البناية شرح الهداية

باب العتق في مرض الموت
قال: ومن أعتق في مرضه عبدا أو باع وحابى أو وهب فذلك كله جائز، وهو معتبر من الثلث، ويضرب به مع أصحاب الوصايا. وفي بعض النسخ: " فهو وصية " مكان قوله: "جائز"، والمراد: الاعتبار من الثلث والضرب مع أصحاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[باب العتق في مرض الموت]
م: (باب العتق في مرض الموت)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام العتق في المرض وفي بيان حكم الوصية بالعتق. ولما كان الإعتاق في المرض من أنواع الوصية، لكن لما كان له أحكام مخصوصة، أفرد بيانه على حدة وأخره عن صريح الوصية لأن الصريح هو الأصل.

[أعتق في مرضه أو باع وحابى أو وهب]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن أعتق في مرضه أو باع وحابى أو وهب فذلك كله جائز، وهو معتبر من الثلث، ويضرب به مع أصحاب الوصايا) ش: أو يضرب بالثلث كل واحد من هؤلاء الثلاثة وهو العبد المعتق في مرض الموت والمشتري من المريض الذي باع بالمحاباة والموهوب له مع ما يرى أصحاب الوصايا.
والمراد بضربهم بالثلث مع أصحاب الوصايا استحقاقهم في الثلث كما في سائر الوصايا، فإنهم يستحقون الثلث لا غير. وليس المراد أنهم يساوون أصحاب الوصايا في الثلث ويحاصونهم؛ لأن المعتق المتقدم في المرض مقدم على الوصية بالمال في الثلث.
ألا ترى إلى ما ذكر الطحاوي في "مختصره ": ومن أوصى بوصايا في مرضه فأعتق عبدا له يدلي بالعتاق، وأخرج من الثلث، فإن فضل شيء كان لأهل الوصايا. وإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم، ثم العتق أن يكون مقدما على سائر الوصايا إذا كان منفذا في المرض أو معلقا بالموت، مثل أن يقول: إن حدث في حادث من هذا المرض فهو حر. فأما إذا أوصى بعتق عبده بعد موته بوقت فلا يبدأ بالعتق بل يكون هو وسائر الوصايا سواء.
وقال الفقيه أبو الليث: إذا أوصى بعتق عبده بعد موته وأوصى لآخر بألف فالثلث بينهما بالحصص ولا يبدأ بالعتق لأن الوصية بالعتق يحتمل النقص والرد، فصار حكمه حكم سائر الوصايا. ألا ترى أنه لو ظهر على الميت دين فإن العبد تبطل وصيته م: (وفي بعض النسخ) ش: أي في بعض نسخ القدوري م: (" فهو وصية " مكان قوله: " جائز ") ش: وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورأيت في نسخة نقية مكتوبة في سنة خمس وعشرين وخمسمائة، فذلك كله وصية معتبرة من الثلث، وقال الكاكي: وقال صاحب " المجتبى ": والأول أصح؛ لأن هذا أول باعتباره من الثلث م: (والمراد) ش: من قوله: وهو وصية م: (الاعتبار من الثلث والضرب مع أصحاب الوصايا لا

(13/445)


الوصايا لا حقيقة الوصية. لأنها إيجاب بعد الموت، وهذا منجز غير مضاف، واعتباره من الثلث لتعلق حق الورثة. وكذلك ما ابتدأ المريض إيجابه على نفسه كالضمان والكفالة في حكم الوصية؛ لأنه يتهم فيه كما في الهبة. وكل ما أوجبه بعد الموت فهو من الثلث، وإن أوجبه في حالة صحته اعتبارا بحالة الإضافة دون حالة العقد، وما نفذه من التصرف فالمعتبر فيه حالة العقد، فإن كان صحيحا فهو من جميع المال، وإن كان مريضا فمن الثلث، وكل مرض صح منه فهو كحال الصحة؛ لأن بالبرء تبين أنه لا حق لأحد في ماله، قال: وإن حابى ثم أعتق وضاق الثلث عنهما فالمحاباة أولى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حقيقة الوصية لأنها) ش: أي الوصية م: (إيجاب بعد الموت، وهذا منجز غير مضاف، واعتباره من الثلث لتعلق حق الورثة. وكذلك ما ابتدأ المريض إيجابه على نفسه، كالضمان والكفالة في حكم الوصية) ش: إنما غاير بين الضمان والكفالة بحرف العطف؛ لأن الضمان أعم من الكفالة فإن من الضمان ما لا يكون كفالة بأن قال للأجنبي خالعها على ألف على أني ضامن. أو قال: بع هذا العبد من فلان بألف على أني ضامن لك بخمسمائة من الثمن سوى الألف كان بدل بالخلع على الأجنبي دون المرأة، والخمسمائة على الضامن دون المشتري، كذا في " شرح الأقطع " م: (لأنه) ش: أي لأن المريض متهم م: (يتهم فيه) ش: أي في إيجابه على نفسه م: (كما في الهبة) ش: أي كما يتهم.
م: (وكل ما أوجبه بعد الموت فهو من الثلث، وإن أوجبه) ش: وإن كان الإيجاب في حالة الصحة، أي وإن كان واقعا م: (في حال صحته اعتبارا) ش: أي لأجل الاعتبار م: (بحال الإضافة) ش: يعني الاعتبار فيه حال الإضافة م: (دون حال العقد) ش: لأنه علقه بحال تعلق حق الورثة فيه بالمال، فكان المعتبر فيه حال الإضافة لا حال الإيجاب م: (وما نفذه) ش: وما نجزه في الحال م: (من التصرف) ش: ولم يضفه إلى ما بعد الموت م: (فالمعتبر فيه حالة العقد) ش: كالإعتاق والهبة.
م: (فإن كان صحيحا فهو من جميع المال، وإن كان مريضا) ش: أي فهو يكون م: (فمن الثلث، وكل مرض صح منه) ش: أي من مرضه م: (فهو كحال الصحة؛ لأن بالبرء تبين أنه لا حق لأحد في ماله) ش: لأن حق الغريم والوارث إنما يتعلق بمرض الموت، وبالبرء ظهر أنه ليس بمرض الموت.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن حابى ثم أعتق) ش: صورته رجل باع في مرضه عبدا وحابى بأن باعه بألف وهو يساوي ألفين م: وضاق الثلث عنهما) ش: أي عن المحاباة والعتق م: (فالمحاباة أولى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: حتى يسع العبد في جميع قيمته، وبه قال

