اللباب
في الجمع بين السنة والكتاب (كتاب الرَّهْن)
(بَاب لَيْسَ للْمُرْتَهن أَن يركب الرَّهْن، وَلَا (أَن) يشرب لبنه وَهُوَ
رهن مَعَه، وَلَيْسَ لَهُ أَن ينْتَفع بِشَيْء مِنْهُ، لِأَنَّهُ ملك
الرَّاهِن)
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الظّهْر يركب بِنَفَقَتِهِ إِذا
كَانَ مَرْهُونا، (وَلبن الدّرّ يشرب بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونا) ،
وعَلى الَّذِي يركب وَيشْرب النَّفَقَة ".
قيل لَهُ: قَالَ الْخطابِيّ: " هَذَا كَلَام مُبْهَم، لَيْسَ فِي اللَّفْظ
بَيَان من يركبه
(2/519)
ويجلبه، هَل الرَّاهِن؟ أَو الْمُرْتَهن؟
أَو الْعدْل الْمَوْضُوع على يَده الرَّهْن؟ ". وَقَالَ ابْن عبد الْبر:
فَإِن كَانَ المعني بِهِ الْمُرْتَهن فقد أَجمعُوا أَن لبن الرَّهْن وظهره
للرَّاهِن، وَلَا يَخْلُو من أَن يكون / احتلاب الْمُرْتَهن لَهُ بِإِذن
الرَّاهِن أَو بِغَيْر إِذْنه، فَإِن كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَفِي حَدِيث
ابْن عمر: " لَا يحتلبن أحد مَاشِيَة أحد إِلَّا بِإِذْنِهِ "، مَا يردهُ
(وَيَقْضِي بنسخه) . وَإِن كَانَ بِإِذْنِهِ فَفِي الْأُصُول الْمجمع
عَلَيْهَا فِي تَحْرِيم بيع الْمَجْهُول، وَبيع الْغرَر، (وَبيع) مَا
لَيْسَ عنْدك، وَبيع مَا لم يخلق، مَا يردهُ، فَإِن ذَلِك كَانَ قبل نزُول
(تَحْرِيم) الرِّبَا.
ثمَّ إِن الشّعبِيّ روى هَذَا الحَدِيث وَقد روى الطَّحَاوِيّ: عَن
الشّعبِيّ أَنه قَالَ: " لَا ينْتَفع من الرَّهْن بِشَيْء ".
أفيجوز أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة يحدثه عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] بِشَيْء وَيَقُول بِخِلَافِهِ وَلم يثبت النّسخ عِنْده. لَئِن كَانَ
كَذَلِك لقد صَار مُتَّهمًا فِي رِوَايَة ذَلِك. وَإِذا ثبتَتْ لَهُ
الْعَدَالَة فالمحتج علينا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا يَقُول: من روى
حَدِيثا عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَهُوَ أعلم بتأويله.
فَكَانَ يَجِيء على أَصله وَيلْزمهُ من قَوْله أَن يَقُول بِمَا قَالَ
الشّعبِيّ، بِخِلَاف مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، وَكَانَ خِلَافه دَلِيلا
على نسخ الحَدِيث.
(2/520)
(بَاب إِذا هلك الرَّهْن فِي يَد
الْمُرْتَهن، فَإِن كَانَت قِيمَته وَالدّين سَوَاء هلك بِهِ، وَإِن كَانَت
قِيمَته أقل رَجَعَ الْمُرْتَهن على الرَّاهِن بِمَا بَقِي من الدّين،
وَإِن كَانَت أَكثر رَجَعَ الرَّاهِن على الْمُرْتَهن بِمَا زَاد)
الطَّحَاوِيّ: عَن عَطاء بن أبي رَبَاح: " أَن رجلا ارْتهن فرسا، فَمَاتَ
الْفرس فِي يَد الْمُرْتَهن، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] : ذهب حَقك.
