اللباب
في شرح الكتاب كتاب المضاربة.
- المضاربة: عقدٌ على الشركة بمالٍ من أحد الشريكين وعمل من الآخر، ولا تصح
المضاربة إلا بالمال الذي بينا أن الشركة تصح به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب المضاربة
أوردها بعد الشركة لأنها كالمقدمة للمضاربة؛ لاشتمالها عليها.
(المضاربة) لغةً: مشتقة من الضرب (1) في الأرض، سمى به لأن المضارب يستحق
الربح بسعيه وعمله، وشرعاً: (عقد) بإيجاب وقبول (على الشركة) في الربح
(بمال من أحد الشريكين) وعمل من الآخر، كما في بعض النسخ، ولا مضاربة بدون
ذلك؛ لأنها بشرط الربح لرب المال بضاعة، وللمضارب قرض، وإذا كان المال
منهما تكون شركة عقد.
وهي مشروعة للحاجة إليها؛ فإن الناس بين غني بالمال غبي عن التصرف فيه،
وبين مهتد في التصرف صفر اليد عنه؛ فمست الحاجة إلى شرع هذا النوع من
التصرف؛ لينتظم مصلحة الغبي والذكي، والفقير والغني، وبعث النبي صلى الله
عليه وسلم والناس يباشرونه فقررهم عليه، وتعاملت به الصحابة رضي الله تعالى
عنهم. هداية.
وركنها: العقد، وحكمها إبداع أو لا، وتوكيل عند عمله، وغصب إن خالف، وإجارة
فاسدة: إن فسدت، فله أجر عمله بلا زيادة على المشروط.
وشرط صحتها غير واحد، منها ما عبر عنه بقوله: (ولا تصح المضاربة إلا بالمال
الذي بينا أن الشركة تصح به) وقد تقدم بيانه، ولو دفع إليه عرضاً وقال: بعه
واعمل مضاربة بثمنه، أو اقبض مالي على فلان واعمل به مضاربة - جاز، لأنه
عقد يقبل الإضافة من حيث إنه توكيل، ولا مانع من الصحة، بخلاف ما إذا قال:
"اعمل بالدين الذي عندك" حيث لا يصح، وتمامه في الهداية.
_________
(1) الضرب في الأرض: السفر، ومنه قوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض
يبتغون من فضل الله} أي يسافرون لطلب رزق الله، وقوله "سمى به" يريد سمى
العقد المذكور بهذا الاسم الذي هو المضاربة
(2/131)
ومن شرطها أن يكون الربح بينهما مشاعاً لا
يستحق أحدهما منه دراهم مسماةً، ولابد أن يكون المال مسلماً إلى المضارب،
ولا يد لرب المال فيه، فإذا صحت المضاربة مطلقةً جاز للمضارب أن يشتري
ويبيع ويسافر ويبضع ويوكل، وليس له أن يدفع المال مضاربةً إلا أن يأذن له
رب المال في ذلك، وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه أو في سلعة
بعينها لم يجز له أن يتجاوز ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها قوله: (ومن شرطها أن يكون الربح بينهما مشاعاً) بحيث (لا يستحق
أحدهما منه) أي الربح (دراهم مسماة) لأن ذلك يقطع الشركة بينهما؛ لاحتمال
أن لا يحصل من الربح إلا قدر ما شرطه له كما مر، ومنها قوله: (ولابد أن
يكون المال مسلماً إلى المضارب) ليتمكن من التصرف (و) منها أن يكون (لا يد
لرب المال فيه) بأن لا يشترط عمل رب المال؛ لأنه يمنع خلوص يد المضارب،
ومنها كون رأس المال معلوماً بالتسمية أو الإشارة إليه.
(فإذا صحت المضاربة) باستيفاء شرائطها، وكانت (مطلقة) غير مقيدة بزمان أو
مكان أو نوع (جاز للمضارب أن يشتري ويبيع) بنقد ونسيئة متعارفة و (يسافر)
برا وبحراً (ويبضع ويوكل) ويودع ويرهن ويرتهن ويؤجر ويستأجر، ويحيل ويحتال؛
لإطلاق العقد، والمقصود منه الاسترباح، ولا يتحصل إلا بالتجارة؛ فينتظم
العقد صنوف التجارة وما هو من صنيع التجار، والمذكور كله من صنيع التجار
(وليس له) أي المضارب (أن يدفع المال مضاربة) لأن الشيء لا يتضمن مثله
(إلا) بالتنصيص عليه، مثل (أن يأذن له رب المال في ذلك) به أو التفويض
المطلق إليه، بأن يقول له: اعمل برأيك، ولا يملك الإقراض ولا الاستدانة وإن
قيل له "اعمل برأيك" ما لم ينص عليهما.
(وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه أو في سلعة بعينها لم يجز له) أي
المضارب (أن يتجاوز ذلك) المعين؛ لأن المضاربة تقبل التقييد؛ لأنها توكيل،
وفي التخصيص فائدة فيتخصص، فإن اشترى غير المعين أو في البلد المعين كان
ضامناً للمال، وكان المشتري له، وله ربحه؛ وإن خرج بالمال لبلد
(2/132)
وكذلك إن وقت للمضاربة مدةً بعينها جاز
وبطل العد بمضيها، وليس للمضارب أن يشتري أبا رب المال ولا ابنه ولا من
يعتق عليه، فإن اشتراهم كان مشترياً لنفسه دون المضاربة، وإن كان في المال
ربحٌ فليس له أن يشتري من يعتق عليه، فإن اشتراهم ضمن مال المضاربة، وإن لم
يكن في المال ربحٌ جاز أن يشتريهم، فإن زادت قيمتهم عتق نصيبه منهم، ولم
يضمن لرب المال شيئاً، ويسعى المعتق لرب المال في قيمة نصيبه منه، وإذا دفع
المضارب المال مضاربةً ولم يأذن له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غير المعين ثم رده إلى البلد المعين قبل أن يشتري برئ من الضمان ورجع المال
مضاربة على حاله؛ لبقائه في يده بالعقد السابق، وكذا لو عاد في البعض؛
اعتبارا للجزء بالكل.
(وكذلك إن وقت للمضاربة مدة بعينها جاز) التقييد (وبطل العقد بمضيها) ؛ لأن
الحكم الموقت ينتهي بمضي الوقت.
(وليس للمضارب أن يشتري أبا رب المال ولا ابنه ولا من يعتق عليه) : أي على
رب المال، لأن عقد المضاربة وضع لتحصيل الربح، وهو إنما يكون بشراء ما يمكن
بيعه، وهذا ليس كذلك (فإن اشتراهم كان مشتريا لنفسه دون المضاربة) لأن
الشراء متى وجد نفاذا على المشتري نفذ عليه، كالوكيل بالشراء إذا خالف (وإن
كان في المال ربح فليس له) : أي المضارب (أن يشتري من يعتق عليه) ، لأنه
يعتق عليه نصيبه ويفسد نصيب رب المال (فإذا اشتراهم ضمن مال المضاربة) لأنه
يصير مشتريا لنفسه، فيضمن بالنقد من مال المضاربة (وإن لم يكن في المال ربح
جاز أن يشتريهم) ، لأنه لا مانع من التصرف؛ إذ لا شركة فيه ليعتق عليه (فإن
زادت قيمتهم) بعد الشراء (عتق نصيبه منهم) لملكه بعض قريبه (ولم يضمن لرب
المال شيئاً) ، لأنه لا صنع من جهته في زيادة القيمة ولا في ملكه الزيادة؛
لأن هذا شيء يثبت من طريق الحكم فصار كما إذا ورثه مع غيره (ويسعى المعتق
لرب المال في قيمة نصيبه) أي رب المال (منه) : أي المعتق، لاحتباس ماليته
عنده (وإذا دفع المضارب المال) لآخر (مضاربة ولم يأذن له
(2/133)
رب المال في ذلك لم يضمن بالدفع ولا يتصرف
المضارب الثاني حتى يربح، فإذا ربح ضمن المضارب الأول المال، وإذا دفع إليه
المال مضاربةً بالنصف وأذن له أن يدفعها مضاربةً فدفعها بالثلث؛ فإن كان رب
المال قال له على أن ما رزق الله بيننا نصفان فلرب المال نصف الربح،
وللمضارب الثاني ثلث الربح، وللأول السدس، وإن قال على أن ما رزقك الله
بيننا نصفان فللمضارب الثاني الثلث، وما بقي بين رب المال والمضارب الأول
نصفان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رب المال في ذلك لم يضمن) المضارب الأول (إلى المضارب الثاني (ولا يتصرف
المضارب الثاني) من غير أن يربح، بل (حتى يربح) ، لأنه مالم يربح بمنزلة
الوكيل وللمضارب التوكيل (فإذا ربح) المضارب الثاني (ضمن المضارب الأول
المال) لرب المال، قال في الهداية: وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة، وقالا:
إذا عمل به ضمن ربح أو لم يربح، وهو ظاهر الرواية، قال الإسبيجاني: قال
