجارات، عن علي بن سالم بن ثوبان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد ابن المسيب عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» .
رواه إسحاق بن راهويه والدارمي، وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي في "مسانيدهم"

(12/210)


ولأنه تعلق به حق العامة، وفي الامتناع عن البيع إبطال حقهم وتضييق الأمر عليهم فيكره إذا كان يضر بهم ذلك بأن كانت البلدة صغيرة، بخلاف ما إذا لم يضر بأن كان المصر كبيرا؛ لأنه حابس ملكه من غير إضرار بغيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والبيهقي في " شعب الإيمان ".
ورواه العقيلي في كتاب " الضعفاء "، وأعله بعلي بن سالم وقال: لا يتابعه عليه أحد بهذا اللفظ. وقد روي بغير هذا السند، والمتن عن معمر بن عبد الله العدوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا يحتكر إلا خاطئ» . وحديث معمر هذا أخرجه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "صحيحه " باللفظ المذكور في كتاب "البيوع".
روى حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الحاكم في "المستدرك في البيوع" ولم يذكر فيه الجالب. ورواه إبراهيم الحربي في كتاب " غريب الحديث " عن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حدثنا أبو خيثمة حدثنا يحيى بن أبي بكير عن إسرائيل، عن علي بن سالم، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عثمان بن عفان مثله سواء.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " تنبيه الغافلين ": وروي عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» .
قال الفقيه أبو الليث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "وأراد بالجالب الذي يشتري الطعام للبيع فيجلبه إلى بلده، فيبيعه فهو مرزوق لأن الناس ينتفعون به فيناله بركة دعاء المسلمين، والمحتكر يشتري الطعام للمنع ويضر بالناس لأن في ذلك تعنيفا على المسلمين.
فإن قلت: ما معنى اللعن هنا؟
قلت: اللعن هنا على نوعين، أحدهما: الطرد عن رحمة الله سبحانه وتعالى، وذلك لا يكون إلا للكافر، والثاني: الإبعاد عن درجة الأبرار، ومقام الصالحين، وهو المراد هنا؛ لأن عند أهل السنة والجماعة: المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب الكبيرة.
م: (ولأنه تعلق به حق العامة) ش: أي ولأن الشيء الذي احتكره المحتكر تعلق به حق الناس جميعهم.
م: (وفي الامتناع عن البيع إبطال حقهم وتضييق الأمر عليهم فيكره إذا كان يضر بهم ذلك) ش: أي الاحتكار أو الحبس م: (بأن كانت البلدة صغيرة، بخلاف ما إذا لم يضر بأن كان المصر كبيرا؛ لأنه حابس ملكه من غير إضرار بغيره) ش: لأن العلة هي الإضرار، فإذا انتهى الإضرار ينبغي

(12/211)


وكذا التلقي على هذا التفصيل؛ لأن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن تلقي الجلب، وعن تلقي الركبان» ، قالوا: هذا إذا لم يلبس المتلقي على التجار سعر البلدة، فإن لبس فهو مكروه في الوجهين؛ لأنه غادر بهم، وتخصيص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكراهة.

[تلقي الركبان]
م: (وكذا التلقي على هذا التفصيل) ش: يعني أن أضر بأهل البلدة يكره، وإلا فلا م: (لأن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن تلقي الجلب» ، «وعن تلقي الركبان» ش: هذان حديثان، فالأول أخرجه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تلقي الجلب» . وفي لفظ: «لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشتراه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» . الثاني أخرجه البخاري ومسلم عن طاوس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لبادي» ، انتهى.
والجلب، بفتح الجيم بمعنى المجلوب، ومن جلب الشيء جلبه من بلد إلى بلد التجارة جلبا وجلبا والركبان الجماعة من أصحاب الإبل في السفر، وكذلك الركبان أصحاب الإبل دون الدواب، وهم العشرة فما فوقها والجمع أراكب، والركبة أقل من الركب والأركوب أكثر من الركب.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فلو كانت الرواية على طريق الجمع يكون ذكر الأول على سبيل العموم، وذكر الثاني على الخصوص كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ولو لم يكن كذلك يكون حديثين، ويكون التقدير نهى عن تلقي الركبان قيل في معنى تلقي الركبان، يستقبل الركب فيشتري الطعام منهم بما دون السعر في المصر، وهم لا يشعرون بذلك ثم يبيع بما هو سعر المصر فيكون للضرر بالناس انتهى كلامه.
قلت: قد بينا أن هذين حديثان لا اختلاط لأحدهما بالآخر، الأول رواه أبو هريرة والثاني ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما بينا، فلا يحتاج إلى التكلف الذي ذكره. م: (قالوا: هذا إذا لم يلبس المتلقي على التجار سعر البلدة، فإن لبس فهو مكروه في الوجهين) ش: أي قال المشائخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هذا الذي ذكرناه من الكراهة فيما إذا أضر بأهل البلدة، وعدم الكراهة فيما إذا لم يضر بهم، فيما إذا اشترى المتلقي بلا تلبيس السعر على التجار، وأما إذا لبس عليهم فإنه يكره سواء أضر بأهل البلدة أو لم يضر، وهو معنى قوله في الوجهين أي في صورة الإضرار وعدم الإضرار.
م: (لأنه غادر بهم) ش: أي لأن المتلقي حينئذ غادر بهم بالتجارة والغدر حرام م: (وتخصيص

(12/212)


الاحتكار بالأقوات كالحنطة والشعير والتبن والقت قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا احتكار في الثياب، فأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر حقيقة الضرر، إذ هو المؤثر في الكراهة، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر الضرر المعهود المتعارف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاحتكار بالأقوات) ش: أي تخصيص القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالاحتكار بالأقوات وهو جمع قوت.
م: (كالحنطة والشعير والتبن والقت) ش: بفتح القاف وتشديد التاء.
قال في " العباب ": هو الفصفصة إذا جفت وهو جمع قتة كتمر وتمرة.
ثم قال في باب الفصفصة الرطبة وأصلها بالفارسية أمست.
قلت: المراد منه الفرط اليابس وهو الذي يسميه أهل مصر الدريس، ويسمون الرطب الفرط والبرسيم.
م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: خبر لقوله و"تخصيص الاحتكار" م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا احتكار في الثياب) ش: قال الكرخي في "مختصره ": وقال ابن سماعة، عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الاحتكار في كل ما يضر بالعامة احتكاره.
قال: والاحتكار أن يحبسه عنده أكثر من سنة فإن حبسه عنده شهرا أو نحو ذلك فإثمه على قدر ما يحبسه. وقال هشام: الحكرة في الحنطة والشعير والتمر الذي هو قوت الناس والقت الذي هو قوت البهائم، وليس في الثياب حكرة، ولا في العسل، ولا في الثمن، ولا في الزيت حكرة.
وقال أبو يوسف: في الزيت حكرة م: (فأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر حقيقة الضرر إذ هو المؤثر في الكراهة) ش: أي وحقيقة الضرر موجودة في كل شيء ولعموم النهي أيضا.
م: (وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر الضرر المعهود المتعارف) ش: غالبا بين الناس، وذكر في " الكافي " محمد مع أبي حنيفة -رحمهما الله- قال: وعليه الفتوى. والحاصل أنهما اعتبرا الأمر الغالب العام، وذلك لا يكون إلا فيما هو ضرر مطلق.
وقال القدوري: في " شرح الكرخي ": وأما قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن حبس الأرز ليس باحتكار فهو محمول على البلاد التي لا يتقوتون به، وأما الموضع الذي هو قوتهم مثل

(12/213)


ثم المدة إذا قصرت لا يكون احتكارا لعدم الضرر، وإذا طالت يكون احتكارا مكروها لتحقق الضرر، ثم قيل: هي مقدرة بأربعين يوما لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طبرستان فهو احتكار، وأما الثياب فلأن قوام الأبدان وبقاء الحياة لا يقف عليها. وقوت الحياة ما كان قيامه به من المأكول.
م: (ثم المدة إذا قصرت لا يكون احتكارا لعدم الضرر، وإذا طالت يكون احتكارا مكروها لتحقق الضرر، ثم قيل: هي مقدرة بأربعين يوما لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه» .
ش: هذا الحديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى الموصلي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في "مسانيدهم"، والحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المستدرك "، والدارقطني في " غرائب مالك "، والطبراني في "معجمه الأوسط "، وأبو نعيم في " الحلية " كلهم من حديث أصبغ بن زيد حدثنا أبو بشر عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة الحضرمي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله» .
وكلهم رووه عن يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد إلا الحاكم فإنه أخرجه عن عمرو بن الحصين، عن أصبغ بن زيد، به ... وأصبغ بن زيد مختلف فيه فوثقه أحمد والنسائي وابن معين، وضعفه ابن سعد وذكره ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكامل " وساق له ثلاثة أحاديث منها هذا الحديث، وقال: ليس بمحفوظ.
قال: ولا أعلم روى عنه يزيد بن هارون وقال الذهبي في "الميزان ": قلت: روى عنه عشرة أنفس، وقال في " مختصر المستدرك ": عمرو بن الحصين تركوه، وأصبغ بن يزيد فيه لين.
وقال ابن حاتم في كتاب " العلل ": سألت أبي عن حديث رواه يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد به سندا أو متنا؟ فقال أبي: هذا حديث منكر وأبو بشر لا أعرفه.

(12/214)


وقيل: بالشهر؛ لأن ما دونه قليل عاجل والشهر وما فوقه كثير آجل، وقد مر في غير موضع.

ويقع التفاوت في المأثم بين أن يتربص العسرة، وبين أن يتربص القحط والعياذ بالله. وقيل: المدة للمعاقبة في الدنيا، أما يأثم وإن قلت المدة. والحاصل أن التجارة في الطعام غير محمودة.
قال: ومن احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر، أما الأول فلأنه خالص حقه لم يتعلق به حق العامة. ألا ترى أن له أن لا يزرع، فكذلك له أن لا يبيع. وأما الثاني: فالمذكور قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع في المصر وجلب إلى فنائها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل: بالشهر) ش: أي قيل هي مقدرة بالشهر. م: (لأن ما دونه قليل عاجل والشهر وما فوقه كثير آجل) ش: لهذا سقط الصوم بالجنون شهرا بخلاف ما دونه، وكذا إذا جن الوكيل والموكل جنونا مطبقا بطلت الوكالة، وحده شهرا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو قال: لا قصير دينه عن قريب، فهو ما دون الشهر لأن الأشهر، وما زاد عليه بعيد، ولهذا كان الشهر أدنى الأجل في الحكم وما دونه في حكم الحال.
م: (وقد مر في غير موضع) ش: أي قد مر بيان أن الشهر كثير وما دونه قليل في غير موضع من الكتاب في الصلاة، والسلم والوكالة واليمين وغيرها.

م: (ويقع التفاوت في المأثم) ش: أي الإثم وهو مصدر أثم م: (بين أن يتربص العسرة) ش: أي بين أن يترقب ثمرة الطعام م: (وبين أن يتربص القحط والعياذ بالله) ش: أراد أن إثم من يتربص القحط أعظم من إثم من يتربص عسرة الطعام وهي الغلاء.
م: (وقيل: المدة للمعاقبة في الدنيا) ش: يعني ضرب المدة في الاحتكار لأجل المعاقبة في الدنيا يعني يقدر الإمام المحتكر ويهدده م: (أما يأثم وإن قلت المدة) ش: تقديره أما الإثم فإنه يأثم.
وإن قلت: المدة وهذا تركيب تأباه قواعد العربية إلا بالتأويل.
م: (والحاصل أن التجارة في الطعام غير محمودة) ش: يعني بطريق الاحتكار، أما الاسترباح فيه بلا احتكار فلا بأس به كذا في الفوائد الشاهية.

[احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر]
م: (قال: ومن احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أما الأول) ش: وهو ما إذا احتكر غلة ضيعته م: (فلأنه خالص حقه لم يتعلق به حق العامة. ألا ترى أن له أن لا يزرع فكذا له أن يبيع) ش: فإذا كان كذلك لا يكون مبطلا حق العامة. م: (وأما الثاني) ش: وهو ما جلبه من بلد آخر م: (فالمذكور قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع في المصر وجلبه إلى فنائها) ش: بكسر الفاء، وفي غير ذلك لا يتعلق حقهم.

(12/215)


وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره لإطلاق ما روينا. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما يجلب منه إلى المصر في الغالب، فهو بمنزلة فناء المصر يحرم الاحتكار فيه لتعلق العامة به بخلاف ما إذا كان البلد بعيدا لم تجر العادة بالحمل منه إلى المصر؛ لأنه لم يتعلق به حق العامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره لإطلاق ما روينا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والمحتكر ملعون» .
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما يجلب منه إلى المصر في الغالب، فهو بمنزلة فناء المصر، يحرم الاحتكار فيه لتعلق حق العامة به بخلاف ما إذا كن البلد بعيدا لم تجر العادة بالحمل منه إلى المصر؛ لأنه لم يتعلق به حق العامة) . ش: وذكر الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح "الجامع الصغير ": أن هذا على ثلاثة أوجه: في وجه: لا بأس به، وفي وجه: مكروه، وفي وجه: اختلفوا فيه. فأما الذي هو مكروه: هو: أن يشتري طعاما في مصر ويمتنع عن مبيعه، وفي ذلك ضرر بالناس فإنه مكروه. وروي عن محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: أجبره على البيع فإن امتنع عن ذلك أغره ولا أشعره ويقول: بعه كما يبيعه الناس. وأما الذي لا بأس به: فهو: ما إذا كان له طعام دخل من ضيعته أو حمله من مصر آخر، أو اشترى من مصر، ولا يضر ذلك بالناس.
يعلم من هذا أن ما ذكره صاحب " الهداية " بقوله: والمذكور قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره، يعني فيما جلبه من بلد آخر فيه نظر؛ لأن الفقيه أورده في القسم المتفق عليه.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا في كتاب " التقريب ": روى هشام عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن جلب طعاما ثم احتكره لم يكره وكره وإنما الحكرة أن يشتري في المصر وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن جلبه من نصف ميل فليس بحكرة، فإذا لم يكن في هذه حكرة؟ فيكف يكون فيما إذا جلبه من مصر آخر؟ نص عليه الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره ".
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا جلبه من نصف ميل فليس بحكرة. وأما الوجه الذي اختلفوا فيه فهو: أنه إذا اشتراه من الرساتيق وحبسه في المصر، قال الفقيه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه: قال لا بأس به.
وفي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو محتكر، لأن أهل المصر يتوسعون بالرساتيق فصار حكمها حكم المصر.

(12/216)


قال: ولا ينبغي للسلطان أن يعسر على الناس، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تسعروا فإن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وبه نأخذ.

[تسعير الوالي]
م: (قال: ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب التسعير على الوالي
دفعا للضرر
عن العامة، هكذا نقل خلافه الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التسعير لا يحل بلا خلاف للعلماء فيه إلا في صورة تعدي أرباب الطعام فإنه لا يكره عندنا، والصواب ما ذكره الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لقوله عليه الصلاة السلام: «لا تسعروا، فإن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق» ش: هذا الحديث رواه أربعة من الصحابة: الأول، أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو داود والترمذي في البيوع، وابن ماجه في التجارات، عن حماد بن سلمة، عن قتادة وثابت وحميد، ثلاثتهم عن أنس «قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله هو المسعر، القابض، الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه الدارمي، والبزار، وأبو يعلى الموصلي في "مسانيدهم"، ورواه ابن حبان في "صحيحه "، ولم يذكر فيه: "السعر" هكذا وجدته في نسختين.
الثاني: أبو جحيفة، أخرج حديثه الطبراني في "معجمه "، حدثنا عبد الله بن محمد بن عزيز الموصلي، حدثنا غسان بن الربيع، حدثنا أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي جحيفة قال: «قالوا يا رسول الله سعر لنا، فقال: "المعسر هو الله، وإني لأرجو أن ألقى الله ولس أحد منكم يطالبني بعرض ولا مال» . الثالث: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أخرج حديثه الطبراني في "معجمه الصغير "، حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الوارث، حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي، حدثنا عيسى بن يونس عن الأعمش، عن أبي سالم بن أبي الجعد، عن أبي كريب، عن ابن عياش بلفظ حديث أبي جحيفة.

(12/217)


ولأن الثمن حق العاقد فإليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة على ما نبين. وإذا رفع إلى القاضي هذا الأمر يأمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة في ذلك، وينهاه عن الاحتكار فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى زجرا له، ودفعا للضرر عن الناس،
فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة، فإذا فعل ذلك وتعدى رجل عن ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في "معجمه الأوسط "، حدثنا محمد بن محمد التمار، حدثنا أبو معن الرقاشي، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: «غلا السعر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله سعر لنا. فقال: "إن الله هو المسعر، إني لأرجو الله أن ألقاه وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دين ولا دنيا» .
م: (ولأن الثمن حق العاقد فإليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة) ش: بأن يتعدى المعتاد تعديا فاحشا يبيع ما يساوي خمسين بمائة
فحينئذ يمنع منه دفعا للضرر عن المسلمين
، وأما المتعارف فليس به بأس م: (على ما نبين) ش: يعني عن قريب بعد سطرين م: (وإذا رفع إلى القاضي هذا الأمر) ش: يعني الأمر الذي وقع بين الناس من الاحتكار م: (يأمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة في ذلك) ش: يعني في قوله: وقوت أهله. م: (وينهاه عن الاحتكار، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى زجرا له،
ودفعا للضرر
عن الناس) ش: وذلك حتى يمتنع عن سوء عمله لأنه ارتكب أمرا محرما. وقوله: زجرا ودفعا كلاهما منصوبان على التعليل، وإنما ذكر العاطف، لأن زجرا تعليل للتغرير ودفعا تعليل الزجر وليس فيه حد مقدر فيعذر بحسب ما يراه الحاكم.

[عجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير]
م: (فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا) ش: بأن يبيعوا قفيزا بمائة مشتراه خمسون. م: (وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به) ش: أي بالتسعير م: (بمشورة من أهل الرأي والبصيرة) ش: أي البصيرة والمشورة بفتح الميم وبضم الشين وهو استخراج ما في البطن بالرأي، ومحل الياء فيها النصب على الحال من الضمير المجرور في به.
م: (فإذا فعل ذلك) ش: أي القاضي م: (وتعدى رجل عن ذلك) ش: أي عن التسعير الذي

(12/218)


وباع بأكثر منه أجازه القاضي، وهذا ظاهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر، وكذا عندهما إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم. ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره على البيع،
وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ قيل: هو على الاختلاف الذي عرف في بيع مال المديون وقيل: يبيع بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى الحجر لدفع ضرر عام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سعره م: (وباع بأكثر منه) ش: أي من الذي سعره م: (أجازه القاضي) ش: يعني لا ينقضه م: (وهذا ظاهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الذي ذكرناه من إجازة القاضي ببيعه، ظاهر عند أبي حنيفة م: (لأنه لا يرى الحجر على الحر) ش: وفي إبطال بيعه رأي حجر عليه م: (وكذا عندهما) ش: أي وكذا هو ظاهر عندهما، لأنهما وإن رأيا الحجر، ولكن على حر معين أو قوم بأعيانهم، أما على قوم مجهولين فلا، وهاهنا كذلك فلا يصح، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وفي " المحيط ": سعر السلطان، وقال: لا تنقصوا فاشترى أحد شيئا والخيار يخاف إن نقص ذلك يضربه السلطان لا يحل أكله وحيله يعني أن يقول المشتري بعني بما تجب.
م: (إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم) ش: وهذا استثناء من محذوف تقديره، وكذا عندهما لا يكون الحجر إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم، وقد ذكرنا أن الحجر على قوم مجهولين لا يصح.
م: (ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره على البيع) ش: وقال الكرخي: قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أجبر المحتكر على بيع ما احتكره وأعزره ولا أسعر عليه. وقوله: بع له كما يبيع الناس وبزيادة فيما يتغابن الناس بينهم، ولا أتركه يبيع القفيز بمائة وهو يباع بأربعين.
وقال القدوري في "شرحه ": وينبغي أن يكون قوله أجبره على قولهما على أصلهما في جواز الحجر على الحر. وأما على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب أن لا يجبر على البيع، لأن الحجر على الحر لا يجوز.

[هل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه]
م: (وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ قيل: هو على الاختلاف الذي عرف في بيع مال المديون) ش: أشار به إلى اختلاف المشائخ فيه قال بعضهم: لا يبيع على مذهب أبي حنيفة ويبيع على قولهما في بيع مال المديون المفلس إذا امتنع عن البيع.
م: (وقيل: يبيع بالاتفاق) ش: وإليه ذهب القدوري في "شرحه " م: (لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى الحجر
لدفع ضرر عام
) ش: كالحجر على الطيب الجاهل والمكاري المفلس والمفتي الماجن

(12/219)


وهذا كذلك.
قال: ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة، معناه: ممن يعرف أنه من أهل الفتنة؛ لأنه تسبيب إلى المعصية، وقد بيناه في " السير "، وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك؛ لأنه يحتمل أن لا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك.
قال: ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا؛ لأن المعصية لا تقام بعينه، بل بعد تغييره بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة؛ لأن المعصية تقوم بعينه.
قال: ومن أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار أو كنيسة أو بيعة أو يباع فيه الخمر بالسواد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن ضررهم يرجع إلى العامة.
م: (وهذا كذلك) ش: أي وهذا الحكم وهو بيع القاضي طعام المحتكر بغير رضاه كالحجر
لدفع ضرر
عام لأن ضرره يرجع على العامة.

[بيع السلاح في أيام الفتنة]
م: (قال: ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة) ش: أي قال القدوري: م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري يكره بيع السلاح في أيام الفتنة م: (ممن يعرف أنه من أهل الفتنة؛ لأنه تسبب إلى المعصية) ش: وهو الإعانة على العدوان وقد نهينا عنه، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
م: (وقد بيناه في " السير ") ش: أي في آخر كتاب " السير " م: (وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك، لأنه يحتمل أن لا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك) ش: لأن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والاستقامة، فصار كبيع الحرير والديباج إلى الرجل، وإن جاز أن يلبسه لاحتمال أن يرفعه إلى امرأته وأولاده الإناث.

[ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا]
م: (قال: ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن المعصية لا تقام بعينه) ش: أي بعين العصير م: (بل بعد تغييره) ش: واستحالته إلى الخمر م: (بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة؛ لأن المعصية تقوم بعينه) ش: أي بعين السلاح.
وفي " فتاوى الولوالجي ": رجل له عبد أمرد أراد أن يبيعه من فاسق يعلم أنه يعصي الله فيه، يكره هذا البيع لأنه إعانة على المعصية.

[أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار) ش: للمجوس م: (أو كنيسة) ش: للنصارى م: (أو بيعة) ش: لليهود م: (أو يباع فيه الخمر) ش: لأهل الذمة أو الفسقة من المسلمين م: (بالسواد) ش: يتعلق بالجميع تقديره: من أجر بيتا في السواد ليتخذ فيه بيت نار وكذلك البواقي، وإنما قيد بالسواد لأن أهل الذمة يمنعون عن إحداث البيع، والكنائس وبيع الخمر في الأمصار ولا يمنعون عن ذلك في السواد لأن عامة شعائر الإسلام من الجمع والجماعات والأعياد وإقامة الحدود وغير ذلك يختص بالأمصار، ففي هذه الأشياء

(12/220)


فلا بأس به، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال: لا ينبغي أن يكريه لشيء من ذلك، لأنه إعانة على المعصية. وله: أن الإجارة ترد على منفعة البيت، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر وهو مختار فيه فقطع نسبته عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استحقاق بالمسلمين بخلاف السواد.
وقالوا أيضا في سواد الكوفة، لأن الغالب فيها أهل الذمة والروافض، أما في سوادنا فيمتنعون عن إحداث ذلك، لأن الغلبة في سوادنا لأهل الإسلام فيمنعون عن ذلك في السواد والأمصار جميعا.
م: (فلا بأس به) ش: أي بما ذكر من الأشياء م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا الذي ذكرناه من الجواز عند أبي حنيفة.
م: (وقالا: لا ينبغي أن يكريه لشيء من ذلك) ش: أي يؤجره، يقال: أكراني داره أو دابته، أي أجرنيها، والمعنى: أنه لا يجوز أن يكري بيته بشيء من الذي ذكرناه، وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنه إعانة على المعصية) ش: والمعين على المعصية عاص.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن الإجارة ترد على منفعة البيت ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه) ش: أي في إجارة البيت م: (وإنما المعصية بفعل المستأجر وهو مختار فيه) ش: أي المستأجر مختار في فعل المعصية يعني أن ذلك باختياره، م: (فقطع نسبته عنه) ش: أي قطع نسبة المعصية عن العقد. وفي بعض النسخ: فيقطع نسبه عنه، وهذا كما إذا أخذ من هرب ممن قصده بالقتل حتى قتله لا شيء على الآخر لتخلل فعل فاعل مختار، وكذلك هذا الإثم على الآخر بهذا المعنى.
وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في باب الإجارة الفاسدة من " الأصل ": وهو كمن باع جارية ممن لا يستبرئها أو يأتيها من غير المأتى لم يأثم من فعل المشتري. وكذا قوله: فيمن باع غلاما قصد الفاحشة.
فإن قلت: ألا ترى أن قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] الآية، حرم المسبب وإن تخلل فعل فاعل مختار.
وقلت: الكلام في المسبب المحض، أما إذا كان سببا بعمل العلة فلا وسب الكافر والضم كذلك، لأنه يبعث لهم ذلك على الفعل القبيح، بخلاف إجارة البيت، لأنه لا يحمل المستأجر على اتخاذه بيت نار، ولهذا لو أجر داره ليضع فيها متاعا، أو ليكن تحت الأجرة، لأنه لم يتعلق الإجارة بما قال، بخلاف بيع السلاح من أهل الفتنة، لأن البائع يعمل العلة، لأنهم لا يتمكنون من إنارة الفتنة إلا بالسلاح ليكون البيع منهم بمنزلة علة العلة.

(12/221)


وإنما قيده بالسواد؛ لأنهم لا يمكنون من اتخاذ البيع والكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير في الأمصار، لظهور شعائر الإسلام فيها بخلاف السواد، قالوا: هذا كان في سواد الكوفة؛ لأن غالب أهلها أهل الذمة، فأما في سوادنا فأعلام الإسلام فيها ظاهرة، فلا يمكنون فيها أيضا وهو الأصح.
قال: ومن حمل لذمي خمرا، فإنه يطيب له الأجر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-: يكره له ذلك، لأنه إعانة على المعصية، وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لعن في الخمر عشرا: حاملها، والمحمول إليه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإنما قيده بالسواد؛ لأنهم لا يمكنون من اتخاذ البيع والكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير في الأمصار، لظهور شعائر الإسلام فيها) ش: أي في الأمصار وهي الجمع والجماعات والأعياد، وإقامة الحدود على ما ذكرنا عن قريب. م: (بخلاف السواد) ش: أي أهل القرى، لأنه ليست فيه شعائر الإسلام كالأمصار.
م: (قالوا) ش: أي المشائخ م: (هذا كان في سواد الكوفة؛ لأن غالب أهلها أهل الذمة، فأما في سوادنا فأعلام الإسلام فيه ظاهرة، فلا يمكنون فيها أيضا وهو الأصح) ش: وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، عند الفضلي: لا يمنعون من ذلك في السواد، واحترز بقوله: " في الأصح " عن قوله.

[استأجر من مسلم دابة أو سفينة لينقل عليها خمرا]
م: (قال: ومن حمل لذمي خمرا فإنه يطيب له الأجر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال في " الجامع الصغير ".
م: (وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-: يكره له ذلك) ش: وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يجوز العقد عندهم أصلا، وعلى هذا الخلاف إذا استأجر من مسلم دابة أو سفينة لينقل عليها خمرا أو استأجره ليرعى خنازيره، ذكره شيخ الإسلام م: (لأنه إعانة على المعصية وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لعن في الخمر عشرا: حاملها والمحمول إليه» ش: هذا الحديث رواه أربعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:
الأول: عبد الله بن عمر، أخرج أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه " حديثه عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وأبي علقمة مولاهم أنهما سمعا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله: الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، وآكل ثمنها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمول إليه» .

(12/222)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه أحمد وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، والبزار في "مسانيدهم".
قال المنذري في "مختصره ": وسئل ابن معين عن عبد الرحمن الغافقي قال: لا أعرفه. وذكره ابن يونس في "تاريخه " وقال: إنه روى عن ابن عمر، وروى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عياض، وأنه كان أمير الأندلس، قتله الروم بالأندلس سنة خمسة عشر ومائة، وأبو علقمة مولى ابن عباس ذكر ابن يونس أنه يروي عن ابن عمر وغيره من الصحابة وأنه كان على قضاء أفريقية وكان أحد فقهاء الموالي، انتهى.
وأخرجه الحاكم في " المستدرك في الأشربة" من طريق ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن ابن شريح الخولاني عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه قصة وقال: صحيح الإسناد.
ورواه إسحاق بن ر اهويه في "مسنده "، أخبرنا أبو عامر العقدي، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، سمعت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لعن: الخمر وغارسها لا يغرسها إلا للخمر، ولعن مجتنيها ولعن حاملها إلى المعصرة وعاصرها، وشاربها وبائعها وآكل ثمنها ومدرها» .
الثاني: أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه الترمذي وابن ماجه عن أبي عاصم عن شبيب بن بشر عن أنس بن مالك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن في الخمر عشرة....» فذكره إلا أن فيه عوض: الخمر والمشتراة له. قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث غريب من حديث أنس.
الثالث: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه " عن مالك بن سعيد التجيبي أنه سمع ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أتاني جبرائيل فقال لي: يا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله لعن الخمر» فذكره باللفظ الأول، إلا أن فيه عوض: «آكل ثمنها والمسقاة له» .
ورواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وشاهده

(12/223)


وله: أن المعصية في شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل ولا يقصد به. والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية.
قال: ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ويكره بيع أرضها، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: لا بأس ببيع أرضها أيضا، وهذا رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثم أخرج حديث عمر، ورواه أحمد في "مسنده ".
الرابع: عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه أحمد والبزار - رحمهما الله- في "مسنديهما"، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، حدثنا عيسى بن أبي عيسى، عن الشعبي، عن علقمة عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا بلفظ أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - سواء.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن المعصية في شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل) ش: لأن الشرب قد يوجد بدون الحمل، والحمل قد يوجد بلا شرب بل يكون الحمل للإراقة أو للصب في النخل ليتخلل فلم تكن المعصية من لوازمه، بل المعصية توجد باختيار الفاعل، فلا يوجب كراهية الحمل، فصار كما لو استأجره لعصر العنب أو لقطعه.
م: (ولا يقصد به) ش: أي لا يقصد الحامل بالحمل شرب الذمي، بل تحصيل الأجرة.
م (والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية) ش: هذا جواب عن استدلالهما بالحديث، والمقرون بقصد المعصية هو شرب الخمر. ولنا كلام فيه، فإن ذلك مكروه.
قلت: محمد هذا التأويل رواية إسحاق بن راهويه، فليتأمل فإنه موضع نظر

[بيع أرض مكة]
م: (قال: ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ويكره بيع أرضها) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي كراهية بيع أرض مكة عند أبي حنيفة وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله- في رواية.
م: (وقالا: لا بأس ببيع أرضها أيضا) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله- في رواية.
م: (وهذا رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قولهما رواية عن أبي حنيفة. وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن بيع دور مكة جائزة فيها الشفعة، كذا ذكره الكرخي في

(12/224)


لأنها مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها فصار كالبناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن بيع دور مكة جائز فيها الشفعة، كذا ذكره الكرخي في "مختصره ".
وقال في كتاب " التقريب ": روى هشام عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله-: أنه كره إجارة بيوت مكة في الموسم ورخص في غير الموسم.
وكذلك قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال هشام: أخبرني محمد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يكره كراء بيوت مكة في الموسم، ويقول: لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إذا كان فيها فضل، وإن لم يكن فيها فلا، وهو قول محمد، انتهى.
وقال الطحاوي في "مختصره ": وكره أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيع أرض مكة، وهو قول مالك، ورواه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد روى غيره عن أبي يوسف: أن ذلك لا بأس به.
وقال أبو جعفر: هذا أجود، والطحاوي أخذ بقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جواز بيع الأرض في " شرح الآثار "، كما أخذ بقوله في "مختصره". ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ في كتاب " الآثار " بقول أبي حنيفة: أنه لا يجوز بيعها.
م: (لأنها) ش: أي لأن أرض مكة م: (مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها، فصار كالبناء) ش: أراد بالاختصاص الشرعي التوارث، وقسمتها في المواريث من الصدر الأول إلى يومنا، يريد بما رواه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "شرح الآثار " بإسناده «عن أسامة بن زيد أنه قال: يا رسول الله انزل في دارك بمكة، فقال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» أخرجه البخاري ومسلم ولفظهما: «هل ترك لنا عقيل منزلا» ، وكان عقيل ورث أبا طالب ولم يرثه جعفر ولا علي، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، فكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول من أجل ذلك: "لا يرث المؤمن الكافر ". ففي هذا الحديث ما يدل على أن أرض مكة تملك، وتورث. لأنه قد ذكر فيها ميراث عقيل وطالب لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور. الرباع جمع ربع وهو دار الإقامة.
وذكر البيهقي في "المعرفة ": أخبرنا الحاكم بسنده عن إسحاق بن راهويه قال: كنا بمكة ومعي أحمد بن حنبل فقال لي أحمد يوما: تعال أريك رجلا لم تر عيناك مثله، يعني الشافعي، فذهب معه، فرأيت من إعظام أحمد للشافعي، فقلت له: إني أريد أن أسأله عن مسألة، فقال: هات. فقلت للشافعي: يا أبا عبد الله ما تقول في أجور بيوت مكة؟ فقال: لا

(12/225)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- بأس به، قلت: وكيف وقد قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يا أهل مكة لا تجعلوا على دوركم أبوابا، لينزل البادي حيث شاء، وكان سعيد بن جبير ومجاهد ينزلان ويخرجان ولا يعطيان أجرا، فقال: السنة في هذا أولى بنا، فقلت. قال: أو في هذا سنة؟ قال: نعم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وهل ترك لنا عقيل منزلا» لأن عقيلا ورث أبا طالب ولم يرثه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنهما كانا مسلمين، فلو كانت المنازل في مكة لا تملك كيف كان يقول: «وهل ترك لنا عقيل؟» وهي غير مملوكة. قال: فاستحسن ذلك أحمد وقال: لم يقع هذا بقلبي، فقال إسحاق وللشافعي: أليس قد قال الله سبحانه وتعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي} [الحج: 25] ؟ فقال له الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اقرأ أول الآية: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي} [الحج: 25] إذ لو كان كما تزعم لما جاز لأحد أن ينشد فيها ضالة، ولا ينحر فيها بدنة، ولا يدفع فيها الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصة، قال: فسكت إسحاق.
وروى الواقدي في كتاب " المغازي ": حدثني معاوية بن عبد الله عن أبيه، عن أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دخل مكة يوم الفتح: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: فهل ترك لنا عقيل منزلا؟ ". وكان عقيل قد باع منزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل له: فانزل في بعض بيوت مكة فأبى، وقال: "لا أدخل البيوت" فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد من الحجون» .
قال السهيلي في " الروض الأنف ": وقد اشترى عمر بن الخطاب الدور من الناس الذي ضيقوا الكعبة وألصقوا دورهم بها، ثم هدمها وبنى المسجد الحرام حول الكعبة، ثم كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اشترى دورا بأغلى ثمن وزاد في سعة المسجد، وهذا دليل على أن رباع مكة مملوكة لأهلها بيعا وشراء.
وقال أبو الفتح اليعمري في "سيرته عيون الأثر ": وهذا الخلاف هنا يبتني على خلاف آخر، وهو أن مكة هل فتحت عنوة أو أخذت بالأمان؟ فذهب الشافعي إلى أنها مؤمنة، يعني فتحت بالأمان، وهو كالصلح يملكها أهلها فيجوز لهم كراءها وبيعها وشراءها، لأن المؤمن يحرم دمه وماله وعياله.
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إلى المسلمين أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم وقال: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» إلا الذين استثناهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان هذا أمان منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة.

