البناية شرح الهداية

كتاب الأشربة سمي بها، وهي جمع شراب لما فيه من بيان حكمها.
قال: الأشربة المحرمة أربعة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[كتاب الأشربة]
[تعريف الأشربة]
م: (كتاب الأشربة) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الأشربة. وجه المناسبة بين الكتابين: أن إحياء الموات فيه الشرب بالكسر، وهذا الكتاب فيه الشرب بالضم، وكلاهما سقيا عرق واحد لفظا ومعنى، غير أنه قدم الأول لكونه فيه حلالا، وهذا فيه حرام، كذا أورد في عامة الكتب من " المبسوط "، و " الذخيرة، و " المغني "، و " التحفة "، و " القدوري "، وهي جمع شراب كالأطعمة جمع طعام، وهو اسم لما يشرب كالطعام اسم لما يطعم، أي يؤكل ثم محاسن حرمة الأشربة المحرمة ظاهرة لأنها مزيلة للعقل الذي هو أشرف الأشياء وأغربها بتعلق خطابات الشرع به، إلا أن الخمر أبيحت للأمم الماضية لطول أعمارهم وجسامة أبدانهم فيتحملون آفة الشراب، ولا يتسارع إليهم السكر، ففي إباحتها صلاح لهم لكثرة نفعها، أما هذه الأمة فقصيرة الأعمار ضعيفة الأبدان، فيسارع إليهم السكر بشرب قليل منها، فصلاحهم في حرمة قليلها وكثيرها.
وإنما أبيحت في ابتداء الإسلام ليعاينوا الفساد في الخمر، حتى إذا حرمت عليهم عرفوا منه الحق لدينهم، وليس الخبر كالعيان، وقيل: لتدريج النصارى لئلا ينفروا عن الإسلام. وفي " شرح الأقطع ": والأشربة كلها مباحة بالعقل إلا ما ورد الشرع بتحريمه لأن الأشياء كلها على الإباحة في الأصل عندنا.
م: (سمي بها) ش: أي سمي الكتاب بالأشربة م: (وهي) ش: أي الأشربة م: (جمع شراب لما فيه) ش: أي لما في هذا الكتاب م: (من بيان حكمها) ش: أي حكم الأشربة من الحرام، والمباح كما سمي كتاب البيوع لما فيه من بيان أحكامها، وكتاب الحدود لما فيه من بيان أحكام الحدود ونحو ذلك من الكتب المذكورة.

[الأشربة المحرمة]
م: (قال: الأشربة المحرمة أربعة:) ش: أي قال القدوري في " مختصره "، وفي " المحيط ": الأعيان التي يتخذ منها الأشربة: العنب، والزبيب، والتمر، والحبوب كالحنطة، والشعير، والذرة، والدخن، والفواكه، كالإجاص، والبرصاء، وكالشهد، والفانيد، والألبان.
أما العنب فالمتخذ منه خمسة: الخمر، والباذق، والمنصف، والمثلث، والملحح، والمتخذ من الزبيب شيئان: نقيع، ونبيذ. والمتخذ من التمر ثلاثة: السكر، والنضج، والنبيذ. والمتخذ من الحبوب والفواكه وغيرهما شيء واحد. وإن اختلف أسماء النقيع كنبيذ العسل، والحقة كنبيذ الشعير، والمبذر كنبيذ الذرة، كذا ذكره " قاضي خان "، والتمرتاشي، فينتهي إلى

(12/342)


الخمر، وهي عصير العنب إذا غلي واشتد وقذف بالزبد.
. والعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو الطلاء المذكور في " الجامع الصغير "
" ونقيع التمر، وهو السكر، ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحد عشر اسما، أو أكثر كما يجيء في الكتابة.
ثم العنب إذا عصر سمي ماؤه عصيرا ما دام حلوا، فإذا اشتد صار مرا، وسمي خمرا، وإذا مال إلى الحموضة سمي خلا، فإذا طبخ أدنى طبخة، وصار شديدا سمي باذقا، وإذا طبخ على النصف يسمى منصفا، وإذا طبخ حتى ذهب ثلثاه يسمى مثلثا، وإذا رفق بالماء ثم طبخ يسمى يعقوبيا أو يوسفيا لأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد رتبه للرشيد فيما يقال. وقد سمي جمهوريا؛ لأن جمهور الناس وجماعتهم يشربونه. ويسمى حميديا لأنه محمود عندهم، أو لأن حميدا رجل داوم على شربه أو علمهم ذلك، والذي يتخذ من الزبيب زبيبا.
والرطب إذا عصر فذلك العصير يسمى دبسا، فإذا تغير عن حاله أو اشتد يسمى سكرا، والتمر إذا نبذ في الماء، أي ألقي فيه يسمى نبيذا، وإذا أخذ من رأسه، واستخرجت حلاوته بعد ذلك يسمى فضيخا. وما يتخذ من العسل يسمى بقعا. وما يتخذ من القمح يسمى مزرا. وما يتخذ من الشعير يسمى حقة. وما يتخذ من الذرة يسمى سكر -بضم الكاف، وسكون الراء -.

[من الأشربة المحرمة الخمر]
م: (الخمر) ش: أي أحدها الخمر م: (وهي عصير العنب إذا غلى واشتد) ش: أي صار قويا وكثر غليانه وحصل فيه قوة الإسكار. وقيل: صار بحال يمنع حواس شاربه من الفهم، والدرك. وقيل: صلاحيته للإسكار م: (وقذف بالزبد) ش: أي رمي به، وهذا قيد للمعنى الشرعي لأن معنى الخمر وحده في اللغة: شراب مسكر معصور من العنب، وفي الشرع: شيء من الماء والعنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد.

[من الأشربة المحرمة العصير]
م: (والعصير) ش: أي الثاني من الأشربة المحرمة العصير، عصير العنب م: (إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه، وهو الطلاء المذكور في " الجامع الصغير ") ش: الطلاء كل ما يطلى به من قطران أو نحوه، ويقال لكل ما أخذ من الأشربة طلاء على التشبيه حتى يسمى به المثلث، كذا في " المغرب "، وفي " تاج الأسامي ": الطلاء شراب ذهب بالطبخ ثلثاه، وفي " ديوان الأدب ": الطلاء ممدود، وفي " الصحاح ": ما يطبخ من عصير العنب حتى يذهب ثلثاه، وتسميه العجم: المسجد، وفسره الفقيه أبو الليث: الطلاء في " شرح الجامع الصغير " بالمصنف.

[من الأشربة المحرمة نقيع التمر]
م: (ونقيع التمر) ش: أي الثالث من الأشربة المحرمة: نقيع التمر م: (وهو السكر) ش: السكر بفتح السين والكاف. م: (ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلى) ش: أي الرابع من الأشربة المحرمة

(12/343)


أما الخمر فالكلام فيها في عشرة مواضع: أحدها: في بيان مائيتها وهي التي من ماء العنب إذا صار مسكرا، وهذا عندنا، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم. وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مسكر خمر» . وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» ، وأشار إلى الكرمة والنخلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نقيع الزبيب بشرط الشدة، والغليان. م: (أما الخمر فالكلام فيها في عشرة مواضع: أحدها: في بيان مائيتها) ش: أي ماهيتها في اصطلاح الفقهاء: المائية مكان الماهية، وهو مائية الشيء كماهية الإنسان وهو حيوان ناطق م: (وهي التي من ماء العنب) ش: خاصة م: (إذا صار مسكرا) ش: أي ماهية الخمر هذا، وأشار بقوله: " خاصة " إلى: أن هذه الماهية مخصوصة بالخمر وأن غير الخمر يسمى باسم آخر.
م: (وهذا عندنا) ش: أي هذا الإطلاق عند علمائنا الحنفية م: (وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم) ش: أراد بأهل العلم: الفقهاء، وبأهل اللغة: أهل اللسان م: (وقال بعض الناس) ش: أي من علماء الفقه، وأراد بهم الأئمة الثلاثة، وأصحاب الظاهر م: (هو اسم لكل مسكر) ش: أي الخمر اسم لكل مسكر في أي شيء كان.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مسكر خمر» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن أيوب السختياني عن رافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» وعند أحمد في " مسنده ": «وكل خمر حرام» وكذلك عند ابن حبان في " صحيحه ". وكذلك رواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا ابن جريج عن أيوب السختياني، ومن طريقه رواه الدارقطني في " سننه " وهو عند مسلم أيضا لكن على الظن.
ولفظه عن نافع عن ابن عمر قال: ولا أعلمه إلا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الخمر من هاتين الشجرتين: وأشار إلى الكرمة والنخلة» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين، النخلة، والعنبة» . وفي لفظ لمسلم: الكرمة والنخرة، ولهم أحاديث أخر في هذا الباب منها ما أخرجه البخاري، ومسلم عن ثابت «عن أنس بن مالك قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما أشربهم إلا فضيح البسرة التمر، فإذا مناد ينادي فقال: اخرج فانظر، فخرجت فنظرت فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: نحرت في سكك المدينة، فقال أبو طلحة: اخرج فأهرقها؛ فخرجت فأهرقتها» .
ومنها ما رواه البخاري من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مرفوعا: «نزل

(12/344)


ولأنه مشتق من مخامرة العقل، وهو موجود في كل مسكر، ولنا: أنه اسم خاص بإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه، ولهذا اشتهر استعماله فيه، وفي غيره؛ ولأن حرمة الخمر قطعية، وهي في غيرها ظنية، وإنما سمي خمرا لتخمره لا لمخامرته العقل على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصا فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تحريم الخمر وهي خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير» .
ومنها قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الخمر ما خامر العقل. رواه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولأنه مشتق من مخامرة العقل) ش: أي ولأن الخمر مشتق من مخامرة العقل. يقال: خامره إذا خالطه. والكلام في اشتقاق الخمر الذي هو ثلاثي من المخامرة الذي هو مزيد فيه كالكلام في اشتقاق الوجه من المواجهة، وقد مر الكلام فيه في أول الكتاب مستقصى م: (وهو موجود في كل مسكر) ش: أي هذا المعنى موجود في كل ما كان مسكرا م: (ولنا: أنه) ش: أي لفظ الخمر م: (اسم خاص بإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه) ش: أي اسم مخصوص للتي من ماء العنب إذا صار مسكرا حقيقة باتفاق أهل اللغة، قوله: فيما ذكرناه في التي من ماء العنب م: (ولهذا) ش: أي، ولأجل استعمال الخمر في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا م: (اشتهر استعماله فيه) ش: أي في استعمال لفظ الخمر في التي من ماء العنب المسكر م: (وفي غيره) ش: أي واشتهر في غير التي من ماء العنب غير اسم الخمر، حيث يسمى مثلثا وباذنا ونحوهما فكان استعمال هذا الاسم لغيره مجازا؛ لأن الترادف خلاف الأصل، وقد أريدت الحقيقة، فبطل المجاز.
وقال أبو عبيد، وأبو زيد، وابن السكيت: ما اتخذ من غير العنب ليس بخمر م: (ولأن حرمة الخمر قطعية) ش: يعني لا يصح أن يصرف في تحريمها إلا إلى حين تثبت الحرمة في تلك العين قطعا، وغير التي ليس بهذه المثابة لمكان الاجتهاد فيه أشار إليه بقوله: م: (وهي في غيرها ظنية) ش: أي وفي غير التي من ماء العنب إذا أسكر الحرمة ظنية لما قلنا.
م: (وإنما سمي خمرا لتخمره) ش: هذا جواب عن قولهم: لأنه مشتق من مخامرة العقل، يعني لا نسلم أنه مشتق من المخامرة بل هو مشتق من التخمر، وهو الشدة والقوة فإن بها شدة قوة وليست بغيرها حتى سميت أم الخبائث ما تسميته بهذا المعنى م: (لا لمخامرته العقل) ش: يعني ليست تسميته التي من ماء العنب إذا أسكر لمخالطته العقل، وهذا هو تحقيق كلام المصنف.
وقال صاحب " العناية ": قوله: " وإنما سمي " يعني غير التي خمرا لتخمره أي لصيرورته ماء كالخمر لا لمخامرته وهذا كلام فيه ما فيه تأمل وتدبر. وأما التوابع فإنما غضا بصرهما في هذا الموضع م: (على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصا فيه) ش: هذا جواب بطريق التسليم يعني: ولئن سلمنا أن يكون من مخامرة العقل، ولكن قد يكون موضع الاشتقاق عاما، والمشتق منه

(12/345)


فإن النجم مشتق من النجوم، وهو الظهور. ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر، وهذا كثير النظير، والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خاصا وهو معنى قوله: لا ينافي كون الاسم أي اسم الخمر خاصا فيه أي في التي من ماء العنب إذا أسكر م: (فإن النجم مشتق من النجوم، وهو الظهور) ش: يعني مشتق من نجم إذا ظهر.
م: (ثم هو اسم خاص للنجم المعروف) ش: وهو الثريا م: (لا لكل ما ظهر) ش: أي ليس هو باسم لكل ما ظهر م: (وهذا كثير النظير) ش: نحو القارورة فإنها مشتقة من القرار، وليست باسما لكل ما يقر فيه شيء، والجرجر فإنه مشتق من الجرجرة وهو التحرك، ولا يسمى كل ما يتحرك جرجرا وهو الفرس الذي أحد شقيه أبيض، والآخر أسود ويسمى أبلق. ولا يسمى الثوب الذي فيه سواد، وبياض بهذا الاسم فعلم أن القياس لا مدخل له في اللغة.
م: (والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أراد به قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر» وذكر علاء الدين العالم طريقة الخلافة. وروي عن يحيى بن معين أنه قال: الأحاديث الثلاثة ليست بثابتة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أحدها: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» ، والثاني: «من مس ذكره فليتوضأ» ، والثالث: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» .
ويحيى بن معين: هو الحافظ المستقر الذي قال فيه أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فهو ليس بحديث، ولد سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين في ذي القعدة بالمدينة.
قلت: الأحسن أن يقال: منها هذا الحديث.
رواه سائر أصحاب مالك عنه موقوفا غير روح فإنه رفعه، وذكر أبو عمر في " التمهيد " هذا موقوفا في " الموطأ " لم يختلف فيه الرواية عن مالك إلا الماجشون فإنه رواه عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرفعه. ولهذا رواه مسلم بالظن فقال: لا أعلمه إلا مرفوعا، ولئن سلمنا أنه مرفوع وأنه ثابت. والمراد منه: بيان حكم لا اللغة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم الأحكام لا اللغة فكأنه قال: كل ما يسكر كثيره فحكمه كحكم الخمر في الحرمة.

(12/346)


والثاني: أريد به بيان الحكم، إذ هو اللائق بمنصب الرسالة. والثاني: في حق ثبوت هذا الاسم، وهذا الذي ذكره في الكتاب قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما: إذا اشتد صار خمرا، ولا يشترط القذف بالزبد؛ لأن الاسم يثبت به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والثاني) ش: أي والحديث الثاني وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» م: (أريد به بيان الحكم) ش: والحرمة لا بيان الحقيقة، وفيه نزاع.
م: (إذ هو اللائق بمنصب الرسالة) ش: أي لأن بيان الحكم هو اللائق بحال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه بعث لبيان الأحكام، لا لبيان الحقائق، وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز أن يراد بقوله: «الخمر من هاتين الشجرتين» أحدهما فعمهما الخطاب، وأراد أحدهما كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما، وقد اخترق ابن حزم وشفع على الطحاوي منها، وقال: صدق الله -عز وجل - وكذب الطحاوي. قال: كليهما يخرجان من البحرين، وهذا سفاهة نمه وقلة فهم، فإن الطحاوي قال: هكذا قالت أئمة التفسير، ويجوز ذلك بطريق التغليب فكان الحديث محتملا، والمحتمل لا يصلح حجة.
وكذا الجواب عن قوله: نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة وأشباه ذلك أنها محمولة على الحالة التي يتولد منها السكر لأنها تعمل عمل الخمر في توليد السكر، واستحقاق الحد، وعليه أيضا يحمل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الخمر ما خامر العقل؛ لأن المخامرة التغطية، والقليل من الأنبذة لا يخامر العقل، وقد نفى أبو الأسود الديلمي اسم الخمر على الطلا بقوله:
دع الخمر يشربها الغواة ... فإنني رأيت أخاها معنيا لمكانها
فإن لا يكنها أو تكنه ... فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
جعل الطلاء أخا للخمر وأخوه التي غيره أراد أنهما معا من الكرم.
م: (والثاني) ش: أي موضع الثاني من العشرة م: (في حق ثبوت هذا الاسم) ش: أي ثبوت اسم الخمر، م: (وهذا الذي ذكره في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري ": وهو قوله: وهو عصير العنب إذا غلا، وإذا اشتد وقذف بالزبد.
م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا المذكور، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حد الخمر م: (وعندهما: إذا اشتد) ش: أي وعند أبي يوسف، ومحمد: الخمر هي التي من العنب. م: (صار خمرا، ولا يشترط القذف بالزبد؛ لأن الاسم يثبت به) ش: أي لأن اسم الخمر يثبت بالاشتداد والغليان؛ لأنه حينئذ مسكرا خمرا.

(12/347)


وكذا المعنى المحرم، وهو المؤثر في الفساد بالاشتداد. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: - أن الغليان بداية الشدة، وكمالها بقذف الزبد وسكوته، إذ به يتميز الصافي من الكدر، وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع. وقيل: يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد احتياطا. والثالث: أن عينها حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه، ومن الناس من أنكر حرمة عينها، وقال: إن السكر منها حرام؛ لأن به يحصل الفساد وهو الصد عن ذكر الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا المعنى المحرم) ش: وهو الإسكار م: (وهو المؤثر في الفساد بالاشتداد) ش: أي المعنى المحرم المؤثر في الفساد، وهو يكون بالاشتداد ويتعلق التحريم.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الغليان بداية الشدة وكمالها) ش: أي كمال الشدة، وفي بعض النسخ: وكماله. م: (بقذف الزبد وسكونه) ش: أي وسكون الغليان. والتحقيق فيه: أن مطلق اسم الغليان ينصرف إلى الكامل، والغليان لا يتكامل ما لم يقذف بالزبد، فيكون الغليان موجودا من وجه دون وجه، فلا بد من قذف الزبد.
م: (إذ به يتميز الصافي من الكدر) ش: لأن أسفله يصير أعلاه فيتميز من كدره. م: (وأحكام الشرع قطعية) ش: أي أمهات أحكام الشرع قطعية لا مجال للظن والاحتمال فيها م: (فتناط بالنهاية) ش: أي يتعلق بالنهاية.
وحكم الإباحة كان ثانيا للعصير بيقين، فلا يزل إلا بيقين آخر مثله لم يثبت بسبب الحرمة، فبكماله لا ترتفع الإباحة؛ لأن بعض السبب لا عبرة م: (كالحد) ش: أي كحد الخمر، حيث يتعلق بالنهاية والغاية، وكذا حد الزنا، والسرقة لا تجب إلا بكمال الفعل اسما وصورة ومعنى من كل وجه؛ لأن في النقصان شبهة العدم، والحدود تندرئ بالشبهات م: (وإكفار المستحل) ش: أي مستحل الخمر م: (وحرمة البيع) ش: أي وحرمة بيع الخمر.
وبهذا أن أحكام الخمر مقطوع بها كالحد، وتكفير المستحل، وحرمة البيع، والنجاسة فتناط بالنهاية، لما في النقصان من شبهة العمل، فلا يصح إثباتها بالشبهة. م: (وقيل: يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط، ويعني بالحد لقذف الزنا احتياطا لا للدرء. م: (والثالث) ش: أي الموضع الثالث: م: (أن عينها) ش: أي عين الخمر م: (حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه) ش: أي على السكر م: (ومن الناس من أنكر حرمة عينها. وقال: إن السكر منه حرام) ش: قيل: هو مروي عن بعض أهل الشام، وقدامة بن مظعون؛ م: (لأن به) ش: أي بالسكر م: (لأنه يحصل الفساد وهو الصد عن ذكر الله) ش: سبحانه وتعالى، الصد: المنع، يقال: صد عنه إذا منعه.