صاحب الكتاب "ضمن المضارب الأول" والمشهور من المذهب أن رب المال بالخيار:
إن شاء ضمن الأول، وإن شاء ضمن الثاني في قولهم جميعاً، اهـ تصحيح (وإذا
دفع) رب المال (إليه المال مضاربة بالنصف وأذن له أن يدفعها) إلى غيره
(مضاربة فدفعها) إلى غيره (بالثلث) جاز، لوجود الإذن من المالك (فإن كان رب
المال قال له) في اشتراط الربح (على أن ما رزق الله تعالى) أو ما كان من
فضل فهو (بيننا نصفان فلرب المال نصف الربح) عملا بشرطه (وللمضارب الثاني
ثلث الربح) لأنه المشروط له (و) للمضارب (الأول) الباقي، وهو (السدس) لأن
رب المال شرط لنفسه نصف جميع ما رزق الله تعالى، فلم يبقى للأول إلال
النصف، فينصرف تصرفه إلى نصيبه، وقد جعل من ذلك بقدر ثلث الجميع للثاني
فيأخذه، فلم يبق للأول إلا السدس (وإن كان قال) رب المال للمضارب الأول
(على أن ما رزقك الله تعالى) : أي ما حصل لك من الربح فهو (بينا نصفان
فللمضارب الثاي الثلث) لما مر (وما بقي) وهو الثلثان (بين رب المال
والمضارب الأول نصفان) ، لأنه فوض إليه التصرف، وجعل لنفسه نصف ما رزق
الأول، وقد رزق
(2/134)
فإن قال له على أن ما رزق الله فلي نصفه
فدفع المال إلى آخر مضاربةً بالنصف فللمضارب الثاني نصف الربح ولرب المال
النصف، ولا شيء للمضارب الأول، فإن شرط للمضارب الثاني ثلثي الربح فلرب
المال نصف الربح وللمضارب الثاني نصف الربح، ويضمن الأول للمضارب الثاني
سدس الربح من ماله.
وإذا مات رب المال أو المضارب بطلت المضاربة، وإن ارتد رب المال عن الإسلام
ولحق بدار الحرب بطلت المضاربة، وإذا عزل رب المال المضارب ولم يعلم بعزله
حتى اشترى وباع فتصرفه جائزٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأول الثلثين فيكون بينهما (فإن) كان (قال على أن ما رزق الله تعالى فلي
نصفه) أو ما كان من فضل فبيني وبينك نصفان (فدفع المال إلى آخر مضاربة
بالنصف فللثاني نصف الربح) لأنه المشروط له (ولرب المال النصف، ولا شيء
للمضارب الأول) ؛ لأنه شرط للثاني النصف فيستحقه، وقد جعل رب المال لنفسه
نصف مطلق الربح، فلم يبق للأول شيء (فإن) كان (شرط) المضارب الأول (للمضارب
الثاني ثلثي الربح فلرب المال نصف الربح) لما مر (وللمضارب الثاني) الباقي،
وهو (نصف الربح، ويضمن المضارب الأول للمضارب الثاني سدس الربح) : أي مثله
(من ماله) ؛ لأنه شرط للثاني شيئاً هو مستحقٌ لرب المال فلم ينفذ في حقه
لما فيه من الإبطال، والتسمية في نفسها صحيحة، فيلزم الوفاء بأداء المثل.
(وإذا مات رب المال أو المضارب بطلت المضاربة) ؛ لأنها توكيل على ما مر
وموت الموكل أو الوكيل يبطل الوكالة (وإن ارتد رب المال عن الإسلام)
والعياذ بالله تعالى (ولحق بدار الحرب) وحكم بلحوقه (بطلت المضاربة) أيضاً؛
لزوال ملكه وانتقاله لورثته فكان كالموت، وما لم يحكم بلحوقه فهي موقوفة،
فإن رجع مسلماً لم تبطل، قيد برب المال لأنه لو كان المضارب هو المرتد
فالمضاربة على حالها؛ لأن عبارته صحيحة، ولا توقف في ملك رب المال.
(وإن عزل رب المال المضارب) عن المضاربة (ولم يعلم) المضارب (بعزله) : أي
عزل نفسه (حتى اشترى وباع فتصرفه) الصادر قبل العلم (جائز) ؛ لأنه توكيل من
(2/135)
وإن علم بعزله والمال عروضٌ فله أن يبيعها
ولا يمنعه العزل من ذلك، ثم لا يجوز أن يشتري بثمنها شيئاً آخر، وإن عزله
ورأس المال دراهم أو دنانير قد نضت فليس له أن يتصرف فيه.
