اللباب في الجمع بين السنة والكتاب

 (كتاب الصَّيْد والذبائح)

(بَاب صيد الْمَدِينَة وشجرها كصيد سَائِر الْبلدَانِ وشجرها)

مُسلم: عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أحسن النَّاس خلقا، وَكَانَ لي أَخ يُقَال لَهُ أَبُو عُمَيْر، قَالَ أَحْسبهُ قَالَ فطيما، قَالَ: فَكَانَ إِذا جَاءَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَرَآهُ قَالَ: أَبَا عُمَيْر مَا فعل النغير ". وَمن طَرِيق الطَّحَاوِيّ: عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ لأبي طَلْحَة ابْن من أم سليم يُقَال لَهُ أَبُو عُمَيْر، وَكَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يضاحكه إِذا دخل، وَكَانَ لَهُ طير، فَدخل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَرَأى أَبَا عُمَيْر حَزينًا، فَقَالَ: مَا شَأْن أبي عُمَيْر؟ فَقيل يَا رَسُول الله مَاتَ نغيره، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : أَبَا عُمَيْر مَا فعل النغير.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: " فَهَذَا (قد) كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَو كَانَ حكم صيدها حكم صيد مَكَّة لما أطلق لَهُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حبس النغير وَلَا اللّعب بِهِ كَمَا لَا يُطلق ذَلِك بِمَكَّة ".

(2/617)


فَإِن قيل: يجوز أَن يكون هَذَا بقباء، وَذَلِكَ الْموضع غير مَوضِع الْحرم.
قيل لَهُ: هَب أَنه كَمَا ذكرت، وَلَكِن لم قلت إِن قبَاء لَيست بِموضع الْحرم.
وَقد روى أَبُو دَاوُد: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حمى كل نَاحيَة من الْمَدِينَة بريدا بريدا، لَا يخبط شَجَره وَلَا يعضد إِلَّا مَا يساق بِهِ الْجمل ". وقباء من الْمَدِينَة لَا تبلغ ذَلِك، فَإِن الْبَرِيد أَربع فراسخ، والفرسخ ثَلَاثَة أَمْيَال، والميل أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة، وقباء لَا تبلغ ميلين.
وَأما مَا رُوِيَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من تَحْرِيم صيدها، وَقطع شَجَرهَا، فَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَله إبْقَاء (لزينتها) ليستطيبوها ويألفوها، كَمَا منع من هدم آطامها.
وَأما مَا جَاءَ من إِبَاحَة سلب الَّذِي يصيد صيد الْمَدِينَة، فَإِن ذَلِك عندنَا وَالله أعلم كَانَ فِي وَقت (كَانَت) الْعُقُوبَات (الَّتِي) تجب بِالْمَعَاصِي فِي الْأَمْوَال، ثمَّ نسخ ذَلِك فِي وَقت نسخ الرِّبَا، فَردَّتْ الْأَشْيَاء الْمَأْخُوذَة إِلَى أَمْثَالهَا إِن كَانَ لَهَا أَمْثَال، أَو إِلَى قيمها إِن كَانَ لَا مثل لَهَا، وَجعلت الْعقُوبَة فِي انتهاك الْحرم فِي الْأَبدَان لَا فِي الْأَمْوَال.

(2/618)


(ذكر الْغَرِيب:)

الأطم: مثل الأجم يُخَفف ويثقل، وَالْجمع آطام، وَهِي حصون لأهل الْمَدِينَة.
(بَاب يكره (أكل) لحم الضَّب)

مُحَمَّد بن الْحسن: عَن الْأسود، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أهدي لَهُ ضَب فَلم يَأْكُلهُ فَقَامَ عَلَيْهِم سَائل، فَأَرَادَتْ عَائِشَة أَن تعطيه، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : تعطيه مَا لَا تأكلين ".
قَالَ مُحَمَّد: " فَدلَّ ذَلِك على أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كرهه لنَفسِهِ وَلغيره ".
قَالَ: " فبذلك نَأْخُذ ".
فَإِن قيل: يجوز أَن يكون كره لَهَا أَن تُعْطِي لِأَنَّهَا عافته، وَلَوْلَا أَنَّهَا عافته لما أطعمته إِيَّاه. وَكَانَ مَا يطعمهُ للسَّائِل فَإِنَّمَا هُوَ لله تَعَالَى. فَأَرَادَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن لَا يكون مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا من خير الطَّعَام، كَمَا نهى أَن يتَصَدَّق بالشَّيْء الرَّدِيء. فَلذَلِك كره رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] التَّصَدُّق بالضب، لَا لِأَنَّهُ حرَام.
قيل لَهُ: الصَّدَقَة بالشَّيْء الرَّدِيء إِنَّمَا تكره إِذا كَانَ الْإِنْسَان قَادِرًا على غَيره، أما إِذا لم يكن عِنْده سواهُ، أَو نفر مِنْهُ طبعه دون طبع غَيره، فَلَا يكره. وَالظَّاهِر أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لم (يكن) عِنْدهَا سواهُ. فبالنظر إِلَى هَذَا الظَّاهِر يغلب على الظَّن أَنه