(13/446)


وإن أعتق ثم حابى فهما سواء وقالا: العتق أولى في المسألتين. والأصل فيه: أن الوصايا إذا لم يكن فيها ما جاوز الثلث فكل من أصحابها يضرب بجميع وصيته في الثلث لا يقدم البعض على البعض إلا العتق الموقع في المرض، والعتق المعلق بموت الموصي كالتدبير الصحيح، والمحاباة في البيع إذا وقعت في المرض؛ لأن الوصايا قد تساوت، والتساوي في سبب الاستحقاق يوجب التساوي في نفس الاستحقاق. وإنما قدم العتق الذي ذكرناه آنفا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مالك. ثم العتق يعتبر من الثلث عند الجمهور إلا ما حكي عن مسروق: أنه يعتبر من رأس المال وهو قول شاذ مخالف للأثر.

[أوصى بثلث ماله لرجل ولآخر بسدسه ولآخر بربعه]
م: (وإن أعتق ثم حابى فهما) ش: أي قوله أي هذه ... إلخ، ولفظ الشارح على " الكنز " فإن حابى محرر، أي المحاباة أحق من التحرير بعكسه أي وبعكس الحكم المذكور وهو أن يعتق أولا ثم يحابي استويا، أي العتق والمحاباة، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه والتي قبلها م: (سواء) ش: عند أبي حنيفة.
م: (وقالا: العتق أولى في المسألتين) ش: وبه قال الشافعي وأحمد، وهو قول الزهري والنخعي والثوري وقتادة وإسحاق، وقال الشافعي في قول وأحمد في رواية: يستوي بين كل الوصايا م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الباب م: (أن الوصايا إذا لم يكن فيها ما جاوز الثلث) ش: مثل أن يوصي بالربع والسدس م: (فكل من أصحابها يضرب بجميع وصيته في الثلث لا يقدم البعض على البعض) ش: بلا خلاف بين العلماء.
وفي" المبسوط ": أوصى بثلث ماله لرجل ولآخر بسدسه ولآخر بربعه فأجازت الورثة يأخذ كل حقه كاملا؛ لأن في المال وفاء، ولو لم يجز وضرب كل واحد منهم في الثلث بوصيته فتكون القسمة بينهم على طريق العول بالاتفاق؛ لأن الوصايا كلها وقعت في الثلث واستوت في القوة، فيضرب كل بجميع حقه.
م: (إلا العتق الموقع في المرض) ش: هذا استثناء من قول لا يقدم، أي المعجز لا العوض إلى إعتاق الورثة، مثل أن يقول: اعتقوه م: (والعتق المعلق بموت الموصى) ش: مثل أن يوصي بعتقه بعد موته م: (كالتدبير الصحيح) ش: مثل أن يقول الرجل للمملوك: أنت حر بعد موتي أو أنت حر إذا مت أو إن مت، واحترز بالصحيح عن التدبير الفاسد، كما إذا قال أنت حر بعد موتي بيوم أو بشهر، فإنه لا يكون مقدما على سائر الوصايا، بل هو وسائر الوصايا سواء م: (والمحاباة) ش: بالرفع عطف على قوله: إلا العتق الموقع في المرض م: (في البيع إذا وقعت في المرض؛ لأن الوصايا قد تساوت) ش: تعليل لقوله لا يقدم البعض على البعض م: (والتساوي في سبب الاستحقاق يوجب التساوي في نفس الاستحقاق، وإنما قدم العتق الذي ذكرناه آنفا) ش: وهو

(13/447)


