اللباب في الجمع بين السنة والكتاب

 (كتاب الْهِبَة)

(بَاب يكره للْوَاهِب أَن يرجع فِي هِبته وَإِن رَجَعَ جَازَ إِلَّا فِي هبة ذِي الرَّحِم الْمحرم أَو الزَّوْجَيْنِ)

أما الْكَرَاهَة فَلَمَّا صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " الْعَائِد فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه ".
وَأما الْجَوَاز فَلَمَّا روى الطَّحَاوِيّ: عَن الْأسود، عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " من وهب (هبة) لذِي رحم جَازَت، وَمن وهب (هبة) لغير ذِي رحم فَهُوَ

(2/541)


أَحَق بهَا مَا لم يثب مِنْهَا ". وَزَاد من طَرِيق آخر: " أَو يستهلكها (مستهلك) أَو يمت أَحدهمَا ".
وَعنهُ: (عَن ابْن أَبْزَى) عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " الْوَاهِب أَحَق بهبته مَا لم يثب مِنْهَا ".
وَعنهُ: عَن أبي الدَّرْدَاء أَنه قَالَ: " الْوَاهِب ثَلَاثَة: رجل وهب من غير أَن يستوهب فَهُوَ بسبيل الصَّدَقَة لَيْسَ (لَهُ) أَن يرجع فِي صدقته، وَرجل استوهب فوهب فَلهُ الثَّوَاب، فَإِن قبل على موهبته ثَوابًا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ذَلِك، وَله أَن يرجع فِي هِبته مَا لم يثب، وَرجل وهب وَاشْترط الثَّوَاب فَهُوَ دين على (صَاحبه) فِي حَيَاته وَبعد مَوته ".
فَهَذَا أَبُو الدَّرْدَاء قد جعل مَا كَانَ من الهبات مخرجه مخرج الصَّدقَات (فِي حكم الصَّدقَات) ، وَمنع الْوَاهِب من الرُّجُوع فِي (ذَلِك كَمَا يمْنَع الْمُتَصَدّق من الرُّجُوع فِي) صدقته وَجعل مَا كَانَ مِنْهَا بِغَيْر هَذَا الْوَجْه مِمَّا لم يشْتَرط / فِيهِ ثَوابًا مِمَّا يرجع فِيهِ مَا لم يثب الْوَاهِب (عَلَيْهِ) . وَجعل مَا اشْترط فِيهِ فِيهِ الْعِوَض فِي حكم البيع. فَهَذَا حكم الهبات عندنَا.

(2/542)


وَعنهُ: عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد: " أَن امْرَأَة وهبت لزَوجهَا هبة، ثمَّ رجعت فِيهَا، فاختصما إِلَى شُرَيْح فَقَالَ للزَّوْج: شَاهِدَاك أَنَّهَا هبت لَك من غير كره وَلَا هوان، وَإِلَّا فيمينها لقد وهبت لَك عَن كره وهوان ".
فَهَذَا شُرَيْح قد سَأَلَ الزَّوْج الْبَيِّنَة أَنَّهَا وهبت لَهُ لَا عَن كره بعد ارتجاعها فِي الْهِبَة. فَدلَّ ذَلِك (على) أَن الْبَيِّنَة لَو ثبتَتْ عِنْده على ذَلِك لرد الْهِبَة إِلَيْهِ وَلم يجوز لَهَا الرُّجُوع فِيهَا، وَكَانَ من رَأْيه أَن للْوَاهِب الرُّجُوع فِي الْهِبَة إِلَّا من ذِي الرَّحِم الْمحرم، فقد جعل الْمَرْأَة فِي هَذَا كذي الرَّحِم الْمحرم.
وَعنهُ: عَن مَنْصُور قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم: " إِذا وهبت الْمَرْأَة لزَوجهَا أَو الزَّوْج لامْرَأَته فالهبة جَائِزَة، وَلَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا أَن يرجع فِي هِبته ".
فَإِن قيل: فقد شبه رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْعَائِد فِي الْهِبَة بالعائد فِي الْقَيْء، وَالْعود فِي الْقَيْء حرَام.
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون أَرَادَ بالعائد (فِي قيئه) الْكَلْب كَمَا ذكره فِي الحَدِيث الَّذِي روينَاهُ فِي أول الْبَاب، وعود الْكَلْب فِي قيئه لَا يُوصف بِحل وَلَا حُرْمَة وَلكنه مستقذر، فَلَا يثبت بذلك منع الْوَاهِب من الرُّجُوع فِي الْهِبَة، وَلَكِن أَرَادَ تَنْزِيه أمته عَن أَمْثَال الْكلاب لَا أَنه أبطل أَن يكون لَهُم الرُّجُوع فِي هباتهم.
(يُؤَيّد هَذَا مَا) روى مَالك: عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يَقُول: " حملت على فرس عَتيق فِي