وَعنهُ: عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، عَن أَبِيه قَالَ: " أدْركْت
من فقهائنا الَّذين ينتهى إِلَى قَوْلهم مِنْهُم سعيد بن الْمسيب،
وَعُرْوَة بن الزبير، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد، وَأَبُو بكر بن عبد
الرَّحْمَن، وخارجة بن زيد، وَعبيد الله فِي مشيخة من نظرائهم، أهل فقه
وَصَلَاح وَفضل، فَذكر جَمِيع مَا جمع من أقاويلهم فِي كِتَابه على هَذِه
الصّفة أَنهم قَالُوا: الرَّهْن بِمَا فِيهِ إِذا هلك وعميت قِيمَته. وَرفع
ذَلِك مِنْهُم الثِّقَة إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْمَدِينَة وفقهاؤها يَقُولُونَ: إِن الرَّهْن يهْلك
بِمَا فِيهِ. وَيَرْفَعهُ الثِّقَة مِنْهُم إِلَى رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، فَأَيهمْ حَكَاهُ فَهُوَ حجَّة، لِأَنَّهُ فَقِيه
إِمَام. فَقَوْلهم جَمِيعًا بذلك واجتماعهم عَلَيْهِ / قد ثَبت بِهِ ذَلِك.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] :
(2/521)
" لَا يغلق الرَّهْن، لصَاحبه غنمه
وَعَلِيهِ غرمه "، فَفِي هَذَا دَلِيل أَن الرَّهْن لَا يضيع بِالدّينِ
وَأَن لصَاحبه غنمه وَهُوَ سَلَامَته، وَعَلِيهِ غرمه وَهُوَ غرم الدّين
بعد ضيَاع الرَّهْن.
قيل لَهُ: هَذَا حَدِيث مُنْقَطع، وَأَنت لَا تَقول بالمنقطع.
فَإِن قَالَ: إِنَّمَا قلت بِهِ وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ عَن
سعيد بن الْمسيب، ومنقطع سعيد بن الْمسيب يقوم مقَام الْمُتَّصِل.
قيل لَهُ: وَمن جعل لَك أَن تخْتَص سعيد بن الْمسيب بِهَذَا وتمنع مِنْهُ
مثله من أهل الْمَدِينَة مثل أبي سَلمَة، وَسَالم، وَعُرْوَة، وَسليمَان بن
يسَار، وأمثالهم من أهل الْمَدِينَة. وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ
وأمثالهما من أهل الْكُوفَة. وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَمن كَانَ فَوْقهم
من الطَّبَقَة الأولى من التَّابِعين مثل عَلْقَمَة، وَعمر بن شُرَحْبِيل،
وَعبيد الله، وَشُرَيْح، لَئِن كَانَ هَذَا لَك مُطلقًا فِي سعيد بن
الْمسيب فَإِنَّهُ مُطلق لغيرك فِيمَن ذكرنَا، وَإِن كَانَ غَيْرك
مَمْنُوعًا عَن ذَلِك فَإنَّك مَمْنُوع (عَن) مثله، لِأَن هَذَا تحكم
وَلَيْسَ لأحد أَن يحكم فِي دين الله بالتحكم، ثمَّ نقُول: هَذَا تَأْوِيل
قد أنكرهُ أهل الْعلم جَمِيعًا باللغة وَزَعَمُوا أَنه لَا وَجه لَهُ.
(2/522)
قَالَ الطَّحَاوِيّ: " وَقد قَالَ أهل
الْعلم فِي تَأْوِيل الحَدِيث غير مَا ذكرت.
عَن إِبْرَاهِيم فِي رجل دفع إِلَى رجل رهنا وَأخذ مِنْهُ دَرَاهِم
وَقَالَ: إِن جئْتُك بحقك إِلَى كَذَا وَكَذَا وَإِلَّا فالرهن لَك بحقك.
فَقَالَ إِبْرَاهِيم: لَا يغلق الرَّهْن. قَالَ أَبُو عبيد فَجعله جَوَابا
لمسألته.
وَقد رُوِيَ عَن طَاوس مثل هَذَا، قَالَ الطَّحَاوِيّ: " بَلغنِي ذَلِك عَن
ابْن عُيَيْنَة، عَن (عَمْرو عَن طَاوس) قَالَ: وَأَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن
بن مهْدي، عَن مَالك بن أنس وسُفْيَان بن سعيد أَنَّهُمَا كَانَا يفسرانه
على هَذَا التَّفْسِير.
وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ: سَمِعت ابْن الْمسيب يَقُول: قَالَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا يغلق الرَّهْن ". فبذلك يمْنَع صَاحب
الرَّهْن من ابتياعه من الَّذِي رَهنه عِنْده حَتَّى يُبَاع من غَيره.