(12/348)


وهذا كفر؛ لأنه جحود الكتاب. فإنه تعالى سماه رجسا، والرجس ما هو محرم العين، وقد جاءت السنة متواترة أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حرم الخمر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا كفر) ش: أي هذا القول كفر م: (لأنه جحود الكتاب، فإنه تعالى سماه رجسا) ش: وهو قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] م: (والرجس ما هو محرم العين) ش: يعني: الرجس اسم للحرام النجس عينا بلا شبهة، ودليله: قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ولحمه حرام نجس عينا بلا شبهة، فكذا الخمر، وفي الآية دليل على حرمتها من اثني عشر وجها على ما ذكر في " التيسير "، و " الكشاف " وهي: التأكيد بإنما، والجملة الإسمية، والمقارنة بالقمار والمقارنة بعبادة الأوثان، وهي الأصنام لأن الأنصاب جمع نصب، وهي ما نصب فعبد من دون الله. وجعلها رجسا وهو اسم للحرام النجس عينا كالميتة، والدم وجعلها من عمل الشيطان.
ولا يأتي منه إلا الشر البحت، والأمر بالاجتناب نص على التحريم، وجعل الاجتناب من الفلاح. فإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة وذكر ما ينتج منهما من وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر فما يؤدي القول للصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة، والأمر بالانتهاء؛ لأن معنى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] انتهوا، وهذه الصيغة من أبلغ ما ينهى عنه.
م: (وقد جاءت السنة متواترة) ش: أي متكاثرة ومتتابعة، وليس معناه التواتر الاصطلاحي أو يقول معناه: جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث كلها تدل على حرمة الخمر. وكل واحد منها إذا لم يبلغ حد التواتر، فالقدر المشترك منها متواترة كشجاعة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وجود حاتم.
وسمي هذا التواتر بالمعنى م: (أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حرم الخمر» ش: منها ما أخرجه البخاري، ومسلم، عن ثابت «عن أنس قال: " كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر» ، وقد ذكرناه.
ومنها: ما أخرجه أحمد في " مسنده " عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله حرم الخمر، والميسر، والكرمة، والعنب» .
ومنها: ما أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب " ذم المسكر " عن محمد بن عبد الله بن مربع، عن المفصل بن سليمان التمري، عن عمرو بن سعيد، عن الزهري، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، أن أبان قال: سمعت عثمان بن عفان -رضي الله تعالى

(12/349)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، ويعتزل الناس، فطمعت به امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت: إنما أدعوك لشهادة. فدخل معها يطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام، وباطية خمر، فقالت: والله إني ما دعوتك إلا لتقع علي، أو لتقتل هذا الغلام، أو تشرب الخمر. فسقته كأسا، فقال: زيديني، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبته ".» ورواه البيهقي في " سننه " موقوفا على عثمان، وهو أصلح.
ومنها: ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في " مسنده ": حدثنا جعفر بن حميد الكوفي، حدثنا يعقوب العمي عن عيسى بن حارثة بن عبد الله قال: «جاء رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين، فقال: يا فلان: الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على كل وسجاها بأكبسة، ثم أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله بلغني أن الخمر قد حرمت؟، فقال: " أجل " قال: هل لي أن أردها على من ابتعتها منه؟. قال: " لا " قال: فأؤديها إلى من يكافئني منها؟. قال: " لا ". قال: فإن فيها ليتامى في حجري، قال: " إذا أتاني مال البحرين، فإني أعوض أيتامك عن مالهم ".
ثم نادى بالمدينة، فقال رجل: يا رسول الله: الأوعية ينتفع بها، قال: " فحلو أوكيتها " فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي» .
ومنها: ما أخرجه ابن ماجه في " سننه " عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«مدمن خمر كعابد وثن» .
وفي " صحيح ابن حبان " عن ابن عباس نحوه.
وأخرج البزار في " مسنده " عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: «شارب الخمر كعابد وثن» .

(12/350)


وعليه انعقد الإجماع؛
ولأن قليله يدعو إلى كثيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها ما أخرجه ابن ماجه أيضا عن أبي الدرداء: «أوصاني خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر» .
وأخرج أيضا عن خباب بن الأرت قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك والخمر، فإن خطيئتها أرفع الخطايا كما أن شجرتها أسرع الشجرة» .
ومنها ما أخرجه الترمذي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقي من نهر الخبال ". قيل: يا أبا عبد الرحمن: وما نهر الخبال؟. قال: نهر من صديد أهل النار» .
وقال: حديث حسن، وعند أبي داود نحوه عن ابن عباس، وعن ابن ماجه نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعند أحمد نحوه عن أسماء بنت زيد، ومنها: ما رواه البخاري عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة» .
ومنها: ما أخرجه النسائي من حديث وهب، أخبرنا عمرو بن محمد، عن عبد الله بن يسار، سمع سالم بن عبد الله يقول: قال ابن عمر، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق والديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» .
والأحاديث من الصحاح والحسنة كثيرة جدا م: (وعليه انعقد الإجماع) ش: أي على تحريم الخمر انعقد إجماع الأمة، فكل مسلم يعتقد حرمتها قطعا، إلا من خلع ربقة الإسلام من الدهرية والفلاسفة خذلهم الله -عز وجل -.

[علة تحريم قليل الخمر]
م: (ولأن قليله يدعو إلى كثيره) ش: أي قليل الخمر يدعو إلى كثيره، ولهذا قيل: ما من شراب وطعام، إلا ولذته في الابتداء تزيد على لذته في الانتهاء، إلا الخمر، فإن اللذة لشاربها تزداد بالإكثار. ولهذا يزداد حرمته إذا أصاب منها شيئا فكان القليل داعيا إلى الكثير فيكون

(12/351)


وهذا من خواص الخمر. ولهذا تزداد لشاربه اللذة بالاستكثار منه بخلاف سائر المطعومات، ثم هو غير معلوم عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر المسكرات، والشافعي رحمه الله يعديه إليها، وهذا بعيد لأنه خلاف السنة المشهورة، وتعليله لتعدية الاسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محرما ألا ترى إن الزنا لما حرم، حرم دواعيه، وإن المشي على قصد المعصية معصية م: (وهذا من خواص الخمر) .
ش: أي دعاء قليله إلى كثيره. م: (ولهذا) ش: أي: ولأجل ذلك، م: (تزداد لشاربه اللذة بالاستكثار منه بخلاف سائر المطعومات) ش: حيث تشمئز النفس منها عند الاستكثار. وهذا كله ظاهر بالمشاهدة.
وقال الأترازي: ولو قال " بخلاف سائر المسكرات "، أو قال " بخلاف سائر المشروبات " كان أولى لأنه يريد الفرق بين الخمر، وسائر المسكرات، لا إلى سائر المطعومات.
قلت: الذي قاله المصنف هو الأولى؛ لأن مراده: بيان الفرق بين الخمر وغيره مما له طعم، سواء كان مطعوما أو مشروبا في كون دعاء قليله إلى كثيره حيث وجد هذا المعنى في الخمر دون غيره مطلقا. على أن الطعم يذكر، ويراد به الشرب كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] .
وأما الذي يتعلق بالنزاع مع الشافعي، فإنه ذكر فيه لفظ المسكرات حيث قال: لا يتعدى حكمه إلى المسكرات م: (ثم هو غير معلول عندنا) ش: أي القليل غير معلول عندنا.
ويقال: إن هذا اللفظ، أعني الخمر، غير معلول م: (حتى لا يتعدى حكمه) ش: وهو الحرمة م: (إلى سائر المسكرات) ش: أي إلى قليله سائر المسكرات حتى لا يجب الحد بشراب قطرة من غير الخمر من المسكرات م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعديه إليها) ش: أي تعدي هذا اللفظ إلى المسكرات لأن الخمر اسم لما يخامر العقل، ولهذا لا يسمى العصير خمرا قبل التخمر ولا بعد التخلل. وكل مسكر مخامر فيكون خمرا م: (وهذا بعيد) ش: أي قول الشافعي بعيد م: (لأنه خلاف السنة المشهورة، وتعليله لتعدية الاسم) ش: أي لأن تعليل الشافعي يخامره العقل، أو بالسنة المضطربة خلاف السنة المشهورة، وهي ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - موقوفا عليه، ومرفوعا: «حرمة الخمر لعينها، والسكر من كل شراب» .
ولما كانت حرمتها لعينها لا يصح التعليل بمعنى المخامرة لتعدية اسمها إلى غيرها. ثم إن هذا الحديث أخرجه النسائي في " سننه " موقوفا على ابن عباس من طرق فأخرجه عن ابن شبرمة عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها، والمسكر من كل شراب» .

(12/352)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي لفظ النسائي قال: وابن شبرمة لم يسمعه عن شداد. ثم أخرجه عن هشيم، عن ابن شبرمة، حدثني الثقة عن ابن شداد، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «حرمت الخمر لعينها قليلها، وكثيرها. والمسكر من كل شراب» . وفي لفظ: «وما أسكر من كل شراب» ، وقال: هذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة.
ورواه البزار في " مسنده ": حدثنا محمد بن حرب، حدثنا أبو سفيان الحميري، حدثنا هشام، عن ابن شبرمة، عن عمار الذهبي، عن عبد الله بن شداد، ورواه عن ابن عون مسعر، والثوري، وشريك، ولا يعلم رواه عن ابن شبرمة عن عمار الذهبي عن ابن شداد عن ابن عباس إلا هشيم، ولا عن هشيم إلا أبو سفيان. ولم يكن هذا الحديث إلا عند محمد بن حرب، وكان واسطيا ثقة، حدثنا زيد بن أجرم أبو طالب الطائي، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد: فذكره.
حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، حدثنا سفيان، عن أبي سلمة، عن أبي عون، عن ابن شداد، عن ابن عباس، قال: وشعبة يقول: " والمسكر ". وقد رواه جماعة عن أبي عون فاقتصرنا على رواية مسعر ولا نعلم روى الثوري عن مسعر حديثا مسندا إلا هذا الحديث، وأخرجه الطبراني في " معجمه " عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس موقوفا: «حرمت الخمر لعينها القليل منها، والكثير، والمسكر من كل شراب» .
وأخرجه عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس: مرفوعا نحوه، وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " في ترجمة مسعر عن قلاد بن يحيى عن مسعر. عن أبي عون به، وقد رواه عن مسعر سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وسفيان، وإبراهيم:
أخبرنا عيينة، ورفعه سفيان بن عيينة، عن مسعر فقال: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفرد شعبة عن مسعر فقال: «والسكر من كل شراب» .
وأخرجه الدارقطني في " سننه " من طريق أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن مسعر، عن أبي عون، عن ابن شداد، عن ابن عباس موقوفا: «إنما حرمت الخمر لعينها، والسكر من كل شراب» قال: وهذا هو الصواب عن ابن عباس؛ لأنه قد روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام» . ورواه طاوس وعطاء ومجاهد، عن ابن عباس: «قليل ما أسكر وكثيره حرام» .

(12/353)


والتعليل في الأحكام لا في الأسماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، عن مسعر، عن ابن عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: «حرمت الخمر لعينها، القليل منها، والكثير، والمسكر من كل شراب» .
قال ابن حزم: صحيح، وتابع أبا نعيم جعفر بن عون، فرواه عن مسعر كذلك، ونافع عن مسعر عن سفيان الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرواه عن ابن عون كذلك، وأخرجه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " التهذيب ".
حدثنا محمد بن سمن الجرسي: حدثنا عبد الله بن عيسى، حدثنا داود بن هند عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «حرم الله الخمر لعينها، والسكر من كل شراب» .
وروي هذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أيضا، أخرجه العقيلي في كتاب " الضعفاء " في ترجمة محمد بن الفرات، حدثنا عمرو بن أحمد بن عمر بن شرح، حدثنا يوسف بن عدي، حدثنا محمد بن الفرات الكوفي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الصفا والمروة أسبوعا ثم استند إلى حائط من حيطان مكة قال: هل شربة؟، فأتي بقعبة من نبيذ فذاقه، فقطب، ورده. فقام إليه رجل من آل خطب، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا شراب أهل مكة. قال: فصب عليه الماء ثم شرب، ثم قال: " حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» .
وأعله محمد بن الفرات، ونقل عن يحيى بن معين أنه قال فيه: ليس بشيء. ونقل عن البخاري أنه قال: منكر الحديث، وقال العقيلي: لا يتابع عليه.
وأخرجه العقيلي أيضا عن عبد الرحمن بن بشر العطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث، «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأشربة عام حجة الوداع فقال: " حرم الله الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» .
وقال عبد الرحمن: هذا مجهول في الرواية والسبب. وحديثه غير محفوظ إنما يروى هذا عن ابن عباس في قوله؛ أي ولأنه تعليل للتعدية الاسم يعني ما ذهب إليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تعليل لتعدية الاسم، فلا يصح لأن التعليل لا يكون إلا في الأحكام أشار إليه بقوله: م: (والتعليل في الأحكام لا في الأسماء) ش: أي يكون التعليل للتعدية في الأحكام، لا يكون في الأسماء؛ لأن الأسماء الموضوعة للأعيان والأشخاص يكون المعقود منها تعريف المسمى وإحضاره بذلك الاسم، لا تحقيق ذلك الوصف من الشيء، فلا يمكن التعدية.
وهب أن الخمر سمي به لمخامرته العقل، ولكن لا يدل على أن كل مخامرة مسمى خمرا

(12/354)


والرابع: أنها نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها بالدلائل القطعية على ما بينا. والخامس: أنه يكفر مستحلها لإنكاره الدليل القطعي. والسادس: لسقوط تقومها في حق المسلم حتى لا يضمن متلفها وغاصبها، ولا يجوز بيعها؛ لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها، والتقوم يشعر بعزتها. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما مر من قبل ولأنه تعدية من التفاوت في المعنى.

[نجاسة الخمر] 1
(والرابع) ش: أي الموضع الرابع: م: (أنها) ش: أي الخمر م: (نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها بالدلائل القطعية على ما بينا) ش: أشار به إلى قوله: سماه رجسا فكان كالبول والدم المسفوح، م: (والخامس) ش: أي الموضع الخامس م: (أنه يكفر مستحلها) ش: أي مستحل الخمر م: (لإنكاره الدليل القطعي) ش: وهو الكتاب، وكذلك الأحاديث المشهورة، وكذلك الإجماع م: (والسادس) ش: أي الموضع السادس م: (لسقوط تقومها في حق المسلم حتى لا يضمن متلفها) ش: بالإجماع، قالوا: عدم الضمان في إتلافها لا يدل على إباحة إتلافها، فكذلك اختلفوا: هل يباح إتلافها، قال مجد الأئمة السرخسي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وقيل: يباح، والأصح: أنه لا يباح الإتلاف إلا لغرض صحيح، بأن كانت الشرب يشربها غالبا لو تركت عنده حتى لو كانت عند صالح لا يباع فإنها مملوكة، وفي بقائها فائدة وهو التخليل. كذا ذكره المحبوبي. م: (وغاصبها) ش: أي ولا يضمن غاصبها أيضا من مسلم م: (ولا يجوز بيعها؛ لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها، والتقوم يشعر بعزتها) ش: لأن معنى قولنا أن الشيء متقوم أي إنه مما يجب إبقاؤه بعينه، أو بمادته م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم «عن عبد الرحمن بن وعلة، قال: سألت ابن عباس عما يعمل من العنب؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: - إن رجلا أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راوية خمر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل علمت أن الله حرم شربها؟ " قال: لا، قال: فساره إنسان. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بم ساررته؟ ". فقال: أمرته ببيعها، فقال: " إن الله حرم شربها، وحرم بيعها "، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها» .
وأخرج البخاري، ومسلم عن عطاء، «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح وهو يقول بمكة: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام ". فقيل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟. فقال: " لا. هو حرام " ثم قال: " قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها، وأكلوا ثمنها» .
وأخرج أحمد في " مسنده "، «عن نافع بن كيسان، أن أباه أخبره أنه كان ينحل في الخمر في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه أقبل في الشام، ومعه زقاق خمر يريد بها التجارة، فأتى رسول

(12/355)


واختلفوا في سقوط ماليتها، والأصح أنه مال؛ لأن الطباع تميل إليها وتضن بها. ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمر لا يحل له أن يأخذه، ولا للمديون أن يؤديه؛ لأنه ثمن بيع باطل. وهو غصب في يده أو أمانة على حسب ما اختلفوا فيه كما في بيع الميتة. ولو كان الدين على ذمي، فإنه يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم الطالب يستوفيه؛ لأن بيعها فيما بينهم جائز. والسابع: حرمة الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إني أتيت بشراب جيد؟، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا كيسان إنها حرمت بعدك ". قال: أفأبيعها يا رسول الله؟ قال: " إنها حرمت، وحرم ثمنها ". فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها فأهرقها» .
وأخرج أيضا «عن عبد الحميد بن جعفر، عن بشر بن حوشب، عن تميم الداري: أنه كان يهدي كل عام رواية خمر، فلما أنزل الله تحريم الخمر، جاء بها؛ فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحك. قال: " أشعرت أنها قد حرمت؟ " قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفلا أبيعها، وأنتفع بثمنها؟. قال: " إن الله حرم الخمر، وثمنها» .

[سقوط مالية الخمر] 1
(واختلفوا في سقوط ماليتها) ش: أي اختلف العلماء في سقوط مالية الخمر م: (والأصح أنه مال) ش: غير متقوم م: (لأن الطباع تميل إليها وتضن بها) ش: أي تبخل به، وهذا هو حقيقة المال م: (ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمر) .
ش: وفي بعض النسخ. فأوفاه من ثمن خمر م: (لا يحل له أن يأخذه، ولا للمديون أن يؤديه؛ لأنه ثمن بيع باطل) ش: عنده إنما كان باطلا؛ ولأن الخمر مبيع، فكان باطلا م: (وهو غصب في يده أو أمانة) ش: أي هذا الثمن غصب في يده، وعلى قول أبي سعيد البرذعي: لأنه أخذه بغير إذن الشرع، [أما] على مذهب أبي نصر أحمد الطواويسي: لأنه أخذه برضى صاحبه م: (على حسب ما اختلفوا فيه) ش: أي في ثمن البيع الباطل على ما ذكرناه م: (كما في بيع الميتة) ش: يرجع إلى قوله: لأنه ثمن بيع باطل.

[الانتفاع بالنجس]
(ولو كان الدين على ذمي فإنه يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم الطالب يستوفيه؛ لأن بيعها فيما بينهم جائز) ش: لأنها مال متقوم في حق الكافر، وبيعها جائز عنده م: (والسابع) ش: أي الموضع السابع م: (حرمة الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام) .
ش: قال صاحب " العناية ": يريد بحرمة الانتفاع التداوي بالاحتقان، وسقي الدواب، والإقطار في الإحليل. قلت: أخذ هذا من كلام الكاكي. والكاكي من تاج الشريعة. ولكن قوله: حرمة الانتفاع أعم من هذه الثلاثة، والتخصيص بها تحكم، بل لا يجوز استعمالها في دهن أو طيب ونحوهما، ولا يجوز الإسقاط بها، وكذا التداوي بحقيقة وغيرها، ولا يجوز

(12/356)


ولأنه واجب الاجتناب، وفي الانتفاع به اقتراب

والثامن: أن يحد شاربها وإن لم يسكر منها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سقيها للدواب، فإن سقى شاة فذبحت من ساعته أكل لحمها لأنه لم يؤثر في لحمها، فإن اعتادت شرب الخمر، وصارت بحال يوجد ريح الخمر من حلقها، فإن كان إبلا، يحبس شهرا ثم يؤكل، وإن كان بقرا يحبس عشرين يوما، وإن كان شاة يحبس عشرة أيام، والدجاجة تحبس ثلاثة أيام. فإن صب في حنطة، لم يؤكل، كما لو صب فيها بول، فإن غسلت فطبخت حل أكلها إذا لم يوجد ريح الخمر، وطعمها لزوال النجاسة.
قالوا: هذا إذا لم تنتفخ، فإن انتفخت هل تطهر بالغسل؟.
على قول أبي يوسف: تطهر إذا غسلت ثلاث مرت وجففت في كل مرة. وعلى قول محمد: لم تطهر أبدا. وعلى قول أبي يوسف: تغلى ثلاث مرات بماء طاهر، وتبرد في كل مرة. كذا ذكره قاضي خان في " شرح الجامع الصغير "، م: (ولأنه واجب الاجتناب) ش: أي ولأن الخمر واجب الاجتناب بالنص لكونه حراما م: (وفي الانتفاع به اقتراب) ش: وهو خلاف النص.

