اللباب في شرح الكتاب

كتاب الوقف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن نذر أن يتصدق بماله تصدق) أي: لزمه أن يتصدق (بجنس ما تجب فيه الزكاة) استحساناً؛ والقياس أن يلزمه التصدق بجميع ماله، لأن المال اسم لما يتمول وهو شامل لما تجب فيه الزكاة وغيره، وجه الاستحسان أن إيجاب العبد يعتبر بإيجاب الله تعالى فينصرف إيجابه إلى ما أوجب الشارع فيه الصدقة من المال، ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله، وهو مال الزكاة. هداية (ومن نذر أن يتصدق بملكه لزمه أن يتصدق بالجميع) ، لأنه أعم من لفظ المال، لأن المال مقيد بإيجاب الشارع ولا تخصيص في لفظ الملك، فبقي على العموم، والصحيح أنهما سواء لأن الملتزم باللفظين الفاضل عن الحاجة على ما مر، هداية. (و) إذا لم يكن له مال سوى ما دخل تحت الإيجاب (يقال له: أمسك منه) أي من المال الذي وجب التصدق به (ما) : أي شيئا (تنفقه على نفسك وعيالك إلى أن تكتسب مالا) غيره (فإذا اكتسبت مالا تصدق بمثل ما أمسكت) ؛ لأن حاجته مقدمة لئلا يقع في الضرر، ولم تقدر لاختلاف أحوال الناس وقيل: المحترف يمسك قوته ليوم، وصاحب الغلة لشهر، وصاحب الضياع لسنة، على حسب التفاوت في مدة وصولهم إلى المال، وعلى هذا صاحب التجارة يمسك بقدر ما يرجع إليه ماله. هداية.
كتاب الوقف
مناسبته للهبة من حيث إن كلا منهما تبرع بالملك، وقدمت الهبة لأنها تبرع بالعين والمنفعة جميعاً

(2/179)


- لا يزول ملك الواقف عن الوقف عند أبي حنيفة إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته فيقول: إذا مت فقد وقفت داري على كذا. وقال أبو يوسف: يزول الملك بمجرد القول. وقال محمدٌ: لا يزول الملك حتى يجعل للوقف ولياً ويسلمه إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو لغة: الحبس، وشرعاً: حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة عند الإمام، وعندهما هو: حبسها على حكم ملك الله تعالى. هداية.
(لا يزول ملك الواقف عن الوقف عند أبي حنيفة) : أي لا يلزم، فيصح الرجوع عنه، ويجوز بيعه، كما في التصحيح عن الجواهر (إلا) بأحد أمرين: (أن يحكم به الحاكم) المولى، لأنه مجتهد فيه، وصورة الحكم: أن يسلم الواقف وقفه إلى المتولى ثم يريد أن يرجع بعلة عدم اللزوم فيختصمان إلى القاضي فيقضي باللزوم كما في الفيض. قيدنا بالمولى لأن المحكم بتحكيم الخصمين لا يرفع الخلاف على الصحيح، (أو يعلقه بموته) فيقول: إذا مت فقد وقفت داري مثلا على كذا، فالصحيح أنه كوصيه يلزم من الثلث بالموت لا قبله، كما في الدر (وقال أبو يوسف: يزول الملك بمجرد القول) في المشاع وغيره، سلم إلى المتولي أو لا، ذكر جهة لا تنقطع أولا، كما في التصحيح عن الجواهر (وقال محمد: لا يزول الملك حتى) يستوفي أربعة شرائط، وهي: أن (يجعل للوقف وليا) أي متولياً (ويسلمه إليه) ، وأن يكون مفرزاً، وأن لا يشترط لنفسه شيئاً من منافع الوقف، وأن يكون مؤبداً، بأن يجعل آخره للفقراء كما في التصحيح عن التحفة والاختيار، ثم قال: قلت: الثالث ليس فيه رواية ظاهرة عنه، وسيأتي، اهـ.
ثم نقل أن الفتوى على قولهما في جواز الوقف عن الفتاوى الصغرى والحقائق والتتمة والعيون ومختارات النوازل والخلاصة ومنية المفتي وغيرها. ثم قال: ثم إن مشايخ بلخ اختاروا قول أبي يوسف، ومشايخ بخارى اختاروا قول محمد، وقد صح كلا القولين وأفتى به طائفة ممن يعول على تصحيحهم وإفتائهم