فَذهب الزُّهْرِيّ فِي ذَلِك الغلق إِلَى أَنه فِي البيع لَا فِي الضّيَاع،
فَهَؤُلَاءِ المتقدمون يَقُولُونَ بِمَا ذكرنَا / ثمَّ سعيد بن الْمسيب
وَهُوَ الْمَأْخُوذ مِنْهُ قَول رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] :
لَا يغلق الرَّهْن. وَقد زعمت أَيهَا الْمُخَالف أَن من روى حَدِيثا فَهُوَ
أعلم بتأويله حَتَّى قلت فِي عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس: " إِن
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد:
قَالَ عَمْرو: فِي الْأَمْوَال. (فَجعلت قَول عَمْرو فِي هَذَا حجَّة
ودليلا لَك أَن ذَلِك الحكم فِي الْأَمْوَال) دون سَائِر الْأَشْيَاء، فلئن
كَانَ قَول عَمْرو هَذَا وتأويله يجب بِهِ حجَّة، فَإِن قَول سعيد بن
الْمسيب الَّذِي ذكرنَا وَتَأْويل الزُّهْرِيّ فِيمَا روى أَحْرَى أَن يكون
حجَّة ".
الطَّحَاوِيّ: (عَن عبيد بن عُمَيْر) : " أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله
عَنهُ
(2/523)
قَالَ فِي الرجل (يرْهن) الرَّهْن فيضيع.
قَالَ: إِن كَانَ بِأَقَلّ ردوا عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ بِأَفْضَل فَهُوَ
أَمِين فِي الْفضل ".
وَعنهُ: عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة أَن عليا قَالَ: " إِذا رهن الرجل
رهنا فَقَالَ الْمُعْطِي لَا أقبله إِلَّا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعطيتك
فَضَاعَ رد عَلَيْهِ (الْفضل) ، وَإِن رَهنه وَهُوَ أَكثر مِمَّا أعطي
بِطيب نفس من الرَّاهِن (فَضَاعَ) فَهُوَ بِمَا فِيهِ ".
وَعنهُ: عَن خلاس: أَن عليا قَالَ: " إِذا كَانَ (فِي الرَّهْن) فضل
فأصابته جَائِحَة فَهُوَ بِمَا فِيهِ، وَإِن لم تصبه جَائِحَة (واتهم
فَإِنَّهُ يرد الْفضل) ".
وَعنهُ: أَن الْحسن وشريحا (قَالَا: " الرَّهْن بِمَا فِيهِ ".
وَعنهُ: عَن أبي حُصَيْن قَالَ سَمِعت شريحا) يَقُول: " ذهبت الرِّهَان
بِمَا فِيهَا ". فَهَذَا الْحسن وَشُرَيْح قد رَأيا الرَّهْن يبطل بضياعه
(الدّين) .
وَعنهُ: عَن ابْن جريج، عَن عَطاء: " فِي رجل رهن رجلا جَارِيَة فَهَلَكت،
قَالَ: هِيَ بِحَق الْمُرْتَهن ".
فَهَذَا عَطاء يَقُول هَذَا وَقد رُوِيَ (عَنهُ) ، عَن رَسُول الله [صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " لَا يغلق الرَّهْن ". فقد خَالف من
خَالَفنَا هَذَا كُله، وَخَالف مَا روينَاهُ عَن رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] ، وَعَن عمر، وَعلي، وَعَمن ذكرنَا من التَّابِعين، فَمن
إِمَامه فِي هَذَا؟
(2/524)
وبمن اقْتدى فَهَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا،
وَكَانُوا يذهبون إِلَى قَول سعيد بن الْمسيب: " لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه
" أَن ذَلِك (فِي) البيع، يُرِيدُونَ إِذا بيع (الرَّهْن) وَفِيه نقص عَن
الدّين غرم للْمُرْتَهن ذَلِك النَّقْص، وَهُوَ غرمه الْمَذْكُور (فِي
الحَدِيث) وَإِن بيع بِفضل عَن الدّين أَخذ الرَّاهِن ذَلِك الْفضل، وَهُوَ
غنمه الْمَذْكُور (فِي الحَدِيث) . وَالله أعلم.
(2/525)
فارغة
(2/526)
|