اللباب في شرح الكتاب

كتاب الحدود
- الزنا يثبت بالبينة والإقرار.
فالبينة: أن تشهد أربعةٌ من الشهود على رجلٍ أو امرأةٍ بالزنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا لم يكن للقاتل عاقلة فالدية في بيت المال في ظاهر الرواية، وعليه الفتوى، درر وبزازية، وعن أبي حنيفة رواية شاذة أن الدية في ماله، ووجهه أن الأصل أن تجب الدية على القاتل؛ لأنه بدل متلف، والإتلاف منه، إلا أن العاقلة تتحملها تحقيقاً للتخفيف على ما مر، فإذا لم تكن له عاقلة عاد الحكم إلى الأصل، هداية.
كتاب الحدود
وجه المناسبة بين الحدود والجنايات وتوابعها من القصاص وغيره ظاهر من حيث اشتمال كل منهما على المحظور والزاجر عنه.
والحدود: جمع حد، وهو لغة: المنع، ومن الحداد للبواب، وفي الشريعة هو: العقوبة المقدرة حقاً لله تعالى، حتى لا يسمى القصاص حداً، لما أنه حق للعبد، ولا التعزير لعدم التقدير. والمقصد الأصلي من شرعه الانزجار عما يتضرر به العباد، والطهرة ليست فيه أصلية، بدليل شرعه في حق الكافر كما في الهداية.
(الزنا يثبت بالبينة والإقرار) لأن البينة دليل ظاهر، وكذا الإقرار، ولاسيما فيما يتعلق بثبوته مضرة ومعرة، والوصول إلى العلم الحقيقي متعذر، فيكتفي بالظاهر، (فالبينة: أن تشهد أربعة من الشهود) لرجال الأحرار العدول في مجلس واحد (على رجل أو امرأة بالزنا) متعلق بتشهد، لأنه الدال على الفعل الحرام، دون الوطء والجماع

(3/181)


فيسألهم الإمام عن الزنا ما هو؟ وكيف هو؟ وأين زنى؟ وبمن زنى؟ ومتى زنى؟ فإذا بينوا ذلك وقالوا: رأيناه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة، وسأل القاضي عنهم، فعدلوا في السر والعلانية، حكم بشهادتهم.
والإقرار: أن يقر البالغ العاقل على نفسه بالزنا، أربع مراتٍ، في أربعة مجالس من مجالس المقر، كلما أقر رده القاضي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو غيره، وإلا لم يحد الشاهد ولا المشهود عليه كما في النهاية (فيسألهم الإمام) بعد الشهادة (عن الزنا ما هو) فإنه قد يطلق على كل وطء حرام، وأطلقه الشارع على غير هذا الفعل نحو (العينان تزنيان) (وكيف هو) فإنه قد يطلق على مجرد تماس الفرجين وعلى ما يكون بالإكراه (وأين زنى) لاحتمال أنه في دار الحرب (وبمن زنى) ؛ لاحتمال أنها ممن تحل له؛ أو له فيها شبهة لا يعرفها الشهود (ومتى زنى) لاحتمال أن يكون متقادما، وكل ذلك يسقط الحد؛ فيستقصى ذلك احتيالا للدرء (فإذا بينوا ذلك) كله (وقالوا رأيناه وطئها) بذكره (في فرجها) بحيث صار فيه (كالميل في المكحلة) بضمتين، أو القلم في المحبرة (وسأل القاضي عنهم) : أي عن حالهم (فعدلوا في السر والعلانية) ، فلا يكتفى بظاهر العدالة هنا اتفاقاً، بخلاف سائر الحقوق كما في الهداية (حكم بشهادتهم) وجوبا لتوجه الحكم عليه، وترك الشهادة أولى مالم تتهتك فالشهادة أولى كما مر في النهر.
(والإقرار: أن يقر البالغ العاقل) ؛ لأن قول الصبي والمجنون غير معتبر (على نفسه بالزنا أربع مرات في أربعة مجالس من مجالس المقر) لأن الإقرار قائم به، فيعتبر اتحاد مجلسه دون القاضي، قال في الينابيع: وقال بعضهم: يعتبر مجلس القاضي، والأول أصح (كلما أقر) مرة (رده القاضي) وزجره عن