وإذا افترقا وفي المال ديون وقد ربح المضارب فيه أجبره الحاكم على اقتضاء
الديون، وإن لم يكن له ربح لم يلزمه الاقتضاء، ويقال له: وكل رب المال في
الاقتضاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جهته، وعزل الوكيل قصداً يتوقف على علمه (وإن علم بعزله والمال عروض) هو
هنا: ما كان خلاف جنس رأس المال، فالدراهم والدنانير هنا جنسان (فله أن
يبيعها ولا يمنعه العزل من ذلك) البيع؛ لأن له حقا في الربح، ولا يظهر ذلك
إلا بالعقد فيثبت له حق البيع ليظهر ذلك (ثم لا يجوز) له (أن يشتري بثمنها
شيئاً آخر) ؛ لأن العزل إنما يعمل والمال عروض ضرورة معرفة رأس المال، وقد
اندفعت بصيرورته نقداً فعمل العزل (وإن عزله ورأس المال دراهم أو دنانير قد
نضت) أي: تحولت عيناً بعد أن كانت متاعا، صحاح (فليس له أن يتصرف فيها) لما
قلنا، قال في الهداية: وهذا الذي ذكره إذا كان من جنس رأس المال، فإن لم
يكن - بأن كان دراهم ورأس المال دنانير، أو على العكس - له أن يبيعها بجنس
رأس المال استحساناً؛ لأن الربح لا يظهر إلا به وصار كالعروض. اهـ. وقد
أشرنا إليه.
(وإذا افترقا وفي المال ديون و) كان (قد ربح المضارب فيه) : أي المال
(أجبره الحاكم على اقتضاء الديون) ؛ لأنه بمنزلة الأجير، فإن الربح كالأجر
له (وإن لم يكن) في المال (ربح لم يلزمه الاقتضاء) ؛ لأنه وكيل محض، وهو
متبرع، والمتبرع لا يجبر على إيفاء ما تبرع به (و) لكن (يقال له) : أي
للمضارب (وكل رب المال في الاقتضاء) ؛ لأن حقوق العقد تتعلق بالعاقد،
والمالك ليس بعاقد، فلا يتمكن من الطلب إلا بتوكيله، فيؤمر بالتوكيل كيلا
يضيع حقه
(2/136)
وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون
رأس المال، فإن زاد الهالك على الربح فلا ضمان على المضارب فيه، وإن كانا
قد اقتسما الربح والمضاربة بحالها ثم هلك المال أو بعضه ترادا الربح حتى
يستوفي رب المال رأس المال، فإن فضل شيءٌ كان بينهما، وإن عجز عن رأس المال
لم يضمن المضارب، وإن كانا قد اقتسما الربح وفسخا المضاربة ثم عقداها فهلك
المال لم يترادا الربح الأول.
ويجوز للمضارب أن يبيع بالنقد والنسيئة، ولا يزوج عبداً ولا أمةً من مال
المضاربة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال) لأن الربح اسم
للزيادة على رأس المال؛ فلابد من تعيين رأس المال حتى تظهر الزيادة (وإذا
زاد الهالك على الربح فلا ضمان على المضارب فيه) ؛ لأنه أمين (وإذا كانا) :
أي المضاربان (قد اقتسما الربح و) بقيت (المضاربة بحالها) : أي لم تفسخ (ثم
هلك المال) كله (أو بعضه ترادا الربح حتى يستوفي رب المال رأس المال) ؛ لأن
قسمة الربح قبل استيفاء رأس المال لا تصح؛ لأنه هو الأصل، فإذا هلك ما في
يد المضارب أمانة تبين أن ما أخذه من رأس المال؛ فوجب رده (فإن فضل شيء)
بعد استيفاء رأس المال (كان بينهما) ؛ لأنه ربح (وإن عجز) الربح المردود:
أي نقص (عن) إكمال (رأس المال لم يضمن المضارب) لما مر من أنه أمين (وإن
كانا قد اقتسما الربح وفسخا المضاربة) الأولى والمال في يد المضارب (ثم
عقداها) ثانياً (فهلك المال لم يترادا الربح الأول) لأن الأولى قد انتهت
بالفسخ. والثانية عقد جديد لا تعلق لها بالأولى.
(ويجوز للمضارب أن يبيع بالنقد والنسيئة) المتعارفة؛ لأنها من صنيع التجار
قيدنا بالمتعارفة لأنه إذا باع إلى أجل غير متعارف لا يصح؛ لأن له الأمر
العام المعروف بين الناس (ولا يزوج عبداً) اتفاقا (ولا أمة) عند أبي حنيفة
ومحمد (من مال المضاربة) لأنه ليس بتجارة والعقد لا يتضمن إلا التوكيل
بالتجارة، أو ما هو من
(2/137)
|