(2/543)


سَبِيل الله، وَكَانَ الرجل الَّذِي هُوَ عِنْده قد أضاعه، فَأَرَدْت أَن أشتريه مِنْهُ، وظننت أَنه بَائِعه برخص، فَسَأَلت عَن ذَلِك رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: لَا تشتره وَإِن أعطاكه بدرهم وَاحِد، فَإِن الْعَائِد فِي صدقته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه ".
فَلم يكن ذَلِك لحُرْمَة ابتياع الصَّدَقَة وَلَكِن لِأَن ترك ذَلِك أفضل.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " لَا يحل للْوَاهِب أَن يرجع فِي هِبته إِلَّا الْوَالِد فِيمَا وهب لوَلَده " (وَأَنْتُم تَقولُونَ يحل للْوَاهِب أَن يرجع فِي هِبته إِلَّا الْوَالِد فِيمَا وهب لوَلَده) . فقد قُلْتُمْ بضد / مَا قَالَه رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] .
قيل لَهُ: مَا أقبح سؤالك وأشنع أقوالك، فَلَو كَانَ عنْدك معرفَة بِأَحَادِيث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لما قلت ذَلِك فَإِن هَذَا اللَّفْظ قد ورد فِي السّنة وَلم يرد بِهِ التَّحْرِيم كَقَوْلِه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " لَا تحل الصَّدَقَة (لَغَنِيّ وَلَا) لذِي مرّة سوي " وَلم يكن مَعْنَاهُ أَنَّهَا تحرم عَلَيْهِ كَمَا تحرم على الْأَغْنِيَاء. فَإِن الزمانة لَا تشْتَرط مَعَ الْفقر، وَلكنهَا لَا تحل لَهُ من حَيْثُ تحل لغيره من ذَوي الْحَاجة والزمانة. وَهَذَا الحَدِيث وصف النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِيهِ ذَلِك الرُّجُوع بِأَنَّهُ لَا يحل تَغْلِيظًا للكراهة، كَيْلا يكون أحد من أمته لَهُ (مثل السوء، يَعْنِي لَا يحل لَهُ كَمَا تحل لَهُ) الْأَشْيَاء الَّتِي قد أحلهَا الله لِعِبَادِهِ، وَلم يَجْعَل لمن فعلهَا مثلا كَمثل السوء، ثمَّ اسْتثْنى من ذَلِك مَا وهب الْوَالِد لوَلَده، فَذَلِك عندنَا وَالله أعلم على

(2/544)


