اللباب في شرح الكتاب

كتاب الصرف.
- الصرف هو البيع إذا كان كل واحدٍ من العوضين من جنس الأثمان، فإن باع فضة بفضةٍ أو ذهباً بذهبٍ لم يجز إلا مثلاً بمثلٍ وإن اختلفا في الجودة والصياغة، ولابد من قبض العوضين قبل الافتراق (1) ، وإذا باع الذهب بالفضة جاز التفاضل ووجب التقابض، وإن افترقا في الصرف قبل قبض العوضين أو أحدهما بطل العقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الصرف
لما كان البيع بالنظر إلى المبيع أربعة أنواع: بيع العين بالعين، والعين بالدين، والدين بالعين والدين بالدين، وبين الثلاثة الأول - شرع في بيان الرابع، فقال:
(الصرف هو البيع إذا كان كل واحد من عوضيه من جنس الأثمان) الذهب والفضة (فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لم يجز إلا مثلا بمثل) : أي متساوياً وزناً (وإن اختلفا في الجودة والصياغة) لما مر في الربا من أن الجودة إذا لاقت جنسها فيما يثبت فيه الربا لا قيمة لها (ولابد) لبقائه على الصحة (من قبض العوضين قبل الافتراق) بالأبدان، حتى لو ذهبا عن المجلس يمشيان معا في جهة واحدة أو ناما في المجلس أو أغمي عليهما لا يبطل الصرف. هداية (وإذا باع الذهب بالفضة جاز التفاضل) لاختلاف الجنس (ووجب التقابض) لحرمة النساء (وإن افترقا في الصرف قبل قبض العوضين أو أحدهما بطل العقد) لفوات شرط الصحة - وهو القبض قبل الافتراق - ولهذا لا يصح شرط الخيار فيه؛ لأنه لا يبقى القبض مستحقا، ولا الأجل، لفوات القبض. فإن أسقط الخيار أو الأجل من هو له قبل الافتراق عاد جائزاً؛ لارتفاعه قبل تقرر الفساد، بخلافه بعد الافتراق؛ لتقرره.
_________
(1) هذا ثابت بإجماع الفقهاء ودليله ما ورد في حديث الذهب والفضة من قوله يدا بيد وروى مالك في الموطأ عن عمر قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز وإن اسنتظرك أن يلج بينه فلا تنظره إلا يداً بيد وهاك وهاك إني أخشى عليكم الربا

(2/47)


ولا يجوز التصرف في ثمن الصرف قبل قبضه.
ويجوز بيع الذهب بالفضة مجازفةً.
ومن باع سيفاً محلى بمائة درهمٍ وحليته خمسون درهماً فدفع من ثمنه خمسين جاز البيع، وكان المقبوض حصة الفضة وإن لم يبين ذلك، وكذلك إن قال: خذ هذه الخمسين من ثمنهما، فإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد في الحلية والسيف إن كان لا يتخلص إلا بضررٍ، وإن كان يتخلص بغير ضررٍ جاز البيع في السيف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولا يجوز التصرف في ثمن الصرف قبل قبضه) ؛ لما مر أن القبض شرط لبقائه على الصحة، وفي جواز التصرف فيه قبل قبضه فواته.
(ويجوز بيع الذهب بالفضة مجازفة) ، لأن المساواة فيه غير مشروطة، لكن بشرط التقابض في المجلس.
(ومن باع سيفاً محلى) بفضة (بمائة درهم) فضة (وحليته خمسون درهماً فدفع) المشتري (من ثمنه خمسين) درهماً (جاز البيع وكان المقبوض حصة الفضة) التي هي الحلية (وإن لم يبين) المشتري (ذلك) ؛ لأن قبض حصتها في المجلس واجب لكونه بدل الصرف، والظاهر من حاله أنه يأتي بالواجب (وكذلك إن قال: خذ هذه الخمسين من ثمنهما) تحريا للجواز؛ لأنه يذكر الاثنان ويراد به الواحد كما في قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (1) } (الآية 22 من سورة الرحمن) . وكذا لو قال: هذا المعجل حصة السيف؛ لأنه اسم للحلية أيضاً لدخولها في بيعه تبعاً، ولو زاده "خاصة" فسد البيع؛ لإزالة الاحتمال، كما في الهداية. (فإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد في الحلية) ؛ لأنه صرف؛ وشرطه التقابض قبل الافتراق (و) كذا في (السيف إذا كان لا يتخلص إلا بضرر) ؛ لأنه لا يمكن تسليمه بدون الضرر؛ ولهذا لا يجوز إفراده بالعقد كالجذع في السقف (وإن كان يتخلص بدون ضرر جاز البيع في السيف) ؛ لأنه أمكن إفراده بالبيع فصار كالطوق