(2/180)


وإذا الوقف - على اختلافهم - خرج عن ملك الواقف، ولم يدخل في ملك الموقوف عليه.
ووقف المشاع جائزٌ عند أبي يوسف. وقال محمدٌ: لا يجوز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فإذا استحق) بالبناء المجهول - أي ثبت، وفي بعض النسخ "صح" (الوقف على اختلافهم المار في صحته (خرج) الوقف (من ملك الواقف) وصار خبيساً على حكم ملك الله تعالى (ولم يدخل في ملك الموقوف عليه) ؛ لأنه لو ملكه لما انتقل عنه بشرط الواقف كسائر أملاكه، مع أنه ينتقل بالإجماع، وقال في الهداية: وقوله "خرج من ملك الواقف" يجب أن يكون قولهما على الوجه الذي سبق تقريره، اهـ.
(ووقف المشاع) القابل للقسمة (جائز عند أبي يوسف) ؛ لأن القسمة من تمام القبض، والقبض عنده ليس بشرط؛ فكذا تتمته (وقال محمد: يجوز) لأن أصل القبض عنده شرط فكذا ما يتم به. قيدنا بالقابل للقسمة لأن ما لا يحتمل القسمة يجوز مع الشيوع عند محمد أيضاً؛ لأنه يعتبره بالهبة، قال في التصحيح: وأكثر المشايخ أخذوا بقول محمد، وفي الفتح عن المنية: الفتوى على قول أبي يوسف، وفيه عن المبسوط: وكان القاضي أبو عاصم يقول: قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى، إلا أن قول محمد أقرب إلى موافقة الآثار، اهـ. ولما كثر المصحح من الطرفين، وكان قول أبي يوسف فيه ترغيب للناس في الوقف وهو جهة بر - أطبق المتأخرون من أهل المذهب على أن القاضي الحنفي والمقلد يخير بين أن يحكم بصحته وبطلانه، وإذا كان الأكثر على ترجيح قول محمد، وبأيها حكم صح حكمه ونفذ، فلا يسوغ له ولا لقاض غيره أن يحكم بخلافه كما صرح به غير واحد، وقال في البحر: وصح وقف المشاع إذا قضى بصحته؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه، ثم قال: أطلق القاضي فشمل الحنفي وغيره؛ فإن للحنفي المقلد أن يحكم بصحة وقف المشاع وبطلانه؛ لاختلاف الترجيح، وإذا كان في المسألة قولان مصححان فإنه يجوز القضاء والإفتاء بأحدهما كما صرحوا به، اهـ ونحوه في

(2/181)


ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمدٍ حتى يجعل آخره لجهةٍ لا تنقطع أبداً. وقال أبو يوسف: إذا سمى فيه جهةً تنقطع جاز، وصار بعدها للفقراء، وإن لم يسمهم.
ويصح وقف العقار، ولا يجوز وقف ما ينقل ويحول. وقال أبو يوسف: إذا وقف ضيعةً ببقرها أو أكرتها وهم عبيده جاز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النهر والمنح والدر وغيرها، لكن صرح بعضهم بأنه ينبغي للقاضي - حيث كان مخبراً - أن يميل إلى قول أبي يوسف وبحكم بالصحة؛ أخذاً من قولهم: يختار في الوقف ما هو الأنفع والأصلح للوقف، ومن أحب مزيد الاطلاع فعليه برسالتنا "لذة الأسماع، في حكم وقف المشاع"
(ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد حتى يجعل آخره لجهة لا تنقطع أبداً) بأن يجعل آخره للفقراء؛ لأن شرط جوازه عندهما أن يكون مؤبداً؛ فإذا عين جهة تنقطع صار مؤقتاً معنى؛ فلا يجوز (وقال أبو يوسف: إذ سمى فيه جهة تنقطع جاز، وصار) وقفاً مؤبداً، وإن لم يذكر التأبيد؛ لأن لفظ الوقف والصدقة منبئ عنه، فيصرف إلى الجهة التي سماها مدة دوامها، ويصرف (بعدها للفقراء وإن لم يسمهم) ولذا قال في الهداية: وقيل: إن التأييد شرط بالإجماع، إلا أن عند أبي يوسف لا يشترط ذكر التأبيد؛ لأن لفظة الصدقة والوقف منبئة عنه، ثم قال: ولهذا قال في الكتاب في بيان قوله "وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم"، وهذا هو الصحيح، وعند محمد ذكر التأبيد شرط، اهـ.
(ويصح وقف العقار) اتفاقا، لأنه متأبد (ولا يجوز وقف ما ينقل ويحول) ؛ لأنه لا يبقى؛ فكان توقيتاً معنى، وقد ذكرنا أن شرط صحته التأبيد، قال في الهداية: وهذا على الإرسال - أي الإطلاق - قول أبي حنيفة (وقال أبو يوسف: إذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها) جمع أكار - بالتشديد - الفلاح: أي عمالها (وهم) أي الأكرة (عبيده جاز) وكذا سائر آلات الحراسة؛ لأنه تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود، وقد يثبت من الحكم تبعاً ما لا يثبت مقصوداً كالشرب