(2/619)


(إِنَّمَا) كرهه لكَونه مَكْرُوها، لَا لِأَنَّهُ كَانَ رديئا، وَالْأَشْبَه أَن يحمل قَول أَصْحَابنَا: (أَن لَحْمه مَكْرُوه، على كَرَاهِيَة التَّنْزِيه) ، لتتفق مَعَاني الْآثَار وَلَا تتضاد، فَإِن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد صرح فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح أَنه لَيْسَ بِحرَام، وَأكل على مائدة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَلَو كَانَ حَرَامًا لم يُؤْكَل على مائدة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَمَا ذكر من أَنه يحْتَمل أَن يكون من الممسوخ فَذَلِك بعيد، لما صَحَّ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن القردة والخنازير أَهِي مِمَّا مسخ؟ فَقَالَ: إِن الله عز وَجل لم يهْلك قوما، أَو يمسخ قوما فَيجْعَل لَهُم نَسْلًا وَلَا عقبا.
(بَاب يكره أكل الطافي من السّمك)

أَبُو دَاوُد: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " مَا ألْقى الْبَحْر أَو جزر عَنهُ فكلوه، وَمَا مَاتَ فِيهِ وطفا فَلَا تأكلوه ". وَهَذَا الحَدِيث فِي سَنَده (هَذَا) إِسْمَاعِيل بن أُميَّة. قَالُوا: وَهُوَ مَتْرُوك.

(2/620)


قَالَ أَبُو دَاوُد: " وَقد رَوَاهُ سُفْيَان وَأَيوب وَحَمَّاد، عَن أبي الزبير فوقفوه على جَابر "، وَالْمَوْقُوف عندنَا حجَّة.
وَأما حَدِيث العنبر فَإِنَّهُ لم يكن طافيا بل هُوَ مِمَّا أَلْقَاهُ الْبَحْر، لِأَن جَابِرا ذكره من معجزات رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (فَقَالَ: / " وشكى النَّاس إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) الْجُوع، فَقَالَ: عَسى الله أَن يطعمكم، فأتينا سيف الْبَحْر، فزخر الْبَحْر زخرة فَألْقى دَابَّة ". وَمَا أَلْقَاهُ الْبَحْر فَهُوَ حَلَال.
(بَاب أكل الضبع حرَام)

صَحَّ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه نهى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع، وكل ذِي مخلب من الطير ". فَلَا يجوز (أَن) يخرج من ذَلِك الضبع، لِأَنَّهُ ذُو نَاب من السبَاع.
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " هِيَ من الصَّيْد "، فَلَيْسَ كل الصَّيْد يُؤْكَل، والْحَدِيث

(2/621)


مَدَاره على جَابر وَقد اخْتلف فِي لَفظه. وَرُوِيَ عَن حبَان بن جُزْء (عَن أَخِيه خُزَيْمَة بن جُزْء) قَالَ: سَأَلت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن أكل الضبع فَقَالَ: وَيَأْكُل الضبع أحد، وَسَأَلته عَن أكل الذِّئْب فَقَالَ: وَيَأْكُل الذِّئْب أحد فِيهِ خير ". وَفِي سَنَد هَذَا الحَدِيث إِسْمَاعِيل بن مُسلم و (عبد الْكَرِيم أَبُو أُميَّة) . وَقد تكلم بعض أهل الْعلم فيهمَا وَالْمُعْتَمد الحَدِيث الأول. وَالله أعلم.
(بَاب (أكل لحم الْفرس حرَام))

قَالَ الله تَعَالَى: {وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير لتركبوها وزينة ويخلق مَا لَا تعلمُونَ} .
وَجه التسمك بِهَذِهِ الْآيَة: أَن الله تَعَالَى قسم الامتنان قسمَيْنِ فِي نَوْعَيْنِ: الْأَنْعَام وَالْخَيْل، وَالْبِغَال وَالْحمير. وَبَين وَجه الْمِنَّة فِي الْأَنْعَام بِثَلَاثَة أَنْوَاع: اللَّبن، وَالْأكل، وَالْحمل، وَبَين وَجه الْمِنَّة فِي الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير: فِي الرّكُوب والزينة، فَمن جعل الْقسمَيْنِ وَاحِدًا أَو متداخلين فقد اعْترض على (حد) الْمِنَّة وعارض الفصاحة. وَهَذَا أَمر لم يقدره قدره إِلَّا أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لعظم فهمه وسعة علمه.