(2/48)


وبطل في الحلية، ومن باع إناء فضةٍ ثم افترقا وقد قبض بعض ثمنه بطل العقد فيما لم يقبض، وصح فيما قبض وكان الإناء مشتركاً بينهما، وإن استحق بعض الإناء كان المشتري بالخيار: إن شاء أخذ الباقي بحصته من الثمن، وإن شاء رده، ومن باع قطعة نقرةٍ فاستحق بعضها أخذ ما بقي بحصته، ولا خيار له، ومن باع درهمين وديناراً بدينارين ودرهم جاز البيع وجعل كل واحدٍ من الجنسين بالجنس الآخر، ومن باع أحد عشر درهماً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والجارية، وهذا إذا كانت الفضة المفروزة أزيد من الحلية، فإن كانت مثلها أو أقل أو لا يدري لا يجوز البيع (وبطل في الحلية) ؛ لعدم التقابض الواجب، والأصل في ذلك أنه من بيع عقد مع غيره كمفضض ومزركش بنقد من جنسه يشترط زيادة الثمن والتقابض، وإن بغير جنسه شرط التقابض فقط (ومن باع إناء فضة ثم افترقا وقد قبض) البائع (بعض ثمنه بطل العقد فيما لم يقبض) فقط (وصح فيما قبض وكان الإناء شركة بينهما) ؛ لأن الإناء كله صرف؛ فصح فيما وجد شرطه، وبطل فيما لم يوجد، والفساد طارئ، لأنه يصح ثم يبطل بالافتراق فلا يشيع. هداية (وإن استحق بعض الإناء) بالبرهان (كان المشتري بالخيار: إن شاء أخذ الباقي بحصته، وإن شاء رده) لتعيبه بغير صنعه؛ لأن الشركة عيب، والفرق بين هذه والتي قبلها أن الشركة في الأولى من جهة المشتري، وهنا كانت موجودة مقارنة للعقد. عيني.
(وإن باع قطعة نقرة) : أي فضة غير مضروبة (فاستحق بعضها أخذ ما بقي بحصته ولا خيار له) ؛ لأنها لا يضرها التبعيض (ومن باع درهمين وديناراً بدينارين ودرهم) أو كر بر وكر شعير بكرى بر وكري شعير (جاز البيع وجعل كل واحد من الجنسين بالجنس الآخر) ؛ لأنه طريق متعين للصحة فيحمل عليه تصحيحا لتصرفه، والأصل؛ أن العقد إذا كان له وجهان أحدهما يصححه والآخر يفسده حمل على ما يصححه. جوهرة (ومن باع أحد عشر درهما)

(2/49)