[الحد في شرب الخمر]
م: (والثامن) ش: أي الموضع الثامن م: (أن يحد شاربها وإن لم يسكر منها) ش: أي من الخمر؛ لأن حرمتها لعينها، فلا يشترط فيه السكر م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه» .
ش: هذا الحديث رواه أبو داود عن عاصم، عن أبي صالح، عن معاوية، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم» .
حدثنا موسى، حدثنا حماد، عن حميد بن يزيد، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بهذا المعنى، قال: وأحسبه قال في الخامسة: «إن شربها فاقتلوه» .
وروى أبو داود، والنسائي أيضا، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه» .
وقال أبو داود: وكذا حديث عمر بن أبي سملة عن أبيه، وقال: «فإن عاد في الرابعة

(12/357)


إلا أن حكم القتل قد انتسخ فبقي الجلد مشروعا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فاضربوا عنقه» . وكذا حديث سهل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن شربوا الرابعة فاقتلوهم ". وكذا حديث ابن أبي نعيم عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذا حديث عبد الله بن عمر، والمريد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي حديث [....] عن معاوية مرفوعا: «وإن عاد في الثالثة [فاجلدوه] ، والرابعة فاقتلوه» م: (إلا أن حكم القتل قد انتسخ) ش: بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث
» الحديث.
ورواه البيهقي من حديث ابن عيينة، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه " فأتي برجل قد شرب الخمر فجلدوه، ثم أتي به فجلدوه، ثم أتي به في الرابعة فجلده فرفع القتل عن الناس» وكانت رخصة.
ورواه الشافعي عن سفيان، وفيه: «فإن شرب فاقتلوه» لا يدري الزهري بعد الثالثة أو الرابعة. وقال في آخره: ووضع القتل، وصارت رخصة. وروي أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن قبيصة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، وإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه ". فأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل من الأنصار يقال: له نعيمان، فضربه أربع مرات، فرأى المسلمون أن القتل قد أخر وأن الضرب قد وجب» .
وروى الحاكم، وقال: أخبرنا ابن أبي دارم الحافظ بالكوفة، حدثنا المنذر بن محمد القابوسي، حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن صالح، عن محمد بن إسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن المنكدر، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعيمان أربع مرات في الخمر، فرأى المسلمون حرجا عظيما أن الحد قد وقع، وأن القتل أخر م: (فبقي الجلد مشروعا) ش: بالأحاديث المذكورة، وقد مر بيانه مستوفى في كتاب الحدود، فإن شربها إنسان لخوف العطش لا بأس به كما لو شرب البول. وقال الشافعي: يكره، فإن شربها بهذه الصورة لم يحد؛ لأن الضرورة كما أثرت في الشرب أثرت في سقوط الحد. فإن زاد على قدر الحاجة فسكر حد لانعدام الضرورة، وكذا إذا أكره على شرب الخمر فسكر لم يحد، فأما إذا خلط الماء بالخمر، فإن كان الماء أقل، أو كان الماء سواء يحد شاربه إذا دخل إلى جوفه. وإن كان الغلبة للماء فلا يحد شاربه إلا إذا سكر.

(12/358)


وعليه انعقاد إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذا في " شرح الطحاوي " م: (وعليه انعقد إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي على أنها حرام، ويحد بشرب قليلها. كذا قاله الكاكي. والصواب أن يقال: أي وعلى الجلد انعقد الإجماع من الصحابة؛ لأن بين انعقاد الإجماع على تحريمها فيما قضي من قريب وهو قوله: وقد جاءت السنة المتواترة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الخمر، وعليه انعقد الإجماع. قال الكاكي: وما حكي عن قدامة بن مظعون، وعمرو بن معد كرب، وابن حدل بن سهم، بأنهم قالوا بحلها.
فقد روى الجوزجاني بإسناده إلى ابن عباس: أن قدامة بن مظعون، وعمرو بن مظعون شرب الخمر، وقال له عمر: ما حملك على ذلك. فقال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] وأتي بالمهاجرين الأولين من أهل بدر، فقال عمر: أجيبوا الرجل. فسكتوا. فقال لابن عباس: أجبه. فقال: إنما أنزل الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم. ثم سأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن الجلد فيها. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، فعليه حد المفترين ثمانين جلدة. فجلده عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثمانين، فقال: أخطأت التأويل.
وروي أن أناسا شربوا الخمر بالشام، فقال لهم يزيد بن أبي سفيان: شربتم الخمر، قالوا: نعم، بقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] الآية. فكتب فيهم إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فكتب عمر: أن ابعثهم إلي سريعا لئلا يفتنوا عباد الله. فبعث بهم إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: ما ترى؟. فقال: أرى إن زعموا أنها حلال، شرعوا في دين الله فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدوهم ثمانين. فجلدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثمانين. ورجعوا إلى تحريمها فانعقد الإجماع. انتهى.
قلت: انعقاد الإجماع على تحريم الخمر كان قبل ذلك بالكتاب، والسنن المشهورة. وهؤلاء الذين ذكرهم إنما شربوا الخمر متأولين بالآية المذكورة مع كونهم مخطئين في هذا التأويل. فلهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لقدامة: أخطأت التأويل. ولم يكونوا مخالفين للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حتى يكون الإجماع وقت إقامة الحد عليهم على أن هذا الخبر لم ينته إلى الصحة. وقد رواه البيهقي في " سننه " من طريق سعيد بن عفير، حدثنا يحيى بن فليح، أخذ محمد، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: " أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعني بالأيدي، والنعال، والعصي - ".

(12/359)


وتقديره ما ذكرناه في الحدود
والتاسع: أن الطبخ لا يؤثر فيها؛ لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه على ما قالوه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكانوا في خلافة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أكثر منهم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: لو فرضنا لهم حدا افتراضي نحو ما كان يضربون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يجلدهم أربعين حتى توفي.
ثم كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من بعدهم يجلدهم أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب، فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدوني بيني وبينك كتاب الله. قال: وفي أي كتاب الله تجد أني لا أجلدك. فقال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية. شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدرا، وأحد، والخندق، والمشاهد.
فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: ألا تردون عليه ما يقول؟. فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: إن هؤلاء الآيات أنزلت عذرا للماضين، وحجة على الباقين؛ لأنه يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] فإن كان من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: فماذا ترون؟. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: نرى أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. فأمر عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فجلد ثمانون.
وقال الذهبي في " مختصره ": لا أعرف ابن فليح.
م: (وتقديره ما ذكرناه في الحدود) ش: أي، وتقدير الجلد ذكرناه في كتاب الحدود.

[الخمر إذا طبخت حتى ذهب ثلثاها]
م: (والتاسع) ش: أي الموضع التاسع م: (أن الطبخ لا يؤثر فيها) ش: أي في الخمر بعد أن صار خمرا. يعني أن الخمر إذا طبخت حتى ذهب ثلثاه لا يحل م: (لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها) ش: أي لرفع الحرمة بعد ثبوتها لأن أثر الطبخ في إزالة صفة الإسكار والخمر حرام، وموجب للحد بعينها لا لإسكارها.
وفي " القنية ": قيل: لو زالت حرارتها بالطبخ، يحل شربها؛ لأنها ما بقيت خمرا م: (إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه) ش: أي إلا أن الشأن لا يحد في المطبوخ من الخمر ما لم يسكر. م: (على ما قالوا) ش: أي المشائخ. وإنما قال هكذا لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر أنه إذا شرب بعد الطبخ ولم يسكر.
ثم قالوا: قيل: يجب الحد. ثم قالوا: لا يجب لأنه ليس بخمر لغة، فإنه الخمر لغة:

(12/360)


لأن الحد بالقليل في النيء خاصة لما ذكرناه. وهذا قد طبخ.
والعاشر: جواز تخليلها، وفيه خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسنذكره من بعد إن شاء الله هذا هو الكلام في الخمر. وأما العصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة، ويسمى البازق والمنصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النيء من ماء العنب، وهذا مطبوخ، وليس بنيء أشار إليه بقوله: م: (لأن الحد بالقليل في النيء خاصة لما ذكرناه، وهذا قد طبخ) ش: أي صار مطبوخا.
وقال شمس الأئمة السرخسي: يحد من شرب منه قليلا كان أو كثيرا بالنص لأنه يوجب الحد في قليل الخمر.

[تخليل الخمر]
م: (والعاشر: جواز تخليلها) ش: أي الموضع العاشر في جواز تخليل الخمر م: (وفيه) ش: أي وفي هذا الموضع م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسنذكره من بعد إن شاء الله) ش: يعني في آخر هذا الباب.
م: (هذا هو الكلام في الخمر) ش: يعني الذي ذكرناه إلى هذا الموضع هو الكلام في أحكام الخمر م: (وأما العصير) ش: هذا عطف على قوله أما الخمر. وقد فصل بها قوله: الأشربة المحرمة أربعة؛ لأن التفصيل يكون بعد الإجمال.
م: (إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة ويسمى البازق) ش: قيل: إنها كلمة معربة تعريب باده بالفارسي. وكما سئل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عن البازق؛ فقال: سبق محمد البازق. وما أسكر فهو حرام. كذا في " الفائق ": إن لم يكن البازق في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويجوز أن يكون معناه: سبق قوله في البازق وغيره في " المغرب ".
هذا ضعيف: بل البازق عصير عنب طبخ أدنى طبخة فصار شديدا.
م: (والمنصف) ش: يجوز بالنصب عطفا على قوله: البازق، أي يسمى الذاهب أقل من الثلثين: البازق، والمنصف، وأيضا: أنه قد حصر الأشربة المحرمة على أربعة وهي: الخمر، والعصير الذاهب أقل من الثلثين، ونقيع التمر، ونقيع الزبيب.
ولو كان المنصف غير البازق، يلزم أن تكون الأشربة المحرمة خمسة، ويجوز المنصف بالرفع لأنه نوع من الذاهب أقل من الثلثين؛ لأنه أعم أن يكون منصفا أو غيره. ولهذا جعل شيخ الإسلام خواهر زاده البازق قسما، والمنصف قمسا حيث قال: أما الذي يتخذ من العنب، والرطب: قالوا: ستة: الخمر، والبازق، والمنصف، والمثلث، والتجيج، والجمهوري، والحميدي، وسمي أبا يوسفي.

(12/361)


وهو ما ذهب نصفه بالطبخ، فكل ذلك حرام عندنا إذا غلي، واشتد وقذف بالزبد، أو إذا اشتد على الاختلاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: أيهما أوجه؟.
قلت: الأول أوجه معنى. وهذا أوجه لفظا؛ لأنه لو كان منصوبا يقال أيضا م: (وهو ما ذهب نصفه بالطبخ) ش: أي المنصف هو الذي ذهب نصفه بالطبخ. م: (فكل ذلك حرام عندنا) ش: يعني القليل، والكثير. ولكن م: (إذا غلى واشتد وقذف بالزبد) ش: على مذهب أبي حنيفة م: (أو إذا اشتد) ش: يعني من غير قذف بالزبد على مذهبهما أشار إلى ذلك بقوله م: (على الاختلاف) ش: المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه في اشتراط القذف بالزبد. ثم تبين ما ذكره خواهر زاده من أنواع ما يعمل من العنب:
الأول: الخمر: وقد مر بيانه.
والثاني: البازق: فحكمه أنه حلال شربه ما دام حلوا، فإذا غلا، واشتد، وقذف بالزبد، فإنه يحرم قليله، وكثيره في قول علمائنا، وعامة العلماء. وعند بشر، وكذا أصحاب الظواهر، والأصفهاني، وغيرهم: يحل شربه، ولا يفسق شاربه، ولا يكفر مستحله، ولا يحد شاربه. وعندنا: ما لم يسكر منه. وعند الشافعي: يحد إذا شرب قطرة، ونجاسته غليظة.
وقال شيخ الإسلام: ينبغي أن تكون خفيفة على مذهبيهما لتعارض الأخبار في إباحته وحرمته.
والثالث: المنصف: وهو الذي طبخ من نيء العنب حتى بقي نصفه، فما دام حلوا يحل شربه، وإذا غلا واشتد، وقذف بالزبد، لا يحل شربه عندنا خلافا لبشر، وأهل الظاهر.
والرابع: المثلث، وسيجيء حكمه.
والخامس: المتبجج: واختلفوا في تفسيره، فقال الإمام أبو حنيفة الكعبي: هو العصير الذي صب فيه الماء، وطبخ حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه فيكون الذاهب من العصير أقل من الثلثين، وأنه لما دام حلوا يحل شربه، وإذا غلا واشتد لا يحل شربه قليله، وكثيره عند علمائنا جميعا. وهو الذي سمي جمهوريا أيضا.
وقال بعضهم: التبجيج الحميد وهو أن يصب الماء على المثلث، ويترك حتى يشتد فإنه يحل شربه. قال شيخ الإسلام خواهر زاده: وهو الأصح. ويسمى أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان كثيرا يستعمله، وهل يشترط لإباحته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف بعدما صب الماء فيه، أو في طبخه؟ اختلف المشائخ فيه.

(12/362)


وقال الأوزاعي: إنه مباح. وهو قول بعض المعتزلة؛ لأنه مشروب طيب وليس بخمر. ولنا: أنه رقيق ملذ مطرب، ولهذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه دفعا للفساد المتعلق به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شيخ الإسلام: كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل يقول: يشترط أدنى طبخة لإباحته عندهما. وكان الشيخ الإمام الجوهري والإمام الحاكم أبو محمد الكفيني يقولان: لا يشترط.
ومن حكمه: أنه يحل شربه ما دام حلوا. وكذا إذا غلا، واشتد ما دون السكر عند أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله -.
ولا يحل السكر منه، ويحد على ذلك، ولا يحد إذا شرب قطرة خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال الأوزاعي) ش: وهو عبد الرحمن بن عمرو، إمام أهل الشام الأوزاعي نسبة إلى أوزاع: وهي من قبائل شتى. وقال ابن أبي خيثمة: الأوزاعي بطن من همدان. وقيل: بطن من ذي الكلاع. وقيل: اسمه مريد بن زيد بطن من حمير. وقيل غير ذلك.
م: (إنه مباح) ش: أي العصير الذي طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه يباح شربه.
م (وهو قول بعض المعتزلة) ش: وهو: بشر المريسي، وهو قول أصحاب الظاهر أيضا كداود الأصفهاني وغيره.
م: (لأنه مشروب طيب) ش: إذ الطيب ما يستطيبه الطبع م: (وليس بخمر) ش: صورة لأنه نيء، ولا معنى؛ لأن الخمر مشتق من المخامرة. ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الخمر ما يخامر العقل، بخلاف القدح المسكر، فإنه يخامر العقل فيكون خمرا من حيث المعنى.
م: (ولنا: أنه رقيق) ش: أي أن العصير المذكور رقيق، واحترز به عن المثلث، والدبس، فإنهما غليظان م: (ملذ) ش: من الإلذاذ أراد به أنه جانب اللذة م: (مطرب) ش: من الإطراب فيدعو قليله إلى كثيره.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه ملذا مطربا م: (يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه دفعا للفساد المتعلق به) ش: وقد اجتمع الفساق عليه، ودعا قليله إلى كثيره بخلاف المثلث؛ لأنه ليس بخمر حقيقة، ولا معنى؛ لأنه لا يؤدي إلى المخامرة غالبا، فإن شرب القليل منه لا يدعو إلى الكثير لغلاظته، وكثافته، ولا يفسق شاربه للاختلاف فيه.
ولم يثبت الحرمة فيه بدليل قاطع بخلاف ما لو أكل متروك التسمية عمدا حيث يفسق مع الاختلاف في الحرمة لثبوتها بدليل قطعي. والحرمة متى تثبت ولم يثبت متى: لم يثبت بدليل

(12/363)


وأما نقيع التمر، وهو السكر، وهو النيء من ماء التمر أي الرطب، فهو حرام مكروه، وقال شريك بن عبد الله: إنه مباح لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قطعي لا يعتبر الاختلاف بعد ذلك.

[نقيع التمر وما يتخذ من التمر]
م: (وأما نقيع التمر) ش: عطف على قوله: وأما العصير م: (وهو السكر) ش: بفتح السين، والكاف جميعا، وما يتخذ من التمر أنواعه ثلاثة: السكر، والنبيذ، والفضيخ: وهو المراد بالنقيع، وإنه حرام كالبازق. والنقيع من أنقع التمر، والزبيب في الخابية إذا أبقاه فيها ليبتل ويخرج منه الحلاوة في الماء، وأهمه الشراب النقيع.
م: (وهو النيء من ماء التمر) ش: أي النقيع الذي هو السكر وهو النيء من ماء العنب م: (أي الرطب) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تفسير " صاحب الهداية ": التمر بالرطب فيه نظر؛ لأن التمر إذا نقع في الماء يسمى نقيعا، ولا حاجة إلى أن ينقع الرطب لا محالة يعني يسمى نقيعا.
وقياس كلامه هنا: أن يقول: في نقيع الزبيب؛ أي نقيع العنب، وليس بقوي.
قلت: هذا التفسير لا بد منه لأن الشراب المتخذ من التمر اسمه نبيذ التمر، لا السكر، وهو حلال على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله - على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
وقال تاج الشريعة: وفائدة تفسير التمر بالرطب: أن في نقيع اليابس ينبغي أن يكون خلاف الأوزاعي كما في المطبوخ قليلا من عصير العنب، والجامع أن في الأول ذهب البعض بالنار، وفي الثاني بالشمس، والحاصل: أنه ذكر خلاف الأوزاعي في الزبيب؛ لأنه ذهب بعضه بالشمس.
وهذا المعنى ثابت في التمر. ولم يذكر الخلاف فيه، علم أن المراد من التمر الرطب لأنه لا يخالفون في الرطب، وإنما يخالفنا في اليابس من التمر م: (فهو حرام مكروه) ش: أردف الحرام بالمكروه ليعلم أن درجة حرمته أدنى من الخمر؛ لأن حرمة السكر اجتهادية، وحرمة الخمر بالإجماع قطعية. ولهذا لا يكفر مستحل السكر، ويكفر مستحل الخمر.
م: (وقال شريك بن عبد الله) ش: ابن أبي شريك ساب بن عبد الله النخعي الكوفي من أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وممن أخذ منه ببخارى، ومات بالكوفة يوم السبت في ذي القعدة سنة سبع وسبعين ومائة، وروى له مسلم متابعة، تولى القضاء بواسط سنة وخمسين ومائة ثم تولى الكوفة بعد ذلك.
م: (إنه مباح) ش: أي السكر مباح م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] ش:

(12/364)


امتن علينا به وهو بالمحرم لا يتحقق. ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أول الآية، ومن ثمرات النخيل، والأعناب تتخذون سكرا ورزقا حسنا أي يسقيكم من ثمرات النخيل، والأعناب أي من عصيرها. وحذف الدلالة يسقيكم قليله عليه. وقوله: تتخذون منه سكرا بيان وكشف عن كيفية الإسقاء. والسكر: النبيذ: وهو خمر التمر، والرزق الحسن: الدبس، والخل، والتمر، والزبيب، وغير ذلك. والرزق الحسن شرعا ما هو حلال. وحكم المعطوف، والمعطوف عليه واحد؛ لأن الآية لبيان الامتناع. ويجوز أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل: تتخذون ما هو سكر، ورزق حسن.
م: (امتن علينا به) ش: أي بالسكر م: (وهو بالمحرم لا يتحقق) ش: أي الامتنان بالحرام لا يتحقق من الحكم. م: (ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: يعني على تحريم السكر.
وروى عبد الرزاق في " مصنفه "، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن أبي وائل قال: اشتكى رجل منا بطنه فوصف له السكر: فقال عبد الله بن مسعود: «إن الله لم يكن ليجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
أخبرنا معمر عن منصور به وزاد قال معمر: والسكر يكون من التمر، و [من] الطريق عبد الرزاق [عن] . روى الطبراني في " معجمه " بالسند الأول.
ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور به حدثنا جرير عن مغيرة، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: السكر خمر.
حدثنا عفص بن غياث، عن ليث، عن حرب، عن سعيد بن جبير، قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أنه سئل عن السكر، فقال: الخمر.
وفي " السنن " للدارقطني، عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: كان عبد الله يحلف بالله: أن التي أمر بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكسر دنانه حين حرمت الخمر سكر التمر، والزبيب.
وروى البيهقي من حديث سفيان بن الأسود بن قيس، عن عمر بن سفيان، عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله سبحانه وتعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] ؟.
قال: السكر ما حرم من ثمرتها؛ والرزق الحسن من ثمرتها.
وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] فحرم الله السكر بعد ذلك السكر مع تحريم الخمر لأنه منها. قال: رزقا حسنا فهو حلال من الخل والرب والنبيذ، وأشباه ذلك. فأقره الله، وجعله حلالا لنا.