(2/182)


وقال محمدٌ: يجوز حبس الكراع والسلاح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في البيع والبناء في الوقف، ومحمد معه فيه؛ لأنه لما جاز إفراد بعض المنقول عنده بالوقف فلأن يجوز الوقف تبعاً أولى، هداية.
(وقال محمد: يجوز حبس الكراع) أي الخيل كما في الغاية عن ديوان الأدب (والسلاح) قال في الهداية: وأبو يوسف معه فيه على ما قالوا، وهذا استحسان، ووجهه الآثار المشهورة (1) فيه. قال في الجواهر: تخصيص أبي يوسف في الضيعة ببقرها ومحمد في الكراع باعتبار أن الرواية جاءت عن أبي يوسف في الضيعة وعن محمد في الكراع نصا
_________
(1) الآثار الواردة في وقف المنقول كثيرة، منها ما رواه الشيخان عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقات (أي ليجمع الزكاة) فمنع ابن جبل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب (أي أنهم امتنعوا عن دفع زكاتهم إلى عمر) فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس عم رسول الله فهي علي ومثلها) . وروى الطبراني وابن كثير في تاريخه عن أبي وائل قال: لما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال: لقد طلبت القتل فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا مفترش أنتظر الصبح حتى نغير على الكفار، ثم قال: إذا أنا مت فانظروا سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله. ويدخل في حكم الكراع الإبل، لأن العرب يغزون عليها، وقد ورد النص على جواز وقفها، فقد روى أن أم معقل جاءت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا معقل جاء ناضحه (هو الجمل يستقي عليه) في سبيل الله، وإني أريد الحج، أفأركبه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إركبيه فإن الحج والعمرة من سبيل الله" قال في الفتح: والحاصل أن وقف المنقول تبعا للعقار يجوز، وأما وقفه مقصودا: إن كان كراعا أو سلاحا جاز، وفيما سوى ذلك: إن كان مما لم يجز التعامل بوقفه كالثياب والحيوان ونحوه والذهب والفضة لا يجوز عندنا، وإن كان متعارفا - كالجنازة (السرير الذي يحمل عليه الميت) والفأس والقدوم وثياب الجنازة وما يحتاج إليه من الأواني والقدور في غسل الموتى والمصاحف - قال أبو يوسف: لا يجوز، وقال محمد: يجوز، وإليه ذهب عامة المشايخ منهم الإمام السرخسي، اه

(2/183)