(3/182)


فإذا أتم إقراره أربع مراتٍ سأله الإمام عن الزنا: ما هو؟ وكيف هو؟ وأين زنى؟ وبمن زنى؟ فإذا بين ذلك لزمه الحد.
فإن كان الزاني محصناً رجمه بالحجارة حتى يموت، يخرجه إلى أرض فضاء، يبتدئ الشهود برجمه، ثم الإمام، ثم الناس، فإن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إقراره، وأظهر كراهته لذلك، وأمر بتنحيته عنه وطرده بحيث لا يراه، فإن عاد ثالثاً فعل به كذلك (فإذا تم إقراره أربع مرات) على ما بينا (سأله القاضي عن الزنا: ما هو؟ وكيف هو؟ وأين زنى؟ وبمن زنى؟) كما في الشهود، للاحتمالات المارة، قال في الهداية: ولم يذكر السؤال عن الزمان وذكره في الشهادة؛ لأن تقادم العهد يمنع الشهادة دون الإقرار، وقيل: لو سأله جاز، لجواز أنه زنى في صباه، اهـ (فإذا بين ذلك) كله (لزمه الحد) لتمام الحجة.
(فإن كان الزاني محصناً رجمه) : أي أمر الإمام برجمه (بالحجارة حتى يموت) كما فعله صلى الله عليه وسلم (يخرجه إلى أرض فضاء) لأنه أمكن لرجمه؛ ولئلا يصيب بعضهم بعضاً، ولذا قالوا: يصفون لرجمه كصفوف الصلاة، وكلما رجم صف تنحوا وتقدم آخر، ولا يحفر للرجل ولا يربط، وأما المرأة فإن شاء الإمام حفر لها لأنه أستر مخافة التكشف، وإن شاء أقامها من غير حفر كالرجل؛ لأنه يتوقع منها الرجوع بالهرب كما في الجوهرة (يبتدئ الشهود برجمه) إن كان ثبوته بالبينة، امتحاناً لهم، لأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء، ثم يستعظم المباشرة فيرجع، فكان في بدايته احتيال للدرء، (ثم الإمام) إن حضر تعظيما له، وحضوره ليس بلازم كما في الإيضاح (ثم الناس) الذين عاينوا أداء الشهادة أو أذن لهم القاضي بالرجم، وعن محمد: لا يسعهم أن يرجموه إذا لم يعاينوا أداء الشهادة، قهستاني (فإن امتنع الشهود من الابتداء) برجمه (سقط الحد) لأنه دلالة

(3/183)


وإن كان مقراً ابتداء الإمام ثم الناس، ويغسل ويكفن ويصلى عليه وإن لم يكن محصناً وكان حراً فحده مائة جلدةٍ، يأمر الإمام بضربه بسوطٍ لا ثمرةً له ضرباً متوسطاً تنزع عنه ثيابه ويفرق الضرب على أعضائه إلا رأسه ووجهه وفرجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرجوع، وكذا إذا غابوا أو ماتوا في ظاهر الرواية؛ لفوات الشرط، هداية.
(وإن كان) الذي أريد رجمه (مقراً) على نفسه (ابتدأ الإمام ثم الناس) قال في الدر: ومقتضاه أنه لو امتنع لم يحل للقوم رجمه، وإن أمرهم، لفوت شرطه، فتح، لكن سيجئ أنه لو قال قاضٍ عدلٍ (قضيت على هذا بالرجم) وسعك رجمه وإن لم تعاين الحجة، اهـ. (ويغسل) المرجوم (ويكفن ويصلى عليه) لأنه قتل بحق، فلا يسقط الغسل كالمقتول قصاصاً، وصح أنه صلى الله عليه وسلم على الغامدية كما في الدر.
(وإن لم يكن) الزاني (محصناً، وكان حراً فحده مائة جلدة) ، لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} إلا أنه انتسخ في حق المحصن، فبقي في حق غير معمولا به، هداية (يأمر الإمام بضربه بسوط لا ثمرة له) أي لا عقد في طرفه كما في الصحاح (ضرباً متوسطاً) بين المبرح وغير المؤلم، لإفضاء الأول إلى الهلاك، وخلو الثاني عن المقصود وهو الانزجار، و (تنزع عنه ثيابه) دون الإزار لستر عورته (ويفرق الضرب على أعضائه) ، لأن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف (إلا رأسه) لأنه مجمع الحواس (ووجهه) لأنه مجمع المحاسن فلا يشوه (وفرجه) لأنه مقتل، قال في الهداية: ويضرب في الحدود كلها قائماً غير ممدود، لأن مبنى إقامة الحد على التشهير، والقيام أبلغ فيه، ثم قوله (غير ممدود) فقد قيل: المد أن يلقى على الأرض ويمد كما يفعل في زماننا، وقيل: أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه،