(12/365)


ويدل عليه ما رويناه من قبل. والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها. وقيل: أراد به التوبيخ. معناه والله أعلم: تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويدل عليه ما رويناه من قبل) ش: أي يدل على إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ما رويناه من قبل، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» . وأشار إلى الكرمة والنخلة ولم يرو به بيان الإثم، فإنه ما بعث لذلك فيكون المراد بيان حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في الحرمة. ثم التي من ماء العنب إذا غلا واشتد خمرا. فكذا التي من ماء التمر.
إلا أنه لا يحد بنفس الشرب، لأن اختلاف العلماء أورثت فيها شبهة. م: (والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها) ش: أشار بهذا إلى أن الآية منسوخة. قال مقاتل: نزلت الآية قبل تحريم الخمر لأن السورة مكية، وتحريم الخمر بالمدينة، وروى البيهقي من حديث شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم الشعبي، وأبي رزين: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] هي منسوخة، فإذا كانت منسوخة فلا يجوز الاحتجاج به.
وفي " الكشاف "، وقيل: السكر: النبيذ، وهو عصير العنب، والزبيب، والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر. ويحتج بهذه الآية.
م: (وقيل: أراد به التوبيخ) ش: أي أراد بالآية الشريفة التوبيخ، أي أراد بالآية المذكورة التوبيخ لا الامتنان م: (معناه: والله أعلم: تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا) ش: يعني بسفاهتكم تتخذون منه سكرا حراما وتدعون رزقا حسنا: أي تتركون، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي " الذخيرة ": ما يتخذون من الشراب، من الخمر ثلاثة للسكر والعصير وهو الذي يسمى فضيخا، والنبيذ.
أما السكر فهو الذي من باب الرطب، فإنه حلال ما دام حلوا. وإذا اشتد وقذف بالزبد فهو حرام عندنا، وهو الصحيح خلافا للبعض وأما الفضيخ، فهو التي من ماء البسر المذنب، والاسم مشتق من الفضخ وهو الكسر.

(12/366)


وأما نقيع الزبيب وهو النيء من ماء الزبيب، فهو حرام إذا اشتد وغلي. ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي، وقد بينا المعنى من قبل، إلا أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر التي لا يكفر مستحلها ويكفر مستحل الخمر؛ لأن حرمتها اجتهادية وحرمة الخمر قطعية. ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر. ويجب بشرب قطرة من الخمر ونجاستها خفيفة في رواية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فالبسر المذنب بكسر ويجعل في جب، ويصب عليه الماء فيخرج حلاوته، وسيجيء فضيخا ولكونه مستخرجا من البسر المفضوخ فإنه حلال ما دام حلوا، فإذا اشتد وقذف بالزبد فهو حرام عندنا وأكثر أهل العلم.
ولكن حرمته عندنا دون حرمة الخمر، فإن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز بيع السكر، ولا يجب الحد بشرب قليله، ولا يمنع جواز الصلاة بإصابة الثوب أكثر من قدر الدرهم.
وأما نبيذ التمر وهو نقيعه، إذا طبخ أدنى طبخة وغلا واشتد وقذف بالزبد فإنه حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لاستمرار الطعام والتداوي، والسكر منه حرام. وهو قول محمد أولا، ثم رجع وقال: لا يحل شربه. وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

[من الأشربة المحرمة نقيع الزبيب]
م: (وأما نقيع الزبيب) ش: عطف على قوله: وأما نقيع التمر، وهو النوع الرابع من الأشربة المحرمة، وقيد نقيع الزبيب، لأنه نبيذ الزبيب، وهو الذي طبخ أدنى طبخة يحل شربه إلى السكر عند أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله - كالمثلث العيني عندهما. م: (وهو النيء من ماء الزبيب فهو حرام إذا اشتد وغلى) ش: أي غلا بنفسه، لا بالنار.
م: (ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي) ش: أي يجيء خلافه على تقليله أنه مشروب طيب وليس بخمر، وهو قول شريك والظاهرية أيضا، م: (وقد بينا المعنى من قبل) ش: أشار به إلى قوله: إنه رقيق، ملذ، مطرب.... إلى آخره.
م: (إلا أن حرمة هذه الأشربة) ش: يعني البازق، والمنصف، ونقيع التمر، ونقيع الزبيب م: (دون حرمة الخمر التي لا يكفر مستحلها ويكفر مستحل الخمر؛ لأن حرمتها) ش: أي حرمة هذه الأشربة م: (اجتهادية وحرمة الخمر قطعية) ش: لعدم الاختلاف فيها.
م: (ولا يجب الحد بشربها) ش: أي بشرب هذه الأشربة م: (حتى يسكر) ش: بخلاف الخمر، فإن بشرب قطرة منها يجب الحد وهو معنى قوله: م: (ويجب بشرب قطرة من الخمر) ش: لأن الحرمة لعينها كما بينا. م: (ونجاستها) ش: أي نجاسة هذه الأشربة م: (خفيفة في رواية) ش: لقصور دليل الحرمة عن القطع، واختلاف العلماء.

(12/367)


وغليظة في أخرى. ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة.
ويجوز بيعها ويضمن متلفها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خلافا لهما فيهما؛ لأنه مال متقوم. وما شهدت دلالة قطعية بسقوط تقومها. بخلاف الخمر، غير أن عنده يجب قيمتها لا مثلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الفضلي: وهو قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وغليظة في أخرى) ش: أي في رواية أخرى رواها هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله -: لأنه لما ألحق بالخمر في حق الحرمة، ألحق في حق النجاسة. م: (ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة) ش: لقطع حرمتها. ومنه بقوله: رواية واحدة، على أن تغليظ نجاسة الخمر ليس فيه إلا قول واحد يتغلظ بنجاستها.
فإن قلت: نصب رواية بماذا؟
قلت: على المصدرية، تقديره: روي ذلك رواية واحدة.

[بيع الأشربة المحرمة]
م: (ويجوز بيعها) ش: بيع الأشربة المذكورة سوى الخمر م: (ويضمن متلفها) ش: أي متلف هذه الأشربة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يرجع إلى المسألتين.
م: (خلافا لهما فيهما) ش: أي خلافا لأبي يوسف، ومحمد -رحمهما الله - في البيع والإتلاف وبقولهما قالت الثلاثة؛ لأنه غير محرم التناول فلا يجوز بيعه كالخمر. وهذا لأن جواز البيع باعتبار صفة المالية والتقوم، وهما باعتبار كون العين منتفعا به شرعا.
ولا منفعة بهذا المشروب سوى الشرب، فإذا حرم شربه شرعا كان بيعه فاسدا قياسا على الخمر م: (لأنه مال متقوم) ش: هذا دليل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي: لأن هذه الأشربة مال متقوم، وتذكير الضمير باعتبار الحال أو باعتبار المذكور أو باعتبار كل واحد أما كونه مالا فلجريان الصيغة فيه، وأما كونه متقوما، فلعدم القطع في حرمته أشار إليه بقوله:
م: (وما شهدت دلالة قطعية بسقوط تقومها) ش: لأن الناس اختلفوا في إباحة شربه، فيجوز بيعه كالمثلث. وهذا لأنه ليس من ضرورة حرمة التناول حرمة البيع، فإن الدهن النجس لا يحل تناوله ويجوز بيعه، وكذا بيع السرقين يجوز وإن حرم تناوله.
م: (بخلاف الخمر) ش: حيث لا يجوز بيعها ولا يضمن متلفها إذا كانت لمسلم، لقيام الدليل لسقوط تقومها م: (غير أن عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يجب قيمتها) ش: أي قيمة هذه الأشربة عند الإتلاف م: (لا مثلها) ش: أي لا يجب مثلها كما إذا أتلف المسلم خمر الذمي حيث يجب القيمة لا المثل، وإن كانت الخمر من ذوات الأمثال لأن المسلم ممنوع من تملكها.

(12/368)


على ما عرف ولا ينتفع بها بوجه من الوجوه لأنها محرمة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز بيعها إذا كان الذاهب بالطبخ أكثر من النصف دون الثلثين. وقال في " الجامع الصغير ": وما سوى ذلك من الأشربة، فلا بأس به. قالوا: هذا الجواب على هذا العموم، والبيان لا يوجد في غيره وهو نص على أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والعسل والذرة حلال عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يحد شاربه عنده وإن سكر منه، ولا يقع طلاق السكران منه بمنزلة النائم ومن ذهب عقله بالبنج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (على ما عرف) ش: أي كما عرف أن المسلم ممنوع عن التصرف في الحرام فلا يكون مأمورا بإعطاء المثل. حتى لو أعطى، يخرج عن العهدة إلا أنه مكروه م: (ولا ينتفع بها) ش: أي بالأشربة المذكورة م: (بوجه من الوجوه لأنها محرمة) ش: فلا يجوز الانتفاع بالحرام، ألا ترى أن شيخ الإسلام ذكر في شرح كتاب الأشربة: أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود، فقال: في بطني صفرة، فوصف إلي السكر، فقال عبد الله: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. وقد ذكرنا نحو هذا عن قريب في رواية البيهقي، وفي " ديوان الأدب ": الصفرة: حية تكون في البطن.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز بيعها إذا كان الذاهب بالطبخ أكثر من النصف دون الثلثين) ش: قال الكرخي في " مختصره ": ما رواه الحسن عن أبي يوسف جواز البيع، خلاف المشهور عنه، والمشهور عنه: أن بيعه لا يجوز.
م: (وقال في " الجامع الصغير ": وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به) ش: إنما أورد هذا لبيان أن العموم المذكور فيه لا يوجد في غيره، أي: فيما سوى الأشربة المحرمة، وهي: الخمر، والسكر، ونقيع الزبيب، والعصير الذي ذهب بالطبخ أقل من ثلثيه: فلا بأس بشربه.
م: (قالوا) ش: أي قال شراح " الجامع الصغير " مثل فخر الإسلام وغيره: م: (هذا الجواب على هذا العموم) ش: يعني في جميع الأشربة غير المستثناة. م: (والبيان) ش: والتصريح م: (لا يوجد في غيره) ش: أي في غير " الجامع الصغير " م: (وهو نص) ش: أي الذي ذكره في " الجامع الصغير " نص م: (على أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والعسل والذرة حلال عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يحد شاربه عنده وإن سكر منه، ولا يقع طلاق السكران منه بمنزلة النائم) ش: أي النائم إذا طلق امرأته لا يقع، فكذا طلاق السكران من المتخذ من هذه الأشياء.
م: (ومن ذهب عقله بالبنج) ش: أي وبمنزلة من ذهب عقله بالبنج فإنه لا يقع طلاقه، ولا يصح بيعه، ولا إقراره. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما لا يقع الطلاق البنجي إذا لم يعلم أنه بنج. أما إذا علم وأقدم على أكله: يقع طلاقه.

(12/369)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكر صاحب " المحيط ": أن هذا التفصيل منقول عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذكر أيضا: أن السكر من البنج حرام، وأن طلاق البنجي واقع. وقيل: أكل البنج حرام وإن لم يسكر؛ لما روي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الميسر، والخمر، والكوية» ، والعنبر. قيل: هو البنج، والكوية: الطيل.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " شرحه ": أكل قليل السقمونيا، والبنج مباح للتداوي. وما زاد على ذلك إذا كان يقتل أو يذهب العقل حرام.
فإن قلت: ما البنج؟
قلت: قال في " البيان ": البنج بالفتح نبت له حب يسلب ويخلط العقل، وهو فارسي معرب، وهو بالفارسية بنك.
وذكر القاضي في " كتاب النبات ": أن البنج حشيش له قضبان غلاظ، وورق عراض، صافحة الطوال، مشققة الأطراف عليها زغب، وعلى القضبان ثمر يشبه الجلبان في شكله، متفرق في طول القضبان بواحد بعد واحد. كل واحد منها مطبق بشيء يشبه بالمطرس وهذا التمر فلأنه من بذر يشبه بذر الخشخاش، وهو ثلاثة أصناف:
منها ما له بذر أسود: فهو يحدث جنونا وصرعا.
ومنها: بذر أحمر حمرة معتدلة، وهو قريب من هذا في القوة، ولذلك ينبغي أن يتوقاهم الإنسان جميعا لأنهما يقتلان.
ومنها: ما له بذر أبيض، وزهر أبيض وهو من أنفع علاج في الطب، تنبت بالقرب من الشجر والخرابات. انتهى. فعلم من هذا أن الذي يدعي أن البنج هو النبات الذي يستعمله القبلة التي يسمى بين الناس بالحشيش بلغة العرب خطأ، وأن البنج غير هذا لأن الحشيش غير قتال، لكن مخدر، ومفتر، ومكسل. وفيه أوصاف ذميمة فكذلك وقع إجماع المتأخرين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على تحريم أكله، وهو نبات أخضر يشبه القرط، وبه بذر يشبه السدانق منه بري، ومنه ما يزرع. وأكثره يزرع؛ وله رائحة ذكية جدا.
ومنهم من يقول إنه صنف من القنب. قال العانقي: القنب الشهد إلى آخره ... : بالفارسية، وهو نبات يعمل منه حبال قوية، وله ورق منتن الرائحة، وقضبان طوال، وبذر مستدير يؤكل. فعلى كل تقدير البنج غير الحشيشة.

(12/370)


ولبن الرماك. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه حرام ويحد شاربه إذا سكر منه، ويقع طلاقه إذا سكر منه كما في سائر الأشربة المحرمة. وقال فيه أيضا: وكان أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ما كان من الأشربة يبقى بعد ما يبلغ عشرة أيام ولا يفسد فإني أكرهه. ثم رجع إلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقوله الأول مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كل مسكر حرام، إلا أنه تفرد بهذا الشرط. ومعنى قوله يبلغ: يغلي ويشتد، ومعنى قوله: ولا يفسد: لا يحمض، ووجهه أن بقاءه هذه المدة من غير أن يحمض دلالة قوته وشدته فكان آية حرمته، ومثل ذلك مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر حقيقة الشدة على الحد الذي ذكرناه فيما يحرم أصل شربه، وفيما يحرم السكر منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجع إلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلم يحرم كل مسكر. ورجع عن هذا الشرط أيضا وقال في " المختصر ": ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة، حلال وإن اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكره من غير لهو ولا طرب. وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد والشافعي -رحمهما الله -: حرام. والكلام فيه كالكلام في المثلث العنبي، ونذكره إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[السكر من لبن الرماك]
م: (ولبن الرماك) ش: أي وبمنزلة من ذهب عقله بلبن الرماك، وهو جمع رمكة، وهي الأنثى من الخيل. وفي " الاختيار " قيل: يجب ألا يحل لبن الرماك عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمها؛ إذ هو متولد منه.
وجوابه: أن كراهية اللحم لاحترامه، أو لما في إباحته من تعليل آلة الجهاد، فلا يتعدى إلى لبنه. وسيجيء هو في متن الكتاب منقولا عن أبي حنيفة: المتخذ من لبن الرماك لا يحل اعتبارا للجهاد، إذ هو متولد منه. والأصح: أنه يحل عنده.
وذكر في بعض شروح " الكنز ": لبن الرمكة حلال بالإجماع.
قلت: الذي يفعله ترك مصر من لبن الرماك ينبغي أن يكون حراما، لأنهم يأخذون اللبن الخالص من الرمكة، ويتركونه أياما حتى يشتد جدا، ويخلطون به السكر، ويشربونه للهو والطرب، ويسكرون منه كما يسكر أحدنا من غيره من المسكرات. وربما يضيفون إليه أشياء أخرى ويسمونه قمزا ويسكرون منه كالخمر. وهذا لا شك حرام.
وقد روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[وفي هذا المحل سقط من نسخة المؤلف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورقة كاملة فقدت سنة من دخول سلطان الأعظم سليمان خان بن عثمان سقى الله ثراه جنوب " الرحمة ". هكذا أخبرني بذلك الشمس العلامة محمد بن الإمام الجليل الشيخ شهاب الدين الشهير ب: " ابن سلمى " - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -] .

(12/371)


قال: ولا بأس بالخليطين لما روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شربة، ما كدت أهتدي إلى منزلي فغدوت إليه من الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الذي فيه اختلاف العلماء -أي علمائنا -: فهو نبيذ التمر إذا طبخ أدنى طبخة ثم اشتد. فإن اشتد قبل الطبخ، فهو نبيذ التمر، وهو السكر، أما إذا طبخ أدنى طبخة، ثم اشتد، فإن في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله - الآخر: لا بأس بالقليل لاستمراء الطعام.
وفي قول أبي يوسف الأول، ومحمد الآخر فيه: وبه يأخذ. واتفقوا أنه لو شرب للهو لا يجوز: وهكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأمالي ". وقال: ولو أراد أن يشرب السكر، فقليله وكثيره حرام. والقعود إليه حرام، ومشيه إليه حرام. وإنما يجوز إذا قصد به استمراء الطعام.

[شرب الخليطان نقيع التمر ونقيع الزبيب]
م: (قال: ولا بأس بالخليطين) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": والخليطان عبارة عن نقيع التمر، ونقيع الزبيب، يخلطان فيطبخ بعد ذلك أدنى طبخة، ويترك إلى أن يغلي ويشتد. م: (لما روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شربة ماء كدت أهتدي إلى منزلي، فغدوت إليه من الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب) .
ش: وهذا ما رواه محمد بن إياس في كتابه " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي إسحاق سليمان الشيباني عن ابن زياد أن أنه أفطر عند عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فسقاه شرابا، فكأنه أخذ منه، فلما أصبح غدا إليه فقال له:
ما هذا الشراب، ما كدت أهتدي إلى منزلي؟. فقال ابن عمر: ما زدناك على عجوة وزبيب. انتهى.
وابن زياد وهو عبد الله بن زياد، والعجوة: التمر الذي يصب فيه الفرس لجودته. وروى أبو داود عن عبد الله الخريبي، عن مسعر، عن موسى بن عبد الله، عن امرأة من بني أسد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينبذ له نبيذ فتلقى فيه تمرا وتمر فتلقى فيه زبيب» .
وروي أيضا عن زياد الحساني، حدثنا أبو بكر، أخبرنا عتاب بن عبد العزيز «عن صفية -يعني صفية بنت عطية - قالت: دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة، فسألنا عن التمر،

(12/372)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والزبيب؟، فقالت: كنت آخذ قبضة من تمر، وقبضة من زبيب فألقيه في إناء، فأمرسه ثم أسقيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
وفي هذا كله دليل على أن شرب الخليطين لا بأس به، يدل على ذلك قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما زدناك على عجوة وزبيب. «وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فتلقي فيه تمرا، وتمر ليلقي فيه زبيب» . وكذلك قوله: «أخذ قبضة من تمر، وقبضة من زبيب.» الحديث.
وقال تاج الشريعة: والمتقشفة يقولون: لا يحل شربه، وإن كان حلوا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن شراب الخليطين، وعن القران بين التمر، وعن الجمع بين اللقمتين» ، وروي: «أنه نهى عن الجمع بين التمر، والزبيب، والرطب، والبسر» . وتأويل ذلك أنه كان في زمن الجدب. وكره الأغنياء الجمع بين اللقمتين، والدليل على أنه لا بأس به في غير زمن القحط: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنت أنبذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمر البسرة فأمرني فألقيت فيه زبيبا» . يريد ما ذكرنا بما روي من حديث ابن زياد المذكور، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان معروفا بالزهد، والفقه بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فلا نظن به أنه كان يسقي غيره ما لا يشربه. ولا أنه يشرب ما كان يتناوله نص التحريم وقد ذكرناه. إنما سقاه كان مشتدا حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله، وإنما كان هذا على سبيل المبالغة في بيان التأثير فيه لا حقيقة السكر فإن ذلك لا يحل.
وفي قوله: " ما زدناك على عجوة وزبيب " دليل على أنه لا بأس بشرب القليل من المطبوخ بماء الزبيب والتمر وإن كان مشتدا؛ ولأنه لما جاز اتخاذ الشراب من كل واحد بانفراده جاز الجمع بمنزلة السكر، والعانيد. انتهى كلامه.
وفيه: روي أيضا لقول أصحاب الظواهر بعض الروافض. وأحمد في رواية أنهم لا يحلون شرب الخليطين، وإن كان حلوا، وإن كانوا لا يحلون الجمع بين اللقمتين بخلاف المرقة والإدام. والجمع بين التمرتين بعد الطعام والمستقيم على التعاقب فإنه لا يكره بالإجماع.
ولنا حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقوله سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] بلا تفصيل بين حالة وحالة. والحديث محمول على الشدة والقحط. وكذا روي عن

(12/373)


وهذا نوع من الخليطين وكان مطبوخا؛ لأن المروي عنه حرمة نقيع الزبيب وهو النيء منه، وما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن الجمع بين التمر والزبيب، والزبيب والرطب، والرطب والبسر محمول على حالة الشدة وكان ذلك في الابتداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان في ابتداء الإسلام.
م: (وهذا نوع من الخليطين وكان مطبوخا) ش: أي: وهذا الذي سقاه ابن عمر لابن زياد كان من الخليطين، والحال أنه كان مطبوخا لا نيئا م: (لأن المروي عنه حرمة نقيع الزبيب وهو النيء منه) ش: أي لأن المروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حرمة نقيع الزبيب، والمراد منه هو: النيء منه.
وأشار بذلك إلى ما روي أنه في نقيع الزبيب خمر أحسها، فكذلك يحمل ما روي عن ابن زياد على المطبوخ حتى لا يناقض قول ابن عمر فعله، وهذا تأويل " صاحب الهداية " غير مستقيم؛ لأن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الذي ذكرناه الآن صريح على أن ما كان من الخليطين كان نيئا، وما روي عن ابن عمر من حرمة نقيع الزبيب لم يثبت، ولم يذكره أهل النقل، فكيف هذا دليلا على أن المراد ما ذكر من حديث ابن زياد كان مطبوخا لا نيئا؟ م: (وما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن الجمع بين التمر والزبيب، والزبيب والرطب، والرطب والبسر» محمول على حالة الشدة وكان ذلك في الابتداء) .
ش: هذا جواب عما استدرك به المحرمون الجمع بين التمر، والزبيب، والرطب، والبسر من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجمع بين هذه الأشياء وهو ما روي عن البخاري، ومسلم، وبقية الستة، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى أن ينبذ الزبيب والتمر جميعا، ونهى أن يخلط بين البسر، والرطب جميعا» .
وأخرج الجماعة إلا الترمذي عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن خليط الزبيب، والتمر، وعن خليط البسر، والتمر، وعن خليط الزبيب، والتمر، وقال: " انتبذوا كل واحدة على حدة» وفي لفظ لمسلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنتبذوا الزهر والرطب والزبيب جميعا ولكن انتبذوا كل واحد على حدته» ولم يذكر البخاري فيه الرطب والبسر.
وأخرج مسلم عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخلط التمر، والزبيب جميعا، وأن يخلط التمر، والرطب جميعا» . وأخرج أيضا عن نافع بن عمر قال: «نهي أن ينبذ البسر والرطب جميعا، والتمر والزبيب جميعا» . وأخرج أيضا عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري قال: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخلط بسرا بتمر، وزبيبا ببسر، وقال: من شرب منكم النبيذ فليشرب زبيبا فردا، أو تمرا فردا، أو بسرا فردا» .