(2/622)


فَإِن قيل: وروى مُسلم: عَن جَابر: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى يَوْم خَيْبَر عَن (أكل) لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وَأذن فِي لُحُوم الْخَيل ". وَفِي رِوَايَة: " أكلنَا يَوْم خَيْبَر لُحُوم الْخَيل وحمر الْوَحْش، ونهانا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الْحمر الْأَهْلِيَّة ".
قيل لَهُ: وَقد روى الطَّحَاوِيّ: عَن خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله عَنهُ: " أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى عَن لُحُوم الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير ". وَقد أجَاب بعض أَصْحَابنَا عَن الْأَحَادِيث الأول فَقَالَ: هِيَ مَحْمُولَة على حَالَة المخامص، وَهِي كَانَت أغلب حالات الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم. وَفِي الصَّحِيح: " أَنهم مَا دخلُوا خَيْبَر إِلَّا وهم جِيَاع ". فَلَا حجَّة بِتِلْكَ الْحَال على الْإِطْلَاق، وَفِيه نظر: فَإِن الْإِبَاحَة لَو كَانَت لأجل الْجُوع أَو المخمصة لما اخْتصّت الْإِبَاحَة بِالْخَيْلِ. /
(بَاب من نحر نَاقَة أَو ذبح شَاة فَوجدَ فِي بَطنهَا جَنِينا مَيتا لم يُؤْكَل أشعر أَو لم يشْعر)

لإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} .

(2/623)


فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ، عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه ".
قيل لَهُ ذَكَاة الْجَنِين مُبْتَدأ، وذكاة أمه خَبره، لَكِن فِيهِ حذف مُضَاف (وَهُوَ: مثل) ، كَأَنَّهُ قَالَ: ذَكَاة الْجَنِين مثل ذَكَاة أمه. كَمَا تَقول: زيد الْبَدْر، وَعَمْرو الشَّمْس، وَأَبُو يُوسُف أَبُو حنيفَة، وَابْن الْقَاسِم مَالك. أَي هَذَا مثل هَذَا، ومنزلته مَنْزِلَته. فَحذف الْمثل وأقيم الثَّانِي مقَامه اتساعا كَمَا تَقول: اللَّيْلَة الْهلَال. وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا: أَن زيدا والبدر غيران، فَإِذا جعلته هُوَ فَلَا بُد من أَمر يَشْتَرِكَانِ فِيهِ يحل مَحَله فَيكون فِيهِ كَأَنَّهُ هُوَ، فَقَوله: ذَكَاة الْجَنِين، (وذكاة أم الْجَنِين) غير ذَكَاة الْجَنِين، فهما غيران. فَهَذِهِ حَقِيقَة الْكَلَام. فَالَّذِي يَدعِي أَن ذَكَاة الْأُم تغني عَن ذَكَاة الْجَنِين، فَإِن دَعْوَاهُ لَا تشهد لَهَا الْعَرَبيَّة.
وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ مَا روى الدَّارَقُطْنِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " بعث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يزِيد بن وَرْقَاء على جمل أَوْرَق ليصيح فِي فجاج منى: أَلا إِن الذَّكَاة فِي الْحلق واللبة ". بَين النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن جنس الذَّكَاة منحصر فِي الْحلق واللبة، لِأَنَّهُ ذكرهَا بلام التَّعْرِيف وَلَا مَعْهُود هُنَا، فَكَانَ لتعريف

(2/624)


الْجِنْس بِالضَّرُورَةِ. فَلَو حل الْجَنِين مَعَ أَن ذَكَاته لَيست فِي الْحلق واللبة لَا يكون جِنْسا منحصرا فِيهِ، فيتطرق الْخلف إِلَى كَلَام رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَإنَّهُ محَال.
فَإِن قيل: إِن التَّرْكِيب فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه "، إِمَّا لبَيَان أَن الأول يعْمل عمل الثَّانِي وَيقوم مقَامه، كَمَا فِي الحَدِيث: " علم الرجل خَلِيله، وعقله وزيره، أَي أَن علمه يعْمل عمل خَلِيله، وَيقوم مقَامه، وعقله يعْمل عمل وزيره، وَيقوم مقَامه.
وَإِمَّا لبَيَان أَن الثَّانِي يعْمل عمل الأول، وَيقوم مقَامه. كَقَوْل الْقَائِل فِي وصف قلم الممدوح:
(لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل)