(12/226)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأكثر أهل العلم إلى أنها فتحت عنوة، لأنها أخذت بالخيل والركاب.
وجاء في حديث عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من طريق إبراهيم بن مهاجر: في «مكة: أنها مناخ من سبق» ، ولا خلاف في أنه لم يجر فيها قسم ولا غنيمة ولا شيء من أهلها أخذ لما عظم الله من حرمتها.
قال أبو عمر: والأصح، والله سبحانه وتعالى أعلم: أنها بلدة مؤمنة آمن أهلها على أنفسهم وكانت أموالهم تبعا لهم، انتهى.
وكذلك قال ابن الجوزي في " التحقيق ": بيع رباع مكة مبني على أنها إن فتحت عنوة فيكون وقفا على المسلمين فلا يجوز بيعها، وإن فتحت صلحا فهي باقية على أهلها فيجوز، انتهى.
قلت: حديث: «مكة مناخ من سبق» ، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قلت: يا رسول الله: ألا نبني لك بيتا - يعني بمكة -؟ قال: " لا، إنما هي مباح لمن سبق» .
وقال الحاكم في "مستدركه " عقيب حديث عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أكل كراء بيوت مكة فإنما يأكل نارا» : وقد صحت الروايات أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة صلحا.
فمنها: ما حدث وأسند -يعني الحاكم - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سار إلى مكة ليفتحها قال لأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اهتف بالأنصار، فقال: يا معشر الأنصار أجيبوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاءوا، فكأنما كانوا على ميعاد.
ثم قال: اسلكوا هذا الطريق، فساروا، ففتحها الله عليهم، وطاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبيت، فصلى ركعتين، ثم خرج من الباب الذي يلي الصفا، فصعد الصفا، فخطب الناس، والأنصار أسفل منه، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فقد أخذته رأفة بقومه ورغبة في قرابته، قال: "فمن أنا إذا؟ كلا والله، إني عبد الله ورسوله حقا، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم".

(12/227)


ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألا إن مكة حرام لا تباع رباعها، ولا تورث» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالوا: والله يا رسول الله: ما قلنا ذلك إلا مخافة أن يعادونا. قال: "أنتم صادقون عند الله وعند رسوله". فقال: والله ما منهم أحد إلا بل نحره بالدموع» .
قلت: قال الشيخ محيي الدين النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء، وأهل السير: ففتحت عنوة، واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " احصروهم حصرا "، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ ... ] وبتسمية هذه الغزوة غزوة الفتح، [ومما] يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] ، وقوله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] والمراد بهما عند الجمهور فتح مكة، وهذا اللفظ لا يستعمل في الصلح، إنما يستعمل في الغلبة والقهر، وأيضا فإن أهل السير عدوا الفتح من جملة الغزوات التي قاتل فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعدها ابن سعد تسعا منها الفتح، وادعى الماوردي أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - انفرد بقوله: فتحت صلحا.
م: (ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألا إن مكة حرام لا تباع رباعها، ولا تورث» ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه " في "البيوع"، والدارقطني في "سننه "، عن إسماعيل ابن مهاجر عن أبيه عن عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مكة مناخ، لا تباع رباعها، ولا يؤاجر بيوتها» . وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال الدارقطني: إسماعيل بن مهاجر ضعيف ولم يروه غيره، وذكره ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "كتابه " من جهة الدارقطني وأعله بإسماعيل بن مهاجر، قال: قال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: منكر الحديث.
ورواه ابن عدي، والعقيلي في "كتابيهما"، وأعلاه بإسماعيل وأبيه، قالا في إسماعيل: لا يتابع عليه.
وقال صاحب " التنقيح ": إسماعيل بن مهاجر هذا هو البجلي الكوفي، وهو من رجال مسلم.
وقال النووي: لا بأس به، وضعفه ابن معين، وكذلك أبوه ضعفوه. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أبوه أقوى منه.

(12/228)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه الحاكم، والدارقطني أيضا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حرم مكة، فحرم بيع رباعها، وأكل ثمنها» .
وقال: «من أكل من أجر بيوت مكة فإنما يأكل نارا» . وفي لفظ الدارقطني قال: «مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها» . سكت عنه الحاكم، وجعله شاهدا لحديث مهاجر.
وقال الدارقطني: هكذا رواه أبو حنيفة، ووهم في موضعين: أحدهما قوله: عبيد الله بن أبي يزيد، وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والثاني: في رفعه، والصحيح أنه موقوف.
ثم أخرجه عن عيسى بن يونس، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد حدثني أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال: «الذي يأكل كراء بيوت مكة، إنما يأكل في بطنه نارا» .
وذكر ابن القطان حديث أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من رواية محمد بن الحسن، عنه، وقال: علته ضعف أبي حنيفة، ووهم في قوله " عبيد الله بن أبي يزيد "، وإنما هو " ابن أبي زياد "، فلعل الوهم من صاحبه محمد بن الحسن. انتهى.
قلت: أخرجه الدارقطني في آخر "الحج" عن أيمن بن نايل، عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح، عن عبيد الله بن عمر، ورفع الحديث. قال: «من أكل كراء بيوت مكة أكل الربا» .
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه "، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن مجاهد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مكة حرام حرمها الله، لا يحل بيع رباعها، ولا إجارة بيوتها» .
حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد، وعطاء، وطاوس: كانوا يكرهون أن يباع شيء من رباع مكة، وأما قول الدارقطني: هكذا رواه أبو حنيفة، ووهم في موضعين غير صحيح ولا مسلم، لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه في " الآثار " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمرو، به، وليس فيه وهم، وبهذا أيضا سقط كلام ابن القطان حيث نسب الوهم إلى محمد بن الحسن.
وأما قوله: والثاني في رفعه والصحيح موقوف، فمردود أيضا لأن رفع الثقات صحيح،

(12/229)


ولأنها حرة محترمة؛ لأنها فناء الكعبة، وقد ظهر آية أثر التعظيم فيها، حتى لا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، فكذا في حق البيع بخلاف البناء؛ لأنه خالص ملك الباني،
ويكره إجارتها أيضا، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أجر أرض مكة فكأنما أكل الربا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا سيما مثل هذا الإمام.
وأما قول ابن القطان: وعلته ضعف أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإساءة أدب، وقلة حياء منه، فإن مثل الإمام الثوري، وابن المبارك وأضرابهما وثقوه وأثنوا عليه خيرا، فما مقدار من يضعفه عند هؤلاء الأعلام الأشنان، وقد أشبعنا الكلام فيه، وفي مناقبه التي جمعناها في "تاريخنا الكبير".
م: (ولأنها) ش: أي ولأن مكة م: (حرة) ش: أي خالصة لله تعالى ووقف الخليل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - موضع الحرم م: (محترمة) ش: أي لها حرمة عظيمة، وقد حرمها إبراهيم الخليل - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وسلامه-. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن مكة حرام منذ خلق الله السماوات والأرضين» الحديث.
م: (لأنها فناء الكعبة) ش: أي لأن مكة فناء الكعبة م: (وقد ظهر آية أثر التعظيم فيها) ش: أي قد ظهر أثر تعظيم الكعبة في مكة م: (حتى لا ينفر صيدها) ش: أي لا يزعج من موضعه ولا يخوف م: (ولا يختلى خلاها) ، ش: الخلاء مقصور الرطبة من الحشيش الواحدة خلاة.
ومعنى قوله: «لا يختلى خلاها» ، أي لا يقطع خلاها م: (ولا يعضد شوكها) ش: أي لا يقطع من العضد. وهو القلع فيما إذا ظهر في هذا، فلأن يظهر في حرمة البيع كان أولى، لأن جعلها عرضة التمليك والتملك أبلغ في الإنابة من عضد الشوك وأصل الخلاء، وشغر الصيد أشار إليه بقوله: م: (فكذا في حق البيع) ش: أي فكذا يظهر في أثر تعظيمها في حق البيع م: (بخلاف البناء لأنه خالص ملك الباني) ش: فيجوز بيعه، وكمن غرس شجرا في أرض الحرم أو في أرض الوقف، أو في طريق العامة يجوز بيعه.

[إجارة بيوت مكة]
م: (ويكره إجارتها أيضا) ش: أي إجارة بيوت مكة م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أجر أرض مكة فكأنما أكل الربا» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وإنما روى محمد بن الحسن في " الآثار " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكل من أجور بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا» . وتتقدم حديث الدارقطني عن أيمن بن نابل.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا ابن جريح قال: كان عطاء ينهى أن تؤجر بيوت

(12/230)


ولأن أراضي مكة تسمى السوائب على عهد رسول الله -- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من احتاج إليها سكنها، ومن استغنى عنها أسكن غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكة، وقال: أخبرنا معمر عن منصور، عن مجاهد أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا، لينزل البادي حيث شاء. قال معمر: وأخبرني بعض أهل مكة، قال: لقد استخلف معاوية وما لدور مكة باب قال: وأخبرني من سمع عطاء يقول {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي} [الحج: 25] ، قال: ينزلون حيث شاءوا.
م: (ولأن أراضي مكة تسمى السوائب على عهد رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من احتاج إليها سكنها ومن استغنى عنها أسكن غيره) ش: السوائب جمع سائبة، وهي التي لا مالك لها ينتفع من شاء.
وروى الطحاوي بإسناده إلى علقمة قال: «توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ورباع مكة تدعى السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن» .
وروي أيضا بإسناده إلى علقمة بن نضلة قال: «كانت الدور على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ما تباع ولا تكرى، ولا تدعى إلى السوائب» .
وأخرجه ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: «كانت الدور والمساكن حين توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر وعثمان وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن» .
وكذلك رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" و"مسنده "، ومن طريقه رواه الطبراني في "معجمه " والدارقطني في "سننه "، ورواه أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي في كتابه " تاريخ مكة ": حدثني جدي أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، حدثنا يحيى بن سليم، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: " «كانت الدور والمساكن بمكة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ما تكرى ولا تباع ولا تدعى إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن» .
قال يحيى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فقلت لعمر إنك تكري قال: قد أحل الميتة للمضطر إليها.

(12/231)


ومن وضع درهما عند بقال يأخذ منه شاء يكره له ذلك؛ لأنه ملكه قرضا جر به نفعا، وهو أن يأخذ منه ما شاء حالا فحالا، ونهى رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن قرض جر نفعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج الدارقطني أيضا عن معاوية بن هشام حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم عن علقمة بن نضلة الكناتي قال: «كانت بيوت مكة تدعى على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السوائب، لا تباع، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن» .
فإن قلت: قال البيهقي: هذا الحديث فيه انقطاع ورفعه وهم، والصحيح وقفه.
قلت: فهذا ابن ماجه أخرجه بسند صحيح على شرط مسلم وأخرجه الطحاوي والدارقطني وغيرهما، وعلقمة هذا صحابي، كذا ذكره على هذا الشأن، وإذا قال الصحابي مثل هذا الكلام كان مرفوعا على ما عرف، وفيه تصريح عثمان بالسماع من علقمة فأين الانقطاع!.

[وضع درهما عند بقال يأخذ منه ما يشاء]
م: (ومن وضع درهما عند بقال يأخذ منه ما يشاء يكره له ذلك) ش: البقال هو الذي يبيع قوابل الطعام وغيرها، وهذا في اصطلاح تلك البلاد، وأهل الشام يسمونه: القاضي وأهل مصر: الزيات.
م: (لأنه ملكه قرضا وجريه نفعا وهو أن يأخذ منه ما شاء حالا فحالا) ش: أي لأن وضع الدرهم ملك البقال ذلك الدرهم من حيث القرض.
فإن قلت: قوله: عند بقال يدل على أنه وديعة لأنه عنه للوديعة فلا فرق حينئذ بين صورة الوديعة والقرض، مع أنه فرق بينهما.
قلت: يجوز أن يكون قوله يأخذ منه ما شاء خارجا مخرج الشرط، يعني وضعه بشرط أن يأخذ منه ما شاء، وأما إذا وضعه ولم يشترط شيئا فهو وديعة إن هلك لا يضمن البقال شيئا.
م: «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قرض جر نفعا» ش: روى سعيد بن منصور في "سننه "، ثم البيهقي من حديث إسماعيل بن عياش عن عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك فقلت: يا أبا حمزة: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه، فقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى إليه طبقا فلا يقبله، أو حمله على دابة فلا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك»

(12/232)


وينبغي أن يستودعه ثم يأخذ منه ما شاء جزءا فجزءا؛ لأنه وديعة وليس بقرض حتى لو هلك لا شيء على الآخذ، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخرج البيهقي هذا من رواية الحسن بن علي العامري، عن هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش، ثم قال العامري: قال هشام: يحيى بن أبي إسحاق والهنائي، وما أراه إلا وهم. وهذا حديث يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: ذكر الذهبي في إخراجه هذا الحديث من رواية يحيى بن إسحاق الهنائي وعزاه إلى ابن ماجه ثم ذكر يحيى بن يزيد الهنائي، وأخرج له حديثا عن أنس وعزاه إلى مسلم وأبي داود، وهو غير هذا الحديث.
وذكرهما الذهبي في " الكاشف " في ترجمتين، وعلم لابن أبي إسحاق الهنائي علامة ابن ماجه، ولابن يزيد الهنائي علامة مسلم وأبي داود. وذكر عبد الحق في "الأحكام " هذا الحديث من طريق [ ... ] مخلد عن هشام بن عمار وفيه يحيى بن إسحاق الهنائي، وبهذا ظهر أن الحديث لابن أبي إسحاق، ولابن يزيد.
وأخرج البيهقي أيضا من حديث إدريس بن يحيى عن عبد الله بن عياش حدثنا يزيد بن حبيب، عن أبي مرزوق النخعي عن فضالة بن عبيد أنه قال: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا.
م: (وينبغي أن يستودعه ثم يأخذ منه ما شاء جزءا فجزءا؛ لأنه وديعة وليس بقرض حتى لو هلك، لا شيء على الأخذ والله أعلم) ش: لأنه أمانة لم يوجد فيه القعدي.
ومعنى قوله: هلك، ضاع حتى لو استهلك هو يضمن لأنه يتعدى. وفي " النوازل ": عجل البقال درهما فيأخذ منه شيئا فشيئا لا بأس به، ما لم يشترط عليه، لأنه إنما يدفعه ليأخذ منه متفرقا، ولو أقرضه بلا شرط لا بأس به، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.

(12/233)


"مسائل متفرقة "
قال: ويكره التعشير والنقط في المصحف، لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جردوا القرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[مسائل متفرقة]
[التعشير والنقط في المصحف]
م: (مسائل متفرقة) ش: أي هذه مسائل متفرقة وارتفاع مسائل على أنه خبر مبتدأ محذوف ومتفرقة صفتها. وأراد بالمتفرقة: من أنواع شتى.
م: (قال: ويكره التعشير والنقط في المصحف) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": والتعشير جمع العواشر في المصحف، وهو كتابة العلامة عند منتهى عشر آيات.
والنقط: بفتح النون وسكون القاف مصدر من نقط المكتوب ينقط وبعضهم ضبطه بضم النون وفتح القاف، وقال: جمع نقطة، وهو تصحيف على ما لا يخفى.
م: (لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جردوا القرآن) ش: رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " في فضائل القرآن، حدثنا وكيع عن سفيان، عن الأعمش عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: جردوا القرآن.
حدثنا سهيل بن يوسف عن حميد الطويل، عن معاوية بن قرة، عن أبي المغيرة، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فذكره.
حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جردوا القرآن، ولا تلحقوا به ما ليس منه. وبهذا السند رواه عبد الرزاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "مصنفه " في أواخر الصوم، أخبرنا الثوري عن سلمة بن كهيل - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في "معجمه ".
ومن طريق ابن أبي شيبة رواه إبراهيم الحربي في كتابه " غريب الحديث " وقال: "قوله جردوا القرآن " يحتمل فيه أمران أحدهما: أي جردوه في التلاوة لا تخلطوا به غيره. والثاني: أي جردوه في الخط من النقط والتعشير.
قلت: التأويل الثاني أولى، لأن الطبراني أخرج في "معجمه " عن مسروق عن ابن مسعود أنه كان يكره التعشير في المصحف.
وأخرج البيهقي في كتاب " المدخل "، عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل به: جردوا القرآن. قال أبو عبيد: كان إبراهيم يذهب به إلى نقط المصحف ويروى عن عبد الله: أنه كره

(12/234)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعشير في المصاحف.
وروى أبو عبيد بإسناده إلى عبد الله بن مسعود قال: جردوا القرآن، أرى فيه صغيركم عند كبيركم، فإن الشيطان يخرج من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.
وقال أبو عبيد: اختلف الناس في تفسير قوله: جردوا القرآن، فكان إبراهيم يذهب به إلى نقط المصاحف، ويقول: جردوا القرآن ولا تخلطوا به غيره وإنما يرى كره ذلك مخافة أن ينشأ نشئ يدركون المصاحف منقوطة، فيرون أن النقط من القرآن. ولهذا كره من كره الفواتح والعواشر.
وقال أبو عبيد: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كره التعشير في المصاحف، وقيل: إن رجلا قرأ عنده، فقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال عبد الله: "جردوا القرآن ".
وقد ذهب كثير من الناس إلى أن يتعلم القرآن وحده ويترك الأحاديث.
قال أبو عبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا باطل وليس له عندي وجه، وكيف يكون عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أراد به هذا؟ وهو يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأحاديث كثيرة، لكنه عندي ما ذهب إليه إبراهيم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وما ذهب إليه عبد الله نفسه. وفيه وجه آخر وهو عندي من أحسن هذه الوجوه و [هو:] أنه حثهم على أن لا يتعلم شيء من كتب غيره، لأن ما خلا القرآن من كتب الله إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى، وليسوا بها معرفين عليها، وذلك بين في أحاديث:
حدثنا محمد بن عبيد، عن هارون بن عبيدة، عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: أصبت أنا وعلقمة صحيفة، فانطلقنا إلى عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلنا: هذه صحيفة فيها حديث حسن. قال، فجعل عبد الله يمحوها بيده ويقول: نحن نقص عليك أحسن القصص.
ثم قال: هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره. وكذا حديثه الآخر: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فيحدثوكم بحق فتكذبوا أو باطل فتصدقوا؛ فإنه كيف يهدونكم وقد أضلوا أنفسهم؟!.