وإذا صح الوقف لم يجز بيعه، ولا تمليكه، إلا أن يكون مشاعاً عند أبي يوسف فيطلب الشريك القسمة فتصح مقاسمته.
والواجب: أن يبدأ من ريع الوقف بعمارته، شرط الواقف ذلك أو لم يشرط.
وإن وقف دارا على سكنى ولده فالعمارة على من له السكنى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا أن ذكر أبي يوسف لأجل خلاف محمد وذكر محمد لأجل خلاف أبي يوسف اهـ.
(وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه) ؛ لخروجه عن ملكه (إلا أن يكون) الوقف (مشاعاً) لجوازه (عند أبي يوسف) كما مر (فيطلب الشريك) فيه (القسمة فتصح مقاسمته) ؛ لأنها تمييز وإفراز، غاية الأمر أن الغالب في غير المكيل والموزون معنى المبادلة، إلا أنا في الوقف جعلنا الغالب معنى الإفراز نظرا للوقف؛ فلم يكن بيعاً ولا تمليكا، ثم إن وقف نصيبه من عقار مشترك فهو الذي يقاسم شريكه؛ لأن الولاية إلى الواقف، وبعد الموت إلى وصيه، وإن وقف نصف عقار خالص له فالذي يقاسمه القاضي، أو يبيع نصيبه الباقي من رجل ثم يقاسم المشتري، ثم يشرى ذلك منه؛ لأن الواحد لا يجوز أن يكون مقاسما ومقاسما، ولو كان في القسمة فضل دراهم إن أعطى الواقف لا يجوز، لامتناع بيع الوقف، وإن أعطى جاز، ويكون بقدر الدراهم شراء، هداية.
(والواجب أن يبدأ من ريع الوقف) : أي غلته (بعمارته) بقدر ما يبقى على الصفة التي وقف عليها، وإن خرب بنى على ذلك، سواء (شرط الواقف ذلك أو لم يشرط) ، لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبداً، ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة فيثبت شرط العمارة اقتضاء.
(وإذا وقف داراً على سكنى ولده فالعمارة على من له السكنى) من ماله؛ لأن

(2/184)


فإن امتنع من ذلك أو كان فقيراً أجرها الحاكم وعمرها بأجرتها، فإذا عمرت ردها إلى من له السكنى.
وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيها، ولا يجوز أن يقسمه بين مستحقي الوقف.
وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الغرم بالغنم (فإن امتنع) من له السكنى (من ذلك، أو) عجز بأن (كان فقيراً أجرها الحاكم) من الموقوف عليه أو غيره (وعمرها بأجرتها) كعمارة الواقف، ولم يزد في الأصح إلا برضا من له السكنى، زيلعي. ولا يجبر الآتي على العمارة، ولا تصح إجارة من له السكنى، بل المتولي أو القاضي كما في الدر (فإذا عمرت) وانقضت مدة إجارتها (ردها إلى من له السكنى) ؛ لأن في ذلك رعاية الحقين حق الواقف بدوام صدقته، وصاحب السكنى بدوام سكناه؛ لأنه لو لم يعمرها تفوت السكنى أصلا، وبالإجارة تتأخر، وتأخير الحق أولى من فواته.
(وما انهدم من بناء الوقف وآلته) وهي الأداة التي يعمل بها كآلة الحراثة في ضيعة الوقف (صرفه الحاكم) أي أعاده (في عمارة الوقف إن احتاج) الوقف (إليه، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيها) حتى لا يتعذر عليه ذلك أو أن الحاجة فيبطل المقصود، وإن تعذر إعادة عينه بيع وصرف ثمنه إلى المرمة، صرفاً للبدل إلى مصرف البدل.
(ولا يجوز أن يقسمه) أي المنهدمك وكذا بدله (بين مستحقي الوقف) ؛ لأنه جزء من العين، ولا حق لهم فيها، إنما حقهم في المنفعة؛ فلا يصرف لهم غير حقهم.
(وإذا جعل الواقف غلة الوقف) أو بعضها (لنفسه أو جعل الولاية) على

(2/185)