(12/374)


قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونبيذ العسل والتين، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير حلال وإن لم يطبخ وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - إذا كان من غير لهو وطرب لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» ، وأشار إلى الكرمة والنخلة خص التحريم بهما، والمراد بيان الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: محمول على حال الشدة أي القحط، وإن كان ذلك في الابتداء أي في ابتداء الإسلام، ويؤيده ما رواه أحمد بن الحسن في كتاب " الآثار الحسان " عن أبي حنيفة: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن سليمان عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا بأس بنبيذ خليط التمر، والزبيب، وإنما كرهها لشدة العيش في زمن الأول كما كره السمن، واللحم، وما كره الإقران. فأما إذا وسع الله سبحانه وتعالى من المسلمين فلا بأس به.
وأخرج ابن عدي في " الكامل " عن عمر بن دريد حدثنا عطاء بن أبي ميمونة «عن أم سليم وأبي طلحة: " أنهما كانا يشربان نبيذ الزبيب والبسر يخلطانه، فقيل له: يا أبا طلحة إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن هذا؟. قال: نهانا عن العوز في ذلك الزمان، كما نهى عن الإقران» . وأعله بعمر بن ذريح.

[شرب نبيذ العسل والتين ونبيذ الحنطة والذرة والشعير]
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونبيذ العسل والتين ونبيذ الحنطة والذرة والشعير حلال وإن لم يطبخ) ش: أي قال القدوري في " مختصره " م: (وهذا) ش: أي قوله حلال م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - إذا كان من غير لهو وطرب) ش: قيد بهذا القيد لأنه إذا شرب لأجل اللهو، والطرب يحرم بالاتفاق م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الخمر من هاتين الشجرتين " وأشار إلى الكرمة والنخلة» خص التحريم بهما، والمراد بيان الحكم) ش: قد تقدم في أول الباب أن هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» وفي لفظ لمسلم: «الكرمة والنخلة» .
قوله: خص التحريم، أي بالكرمة، والنخلة فبقي ما وراءهما على أصل الإباحة، وفي " شرح الأقطع " ولأن هذه الأطعمة مقتات فلا يعتبر بما يحدث فيها من الشدة والسكر، كما لا يعتبر السكر الذي يوجد في الخبز في بعض البلاد، والسكر الذي يوجد في اللبن.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " شرح كتاب الأشربة ": الذي يتخذ من العسل، والشهد، والفرصاد، والفانيذ، والسكر، والأجاص، ومن الحبوب كالحنطة، والشعير،

(12/375)


ثم قيل: يشترط الطبخ فيه لإباحته. وقيل: لا يشترط، وهو المذكور في الكتاب، ولأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان. وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل: لا يحد،
. وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل: لا يحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والذرة، فإنه يحل شربه قبل أن يشتد بلا خلاف، فأما إذا غلى واشتد، وقذف بالزبد، وطبخ أدنى طبخة يحل عند أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله -، وقالوا: لا رواية لهذا على قول محمد. وقد اختلف المشايخ المتأخرون على قوله، منهم من قال: يحل شربه، على قوله " ما دون السكر "، ومنهم من قال: لا يحل.
وحكي عن القاضي الإمام أبي جعفر أنه كان يقول: وجدت رواية عن محمد أنه قال: أكره هذا إذا طبخ أدنى طبخة، وأما إذا لم يطبخ وقد غلى واشتد هل يحل شربه على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف؟ . قالوا: فيه روايتان في رواية: يشترط أدنى طبخة للإباحة، لأن الأشربة المتخذة من هذه الأشياء بمنزلة نقيع التمر، والزبيب، والطبخ، يشترط فيها للإباحة، فكذا هذا.
وفي رواية: لا يشترط، لأن حال هذه الأشربة دون نقيع الزبيب، والتمر؛ لأن نقيع التمر اتخذهما هو أصل للخمر شرعا، فإن أصل الخمر شرعا التمر، والعنب على ما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» ، وقد شرط أدنى طبخة في نقيع الزبيب، والتمر، فيجب أن يشترط أدنى طبخة في هذه الأشربة ثم ظهر نقصان هذه الأشربة عن نقيع الزبيب والتمر، هذا إذا لم يسكر من هذه الأشربة. أما السكر منه فحرام بالإجماع.

م: (ثم قيل: يشترط الطبخ فيه) ش: أي في نبيذ كل واحد من الأشياء المذكورة م: (لإباحته) ش: أي لأجل إباحته، يعني يكون مباحا م: (وقيل: لا يشترط) ش: أي الطبخ م: (وهو المذكور في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (لأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان) ش: يعني مطبوخا كان أو غير مطبوخ، أما إذا طبخ أدنى طبخة فلأن المتخذ من ماء الزبيب إذا طبخ أدنى طبخة يحل ما دون السكر مع أنه متخذ من أصل الخمر، فهذا أولى. وأما إذا لم يطبخ أدنى طبخة فكذلك الجواب إظهار التفاوت بين المتخذ من أصل الخمر وغيره.

[هل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه]
م: (وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل: لا يحد) ش: وهو قول الفقيه أبي جعفر؛ لأنه متخذ مما ليس بأصل الخمر، فكان بمنزلة البنج، ولبن الرماك، والسكر منهما حرام، فلا يحد، فكذا هنا.

(12/376)


وقد ذكرنا الوجه من قبل. قالوا: والأصح أنه يحد، فإنه روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن سكر من الأشربة: أنه يحد من غير تفصيل، وهذا لأن الفساق يجتمعون عليه في زماننا اجتماعهم على سائر الأشربة، بل فوق ذلك،
وكذلك المتخذ من الألبان إذا اشتد فهو على هذا وقيل: إن المتخذ من لبن الرماك لا يحل عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمه، إذ هو متولد منه. قالوا: والأصح أنه يحل؛ لأن كراهة لحمه لما في إباحته من قطع مادة الجهاد أو لاحترامه فلا يتعدى إلى لبنه.
-: وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حلال وإن اشتد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقد ذكرنا الوجه من قبل) ش: أشار به إلى قوله: لأن قليله يدعو إلى كثيره. وقيل: يجوز أن يكون هذا إشارة إلى قوله: " بمنزلة النائم "، وهو مذهب عقله بالبنج، ولبن الرماك.
وقيل: يجوز أن يكون إشارة إلى المعنى المستفاد من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» ، يعني أن هذه الأنبذة ليست بمتخذة مما هو أصل الخمر.
م: (قالوا: والأصح أنه يحد) ش: أي قال المشايخ: الأصح: أنه يحد، وهو قول الحسن بن زياد؛ م: (فإنه روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن سكر من الأشربة: أنه يحد من غير تفصيل) ش: بين شراب وشراب، كذا في " مبسوط شيخ الإسلام ".
م: (وهذا) ش: يعني كون وجود الحد صحيحا م: (لأن الفساق) ش: بضم الفاء جمع فاسق م: (يجتمعون عليه في زماننا اجتماعهم) ش: بنصب العين على نزع الخافض، أي كاجتماعهم م: (على سائر الأشربة، بل فوق ذلك) ش: أي: بل يجتمعون على المتخذ من هذه الأشياء فوق اجتماعهم على غيره من الأشربة، وهذا بالمشاهدة ظاهر في كل البلاد، وذلك إما لسهولة حصوله، وإما لكثرته، وإما لاعتقادهم إباحته.

[المتخذ من الألبان إذا اشتد هل يحد بشربه]
م: (وكذلك المتخذ من الألبان إذا اشتد فهو على هذا) ش: أي على اختلاف الروايتين، قيل: يحد، وقيل: لا يحد، يعني: إذا سكر، قوله " من الألبان " عام يتناول سائر الألبان التي شرب م: (وقيل: إن المتخذ من لبن الرماك لا يحل عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمه) ش: لأنه يؤكل عنده، واللبن هو اللحم، أشار إليه بقوله: م: (إذ هو متولد منه) ش: أي لأن اللبن متولد من اللحم.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ: م: (والأصح أنه يحل؛ لأن كراهة لحمه لما في إباحته من قطع مادة الجهاد أو لاحترامه، فلا يتعدى إلى لبنه) ش: أي لا يتعدى هذا التعليل إلى لبنه، لأن كلا من الوجهين لا يوجد في اللبن. وفي " فتاوى قاضي خان "، وعامة المشايخ قالوا: هو مكروه كراهة التحريم، إلا أنه لا يحد شاربه.

[حكم شرب عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حلال وإن اشتد) ش:

(12/377)


وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله -، وقال محمد ومالك والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: حرام، وهذا الخلاف فيما إذا قصد به التقوي، أما إذا قصد به التلهي لا يحل بالاتفاق. وعن محمد مثل قولهما. وعنه أنه كره ذلك، وعنه أنه توقف فيه. لهم في إثبات الحرمة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مسكر خمر» ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي قال القدوري: وهذا هو المدعو بالمثلث العنبي م: (وهذا) ش: أي كونه حالا م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله -) ش: م: (وقال محمد ومالك والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: حرام) ش: وبه قال أحمد، وأبو عبيد، وأبو ثور، وإسحاق، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، وطاوس، وأصحاب الظواهر. وفي " النوازل ": وبقول محمد نأخذ.
م: (وهذا الخلاف فيما إذا قصد به) ش: أي بشرب المثلث م: (التقوي) ش: في البدن واستمر الطعام م: (أما إذا قصد به التلهي لا يحل بالاتفاق) ش: لأنه يكون للمعصية، وسئل أبو حفص الكبير عنه، فقال: لا يحل شربه، فقيل له: لما خالفت أبا حنيفة، وأبا يوسف؟، فقال: لأنهما يحلان للاستمرار، والناس في زماننا يشربون للفجور والتلهي، فعلم أن الخلاف فيما إذا قصد التقوي، وإذا قصد التلهي لا يحل بالاتفاق، وعن أبي يوسف في " أماليه ": لو أراد أن يشرب بها للسكر: فقليله وكثيره حرام، وقعوده لذلك حرام، ومشيه إليه حرام.
م: (وعن محمد مثل قولهما) ش: أي روي عن محمد مثل قول أبي حنيفة، وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وفي " نوادر هشام ": وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه حلال شربه في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، كذا في " الأجناس ".
وبهذا القول أخذ محمد في " الآثار "، والمشهور من مذهبه أنه كرهه، أشار إليه بقوله: م: (وعنه أنه كره ذلك) ش: روي عن محمد أنه كره المثلث العنبي م: (وعنه أنه توقف فيه) ش: أي روي عن محمد أنه يوقف في حكم المثلث العنبي. وقال: لا أحرمه، ولا أبيحه، لتعارض الآثار.
م: (لهم) ش: أي لمحمد، ومالك، والشافعي م: (في إثبات الحرمة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مسكر خمر» ش: فقدم في أول الباب أن هذا الحديث أخرجه مسلم عن أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما بعث أبا موسى، ومعاذا إلى اليمن قال لأبي موسى: إن شرابا يصنع بأرضنا من العسل يقال له: النقيع، ومن الشعير يقال له: المزر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل مسكر خمر» .
م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ش: هذا الحديث رواه ثمانية

(12/378)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
الأول: عبد الله بن عمرو بن العاص، أخرج حديثه النسائي، وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» .
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا عبد الله بن عمرو عن عمرويه.
والثاني: جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أخرج حديثه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن داود بن بكير، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا نحوه سواء. وقال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث جابر.
وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر به، وداود بن بكير بن أبي الفرات الأشجعي قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به، ليس بالمتين، وقد تابعه موسى بن عقبة كما أخرجه ابن حبان.
الثالث: سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه النسائي عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن الوليد بن كثير عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قليل ما أسكر كثيره» .
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وقال المنذري: أجود أحاديث هذا الباب حديث سعد، فإنه من رواية محمد بن عبد الله الموصلي، وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير، وقد احتج به الشيخان عن الضحاك، وقد احتج به مسلم عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عامر بن سعد، وقد احتج بهما الشيخان.
الرابع: علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الدارقطني في " سننه " عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره، فقليله

(12/379)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حرام» . وعيسى بن عبد الله عن آبائه متروك.
الخامس: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أخرج حديثها أبو داود، والترمذي، عن أبي عثمان بن عمرو بن سالم الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق فملء الكف منه حرام» . وفي لفظ الترمذي: " فالحشوة منه "؛ قال الترمذي: حديث حسن.
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وأحمد في " مسنده "، وقال المنذري: رجاله كلهم محتج بهم في " الصحيحين " إلا عثمان سالم الأنصاري، وهو مشهور لم أجد فيه كلاما.
قلت: قال ابن القطان في كتابه، وأبو عثمان: هذا لا يعرف حاله، وتعقبه صاحب " التنقيح "، فقال: وثقه أبو داود، وذكره ابن حبان في " الثقات "، انتهى. وأخرجه الدارقطني في " سننه " من طرق أخرى عديدة كلها ضعيفة.
السادس: عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه إسحاق بن راهويه في " مسنده ": أخبرنا أبو عامر العقدي، حدثنا أبو معشر، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن بن عبد الله بن محمد، عن أبيه مرفوعا: «ما أسكر كثيره، فقليله حرام» . ورواه الطبراني في " معجمه ": حدثنا علي بن سعيد الرازي: حدثنا أبو مصعب، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة به.
ورواه في " الوسط ": من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمرو من طريق ابن إسحاق عن نافع به.
السابع: خوات بن جبير أخرج حديثه الحاكم في " المستدرك " في كتاب الفضائل عن عبد الله بن إسحاق بن صالح بن خوات بن جبير حدثني أبي عن أبيه عن جده خوات بن جبير

(12/380)


ويروى عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام» ولأن المسكر يفسد العقل، فيكون حراما قليله وكثيره كالخمر. ولهما: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " حرمت الخمر لعينها "، ويروى " بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب " خص السكر بالتحريم في غير الخمر، إذ العطف للمغايرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مرفوعا نحوه سواء وسكت عنه. ورواه الطبراني في " معجمه "، والدارقطني في " سننه "، والعقيلي في " ضعفائه "، وأعله بعبد الله بن إسحاق هذا، وقال: لا يتابع عليه بهذا الإسناد، والحديث معروف بغير هذا الإسناد.
الثامن: زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المروزي، حدثنا يحيى بن سليمان المدني حدثنا إسماعيل بن قيس عن أبيه عن خارجة بن زيد عن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت مرفوعا نحوه سواء.
قلت: خوات بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو في آخره تاء مثناة من فوق، وجبير بضم الجيم، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره راء مهملة.
م: (ويروى عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام» ش: هذه رواية غريبة بهذه اللفظة، ولكن معناها في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الذي تقدم آنفا. م: (ولأن المسكر يفسد العقل، فيكون حراما قليله وكثيره كالخمر) ش: بيانه أن ما يؤدي إلى الحرام يكون حراما، ألا ترى أن القليل، وإن لم يكن مسكرا فهو مؤد إليه، وما يؤدي إلى الحرام يكون حراما. ألا ترى أن القليل من البازن المشتد، والمنصف المشتد حرام وإن كان القليل منه لا يسكر؛ لأنه يؤدي إلى السكر، فكذا هذا.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة، ولأبي يوسف -رحمهما الله -، وفي بعض النسخ: ولنا م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حرمت الخمر لعينها» ، ويروى «بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب» ش: تقدم الكلام عليه في هذا الباب أنه روي عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا، والوقف أصح م: (خص السكر بالتحريم في غير الخمر، إذ العطف للمغايرة) ش: تقريره أنه: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الحرمة في الخمر حيث قال: حرمت الخمر لعينها فاقتضى أن يكون قليلها، وكثيرها حراما، بخلاف غيرها من الأشربة، فإنه خص بالتحريم فيها حيث قال: «والسكر من كل

(12/381)


ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا،
وإنما يحرم القليل منه؛ لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير، فأعطي حكمه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شراب» بواو العطف، ولا شك أن المعطوف غير المعطوف عليه، فيكون ما نحن فيه من الشراب غير الخمر لا يكون حراما إلا بالسكر.
م: (ولأن المفسد هو القدح المسكر، وهو حرام عندنا) ش: أي المفسد للعقل هو القدح، وهو حرام عندنا فيما سوى الأشربة المحرمة لا ما قبله.
فإن قلت: القدح الأخير ليس بمسكر على انفراد، بل مما تقدم ينبغي أن يحرم ما تقدم أيضا؟.
قلت: أجيب: بأن الحكم يضاف إلى العلة معنى وحكما، وفيه نظر؛ لأن الإضافة إلى العلة اسما، ومعنى، حكما أولى، والمجموع بهذه الصفة، والأولى أن يقال: الحرام هو المسكر، وإطلاقه على ما تقدم مجاز، وعلى القدح الأخير حقيقة وهو مراد، فلا يكون المجاز مرادا.
وقد قال تاج الشريعة: السكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام، وهو ما يتصل به من التخمة، فإن تناول الطعام بقدر ما يغذيه، وهو به حلال، وهو ما يتخم، وهو الأكل فوق الشبع حرام، ثم المحرم منهما وهو المتخم وإن كان لا يكون ذلك متخما إلا باعتبار ما تقدمه من الأكلات. وكذلك في الشراب.
قد قال أبو يوسف: مثل ذلك: كمثل دم في ثوب ما دام قليلا فلا بأس بالصلاة فيه، فإذا كثر لم يحل، ومثل رجل ينفق على نفسه وأهله من كسبه فلا بأس بذلك، فإذا أسرف في النفقة لم يصلح له ذلك، ولا ينبغي، وكذلك النبيذ لا بأس أن يشربه على طعامه، ولا خير في السكر منه؛ لأنه إسراف، وأظهر من ذلك أن الضمان من ذلك أن الضمان يضاف إلى واضع المن الأخير في السفينة وإن لم يحصل الفرق بدون ما تقدم من الأمناء، وهذا لأنه لم يوجد التلف حكما بما تقدم من كلامنا، وإنما وجد ذلك، بفعل فاعل مختار، فأضيف الفرق لولي المن الأخير، فكذا هنا أضيف السكر على القدح الأخير الذي يحصل به السكر حقيقة لا ما تقدم من الأقداح.