(12/235)


ويروى: جردوا المصاحف، وفي التعشير والنقط ترك التجريد؛ لأن التعشير يخل بحفظ الآي، والنقط يحفظ الإعراب اتكالا عليه فيكره. قالوا: في زماننا لا بد للعجم من دلالة. فترك ذلك إخلال بالحفظ وهجران القرآن، فيكون حسنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم حديث «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أتاه عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بصحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب فغضب فقال: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب!» ، انتهى كلامه.
وفي " الفائق " ومعناه: خصوا القرآن بأن ينشأ على تعلمه صغاركم وبأن لا يتباعد عن تلاوته وتدبره كباركم، فإن الشيطان لا يقر في مكان يقرأ فيه القرآن.
وما كره أبو حنيفة التعشير والنقط لأحد الوجوه التي ذهب إليها إبراهيم في حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن التعشير أمر غير مقيد إلا للتقصير في حفظ الآيات ومعرفته اعتمادا على الخط.
م: (ويروى: جردوا المصاحف) ش: هذه رواية غريبة ليس لها وجود في الكتب المشهورة.
م: (وفي التعشير والنقط ترك التجريد؛ لأن التعشير يخل بحفظ الآي) ش: حيث يعتمد عليه، م: (والنقط يحفظ الإعراب اتكالا عليه) ش: أي لأجل الاتكال على النقط م: (فيكره) ش: أي إذا كان كذلك يكره كل واحد من التعشير والنقط.
م: (قالوا) ش: أي المشائخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (في زماننا لا بد للعجم من دلالة) ش: يدل على الإعراب لأنه ليس في وسع العجم معرفة الإعراب من غير دلالة على ذلك.
م: (فترك ذلك) ش: أي ترك ما يدل على الإعراب م: (إخلال بالحفظ وهجران القرآن) ش: لأنه تعشير عليه فيتركه م: (فيكون حسنا) ش: أي كل واحد من النقط والإعراب يكون حسنا لما ذكرنا. وكذلك التعشير، لأن بالتعشير يحفظ الآي، وبالنقط والإعراب يحفظ الكلام من التغيير فكانا حسنين، وعلى هذا أكتب أسماء السور وعدد الآي فهي وإن كن إحداثا فهو بدعة حسنة، وكم من شيء يختلف باختلاف الزمان، كذا ذكره التمرتاشي.
وفي " شرح الطحاوي " لأبي بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكان الشيخ أبو الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا يكره ما تليت من تراحم التواسم حسب ما جرت به العادة، لأن في ذلك أمان عن معنى السورة، وهو بمنزلة كتابة التسمية في أوائلها للفصل.
وفي " المحيط ": قراءة القرآن أشرف الأذكار، ولهذا قالوا: إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كره دفع

(12/236)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصوت عند قراءة القرآن عند الجنائز. ومن عادة أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهة رفع الصوت عند الجنائز وقراءة القرآن والذكر. ومن المشائخ من قال: قراءة القرآن بالجماعة بالأجزاء الثلاثين مكروهة لما فيه من الغلط.
وفي " المجتبى ": والعامة جوزوه بدعة حسنة ضرورة إحراز فضل الختم في ساعة، وقراءة القرآن للدنيا مكروهة، والأفضل أن لا يعطى القارئ شيئا.
وفي " الواقعات ": يمنع القارئ والآخذ والمعطي آثمان، وكتابته على الجدران والمحاريب ليس بمستحسن، والذكر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أفضل من قراءة القرآن. وقيل: تستحب القراءة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ولو تغنى بالقرآن ولم يخرج بإلحاقه عن قدر صحيح في العربية مستحسن. وقال فخر الإسلام: قراءة الماشي والمحترف يجوز إذا لم يشغله ذلك، ولا بأس بقراءة الإمام عقيب الصلاة آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة جهرا، والإخفاء أفضل. ومد الرجل إلى مصحف ليس بحذائه أو معلق فوقه لا يكره.
وقراءة الفاتحة لغير الصلاة للمهمات بدعة، لكنها مستحسنة للعادة، ولا يجوز المنع منها، ويجوز كتابة الآية والآيتين بالفارسية، والأكثر منها لا يجوز.
وقال الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخاف أن يكون زنديقا أو مجنونا فالمجنون يشد والزنديق يقتل.
ويكره كتابة التعشير بالفارسية في المصحف كما يعتاده البعض، ورخص فيه الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وما كتب سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الفاتحة بالفارسية كان للضرورة لأهل فارس.
وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: القصص مكروه أو يحدث الناس بما ليس له أصل معروف في أحاديث الأولين أو يزيد أو ينقص أو يعظ الناس بما لا يتعظ به وقلبه ساه، فأما ما سواء فغير مكروه.
قال نجم الدين الحفصي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يريد به الزيادة في أصله والنقصان منه أما التزيين بالعبارات اللطيفة المرفقة، والشرح للفوائد التي يتضمنها الكلام فذلك حسن، ولا بأس بسبك الدراهم التي كتب فيها اسم الله ولا بأس بوضع القرطاس الذي كتب فيه اسم الله تعالى تحت الطقسة.

(12/237)


قال: ولا بأس بتحلية المصحف لما فيه من تعظيمه وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب، وقد ذكرناه من قبل.
قال: ولا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره ذلك. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره في كل مسجد، للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ولأن الكافر لا يخلو عن جنابة؛ لأنه لا يغتسل اغتسالا يخرجه عنها، والجنب يجنب المسجد، وبهذا يحتج مالك، والتعليل بالنجاسة عام فينتظم المساجد كلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " جامع شمس الأئمة ": الرسائل والآثار والكتب التي لا منفعة فيها يمحى عنها اسم الله وملائكته ورسله، ويحرق بالنار فلو ألقاها في الماء الجاري أو دفنها لا بأس به.
والدفن أحسن كما في الأنبياء والأولياء إذا ماتوا، وكذا جميع الكتب إذا بليت وخرجت عن الانتفاع.

[تحلية المصحف]
م: (قال: ولا بأس بتحلية المصحف لما فيه من تعظيمه وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب، وقد ذكرناه من قبل) ش: أي في كتاب الصلاة قبل باب صلاة الوتر.

[دخول أهل الذمة المسجد الحرام]
م: (قال: ولا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام) ش: أي قال في " الجامع الصغير ".
م: (وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره ذلك) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره في كل مسجد) ش: يعني سواء كان في المسجد الحرام أو غيره.
م: (للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ش: والنجس مصدره ومعناه، فهم أنجاس ولا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية، بعد حج عامهم هذا: وهو عام تسع من الهجرة.
وكذا في " الكشاف " ومذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظاهر، لأن ظاهر الآية يدل على النهي لهم أن يقربوا المسجد الحرام لا غير.
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ بقول الزهري، وكذا قال الفقيه أبو الليث.
م: (ولأن الكافر لا يخلو عن جنابة لأنه لا يغتسل اغتسالا يخرجه عنها) ش: أي عن الجنابة لأنه لا يراعي الكيفية المسنونة، ولا يزال جنبا م: (والجنب يجنب المسجد) ش: أي يبتعد عنه تطهيرا له عن القذر.
م: (وبهذا) ش: أي بقوله: ولأن الكافر لا يخلو عن الجنابة إلى آخره، م: (يحتج مالك) ش: وفي بعض النسخ احتج مالك. م: (والتعليل بالنجاسة عام فينتظم المساجد كلها) ش: لأن اجتناب كل مسجد عن النجاسة واجب فتعليل مالك يعم سائر المساجد، فلا يجوز قبوله في

(12/238)


ولنا ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار ولأن الخبث في اعتقادهم فلا يؤدي إلى تلويث المسجد، والآية محمولة على الحضور استيلاء واستعلاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سائر المساجد.
م: (ولنا ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود في "سننه " في كتاب الخراج في باب خبر الطائف عن حماد بن سلمة، عن حميد عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص: أن «وفد ثقيف لما قدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع» . ورواه أحمد في مسنده حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة به. وكذلك الطبراني في "معجمه ".
وقال المنذري في "مختصره ": قيل: إن الحسن البصري قد سمعه من عثمان بن أبي العاص. ورواه أبو داود في "مراسيله " عن الحسن: أن «وفد ثقيف جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب لهم قبة في المسجد لينظروا إلى صلاة المسلمين، فقيل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتنزلهم في المسجد وهم مشركون؟ فقال: "إن الأرض لا تنجس، إنما ينجس ابن آدم» .
وأخرجه الطبراني في "معجمه " عن محمد، عن عيسى بن عبد الله بن مالك، عن عطية بن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: «قدم وفد ثقيف في رمضان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب لهم قبة في المسجد فلما أسلموا صاموا معه، قوله: لا تحشروا أي إلى الجهاد والنفر له. وقيل: أي إلى المصدق ولكن تؤخذ منهم الصدقة في مواطنهم قولهم "ولا تعشروا": أي ولا يأخذ عشر أموالهم» .
قولهم: ولا تجثوا قال الخطابي: أي ولا يصلون وأصل التجثية أن يكتب الإنسان على مقدمه ويرفع. وفي " الصحاح " التجثية أن يقوم قيام الراكع.
م: (ولأن، الخبث في اعتقادهم فلا يؤدي إلى تلويث المسجد) ش: ولا تلويث هاهنا لأن المنهي عنه تلويث المسجد م: (والآية محمولة على الحضور استيلاء واستعلاء) ش: هذا جواب عما استدل به

(12/239)


أو طائفين عراة كما كانت عادتهم في الجاهلية.
قال: ويكره استخدام الخصيان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي من الآية المذكورة فأجاب عنه نحوا بين الأول: أن الآية محمولة على منعهم أن يدخلوها مستولين عليها ومستعلين على أهل الإسلام من حيث التدبير والقيام بعبادة المسجد.
فإن قيل: قبل الفتح كانت الولاية والاستعلاء لهم، ولم يبق ذلك بعد الفتح.
وقوله: استيلاء واستعلاء منصوبان على التمييز، ويجوز أن يكونا حالين. والتقدير كما قلنا مستولين ومستعلين.
فإن قلت: المساق والحال؟
قلت: هو فاعل المصدر المحذوف لأن تقديره: قوله على الحضور، على حضورهم، فافهم الجواب النافي في قوله.
م: (أو طائفين عراة) ش: أو الآية محمولة على كونهم طائفين بالكعبة حال كونهم عراة. م: (كما كانت عادتهم في الجاهلية) ش: فإنهم كانوا يطوفون بها عراة فأراد الله سبحانه وتعالى تنزيه المسجد الحرام عن ذلك لا على أن نفس الدخول ممنوع، والدليل عليه ما رواه البخاري في "صحيحه " بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف: «أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بعثه في حجته التي أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل حجة الوداع في رهط يؤذن الناس: ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان» .

[استخدام الخصيان]
م: (قال: ويكره استخدام الخصيان) ش: أي قال القدوري: أي استعمالهم في الخدمة المعهودة منهم وهو الدخول في الحرم لأن ذلك لا يخلو عن اطلاعهم على ما وراء الوجه والكف والقدمين من النساء، وذلك حرام. فكان هذا الاستخدام سببا للحرام، وما كان سببا للحرام فهو حرام.
والخصيان، بضم الخاء، جمع خصي كالصبيان جمع صبي.
م: (لأن الرغبة في استخدامهم حث الناس على هذا الصنيع) ش: أي على الاختصاء.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لولا استخدام الناس إياهم لما أخصاهم الذين يخصونهم.
وقال الشافعي: في " الأجناس " عن كتاب "الحج" لمحمد بن الحسن على أهل المدينة، قال محمد: لا بأس باقتناء الخصيان وأن يدخلوهم على النساء ما لم يبلغوا الخبث واقتناء الواحد والكثير سواء.
وفسره الناطفي في "واقعاته " بخمس عشرة سنة.

(12/240)


لأن الرغبة في استخدامهم، حث الناس على هذا الصنيع، وهو مثلة محرمة.
قال: ولا بأس بإخصاء البهائم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو مثلة محرمة) ش: أي وهذا الصنيع مثلة وهي حرام بالإجماع ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا خصاء في الإسلام» . وإليه ذهب بعض المفسرين في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] ، كذا في " الكشاف " وغيره، وهو قول عكرمة.
وقال الحافظ في كتاب "الخصيان" بعد ندمتهم: فأي ذي مروءة وغيرة على أهل وحشم وأي ذي دين ينزع نفسه إلى اتخاذ هؤلاء الأرض برحلبان العقل وما شعر ثوب الغفلة فلا يكن منهم واثق، هذه الأمة الملعونة التي أول أمرها معصية الله حين يخرجون من حد الرجال إلى حد لا هم رجال ولا هم نساء، انتهى.
ورأيت في بعض المجاميع أن الخصيان مخصوصون بأمور: منها أنهم لا يخرجون من صلب مسلم ولا يخرج من صلبهم مسلم، ومنها أنهم أقوياء على تأديبهم غيرهم وهم أقل الناس أدبا ومنهم أنهم لا يكونون قط في مجلس من مجالس النساء إلا يتمنون لو كانوا نساء.
منها أنهم أشد الناس حرصا على جمع المال، وأكثرهم بخلا مع علمهم بعدم الأولاد.

[خصاء البهائم]
م: (قال: ولا بأس بإخصاء البهائم) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس في النسخ الكثيرة لفظه.
قال: واعلم أن خصاء البهائم إذا كان لإرادة صلاحها فهو مباح في قول عامة العلماء، وقال قوم: لا يحل خصاء البهائم من الفحول.
روى الطحاوي في " شرح الآثار " مسندا إلى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أنه نهى أن تخصى الإبل والبقر والغنم، وكان يقول: منها نشأت الخلق، فلا تصلح الإناث إلا بالذكور.
ووجه الإباحة ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين حرين» وهو المنصوص خصاهما، والمفعول به ذلك منقطع النسل لا محالة، فلو كان ذلك مكروها لما ضحى بهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لينتهي الناس عن ذلك ولا يفعلوه، والجواب عن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أنه موقوف عليه، ولئن صح فالمراد منه الخصاء بحيث لا يبقى شيء من ذكور البهائم فذلك مكروه لانقطاع النسل.
وروى الطحاوي بإسناده إلى عروة عن أبيه: أنه أخصى بغلا له.

(12/241)


وإنزاء الحمير على الخيل؛ لأن في الأول منفعة البهيمة والناس، وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ركب البغلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى أيضا بإسناده إلى طاوس: أن أباه أخصى جملا له.
وروى أيضا بإسناده إلى هشام بن عطاف قال: لا بأس بإخصاء الفحل إذا خشي عضه.
وفي " الجواهر " للمالكية: أن مالكا لا يبيح ذلك في الخيل، وقال: لأنه يضعفها في الغزو وهو المقصود الأعظم ويقطع نسلها.
وفي " الفتاوى ": لا بأس بكي البهائم للعلامة لأن فيه منفعة، ولا بأس بنصب آذان الأطفال من البنات لأنهم كانوا يفعلون ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير إنكار وكذا لا بأس بكي الصبيان إذا كان لداء أصابهم لأن ذلك مداواة.

[إنزاء الحمير على الخيل]
م: (وإنزاء الحمير على الخيل) ش: أي ولا بأس بإنزاء الحمير على الخيل، والإنزاء ارتكاب الحمر على الخيل وثلاثيته: نزاء، ينزا. نزاء، يقال نزء الذكر على الأنثى إذا وثب وركب عليها وإنزاه غيره.
م: (لأن في الأول منفعة البهيمة والناس) ش: أراد بالأول خصاء البهائم ومنفعة البهائم تسمينها ومنفعة الناس إزالة جماحها وشماسها.
م: (وقد صح أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ركب البغلة» ش:. أخرج الطحاوي ومسلم في "الجهاد"، عن أبي إسحاق قال: «سمعت البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين.
فقال البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفر وكانت هوازن يومئذ رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فلقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلته البيضاء، وأن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقوده وهو يقول: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» .
وأخرج مسلم أيضا في "الجهاد"، عن «كثير بن العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين، فلزمت أنا وأبا سفيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم نفارقه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلة له بيضاء أهداها له فروة الجذامي.
فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركض بغلته قبل الكفار.

(12/242)


فلو كان هذا الفعل حراما لما ركبها؛ لما فيه من فتح بابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأنا آخذ بلجام بغلته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعباس آخذ بركابه، إلى أن قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا حتى حمى الوطيس" ثم أخذ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيده حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة".
قال: فما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى أمرهم مدبرا حتى هزمهم الله، فكأني أنظر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يركض خلفهم على بغلته» ، مختصر.
وأخرج في "الفضائل" عن «سلمة بن الأكوع قال: "لقد قدت نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - على بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا قدامه وهذا خلفه» .
وأخرج في آخر التوبة قبيل الفتن: عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حائط لبني النجار على بغلة له فذكره، وفيه قال: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن» ، مختصر.
وأخرج البخاري عن عمرو بن الحارث ختن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخي جويرية بنت الحارث قال: «ما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موته دينارا ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة» . ولم يخرج مسلم لعمرو بن الحارث شيئا غيره.
وفي " سيرة ابن إسحاق ": «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركب بغلته الدلدل في أسفاره وعاشت بعده حتى كبرت وزالت أسنانها، وكان يجش لها الشعير وماتت بالبقيع في زمن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» .
قوله: الوطيس - بفتح الواو وكسر الطاء المهملة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وفي آخره سين مهملة-: وأراد به الحرب، وفي " الأصل ": هو اسم للتنور المحمى بالنار.
م: (فلو كان هذا الفعل) ش: أي إنزاء الحمير على الخيل م: (حراما لما ركبها) ش: أي لما ركب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البغلة والتذكير باعتبار المذكور وباعتبار البغل م: (لما فيه من فتح بابه) ش: أي لما في ركوب البغلة من فتح باب إنزاء الحمير على الخيل.
فإن قيل: رواه أبو داود في "الجهاد" مسندا إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «أهديت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغلة فركبها.

(12/243)


قال: ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني؛ لأنه نوع بر في حقهم، وما نهينا عن ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال علي: "لو حملت الحمير على الخيل لكانت لنا مثل هذه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» .
قلت: قد صح ركوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البغلة بما ذكرنا من الأحاديث، فلو كان الإنزاء مكروها لم يركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يمتنع الناس عن إنزاء الحمير.
ومعنى قوله: يفعل ذلك الذين لا يعلمون أن الخيل قد جاء في ارتباطها الأجر ولم يرد مثل ذلك في البغال وكانت الخيل في بني هاشم قليلة، فأحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكثر فيهم. كذا ذكر الطحاوي في "شرح الآثار ".