لأنه أقوى، فإنه لا يلحقه الفسخ من جهة الموصي وغيره يلحقه، وكذلك المحاباة لا يلحقها الفسخ من جهة الموصي. وإذا قدم ذلك فما بقي من الثلث بعد ذلك يستوي فيه من سواهما من أهل الوصايا، ولا يقدم البعض على البعض. لهما في الخلافية: أن العتق أقوى؛ لأنه لا يلحقه الفسخ، والمحاباة يلحقها ولا معتبر بالتقديم في الذكر؛ لأنه لا يوجب التقدم في الثبوت. وله: أن المحاباة أقوى؛ لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة، فكان تبرعا بمعناه لا بصيغته، والإعتاق تبرع صيغة ومعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العتق الموقع في المرض م: (لأنه أقوى، فإنه لا يلحقه الفسخ من جهة الموصي وغيره) ش: أي غير العتق المنفذ م: (يلحقه) ش: أي الفسخ من جهة الموصي؛ لأنه يصح الرجوع عنه. ولا يصح الرجوع في العتق.
م: (وكذلك المحاباة لا يلحقها الفسخ من جهة الموصي) ش: لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة ومن قضية المعاوضة اللزوم، فلزمه الوصية التي في ضمنها بمنزلة العتق م: (وإذا قدم ذلك) ش: أي العتق م: (فما بقي من الثلث بعد ذلك يستوي فيه من سواهما) ش: أي من سوى العتق المذكور، والذي له م: (من أهل الوصايا ولا يقدم البعض على البعض) ش: بل يكون بينهم على قدر وصاياهم.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (في الخلافية) ش: وهي التي قدم فيها المحاباة على العتق: م: (أن العتق أقوى؛ لأنه لا يلحقه الفسخ والمحاباة يلحقها) ش: أي الفسخ م: (ولا معتبر بالتقديم في الذكر؛ لأنه) ش: أي لأن التقديم في الذكر م: (لا يوجب التقديم في الثبوت) ش: كما إذا أوصى لفلان ولفلان بالثلث لا يكون المقدم بالذكر مقدما على غيره، بل يكون الثلث بينهم أثلاثا، كذا فيما نحن فيه لا يكون المحاباة أولى بالتقديم في الذكر.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (أن المحاباة أقوى لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة) ش: لأنها حصلت في البيع والبيع عقد ضمان؛ لأن المبيع مضمون عليه يطالب بتسليم المبيع، فصارت المحاباة بمنزلة الدين.
م: (فكان) ش: أي البيع بالمحاباة م: (تبرعا بمعناه) ش: يعني من حيث المعنى م: (لا بصيغته) ش: أي لا من حيث صيغته، فإن البيع بالمحاباة عقد تجارة، حتى يجب للشفيع الشفعة، فالشفعة تخصيص بالمعاوضات، ولهذا إن البيع بالمحاباة يصح من العبد المأذون والصبي المأذون والمرض لا يلحقه الحجر عن التجارة م: (والإعتاق تبرع صيغة ومعنى) ش: لا تجارة فيه.

(13/448)


فإذا وجدت المحاباة أولا دفع الأضعف، وإذا وجد العتق أولا وثبت وهو لا يحتمل الدفع كان من ضرورته المزاحمة، وعلى هذا قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا حابى ثم أعتق ثم حابى قسم الثلث بين المحاباتين نصفين لتساويهما، ثم ما أصاب المحاباة الأخيرة قسم بينها وبين العتق؛ لأن العتق مقدم عليها فيستويان. ولو أعتق ثم حابى ثم أعتق قسم الثلث بين العتق الأول والمحاباة نصفين. وما أصاب العتق قسم بينه وبين العتق الثاني وعندهما العتق أولى بكل حال. قال: ومن أوصى بأن يعتق عنه بهذه المائة عبد فهلك منها درهم لم يعتق عنه بما بقي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كانت وصيته بحجة يحج عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإذا وجدت المحاباة أولا دفع الأضعف وإذا وجد العتق أولا وثبت وهو لا يحتمل الدفع كان من ضرورته المزاحمة) ش: يعني لما وجد العتق أولا ثم وجدت المحاباة لم ترفع المحاباة لقوة العتق الذي نفذ في الثلث؛ لأنه لا يحتمل الرفع. ولما ثبت كل واحد من الحقين ثبتت المزاحمة ضرورة، فيكونان سواء م: (وعلى هذا) ش: أي: وعلى هذا الأصل م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا حابى ثم أعتق ثم حابى قسم الثلث بين المحاباتين نصفين لتساويهما) ش: في وقوعهما في ضمن عقد المعاوضة.
م: (ثم ما أصاب المحاباة الأخيرة) ش: من نصف الثلث م: (قسم بينها وبين العتق؛ لأن العتق مقدم عليها فيستويان، ولو أعتق) ش: أولا م: (ثم حابى ثم أعتق قسم الثلث بين العتق الأول والمحاباة نصفين، وما أصاب العتق قسم بينه وبين العتق الثاني) ش: لتخاسرهما م: (وعندهما العتق أولى بكل حال) .
ش: فإن قلت ينبغي أن تقدم المحاباة الأولى على الثانية؛ لأن الأولى تقدم على العتق عنده والأخيرة من المحاباتين يساوي العتق عنده، وما قدم على أحد المتساويين يتقدم على المتساوي الآخر.
قلت: دل الدليل على تساوي المتحابين؛ لأنهما من جنس واحد والتساوي في سبب الاستحقاق يوجب التساوي في نفس الاستحقاق. ولهذا لو وجدنا متفاضلين متساويين ودل الدليل على تقدم الأول ما ذكرنا، فعملنا بهما، وقلنا بالتساوي بين المتحابين عملا بالدليل الأول، ثم ما أصاب الأخيرة يقسم بينهما وبين العتق بالدليل الثاني، فيكون عملا بالدليلين بقدر الإمكان.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن أوصى بأن يعتق عنه بهذه المائة عبد فهلك منها درهم لم يعتق عنه بما بقي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كانت وصيته بحجة يحج عنه

(13/449)