أَي أَن لعاب قلمه يعْمل عمل لعاب الأفاعي فِي إِلْحَاق المكاره والمضار بأعدائه / وَيعْمل عمل الْعَسَل الصافي فِي إِلْحَاق الملاذ والمسار بأوليائه. وَالْأول غير مُرَاد هُنَا، لِأَن ذَكَاة الْجَنِين لَا تعْمل عمل ذَكَاة الْأُم وَلَا تقوم مقَامهَا بِالْإِجْمَاع. فَتعين الثَّانِي مرَادا بِالضَّرُورَةِ. وَهُوَ أَن تعْمل ذَكَاة الْأُم عمل ذَكَاة الْجَنِين فِي إِفَادَة الْحل وَتقوم مقَامهَا، وَلِأَنَّهُ جُزْء مِنْهَا مُتَّصِل بهَا فيذكى بذكاتها كَسَائِر أَجْزَائِهَا الْمُتَّصِلَة بهَا.
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون لبَيَان معنى ثَالِث وَهُوَ تَشْبِيه الأول بِالثَّانِي، كَقَوْلِهِم:
(فعيناك عَيناهَا وجيدك جيدها ... سوى أَن عظم السَّاق مِنْك دَقِيق)

أَي عَيْنَاك يَا ظَبْيَة شبيهتان بعيني الحبيبة، يَعْنِي كَمَا أَن عينيها حَسَنَتَانِ، دعجاوان، حوراوان، نجلاوان، فَكَذَلِك عَيْنَاك وعَلى هَذَا يحْتَمل أَن يكون المُرَاد: (ذَكَاة الْجَنِين) شَبيهَة بِذَكَاة الْأُم، أَي كَمَا أَن أمه لَا تحل إِلَّا بِوُقُوع ذكاتها فِي الْحلق واللبة، فَكَذَلِك الْجَنِين لَا يحل (إِلَّا) بِوُقُوع ذَكَاته فِي حلقه ولبته. فَكَانَ ذَلِك

(2/625)


الحَدِيث مُشْتَرك الدّلَالَة، فَيبقى مَا رَوَاهُ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله سالما. قَوْلهم: إِنَّه جُزْء مُتَّصِل، قُلْنَا: نعم لكنه مُنْفَرد بِالْحَيَاةِ، فَوَجَبَ أَن ينْفَرد بالذكاة، لِأَن مَا فِي الْجَنِين من الدَّم المسفوح لَا ينْفَصل بِذَكَاة الْأُم، فَلَا يتذكى بذكاتها بِالضَّرُورَةِ.
فَإِن قيل: روى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهم هَذَا الحَدِيث وَفِيه: " فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، نَنْحَر النَّاقة، ونذبح الْبَقَرَة وَالشَّاة، فنجد فِي بَطنهَا الْجَنِين، أفنلقيه أم نأكله؟ قَالَ: كلوه إِن شِئْتُم فَإِن ذَكَاته ذَكَاة أمه ".
قلت: قَالَ الإِمَام أَبُو زيد: لَعَلَّ هَذَا الحَدِيث لم يبلغ أَبَا حنيفَة، فَإِنَّهُ لَا تَأْوِيل لَهُ، وَأجَاب بعض أَصْحَابنَا عَنهُ فَقَالَ: هُوَ معَارض بقوله تَعَالَى: {أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس} . وَفِي الْجَنِين دم مسفوح بِالْإِجْمَاع، لِأَنَّهُ (لَو) خرج حَيا وَلم ينْفَصل عَنهُ مَا فِيهِ من الدَّم بالذكاة حَتَّى مَاتَ، لم يُؤْكَل فَإِذا (انجمد الدَّم) المسفوح فِي أَجْزَائِهِ ممتزجا بهَا وَجب الِاحْتِرَاز والاجتناب عَن جَمِيع أَجْزَائِهِ. وَاحْتِمَال تَأْخِير الْآيَة عَن هَذَا الحَدِيث ثَابت، فَيكون حكم الحَدِيث منتهيا بِالْآيَةِ قطعا، وَلَا كَذَلِك بِتَقْدِير أَن يكون الحَدِيث مُتَأَخِّرًا.
(ذكر الْغَرِيب:)

اللبة: المنحر، / وأري الجنى الْعَسَل، وشرت الْعَسَل، واشترته: اجتنيته، والدعج: شدَّة سَواد الْعين مَعَ سعتها، يُقَال: عين دعجاء، والنجل بِالتَّحْرِيكِ: سَعَة شقّ الْعين، وَمِنْه عين نجلاء. وَالله أعلم.