بعشرة دراهم ودينارٍ جاز البيع وكانت العشرة بمثلها، والدينار بدرهمٍ، ويجوز بيع درهمين صحيحين ودرهمٍ غلةً بدرهمٍ صحيحٍ ودرهمين غلةً، وإذا كان الغالب على الدراهم الفضة فهي فضةٌ، وإن كان الغالب على الدنانير الذهب فهي ذهبٌ، ويعتبر فيهما من تحريم التفاضل ما يعتبر في الجياد، وإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير، فإذا بيعت بجنسها متفاضلاً جاز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فضة (بعشرة دراهم) فضة (ودينار) ذهبا (جاز البيع وكانت العشرة بمثلها والدينار بدرهم) ، لأن شرط البيع في الدراهم التماثل، فالظاهر أنه أراد به ذلك، فيبقى الدرهم بالدينار، وهما جنسان لا يعتبر التساوي فيهما. ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهبا بذهب وأحدهما أقل ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهة، وإن لم تبلغ فمع الكراهة، وإن لم تكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع؛ لتحقق الربا، إذا الزيادة لا يقابلها عوض. هداية. (ويجوز بيع درهمين صحيحين ودرهم غلة) - بفتح أوله وتشديد ثانيه - فضة رديئة بردها بيت المال ويقبلها التجار (بدرهم صحيح ودرهمين غلة) للمساواة وزنا وعدم اعتبار الجودة (وإذا كان الغالب على الدراهم) المغشوشة (الفضة فهي) كلها (فضة) حكما (و) كذا (إذا كان الغالب على الدنانير) المغشوشة (الذهب فهي) كلها (ذهب) حكما (و) كذا (يعتبر فيهما من تحريم التفاضل ما يعتبر في الجياد) ، لأن النقود لا تخلو عن قليل غش خلقه أو عادة لأجل الانطباع، فإنها بدونه تتفتت، وحيث كان كذلك اعتبر الغالب، لأن المغلوب في حكم المستهلك (وإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير) اعتباراً للغالب (فإذا) اشترى بها فضة خالصة فهي على الوجوه التي ذكرت في حلية السيف، وإذا (بيعت بجنسها متفاضلا جاز) بصرف الجنس لخلافه؛ لأن الغش الذي بها معتبر لكونه غالبا، والذهب والفضة معتبر أيضاً، فكان

(2/50)


وإذا اشترى بها سلعةً ثم كسدت وترك الناس المعاملة بها بطل البيع عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع،
وقال محمدٌ: عليه قيمتها آخر ما تعامل الناس بها.
ويجوز البيع بالفلوس النافقة وإن لم تتعين، وإن كانت كاسدةً لم يجز البيع بها حتى يعينها، وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لكل واحد منهما حكم نفسه، بشرط التقابض لوجود القدر، (وإذا اشترى بها) : أي بالدراهم الغالبة الغش وهي نافقة (سلعة ثم كسدت) تلك الدراهم قبل التسليم إلى البائع (فترك الناس المعاملة) بها في جميع البلاد، فلو راجت في بعضها لم يبطل البيع، ولكن يخير البائع لتعيبها، أو انقطعت عن أيدي الناس (بطل البيع عند أبي حنيفة) ، لأن الثمينة بالاصطلاح، ولم يبقى، فبقي البيع بلا ثمن فيبطل، وإذا بطل وجب رد المبيع إن كان قائما وقيمته إن كان هالكا كما في البيع الفاسد. فيض (وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع) لأن العقد قد صح، إلا أنه تعذر التسليم بالكساد، وهو لا يوجب الفساد وإذا بقي العقد بها تجب القيمة يوم البيع، لأن الضمان به (وقال محمد: عليه قيمتها آخر ما تعامل الناس بها) لأنه أوان الانتقال إلى القيمة، وبه يفتي كما في الخانية والخلاصة والفتاوى الصغرى والكبرى والحقائق عن المحيط والتتمة، وعزاه في الذخيرة إلى الصدر الشهيد، وكثير من المشايخ قيد بالكساد، لأنها إذا غلت أو رخصت قبل القبض كان المبيع على حاله إجماعا، ولا خيار لواحد منهما، ويطالب بنقد ذلك المعيار الذي كان وقت البيع، كما في الفتح.
(ويجوز البيع بالفلوس) مطلقاً، لأنها مال معلوم، لكن (النافقة) يجوز البيع بها (وإن لم تتعين) لأنها أثمان بالاصطلاح. فلا فائدة في تعينها (وإن كانت كاسدة لم يجز البيع بها حتى يعينها) بالإشارة إليها، لأنها سلع فلابد من تعينها (وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت) أو انقطعت (بطل البيع عند أبي حنيفة)