بما بقي من حيث يبلغ، وإن لم يهلك منها وبقي شيء من الحجة يرد على الورثة. وقالا: يعتق عنه بما بقي؛ لأنه وصية بنوع قربة، فيجب تنفيذها ما أمكن اعتبار بالوصية بالحج، وله: أنه وصية بالعتق لعبد يشتري بمائة، وتنفيذها فيمن يشترى بأقل منه تنفيذ لغير الموصى له، وذلك لا يجوز. بخلاف الوصية بالحج؛ لأنها قربة محضة، وهي حق لله تعالى، والمستحق لم يتبدل، فصار كما إذا أوصى لرجل بمائة فهلك بعضها يدفع الباقي إليه. وقيل: هذه المسألة بناء على أصل آخر مختلف فيه، وهو أن العتق حق لله تعالى عندهما حتى تقبل الشهادة عليه من غير دعوى فلم يتبدل المستحق. وعنده حق العبد حتى لا تقبل البينة عليه من غير دعوى، فاختلف المستحق، وهذا أشبه. قال: ومن ترك ابنين ومائة درهم وعبدا قيمته مائة درهم، وقد كان أعتقه في مرضه فأجاز الوارثان ذلك لم يسع في شيء؛ لأن العتق في مرض الموت. وإن كان في حكم الوصية وقد وقعت بأكثر من الثلث إلا أنها تجوز بإجازة الورثة لأن الامتناع لحقهم وقد أسقطوه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بما بقي من حيث يبلغ، وإن لم يهلك منها وبقي شيء من الحجة يرد على الورثة، وقالا: يعتق عنه بما بقي لأنه وصية بنوع قربة فيجب تنفيذها ما أمكن اعتبارا بالوصية بالحج) ش: وهو قياس قول الأئمة الثلاثة، ولو فضل شيء من الحج يصرف أي الحج ولا يرد إلى الورثة عند الثلاثة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه وصية بالعتق لعبد يشترى بمائة وتنفيذها فيمن يشترى بأقل منه تنفيذا لغير الموصى له، وذلك لا يجوز بخلاف الوصية بالحج؛ لأنها قربة محضة وهي حق لله تعالى، والمستحق لم يتبدل، فصار كما إذا أوصى لرجل بمائة فهلك بعضها يدفع الباقي إليه، وقيل: هذه المسألة بناء على أصل آخر مختلف فيه، وهو أن العتق حق لله تعالى عندهما حتى تقبل الشهادة عليه من غير دعوى، فلم يتبدل المستحق وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (حق العبد حتى لا تقبل البينة عليه من غير دعوى، فاختلف المستحق، وهذا أشبه) ش: أي كون هذا الخلاف في عتق القسمة بناء على أن العتق حق الله عز وجل، أو حق المملوك أشبه بالصواب؛ لأنه ثبت بالدليل أنه حق العبد عنده.
فيحلف المستحق إذا هلك منه شيء وتبطل الوصية يرد المائة إلى ورثته، كذا قاله الأكمل.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن ترك ابنين ومائة درهم وعبدا قيمته مائة درهم وقد كان أعتقه في مرضه فأجاز الوارثان ذلك لم يسع في شيء؛ لأن العتق في مرض الموت. وإن كان في حكم الوصية وقد وقعت بأكثر من الثلث إلا أنها تجوز بإجازة الورثة؛ لأن الامتناع لحقهم وقد أسقطوه) ش: فصار كما إذا أوصى لرجل بنصف ماله فأجازه الورثة سلم ذلك للموصى له، فكذا هذا.

(13/450)


قال: ومن أوصى بعتق عبده ثم مات فجنى جناية ودفع بها بطلت الوصية؛ لأن الدفع قد صح لما أن حق ولي الجناية مقدم على حق الموصي، فكذلك على حق الموصى له؛ لأنه يتلقى الملك من جهته، إلا أن ملكه فيه باق، وإنما يزول بالدفع، فإذا خرج به عن ملكه بطلت الوصية، كإذا باعه الموصي أو وارثه بعد موته، فإن فداه الورثة كان الفداء في مالهم؛ لأنهم هم الذين التزموه وجازت الوصية؛ لأن العبد طهر عن الجناية بالفداء، كأنه لم يجن فتنفذ الوصية. وقال: ومن أوصى بثلث ماله لآخر فأقر الموصى له والوارث أن الميت أعتق هذا العبد، فقال الموصى له: أعتقه في الصحة. وقال الوارث: أعتقه في المرض، فالقول قول الوارث ولا شيء للموصى له، إلا أن يفضل من الثلث شيء أو تقوم له البينة أن العتق في الصحة؛ لأن الموصى له يدعي استحقاق ثلث ما بقي من التركة بعد العتق؛ لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[أوصى بعتق عبده ثم مات فجنى العبد جناية ودفع بها]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن أوصى بعتق عبده ثم مات فجنى العبد جناية ودفع بها بطلت الوصية؛ لأن الدفع قد صح لما أن حق ولي الجناية مقدم على حق الموصي، فكذلك على حق الموصى له؛ لأنه يتلقى الملك من جهته) ش: أي لأن الموصى له يتلقى الملك من جهته م: (إلا أن ملكه فيه باق) ش: منه استثناء من قوله لما أن حق ولي الجناية مقدم في العبد، مع أن حق المولى مقدم معناه: أن الملك للموصى في العبد باق مع أن حق المولى مقدم.
م: (وإنما يزول بالدفع) ش: فما لم يدفع يبقي حتى لو كان العبد ذا رحم محرم من الوارث لا يعتق عليه، كما إذا كان العبد أخا لامرأة الموصي مثلا، وإنما يبقى ملكه فيه إلى أن يستغني عن حاجة فيه؛ لأن ملك الورثة بسبيل الخلافة فما لم يستغن الأصل عن حاجة لا تثبت الخلافة.
م: (فإذا خرج) ش: أي الدفع م: (به عن ملكه بطلت الوصية كما إذا باعه الموصي أو وارثه) ش: أي أو باع وارثه م: (بعد موته) ش: بأن يظهر على الميت دين وقد أوصى بعتق العبد يقع العبد بدينه م: (فإن فداه الورثة كان الفداء في مالهم) ش: أي كانوا متبرعين فيما فدوه به م: (لأنهم هم الذين التزموه وجازت الوصية؛ لأن العبد طهر) ش: بالطاء المهملة من الطهارة م: (عن الجناية بالفداء، كأنه لم يجن فتنفذ الوصية) .
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن أوصى بثلث ماله لآخر فأقر الموصى له والوارث أن الميت أعتق هذا العبد فقال الموصى له: أعتقه في الصحة، وقال الوارث: أعتقه في المرض، فالقول قول الوارث ولا شيء للموصى له، إلا أن يفضل من الثلث شيء أو تقوم له) ش: أي للموصى له م: (البينة أن العتق في الصحة؛ لأن الموصى له يدعي استحقاق ثلث ما بقي من التركة بعد العتق؛ لأن