(3/184)


وإن كان عبداً جلده خمسين كذلك.
فإن رجع المقر عن إقراره قبل إقامة الحد عليه، أو في وسطه، قبل رجوعه وخلى سبيله.
ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع، ويقول له: لعلك لمست أو قبلت.
والرجل والمرأة في ذلك سواءٌ، غير أن المرأة لا تنزع عنها ثيابها إلا الفرو والحشو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: أن يمده بعد الضرب، وذلك كله لا يفعل؛ لأنه زيادة على المستحق. اهـ.
(وإن كان عبداً جلده خمسين) جلدة (كذلك) أي كما مر في جلد الحر؛ لأن الرق منصف للنعمة ومنقص للعقوبة.
(فإن رجع المقر عن إقراره قبل إقامة الحد عليه أو في وسطه قبل رجوعه وخلى سبيله) ؛ لأن الرجوع خبر محتمل للصدق كإقرار، وليس أحد يكذبه، فتتحقق الشبهة في الإقرار، بخلاف ما فيه حق العبد كالقصاص وحد القذف، لوجود من يكذبه، ولا كذلك خالص حق الشرع، هداية.
(ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع) عن إقراره (ويقول له: لعلك لمست أو قبلت) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: (لعلك لمستها، أو قبلتها) قال في الأصل: وينبغي أن يقول له الإمام: لعلك تزوجتها، أو وطئتها بشبهة، وهذا قريب من الأول، هداية.
(والرجل والمرأة في ذلك سواء) ، لأن النصوص تشملهما (غير أن المرأة لا تنزع عنها ثيابها) تحرزاً عن كشف العورة لأنها عورة (إلا الفرو والحشو)

(3/185)


وإن حفر لها في الرجم جاز.
ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام.
وإذا رجع أحد الشهود بعد الحكم وقبل الرجم ضربوا الحد وسقط الرجم، فإن رجع بعد الرجم حد الراجع وحده وضمن ربع الدية، وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنهما يمنعان وصول الألم إلى المضروب، والستر حاصل بدونهما، وتضرب الحد جالسة لأنه أستر لها.
(وإن حفر لها في الرجم جاز) وهو أحسن، لأنه أستر لها، وإن تركه لا يضر، لأنها مستورة بثيابها كما في الهداية.
(ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام) ، لأن الحد حق الله تعالى، لأن المقصد منه إخلاء العالم عن الفساد، ولهذا لا يسقط بإسقاط العبد، فيستوفيه من هو نائب عن الشرع، وهو الإمام أو نائبه كما في الهداية.
(وإذا رجع أحد الشهود بعد الحكم وقبل الرجم ضربوا) أي الشهود كلهم الراجع والباقي (الحد) أي حد القذف، لصيرورتهم قذفه بنقصان العدد قبل إقامة الحد كما قبل الحكم (وسقط الرجم) عن المحكوم عليه، لنقصان العدد قبل إقامة الحد، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يحد الراجع فقط، وعلى قولهما اعتمد الأئمة، تصحيح (فإن رجع) أحدهم (بعد الرجم حد الراجع وحده) ، لأن الشهادة تأكدت بإقامة الحد، والراجع صار قاذفاً في الحال بالشهادة السابقة (وضمن ربع الدية) ، لأن ربع النفس تلف بشهادته.
(وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا) لأنهم قذفة