[الحكمة من تحريم الخمر]
م: (وإنما يحرم القليل منه) ش: أي من الخمر، هذا جواب سؤال مقدر يمكن تقديره على هذا الوجه، وهو أن يقال: لما كان المفسد هو الأخير دون ما تقدم وجب أن يكون في الخمر كذلك، ويجوز أن يكون جوابا عن قولهم؛ ولأن المسكر يفسد العقل، فيكون حراما قليله وكثيره؟.
ووجه الجواب عن الأول: أن القياس ذلك، ولكن تركناه م: (لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير) ش: أي لأن الخمر لرقتها ولطافتها تدعو إلى الكثير م: (فأعطي حكمه) ش: أي فأعطي

(12/382)


والمثلث لغلظه لا يدعو وهو في نفسه غذاء فبقي على الإباحة. والحديث الأول غير ثابت على ما بيناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القليل حكم الكثير، والمثلث ليس كذلك لغلظه، وهو معنى قوله: م: (والمثلث لغلظه لا يدعو) ش: أي قليله لكثيره م: (وهو في نفسه غذاء) ش: أي والمثلث في نفسه غذاء م: (فبقي على الإباحة) ش: لأن الحاصل الإباحة وجه الجواب عن الثاني بطريق الفرق وهو واضح.
م: (والحديث الأول) ش: يعني قوله: «كل مسكر خمر» م: (غير ثابت على ما بيناه) ش: أي في أول الكتاب من طعن يحيى بن معين، وقد تقدم الكلام فيه مستوفى، فما المراد تشبيه المسكر بالخمر في حق الحكم وهو الحد؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث مبينا للأحكام لا واضعا للأسامي والمسكر وهو المسكر، وهو القدح الأخير كالخمر في أنه يجب الحد بشربه. وعن إبراهيم النخعي قالوا: ما يرويه الناس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام» خطأ، وزادوا فيه الميم، والصحيح من الرواية: " كل سكر حرام " وكذا ما يرويه الناس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن الخلاف في ذلك مشهور بين الصحابة، ولم يحتج بهما أحد؛ ولأن الأخبار لما تعارضت يتمسك بالقياس، وهو شاهد؛ لأن في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، بين الحكمة في تحريم الخمر، وهو: الصد عن ذكر الله تعالى وإيراث العداوة، والبغضاء، وهذه المعاني لا تحصل بشرب القليل.
ولو خلينا ظاهر الآية لقلنا بأن القليل من الخمر لا يحرم أيضا، لكن تركناه في قليل الخمر بالإجماع فيما عداه، فبقي على ظاهر الآية، لأنه قلما لا يورث العداوة والبغضاء ولا الصد عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وعن الصلاة.
وقال محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا أبو إسحاق الشعبي، عن عمر بن ميمون الأودي، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن للمسلمين جزورا لطعامهم، وإن العتق منها، لأن عمر قال: وإنه لا يقطع لحوم هذه الإبل في بطونها إلا النبيذ الشديد. وروى الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه: أنه كان في سفر فأتي بنبيذ الطائف له عزام، فذكر شدة لا أحفظها، ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب.
وروى الطحاوي أيضا: حدثنا أبو أمية قال: حدثنا عبد السلام عن ليث عن عبد الملك بن أخي القعقاع بن ثور «عن ابن عمر، قال: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشراب فأومأ إلى فيه فقطب فرده، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو فرد الشراب، ثم دعا بماء فصبه عليه مرتين أو ثلاثا، ثم قال: إذا علمت منه الأشربة عليكم فأكثروا متونها بالماء» .

(12/383)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه النسائي أيضا عن عبد الملك بن نافع، ثم قال: وعبد الملك بن نافع غير مشهور لا يحتج بحديثه، والمشهور عن ابن عمر خلاف هذا. ثم أخرج عن ابن عمر حديث المسكر من غير وجه. وقال البخاري: لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم: هذا حديث منكر، وعبد الملك بن نافع: هو مجهول، وقال البيهقي: هذا حديث يعرف لعبد الملك بن نافع، وهو رجل مجهول، واختلفوا في اسمه، واسم أبيه، فقيل: هكذا، وقيل: عبد الملك بن القعقاع، وقيل: ابن أبي القعقاع، وقيل: مالك بن أبي القعقاع.
قلت: عبد الملك بن نافع هذا ما ذكره ابن حبان في " الثقات " من التابعين، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا أبو الأحوص عن إسحاق عن عمر بن ميمون، قال: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن يؤذينا، فمن رأى من شرابه شيئا فليمزجه بالماء.
وقال أيضا: حدثنا وكيع حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، حدثني عتبة بن فرقد، قال: قدمت على عمر فدعى بشراب نبيذ قد كان يصير خلا، فقال: اشرب فأخذته فشربته، فما كنت أن أسيغه ثم أخذه فشربه، ثم قال: يا عتبة إنا نشرب هذا النبيذ الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن يؤذينا.
وقال عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كتب لنوح {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] ، وفيه: إن الملك قال له: ويطبخه حتى يذهب ثلثاه، ويبقى الثلث، قال ابن سيرين: فوافق ذلك كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وروي عن معمر عن عاصم عن الشعبي قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى عمار:
أما بعد: فإذا جاءنا أشربة من الشام كأنها طلاء الإبل قد طبخ حتى ذهب ثلثاه الذي فيه خبث الشيطان وريح جنوبه، وبقي ثلثه فأومر من قبلك أن يصطنعوه. ما خرج أيضا عن ابن الليمي عن منصور عن إبراهيم، عن سويد بن غفلة، قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى عماله: أن يرزقوا الناس الطلاء ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة " حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن داود بن أبي هند، سألت سعيد بن المسيب عن الشراب الذي كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجازه للناس؟، قال: هو الطلاء الذي قد طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثا، حدثنا علي بن مسهر عن سعيد بن أبي عروبة،

(12/384)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن قتادة، عن أنس: "أن أبا عبيدة، ومعاذ بن جبل، وأبا طلحة، كانوا يشربون من الطلاء ماء ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه ".
حدثنا أبو فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، قال: كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرزقنا الطلاء، فقلنا له: ما هيئته؟ قال: أسود، ويأخذه أحدنا بأصبعه.
حدثنا وكيع عن سعيد بن أوس، عن أنس بن سيرين، قال: كان أنس بن مالك عقيم البطن فأمرني أن أطبخ له طلاء حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فكان يشرب منه الشربة على أثر الطعام.
حدثنا ابن نمير، حدثنا إسماعيل عن مغيرة، عن شريح عن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان يشرب الطلاء بالشام، فهذا كله يقتضي جواز شرب المطبوخ، وقد قال صاحب " الاستذكار ": لا أعلم خلافا بين الفقهاء في جواز شرب العصير إذا طبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فعلمنا بدلالة هذه الآثار أن المراد من الحديث الذي رووه القدر المسكر لا للقليل منه توفيقا بين الآثار حتى لا يقع التضاد فيها، فهذا كما رأيت أن الأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهل بدر كعمر، وعلي، وغيرهما ممن ذكر فيما ذكرنا كانوا يحللون شرب النبيذ، وكذا من بعدهم جماعة من التابعين الكبار كالشعبي وأمثاله. وكذا إبراهيم النخعي وأمثاله، وكذا علقمة، والأسود، وابن أبي ليلى، وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، وسفيان الثوري مع ورعه وتقواه كان يشرب من النبيذ الصلب حتى تحمر وجنتاه.
وعن وكيع: أنه كان يشرب في ليالي رمضان تقويا على العبادة. وقال في " شرح الأقطع ": وقد سلك بعض الجهال في هذه المسألة طريقة قصد بها التشنيع، والفروق عند العوام لما ضاقت عليه الحجة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه قال لبشر: ناس من أمتي يسمونها بأسماء طريق، قال هذا القائل: وهم أصحاب أبي حنيفة، وهذا كلام جاهل الأحكام، والنقل، والآثار، أو متعصب قليل الورع لا يبالي بما قال.
ثم يقال لهذا القائل: ما رميت بهذا القول أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وإنما رميت السلف الصالح، أردت بذلك، ولم يمكنك التصريح بذلك؛ لأن أصحاب أبي حنيفة لم يبدعوا في ذلك قولا، بل قالوا ما قال أئمة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووجوه التابعين وزهادهم. وكيف يظن بابن عمر، وعلي وابن مسعود، وابن عباس، وعمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، أنهم شربوا خمرا غليظا في اسمها حتى استدرك عليهم هذا القائل حقيقة الاسم، والظن بنفسه، ونسي الظن بسلفه أن هذا لجرأة في الدين.

(12/385)


ثم هو محمول على القدح الأخير، إذ هو المسكر حقيقة،
والذي يصب عليه الماء بعدما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق، ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر الإمام الزاهد نجم الدين عمر النسفي: أن إباحة نبيذ التمر والزبيب يجب اعتقادها كيلا يؤدي إلى تفسيق الصحابة والتابعين. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: من إحدى شرائط مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يحرم نبيذ التمر. وروي عنه أنه قال: لا أحرمها ديانة، ولا أشربها مروءة.
م: (ثم هو محمول على القدح الأخير، إذ هو المسكر حقيقة) ش: هذا جواب بطريق التسليم، يعني سلمنا أن هذا الحديث صحيح، ولكنه محمول على القدح الأخير؛ لأن المسكر هو القدح الأخير حقيقة واردة ما قبله من الأقداح مجاز، وإذا أمكن العمل بالحقيقة لا يصار إلى المجاز، وقد مضى تحقيق الكلام فيه.
ومما يدل على أن المراد وهو القدح المسكر لا القليل ما ذكره ابن قتيبة في كتابه الأشربة «عن زيد بن علي بن الحسين بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنه شرب هو وأصحابه نبيذا شديدا في وليمة، فقيل له: يا ابن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدثنا بحديث سمعته من أبي بكر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النبيذ. قال: حدثني أبي عن جدي علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ينزل أمتي على منازل بني إسرائيل حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، إن الله سبحانه وتعالى ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت، أحل لهم منه الغرفة، وحرم منه الشرب، وإن الله سبحانه وتعالى ابتلاكم بهذا النبيذ، وأحل منه القليل، وحرم منه السكر» .
ومن ذلك ما ذكره في " المحيط ": أنه روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر حرام" فقيل: يا رسول الله: إن هذا الشراب إذا أكثرنا منه سكرنا، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس كذلك إذا شرب تسعة فلم يسكر فلا بأس به، وإذا شرب العاشر فسكر فذلك حرام» ولهذا قال أبو يوسف: لو شرب تسعة أقداح من النبيذ فلم يسكر فأوجر العاشر وسكر فلا حد عليه، ولو أوجر التاسعة وشرب القدح العاشر بالاختيار وسكر يحد.

م: (والذي يصب عليه الماء بعدما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق، ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث) ش: إنما لم يذكر اسم هذا النوع من الأشربة لاختلاف وقع فيه، قال منهم من سماه: يا يوسفي، ويعقوبي، لأن أبا يوسف كان كثيرا ما يستعمله، ومنهم من سماه نجيحا، وحميديا؛ لأنه منسوب إلى رجل اسمه حميد بن هانئ، ومنهم من يقول: جمهوري منسوب إلى

(12/386)


لأن صب الماء لا يزيده إلا ضعفا. بخلاف ما إذا صب الماء على العصير، ثم يطبخ حتى يذهب ثلثا الكل؛ لأن الماء يذهب أولا للطافته، أو يذهب منهما، فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب،
ولو طبخ العنب كما هو ثم يعصر يكتفى بأدنى طبخة في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي رواية عنه: لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ، وهو الأصح؛ لأن العصير قائم فيه من غير تغير، فصار كما بعد العصر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمهور الناس؛ فصارت له خمسة أسامي.
وهل يشترط لإباحته عند أبي حنيفة، وأبي يوسف بعدما صب الماء فيه أدنى طبخة؟، اختلف المشايخ فيه، كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: يشترط، وعند البعض: لا يشترط، واختار المصنف الأول.
م: (لأن صب الماء لا يزيده إلا ضعفا) ش: لأنه يرقق بالماء فتضعف قوته م: (بخلاف ما إذا صب الماء على العصير، ثم يطبخ حتى يذهب ثلثا الكل) ش: حيث لا يحل م: (لأن الماء يذهب أولا للطافته، أو يذهب منهما) ش: أي من الماء والعصير معا، وفاعل يذهب محذوف وليس هو الماء لفساد المعنى، وإنما التقدير: أو يذهب شيء، أو ذاهب ويجوز ذلك، وفيه ضعف لا يخفى م: (فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب) ش: يعني: إذا كان كذلك فلا يكون الذي يذهب ثلثي ماء العنب، فلا يحل.
فإن قلت: إذا ذهبا معا كان ينبغي أن يحل شربه كما يحل شرب المثلث؟
قلت: نعم؛ لأنهما لما ذهبا معا كان الذاهب من العصير ثلثين كالماء، لكن لما لم يتيقن بذهابهما معا، واحتمل ذهاب الماء أولا للطافته، قلنا، بحرمة شربه احتياطا؛ لأنه إذا ذهب الماء أولا: كان الذاهب أقل من ثلثي العصير، وهو حرام عندنا، وهو الباذق.

[طبخ ماء العنب بعد عصر العنب]
م: (ولو طبخ العنب كما هو ثم يعصر يكتفى بأدنى طبخة في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواها الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه، وقد روى عنه: إذا طبخ أدنى طبخة يحل شربه إذا غلا واشتد كما في نقيع الزبيب والتمر.
م: (وفي رواية عنه) ش: أي: وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة، رواها الحسن بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أنه لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ، وهو الأصح؛ لأن العصير قائم فيه من غير تغير، فصار كما بعد العصر) ش: يعني: إذا طبخ ماء العنب بعد عصر العنب، لا يحل ما لم يذهب ثلثاه، فكذا إذا طبخ العنب أولا ثم عصر ماؤه لا يحل بالطبخ بعد ذلك إلا إذا ذهب ثلثاه.

(12/387)


ولو جمع في الطبخ بين العنب والتمر أو بين التمر والزبيب لا يحل حتى يذهب ثلثاه؛ لأن التمر إن كان يكتفى فيه بأدنى طبخة فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه، فيعتبر جانب العنب احتياطا، وكذا إذا جمع بين عصير العنب ونقيع التمر لما قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[جمع في الطبخ بين العنب والتمر وبين التمر والزبيب]
م: (ولو جمع في الطبخ بين العنب والتمر، وبين التمر والزبيب لا يحل حتى يذهب ثلثاه؛ لأن التمر إن كان يكتفي فيه بأدنى طبخة فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه، فيعتبر جانب العنب احتياطا) ش: قال - أي: الأترازي -: ولنا في قوله: "أو بين التمر والزبيب" نظر؛ لأن ماء الزبيب كماء التمر يكتفى فيهما بأدنى طبخة، وقد صرح القدوري: بذلك قبل هذا، وهو قوله: ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال وإن اشتد.
قلت: إن هذا على ما رواه هشام في " النوادر " عن أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله: أنه لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ. وقال الفقيه أبو جعفر: يحتمل أن يكون في المسألة روايتان، ويحتمل أن يكون في المسألة رواية واحدة. واختلف الجواب لاختلاف الموضوع، فيكون موضوع ما ذكر في ظاهر الرواية ما إذا كان ماء الزبيب قبل الطبخ غلط فيه المصنف، فيلحقه أدنى طبخة بالمثلث موضوع ما ذكر في " النوادر " ما إذا كان ماء الرطب قبل النضج في رقة العصير فلا يلحق بالمثلث بأدنى طبخة.
وإن كان في المسألة روايتان فوجه ما ذكر في ظاهر الرواية أن التي من ماء الزبيب دون التي من ماء العنب؛ لأن ماء العنب لا يخالط ماء آخر، وإنما يخرج ماؤه بالأقدام. وماء الزبيب إنما يستخرج بماء آخر فيختلط به.
ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كل شراب استخرج ماؤه بمائه فهو حرام لا تشربوه؛ وكل شراب استخرج ماؤه بغير مائه فهو حلال فاشربوه. ولهذا لا يفسق شارب النقيع من ماء الزبيب، وإذا كان دون التي من ماء العنب لا يشترط لحله ما يشترط لحل ماء العنب من الطبخ.

[جمع بين عصير العنب ونقيع التمر] 1
م: (وكذا إذا جمع بين عصير العنب ونقيع التمر لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه. قال في " الأصل ": رأيت التمر المطبوخ يمزج العنب فيه فيقلبان جميعا والعنب غير مطبوخ؟، قال: أكره ذلك، وأنهى عنه.
قال شيخ الإسلام في "شرحه: وذلك لأنه اختلط الحرام بالحلال، والتمييز غير ممكن، فيحرم الكل. وإنما قلنا ذلك لأن نبيذ التمر بعدما طبخ بأن كان حلالا وإن غلا واشتد، والتي من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد لا يحل، وقد اختلط أحدهما بالآخر وتعذر تمييز الحلال من الحرام، فيحرم الكل، قال: أيحد من يشرب منه؟، قال: لا، إلا أن يسكر منه.

(12/388)


ولو طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة، ثم أنقع فيه تمرا أو زبيبا، إن كان ما أنقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله لا بأس به، وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل كما إذا صب في المطبوخ قدح من النقيع، والمعنى تغليب جهة الحرمة ولا حد في شربه؛ لأن التحريم للاحتياط، وهو للحد من درئه. ولو طبخ الخمر أو غيره بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه لم يحل؛ لأن الحرمة قد تقررت، فلا ترتفع بالطبخ.
قال: ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شيخ الإسلام: وهذا إذا كان التمر المطبوخ غالبا، والعنب مغلوبا به، فأما إذا كان العنب غالبا على التمر فإنه يجب الحد، كما لو خلط الخمر بالماء اعتبر الغالب والمغلوب، فكذا هذا، قال: أرأيت الرجل يخلط الخمر بعينها مع النبيذ ثم يشرب منه جميعا ولا يسكر أيجب الحد؟.
والجواب: فيما لو خلط بالماء إن كان الخمر غالبا وجب الحد، وإن كان النبيذ غالبا لم يجب ما لم يسكر، قال: أرأيت التمر والعنب يخلطان جميعا في قدر ثم يطبخان جميعا، حتى يذهب ثلثا العنب فيمرسان وينبذان؟، قال: لا بأس بذلك إذا كان قد ذهب من ماء العنب يحل إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه.

[طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة ثم أنقع فيه تمرا أو زبيبا]
م: (ولو طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة، ثم أنقع فيه تمرا أو زبيبا إن كان ما أنقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله لا بأس به) ش: هذه المسائل كلها ذكرت تفريعا على مسألة " المختصر " من قوله كما هو، م: (وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل) ش: لأنه في معنى نقيع ومطبوخ.
م: (كما إذا صب في المطبوخ قدح من النقيع) ش: لأنه أفسده كله م: (والمعنى تغليب جهة الحرمة) ش: يعني الوجه في تحريمه تغليب جهة الحرمة على جهة الحل احتياطا م: (ولا حد في شربه؛ لأن التحريم للاحتياط، وهو للحد في درئه) ش: أي رفعه؛ لأن مبناه على الدرء والسقوط.

[طبخ الخمر أو غيره بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه] 1
م: (ولو طبخ الخمر أو غيره) ش: أي غير الخمر من الأشربة المحرمة م: (بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه لم يحل؛ لأن الحرمة قد تقررت، فلا يرتفع بالطبخ) ش: لأن النار أثرها في دفع الحرمة لا في رفعها، ولكن مع هذا لا يجب الحد في شربه قبل السكر؛ لأن الخمر هي التي من ماء العنب، وهذا مطبوخ لا نيئ، فلا يكون شاربه شارب خمر.

[الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير]
م: (قال: ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير) ش: أي قال القدوري في "مختصره": والدباء القرع جمع دباه، والحنتم: بفتح الحاء المهملة، وسكون النون، وفتح التاء المثناة من فوق: وهو جرار حمر، وقال أبو عبيد خضر: وقد يجوز أن يكونا جميعا، وهو جمع حنتمة، والمزفت المطلي بالزفت، وهذا الذي ذكره القدوري، وهو قول أكثر أهل العلم.