إليه جاز عند أبي يوسف.
وإذا بنى مسجداً لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ويأذن للناس بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه واحدٌ زال ملكه عنه عند أبي حنيفة ومحمدٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الوقف (إليه) أي نفسه (جاز عند أبي يوسف) أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف، ولا يجوز على قياس قول محمد، وهو قول هلال الرازي، قال الإمام قاضيخان نقلا عن الفقيه أبي جعفر: وليس في هذا عن محمد رواية ظاهرة، ثم قال: ومشايخ بلخ أخذوا بقول أبي يوسف، وقالوا: يجوز الوقف والشرط جميعاً، وذكر الصدر الشهيد أن الفتوى عليه ترغيباً للناس في الوقف، ومثله في الفتاوى الصغرى نقلا عن شيخ الإسلام، واعتمده النسفي وأبو الفضل الموصلي. وأما الثاني فقال في الهداية: هو قول هلال أيضاً، وهو ظاهر المذهب، واستدل له دون مقابله، وكذا لو لم يشترط الولاية لأحد فالولاية له عند أبي يوسف، ثم لوصيه إن كان، وإلا فللحاكم كما في فتاوى قارئ الهداية، تصحيح ملخصاً.
(وإذا بنى مسجداً لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه) الواقف: أي يميزه (عن ملكه بطريقه) ، لأنه لا يخلص لله تعالى إلا به (ويأذن للناس بالصلاة فيه) ، لأنه من التسليم عند أبي حنيفة ومحمد، وتسليم كل شيء بحبسه، وذلك في المسجد بالصلاة فيه، لتعذر القبض فيه، فقام تحقق المقصود مقامه (فإذا صلى فيه واحد زال ملكه عند أبي حنيفة ومحمد) في رواية، وفي الأخرى - وهي الأشهر - يشترط الصلاة بالجماعة، لأن المسجد يبنى لذلك، وقال الإمام قاضيخان: وعن أبي حنيفة فيه روايتان في رواية الحسن عنه يشترط أداء الصلاة بالجماعة اثنان فصاعدا كما قال محمد، وفي رواية عنه إذا صلى واحد فإذنه يصير مسجداً! إلا أن بعضهم قال: إذا صلى فيه واحد بأذان وإقامة، وفي ظاهر الرواية لم يذكر هذه الزيادة، والصحيح رواية الحسن عنه، لأن قبض كل شيء وتسليمه يكون بحسب ما يليق به، وذلك في المسجد بأداء الصلاة بالجماعة، أما الواحد فإنه يصلي في كل مكان، قال في التصحيح: واستفدنا منه أن ما عن محمد هو رواية عن أبي حنيفة،

(2/186)


وقال أبو يوسف: يزول ملكه عنه بقوله "جعلته مسجداً" ومن بنى سقايةً للمسلمين أو خاناً يسكنه بنو السبيل أو رباطاً أو جعل أرضه مقبرةً لم يزل ملكه عن ذلك عند أبي حنيفة حتى يحكم به حاكمٌ.
وقال أبو يوسف: يزول ملكه بالقول. وقال محمدٌ: إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في المقبرة زال الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو الصحيح، اهـ. (وقال أبو يوسف: يزول ملكه عنه) أي المسجد (بقوله: جعلته مسجداً) لأن التسليم عنده ليس بشرط، لأنه إسقاط لملكه فيصير خالصاً لله تعالى بسقوط حقه.
(ومن بنى سقاية للمسلمين أو خانا يسكنه بنو السبيل) أي المسافرون (أو رباطا) يسكنه الفقراء (أو جعل أرضه مقبرة) لدفن الموتى (لم يزل ملكه عن ذلك عند أبي حنيفة حتى يحكم به حاكم) ؛ لأنه لم ينقطع عن حقد العمد، ألا يرى أن له أن ينتفع به فيسكن وينزل في الرباط ويشرب من السقاية ويدفن في المقبرة، فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت كما في الوقف على الفقراء، بخلاف المسجد، لأنه لم يبق له حق الانتفاع به، فخلص لله تعالى من غير حكم الحاكم، هداية (وقال أبو يوسف: يزول ملكه بالقول) كما هو أصله، إذ التسليم عنده ليس بشرط (وقال محمد: إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في المقبرة زال الملك) لأن التسليم عنده شرط، والشرط تسليم نوعه، وذلك بما ذكرناه، ويكتفى بالواحد، لتعذر فعل الجنس كله، وعلى هذا البئر والحوض، ولو سلم إلى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه، لأنه نائب عن الموقوف عليه، وفعل النائب كفعل المنوب عنه، وأما في المسجد فقد قيل: لا يكون تسليما، لأنه لا تدبير للمتولي فيه، وقيل: يكون تسليما، لأنه يحتاج إلى من يكنسه ويغلق بابه، فإذا سلم صح تسليمه إليه، والمقبرة في هذا بمنزلة المسجد على ما قيل، لأنه لا متولي له عرفا، وقد قيل: هي بمنزلة السقاية والخان، فيصح التسليم إلى المتولي، لأنه لو نصب المتولي صح وإن كان بخلاف العادة؛ هداية

(2/187)