(13/451)


العتق في الصحة ليس بوصية، ولهذا ينفذ من جميع المال والوارث ينكر؛ لأن مدعاه العتق في المرض وهو وصية، والعتق في المرض مقدم على الوصية بثلث المال، فكان منكرا والقول قول المنكر مع اليمين. ولأن العتق حادث، والحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات للتيقن بها، فكان الظاهر شاهدا للوارث فيكون القول قوله مع اليمين، إلا أن يفضل شيء من الثلث على قيمة العبد؛ لأنه لا مزاحم له فيه أو تقدم له البينة أن العتق في الصحة؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة، وهو خصم في إقامتها لإثبات حقه. قال: ومن ترك عبدا فقال للوارث: أعتقني أبوك في الصحة، وقال رجل: لي على أبيك ألف درهم فقال: صدقتما فإن العبد يسعى في قيمته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يعتق ولا يسعى في شيء؛ لأن الدين والعتق في الصحة ظهرا معا بتصديق الوارث في كلام واحد، فصارا كأنهما كانا معا، والعتق في الصحة لا يوجب السعاية وإن كان على المعتق دين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العتق في الصحة ليس بوصية، ولهذا ينفذ من جميع المال، والوارث ينكره؛ لأن مدعاه العتق في المرض وهو وصية، والعتق في المرض مقدم على الوصية بثلث المال، فكان) ش: أي الوارث م: (منكرا، والقول قول المنكر مع اليمين) .
م: (ولأن العتق حادث، والحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات للتيقن بها) ش: أي بأقرب الأوقات، وأقرب الأوقات وقت المرض م: (فكان الظاهر شاهدا للوارث، فيكون القول قوله مع اليمين) ش:.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (إلا أن يفضل شيء من الثلث على قيمة العبد لأنه لا مزاحم له فيه، أو تقوم له البينة أن العتق في الصحة؛ لأن الثابت كالثابت معاينة، وهو خصم في إقامتها لإثبات حقه) ش: قال الكاكي: هذا جواب عن إشكال وهو أن الدعوى في العتق شرط لإقامة البينة عدة، فكيف تصح إقامة البينة من غير خصم؛ فقال: هو خصم في إقامة البينة في إثبات حقه. وقال فخر الإسلام: يجب أن يستخلف الوارث إن لم يقم بينة الموصى له بالثلث.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن ترك عبدا فقال للوارث: أعتقني أبوك في الصحة، وقال رجل: لي على أبيك ألف درهم فقال: صدقتما فإن العبد يسعى في قيمته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يعتق ولا يسعى في شيء؛ لأن الدين والعتق في الصحة ظهرا منه بتصديق الوارث في كلام واحد، فصار كأنهما كانا معا. والعتق في الصحة لا يوجب السعاية وإن كان على المعتق دين) .

(13/452)


وله: أن الإقرار بالدين أقوى لأنه يعتبر من جميع المال؛ والإقرار بالعتق في المرض يعتبر من الثلث والأقوى يدفع الأدنى فقضيته أن يبطل العتق أصلا؛ إلا أنه بعد وقوعه لا يحتمل البطلان فيدفع من حيث المعنى بإيجاب السعاية، ولأن الدين أسبق؛ لأنه لا مانع له من الإسناد؛ فيسند إلى حالة الصحة، ولا يمكن إسناد العتق إلى تلك الحالة؛ لأن الدين يمنع العتق في حالة المرض مجانا فتجب السعاية. وعلى هذا الخلاف إذا مات الرجل وترك ألف درهم فقال رجل: لي على الميت ألف درهم دين وقال الآخر: كان لي عنده ألف درهم وديعة؛ فعنده الوديعة أقوى، وعندهما سواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الإقرار بالدين أقوى؛ لأنه يعتبر من جميع المال والإقرار بالعتق في المرض يعتبر من الثلث، والأقوى يدفع الأدنى فقضيته) ش: أي قضية هذا المذكور بالوجه المذكور م: (أن يبطل العتق أصلا) ش: لأن إسناد الإقرار بالعتق إلى الصحة إنما يصح إذا لم يوجد المانع من الإسناد وقد وجد المانع وهو أن ينقل الدين قرينة منع الإسناد إلى حالة الصحة، فاقتصر العتق على حالة المرض.
فعلى هذا كان ينبغي م: (إلا أنه) ش: أي أن العتق م: (بعد وقوعه لا يحتمل البطلان، فيدفع من حيث المعنى) ش: لا من حيث الصورة م: (بإيجاب السعاية) ش: على العبد، ويقضى به الدين.
م: (ولأن الدين أسبق؛ لأنه لا مانع له من الإسناد فيسند إلى حالة الصحة، ولا يمكن إسناد العتق إلى تلك الحالة؛ لأن الدين يمنع العتق في حالة المرض مجانا فتجب السعاية. وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور م: (إذا مات الرجل وترك ألف درهم فقال رجل: لي على الميت ألف درهم دين، وقال الآخر: كان لي عنده ألف درهم وديعة فعنده) ش: أي فعند أبي حنيفة م: (الوديعة أقوى وعندهما سواء) ش: أي الدين والوديعة سواء.
وفي عامة الكتب نحو " المنظومة " و"شروحها" و" الكافي " ذكروا الخلاف على عكس ما ذكر صاحب " الهداية ".
وقال الكاكي: والأصح ما ذكر فيها.
وقال الأترازي: جعل صاحب " الهداية " و"الوديعة" أقوى عند أبي حنيفة، وجعل الدين والوديعة سواء عند صاحبيه والكبار قبل صاحب الهداية ذكروا الخلاف على عكس هذا.
ونقل عن الكافي للحاكم الشهيد بعد أن ذكر صورة قال أبو حنيفة: الألف بينهما