[عيادة اليهودي والنصراني]
م: (قال: ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وهذه من الخواص قيد باليهودي والنصراني لأن في عيادة المجوسي اختلافا، قيل: لا بأس به لأنهم من أهل الذمة كاليهود والنصارى. ونص محمد في المجوسي على: أنه لا بأس بعيادته.
وقيل: لا يجوز لأن المجوسي أبعد عن الإسلام من اليهود والنصارى، ألا ترى أنه لا يباح ذبيحة المجوسي ولا نكاحهم بخلاف اليهود والنصارى.
وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: الإسلام شرط لجواز عيادة المريض. قال صاحب " الحلية ": والصواب عندي أن يقال: عيادة الكافر جائزة والقربة فيها موقوفة على أنواع حرمة يقترن بها من جواز أو قرابة انتهى.
واختلفوا في عيادة الفاسق أيضا، والأصح: أنه لا بأس به لأنه مسلم، والعيادة من حقوق المسلمين.
وفي " النوادر ": لو مات يهودي أو مجوسي جاز لجاره أو قريبه أن يعزيه ويقول: أخلف الله عيك خيرا منه وأصلحك، يعني أصلحك بالإسلام ورزقك ولدا مسلما.
فإن قلت: لم قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا بأس بعيادة اليهودي؟
قلت: إشارة إلى أن تركها أفضل. م: (لأنه نوع بر في حقهم) ش: أي لأن عيادتهم نوع إحسان في حقهم، وتذكير الضمير باعتبار المذكور، وإن العيادة مصدر فيستوي فيه التذكير والتأنيث.
م: (وما نهينا عن ذلك) ش: أعني البر في حقهم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] بيانه أن الله تعالى قال: أن تبروهم بالآية، فكان البر مشروعا، والعيادة والتواصل فتكون

(12/244)


وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: عاد يهوديا مرض بجواره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مشروعة: بخلاف الحربي فإنا نهينا عن بره بالآية التي بعدها.
م: (وقد صح أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عاد يهوديا مرض بجواره» ش: هذا أخرجه البخاري في صحيحه في الجنائز، عن حماد بن يزيد، عن ثابت عن أنس قال: «كان غلام يخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمرض، فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده فقعد عند رأسه فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: "أطع أبا القاسم " فأسلم فخرج وقد أعتقه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يقول: "الحمد لله الذي أعتقه من النار» .
ورواه الحاكم في "المستدرك " في الجنائز أيضا وزاد: «فلما مات قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا على صاحبكم» . وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووهم في ذلك. فقد رواه البخاري في الموضعين في الجنائز وفي الطب. ورواه أحمد في "مسنده " ولفظه: «كان غلام يهودي يخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع له وضوءه ويناوله بغلته وليس في ألفاظه أنه كان جاره» ولكن رواه ابن حبان في "صحيحه " بالإسناد المذكور: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاد جارا له يهوديا» انتهى.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " في كتاب "أهل الكتاب": أخبرنا ابن جريج، أخبرنا ابن عبد الله بن عمرو بن علقمة عن ابن أبي الحسين: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له جار يهودي، فمرض فعاده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه، فعرض عليه الشهادتين ثلاث مرات فقال له أبوه في الثالثة: افعل ما قال لك ففعل ثم مات. فأرادت اليهود أن تليه فقام له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكفنه وحنطه وصلى عليه» .
وروى محمد بن الحسن في كتاب "الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة يزيد عن أبيه قال: «كنا جلوسا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لنا: "قوموا بنا نعود جارنا اليهودي"، قال: فأتيناه. فقال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كيف أنت يا فلان؟ " وعرض عليه الشهادتين ثلاث مرات فقال أبوه في الثالثة: يا بني اشهد، فشهد. فقال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار» . ومن طريقه رواه ابن السني في كتاب " عمل اليوم والليلة ".

(12/245)


قال: ويكره أن يقول الرجل في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك وللمسألة عبارتان: هذه، ومقعد العز. ولا ريب في كراهية الثانية؛ لأنه من القعود، وكذا الأولى؛ لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث، والله تعالى بجميع صفاته قديم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج البيهقي في " شعب الإيمان ": أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف، حدثنا بشر بن محمد، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا يونس بن بكير، حدثني سعيد بن ميسرة القيسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سمعت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يقول: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عاد رجلا على غير الإسلام لم يجلس عنده، وقال: "كيف أنت يا يهودي؟ وكيف أنت يا نصراني؟ " بدينه الذي هو عليه» .

[يقول الرجل في دعائه أسألك بمعقد العز من عرشك]
م: (قال: ويكره أن يقول الرجل في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك) ش: أي قال في " الجامع الصغير ". قوله: معقد العز: أي موضع عقده.
م: (وللمسألة عبارتان) ش: أي للمسألة المذكورة لفظان: م: (هذه) ش: أي إحدى العبارتين هذه، وهي قوله: أسألك بمعقد العز من عرشك، بتقديم العين.
م: (ومقعد العز) ش: العبارة الثانية، وهي قوله: أسألك بمقعد العز من عرشك، بتقديم القاف على العين، من القعود.
م: (ولا ريب في كراهية الثانية؛ لأنه من القعود) ش: أي لا شك في كراهية العبارة الثانية، وهي قول: أسألك بمقعد العز من عرشك لأنه من القعود، وهو التمكن على العرش، وذلك قول المجسمة وهو باطل.
م: (وكذا الأولى) ش: أي: وكذا تكره العبارة الأولى وهي: أسألك بمقعد العز من عرشك بتقديم العين على القاف. م: (لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث) ش: أي العرش محدث، م: (والله تعالى بجميع صفاته قديم) .
ش: فإذا علق عزه القديم بالعرش الحادث يتوهم أن عزه حادث لتعلقه بالحادث.

(12/246)


وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا بأس به، وبه أخذ الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه مأثور عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - روي أنه كان من دعائه: «اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا بأس به) ش: أي بالقول الأول وهو أسألك بمعقد العز، بتقديم العين على القاف. م: (وبه أخذ الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي: وبما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -. نص عليه في " شرح الجامع الصغير ".
م: (لأنه مأثور عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي: لأن القول الأول أجابه الأثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أشار إليه بقوله: م: (روي أنه «كان من دعائه: "اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة» ش: وفي بعض النسخ: "من دعائه" موضع "في دعاء" كل المتقدمين اسم كان هو قوله اللهم، وقوله: "في دعائه" أو "من دعائه" هو الخبر ثم الأثر المذكور.
ورواه البيهقي في كتاب " الدعوات الكبير ": وأخبرنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا أبو عثمان البصري، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا عامر بن خداش - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا عمر بن هارون البلخي، عن ابن جريج عن داود، عن ابن أبي عاصم، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اثنتا عشرة ركعة تصليهن من ليل أو نهار وتتشهد" بين كل ركعتين، فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل، وصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات ثم قال: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وكلماتك التامة، ثم اسل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينا وشمالا، ولا تعلمها السفهاء فإنهم يدعون بها فيستجاب» .
ورواه ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الموضوعات " من طريق أبي عبد الله الحاكم، حدثنا محمد بن القاسم بن عبد الرحمن العتكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا محمد بن أشرس، حدثنا عامر بن خداش به مسندا ومتنا.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده مخبط كما ترى.
وفي إسناده عمر بن هارون قال ابن معين فيه: كذاب.
وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات، ويدعي شيوخا لم يرهم، وقد صح «عن

(12/247)


ولكنا نقول: هذا خبر الواحد فكان الاحتياط في الامتناع. ويكره أن يقول في دعائه: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عن القراءة في السجود» . انتهى.
وعزاه السروجي " للحلية " وليس فيها، والعجب العجائب من " شراح الهداية "، وهم أئمة أجلاء كيف يغضون أبصارهم ويمرون في مثل هذه المواضع والبعدى لشرح كلام الناس لا يكون كذلك.
أما الأترازي الذي له دعوى عريضة في الباب فلم يتعرض قط لهذا ولا ذكر اسم الصحابي الذي رواه، بل قال: لأنه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يدعو بذلك، وهذا لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يدعو بذلك لا بسند صحيح ولا بسند ضعيف.
وأما الكاكي وتاج الشريعة -رحمهما الله- والسغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنهم قالوا: روي عن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اثنتي عشرة ركعة من صلاها في ليل أو نهار قصر في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة وتشهد في كل ركعتين وسلم ثم سجد بعد التشهد من الركعتين الأخيرتين قبل السلام يقرأ فاتحة الكتاب سبع مرات وآية الكرسي سبع مرات ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات ثم يقول: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى، وكلماتك التامة أن تقضي حاجتي، فإن الله يقضي حاجته". ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تعلموها السفهاء، لأنها دعوة مستجابة» ولكن الذي ذكره تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير ما ذكره حيث قال: روي عن ابن مسعود أنه قال: «اثنتا عشرة ركعة من صلاها في ليل أو نهار وقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب سبع مرات وآية الكرسي سبع مرات، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات ثم يقول إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك واسمك الأعظم، وجدك الأعلى وكلماتك التامة أن تقضي حاجتي، فإن الله عز وجل يقضي حاجته".
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تعلموها السفهاء فإنها دعوة مستجابة» .
وأما صاحب " العناية " فلم يذكر المسألة رأسا فضلا عن بيان حال الحديث.
م: (ولكنا نقول: هذا خبر الواحد فكان الاحتياط في الامتناع) ش: أراد أن الاحتياط واجب في هذا لما فيه من الإبهام، فتعلق عزه بالعرش بما ذكرنا، ولا يلزم الحكم في مثل هذا بالخبر الواحد، وكذا نص عليه في " جامع قاضي خان " والمحبوبي والتمرتاشي.
م: (ويكره أن يقول في دعائه: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على

(12/248)


الخالق. قال: ويكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل لهو؛ لأنه إن قامر بها، فالميسر حرام بالنص وهو اسم لكل قمار، وإن لم يقامر بها، فهو عبث ولهو، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لهو المؤمن باطل إلا الثلاث: تأديبه لفرسه، ومناضلته عن قوسه، وملاعبته مع أهله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخالق) ش: وكذا الحق والمشعر الحرام هذا مما توهم أن على الله حقا للمخلوقين، وإن كانت عادة الناس جرت بذلك.
وفي " الكافي ": ولو قال رجل لغيره بحق الله أو بالله أن تفعل كذا لا يجب على ذلك الغير أن يفعل ذلك شرعا، وإن كان الأولى أن يأتي به.

[اللعب بالشطرنج والنرد]
م: (قال: ويكره اللعب بالشطرنج والنرد) ش: أي قال في " الجامع الصغير " والشطرنج بكسر الشين. وقد يقال بكسر الشين المهملة.
وفي " العباب ": ولا يقال بالفتح وهو من الشطار أو من الشطر لأنه يعبأ ويشطر.
والنرد، قال ابن دريد: هو فارسي معرب، ويقال له: النردشير، كما جاء في الحديث على ما نبين إن شاء الله سبحانه وتعالى.
م: (والأربعة عشر) ش: قيل: هو شيء يستعمله اليهود، ويجوز أن يراد به اللعب الذي يلعبه عوام الناس، وهو قطعة لوح يخط عليه أربعة عشر خطا في العرض وثلاثة خطوط في الطول، فيصير جملة العيون سبعين عينا، ويرد في كل طوفة خمس عشرة حصاة بالجملة ثلاثون حصاة، والقوم الذين يلعبون به فرقتان: كل فرقة من ناحية متقابلين، ويسمون هذا طابا، وربما يسمى طاب ودك.
م: (وكل لهو) ش: أي ويكره كل اللعب بكل اللهو، وهذا يعم سائر أنواع اللعب والملاهي ما خلا الأشياء الثلاثة التي استثناها في الحديث على ما يأتي.
م: (لأنه) ش: أي لأن اللعب م: (إن قامر بها) ش: أي بهذه الأشياء المذكورة م: (فالميسر حرام بالنص) ش: وهو قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] والذي فيه الإثم يكون حراما م: (وهو اسم لكل قمار) ش: الميسر اسم لكل قمار م: (وإن لم يقامر بها، فهو عبث ولهو) ش: أي وإن لم يقامر بهذه الأشياء فهو عبث واشتغال بما لا يفيد وهو لهو، واللهو باطل بالحديث، أشار إليه بقوله: م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لهو المؤمن باطل إلا الثلاث: تأديبه لفرسه، ومناضلته عن قوسه، وملاعبته مع أهله» ش: هذا الحديث رواه أربعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -:

(12/249)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في "معجمه الأوسط "، من حديث المنذر بن زياد الطائي، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل لهو يكره، إلا ملاعبة الرجل زوجته، ومشيته بين الهدفين، وتعليمه فرسه» .
ورواه ابن حبان في كتاب "الضعفاء "، وأعله بالمنذر وقال: إنه يقلب الأسانيد وينفرد بالمناكير عن المشاهير. لا يحتج به إذا انفرد.
الثاني: عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه الأربعة: أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر، والترمذي وابن ماجه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام عن عبد الله بن الأزرق، عن عقبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ليس من اللهو ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعدما علمه فإنها نعمة تركها" أو قال "كفرها» . ورواه أحمد في "مسنده " بالسندين المذكورين، وكذلك الطبراني في "معجمه ".
الثالث: جابر بن عبد الله أخرج حديثه النسائي في عشرة النساء من ثلاث طرق دائرة على عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاريين يرميان فمل أحدهما فقال الآخر: أكسلت قال: نعم. فقال أحدهما للآخر: أما سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب» وفي لفظ: «فهو سهو ولهو إلا أربعة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديب الرجل فرسه ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة» .
ورواه إسحاق بن راهويه في "مسنده ": حدثنا محمد بن سلمة الجزري عن أبي عبد الرحمن خالد بن أبي يزيد، عن عبد الوهاب بن بخت المكي، عن عطاء بن أبي رباح به.
ومن طريق إسحاق رواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "معجمه "، وكذلك رواه البزار في "

(12/250)


وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام، وهو محكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسنده "، وجعله من مسند جابر بن عمير، وكذلك ابن عساكر.
الرابع: أبو هريرة، أخرج حديثه الحاكم في "مستدركه " في الجهاد عن سويد بن عبد العزيز - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة انتضالك بقوسك، وتأديبك فرسك وملاعبتك أهلك، فإنهن من الحق» .
وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. وتعقبه الذهبي في "مختصره ".
وقال: سويد بن عبد العزيز متروك.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب " العلل ": سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه سويد بن عبد العزيز، عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال، فذكره.
فقالا: هذا خطأ وهم فيه سويد، وإنما هو عن ابن عجلان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين قال: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال، فذكره هكذا.
رواه الليث وحاتم بن إسماعيل وجماعة وهو الصحيح مرسلا.
قال أبي: ورواه ابن عيينة، ابن أبي حسين، عن رجل، عن أبي الشعثاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أيضا مرسل. قال: والمناضلة وهي المراماة بالنبل.
م: (وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام) ش: أي لما في اللعب بالشطرنج من تشحيذ الخواطر وهو من شحذت السكين، شحذه شحذا، أي حده. والشحيذ: المسن، ومادته: الشين معجمة وحاء مهملة وذال معجمة، ومن فعل يفعل بالفتح فيهما.
م: (وهو محكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي القول المذكور محكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال سهل بن محمد الصعلوكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يباح إذا أسلمت اليد من الخسران، والصلاة من النسيان، واللسان من الهذيان، فهو إذن بين الحلال.

(12/251)


ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الحلية ": ويكره اللعب بالشطرنج ولا يحرم إذا لم يكن على عوض: ولم يترك به فرض صلاة ويتكلم سحق.
وهو معنى قول الصعلوكي، ولو أكثر به ردت شهادته. وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وكذا لو لعب به على الطريق ومع الأوباش يحرم، أما لو لعب به مع الأمناء ففيه تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام من غير إدمان لا يحرم.
وفي " المجتبى ": قول الشافعي رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير» ش: هذا الحديث في مسلم، ولكن ليس فيه ذكر الشطرنج، أخرجه عن سليمان بن بريدة، عن أبيه بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لعب بالنردشير فكأنما أصبغ يده في لحم خنزير ودمه» .
وأخرج العقيلي في " الضعفاء "، عن مطهر بن الهيثم، حدثنا شبل المصري عن عبد الرحمن بن معمر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: "ما هذه الكوبة ألم أنه عنها، لعن الله من يلعب بها» .
وأعله بمظهر بن الهيثم، وقال: لا يصح حديثه.
قال: وشبل وعبد الرحمن مجهولان.
وذكره ابن حبان في كتاب " الضعفاء " وأعله بمظهر وقال: إنه منكر الحديث، يروي عن الثقات ما ليس بحديث الأثبات.
وروى ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الضعفاء ": عن محمد بن الحجاج، حدثنا حزام بن يحيى، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة لا ينظر فيها إلى صاحب الشاه» يعني الشطرنج.
ثم قال: ومحمد بن الحجاج أبو عبد الله المصغر: منكر الحديث جدا، لا تحل الرواية عنه.
ورواه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " من طريق الدارقطني، عن ابن حبان بسنده المذكور، ثم قال: ومحمد بن الحجاج يقال له: أبو عبد الله المصغر.

(12/252)


ولأنه نوع لعب يصد عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فيكون حراما؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر» . ثم إن قامر به تسقط عدالته، وإن لم يقامر لا تسقط؛ لأنه متأول فيه، وكره أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- التسليم عليهم تحذيرا لهم، ولم ير أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - به بأسا ليشغلهم عما هم فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الإمام أحمد: تركت حديثه.
وقال يحيى: ليس بثقة.
وقال مسلم والنسائي والدارقطني: متروك.
وروى ابن موسى محمد بن أبي بكر المدني في كتاب " الأمالي في أسامي الرجال " بإسناده إلى حية بن مسلم - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ملعون من لعب بالشطرنج والناظر إليها كالآكل لحم الخنزير» .
قلت: أحسن ما يستدل به على تحريمه أنه لهو وأنه خارج عن الثلاث التي ذكرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن اللعب بالشطرنج م: (نوع لعب يصد) ش: أي يمنع، م: (عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فيكون حراما؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر» ش: هذا الحديث غير مرفوع على ما رواه أحمد في كتاب الزهد، من قول القاسم بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: حدثنا ابن نمير، حدثنا حفص عن عبيد الله عن القاسم بن محمد قال: «كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر» .
ورواه البيهقي في " شعب الإيمان ": أخبرنا أبو الحصين بن بشران، أخبرنا ابن صفوان، حدثنا عبد الله بن أبي الدنيا، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا أبو معاوية عن عبد الله بن عمر أنه قال للقاسم بن محمد: هذه النرد تكرهونها فما بال الشطرنج؟
قال: «كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر» ، انتهى. أي قمار، والقمار حرام. م: (ثم إن قامر به تسقط عدالته) ش: ولا تقبل شهادته م: (وإن لم يقامر لا تسقط) ش: أي عدالته وتقبل شهادته.
م: (لأنه متأول فيه، وكره أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- التسليم عليهم) ش: أي على اللاعبين بالشطرنج م: (تحذيرا لهم) ش: أي لأجل تحذيرهم عما هم فيه.
م: (ولم ير أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - به بأسا ليشغلهم عما هم فيه) ش: أي لم ير أبو حنيفة بأسا بالسلام عليهم حتى يشغلهم عما هم فيه.