(2/626)


(بَاب إِذا ترك الذَّابِح التَّسْمِيَة فذبيحته ميتَة)

لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} ، فَإِنَّهُ عَام فِي كل ذبيح ترك عَلَيْهِ التَّسْمِيَة. لَكِن الْمَتْرُوك سَهوا صَار مُسْتَثْنى عَنهُ بِالْإِجْمَاع، فَبَقيَ الْبَاقِي تَحت الْعُمُوم. وَلَا يجوز حمل الْآيَة على تَحْرِيم الْميتَة، لِأَنَّهُ صرف الْكَلَام إِلَى مجازه مَعَ إِمْكَان الإجراء على حَقِيقَته. كَيفَ وَتَحْرِيم الْميتَة مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْآيَة.
وَيُؤَيّد هَذَا مَا روى مُسلم: عَن عدي بن حَاتِم رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَأَلت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قلت: (إِنَّا قوم) نصيد بِهَذِهِ الْكلاب، فَقَالَ: إِذا أرْسلت كلابك المعلمة وَذكرت اسْم الله عَلَيْهَا، فَكل مِمَّا أمسكن عَلَيْك وَإِن قتلن، إِلَّا أَن يَأْكُل الْكَلْب. وَإِن أكل فَلَا تَأْكُل، فَإِنِّي أَخَاف (أَن يكون إِنَّمَا) أمسك على نَفسه، وَإِن خالطها كلاب من غَيرهَا فَلَا تَأْكُل ". وَفِي رِوَايَة: " فَإِنَّمَا سميت على كلبك وَلم تسم على غَيره ".
فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة مُعَارضَة بقوله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذكيتم} . اسْتثْنِي عَن الْمُحرمَات، وَمَعْنَاهُ إِلَّا مَا ذكيتم فَيحل. فآية التَّسْمِيَة (بعمومها وإطلاقها، تَقْتَضِي تَحْرِيم كل مَتْرُوك التَّسْمِيَة. وَهَذِه الْآيَة تَقْتَضِي تَحْلِيل كل مذكاة متروكة التَّسْمِيَة)

(2/627)


عَلَيْهَا. وَهَذَا لَو أحللناه بِعُمُوم آيَة المذكاة، لزم تَأْوِيل آيَة التَّسْمِيَة إِلَى مجازه، وَإِن حرمناه بِعُمُوم آيَة التَّسْمِيَة لزم تَخْصِيص آيَة المذكاة بمذكاة ذكر عَلَيْهَا اسْم الله تَعَالَى. وَلَيْسَ تَخْصِيص الْآيَة أولى من تَأْوِيلهَا فَعَلَيْكُم التَّرْجِيح.
قيل لَهُ: إِجْرَاء آيَة التَّسْمِيَة على عمومها وَتَخْصِيص آيَة المذكاة أولى، لِأَن آيَة التَّسْمِيَة تَقْتَضِي الْحَظْر وَآيَة المذكاة تَقْتَضِي الْإِبَاحَة. وَمَتى تعَارض دَلِيل الْحَظْر وَدَلِيل الْإِبَاحَة كَانَ دَلِيل الْحَظْر أولى لِأَنَّهُ أحوط.
فَإِن قيل: فعلى هَذَا يصير التَّقْدِير عنْدكُمْ: " إِلَّا مَا ذكيتم وسميتم عَلَيْهِ الله تَعَالَى "، وَكَذَا: " وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ عمدا "، وَهَذِه زِيَادَة تجْرِي مجْرى النّسخ عنْدكُمْ.
قيل لَهُ: أما آيَة التَّسْمِيَة فَلَيْسَ قَوْلنَا " عمدا " زِيَادَة، لِأَن قَوْله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} يعم الْعمد / وَالنِّسْيَان، (خرج النسْيَان) بِالْإِجْمَاع وَبَقِي الْعمد على مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَأما آيَة المذكاة، فَإِنَّمَا قيدناها بِآيَة التَّسْمِيَة، وَهَذَا وَإِن جرى مجْرى النّسخ عندنَا وَلكنه إِنَّمَا يمْتَنع إِذا كَانَ بِدَلِيل أَضْعَف مِنْهُ، وَآيَة التَّسْمِيَة والمذكاة على حد سَوَاء، والنسخ بِالْمثلِ جَائِز.
(بَاب فِي الذّبْح بِالسِّنِّ وَالظفر)

رُوِيَ فِي الصَّحِيح عَن رَافع بن خديج رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قلت يَا رَسُول الله: " إِنَّا لآتوا الْعَدو غَدا، وَلَيْسَت مَعنا مدى، فَقَالَ: مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ

(2/628)