(13/453)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصفان، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: صاحب الوديعة أولى، ونقل هكذا عن الفقيه أبي الليث، ونقل أيضا عن القدوري أنه ذكر في " التقريب " " هكذا.
وكذا نقل عن المنظومة من كتاب الإقرار في باب [.....] أبي حنيفة خلافا لصاحبيه لو ترك ألفا وهذا يدعي دينا وذاك قال: هذا مدعي والابن قد صدق هذين معا استويا وأعطيا من ادعى والله أعلم.

(13/454)


فصل قال: ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى قدمت الفرائض مهما قدمها الموصي أو أخرها مثل الحج والزكاة والكفارات؛ لأن الفريضة أهم من النافلة، والظاهر منه البداءة بما هو الأهم.
فإن تساوت في القوة بدئ بما قدمه الموصي إذا ضاق عنها الثلث؛ لأن الظاهر أنه يبتدأ بالأهم. وذكر الطحاوي. - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يبتدأ بالزكاة ويقدمها على الحج، وهو إحدى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]

[فصل في بيان الوصايا إذا ضاق عنها الثلث]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان الوصايا إذا ضاق عنها الثلث.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى) ش: من زكاة أو صلاة أو صوم أو حج أو فطر أو كفارة ونحو ذلك م: (قدمت الفرائض مهما قدمها الموصي أو أخرها مثل الحج والزكاة والكفارات؛ لأن الفريضة أهم من النافلة، والظاهر منه) ش: أي من الموصي م: (البداءة بما هو الأهم) ش: وقال الشافعي وأحمد: ديون الله وديون العباد يتخاصان، وبه قال أصحاب الظاهر وأبو ثور وإسحاق وأبو سليمان، وهو قول الحسن وعطاء وابن المسيب والثوري. وقال الشافعي في قول: ديون الله تقدم.
وقال مالك: يبدأ بالعتق في المرض ثم التدبير ثم بعدها الزكاة المفروضة ثم عتق عبد بعينه أو صبي بأن يشترى فيعتق ثم الكتابة، أي بوصيته بالكتابة لعبد ثم أداء الحج ثم الإقرار بالدين لمن لا يجوز إقراره أو عتق رقبته عن ظهار أو قبل يخلص رقبة الظهار مع رقبة العبد. ثم الموصى به الكفارة يمين ثم بالإطعام على ما فرط من قضاء رمضان ثم النذر.
م: (فإن تساوت) ش: أي الوصايا م: (في القوة) ش: بأن كانت كلها فرائض أو نوافل كالجسور والرباطات والمساجد م: (بدئ بما قدمه الموصى إذا ضاق عنها الثلث؛ لأن الظاهر أنه يبتدأ بالأهم) ش: وقال الكرخي في "مختصره ": قال هشام عن محمد عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: من الحج والصدقة والعتق وغير ذلك فأوصى رجل فكان الثلث يبلغ ذلك كله. فإن كان كله تطوعا بدئ بالأول فالأول مما نطق به حتى يأتي على آخره أو ينقضي الثلث فيبطل ما بقي، وكذلك إن كانت الوصايا كلها فريضة بدئ بالأول حتى يكون النقصان على الآخر، وإن كان بعضه فريضة وبعضه تطوعا بدئ بالفريضة وإن أخرها. وإن كان بعضه تطوعا وبعضه شيء أوجب على نفسه بدئ بالذي أوجبه على نفسه، وإن كان قد أخره، وقال هشام: إلى هنا قولهم جميعا.
م: (وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يبتدأ بالزكاة ويقدمها على الحج وهو إحدى الروايتين عن

(13/455)


الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي رواية عنه: أنه يقدم الحج، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه الأولى: أنهما وإن استويا في الفريضة فالزكاة تعلق بها حق العباد، فكان أولى. وجه الأخرى: أن الحج يقام بالمال والنفس والزكاة بالمال قصرا عليه، فكان الحج أقوى ثم تقدم الزكاة والحج على الكفارات لمزيتهما عليها في القوة إذ قد جاء فيهما من الوعيد ما لم يأت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية عنده أنه يقدم الحج وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه الأولى) ش: أي الرواية الأولى م: (أنهما) ش: أي إن الحج والزكاة م: (وأن استويا في الفريضة فالزكاة تعلق بها حق العباد فكان أولى. وجه الأخرى) ش: أي الرواية الأخرى م: (أن الحج يقام بالمال والنفس والزكاة بالمال قصرا عليه، فكان الحج أقوى ثم تقدم الزكاة والحج على الكفارات) ش: طريقان أي لمزية الكفارة والحج عليهما (لمزيتهما عليها في القوة) أي على الكفارات (إذ قد جاء فيهما) أي في الزكاة والحج م: (من الوعيد ما لم يأت في الكفارات) ش: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] (سورة التوبة: الآية 24) .
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرعا حتى يطوق عنقه) ثم قرأ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] الآية» ورجاله رجال الصحيح، وقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات وعليه حجة الإسلام إن شاء مات يهوديا وإن شاء نصرانيا وإن شاء مجوسيا» انتهى هذا الحديث، ذكره الكاكي في "شرحه " هكذا، والترمذي أخرجه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» . وفي إسناده هلال بن عبد الله مجهول، والحارث ضعيف، وقال الترمذي: حديث غريب.
ورواه الدارمي من حديث أبي أمامة وفيه: «فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» وروى ابن عدي في " الكامل " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الملتين شاء إما يهوديا وإما نصرانيا» ،