(3/186)


وشرط إحصان الرجم: أن يكون حراً، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، قد تزوج امرأة نكاحاً صحيحاً، ودخل بها وهما على صفة الإحصان.
ولا يجمع في المحصن بين الجلد والرجم، ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي، إلا أن يرى الإمام ذلك مصلحةً فيغربه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(و) شرط (الإحصان: أن يكون حراً، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، قد تزوج امرأة نكاحا صحيحاً ودخل بها وهما) أي الزوجان (على صفة الإحصان) قال في الهداية: فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة؛ إذ لا خطاب دونهما، وماوراهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النعمة، إذ كفران النعمة يتغلظ عند تكثرها، وهذه الأشياء من جلائل النعم، وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها فيناط به، ثم قال: والمعتبر في الدخول الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل، وشرط صفة الإحصان فيهما عند الدخول حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة أو المملوكة أو المجنونة أو الصبية لا يكون محصنا، وكذا إذا كان الزوج موصوفا بإحدى هذه الصفات وهي حرة مسلمة عاقلة بالغة، وتمامه فيها.
(ولا يجمع في المحصن بين الجلد والرجم) ، لأن الجلد يعرى عن المقصود مع الرجم، لأن زجر غيره يحصل بالرجم، إذ هو في العقوبة أقصاها، وزجره لا يحصل بعد هلاكه (ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي) ، لأنه زيادة على النص، والحديث منسوخ كشطره، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة (هذا الذي ذكره الشارح هو جزء من حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت، وهو بتمامه: (خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة ورمي بالحجارة) والمراد بالبكر غير المحصن لأن من شرط الإحصان التزوج كما عرفت، والمراد بالثيب المحصن، وقد تضمن الحديث مسألتين: أولاهما أن حد الرجل المحصن والمرأة المحصنة أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة ثم يرجم، وقد أجمع الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه أن حكم هذا الحديث في هذه المسألة منسوخ بما تظافرت رواياته من الأحاديث الناطقة بأنه صلى الله عليه وسلم لم يجمع على المحصن والمحصنة بين الجلد والرجم؛ فقد روى أهل الحديث أنه رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما، ورووا أنه عليه الصلاة والسلام أمر في العسيف - بعد أن سأله عن الإحصان ولقنه الرجوع - برجمه فقال: اذهبوا به فارجموه) ولم يزد في صاحبته عن ذلك حيث قال (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولو كان الجلد واجبا لقال (فإن اعترفت فاجلدها ثم ارجمها) وذهب أهل الظاهر إلى أنه يجمع بين الجلد والرجم في الثيب وهي رواية عن أحمد بن حنبل، وهم محجوجون بما ذكرنا.
وأما المسألة الثانية التي تضمنها الحديث فهي أن حد الرجل غير المحصن والمرأة غير المحصنة أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة ويغرب عاما، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجمع بين الجلد والتغريب حدا، وذهب الشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي إلى أنه يجمع بينهما حدا، تمسكا بهذا الحديث. ولأن في بقاء الزاني والزانية ببلدهما إشاعة للفاحشة وفي تغريبهما حسما لمادة الزنا، لأن كلا منهما يغرب إلى بلد لا يعرفه فيها أحد أو يقل من يعرفه فيها، وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بالآية الكريمة: وهي قول الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائسة جلدة} وجه الاستدلال من الآية على ما ذكرنا أنه سبحانه قد جعل كل الحد جلد كل واحد منها مائة جلدة، فلا تجوز الزيادة عليه، وأما الحديث الذي تمسك فيه الشافعي فهو منسوخ الحكم في هذه المسألة كما أنه منسوخ الحكم في المسألة الأولى بالإجماع من الطرفين، وأما استدلالهم بما ذكرنا عنهم من العلة فهو معارض بأن التغريب قد يكون فتحا لباب الزنا، وذلك لأن المرأة إذا تغربت ولا مادة لها فقد تتخذ الزنا مكسبة، وهذا أشنع وجوه الزنا، ويؤكد ذلك قول علي ابن أبي طالب: "كفى بالنفي فتنة" كما في الهداية (إلا أن يرى الإمام ذلك مصلحة فيغربه