إِبَاحَته للوالد أَن يَأْخُذ مَا وهب لِابْنِهِ فِي وَقت حَاجته إِلَى ذَلِك وَفَقره إِلَيْهِ، لِأَن مَا يجب للوالد من ذَلِك لَيْسَ بِفعل يَفْعَله فَيكون ذَلِك رُجُوعا مِنْهُ يكون (مثله فِيهِ كَمثل) الْكَلْب الرَّاجِع فِي قيئه، وَلكنه شَيْء أوجبه الله تَعَالَى لفقره. فقد رُوِيَ أَن رجلا أَتَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي أَعْطَيْت أُمِّي حديقة وَإِنَّهَا مَاتَت وَلم تتْرك وَارِثا، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " وَجَبت صدقتك وَرجعت إِلَيْك حديقتك ".
أَفلا ترى أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد أَبَاحَ للمصدق صدقته لما رجعت إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ، وَمنع عمر بن الْخطاب من ابتياع صدقته، فَثَبت بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين إِبَاحَة الصَّدَقَة الراجعة إِلَى الْمُصدق بِفعل الله تَعَالَى، وكراهية الصَّدَقَة الراجعة إِلَيْهِ بِفعل نَفسه. وَكَذَلِكَ وجوب النَّفَقَة للْأَب (فِي مَال الابْن) لِحَاجَتِهِ وَفَقره وَجَبت لَهُ بِإِيجَاب الله تَعَالَى إِيَّاهَا، فأباح النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (لَهُ) ارتجاع هِبته وإنفاقها على نَفسه، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ لَا كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ بالابتياع، والوالدة حكمهَا حكم الْوَالِد.
(بَاب إِذا وهب شِقْصا مشَاعا وأقبض الْكل يتَوَقَّف الْملك على الْقِسْمَة وإقباض المفرز، وَمَا لَا يحْتَمل الْقِسْمَة يحصل الْملك / فِيهِ بإقباض الْكل)

الطَّحَاوِيّ: عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة زوج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنَّهَا قَالَت: إِن

(2/545)


أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ نحلهَا (جاد عشْرين) وسْقا من مَاله (بِالْغَابَةِ) فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ: وَالله يَا بنية مَا من أحد من النَّاس أحب إِلَيّ (غنى) بعدِي مِنْك، وَلَا أعز عَليّ فقرا بعدِي مِنْك، وَإِنِّي كنت نحلتك (جاد عشْرين) وسْقا، وَلَو كنت جذذتيه (واحتزتيه) كَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال وَارِث، وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك (وَأُخْتَاك) فاقتسموا على كتاب الله عز وَجل ".
(بَاب العَبْد لَا يملك وَإِن ملك)

قَالَ الله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء} ، مَمْلُوكا: نكرَة شَائِع فِي جنس العبيد كَقَوْلِه: لَا تكلم عبدا (قطّ، واعط) هَذَا عبدا، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {يَتِيما ذَا مقربة أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة} . فَكل من لحقه هَذَا الِاسْم فقد انتظمه هَذَا الحكم (إِذا كَانَ) لفظا منكورا، ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون المُرَاد نفي الْقُدْرَة،

(2/546)