(12/253)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: كره أبو يوسف ذلك إهانة لهم.
وأورد الفقيه أبو الليث في " شرح الصغير " سؤالا وجوابا:
فإن قيل: إذا لعب بالشطرنج، يريد بذلك تعلم الحرب. قيل له: يكون وزره أشد لأنه اتخذ آيات الله هزوا يرتكب المعصية، ويظهر في نفسه أنه يريد الطاعة.
ثم اعلم أن المسابقة في الخيل والإبل والرمي جائز بالسنة وإجماع الأمة. فإن شرط المال من جانب واحد بأن يقول أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي، وحكي عن مالك: لا يجوز لأنه قمار.
وإن كان اشتراط العرض من الإمام يجوز بالإجماع لأن هذا مما يحتاج إليه، لأنه حث على الجهاد. وحرم لو شرط المال من الجانبين بالإجماع، إلا إذا أدخلا ثالثا بينهما، وقال للثالث إن سبقتنا فمالك، وإن سبقناك فلا شيء لك، هو فيما بينهما أيهما سبق أخذ الجعل عن صاحبه.
وسأل أشهب مالك عن المحلل؟ [فقال:] لا أحبه.
ولنا ما رواه أبو هريرة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق، فليس قمارا. وإن أمن أن يسبق فهو قمار» رواه أبو داود.
فلهذا يشترط أن يكون فرس المحلل أو بغيره مكافئا لفرسهما أو بغيرهما، وإن لم يكن مكافئا بأن كان أحدهما أبطأ: فهو قمار.
قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أدخل الثالث أن يكون حيلة، إذا توهم سبقه، كذا في " التتمة ". ويشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة، وكذا في المناضلة بالرمي. والمسابقة بالأقدام تجوز إذا كان المال مشروطا من جانب واحد.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وقال في المنصوص: لا يجوز.
وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- إذا كان يجعل لما روى أبو هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» .
رواه أبو داود: فبقي السبق في الأقدام من غير الثلاثة.

(12/254)


قال: ولا بأس بقبول هدية العبد التاجر وإجابة دعوته واستعارة دابته، وتكره كسوته الثوب وهديته الدراهم والدنانير، وهذا استحسان، وفي القياس: كل ذلك باطل؛ لأنه تبرع، والعبد ليس من أهله وجه الاستحسان أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل هدية سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وصارع ركانة» . وراوي الحديث أبو هريرة: أنه لا حاجة في المسابقة في الجهاد إلا في هذه الثلاثة.
وقال مالك وأحمد -رحمهما الله-: ممكن أن يكون المراد نفي الجعل، ولا يجوز المسابقة في البغال والحمير.
وبه قال الشافعي في قول وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إذا كان يجعل.
وقال الشافعي في قول: يجوز.
وفي " الذخيرة " و" التتمة ": إذا قال واحد منهم لآخر إن كان الجواب كما قلت أعطيتك كذا، وإن كان الجواب كما قلت فلا آخذ منك شيئا يجوز.
والقياس: كله باطل ويجوز استحسانا لما فيه حيث معنى يرجع إلى الجهاد، وكذا في " التتمة " حث على الجهد في التعلم.

[قبول هدية العبد التاجر]
م: (قال: ولا بأس بقبول هدية العبد التاجر) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، وأراد به الهدية اليسيرة. م: (وإجابة دعوته) ش: أي ضيافته، فأراد به البشيرة.
ولم يقدر محمد مقدار ما يتخذ من الضيافة. وروي عن محمد بن سلمة أنه قال: على قدر مال تجارته، فإن كان مال تجارته مثل عشرة آلاف درهم فاتخذ مقدار ضيافة عشرة دراهم كان يسيرا. وإن كان مال تجارته عشرة دراهم كان دانق كثيرا. وقد مر الكلام فيه في كتاب " المأذون ".
م: (واستعارة دابته) ش: أي دابة العبد التاجر للعرف والعادة.
م: (وتكره كسوته الثوب) ش: أي تمليكه م: (وهديته الدراهم والدنانير) ش: لعدم الضرورة في ذلك م: (وهذا استحسان. وفي القياس: كل ذلك باطل) ش: وبه قالت الثلاثة، إلا أن أحمد يجوز دعوته فقط. م: (لأنه تبرع) ش: أي لأن المذكور في هذه الأشياء تبرع، م: (والعبد ليس من أهله) ش: لعدم ملكه.
م: (وجه الاستحسان: «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل هدية سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

(12/255)


حين كان عبداً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حين كان عبدا» ش: حديث سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. رواه ثلاثة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -:
الأول: من نفس سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وله طرق:
منها: ما أخرجه ابن حبان في "صحيحه " عن عبد الله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي قرة الكندي «عن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: كان أبي من الأساورة وكنت أختلف إلى الكتاب، وكان معي غلامان إذا رجعا من الكتاب دخلا على قس فأدخل معهما، فلم أزل أختلف إليه معهما حتى صرت أحب إليه منهما وكان يقول لي: يا سلمان إذا سألك أهلك: من حبسك؟ فقل: معلمي. وإذا سألك معلمك: من حبسك؟ فقل: أهلي.
فلم يلبث أن حضرته الوفاة، فلما مات واجتمع إليه الرهبان والقسيسون فسألت فقلت: يا معشر القسيسين، دلوني على عالم أكون معه، قالوا: ما نعلم في الأرض أعلم من رجل كان يأتي بيت المقدس وإن انطلقت الآن وجدت حماره على باب بيت المقدس. قال: فانطلقت فإذا أنا بحمار، فجلست عنده حتى خرج فقصصت عليه القصة فقال: اجلس حتى أرجع إليك.
قال: فلم أره إلى الحول، وكان لا يأتي بيت المقدس في السنة إلا مرة في ذلك الشهر. فلما جاء قلت له: ما صنعت في أمري؟ قال: أنت إلى الآن هاهنا بعد؟ قلت: نعم. قال: والله لا أعلم اليوم أحدا أعلم من يتم خرج من أرض تهامة وإن انطلقت الآن توافيه، وفيه ثلاثة أشياء: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وعند غروة كتفه اليمنى خاتم النبوة مثل البيضة، لونه لون جلده.
قال: فانطلقت ترفعني أرض وتخفضي أخرى حتى أصابني قوم من الأعداء فأخذوني فباعوني حتى وقعت بالمدينة فسمعتهم يذكرون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان الطعام عزيزا. فسألت قومي أن يهبوني يوما، ففعلوا فانطلقت فاحتطبت فبعته بشيء يسير ثم صنعته طعاما واحتملته حتى جئت به فوضعته بين يديه. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما هذا؟ " فقلت: صدقة. فقال لأصحابه: "كلوا" وأبى هو أن يأكله. فقلت في نفسي: هذه واحدة.
ثم مكثت ما شاء الله، ثم استوهبت قومي يوما آخر ففعلوا. فانطلقت، فاحتطبت، فبعته بأفضل من ذلك، فصنعت طعاما وأتيته به فقال: "ما هذا؟ ". فقلت: هدية. فقال بيده "باسم الله، كلوا" فأكل وأكلوا معه. وقمت إلى خلفه، فوضع رداءه على كتفه، فإذا خاتم النبوة كأنه بيضة قلت: أشهد أنك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(12/256)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: " وما ذاك؟ " فحدثته حديثي، ثم قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القس الذي أخبرني أنك نبي يدخل الجنة؟ قال: " لن تدخل الجنة إلا نفس مسلمة ". فقلت: إنه زعم أنك نبي. قال: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» .
ومنها طريق آخر: أخرجه الحاكم في " المستدرك " في كتاب الفضائل عن علي بن عاصم، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن سماك بن حرب «عن زيد بن صوجان أنه سأل سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كيف كان بدء إسلامك؟ فقال سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كنت يتيما من رامهرمز فذكره مطولا - إلى أن قال: فقال لي: - يعني الراهب الذي لازمه سلمان -: يا سلمان إن الله عز وجل باعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهامة، علامته: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم، وهذا زمانه فقد تقارب.
قال: فخرجت في طلبه، فكلما سألت عنه قالوا إلى أمامك، حتى لقيني ركب من كلب فأخذوني فأتوا بي بلادهم فباعوني لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها وقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذت شيئا من تمر حائطي فجعلته على شيء وأتيته به، فوضعته بين يديه، وحوله أصحابه وأقربهم إليه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: " ما هذا " قلت: صدقة. قال للقوم: " كلوا " ولم يأكل.
ثم لبثت ما شاء الله وذهبت وصنعت مثل ذلك، فلما وضعته بين يديه فقال: " ما هذا؟ ". قلت: هدية، قال: " بسم الله " فأكل وأكل القوم.
ودرت خلفه ففطن لي فألقى ثوبه فرأيت الخاتم في ناحية كتفه الأيسر ثم درت فجلست بين يديه وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال: " من أنت؟ " قلت: مملوك. قال: " لمن؟ " قلت: لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها، فسألني فحدثته بجميع حديثي. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر. " يا أبا بكر اشتره " واشتراني أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأعتقني» . مختصرا.
وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه.
قال الذهبي في " مختصره ": بل مجمع على ضعفه، ثم أخرجه الحاكم عن عبد الله بن

(12/257)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبد القدوس عن عبيد المكتب، حدثني أبو الطفيل، حدثني سلمان فذكره بزيادات ونقص. وقال: صحيح الإسناد. وقال الذهبي: وابن عبد القدوس ساقط.
ومنها: طريق أخرجه أبو نعيم في " دلائل النبوة "، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا القاسم بن فورك، حدثنا عبد الله ابن أخي زياد، حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا موسى بن سعيد الراسبي أبو معاذ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن «عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: ولدت برامهرمز ونشأت بها وكان أبي من أهل أصبهان، وكان لأمي غناء وعيش قال: فأسلمتني إلى الكتاب فكنت أنطلق إليه كل يوم مع غلمان فارس وكان في طريقنا جبل فيه كهف فمررت يوما وحدي. فإذا أنا فيه برجل طوال عليه ثيابه شعر، فأشار إلي فدنوت منه، فقال لي: أتعرف المسيح عيسى بن مريم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؟. فقلت له: لا ولا سمعت به. فقال: هو روح الله من آمن به أخرجه الله من غم الدنيا إلى نعيم الآخرة وقرأ علي شيئا من الإنجيل. قال: فعلقه قلبي، ودخلت حلاوة الإنجيل في صدري، وفارقت أصحابي، وجعلت كلما ذهبت ورجعت قعدت نحوه. إلى أن قال: فخرجت إلى القدس، فلما دخلت بيت المقدس، إذا أنا برجل في زاوية من زواياه عليه مسوح. قال: فجلست له: وقلت له: أتعرف فلانا الذي كان بمدينة فارس، فقال لي: نعم أعرفه، وأنا أنتظر نبي الرحمة الذي وصفه لي. قلت: كيف وصفه لك؟. فقال: وصفه لي فقال له: إن نبي الرحمة يقال له محمد بن عبد الله، يخرج من جبال تهامة. يركب الحمار والبغلة، الرحمة في قلبه وجوارحه، يكون الحر والعبد عنده سواء، ليس للدنيا عنده مكان، بين كتفيه خاتم النبوة كبيضة الحمامة، مكتوب في باطنه: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهره: توجه حيث شئت فإنك منصور، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، ليس بحقود ولا حسود، ولا يظلم مؤمنا ولا كافرا. فمن صدقه ونصره كان يوم القيامة معه من الأمر الذي يعطاه.
قال سلمان: فقمت من عنده وقلت: لعلي أقدر على هذا الرجل. فخرجت من بيت المقدس غير بعيد، فمر بي أعراب من كلب فاحتملوني إلى يثرب وسموني ميسرة. قال: فباعوني لامرأة يقال لها: حليسة بنت فلان حليف بني النجار، بثلاثمائة درهم وقالت لي: سق هذا الجوص واسع علينا فيه.
قال: فمكثت على ذلك ستة عشر شهرا حتى قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فسمعت به وأنا في أقصى المدينة ألتقط الخلال.
فجئت إليه أسعى حتى دخلت إليه في بيت أبي أيوب الأنصاري فوضعت بين يديه شيئا

(12/258)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الخلال فقال لي: " ما هذا؟ ". قلت: صدقة قال: " إنا لا نأكل الصدقة " فرفعته من بين يديه.
ثم تناولت من إزاري شيئا آخر، فوضعته بين يديه، فقال: " ما هذا؟ " قلت: هدية، فأكل منها وأطعم من حوله.
ثم نظر إلي فقال لي: " أحر أنت أم مملوك؟ ". فقلت: مملوك. فقال: " لم وصلتني بهذه الهدية؟ ". قلت: كان لي صاحب من أمره كيت وكيت، وذكرت له قصتي كلها.
فقال لي: " إن صاحبك كان من الذين قال الله في حقهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ} [القصص: 53] الآية.
قال لي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل رأيت فيما قال لك؟ ". قلت: نعم، إلا شيئا بين كتفيك. قال: فألقى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رداءه عن كتفيه، فرأيت الخاتم مثلما قاله فقبلته ثم قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم قال لعلي بن أبي طالب: " يا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اذهب مع سلمان إلى حليسة فقل لها: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لك: إما أن تبيعي هذا وإما أن تعتقيه فقد حرمت عليك خدمته ".
فقلت: يا رسول الله إنها لم تسلم. فقال: " يا سلمان إنك لم تدر ما حدث بعدك عليها، دخل عليها ابن عم لها يعرض عليها الإسلام، فأسلمت ".
قال سلمان: فانطلقنا إليها أنا وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فرأيناها تذكر محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخبرها علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت له: اذهب فقل له: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن شئت فأعتقته وإن شئت فهو لك. قال: فأعتقني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصرت أغدو إليه وأروح» . مختصرا. ثم رواه من طريق آخرى مرسلة فقال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: «أن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كان قد خالط أناسا من أصحاب دانيال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بأرض فارس قبل الإسلام فسمع بذكر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصفته منهم فإذا في حديثهم: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة. فأراد أن يلحق به فسجنه أبوه ما شاء الله، ثم هلك أبوه ثم خرج إلى الشام، فكان هناك في كنيسة. ثم خرج يلتمس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذه أهل تيماء فاسترقوه ثم خرج، ثم قدموا به إلى

(12/259)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المدينة، فباعوه ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة لم يهاجر إلى المدينة.
فلما قدم المدينة أتاه سلمان بشيء فقال " ما هذا يا سلمان؟ ". قال: صدقة فلم يأكل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم جاء من الغد بشيء آخر فقال: " ما هذا يا سلمان؟ ". قال: هدية، فأكل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منه، ونظر سلمان إلى خاتم النبوة بين كتفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكب وقبله ثم أسلم.
ثم أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه عبد مملوك فقال له: كاتبهم يا سلمان، فكاتبهم سلمان على مائتين ودية، فرماه الأنصار من ودية ووديتين حتى أوفاهم» وهذا مرسل.
الثاني بريدة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
أخرج حديث الحاكم في " المستدرك " في كتاب " البيوع "، عن زيد بن الحباب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أخبرنا حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه: «أن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لما قدم المدينة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمائدة عليها رطب فقال له: " ما هذا يا سلمان؟ " قال: صدقة أتصدق بها عليك وعلى أصحابك. قال: " إنا لا نأكل الصدقة ".
حتى إذا كان من الغد جاء بمثلها فوضعها بين يديه وقال: " يا سلمان ما هذا؟ ". فقال: هدية. قال: " كلوا "، وأكل، ونظر إلى خاتم النبوة في ظهره ثم قال له: إنه ملك لقوم قال فاطلب إليهم أن يكاتبوك على كذا وكذا نخلة أغرسها لهم وتقوم عليها أنت حتى تطعم. قال: ففعلوا.
فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغرس النخل كلها بيده وغرس عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - منها نخلة فأطعمت كلها في السنة إلا تلك النخلة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من غرس هذه؟ " فقالوا: عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فغرسها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده فحملت من سنتها» انتهى.
ورواه إسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي والبزار في " مسانيدهم ". قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال البزار: لا نعلمه يروى إلا عن بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ورواه الطبراني في " معجمه ".
الثالث: ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الحاكم أيضا من طريق ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: حدثني «سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، وكان أبي

(12/260)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دهقان قريته وكنت أحب الخلق إليه، وكنت أجتهد في المجوسية، أوقد النار لا أتركها تخمد أبدا اجتهادا في ديني.
فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له في بعض عمله، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم وهم يصلون فدخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون، فأعجبني ما رأيت من دينهم، ورغبت عن ديني.
فلما رجعت إلى أبي أخبرته الخبر فأخافني وجعل في رجلي قيدا وحبسني في بيتي أياما، ثم أخبرت بقوم من النصارى خرجوا تجارا إلى الشام، قال فألقيت القيد من رجلي وخرجت معهم حتى قدمت الشام فسألت عن الأسقف من النصارى، فدلوني عليه في كنسية فجئت إليه وخدمته ولازمته وكنت أصلي معه. فلم يلبث أن مات وكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة، فإذا جمعوا له شيئا أخذه لنفسه ولم يعط المساكين شيئا. فلما جاءوا ليدفنوه أخبرتهم بخبره ودللتهم على موضع كنزه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وفضة، فصلبوه ورجموه بالحجارة.
ثم جاءوا بآخر فوضعوه مكانه، فما رأيت أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة ولا أدوم في العبادة ليلا ونهارا منه. فلم يلبث أن حضرته الوفاة، فسألته فأوصى بي إلى رجل بنصيبين فلحقت به فلزمته، فوجدته على أمر صاحبه فلم يلبث أن حضرته الوفاة، فسألته فأوصى بي إلى رجل في عمورية من أرض الروم.
فلحقت به فوجدته على هدي أصحابه، فلم يلبث أن حضرته الوفاة، فسألته فقال: والله يا بني ما أعلم أصبح اليوم على أمرنا أحد من الناس ولكنه قد أظللك زمان نبي بأرض العرب يبعث بدين إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم مات ودفن، فمكثت بعمورية ما شاء الله ثم مر بي قوم تجار، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقري وغنمي، فقد اكتسبت بقرا وغنما. فقالوا: نعم.
فأعطيتهم وحملوني حتى إذا قدموا بي على وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي، فكنت عنده ما شاء الله، إذ قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، وحملني إلى المدينة فأقمت بها وبعث الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة، فأقمت بها ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، حتى قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فذهبت إليه، فدخلت عليه فقلت له: بلغني أنك رجل صالح وأصحابك غر حاجة ومعي شيء عندي للصدقة رأيتك

(12/261)


وقبل هدية بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وكانت مكاتبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحق به ثم قربته إليه فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: " كلوا " وأمسك يده ولم يأكل. فقلت في نفسي: هذه واحدة ومضيت. ثم جئته من الغد ومعي شيء آخر، فقلت له: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمك بها فأكل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر أصحابه، فأكلوا. قال: قلت في نفسي: هاتان ثنتان.
قال: ثم جئت يوما وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصفه لي صاحبي. فعرف الذي أريد فألقى رداءه على ظهره فنظرت الخاتم بين كتفيه فقبلته ثم تحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه حديثي، فأعجبني أن يسمعه أصحابه، ثم قال لي: " يا سلمان كاتب عن نفسك "، فقال: فكاتبت هؤلاء عن نفسي بثلاثمائة نخل وأربعين أوقية ورجعت إليه فأخبرته فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: " أعينوا أخاكم " فجعل الرجل يعينني بثلاثين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل بعشر، والرجل بقدر ما عنده حتى جمعوا إلي ثلاثمائة ودية. فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معي، فجعلت أقرب له الودي وهو يغرسه بيده.
قال: وبقي علي المال. قال: فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل بيضة الدجاجة من الذهب. وقال لي يا سلمان خذ هذه فأدها بما عليك، فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأين تقع هذه مما علي؟، قال: خذها فإنها ستؤدي عنك، قال سلمان: فوالذي نفس سلمان بيده لقد وزنت لهم منها بيدي أربعين أوقية وأوفيتهم حقهم. وعتق سلمان.
وشهدت الخندق حرا ثم لم يفتني مشهد» مختصرا من كلام طويل.
ورواه أبو نعيم في " دلائل النبوة " وابن سعد في " الطبقات " في ترجمة سلمان. ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الأموال "، مختصرا بالإسناد المذكور عن سلمان قال: «أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطعام وأنا مملوك، فقلت له: هذه صدقة، فأمر أصحابه أن يأكلوا ولم يأكل. ثم أتيته بطعام آخر فقلت: هذا هدية أهديه لك أكرمك به، فإني لا أراك تأكل الصدقة فأمر أصحابه أن يأكلوا وأكل معهم» والله سبحانه وتعالى أعلم.