(3/187)


على قدر ما يراه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على قدر ما يراه) من المصلحة، وذلك تعزيز وسياسة، لأنه قد يفيد في بعض الأحوال، فيكون الرأي فيه للإمام، وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، هداية

(3/188)


وإذا زنى المريض وحده الرجم رجم، وإن كان حده الجلد لم يجلد حتى يبرأ، وإذا زنت الحامل لم تحد حتى تضع حملها، فإن كان حدها الجلد فحتى تتعالى من نفاسها، وإذا كان حدها الرجم رجمت.
وإذا شهد الشهود بحدٍ متقادمٍ لم يقطعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم، إلا في حد القذف خاصةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا زنى المريض وحده) الواجب عليه (الرجم رجم) لأن الإتلاف مستحق، فلا يمتنع بسبب المرض (وإن كان حده الجلد لم يجلد حتى يبرأ) تحرزاً عن التلف (وإذا زنت الحامل) ووجب عليها الحد (لم تحد حتى تضع حملها) تحرزاً عن إهلاك الولد، لأنه نفس محتومة (فإن كان حدها الجلد فحتى تتعالى) أي ترتفع وتخرج (من نفاسها) ؛ لأنه نوع مرض فيؤخر إلى البرء (وإن كان حدها الرجم رجمت) بمجرد وضع الحمل، لأن التأخير لأجل الولد وقد انفصل، وعن أبي حنيفة أنها تؤخر إلى أن يستغني الولد عنها إذا لم يكن أحد يقوم بتربيته، لأن في التأخير صيانة الولد عن الضياع كما في الهداية. (وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يقطعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام) أو مرضهم أو خوف طريقهم (لم تقبل شهادتهم) للتهمة، لأن التأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة هيجته أو لعداوة حركته فيتهم فيها وإن كان لغير الستر يصير فاسقاً آثماً فتيقنا بالمانع (إلا في حد القذف خاصة) : أي فتقبل؛ لأن فيه حق العبد، لما فيه من دفع العار عنه، والتقادم غير مانع في حقوق العباد، ولأن الدعوى فيه شرط فيحمل تأخيرهم على انعدام الدعوى فلا يوجب تفسيقهم، قال في الهداية: واختلفوا في حد التقادم، وأشار في الجامع الصغير إلى ستة أشهر، فإنه قال: بعد حين، وهكذا أشار الطحاوي، وأبو حنيفة لم يقدر في ذلك،

(3/189)


ومن وطئ أجنبيةً فيما دون الفرج عرر.
ولا حد على من وطئ جارية ولده وولد ولده، وإن قال "علمت أنها علي حرامٌ"، وإذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته، أو وطئ العبد جارية مولاه، وقال "علمت أنها علي حرامٌ" حد، وإن قال "ظننت أنها تحل لي" لم يحد.
ومن وطئ جارية أخيه، أو عمه، وقال "ظننت أنها حلالٌ" حد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر، وعن محمد أنه قدره بشهر، لأن ما دونه عاجل وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الأصح، اهـ، وقال قاضيخان: والشهر وما فوقه متقادم فيمنع قبول الشهادة، وعليه الاعتماد، اهـ.
(ومن وطئ أجنبية فيما دون الفرج) كتفخيذ وتبطين (عزر) ، لأنه منكر ليس فيه شيء مقدر، وشمل قوله (فيما دون الفرج) الدبر، وهو قول الإمام، لأنه ليس بزنا كما يأتي قريباً.
(ولا حد على من وطئ جارية ولده وولد ولده) وإن سفل، ولو ولده حيا، فتح (وإن قال علمت أنها علي حرام) لأن الشبهة حكمية لأنها نشأت عن دليل هو قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) والأبوة قائمة في حق الجد. هداية (وإذا وطئ جارية أبيه أو أمه) وإن عليا (أو زوجته أو وطئ العبد جارية مولاه وقال علمت أنهل تحل لي لم يحد) لأن بين هؤلاء انبساطا في الانتفاع، فظنه في الاستمتاع محتمل، فكان شبهة اشتباه، وكذا لو قالت الجارية (ظننت أنه يحل لي) والفحل لم يدع الحل، لأن الفعل واحد كما في الجوهرة (ومن وطئ جارية أخيه أو عمه قال ظننت أنها حلال حد) لأنه لا انبساط في المال فيما بينهما، وكذا سائر المحارم سوى