أَو نفي الْملك، أَو نفيهما. وَمَعْلُوم أَنه لم يرد بِهِ نفي الْقُدْرَة إِذْ كَانَ الْحر وَالْعَبْد لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْقُدْرَة من حَيْثُ اخْتلفَا فِي الْحُرِّيَّة وَالرّق، لِأَن العَبْد قد يكون أقدر من الْحر، فَثَبت أَنه أَرَادَ نفي الْملك.
وَوجه آخر وَهُوَ أَنه جعله مثلا للأصنام تَشْبِيها بالعبيد المملوكين فِي نفي الْملك، وَمَعْلُوم أَن الْأَصْنَام لَا تملك شَيْئا، فَوَجَبَ أَن يكون من ضرب الْمثل بِهِ لَا يملك شَيْئا وَإِلَّا لزالت فَائِدَة ضرب الْمثل، وَكَانَ حِينَئِذٍ ضرب الْمثل بِالْحرِّ وَالْعَبْد سَوَاء.
وَأَيْضًا لَو أَرَادَ عبدا بِعَيْنِه لَا يملك شَيْئا، وَجَاز أَن يكون من العبيد من يملك شَيْئا، لقَالَ: ضرب الله مثلا رجلا لَا يقدر على شَيْء فَلَمَّا خص العَبْد بذلك دلّ على (أَن) وَجه تَخْصِيصه أَنه لَيْسَ مِمَّن يملك، وَلَو أَرَادَ عبدا بِعَيْنِه لعرفه بِالْألف وَاللَّام وَلم يذكرهُ بِلَفْظ منكور.
وَأَيْضًا مَعْلُوم أَن الْخطاب فِي ذكر عَبدة الْأَوْثَان والاحتجاج عَلَيْهِم، أَلا ترى إِلَى قَوْله: {ويعبدون من دون الله مَا لَا يملك لَهُم رزقا من السَّمَاوَات وَالْأَرْض شَيْئا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} . / ثمَّ قَالَ: {ضرب الله مثلا} فَأخْبر أَن مثل مَا يعْبدُونَ مثل العبيد والمماليك الَّذين لَا يملكُونَ شَيْئا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) أَن يملكُوا، وَلَو كَانَ المُرَاد عبدا بِعَيْنِه، وَكَانَ العَبْد مِمَّن يملك، مَا كَانَ بَينه وَبَين الْحر فرق، وَكَانَ تَخْصِيص العَبْد بِالذكر لَغوا، فَثَبت أَن الْمَعْنى نفي الْملك للْعَبد رَأْسا.
وَقَوله: {أبكم} أَرَادَ بِهِ عبدا (أبكم) ، أَلا ترى إِلَى قَوْله: {وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ} فَدلَّ على أَن المُرَاد (العَبْد) ، كَأَنَّهُ ذكر أَولا عبدا غير أبكم، وَجعله مثلا

(2/547)


للصنم فِي نفي الْملك، (ثمَّ) زَاده نقصا بقوله: " أبكم " مُبَالغَة فِي وصف الْأَصْنَام بِالنَّقْصِ وَقلة الْخَيْر، وَلَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ " ابْن الْعم " لِأَن نَفَقَته لَا تلْزم، وَلَيْسَ لَهُ تَوْجِيهه فِي أُمُوره، وَلَا معنى لذكر ابْن الْعم هَهُنَا، لِأَن (الْأَب) وَالْأَخ وَالْعم أقرب إِلَيْهِ من ابْن الْعم (فَحَمله على ابْن الْعم (يزِيل فَائِدَته) ، وَأَيْضًا فَإِن الْمولى إِذا أطلق يَقْتَضِي مولى الرّقّ، أَو مولى النِّعْمَة، وَلَا ينْصَرف إِلَى ابْن الْعم) إِلَّا بِدلَالَة، وَقد سمى الله الْأَصْنَام عبادا بقوله: {إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} وَلَو ملك العَبْد شَيْئا لما جَازَ للْمولى أَخذه مِنْهُ لأجل ملكه (لَهُ) ، كَمَا لَا يملك طَلَاق امْرَأَته وَوَطْء زَوجته وَهِي أمة الْمولى.

(2/548)


(بَاب يَنْبَغِي للرجل أَن يُسَوِّي بَين وَلَده فِي الْعَطِيَّة ليستووا فِي (الْبر لَهُ) ، وَلَا يفضل بَعضهم على بعض فَتَقَع بذلك الوحشة فِي قُلُوبهم، فَإِن نحل بَعضهم شَيْئا دون بعض وَقَبله المنحول لنَفسِهِ إِن كَانَ كَبِيرا، أَو قَبضه لَهُ أَبوهُ إِن كَانَ صَغِيرا بإعلامه وَالْإِشْهَاد بِهِ فَهُوَ جَائِز)