(13/456)


في الكفارات، والكفارات في القتل والظهار واليمين مقدمة على صدقة الفطر؛ لأنه عرف وجوبها دون صدقة الفطر، وصدقة الفطر مقدمة على الأضحية للإنفاق على وجوبها بالقرآن. والاختلاف في الأضحية، وعلى هذا القياس يقدم بعض الواجبات على البعض. قال: وما ليس بواجب قدم منه ما قدمه الموصي لما بينا. وصار كما إذا صرح بذلك، قالوا: إن الثلث يقسم جميع الوصايا ما كان لله تعالى، وما كان للعبد فما أصاب القرب صرف إليها على الترتيب الذي ذكرناه، ويقسم على عدد القرب ولا يجعل الجميع كوصية واحدة؛ لأنه إن كان المقصود بجميعها رضا الله تعالى، فكل واحدة في نفسها مقصود فتنفرد كما تنفرد وصايا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي سنده عبد الرحمن بن القطان. قال الفلاس: كان كذابا، انتهى فهذا كما ترى ليس في شيء منه: " وإن شاء مجوسيا "، مع أن حال الحديث كما رأيته. م: (والكفارات في القتل والظهار واليمين مقدمة على صدقة الفطر؛ لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (عرف وجوبها) ش: أي وجوب الكفارات الثلاثة م: (دون صدقة الفطر) ش: فإن وجوبها بالأخبار وترك كفارة الإفطار؛ لأنها ليست مقدمة على صدقة الفطر لثبوتها بخبر الواحد، وثبوت صدقة الفطر بآثار مستفيضة م: (وصدقة الفطر مقدمة على الأضحية للاتفاق على وجوبها بالقرآن) ش: أي وجوب صدقة الفطر م: (والاختلاف في الأضحية) ش: فإنها غير واجبة عند الشافعي والأضحية مقدمة على النوافل؛ لأنها واجبة عندنا م: (وعلى هذا القياس يقدم بعض الواجبات على البعض) ش: كالعشر مع الخراج، فإن العشر مقدم على الخراج وصدقة الفطر تقدم على النذر، وتكون صدقة الفطر واجبة بإيجاب الشرع والنذر بإيجاب العبد.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وما ليس بواجب قدم منه ما قدمه الموصي لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأن الظاهر أنه يبتدئ بالأهم م: (وصار كما إذا صرح بذلك) ش: وقال: " ابدأو بما بدأت واجبة "، ولو قال كذلك لزمه تقديم ما قدم، فكذا هنا، وهو ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أصحابنا: أنه يبدأ بالأفضل فالأفضل، يبدأ بالصدقة ثم بالحج ثم بالعتق مثلا سواء رتب هذا الترتيب أو لم يرتب.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (إن الثلث يقسم على جمع الوصايا ما كان لله تعالى، وما كان للعبد فما أصاب القرب) ش: بضم القاف وفتح الراء جمع قربة بضم القاف وسكون الراء، وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من الأعمال الصحيحة م: (صرف إليها على الترتيب الذي ذكرناه) ش: أي فيما مضى في هذا الفصل م: (ويقسم على عدد القرب، ولا يجعل الجميع كوصية واحدة؛ لأنه إن كان المقصود بجميعها رضا الله تعالى، فكل واحدة في نفسها مقصود فتنفرد كما تنفرد وصايا

(13/457)


الآدميين. قال: ومن أوصى بحجة الإسلام أحجوا عنه رجلا من بلده يحج راكبا؛ لأن الواجب لله تعالى الحج من بلده، ولهذا يعتبر فيه من المال ما يكفيه من بلده، والوصية لأداء ما هو واجب عليه، وإنما قال: " راكبا " لأنه لا يلزمه أن يحج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآدميين) .
ش: فإن قال ثلث مالي في الحج والزكاة والكفارات، ولزيد يقسم على أربعة أسهم لما ذكره المصنف بقوله: لأنه إن كان المقصود إلى آخره. وفي " تحفة الفقهاء ": إذا كان مع الوصايا الثانية لحق الله تعالى الوصية للآدمي، فإن الموصى له يضرب مع الوصايا في القرب، ويجعل كل جهة من جهات القرب مفردة بالضرب، ولا يجعل كلها جهة واحدة ويقدم الفرض على حق الآدمي لحاجة العبد.
ثم إنه يصرف الثلث إلى الحج الفرض والزكاة، والكفارات، إذا أوصى بها فأما بدون الوصية فلا يصرف الثلث إليها، بل يسقط عندنا خلافا للشافعي، وإذا أوصى يعتبر من الثلث لتعلق حق الورثة بماله في مرض الموت.
وفي " شرح الطحاوي ": وإن كان ثلث ماله يحتمل جميع ما أوصى به، فإنه ينفذ وصاياه كلها من ثلث ماله، وإن كان ثلث ماله لا يحتمل جميع ذلك، فإن أجازت الورثة فكذلك وإن لم تجز الورثة فإنه ينظر إن كانت وصاياه كلها للعباد، فإنهم يضاربون بالثلث بينهم بالحصص.
فإن كانت وصاياه كلها لله تعالى فإنه ينظر إن كان كلها فرائض يبدأ بما بدأ به، وإن كانت كلها واجبات فإنه يبدأ بما بدأ به أيضا. وكذلك كلها تطوعا فإن كان بعضها فرائض وبعضها واجبات، وبعضها تطوع فإنه يبدأ بالفرائض أولا. وإن كان آخرها ثم بدأ بالواجبات ثم بالنوافل، وإن جمع هذه الوصايا كلها فإنهم يتضاربون في الثلث بوصاياهم، فما أصاب العباد فهو لهم ولا يقدم بعضهم على بعض، وما كان لله بجميع ذلك كله فيبدأ منها بالفرائض ثم بالواجبات ثم بالتطوع.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن أوصى بحجة الإسلام أحجوا عنه رجلا من بلده يحج راكبا) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي في قول، وقال في قول: من الميقات م: (لأن الواجب لله تعالى الحج من بلده، ولهذا يعتبر فيه من المال ما يكفيه من بلده، والوصية لأداء ما هو واجب عليه، وإنما قال راكبا لأنه لا يلزمه أن يحج) ش: لأن الموصي لم يكن يجب عليه الحج إذا لم يقدر على الراحلة، وإنما يجب عليه إذا قدر على الراحلة، فإذا وجب الحج راكبا يلزم الأداء على الذي