(3/190)


ومن زفت إليه غير امرأته وقالت النساء "إنها زوجتك" فوطئها، فلا حد عليه، وعليه المهر.
ومن وجد امرأةً على فراشه فوطئها فعليه الحد، ومن تزوج امرأةً لا يحل له نكاحها فوطئها لم يجب عليه الحد، ومن أتى امرأةً في الموضع المكروه أو عمل عمل قوم لوطٍ فلا حد عليه عند أبي حنيفة ويعزر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الولاد لما بينا، هداية.
(ومن زفت إليه غير امرأته وقالت النساء إنها زوجتك فوطئها فلا حد عليه) لأنه اعتمد دليلا - وهو الإخبار - في موضع الاشتباه، إذ الإنسان لا يميز بين امرأته وبين غيرها في أول الوهلة، فصار كالمغرور (وعليه المهر) ؛ لما تقرر أن الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن عقر أو عقر، وقد سقط الحد بالشبهة فيجب المهر (ومن وجد امرأة) نائمة (على فراشه فوطئها فعليه الحد) لأنه لا اشتباه بعد طول الصحبة، فلم يكن الظن مستنداً إلى دليل، وهذا لأنه قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها، وكذا إذا كان أعمى، لأنه يمكنه التمييز بالسؤال أو غيره، إلا إذا دعاها فأجابته وقالت (أنا زوجتك) لأن الإخبار دليل هداية. (ومن تزوج امر
أة لا يحل له نكاحها فوطئها لم يجب عليه الحد) ، لشبهة العقد، قال الإسبيجاني: وهذا قول أبي حنيفة وزفر، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا تزوج محرمة وعلم أنها حرام فليس ذلك بشبهة وعليه الحد إذا وطئ، وإن كان لا يعلم فلا حد عليه، والصحيح قول أبي حنيفة وزفر، وعليه مشى النسفي والمحبوبي وغيرهما، تصحيح.
(ومن أتى امرأة في الموضع المكروه) : أي الدبر (أو عمل عمل قوم لوط) أي أتى ذكراً في دبره (فلا حد عليه عند أبي حنيفة، ويعزر) زاد في الجامع الصغير:

(3/191)


وقال أبو يوسف ومحمد: هو كالزنا، ومن وطئ بهيمةً فلا حد عليه، ومن زنى في دار الحرب أو دار البغي ثم خرج إلينا لم نقم عليه الحد.

باب حد الشرب
- ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويودع في السجن اهـ، لأنه ليس بزنا، لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في موجبه من الإحراق بالنار، وهدم الجدار، والتنكبس من مكان مرتفع، وإتباع الأحجار وغير ذلك، ولا هو في معنى الزنا، لأنه ليس فيه إضاعة الولد واشتباه الأنساب، إلا أنه يعزر، لأنه أمر منكر ليس فيه شيء مقدر (وقال أبو يوسف ومحمد: هو كالزنا) لأنه في معنى الزنا، قال جمال الإسلام في شرحه: الصحيح قول أبي حنيفة وعليه مشى المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(ومن وطئ بهيمة) له أو غيره (فلا حد عليه) ، لأنه ليس في معنى الزنا إلا أنه يعزر، لأنه منكر كما مر، قال في الهداية: والذي يروي أنها تذبح وتحرق فذلك لقطع التحدث، وليس بواجب، اهـ.
(ومن زنى في دار الحرب أو دار البغي ثم خرج إلينا لم نقم عليه الحد) ، لأن المقصود هو الانزجار، وولاية الإمام منقطعة فيها فيعرى عن الفائدة، ولا تقام بعدما خرج لأنها لم تنعقد موجبة فلا تنقلب موجبة، ولو غزا من له ولاية الإقامة بنفسه كالخليفة وأمير المصر يقيم الحد على من زنى في معسكره، لأنه تحت أمره، بخلاف أمير العسكر والسرية، لأنه لم يفوض إليهم الإقامة كما في الهداية.
باب حد الشرب المحرم
(ومن شرب الخمر) طوعا، ولو قطرة (فأخذ وريحها موجود) أو جاءوا به سكران