البُخَارِيّ وَمُسلم والطَّحَاوِي وَاللَّفْظ لَهُ: عَن (دَاوُد بن) أبي هِنْد عَن عَامر الشّعبِيّ عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ: " انْطلق بِي (أبي) إِلَى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ونحلني نخلا (ليشهده) على ذَلِك، فَقَالَ: أكل ولدك نحلته مثل هَذَا؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: أَيَسُرُّك أَن يَكُونُوا إِلَيْك فِي الْبر كلهم سَوَاء؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: فَأشْهد على هَذَا غَيْرِي ".
فَهَذَا القَوْل لَا يدل على فَسَاد العقد الَّذِي (كَانَ) عقده النُّعْمَان، لِأَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد يتوقى الشَّهَادَة على مَا لَهُ أَن يشْهد (عَلَيْهِ) وعَلى الْأُمُور الَّتِي قد كَانَت

(2/549)


فَكَذَلِك لمن بعده، لِأَن الشَّهَادَة إِنَّمَا هِيَ أَمر يتضمنه الشَّاهِد للْمَشْهُود لَهُ، فَلهُ أَن لَا يتَضَمَّن / ذَلِك.
وَقد يحْتَمل غير هَذَا أَيْضا، فَيكون قَوْله: " أشهد على هَذَا غَيْرِي " (أَي) أَنا الإِمَام وَالْإِمَام لَيْسَ من شَأْنه أَن يشْهد إِنَّمَا من شَأْنه أَن يحكم. وَفِي قَوْله: " أشهد على هَذَا غَيْرِي " دَلِيل على صِحَة العقد.
(بَاب الْعُمْرَى جَائِزَة للمعمر لَهُ حَال حَيَاته ولورثته بعد مماته)

مُسلم: عَن أبي الزبير عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ (قَالَ) قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أَمْسكُوا عَلَيْكُم أَمْوَالكُم لَا تعمروها وَلَا تفسدوها، فَإِنَّهُ من عمرى فَهِيَ للَّذي أعمرها حَيا وَمَيتًا ولعقبه ". وَهَذَا قَول سُفْيَان وَأحمد وَإِسْحَاق.
(بَاب لَا بُد فِي لُزُوم الْوَقْف من حكم الْحَاكِم)

الطَّحَاوِيّ: عَن عَطاء بن السَّائِب قَالَ: " سَأَلت شريحا عَن رجل جعل دَاره

(2/550)


حبسا على الآخر فالآخر من وَلَده، فَقَالَ: إِنَّمَا أَقْْضِي وَلست أُفْتِي، قَالَ: فناشدته، فَقَالَ: لَا حبس عَن فَرَائض الله. وَهَذَا لَا يسع الْقُضَاة جَهله، وَلَا يسع الْأَئِمَّة تَقْلِيد من يجهل مثله، ثمَّ لَا يُنكر عَلَيْهِ مُنكر من أَصْحَاب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَلَا من تابعيهم. وَعنهُ: عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- بَعْدَمَا أنزلت سُورَة النِّسَاء وَأنزل فِيهَا الْفَرَائِض - نهى عَن الْحَبْس ".
فَإِن قيل: فقد روى مُسلم: عَن ابْن عمر، عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " أصبت أَرضًا من أَرض خَيْبَر، فَأتيت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقلت: إِنِّي أصبت (أَرضًا) لم أصب مَالا أحب إِلَيّ وَلَا أنفس عِنْدِي مِنْهَا، فَقَالَ: إِن شِئْت تَصَدَّقت بهَا، فَتصدق بهَا عمر على أَن لَا تبَاع وَلَا توهب فِي الْفُقَرَاء، وَذَوي الْقُرْبَى، والرقاب والضيف، وَابْن السَّبِيل، لَا جنَاح على من وَليهَا أَن يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ غير مُتَمَوّل "، وَفِي رِوَايَة: " إِن شِئْت حبس أَصْلهَا لَا تبَاع وَلَا توهب ".
قيل لَهُ: لما شاور النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَقَالَ (لَهُ) : " حبس أَصْلهَا وسبل الثَّمَرَة ". يحْتَمل أَن يكون مَا أمره (بِهِ) من ذَلِك يخرج بِهِ من ملكه. وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك لَا يُخرجهَا عَن ملكه وَلكنهَا تكون جَارِيَة على مَا أجراها (عَلَيْهِ من ذَلِك مَا تَركهَا) ، وَيكون لَهُ فسخ ذَلِك مَتى شَاءَ، كَرجل جعل لله أَن يتَصَدَّق بثمرة نخله مَا عَاشَ، فَلَا يجْبر عَلَيْهِ وَلكنه مُخَيّر فِي ذَلِك إِن شَاءَ أنفذه وَإِن شَاءَ تَركه. وَلَيْسَ فِي بَقَاء حبس