(12/389)


لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث فيه طول بعد ذكر هذه الأوعية: «فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولا تشربوا المسكر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن أحمد في رواية: كره الانتباذ فيها؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال مالك: أكره أن ينتبذ في الدباء والمزفت، وأباح الجر كله غير المزفت، والحنتم، والنقير.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث طول بعد ذكر هذه الأوعية: «فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولا تشربوا المسكر» ش: أراد بهذا الحديث الذي فيه طول، وفيه: النهي عن الانتباذ في الظرف المذكور.
ثم الأشربة فيها هو ما رواه محمد بن أساس في " كتاب الآثار " أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: حدثنا علقمة بن مزيد عن أبي بريدة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وهؤلاء يقولوا هجرا، وقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، وعن لحوم الأضاحي أن يمسكوها فوق ثلاثة أيام فأمسكوها ما بدا لكم، وتزودوا فإنما نهيتكم ليوسع موسعكم على فقيركم، وعن النبيذ في الدباء والحنتم، والمزفت، فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولا تشربوا المسكر» . وفي بعض الروايات جاء النقير بعد المزفت.
وأخرج الجماعة إلا البخاري عن بريدة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا تشربوا مسكرا» وفي لفظ لمسلم: «نهيتكم عن الظروف، وإن الظرف، أو ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام» .
وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن مسروق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني نهيتكم عن نبيذ الأوعية، ألا وإن الوعاء لا يحرم شيئا، وكل مسكر حرام» .
وأخرج البخاري، ومسلم عن ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن مجاهد، عن ابن عياض، عن عبد الله بن عمر، فقال: «لما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأوعية قالوا: ليس كل الناس يجد سقاء فأرخص لهم في الجر غير المزفت"، وفي لفظ: "فأذن" بدل "فأرخص» .
وأخرج أبو داود عن شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو، قال: «ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدباء، والحنتم، والمزفت، والنقير، فقال أعرابي: إنه لا ظروف لنا، قال: "اشربوا ما حل"، وفي لفظ ليحيى بن آدم، عن شريك فقال: "اجتنبوا ما أسكر» .
وأخرج البخاري من حديث جابر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الظروف، فقالت الأنصار: إنه لا بد لنا منها، فقال: فلا إذا» وأخرج البيهقي من حديث يحيى بن محمد بن حبان

(12/390)


وقال ذلك بعدما أخبر عن النهي عنه، فكان ناسخا له. وإنما ينتبذ فيه بعد تطهيره، فإن كان الوعاء عتيقا يغسل ثلاثا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن واسع بن حسان حدثه أن أبا سعيد الخدري حدثه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نهيتكم عن النبيذ ألا فانتبذوا، ولا أحل مسكرا» قوله: ولا تقولوا: " هجرا " بضم الهاء، وسكون الجيم، وهو الإفحاش في النطق والخناء.
م: (وقال ذلك بعدما أخبر عن النهي عنه، فكان ناسخا له) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انتبذوا واشربوا في كل ظرف» بعدما أخبر عن الانتباذ في الظروف، فكان أمره بذلك ناسخا لنهيه المتقدم، ففيه دليل على جواز نسخ السنة بالسنة، والمراد من النهي: هو ما رواه البخاري، ومسلم، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدباء، والمزفت.»
وروى مسلم من حديث سعيد بن جبير، «عن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أنهما شهدا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت» . وروي أيضا من حديث الزهري أخبرني أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنتبذوا في الدباء، والمزفت» وروي أيضا عن حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنتبذوا في الدباء، ولا المزفت» .
وروى أيضا: ثم يقول أبو هريرة: اجتنبوا الحناتم، والنقير، وروي أيضا من حديث شعبة، أخبرني عمرو بن مرة، سمعت زادان يقول: قلت لابن عمر: أخبرنا بما نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأوعية، أخبرنا بلغتكم، وفسره لنا بلغتنا، قال: نهى عن الحنتم وهي الجرة، ونهى عن المزفت وهو النقير، ونهى عن الدباء وهو القرع، ونهى عن النقير وهي أصل النخلة ينقر نقرا ويمسح مسحا، وأمر أن ينتبذ في الأسقية.
قالوا: إنما نهى عن هذه الأوعية على الخصوص؛ لأن الأنبذة تشتد في هذه الظروف أكثر مما تشتد في غيرها، وفيه دليل واضح لأبي حنيفة، وأبي يوسف على إباحة شرب النبيذ الشديد دون المسكر، وعلى حرمة ما يقع به السكر.
فإن قلت: ما كان المعنى في النهي في زيارة القبور؟
قلت: كانوا في ابتداء الإسلام إذا زاروا المقابر يقربون عنه، ويقولون "هجرا" على رسمهم في الجاهلية، ويصفون موتاهم بالبطالة وسفك الدماء وشرب الخمر، فنهاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن زيارة القبور فطاما لهم عن الهجر، فلما انتهوا على ذلك أباح لهم زيارة القبور بعد ذلك.
م: (وإنما ينتبذ فيه بعد تطهيره) ش: إن كان فيه خمر م: (فإن كان الوعاء عتيقا يغسل ثلاثا

(12/391)


فيطهر، وإن كان جديدا لا يطهر عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتشرب الخمر فيه، بخلاف العتيق. وعند أبي يوسف يغسل ثلاثا ويجفف في كل مرة، وهي مسألة ما لا ينعصر بالعصر، وقيل: عند أبي يوسف: يملأ ماء مرة بعد أخرى، حتى إذا خرج الماء صافيا غير متغير يحكم بطهارته. قال: وإذا تخللت الخمر حلت سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها، ولا يكره تخليلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيطهر) ش: لأنها تشرب كما لو نجس الظرف بالدم أو البول، فإنه يطهر بالغسل ثلاثا م: (وإن كان جديدا لا يطهر عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتشرب الخمر فيه، بخلاف العتيق) ش:.
م: (وعند أبي يوسف: يغسل ثلاثا ويجفف في كل مرة، وهي مسألة ما لا ينعصر بالعصر) ش: والخلاف فيه مشهور، فإن عند محمد: إذا تنجس ما لا ينعصر بالعصر لا يطهر أبدا. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يطهر بالغسل ثلاث مرات مع تجفيفه في كل مرة، وقد مر مستوفى في: كتاب الطهارة.
وقال شيخ الإسلام: هذا مثل ظرف الخمر بعدما صب منه الخمر، أما إذا لم يصب منه الخمر حتى صار الخمر خلا ما حال الظرف لم يذكر محمد هذا في " الأصل ". وقد حكي عن الحاكم أبي نصر محمد بن مهرويه أنه كان يقول: ما يواري الإناء من الخل لا شك أنه يطهر، لأن ما يواري الإناء من الخل فيه أجزاء الخل، وإنه طاهر. فأما على الجب الذي انتقض من الخمر.
وقيل: صيرورته خلا: فإنه يكره؛ لأن ما تداخل أجزاء الجب من الخمر لم يصر خلا؛ بل يلبث فيه كذلك جزءا، فيكون نجسا، فيجب أن يغسل أعلاه بالخل حتى يطهر الكل؛ لأن غسل النجاسة الحقيقية بما سوى الخمر من المائعات التي تزيل النجاسة جائز عندنا فإذا غسل الجب بالخل صار ما حل فيه من أجزاء الخمر خلا من ساعته، فيطهر الجب بهذا الطريق، فإذا لم يفعل كذا حتى ملأ به من العصر بعد ذلك فإنه ينجس العصير ولا يحل شربه؛ لأنه عصير خالطه الخمر، إلا أن يصير خلا، فكذا قاله خواهر زاده - رحمة الله عليه -.
م: (وقيل عند أبي يوسف: يملأ ماء مرة بعد أخرى، حتى إذا خرج الماء صافيا غير متغير يحكم بطهارته) ش: أشار بهذا القول أنه إذا لم يجفف في كل مرة من الغسل، ولكن ملأ ماء مرة بعد أخرى إلى آخره ما ذكره، فإنه يطهر ولا يحتاج إلى التجفيف في كل مرة من الغسل.
م: (قال: وإذا تخللت الخمر حلت سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها، ولا يكره تخليلها) ش: أي قال القدوري في "مختصره": أراد أن التخليل يجوز مطلقا، سواء صارت خلا بنفسها أو بعلاج، كإلقاء الملح أو بغير الملح كالنقل من الظل إلى الشمس أو بالعكس أو

(12/392)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره التخليل ولا يحل الخل. الحاصل به إن كان التخليل بإلقاء شيء فيه قولا واحدا، وإن كان بغير إلقاء شيء فيه فله في الخل. الحاصل به قولان له: أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول، والأمر بالاجتناب ينافيه. ولنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نعم الإدام الخل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بإيقاد النار بالقرب منه. ولا يكره هذا الغسل عندنا، (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره التخليل ولا يحل الخل. الحاصل به إن كان التخليل بإلقاء شيء فيه قولا واحدا) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -.
م: (وإن كان بغير إلقاء شيء فيه فله) ش: أي فللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الخل الحاصل به) ش: أي بإلقاء شيء م: (قولان) ش: في قول: يحل كقولنا، وفي قول: لا يحل، وبه قال مالك وأحمد أما إذا صار خلا بطول المدة بدون علاج يحل بلا خلاف لهم.
م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول، والأمر بالاجتناب ينافيه) ش: بيانه أن سبحانه وتعالى أمر بالاجتناب على الخمر بقوله سبحانه وتعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] والأمر للوجوب، وفي التخليل اقتراب منه، وبينهما منافاة فلا يجوز.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نعم الإدام الخل» ش: هذا الحديث رواه الجماعة من الصحابة الأول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الجماعة إلا البخاري ومسلم والنسائي عن طلحة بن نافع والباقون عن محارب بن دثار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم الإدام الخل» ، أخرجه النسائي في الوليمة والباقون في الأطعمة.
الثاني: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم الإدام الخل» ، قال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، لا يعرف من حديث هشام بن عروة إلا عن سليمان بن بلال.
الثالث: أم هانئ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها الحاكم في " المستدرك " في الفضائل عن عطاء بن عباس «عن أم هانئ بنت أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل عندك طعام آكله وكان جائعا؟ فقلت: إن عندي كسرة يابسة، وإني أستحي أن أقربها إليك، فقال: هلميها، فكسرتها ونثرت عليها الملح، فقال: هل من إدام؟ فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما عندي إلا شيء من خل، فقال: هلميه، فلما جئته به صبه على

(12/393)


ولأن بالتخليل يزول الوصف المفسد، وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طعامه فأكل منه ثم حمد الله تعالى ثم قال: نعم الإدام الخل يا أم هانئ، لا يفتقر بيت فيه خل» .
الرابع: أيمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه البيهقي في " شعب الإيمان " عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: «نزل بجابر ضيوف فجاءهم بخبز وخل، فقال: كلوا فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "نعم الإدام الخل، هلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم، وهلاك بالرجل أن يحتقر ما في بيته أن يقدمه إلى أصحابه» .
الخامس: أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها الدارقطني في "سننه" عن فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن عمرة «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها كانت لها شاة تحتلبها ففقدها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما فعلت الشاة؟ "، قالوا: ماتت، قال: "أفلا انتفعتم بإهابها؟ "، فقلنا: إنها ميتة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن دباغها يحل كما يحل خل الخمر» . وقال الدارقطني: تفرد به فرج بن فضالة وهو ضعيف روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث لا يتابع عليها.
حديث آخر: «خير خلكم: خل خمركم» . قال البيهقي في " المعرفة " رواه المغيرة بن زياد عن أبي الزبير عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير خلكم خل خمركم» تفرد به المغيرة بن زياد وليس بالقوي. وجه الاستدلال بهذا الحديث: أنه عام يتناول جميع ما يطلق عليه اسم الخل، لأنه لم يفصل بين خل وخل.
م: (ولأن بالتخليل يزول الوصف المفسد) ش: وهو الخمرية، لأن التخليل إصلاح لجوهر فاسد، فيجوز، لأن الجوهر خمر فاسد، فإصلاحه بإزالة صفة الخمرية عنه، والتخليل إزالة لتلك الصفة، فيكون إصلاحا م: (وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر

(12/394)


الشهوة والتغذي به والإصلاح مباح، وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه وبالدباغ والاقتراب لإعدام الفساد، فأشبه الإراقة، والتخليل لما فيه من إحراز مال يصير حلالا في الثاني: فيختاره من ابتلي به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهوة والتغذي به) ش: ذكر في ثبوت صفة الصلاح ثلاثة أشياء: الأول: تسكين الصفراء، لأن الجوهر البارد فيه أكثر من الجوهر الحار، لأنه مركب من جوهرين مختلفين، أعني من جوهر حار وجوهر بارد، وكلاهما لطيف، ولهذا فيه تخفيف بليغ، حتى إنه من التخفيف في الدرجة الثالثة عند منتهاها إذا كان خلا ثقفا.
الثاني: فيه كسر الشهوة لما قلنا: إن فيه تخفيفا بليغا، ذكر أصحاب الطبائع: أنه يفيق الشهوة.
الثالث: فيه التغذي، لأنه صالح للمعدة، والجوع يصلح من هيجان الحرارة في المعدة، وهو أسرع إلى إطفاء الحرارة وحدته، قالوا: إنه يضعف البصر م: (والإصلاح مباح) ش: أي إصلاح المفسد يباح كالدباغ، وهذا بالإجماع.
م: (وكذا الصالح للمصالح) ش: وكذا مباح الصالح للمصالح وهو جمع مصلحة والمصالح هي الأشياء المذكورة ونحوها م: (اعتبارا بالمتخلل بنفسه) ش: أي قياسا على التخلل بنفسه، فإنه يباح بالإجماع لأجل المصالح المذكورة وغيرها.
وكذا الذي يحل بالعلاج ونحوه م: (وبالدباغ) ش: أي واعتبارا بالدباغ أيضا، فإن عين الجلد نجس، ولهذا لا يجوز بيعه كالثوب النجس والدبغ إصلاح له من حيث إنه يعصمه من النتن والفساد وقد جاز الدباغ فيجوز التخليل قياسا عليه م: (والاقتراب لإعدام الفساد) ش: وهذا جواب عن قول الشافعي: أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول. ووجهه: لا نسلم أنه على جهة التمول، بل المنظور إليه إعدام الفساد م: (فأشبه الإراقة) ش: فإن فيها اقترابا أيضا م: (والتخليل أولى) ش: أي من الإراقة مع وجود الاقتراب في كل منهما م: (لما فيه) ش: أي في التخليل م: (من إحراز مال يصير حلالا في الثاني) ش: أي في الزمن الثاني م: (فيختار من ابتلي به) ش: أي فيختار التخليل على الإراقة من ابتلي بالخمر، كما إذا درت خمرا مثلا.
فإن قلت: هي لنجس العين فيحرم التصرف فيها قياسا على الميتة والبول والدم؟.
قلت: ليس كذلك فذاتها ذات العصير وهو طاهر قبل التخمر، والنجاسة باعتبار الشدة وما هي عينها بل وصفها وهو يقبل الزوال كالصبي في الصبي، ولهذا لو تخللت بنفسها يحل.
فإن قلت: ما تقول فيما رواه مسلم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن

(12/395)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخمر أيتخذ خلا، قال: "لا".» وروي أيضا عن أنس «أن أبا طلحة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتام ورثوا خمرا، قال: "أهرقها"، قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: "لا» .
وروى المزني أيضا في كتاب " العلل ": «أن أبا طلحة كان في حجره يتامى فاشترى لهم خمرا فنزل تحريم الخمر فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك وقال: أفنخللها؟، قال: "لا، ولكن أهرقها» ، قال المزني: فلو كان التخليل جائزا لما أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإراقة، لأن فيها يضيع مال اليتيم، بل كان يأمره بالتخليل خصوصا كان الخمر ليتامى. قالوا: أو لأن الصحابة أراقوها حين نزلت آية التحريم كما ورد في الصحيح، فلو جاز التخليل لبينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما بين لأهل الشاة الميتة على دباغها.
قلت: أما الجواب عن الحديث الأول: أن المعنى لا يستعملوها استعمال الخل بأن تؤدم ويوضع على المائدة كما يوضع الخل، وهو نظير ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن تحليل الحرام وتحريم الحلال، وأن يتخذ الدواب كراس» ، المراد الاستعمال. «ولما نزل قوله سبحانه وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] (التوبة: الآية 31) . قال عدي بن حاتم: ما عبدناهم قط، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس كانوا يأمرون وينهون وتطيعونهم؟ "، قال: نعم، فقال: "هو ذاك» فقد فسر الإلحاد بالاستعمال.
وأما عن الثاني: فقد أجاب الطحاوي - رحمة الله عليه - بأنه محمول على التغليظ والتشديد، لأنه كان في ابتداء الإسلام كما ورد ذلك في سؤر الكلب، بدليل أنه ورد في بعض طرقه الأمر بكسر الدبار وتقطيع الزقاق. ورواه الطبراني في "معجمه" حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا مشدد حدثنا معتمر حدثنا ليث عن يحيى بن عباد عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن أبي طلحة قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري؟، فقال: "أهرق الخمر واكسر الدنان".»
وروى أحمد في "مسنده" حدثنا الحاكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن حمزة بن حبيب عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شق زقاق الخمر بيده في أسواق المدينة» ، وهذا صريح في تغليظ الأمر، لأن فيه إتلاف مال الغير، وقد كان يمكنه الإراقة بدون كسر الدنان وشق الزقاق وتطهيرها، ولكن قصد بإتلافها التشديد ليكون أبلغ في الردع، وقد ورد عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حرق بيت خمار، كما رواه ابن سعد في " الطبقات " أخبرنا يزيد بن

(12/396)


وإذا صار الخمر خلا يطهر ما يوازيها من الإناء، فأما أعلاه وهو الذي نقص منه الخمر قيل: يطهر تبعا، وقيل: لا يطهر؛ لأنه خمر يابس إلا إذا غسل بالخل فيتخلل من ساعته، فيطهر، وكذا إذا صب منه الخمر ثم ملئ خلا يطهر في الحال على ما قالوا.
قال: ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هارون أخبرنا ابن أبي دريب عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حرق بيت روشيد السعفي وكان حاويا للشراب، قال: فلقد رأيته ملتهبا نارا.
وقد ورد في حديث عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عوض الأيتام عن خمرهم مالا» كما رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" حدثنا جعفر بن حميد الكوفي حدثنا يعقوب القمي عن عيسى بن حارثة عن جابر، فذكر. وفيه قال: «إذا أتانا مال البحرين فإنا نعوض أيتاما في مالهم» ، وقد تقدم فيما مضى من هذا الباب.
م (وإذا صار الخمر خلا يطهر ما يوازيها من الإناء) ش: يجوز فيما يواريها بالراء المهملة من المواراة، وهي الستر، ويجوز بالزاي المعجمة من الموازاة، وهي المساواة أي يطهر ما يستر الخمر من الإناء أو ما يساويها من الإناء بمعنى قدر ارتفاعها في الإناء م: (فأما أعلاه) ش: أي أعلى الإناء م: (وهو الذي نقص منه الخمر) ش: مثلا إذا كانت الخمر في نصف الإناء لا يكون المشغول منه بالخمر إلا النصف التحتاني، فإذا صارت خلا يطهر النصف التحتاني لصيرورة الخمرة خلا. وأما النصف الفوقاني هل بالخل يطهر؟ م: (قيل: يطهر تبعا) ش: أي من إرادة الخل، وبه أخذ الهندواني وأبو عبيد والصدر الشهيد.
م: (وقيل: لا يطهر لأنه خمر يابس) ش: فيكون نجسا م: (إلا إذا غسل بالخل فيتخلل من ساعته فيطهر) ش: يعني يدار فيه الخل حتى يصيب جميع الظرف، فإذا فعل ذلك فقد طهر وإن لم يشب فيه الخمر كذا في " الذخيرة "، وقد مر الكلام فيه عن قريب. م: (وكذا إذا صب منه الخمر ثم ملئ خلا يطهر في الحال على ما قالوا) ش: أي المشايخ، لأن آثار الخمر التي فيه تستحيل خلا في ساعته فيطهر.