(3/192)


فشهد الشهود بذلك عليه أو أقر فعليه الحد، وإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد، ومن سكر من النبيذ حد، ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها، ولا يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فشهد الشهود بذلك عليه أو أقر) به (فعليه الحد) سواء سكر أم لا، لأن جناية الشرب قد ظهرت، ولم يتقادم العهد (وإن أقر) بذلك (بعد ذهاب ريحها لم يحد) عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يحد، وكذلك إذا شهدوا عليه بعدما ذهب ريحها، إلا أن يتقادم الزمان كما في الزنا، فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق، غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا، وعندهما بزوال الرائحة. وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عنده كما في حد الزنا، وعندهما لا يقام إلا عند قيام الرائحة، قال الإسبيجاني والصحيح قولهما، واعتمده المحبوبي والنسفي، تصحيح. وإن أخذه الشهود وريحها يوجد منه أو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به حد في قولهم جميعاً، لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا، هداية.
(ومن سكر من النبيذ) أي نبيذ كان (حد) قيد بالسكر من النبيذ لأنه لا يحد بشربه إذا لم يسكر اتفاقا، وإن اختلف في الحل والحرمة في شرب دون المسكر إذا كان كثيره يسكر، للشبهة. والسكران عند أبي حنيفة: من لا يعرف الرجل من المرأة والأرض من السماء، وقالا: هو الذي يخلط كلامه ويهذي، لأنه هو المتعارف بين الناس، وهو اختيار أكثر المشايخ كما في الاختيار، وقال قاضيخان: والفتوى على قولهما، اهـ.
(ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها) ، لأن الرائحة محتملة، وكذا الشرب قد يقع عن إكراه واضطرار (ولا يحد السكران) بمجرد وجدانه سكران بل (حتى يعلم أنه سكر من النبيذ) أو الخمر (وشربه طوعا) لاحتمال سكره

(3/193)


ولا يحد حتى يزول عنه السكر.
وحد الخمر والسكر، في الحر ثمانون سوطاً، يفرق على بدنه كما ذكرنا في الزنا، وإن كان عبداً فحده أربعون سوطاً.
ومن أقر بشرب الخمر أو السكر ثم رجع لم يحد.
ويثبت الشرب بشهادة شاهدين، وبإقراره مرةً واحدةً، ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بما لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك (الرماك: جمع رمكة - بوزن قصبة - وهي الفرس أو البرذرنة تتخذ للنسل) والشرب مكرهاً أو مضطراً.
(ولا يحد) السكران حال سكره؛ بل (حتى يزول عنه السكر) ، تحصيلا للمقصود - وهو الانزجار - بوجدان الألم، والسكران زائل العقل كالمجنون لا يعقل الألم] .
(وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطاً) : لإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم (يفرق) ذلك (على بدنه كما ذكرنا في) حد (الزنا، وإن كان) الشارب (عبداً فحده أربعون سوطاً) ، لأن الرق منصف على ما عرف.
(ومن أقر) على نفسه (بشرب الخمر أو السكر ثم رجع لم يحد) لأنه خالص حق الله تعالى، فيقبل فيه الرجوع، كما مر في حد الزنا.
(ويثبت الشرب بشهادة شاهدين) كسائر الحدود سوى الزنا لثبوته بالنص (وبإقراره مرة واحدة) قال الإسبيجاني: هو قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف وزفر: يشترط الإقرار مرتين، والصحيح قول الإمام، واعتمده المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح (ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال) لأنه حد، ولا مدخل لشهادة النساء في الحدود، جوهرة