(2/551)


النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَمن أشرتم إِلَيْهِ من (زمن) أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف / وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس والمسور بن مخرمَة، وَجبير بن مطعم، وَعَمْرو بن الْعَاصِ، والأرقم بن أبي الأرقم، وَأنس بن مَالك، وَفَاطِمَة، وَعَائِشَة، وَحَفْصَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَى عامنا هَذَا، دَلِيل على أَنه لم يكن لأحد (من أهلهم) نقضه، وَإِنَّمَا الَّذِي يدل على أَنه لَيْسَ لَهُم نقضه أَن لَو كَانُوا خاصموا فِيهِ بعد مَوته وَمنعُوا من ذَلِك. فَلَو كَانَ ذَلِك كَذَلِك لَكَانَ فِيهِ لعمري مَا يدل على أَن الْأَوْقَاف لَا تبَاع. وَلَكِن إِنَّمَا (جَاءَنَا) تَركهم لوقف من (وقف) على مَا وَقفه فِي حَال حَيَاته وَلم ينْقل عَن أحد مِنْهُم أَنه رَجَعَ فِيمَا وقف وَلَا نازعه فِيمَا وقف ورثته.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: عَن ابْن شهَاب أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَوْلَا أَنِّي ذكرت صدقتي لرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لرددتها "، أَو نَحْو هَذَا. فَلَمَّا قَالَ عمر هَذَا دلّ (على) أَن نفس الإيقاف للْأَرْض لم يكن يمنعهُ الرُّجُوع فِيهَا، وَإِنَّمَا مَنعه من الرُّجُوع فِيهَا أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أمره فِيهَا بِشَيْء وفارقه على الْوَفَاء، فكره أَن يرجع فِي ذَلِك (كَمَا كره) عبد الله بن عمر أَن يرجع بعد موت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الصَّوْم الَّذِي فَارقه عَلَيْهِ أَن يَفْعَله، وَقد كَانَ لَهُ أَن لَا يَصُوم.
فَإِن قيل: هَذَا حَدِيث مُنْقَطع، وَإِن صَحَّ فَلَعَلَّ المُرَاد (تغير مصارفها) ، بعد بَقَاء أصل الْوَقْف وَذَلِكَ جَائِز لَو شَرط فِي الِابْتِدَاء.
قيل لَهُ: هَذَا أثر رِجَاله كلهم ثِقَات، فانقطاعه لَا يُوجب ضعفا، إِذْ الْعدْل

(2/552)


لَا يُرْسل إِلَّا عَن عدل. وَلَفظ الرَّد ظَاهر فِي الرَّد أصلا وَصفا، وَقد أيد الظَّاهِر مَا رُوِيَ: " أَن عبد الله بن زيد بن عبد ربه وقف حَائِطا، فجَاء أَبَوَاهُ فَقَالَا لَهُ: إِنَّه قوام عيشنا، فَرده النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ".
فَإِن قيل: يرويهِ أَبُو بكر بن عبد الله عَن عَمْرو بن حزم عَنهُ وَلم يلقه فَكَانَ مُرْسلا.
قيل لَهُ: الْمُرْسل حجَّة.

(2/553)


فارغة

(2/554)