م: (وقبل هدية بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وكانت مكاتبة) ش: هذا الحديث في الكتب الستة: عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «كان في بريرة ثلاث سنن، أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا ولاءها فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " اشتريها ثم أعتقيها فإن الولاء لمن أعتق "

(12/262)


وأجاب رهط من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دعوة مولى أبي أسيد وكان عبدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعتقت فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من زوجها، فاختارت نفسها، وكان الناس يتصدقون عليها وتهدي لنا، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " هو عليها صدقة، ولنا هدية» . أخرجه البخاري في النكاح والطلاق. ومسلم في العتق. وأبو داود في الطلاق، والنسائي فيه وفي العتق، أربعتهم عن القاسم عن عائشة. والترمذي في الرضاع، وابن ماجه في الطلاق. عن الأسود، عن عائشة وألفاظها متقاربة.
وأخرجا نحوه عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه مسلم في الزكاة وليس في شيء من طرق الحديث: أن الهدية وقعت حين كانت مكاتبة. ولكن روى عبد الرزاق في " مصنفه " في الطلاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع عروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: «جاءت وليدة لبني هلال يقال لها: بريرة فسألت عائشة في كتابتها، فسامت عائشة بها أهلها، فقالوا: لا نبيعها إلا ولنا ولاؤها، فتركتها.
فقالت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يقبلون بيعها إلا ولهم الولاء. قال: " لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق "، فابتاعتها عائشة وأعتقتها، وخيرت بريرة فاختارت نفسها، وقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاة فأهدت لعائشة منها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل عندكم من طعام؟ " قالت: لا، إلا من الشاة التي أعطيت بريرة. ثم نظر ساعة ثم قال: " قد وقعت موقعها هي عليها صدقة ولنا هدية " فأكل منها. قال: وزعم عروة أنها ابتاعتها مكاتبة على ثمانية أواق ولم تعط من كتابتها شيئا.» ورواه البزار في " مسنده " كذلك. وروى عبد الرزاق في المكاتب: أخبرنا ابن جريج عن أبي الزبير، عن عروة: أن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ابتاعت بريرة مكاتبة على ثمان أواق لم تعط من كتابتها شيئا» .

م: (وأجاب رهط من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دعوة مولى أبي أسيد وكان عبدا) ش: أبو أسيد اسمه أسيد بن ربيعة الساعدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصحابي، ذكره ابن أكول - بضم الهمزة وفتح السين -. ثم قال: ذكر أحمد بن حنبل عن أبي مهدي، عن سفيان عن أبي الزناد عن أبي سلمة، عن أبي أسيد الساعدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني بفتح الهمزة وكسر السين -.
وقال أبو عبد الله: قال عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووكيع - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأبو أسيد، - يعني بضم الهمزة وكسر السين -، وهو الصواب. ومولاه اسمه: أسد بن علي بن عبيدة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: هو أبوه، والأكثر أنه مولاه وهو -بفتح الهمزة وكسر السين - وقيد فيه بالضم. وذكر " شرح الجامع الصغير " عنه أنه قال: «أعرست وأنا عبد، فدعوت رهطا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيهم أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فأجابوني» .

(12/263)


ولأن في هذه الأشياء ضرورة لا يجد التاجر بدا منها، ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته، ولا ضرورة في الكسوة وإهداء الدراهم فبقي على أصل القياس.
قال: ومن كان في يده لقيط لا أب له، فإنه يجوز قبضه الهبة، والصدقة له وأصل هذا التصرف أن التصرف على الصغار أنواع ثلاثة. نوع هو من باب الولاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو استدل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك بالحديث المرفوع لكان أولى وأجدر. وهو ما أخرجه الترمذي في الجنائز، وابن ماجه في الزهد: عن مسلم الأعور عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار. ولقد كان يوم خيبر ويوم قريظة على حمار خطامه حبل من ليف، وتحته أكان من ليف» .
وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا نعرفه إلا من حديث مسلم بن كيسان: الأعور، وهو ضعيف. وأخرجه الحاكم في " المستدرك في الأطعمة " وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
م: (ولأن في هذه الأشياء ضرورة لا يجد التاجر بدا منها) ش: أي لا يجد عنها معازفة وانقطاعا. م: (ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته) ش: لأن التاجر يجتمع عنده في دكانه جمع من الناس، فلا يخلو من أن يطلب واحد منهم شربة ماء أو نحوه، فلو امتنع من ذلك ينسبونه إلى البخل ولا يختلفون إليه وينسد باب التجارة، فتكون هذه الأشياء من ضروريات التجارة.
م: (ولا ضرورة في الكسوة وإهداء الدراهم فبقي على أصل القياس) ش: وهو أن العبد ليس من أهل التبرع. وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو تصدق المأذون بقدر حبة أو نصف دانق وجب أن يحرز.

[قبض الملتقط اللقيط الهبة أو الصدقة]
م: (قال: ومن كان في يده لقيط لا أب له، فإنه يجوز قبضه الهبة والصدقة له) ش: أي قال في " الجامع الصغير ". وقوله: لا أب له، قيد اتفاقي غير لازم، فإن الصغيرة لو كانت عند زوجها يعولها ولها أب فالزوج يقبض الهبة لها، يجوز لأنها نفع محض، فلا يشترط الولاية، كذا ذكر فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وأصل هذا التصرف) ش: أي هذا الحكم وهو: صحة قبض الملتقط اللقيط الهبة أو الصدقة م: (أن التصرف على الصغار أنواع ثلاثة: نوع من باب الولاية) ش: أي الأول: نوع

(12/264)


لا يملكه إلا من هو ولي كالإنكاح والشراء والبيع لأموال القنية؛ لأن الولي هو الذي قام مقامه بإنابة الشرع، ونوع آخر: ما كان من ضرورة حال الصغار، وهو شراء ما لا بد للصغير منه وبيعه
وإجارة الأظآر، وذلك جائز ممن يعوله وينفق عليه كالأخ والعم والأم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هو من باب الولاية على الصغار م: (لا يملكه إلا من هو ولي كالإنكاح والشراء والبيع لأموال القنية) ش: - بكسر القاف، وسكون النون، وفتح الياء آخر الحروف، وفي آخره تاء - وهي: أصل إبل للنسل لا للتجارة، وأصلها من قنى: إذا حفظ.
م: (لأن الولي هو الذي قام مقامه) ش: أي مقام الصغير م: (بإنابة الشرع) ش: مثابة. م: (ونوع آخر) ش: وهو النوع الثاني م: (ما كان من ضرورة حال الصغار، وهو شراء ما لا بد للصغير منه وبيعه) ش: أي بيع ما لا بد منه.

م: (وإجارة الأظار) ش: قال الأترازي: وفي بعض النسخ، وإجارة الصغار، والنسخة الأولى هي الصحيحة، لأن إجارة الصغار ليس من ضرورات حال الصغار لا محالة، ولهذا لم يذكرها الصدر الشهيد وفخر الدين قاضيخان في " شرحهما ".
فأما إجارة الأظارة فمن ضرورات حال الصغار كسرا، ما لا بد للصغير منه كالطعام والكسوة، وأيضا يلزمه التناقض على رواية " الجامع الصغير "، لأنه صرح فيه: أن الملتقط لا يجوز له أن يؤاجر الملتقط، نعم على رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز ذلك لتثقيف الصبي وحفظه عن الضياع. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: وإجارة الصغار تناقض ذكره بعد النظر، ولا يجوز للملتقط، ولا يجوز للعم.
قلت: فيه روايتان، الأصح: الولاية.
وقال السغناقي: لا يقال هذه المسألة مناقضة كرواية تذكر بعدها بقوله، ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره، لأن كل واحدة محمولة على حالة، فجواز إجارته محمولة على حالة الضرورة، بدليل عدها من الضرورة، وعدم جوازها في غير حالة الضرورة، أو في المسألة روايتان. أو يقال المراد بقوله وإجارة الصغار تسليمهم للصناعة حتى يكون من حبس ما لا بد للصغار منه. وبعضهم لم يقدروا على رفع المناقضة غير، ولفظ الكتاب بقوله وإجارة الأظار. والأول أصح.
قلت: هذا يناقض كلام الأترازي، ولكن كلامه أوجه بالتعليل الذي ذكره.
قال الأترازي: وفي بعض النسخ إجارة الإظارة للصغار، وهو أوضح. م: (وذلك جائز) ش: أي هذا النوع جائز م: (ممن يعوله وينفق عليه) ش: أي على الصغير م: (كالأخ والعم والأم

(12/265)


والملتقط إذا كان في حجرهم، وإذا ملك هؤلاء هذا النوع فالولي أولى به، إلا أنه لا يشترط في حق الولي أن يكون الصبي في حجره. ونوع ثالث: ما هو نفع محض كقبول الهبة والصدقة، والقبض فهذا يملكه الملتقط والأخ والعم والصبي بنفسه إذا كان يعقل؛ لأن اللائق بالحكمة فتح باب مثله نظرا للصبي، فيملك بالعقل والولاية والحجر وصار بمنزلة الإنفاق.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره، ويجوز للأم أن تؤاجر ابنها إذا كان في حجرها، ولا يجوز للعم ذلك؛ لأن الأم تملك إتلاف منافعه باستخدامه، ولا كذلك الملتقط والعم. ولو أجر الصبي نفسه لا يجوز؛ لأنه مشوب بالضرر إلا إذا فرغ من العمل؛ لأن عند ذلك تمحض نفعا فيجب المسمى، وهو نظير العبد المحجور يؤاجر نفسه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والملتقط إذا كان في حجرهم، وإذا ملك هؤلاء هذا النوع فالولي أولى به، إلا أنه لا يشترط في حق الولي أن يكون الصبي الصبي في حجره) ش: بخلاف الأخ والعم والأم والملتقط فإنه يشترط أن يكون الصغير في حجرهم كما ذكره.
م: (ونوع ثالث: ما هو نفع محض كقبول الهبة والصدقة والقبض، فهذا) ش: النوع م: (يملكه الملتقط والأخ والعم والصبي بنفسه إذا كان يعقل؛ لأن اللائق بالحكمة فتح باب مثله نظرا للصبي، فيملك بالعقل والولاية) ش: في الولي م: (والحجر) ش: في العم ونحوه م: (وصار بمنزلة الإنفاق) ش: أي صار هذا النوع بمنزلة الإنفاق على الصغير لكونه نفعا محضا فيملك بهذه الأشياء.

[حكم إجارة الملتقط]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره) ش: أي قال في " الجامع الصغير " م: (ويجوز للأم أن تؤاجر ابنها إذا كان في حجرها، ولا يجوز للعم ذلك) ش: أي إجارة أباه، والحاصل أن إجارة الملتقط والعم لا تجوز مطلقا وإجارة الأم تجوز إذا كان في حجرها.
م: (لأن الأم تملك إتلاف منافعه باستخدامه) ش: يعني أن الأم تملك إتلاف منافعه من غير عوض ولأن يملك بعوض كان أولى. ولا يقال: الصبي يملك إتلاف منفعة نفسه بغير عوض، فينبغي أن يملك الإجارة كالأم، لأنا نقول: لزوم العقد لا يكون بدون الولاية، والأم من أهلها في الجملة من حيث الشهادة وغيره ولا كذلك الصبي.
م: (ولا كذلك الملتقط والعم) ش: أي لا يملكان إتلاف منافع الصغير من غير عوض، فلا يملكان إجارته. م: (ولو أجر الصبي نفسه لا يجوز؛ لأنه مشوب) ش: أي مختلط م: (بالضرر إلا إذا فرغ من العمل) ش: يعني: ومع هذا لو أجر نفسه وأدى العمل المستحق عليه وجب المسمى استحسانا م: (لأن عند ذلك تمحض نفعا) ش: أي لأن عند فراغه من العمل صار ما عمله نفعا محضا في حقه م: (فيجب المسمى) ش: أي إذا كان كذلك يجب الذي سمى له في العقد م: (وهو نظير العبد المحجور يؤاجر نفسه) ش: أي الصبي الذي يؤاجر نفسه حيث لا يجوز لانعدام الإذن

(12/266)


وقد ذكرناه.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده الراية، ويروى الداية وهو طوق الحديد الذي منعه من أن يحرك رأسه، وهو معتاد بين الظلمة؛ لأنه عقوبة أهل النار، فيكره كالإحراق بالنار ولا يكره أن يقيده؛ لأنه سنة المسلمين في السفهاء، وأهل الدعارة. فلا يكره في العبد تحرزا عن إباقه، وصيانة لماله.
قال: ولا بأس بالحقنة يريد به التداوي؛ لأن التداوي مباح بالإجماع، وقد ورد بإباحته الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيام الحجر، ومع هذا لو أجر نفسه ولا فرغ من العمل صح استحسانا، لأنه انقلب نفعا محضا، م: (وقد ذكرناه) ش: أي في باب إجارة العبد.

[الرجل يجعل في عنق عبده الراية]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره أن يجعل الرجل في عنق عبده الراية) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": بالراء المهملة وهو ما يجعل في عنق العبد من الحديد علامة على أنه آبق م: (ويروى الداية) ش: بالدال المهملة. قال الشراح هذا غلط من الكتاب.
قلت: بتاني غلط الكاتب في نفس حرف الداية، بأن تصحيف الراء دالا.
وأما قوله: ويروي كيف يزيله من عنده، وبعضهم قد صحح هذه اللفظة. م: (وهو طوق الحديد الذي منعه من أن يحرك رأسه، وهو معتاد بين الظلمة؛ لأنه عقوبة أهل النار، فيكره كالإحراق بالنار) ش: لأنه أمر محدث وشر الأمور محدثاتها. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .
وقال الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير ": وكان هذا في الزمن الأول، أما في زماننا هذا فقد جرت العادة في الراية إذا خيف منه، وقد يحتاج إليه وخاصة في العبد الهندي. م: (ولا يكره أن يقيده) ش: أي العبد م: (لأنه سنة المسلمين في السفهاء، وأهل الدعارة) ش: بالدال المهملة المفتوحة، وهو الفساد والخبث، ومنه الداعر الخبيث المفسد من دعر، يدعر، دعارة. م: (فلا يكره في العبد تحرزا عن إباقه وصيانة لماله) ش: أي لأجل الاحتراز عن هربه، ولأجل الصيانة أي لحفظ ماله.