[شرب دردي الخمر]
م: (قال: ويكره شرب دردي الخمر) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، ودردي الخمر ما يرسب في أسفله، وكذا دردي الزبيب ونحوه م: (والامتشاط به) ش: أي بدردي الخمر إنما خص الامتشاط، لأن له تأثير في تحسين الشعر، وقد صح عن عائشة: أنها كانت تنهى النساء

(12/397)


لأن فيه أجزاء الخمر والانتفاع بالمحرم حرام، ولهذا لا يجوز أن يداوي به جرحا أو دبرة دابة، ولا أن يسقي ذميا، ولا أن يسقي صبيا للتداوي، والوبال على من سقاه. وكذا لا يسقيها الدواب، وقيل: لا تحمل الخمر إليها. أما إذا قيدت إلى الخمر فلا بأس به، كما في الكلب والميتة. ولو ألقى الدردي في الخل لا بأس به؛ لأنه يصير خلا، لكن يباح حمل الخل إليه لا عكسه لما قلنا. قال: ولا يحد شاربه، أي شارب الدردي إن لم يسكر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحد؛ لأنه شرب جزءا من الخمر. ولنا: أن قليله لا يدعو إلى كثيره لما في الطباع من النبوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ذلك أشد النهي.
م: (لأن فيه) ش: أي في الدردي م: (إجزاء الخمر والانتفاع بالمحرم حرام، ولهذا لا يجوز أن يداوي به) ش: أي بالخمر م: (جرحا) ش: لحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» م: (أو دبرة دابة) ش: أي أو يداوي دبر دابة، والدبر بفتحتين جرح الدابة أو عقرها من دبرت الدابة تدبر دبرا من باب علم يعلم، والدبر بفتح الدال وكسر الباء هو الحيوان الذي فيه دبر بفتحتين م: (ولا أن يسقي ذميا) ش: أي ولا يجوز، لأن فيه اقترابا للخمر، وهو مأمور بالاجتناب عنه وإعانة على المعصية م: (ولا أن يسقي صبيا للتداوي) ش: أي ولا يجوز أن يسقي صبيا لأجل التداوي لما ذكرنا من حديث ابن مسعود م: (والوبال) ش: أي الإثم والخطيئة م: (على من سقاه) ش: لأن الصبي غير مخاطب، فالإثم يبنى على الخطاب.
م: (وكذا لا يسقيها الدواب) ش: لأنه نوع انتفاع بالخمر وأقرب منه م: (وقيل: لا تحمل الخمر إليها) ش: أي إلى الدواب م: (أما إذا قيدت) ش: أي الدواب م: (إلى الخمر فلا بأس به) ش: لعدم المعنى الذي ذكرناه م: (كما في الكلب والميتة) ش: أي لا تحمل الميتة إلى الكلب. ولو قيد الكلب إليها لا بأس به، وكذا الفأرة لا تحمل إلى الهرة، ولكن الهرة تحمل إلى الفأرة كيلا يصير حاملا للنجاسة بلا ضرورة. وفي " الذخيرة ": ويكره أن يبل الطين بالخمر. م: (ولو ألقي الدردي في الخل لا بأس به لأنه يصير خلا، لكن يباح حمل الخل إليه) ش: أي إلى الدردي م: (لا عكسه) ش: وهو حمل الدردي إلى الخل م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى التعليل المستفاد من قوله كما في الكلب والميتة.
م: (قال: ولا يحد شاربه، أي شارب الدردي إن لم يسكر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد) ش: وبه قال مالك وأحمد وأكثر أهل العلم م: (لأنه شرب جزءا من الخمر) ش: أي الدردي لا يخلو منه، وفي الخمر يجب الحد من القليل والكثير. م: (لنا أن قليله لا يدعو إلى كثيره لما في الطباع من النبوة) ش: أي من النفرة، لأن الطباع لا تميل إلى شرب الدردي، بل من يعتاد شرب

(12/398)


عنه، فكان ناقصا، فأشبه غير الخمر من الأشربة ولا حد فيها إلا بالسكر، ولأن الغالب عليه الثفل فصار كما إذا غلب عليه الماء بالامتزاج، ويكره الاحتقان بالخمر وإقطارها في الإحليل؛ لأنه انتفاع بالمحرم، ولا يجب الحد لعدم الشرب، وهو السبب، ولو جعل الخمر في مرقة لا تؤكل لتنجسها بها ولا حد ما لم يسكر منه، لأنه أصابه الطبخ. ويكره أكل خبز عجن عجينه بالخمر لقيام أجزاء الخمر فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخمر يعاف الدردي م: (عنه فكان ناقصا، فأشبه غير الخمر من الأشربة ولا حد فيها إلا بالسكر، ولأن الغالب عليه الثفل فصار كما إذا غلب عليه الماء بالامتزاج) ش: حيث لا يحد إذا كان الماء هو الغالب كما ذكرنا.
م: (ويكره الاحتقان بالخمر وإقطارها في الإحليل) ش: وهو ثقب الذكر م: (لأنه انتفاع بالمحرم ولا يجب الحد) ش: وفي بعض النسخ ولا يحد م: (لعدم الشرب وهو السبب) ش: أي الشرب هو السبب في وجوب الحد ولم يوجد، وبه قال الشافعي ومالك. وعن أحمد: يجب الحد بالاحتقان، لأنه أدخله إلى جوفه، قال ابن قدامة: والأصح أنه لا يجب لعدم الشرب.
م: (ولو جعل الخمر في مرقة لا تؤكل لتنجسها بها) ش: أي لتنجس المرقة بالخمر م: (ولا حد ما لم يسكر منه؛ لأنه أصابه الطبخ) ش: لأنه مطبوخ، والخمر هو الذي من ماء العنب.
وعند أحمد: يحد، لأن عين الخمر موجود فيها، ولو لم يطبخ يعتبر الغالب والمغلوب، كما لو مزج الخمر بالماء.
وقال شيخ الإسلام في "شرحه": وهذه المسألة تدل على أن الخمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه أنه لا يجب الحد بشربه ما لم يسكر، لأنه بعد الطبخ لم يبق بناء.
م: (ويكره أكل خبز عُجِنَ عجينه بالخمر لقيام أجزاء الخمر فيه) ش: أي في العجين، وأما اللحم إذا طبخ بالخمر، فعند محمد: لا يطهر أبدا، وعند أبي يوسف: يغلى بالماء الطاهر ثلاث مرات ويبرد في كل مرة.

(12/399)


فصل في طبخ العصير والأصل أن ما ذهب بغليانه بالنار وقذفه بالزبد يجعل كأن لم يكن، ويعتبر ذهاب ثلثي ما بقي ليحل الثلث الباقي، بيانه عشرة دوارق من عصير طبخ فذهب دورق بالزبد يطبخ الباقي حتى يذهب ستة دوارق ويبقى الثلاث فيحل؛ لأن الذي يذهب زبدا هو العصير أو ما يمازجه، وأيا ما كان جعل كان العصير تسعة دوارق، فيكون ثلثها ثلاثة، وأصل آخر أن العصير إذا صب عليه ماء قبل الطبخ، ثم طبخ بمائه إن كان الماء أسرع ذهابا لرقته ولطافته يطبخ الباقي بعدما ذهب مقدار ما صب فيه من الماء حتى يذهب ثلثاه، لأن الذاهب الأول هو الماء والثاني العصير، فلا بد من ذهاب ثلثي العصير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل في طبخ العصير]
[كيفية طبخ العصير إلى أن يذهب ثلثاه]
م: (فصل في طبخ العصير) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام العصير وكيفيته، ولما ذكر فيها معنى أن العصير لا يحل ما لم يذهب ثلثاه، شرع يبين كيفية طبخ العصير إلى أن يذهب ثلثاه، وما في هذا الفصل ليس بمذكور في " الجامع الصغير "، ولا في القدوري، وإنما هو مذكور في " المباسيط "، ذكره تفريعا على ما ذكر قبل هذا.
م: (والأصل أن ما ذهب بغليانه بالنار وقذفه بالزبد يجعل كأن لم يكن) ش: يعني ما ذهب من القدر ومن غاية الغليان وقذفه بالزبد لا يعتبر م: (ويعتبر ذهاب ثلثي ما بقي ليحل الثلث الباقي) ش: لأن نصيب الشيطان في الثلثين فيما لم يذهب الثلثان لا يحل م: (بيانه) ش: أي بيان ما ذكر م: (عشرة دوارق) ش: وهو جمع دورق - بفتح الدال المهملة وسكون الواو وفتح الراء وفي آخره قاف -، وهو مكيال الشراب أعجمي معرب.
قيل: تسعة عشر أمناء. وقال تاج الشريعة: تسعة أربعة أمناء م: (من عصير طبخ فذهب دورق بالزبد يطبخ الباقي) ش: وهو تسعة دوارق م: (حتى يذهب ستة دوارق ويبقى الثلاث) ش: وهو ثلاثة دوارق م: (فيحل؛ لأن الذي يذهب زبدا) ش: أي حال كونه زائدا م: (هو العصير) ش: يعني من نفس العصير م: (أو ما يمازجه) ش: أي والذي ذهب زائدا هو ما يمازج العصير من الثفل والشراب والدردي.
م: (وأيا ما كان) ش: أي النوعين كان م: (جعل العصير تسعة دوارق، فيكون ثلثها ثلاثة) ش: أي فيكون ثلث التسعة ثلاثة دوارق، فيكون الذهب ستة والباقي ثلاثة فيحل.
م: (وأصل آخر أن العصير إذا صب عليه ماء قبل الطبخ بمائه إن كان الماء أسرع ذهابا لرقته ولطافته يطبخ الباقي بعدما ذهب مقدار ما صب فيه من الماء حتى يذهب ثلثاه؛ لأن الذاهب الأول هو الماء والثاني العصير، فلا بد من ذهاب ثلثي العصير) ش: بيان ذلك ما قاله شيخ الإسلام خواهر زاده في

(12/400)


وإن كانا يذهبان معا تغلى الجملة حتى يذهب ثلثاها ويبقى ثلثها فيحل، لأنه ذهب الثلثان ماء وعصيرا والثلث الباقي ماء وعصير، كما إذا صب الماء فيه بعد ما ذهب من العصير بالغلي ثلثاه، بيانه عشرة دوارق من عصير وعشرون دورقا من ماء، ففي الوجه الأول يطبخ حتى يبقى تسع الجملة؛ لأنه ثلث العصير، وفي الوجه الثاني حتى يذهب ثلثا الجملة لما قلنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"شرحه"، وهو: أن يجعل كل عشرة من الماء والعصير على ثلاثة أسهم بحاجتك إلى الثلث والثلثين، فيكون الماء ستة من تسعة وما ذهب يجعل كأن لم يكن، لأن ما بقي العصير لا غير، وهو ثلاثة أسهم فيطبخ حتى يذهب ثلثاه فقد ذهب مرة ستة ومرة اثنان فذهب ثمانية وبقي واحد هو تسع الكل وهو الحاصل ثلاثة دوارق وهو ثلث.
م: (وإن كانا يذهبان معا) ش: أي وإن كان الماء والعصير يذهبان معا م: (تغلي الجملة حتى يذهب ثلثاها، ويبقى ثلثها فيحل) ش: قال شيخ الإسلام: كأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - علم أن العصير على نوعين منه ما لو صب فيه الماء وطبخ يذهب الماء أولا منه ما إذا صب فيه الماء يذهبان معا، وكذلك فصل الجواب فيه مفصلا؛ م: (لأنه ذهب الثلثان ماء وعصيرا) ش: أي حال كون الثلثين ماء وعصيرا، وهذا مثل قولك جاء القوم ركبانا ومشاة، يعني حال كونهم بعضهم راكبين وبعضهم ماشين م: (والثلث الباقي ماء وعصير) ش: وقد ذهب الحرام من العصير وهو الثلثان، وبيانه فيما قال شيخ الإسلام: وهو: أن يطبخ حتى يذهب ثلثاه وهو عشرون ويبقى ثلاثة وهو عشرة، لأنه متى بقي عشرة كان يليه ماء ويليه عصير إذا كانا يذهبان معا، فيكون ثلث العصير ثلاثة، وقد كان العصير عشرة، وقد رد العصير إلى الثلث فيحل.
م: (كما إذا صب الماء فيه بعدما ذهب من العصير بالغلي ثلثاه) ش: يعني صار حكم هذا كحكم ماء لو صب في العصير بعدما صار مثلثا بحيث يحل فكذا هذا.
م: (بيانه) ش: أي بيان ما ذكر م: (عشرة دوارق من عصير وعشرون دورقا من ماء، ففي الوجه الأول) ش: أي فيما إذا ذهب الماء أولا م: (يطبخ حتى يبقى تسع الجملة؛ لأنه ثلث العصير) ش: تسع الجملة وهي ثلاثة، وذلك بعد ذهاب الدورق بالزبد والثلاثة ثلث العصير، لأن العصير عشرة، ولكن ذهب منها دورق بالزبد فبقي تسعة ثلثها ثلاثة.
م: (وفي الوجه الثاني) ش: أي فيما إذا كان الماء والعصير يذهبان معا م: (حتى يذهب ثلثا الجملة) ش: أي يطبخ حتى يذهب ثلثا الجملة وهو عشرون وبقي عشرة ثلاثة، فمتى بقي عشرة كان ثلثاه ماء وثلثه عصير، أو كان الباقي ثلث العصير وثلث الماء م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لأن الباقي ثلث الماء وثلث العصير.

(12/401)


والغلي بدفعة أو دفعات سواء إذا حصل قبل أن يصير محرما، ولو قطع عنه النار فغلي حتى ذهب الثلثان يحل؛ لأنه أثر النار. وأصل آخر: أن العصير إذا طبخ فذهب بعضه ثم أهريق بعضه كم تطبخ البقية حتى يذهب الثلثان فالسبيل فيه أن تأخذ ثلث الجميع فتضربه في الباقي وبعد المنصب، ثم تقسمه على ما بقي بعد ذهاب ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء فما يخرج بالقسمة فهو حلال بيانه عشرة أرطال عصير طبخ حتى ذهب رطل ثم أهرق منه ثلاثة أرطال تأخذ ثلث العصير كله، وهو ثلاثة وثلث وتضربه فيما بقي بعد المنصب وهو ستة، فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقي بعدما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والغلي بدفعة أو دفعات سواء إذا حصل) ش: أي الغلي م: (قبل أن يصير محرما) ش: قال في الأصل: إذا طبخ الرجل عصيرا حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثاه ثم ترك حين يبرد، ثم أعاد عليه الطبخ حتى يذهب نصف ما بقي فإن كان أعاد عليه قبل أن يغلي ويتغير عن حال العصير فلا بأس به، لأن الطبخ وجد في حالة الحلاوة وإن كان يغير عن حالة العصير وإلا فلا خير فيه لأن الطبخ وجد بعد ثبوت الحرمة.
م: (ولو قطع عنه النار فغلي حتى ذهب الثلثان يحل؛ لأنه أثر النار) ش: صورته إذا طبخ العصير حتى ذهب] ثلاثة أخماسه مثلا وبقي خمساه ثم قطع عنه النار فلم يبرد حتى نقص عليه تمام الثلثين وبقي الثلث حل، لأن ما ذهب بعد قطع النار ذهب بحرارة النار فصار كما إذا شمس العصير وذهب ثلثاه بحرارة الشمس، فيصير مثلثا، لأن المقصود ذهاب الثلثين وصار كما لو صار مثلثا والنار تحته. بخلاف ما لو برد مشتدا محرما ثم طبخ حتى ذهب ثلثاه حيث لا يحل، كذا في " الذخيرة " و" المبسوط ".
م: (وأصل آخر: أن العصير إذا طبخ فذهب بعضه ثم أهريق بعضه كم تطبخ البقية حتى يذهب الثلثان) ش: ذكر أولا الأصل الذي فيه: أن ما ذهب بالزبد لا يعتبر. ثم ثانيا: الأصل الذي فيما إذا صب فيه الماء بالوجهين المذكورين.
ثم ثالثا: يذكر معرفة قدر طبخ للبقية بعد إراقة البعض فقال: م: (فالسبيل فيه أن تأخذ ثلث الجميع فتضربه في الباقي وبعد المنصب) ش: أي المسكوب م: (ثم تقسمه على ما بقي بعد ذهاب ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء. فما يخرج بالقسمة فهو حلال. بيانه: عشرة أرطال عصير طبخ حتى ذهب رطل، ثم أهرق منه ثلاثة أرطال تأخذ ثلث العصير كله، وهو ثلاثة وثلث) ش: لأن كل العصير عشرة، وثلثها ثلاثة وثلث.
م: (وتضربه فيما بقي بعد المنصب وهو ستة، فيكون عشرين) ش: لأن الستة ثلاث مرات ثمانية عشر، والثلاث مرات اثنان، فالجملة عشرون م: (ثم تقسم العشرين على ما بقي بعدما

(12/402)


ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء، وذلك تسعة فيخرج لكل جزء من ذلك اثنان وتسعان فعرفت أن الحلال ما بقي منه رطلان وتسعان، وعلى هذا تخرج المسائل. ولها طريق آخر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء، وذلك تسعة، فيخرج لكل جزء من ذلك اثنان وتسعان) ش: وهذا لأن الرطل الذاهب بالطبخ في المعنى داخل فيما بقي، وكان الباقي إن لم ينصب منه شيء تسعة أرطال، فعرفنا أن كل رطل من ذلك فسر معنى رطل وتسع رطل، لأن الذاهب بالغليان يقسم على ما بقي أتساعا، فإذا انصب فيه ثلاثة أرطال، فهذا في المعنى ثلاثة أرطال وثلاثة أتساع رطل، فيكون الباقي منه ستة أرطال وستة أتساع رطل فيطبخه حتى يذهب الثلثان، ويبقى منه الثلث وهو رطلان وتسعا رطل، وهو معنى قوله:
م: (فعرفت أن الحلال ما بقي منه رطلان وتسعان) ش: بضم التاء، أي تسعا رطل كما ذكرنا م: (وعلى هذا تخرج المسائل) ش: أي وعلى المسائل المذكورة تخرج مسائل كثيرة، منها: إذا كان الذاهب بالغليان رطلين وبقي ثمانية أرطال ثم أهريق منه رطلان ثم يطبخ حتى يزول الثلثان ينبغي أن يطبخ حتى تزول الثلاثة أرطال ونصف رطل، لكن تأخذ ثلث الجميع، وذلك ثلاثة وثلث، فتضربه في الباقي بعد الغليان والإراقة، وهو ذلك ستة، فيصير عشرين، ثم يقسم العشرون على الباقي بعد الغليان قبل الإراقة، وذلك ثمانية يخرج رطلان ونصف رطل، وهذا المقدار هو الذي يجب أن ينتهي الطبخ إليه بعد الغليان والإراقة، وهو الثلث.
ومنها: إذا كان الذاهب بالغليان خمسة أرطال وبقي خمسة، ثم جاء رجل وأخذ منه رطلا وبقي أربعة لم يطبخ حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ينبغي أن يطبخه حتى يبقى رطلان وثلثا رطل، لأنك تضرب ثلثا الجملة وهي ثلاثة وثلث في الباقي بعد الإراقة وهي أربعة، فيكون ثلاثة عشر وثلثا لأن الثلاثة في الأربعة اثنا عشر وثلث في الأربعة منهم وثلث سهم، فيقسم ثلاثة عشر وثلث على الباقي بعد الغليان قبل الإراقة، وذلك خمسة يخرج من القسمة رطلان وثلاثة أخماس رطل وثلث خمس رطل، وقال: إن العشرة إذا قسمت علي الخمسة فيخرج سهمان، والثلاثة إذا قسمت على الخمسة يخرج ثلاثة أخماس والثلث إذا قسم على الخمسة يخرج ثلث خمس رطل، لأنك تضرب الصحيح وهي الخمسة في مخرج الكسر وهي ثلاثة تصير خمسة عشر ثم يقسم عليه الكسر وهو الثلث يخرج ثلث الخمس ثم ثلاثة أخماس الشيء وثلث خمسه مساو مع ثلث الشيء. ألا ترى أن عشرة من خمسة عشر ثلثاه وهي ثلاثة أخماسه وثلث خمسه لأن ثلاثة أخماسه تسعة وثلث خمسه واحد.
م: (ولها طريق آخر) ش: أي للمسألة المذكورة طريق آخر في استخراجها. قيل: هو: أن يجعل الذاهب بالغليان من الحرام، لأنه إنما يطبخ ليذهب الحرام ويبقى الحلال فثلثاه عشر

(12/403)


وفيما اكتفينا به كفاية وهداية إلى تخريج غيرها من المسائل، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أرطال حرام وهو ستة أرطال وثلثا رطل وثلثه حلال وهو ثلاثة أرطال وثلث رطل، والذاهب بالطبخ ذاهب من الحرام، والباقي تسعة أرطال الحلال منها ثلاثة أرطال وثلث رطل، والحرام خمسة أرطال وثلثا رطل، فإذا أهريق ثلاثة فهو من الحلال والحرام جميعا وكان الذاهب منهما على السواء، فذهب من الحلال ثلاثة وهو رطل وتسع رطل، فيبقى ثلثاه رطلان وتسعا رطل. ولو رمت زيادة الانكشاف فاجعل كل رطل تسعة لاحتياجه إلى حساب له ثلث ولثلثه ثلث وهو تسعة، فصارت أرطال الحلال ثلاثين سهما، وقد أريق ثلاثة وهو عشرة فيبقى عشرون وهو رطلان وتسعا رطل، وهذا معنى قول الشيخ، ولهذا طريق آخر.
م: (وفيما اكتفينا به كفاية) ش: للذكي الفطن م: (وهداية) ش: أي طريق موصل م: (على تخريج غيرها) ش: أي غير المسائل التي ذكرناها م: (من المسائل) ش: لمن يستهدي بذلك ويحفظه وهو ما ذكرنا من الأصول.
واعلم أن القدر الذي يطبخ فيها العصير ينبغي أن يكون قدرا قاعدتها مسطحة غير مقعرة، وجدارها المحيط مستديرا في ارتفاعه على الاستقامة، وارتفاعه مقسوم بثلاثة أقسام متساوية، فتملأ ويطبخ إلى أن يذهب ثلثاه ويرجع الباقي في المقدار إلى العلامة السفلى على قدر الثلث، كذا قال بعد الحساب في كتابه، م: (والله أعلم بالصواب) .

(12/404)