فَكل، لَيْسَ السن وَالظفر، وسأحدثك: أما السن: فَعظم، و (أما) الظفر: فمدى الْحَبَشَة ".
قَالَ أَبُو جَعْفَر رَحمَه الله: " فَفِي هَذَا الحَدِيث إِخْرَاج النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] السن وَالظفر مِمَّا أَبَاحَ الذَّكَاة بِهِ، فَاحْتمل أَن يكون ذَلِك (على) المنزوعتين،، فَإِن كَانَ ذَلِك على المنزوعتين (فهما إِذا كَانَا غير منزوعتين أَحْرَى أَن يَكُونَا كَذَلِك، وَإِن كَانَ ذَلِك (على) غير المنزوعتين) فَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل على حكم المنزوعتين كَيفَ هُوَ. فَلَمَّا أحَاط الْعلم بِوُقُوع النَّهْي فِي هَذَا على غير المنزوعتين وَلم يحط الْعلم بِوُقُوعِهِ على المنزوعتين. وَقد جَاءَ فِي حَدِيث عدي بن حَاتِم قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله (أرسل) كَلْبِي يَأْخُذ الصَّيْد فَلَا يكون معي شَيْء أذكيه إِلَّا الْمَرْوَة والعصا، قَالَ أنهر الدَّم بِمَا شِئْت، وَاذْكُر اسْم الله مُطلقًا ". أخرجنَا (مِنْهُ) مَا أحَاط الْعلم بِإِخْرَاج حَدِيث رَافع إِيَّاه مِنْهُ وَتَركنَا مَا لم يحط الْعلم بِإِخْرَاج حَدِيث (رَافع) مِنْهُ على

(2/629)


مَا أطلقهُ حَدِيث عدي ". وَقد روى الطَّحَاوِيّ: عَن أبي رَجَاء العطاردي قَالَ: " خرجنَا حجاجا فصاد رجل من الْقَوْم أرنبا، فذبحها بظفره فأكلوها وَلم آكل مَعَهم، فَلَمَّا قدمنَا الْبَلَد سَأَلنَا ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: لَعَلَّك أكلت مَعَهم، قَالَ: قلت: لَا، قَالَ: أصبت، إِنَّمَا قَتلهَا خنقا ".
أَفلا ترى ابْن عَبَّاس قد بَين فِي حَدِيثه الْمَعْنى الَّذِي (بِهِ) حرم أكل مَا ذبح بالظفر (أَنه الخنق، لِأَن من يذبح بِهِ إِنَّمَا يذبح بكف لَا بغَيْرهَا فَهُوَ مخنوق. فَدلَّ ذَلِك إِنَّمَا نهي عَنهُ من الذّبْح بالظفر) إِنَّمَا هُوَ الظفر الْمركب فِي الْكَفّ، لَا (الشفر) المنزوع مِنْهَا. وَكَذَلِكَ مَا نهى عَنهُ من الذّبْح بِالسِّنِّ فَإِنَّمَا هُوَ على السن المركبة فِي الْفَم، لِأَن بذلك يكون / (عضا) فَأَما السن المنزوعة فَلَا.
(بَاب الْأُضْحِية وَاجِبَة)

قَالَ الله تَعَالَى: {فصل لِرَبِّك وانحر} رُوِيَ أَنه أَرَادَ بِالصَّلَاةِ صَلَاة يَوْم الْعِيد، وبالنحر الْأُضْحِية. وَالْأَمر يَقْتَضِي الْإِيجَاب، وَإِذا وَجب على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَهُوَ وَاجِب علينا، لقَوْله تَعَالَى: {فَاتَّبعُوهُ} و {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} .
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " من فعل ذَلِك فقد أصَاب سنتنا "، لَا يدل على أَنَّهُمَا غير

(2/630)


مَأْمُور بهما فِي الْكتاب، لِأَن مَا سنه الله وفرضه، فَجَائِز أَن نقُول: هَذَا سنتنا وفرضنا، كَمَا نقُول: ديننَا، وَإِن كَانَ الله (قد) فَرْضه علينا. وَتَأْويل من تَأَوَّلَه على حَقِيقَة نحر الْبدن أولى، لِأَنَّهُ لَا يعقل بِإِطْلَاق اللَّفْظ غَيره، وَلَا يعقل مِنْهُ وضع الْيَمين على الشمَال تَحت النَّحْر.
وروى أَحْمد بن حَنْبَل: عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من وجد سَعَة فَلم يضح فَلَا يقربن مصلانا ".
فَإِن قيل: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله: " هَذَا حَدِيث مُنكر "، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: " قد رُوِيَ مَوْقُوفا، وَالْمَوْقُوف أصح ".
قيل: (كَونه مُنْكرا يحْتَاج إِلَى دَلِيل، و) كَونه مَوْقُوفا لَا يمْنَع (صِحَة) الِاحْتِجَاج بِهِ، لِأَن مثل هَذَا لَا يَقُوله عَن رَأْي، ثمَّ قد أخرج فِي الصَّحِيح عَن الْبَراء قَالَ: " خَطَبنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: (إِن) أول مَا نبدأ بِهِ فِي يَوْمنَا هَذَا أَن نصلي ثمَّ نرْجِع فننحر. من فعل ذَلِك فقد أصَاب سنتنا، وَمن ذبح قبل ذَلِك فَإِنَّمَا هُوَ لحم قدمه لأَهله لَيْسَ من النّسك فِي شَيْء. فَقَالَ (أَبُو بردة) : يَا رَسُول الله ذبحت