[حكم التداوي]
م: (قال: ولا بأس بالحقنة) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، م: (يريد به التداوي) ش: أي: يريد المحتقن بالحقنة التداوي قيد به، لأنه إذا أراد بها التسمين لا يباح. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس به لأن الإزال إذا تناهى يورث السل، وإنما ذكر الضمير في: به على تأويل الاحتقان.
م: (لأن التداوي مباح بالإجماع، وقد ورد بإباحته الحديث) ش: يشير بذلك إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(12/267)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«تداووا؛ فإن الله عز وجل جعل لكل داء دواء» . وقد رواه ستة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -:
الأول: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه إسحاق بن راهويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبد بن حميد في " مسنديهما " قال: الأول: حدثنا الفضل بن موسى. وقال الثاني: حدثنا محمد بن عبيد، قالا: حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أيها الناس تداووا فإن الله عز وجل لم يخلق داء إلا وقد خلق له شفاء إلا السام» . والسام: الموت.
ورواه الطبراني في " معجمه " عن طلحة بن عمرو. به ورواه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان) من طريق عبد الله بن وهب، عن طلحة.
الثاني: عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، أخرج حديثه البيهقي في " شعب الإيمان "، حدثنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، حدثنا الحسن بن علي بن المتوكل، حدثنا أبو الربيع، حدثنا أبو وكيل الجراح بن مليح، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رجل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتتداوى. قال: " نعم تداووا، فإن الله عز وجل لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء» .
وقال البيهقي: وقد تابعه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأيوب بن عابد عن قيس في دفعه.
قلت: كذلك أخرجه أبو نعيم في كتابه المفرد في " الطب " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - النعمان بن ثابت الكوفي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وأيوب بن عابد الطائي عن قيس - رَحِمَهُ اللَّهُ - منه مرفوعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الثالث: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج القضاعي حديثه في " مسند الشهاب "، أخبرنا عبد الرحمن بن عمر الصفار، أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا سعيد بن غياث بن أبي سمينة، حدثنا ابن بكار، حدثنا شعبة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تداووا فإن الله عز وجل أنزل الداء وأنزل الدواء» . رواه أبو نعيم في كتاب " الطب " من حديث معتمر بن سليمان، عن طلحة بن عمر

(12/268)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن عطاء، عن أبي هريرة مرفوعا نحو هذا سواء.
الرابع: أسامة بن شريك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه الأربعة، عن زياد بن علاقة، «عن أسامة بن شريك، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كأنما على رءوسهم الطير فسلمت ثم قعدت فجاء الأعراب من هنا وها هنا فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟. فقال: " تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء الهرم» قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن صحيح.
ورواه أحمد وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم "، ولفظ ابن راهويه فيه: «فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل الله له دواء إلا الموت ". قالوا: يا رسول الله فما أفضل ما أعطي العبد. قال: " خلق حسن ". قال: فلما قاموا من عنده جعلوا يقبلون يده. قال شريك: فضممت يده إلي فإذا أطيب من المسك» .
وبلفظ السنن رواه البخاري في كتاب " المفرد من الأدب "، والطبراني في " معجمه " وابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه ". والحاكم في " المستدرك " في كتاب العلم وقال: حديث صحيح، ولم يخرجاه.
وعلته عندهما أن أسامة بن شريك، لا يروي عنه غير زياد بن علاقة، قال: وله طرق أخرى نذكرها في كتاب " الطب " عن مسعر بن كدام، عن زياد بن علاقة به، وقال: صحيح الإسناد.
وقد رواه عشرة من أئمة المسلمين وثقاتهم عن زياد بن علاقة، مالك بن مغول، وعمر بن قيس الملائي وشعبة ومحمد بن حجادة، وأبو حمزة محمد بن ميمون السكري، وأبو عوانة، وسفيان بن عيينة، وعثمان بن حكيم الأودي، وشيبان بن عبد الرحمن النحوي وورقاء بن عمر والسكري وزهير بن معاوية، وإسرائيل بن يونس السبيعي، ثم أخرج أحاديثهم الجميع.
ثم قال: فانظر هل يترك مثل هذا الحديث اشتهاره، وكثرة رواته بأن لا يوجد له عن الصحابي إلا تابعي واحد. قال: وسألني الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني: لم أسقط الشيخان حديث أسامة بن شريك من الكتابين؟. فقلت له: لأنهما لم يجدا لأسامة بن شريك

(12/269)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
راويا غير زياد بن علاقة. فقال لي أبو الحسن وكتبه لي بخطه: قد أخرجا جميعا حديث قيس بن أبي حازم عن عدي بن عميرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استعملناه على عمل» الحديث، وليس لعدي بن عميرة راو غير قيس.
وأخرجا أيضا حديث الحسن عن عمرو بن تغلب، وليس له راو غير الحسن. وأخرجا أيضا حديث مجزأة بن زهير الأسلمي، عن أبيه، عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النهي عن لحوم الحمر الأهلية» . وليس لزهير راو غير مجبرا.
وقد أخرج البخاري حديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يذهب الصالحون أسلافا» وليس لمرداس راو غير قيس. وقد أخرج البخاري أيضا حديثين عن زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام بن زهرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس لعبد الله راو غير زهرة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وحديث أسامة بن شريك أصح وأشهر وأكثر رواة من هذه الأحاديث، مع أن أسامة بن شريك قد روى عنه، عن علي بن الأقمر ومجاهد. وقال الحاكم في " المستدرك في كتاب الإيمان "، في حديث أبي الأحوص عن أبيه مرفوعا: «إن الله تعالى إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن ترى عليه» .
لم يخرج الشيخان هذا الحديث إلا أن مالك بن نضلة ليس له راو غير ابنه أبي الأحوص وقد أخرج عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه، وليس له راو غير أبيه، وكذلك ابن مالك الأشجعي عن أبيه، وليس له راو غير أبيه.
الخامس: أبو الدرداء، أخرج حديثه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن إسماعيل بن عياش عن ثعلبة بن مسلم، عن ابن عمر، عن الأنصاري عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بالحرام» .
السادس: أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه أحمد في " مسنده "، وابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في " مصنفه "، قالا: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حرب بن ميمون قال: سمعت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله عز وجل

(12/270)


ولا فرق بين الرجال والنساء إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حيث خلق الداء خلق الدواء، فتداووا» . وعن ابن أبي شيبة رواه يعلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده ".
م: (ولا فرق بين الرجال والنساء) ش: لعموم الآثار فلذلك لم يفرق بين الرجال والنساء. وفي " الجامع الصغير " فيجوز لهما التداوي جميعا بالحقنة لأنه لا يستعمل المحرم فيها. م: (إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام) ش: لما مر، لأن في حديث أبي الدرداء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ولا تتداووا بالحرام» .
وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله -، وفي " التهذيب " للبغوي: يجوز للتعليل شرب البول والدم والميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه. وإن قال الطبيب يتعجل شفاؤك؟ فيه وجهان، وهل يجوز شرب القليل من الخمر للتداوي؟ فيه وجهان، انتهى.
وقال فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فعل الاستشفاء بالحرام إنما لا يجوز إذا لم يعلم أن فيه شفاء، أما إذا علم أن فيه شفاء وليس له دواء آخر غيره، يجوز الاستشفاء به.
وقال في " الفتاوى ": التداوي بلبن الأتان إذا أشار إليه لا بأس به. وفي " خلاصة الفتاوى " رجل استضعف بدنه ورمدت عيناه فلم يعالج حتى أضعفه ومات لا إثم عليه بخلاف ما إذا صام ولم يأكل وهو قادر حتى مات فإنه يأثم وذلك لأن الأكل قدر قوته فرض فإذا ترك متلفا نفسه والصحة بالمعالجة غير معلومة لا يقال: إن التداوي ينافي التوكل، ونحن أمرنا بالتوكل، لأنا نقول الأمر بالتوكل محمول على اكتساب الأسباب. قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] والله سبحانه وتعالى يقدر على أن يرزقها من غير هذا، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بقوله شعر:
توكل على الرحمن ثم اطلب الغنى ... فإني رأيت الفخر في ترك الطلب
ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء مال الجذع من غير هزها ... إليها ولكن الأمور لها سبب
توكل على الرحمن في كل حاجة ... ولا تتركن الجهد في كثرة التعب

(12/271)


قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا بأس برزق القاضي؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وفرض له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: في الحقيقة كشف العورة؟.
قلت: لا نسلم ذلك فإنها قد تيسر بدون ذلك ولئن سلمنا بكشف العورة فهو يباح للضرورة.

[حكم رزق القاضي]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا بأس برزق القاضي) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وفرض له» .
ش: قلت: صح بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به إلى مكة، وأما فرضه له فقد قال الزيلعي في " التخريج [الأحاديث الهداية "] : هذا غريب، ثم قال: روى الحاكم في " مستدركه " في كتاب الفضائل من طريق إبراهيم الحربي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال: «استعمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عتاب بن أسيد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - على مكة، وتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عامله عليها، ومات عتاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمكة في جمادى الأخرى سنة ثلاث عشرة» .
ثم أسند إلى عمرو بن أبي عقرب قال: سمعت عتاب بن أبي أسيد وهو مسند ظهره إلى الكعبة يقول: والله ما أصبت في عملي هذا الذي ولاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ثوبين معقدين فكسوتهما مولاي.
وروى ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة عتاب: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، حدثنا إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: سمعت عمر بن عبد العزيز في خلافته يقول: قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعتاب بن أسيد عامله على مكة كان ولاه يوم الفتح فلم يزل عامله عليها حتى توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى.
وأصحابنا هم الذين ذكروا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض له أربعين أوقية والأوقية أربعون درهما.
قلت: كيف يقول هذا غريب وقد أخرج البيهقي في " سننه "، من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، حدثنا إسماعيل بن أمية عن الزهري قال: «رزق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عتاب بن أسيد حين استعمله على مكة أربعين أوقية في كل سنة» .
فإن قلت: قال الذهبي في " مختصره ": لم يصح هذا؟

(12/272)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: روى البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا في " سننه "، من حديث إسحاق بن الحصين الرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا سعيد بن مسلم عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل عتاب بن أسيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على مكة. وفرض له عمالته أربعين أوقية من فضة.»
وينبغي أن لا يشك في صحة هذا فإن الذي يعمل عملا يحتاج إلى كفايته وكفاية عياله، فإن لم يرزق من جهة عمله وإلا يضيع ماله ولا يرضى أحد بعمل على جهة فتفرغ أحوال المسلمين، والدليل على صحة ما ذكره البخاري في باب: رزق الحكام والعاملين عليها. وكان شريح يأخذ على القضاء أجرا قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يأكل الوصي بقدر عمالته، وأكل أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وفي " مصنف " عبد الرزاق: أخبرنا الحسن بن عمارة، عن الحكم: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رزق شريحا، وسلمان بن ربيعة الباهلي على القضاء، وروى ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة شريح: أخبرنا الفضل بن دكين، حدثنا الحسن بن صالح عن ابن أبي ليلى قال: بلغني أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رزق شريحا خمسمائة. وروى في ترجمة زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن نافع قال: استعمل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا.
وقال أيضا: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: بويع أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يوم قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وكان رجلا تاجرا يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع فلما بويع للخلافة قال: والله ما يصلح للناس إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ولا بد لعيالي ما يصلحهم فترك التجارة وفرض من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، وكان الذي فرضه له في كل سنة ستة آلاف درهم، فلما حضرته الوفاة قال لهم: ردوا ما عندنا إلى مال المسلمين، وإن أرضي التي هي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقال: لقد والله أتعبت من بعدك.
فإن قلت: من أي مال فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن يومئذ الدواوين ولا بيت المال وإنما كانت الدواوين في زمان عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.

(12/273)


وبعث عليا إلى اليمن وفرض له، ولأنه محبوس لحق المسلمين فتكون نفقته في مالهم، وهو مال بيت المال، وهذا لأن الحبس من أسباب النفقة، كما في الوصي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة، وهذا فيما يكون كفاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هي له ذلك من الفيء، وقيل: مما أخذه من نصارى نجران ومن الجزية التي أخذت من مجوس هجر. قال أبو يوسف في كتاب " الخراج " بإسناده إلى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس أهل هجر، انتهى. وعتاب: بفتح العين المهملة وتشديد التاء المثناة من فوق، وفي آخره باء موحدة -، وأسيد - بفتح الهمزة وكسر السين المهملة - وهو ابن العيص بن أمية بن عبد شمس وأخوه خالد بن أبي أسيد وهما صحابيان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
م: «وبعث عليا إلى اليمن وفرض له» ش: بعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليا إلى اليمن صحيح وأما فرضه له فلم يثبت عند أهل النقل، ولكن الكلام فيه كالكلام في قصة عتاب بن أسيد. أما بعثه فقد رواه أبو داود عن شريك عن سماك، عن حسن، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن قاضيا فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟. فقال: " إن الله يستهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يبين لك القضاء " فما زلت قاضيا أو ما شككت في القضاء بعد» . ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في " مسانيدهم ". ورواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد مر الكلام فيه من ذلك في " أدب القاضي ".
م: (ولأنه) ش: أي القاضي م: (محبوس لحق المسلمين فتكون نفقته في مالهم وهو مال بيت المال) ش: قالوا هذا إذا كان بيت المال حلالا، فأما إذا كان حراما جمع بباطل لم يحل أخذه بحال لأن سبل الحرام والغصب رده على أهله وليس ذلك بمال عامة المسلمين.
م: (وهذا) ش: أي كون نفقته منه بحبسه لمصالح المسلمين م: (لأن الحبس من أسباب النفقة، كما في الوصي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة) ش: لأنهما يحبسان أنفسهما بمال اليتيم ومال رب المال وكذلك نفقة المرأة سواء كانت في العصمة أو في العدة لأنها محبوسة بحق الزوج.
م: (وهذا فيما يكون كفاية) ش: أي هذا الذي ذكره محمد في " الجامع الصغير " من قوله: ولا بأس برزق القاضي فيما إذا كان كفاية ومؤنة للنفقة.

(12/274)


فإن كان شرطا فهو حرام؛ لأنه استئجار على الطاعة، إذ القضاء طاعة، بل هو أفضلها. ثم القاضي إذا كان فقيرا، فالأفضل، بل الواجب الأخذ؛ لأنه لا يمكنه إقامة فرض القضاء إلا به، إذ الاشتغال بالكسب يقعده عن إقامته. وإن كان غنيا فالأفضل الامتناع على ما قيل رفقا ببيت المال. وقيل: الأخذ، وهو الأصح صيانة للقضاء عن الهوان. ونظرا لمن يولي بعده من المحتاجين؛ لأنه إذا انقطع زمانا يتعذر إعادته ثم تسميته رزقا تدل على أنه بقدر الكفاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن كان شرطا) ش: ومعاقدة في ابتداء الأمر بأن قال: لا أقبل القضاء إلا إذا رزقني الوالي في كل سنة كذا وكذا بمقابلة قضائي، م: (فهو حرام؛ لأنه استئجار على الطاعة إذ القضاء طاعة، بل هو أفضلها) ش: والقضاء طاعة بل أفضلها، أي أفضل الطاعات لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القضاء أشرف العبادات» ، فإذا بطل الاستئجار على سائر الطاعات فعلى هذا أولى.
ألا ترى أن حكم القاضي بالرشوة لا ينفذ، وإن كان القاضي لا ينعزل عنها بالجور والفسق والارتشاء، ولكن يستحق العزل فيعزله، خلافا للمعتزلة فإن عندهم يعزل بالفسق، وهو رواية للأصحاب.
م: (ثم القاضي إذا كان فقيرا، فالأفضل بل الواجب الأخذ) ش: أي أخذ رزقه وكفايته م: (لأنه لا يمكنه إقامة فرض القضاء إلا به، إذ الاشتغال بالكسب يقعده عن إقامته) ش: أي يؤخره عن إقامة فرض القضاء ولاشتغاله بالكسب كما ذكرنا في قصة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن قريب. م: (وإن كان غنيا فالأفضل الامتناع) ش: عن أخذ الرزق في بيت المال م: (على ما قيل رفقا ببيت المال) ش: أي لأجل الرفق ببيت مال المسلمين.
م: (وقيل: الأخذ، وهو الأصح
صيانة
للقضاء عن الهوان) ش: أي
لأجل
صيانة القضاء عن الهوان، أي لأجل صيانة القضاء عن الذلة، لأنه إذا لم يأخذ لا يلتفت إلى أمور القضاء كما ينبغي لاعتماده على غنائه، فإذا أخذ يلزمه حينئذ إقامة أمور القضاء.
م: (ونظرا لمن يولى بعده من المحتاجين) ش: أي ولأجل النظر في حق من يأتي بعده من القضاة الفقراء م: (لأنه إذا انقطع) ش: أي لأن رزق القاضي وهو معلومة إذا انقطع من بيت المال بترك القاضي الغني وامتناعه عنه م: (زمانا يتعذر إعادته) ش: لأن متولي أمور بيت المال يحتج عليه بعدم جري العادة فيه منذ زمان فيتضرر القاضي الفقير.
م: (ثم تسميته رزقا) ش: أي ثم تسميته، قال محمد في " الجامع الصغير ": معلوم القاضي رزقا م: (تدل على أنه بقدر الكفاية) ش: له ولعياله ولا يعطى أكثر من الكفاية لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] الآية، وإن كان نزولها في وصي اليتيم لكون الوصي عليها ليتيم حابسا نفسه، لذلك الحكم لكل من يعمل لغيره بطريق الحسبة.

(12/275)


وقد جرى الرسم بإعطائه في أول السنة؛ لأن الخراج يؤخذ من أول السنة وهو يعطى منه، وفي زماننا الخراج يؤخذ من آخر السنة، والمأخوذ من الخراج خراج السنة الماضية هو الصحيح. ولو استوفى رزق سنة وعزل قبل استكمالها، قيل: هو على اختلاف معروف في نفقة المرأة إذا ماتت في السنة بعد استعجال نفقة السنة، والأصح: أنه يجب الرد.
ة قال: ولا بأس بأن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم؛ لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم على ما ذكرنا من قبل، وأم الولد أمة لقيام الملك فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقد جرى الرسم بإعطائه) ش: أي وقد جرت العادة بإعطاء رزق القاضي م: (في أول السنة؛ لأن الخراج يؤخذ من أول السنة وهو يعطى منه) ش: أي القاضي يعطى من الخراج، هذا كان في أول الزمان.
م: (في زماننا الخراج يؤخذ في آخر السنة، والمأخوذ من الخراج خراج السنة الماضية) ش: أي أن الذي يأخذه الإمام من الخراج في أول السنة هو خراج السنة الماضية وعليه الفتوى، أشار إليه بقوله: م: (هو الصحيح) ش: قال الكاكي: أيضا عليه الفتوى.
م: ولو استوفى) ش: أي القاضي م: رزق سنة وعزل قبل استكمالها) ش: أي قبل تمام السنة م: (قيل: هو على اختلاف معروف في نفقة المرأة إذا ماتت) ش: أي الزوج م: (في السنة بعد استعجال نفقة السنة) ش: حيث يجب رد ما بقي من السنة عند محمد خلافا لأبي يوسف، وإليه أشار الخصاف في " نفقاته "، فكذلك يجب على القاضي رد ما بقي عند محمد خلافا لأبي يوسف، وكذا الكلام في موت القاضي في أثناء السنة، م: (والأصح: أنه يجب الرد) ش: كذا ذكر الصدر الشهيد وفخر الدين قاضي خان.

[سفر الأمة وأم الولد بغير محرم]
م: (قال: ولا بأس بأن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": م: (لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم) ش: أي لأن الأجانب في حق الإماء كالمحارم في حق الجوار في حق النظر والمس، فجاز السفر بهما مع الأجانب كما جاز للحرائر مع المحارم.
وقيل: هذا في زمانهم. وأما في زماننا: لا يحل لغلبة أهل الفسق، كذا في " المحيط " و " التتمة "، وأجمعوا على أن العجوز الحرة لا تسافر مع غير محرم، ولا تخلو برجل م: (على ما ذكرنا من قبل) ش: أشار به إلى ما ذكر قبل فصل الاستبراء بقوله: وأما الخلوة بها والمسافر فقد قيل: يباح كما في المحارم.
م: (وأم الولد أمة لقيام الملك فيها) ش: هذا جواب عما يقال: إنكم قلتم إن الأجانب في حق الإمام كالمحارم وأم الولد ليست بأمة، لأن ولدها ابنتها؟.

(12/276)


وإن امتنع بيعها، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأجاب: بأن أم الولد أمة لقيام الملك فيها، ولهذا أجاز استخدامها وحل وطؤها بلا نكاح، ولا يحل الوطء بأحد الملكين.
م: (وإن امتنع بيعها) ش: واصل بما قبله، يعني امتناع بيعها لا يخرجها عن قيام الملك فيها، لأن امتناع البيع لاستحقاقها الحرية.

(12/277)