(13/458)


ماشيا فانصرف إليه على الوجه الذي وجب عليه. قال: فإن لم تبلغ الوصية النفقة أحجوا عنه من حيث تبلغ. وفي القياس: لا يحج عنه؛ لأنه أمر بالحجة على صفة عدمناها فيه، غير أنا جوزناه؛ لأنا نعلم أن الموصي قصد تنفيذ الوصية، فيجب تنفيذها ما أمكن، والممكن فيه ما ذكرناه، وهو أولى من إبطالها رأسا، وقد فرقنا بين هذا وبين الوصية بالعتق من قبل. قال: ومن خرج من بلده حاجا فمات في الطريق وأوصى أن يحج عنه يحج عنه من بلده عند أبي حنيفة، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: يحج عنه من حيث بلغ استحسانا، وعلى هذا الخلاف إذا مات الحاج عن غيره في الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحج عنه كذلك راكبا.
وقال أبو الليث في كتاب " نكت الوصايا ": ذكر هشام عن محمد أنه قال: لو أن إنسانا قال: أنا أحج عنه من منزله بهذا المال م: (ماشيا فانصرف إليه على الوجه الذي وجب عليه) ش: لا يعطى له ذلك ويحج عنه من حيث يبلغ راكبا. وأجاب في " الواقعات " المأمور بالحج له أن يحج ماشيا فالحج عن نفسه ويضمن النفقة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن لم تبلغ الوصية النفقة أحجوا عنه من حيث تبلغ) ش: أي النفقة، وبه قال أحمد م: (وفي القياس: لا يحج عنه؛ لأنه أمر بالحجة على صفة عدمناها فيه غير أنا جوزناه؛ لأنا نعلم أن الموصي قصد تنفيذ الوصية، فيجب تنفيذها ما أمكن والممكن فيه ما ذكرناه) ش: وهو الإحجاج عنه من حيث تبلغ النفقة م: (وهو أولى من إبطالها رأسا) ش: أي تنفيذ الوصية بقدر الإمكان أولى من إبطالها بالكلية م: (وقد فرقنا بين هذا وبين الوصية بالعتق) ش: أراد الفرق الذي على قول أبي حنيفة في الفصل المتقدم بين ما إذا أوصى بأن يعتق عنه بهذه المائة عبد فهلك منها درهم أنه لا يعتق عنه بما بقي، وبين الوصية بالحج بثلث ماله وثلث ماله لا يكفيه حيث يحج من حيث يحج. وهو أن المستحق تبدل في الأولى ولم يتبدلوا في الثانية م: (من قبل) ش: أي من باب الوصية بالعتق.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن خرج من بلده حاجا) ش: قيد بقوله حاجا لأنه لو خرج تاجرا ومات فإنه يحج من بلده بالاتفاق م: (فمات في الطريق وأوصى أن يحج عنه يحج عنه من بلده عند أبي حنيفة، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: يحج عنه من حيث بلغ استحسانا) ش: وبه قال أحمد والشافعي في قوله. وقيل: هذا الخلاف فيما إذا كان له وطن. وأما إذا لم يكن فيحج عنه من حيث مات بالاتفاق م: (وعلى هذا الخلاف إذا مات الحاج عن غيره في الطريق) ش: فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج عنه من بلده وعندهما يحج عنه من حيث مات.

(13/459)


لهما: أن السفر بنية الحج وقع قربة وسقط فرض قطع المسافة بقدره، وقد وقع أجره على الله، فيبتدئ من ذلك المكان كأنه من أهله، بخلاف سفر التجارة؛ لأنه لم يقع قربة فيحج عنه من بلده. وله: أن الوصية تنصرف إلى الحج من بلده على ما قررناه أداء للواجب على الوجه الذي وجب، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن السفر بنية الحج وقع قربة وسقط فرض قطع المسافة بقدره وقد وقع أجره على الله) ش: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] (النساء: الآية 100) ، فلا يجوز إبطال ذلك المقدار من الخروج م: (فيبتدئ من ذلك المكان كأنه من أهله، بخلاف سفر التجارة؛ لأنه لم يقع قربة فيحج عنه من بلده) .
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن الوصية تنصرف إلى الحج من بلده على ما قررناه) ش: أشار به إلى قوله لأن الواجب لله الحج من بلده م: (أداء) ش: أي لأجل الأداء م: (للواجب على الوجه الذي وجب) ش: وهو الحج من بلده. وفي كتاب " نكت الوصايا " فإن كان للرجل أوطان شتى فإن كان مات في بعض الأوطان يحج من ذلك الوطن، وإن مات في السفر يحج من أقرب الأوطان إلى مكة م: (والله أعلم) .

(13/460)