(2/631)


وَعِنْدِي جَذَعَة خير من مُسِنَّة، قَالَ: اجْعَلْهَا مَكَانهَا وَلنْ تجزي أَو توفّي عَن أحد بعْدك ". وَجه التَّمَسُّك بِهَذَا الحَدِيث: أَنه فِيهِ لفظ السّنة وَهِي الطَّرِيقَة، وَفِيه " لن تجزي " والأغلب اسْتِعْمَالهَا فِي الْوَاجِبَات.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: " يَا رَسُول الله أستدين وأضحي؟ قَالَ: نعم ".
فَإِن قيل: فِيهِ هرير بن عبد الرَّحْمَن بن رَافع بن خديج، وَلم يسمع من عَائِشَة وَلم يُدْرِكهَا.
قيل لَهُ: فَهُوَ مُرْسل، والمرسل حجَّة. وروى أَحْمد بن حَنْبَل عَن مخنف بن سليم قَالَ: " بَيْنَمَا نَحن مَعَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ وَاقِف بِعَرَفَة قَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِن على كل أهل بَيت (فِي كل عَام) أضْحِية / وعتيرة، تَدْرُونَ مَا العتيرة؟ هِيَ: الَّتِي يَقُول النَّاس الرجبية ".

(2/632)


فَإِن قيل: فِي الحَدِيث رجل مَجْهُول، والْحَدِيث مَتْرُوك إِذْ لَا تسن عتيرة أصلا، وَلَو قُلْنَا بِوُجُوب الْأُضْحِية لكَانَتْ على الشَّخْص الْوَاحِد (لَا) على جَمِيع أهل الْبَيْت.
قيل لَهُ: إِن جَهَالَة الرَّاوِي لَا تقدح فِي صِحَة الحَدِيث. وَفِي الحَدِيث وَالله أعلم (حذف) مُضَاف تَقْدِيره: " وعَلى كل قيم أهل بَيت أضْحِية ".
وروى الطَّحَاوِيّ عَن جُنْدُب قَالَ: " شهِدت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَقد صلى بِالنَّاسِ (الْعِيد) فَإِذا هُوَ بِغنم قد ذبحت، فَقَالَ: من (كَانَ) ذبح قبل الصَّلَاة فَتلك شَاة لحم، وَمن لم يكن ذبح فليذبح على اسْم الله ".
وَعنهُ: عَن جُنْدُب بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : - يَعْنِي فِي يَوْم النَّحْر - " من كَانَ ذبح قبل أَن يُصَلِّي فليعد مَكَانهَا أُخْرَى، وَمن لم يكن ذبح فليذبح ".
فَثَبت بِهَذِهِ الْأَحَادِيث أَن الْأُضْحِية وَاجِبَة، وَأَن أول وَقت الذّبْح فِي (يَوْم) النَّحْر هُوَ من بعد الصَّلَاة لَا من بعد ذبح الإِمَام.

(2/633)


فَإِن قيل: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا (عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " ثَلَاث هن عَليّ فَرِيضَة وَلكم تطوع، مِنْهَا النَّحْر ".
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا) قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " كتب عَليّ النَّحْر وَلم يكْتب عَلَيْكُم ".
وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " أمرت بالنحر وَلَيْسَ بِوَاجِب ".
قيل لَهُ: الحَدِيث الأول يرويهِ (أَبُو جناب) وَهُوَ مَتْرُوك. وَفِي الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث جَابر الْجعْفِيّ، وَهُوَ ضَعِيف. فَلَا يُعَارض مَا ذكرنَا من الْأَحَادِيث.
وروى التِّرْمِذِيّ: عَن جبلة بن سحيم: " أَن رجلا سَأَلَ ابْن عمر عَن الْأُضْحِية أَوَاجِبَة هِيَ؟ فَقَالَ: ضحى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وضحى الْمُسلمُونَ، فَأَعَادَهَا

(2/634)