(2/51)


ومن اشترى شيئاً بنصف درهمٍ فلوساً جاز البيع وعليه ما يباع بنصف درهمٍ من الفلوس، ومن أعطى الصيرفي درهماً وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خلافاً لهما، وهو نظير الخلاف الذي بيناه. هداية، وفيها: لو استقرض فلوساً فكسدت عند أبي حنيفة عليه مثلها، لأنه إعارة وموجبها رد العين معنى، والثمينة فيه، إذ القرض لا يختص به، وعندهما يجب قيمتها، لأنه بطل وصف الثمينة تعذر ردها كما قبض، فيجب رد القيمة، كما إذا استقرض مثلياً فانقطع، لكن عند أبي يوسف يوم القبض وعند محمد يوم الكساد على ما مر من قبل، اهـ. قال شيخنا في رسالته: اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها كما يظهر بالتأمل، ويدل عليه اقتصارهم في بعض المواضع على الفلوس؛ وفي بعضها ذكر العدالي معها، فإن العدالي كما في البحر - الدراهم المنسوبة إلى العدل، وكأنه اسم ملك ينسب إليه درهم فيه غش، ولم يظهر حكم النقود الخالصة أو المغلوبة الغش، وكأنهم لم يتعرضوا لها لندرة انقطاعها أو كسادها، لكن يكثر في زماننا غلاؤها ورخصها فيحتاج إلى بيان الحكم فيها، ولم أر من نبه عليها، نعم يفهم من التقييد أن الخالصة أو المغلوبة لبس حكمها كذلك، والذي يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعاً؛ ولا يجب إلا ما وقع عليه العهد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفاً وخلقة؛ والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف، على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف إنما هو الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها، وبهذا يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى، كما تدل عليه عباراتهم، فحيث كان الواجب ما وقع عليه العقد في الدراهم التي غلب غشها إجماعا ففي الخالصة ونحوها أولى، وتمامه فيها (ومن اشترى شيئاً بنصف درهم) مثلا (فلوساً جاز البيع) بلا بيان عددها (وعليه) : أي البائع (ما يباع بنصف درهم من الفلوس) ، لأنه عبارة عن مقدار معلوم منها (ومن أعطى الصيرفي درهما فقال:

(2/52)


أعطني نصفه فلوساً وبنصفه نصفاً إلا حبةً فسد البيع في الجميع عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: جاز البيع في الفلوس، وبطل فيما بقي،
ولو قال (أعطني نصف درهم فلوساً ونصفاً إلا حبةً) جاز البيع وكانت الفلوس والنصف إلا حبةً بدرهمٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أعطني بنصفه فلوسا وبنصفه) الآخر (نصفا إلا حبة فسد البيع في الجميع عند أبي حنيفة) لأن الصفقة متحدة فيشيع الفساد (وقالا: جاز البيع في الفلوس؛ وبطل فيما بقي) لأن بيع نصف درهم بالفلوس جائز، وبيع النصف بنصف إلا حبة ربا فلا يجوز، ولو كرر لفظ الإعطاء كان جوابه كجوابهما، وهو الصحيح؛ لأنهما بيعان. هداية (ولو قال أعطني) به (نصف درهم فلوساً ونصفاً إلا حبة جاز وكانت الفلوس والنصف إلا حبة بدرهم) ؛ لأنه قابل الدرهم بما يباع من الفلوس بنصف درهم وبنصف درهم إلا حبة، فيكون نصف درهم إلا حبة بمثله وما وراءه بإزاء الفلوس. هداية

(2/53)