عَلَيْهِ، فَقَالَ: أتعقل، ضحى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] والمسلمون ". هَذَا حَدِيث (حسن) صَحِيح.
وَفِي الحَدِيث إِشَارَة إِلَى وُجُوبهَا، فَإِنَّهُ لما أعَاد عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة فِي الْمرة الثَّانِيَة، وَقَالَ: " أتعقل " فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْأُضْحِية سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَمن لم يضح دخل فِي قَوْله تَعَالَى: {يتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} الْآيَة.
وَمِمَّا يدل على وجوب الْأُضْحِية قَوْله تَعَالَى: {قل إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت} ، فقد اقْتضى (الْأَمر بالضحية) (لِأَن النّسك فِي (هَذَا الْموضع) المُرَاد بِهِ الْأُضْحِية) . رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول عِنْد بالأضحية: / {قل إِن صَلَاتي ونسكي} الْآيَة.
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن أول نسكنا فِي يَوْمنَا هَذَا "، يدل على أَن هَذَا النّسك أُرِيد بِهِ الْأُضْحِية، وَأخْبر الله تَعَالَى أَنه مَأْمُور بذلك، وَالْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب. وَالله أعلم.

(2/635)


(بَاب أَيَّام الْأُضْحِية يم النَّحْر ويومان بعده)

لِأَنَّهُ لَو كَانَ أَيَّام النَّحْر أَيَّام التَّشْرِيق (لما كَانَ بَينهمَا فرق. و) كَانَ ذكر أحد العددين يَنُوب عَن الآخر.
فَلَمَّا وجدنَا الرَّمْي فِي يَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق وَوجدنَا النَّحْر فِي يَوْم النَّحْر، - وَقَالَ قَائِلُونَ إِلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق، وَقُلْنَا يَوْمَانِ بعده - وَجب أَن نوجب فرقا بَينهمَا لإِثْبَات كل وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ، وَهُوَ أَن يكون من أَيَّام التَّشْرِيق مَا لَيْسَ من أَيَّام النَّحْر، وَهُوَ آخر أَيَّامهَا. وَإِلَى هَذَا ذهب عَليّ، وَابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَأنس بن مَالك، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَسَعِيد بن جُبَير، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَالثَّوْري، رَحِمهم الله.
(بَاب فِي الْعُيُوب الَّتِي لَا تجزي الْهَدَايَا والضحايا إِذا كَانَت بهَا)

أَبُو دَاوُد: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أمرنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَن نستشرف الْعين، وَالْأُذن، وَلَا نضحي بعوراء، وَلَا مُقَابلَة، وَلَا مدابرة، وَلَا خرقاء، وَلَا شرقاء.

(2/636)


قَالَ زُهَيْر: فَقلت لأبي إِسْحَاق (أذكر عضباء؟ قَالَ: لَا قلت: فَمَا الْمُقَابلَة؟ قَالَ: تقطع طرف الْأذن) ، قلت: فَمَا المدابرة؟ قَالَ: تقطع من مُؤخر الْأذن، قلت: فَمَا الشرقاء؟ قَالَ: تشق الْأذن، قلت: فَمَا الخرقاء؟ قَالَ: تخرق أذنها للسمة ".
وَعنهُ: عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نهى أَن يضحى بعضباء الْقرن وَالْأُذن، قَالَ قَتَادَة: قلت لسَعِيد بن الْمسيب: مَا العضب؟ قَالَ: النّصْف فَمَا فَوْقه ". يَعْنِي إِذا كَانَ مَقْطُوعًا. ثمَّ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " أَربع لَا تجزي فِي الْأَضَاحِي، العوراء الْبَين عورها، والمريضة الْبَين مَرضهَا، والعرجاء الْبَين ضلعها، الكسيرة الَّتِي لَا تنقي "، لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن:
إِمَّا أَن يكون مُتَقَدما على حَدِيث عَليّ، فَيكون حَدِيث عَليّ (هَذَا زَائِدا عَلَيْهِ.
أَو مُتَأَخِّرًا عَنهُ فَيكون نَاسِخا لَهُ. فَلَمَّا لم نعلم نسخ حَدِيث عَليّ) بعد مَا علمنَا ثُبُوته جَعَلْنَاهُ ثَابتا مَعَ هَذَا الحَدِيث وَاجِب الْعَمَل بِهِ. وَالَّتِي لَا تنقى: الَّتِي (لَيْسَ) لَهَا مخ.

(2/637)


(بَاب الْعَقِيقَة مُبَاحَة من شَاءَ فعلهَا وَمن شَاءَ تَركهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ لوم)

أَبُو دَاوُد: عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه (أرَاهُ) ، عَن جده قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الْعَقِيقَة فَقَالَ: لَا يحب الله العقوق - كَأَنَّهُ كره الِاسْم - وَقَالَ: من ولد لَهُ ولد فَأحب أَن ينْسك عَنهُ فلينسك، عَن الْغُلَام شَاتَان / مكافئتان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة ".

(2/638)