(3/194)


باب حد القذف
- إذا قذف رجلٌ رجلا محصناً أو امرأةً محصنةً بصريح الزنا، وطالب المقذوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطاً إن كان حراً يفرق على أعضائه، ولا يجرد عن ثيابه، غير أنه ينزع عنه الفرو والحشو، وإن كان عبداً جلده أربعين.
والإحصان: أن يكون المقذوف حراً، عاقلاً، بالغاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب حد القذف
هو لغة: الرمي، وشرعا: الرمي بالزنا، وهو من الكبائر بالإجماع؛ فتح.
(إذا قذف رجل) أو امرأة (رجلا محصناً أو امرأةً محصنة) بصريح الزنا كزنيت أو يا زانية (وطالب المقذوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطاً إن كان) القاذف (حراً) لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} والمراد الرمي بالزنا بالإجماع. هداية. قيد بمطالبة المقذوف لأن فيه حقه من حيث دفع العار عنه، وبإصحانه لما تلونا، وبالحر لأن العبد على النصف كما يأتي (يفرق) ذلك الضرب (على أعضائه) كما سبق (ولا يجرد من ثيابه) ؛ لأنه أخف الحدود، لأن سببه غير مقطوع به، لاحتمال صدقه (غير أنه ينزع عنه الحشو والفرو) لأنه يمنع إيصال الألم إليه (وإن كان) القاذف (عبداً جلده) الحاكم (أربعين سوطا) لمكان الرق كما سبق.
ولما كان معنى الإحصان هنا مغايراً لمعنى الإحصان في الزنا فسره بقوله: (والإحصان أن يكون المقذوف حراً) لإطلاق اسم الإحصان عليه في قوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات} أي الحرائر (عاقلا بالغا) لأن المحنون والصبي

(3/195)


مسلماً، عفيفاً عن فعل الزنا.
ومن نفى نسب غيره فقال (لست لأبيك) ، أو (يا ابن الزانية) وأمه ميتةٌ محصنةٌ وطالب الابن بالحد حد القاذف، ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه، وإن كان المقذوف محصناً جاز لابنه الكافر والعبد أن يطالب بالحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يلحقهما عار، لعدم تحقق فعل الزنا منهما (مسلماً) لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أشرك بالله فليس بمحصن) (عفيفاً عن فعل الزنا) لأن غير العفيف لا يلحقه العار، والقاذف صادق فيه.
(ومن نفى نسب غيره فقال: لست) بابن (لأبيك) فإنه يحد، وهذا إذا كانت أمه محصنة، لأنه في الحقيقة قذف لأمه، لأن النسب إنما ينفى عن الزاني لا عن غيره (أو) قال له (يا ابن الزانية، وأمه ميتة محصنة، وطالب الابن بالحد، حد القاذف) لأنه قذف محصنة بعد موتها، فلكل من يقع القدح في نسبه المطالبة، كما صرح به بقوله:
(ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه) وهو الوالد والولد: أي الأصول والفروع، لأن العار يلتحق بهم، لمكان الجزئية، فيكون القذف متناولا لهم معنى، قيد بموت الأم إذا كانت حية فالمطالبة لها، وكذا لو كانت غائبة لجواز أن تصدقه، والتقييد بالأم اتفاقي، فإنه لو قذف رجلا ميتا فلأصله وفرعه المطالبة، ولذا أطلقه فيما بعده حيث قال: (ولا يطالب بحد القذف للميت إلخ) (وإذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه) ولو غير محصن كابنه (الكافر أو العبد أن يطلب بالحد) ، "لأنه عيره بقذف محصن، وهو من أهل الاستحقاق، لأن عدم الإحصان لا ينافي أهلية الاستحقاق

(3/196)


وليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة.
وإن أقر بالقذف ثم رجع لم يقبل رجوعه.
ومن قال لعربيٍ "يا نبطي" لم يحد، ومن قال لرجلٍ "يا ابن ماء السماء" فليس بقاذفٍ، وإذا نسبه إلى عمه أو خاله أو زوج أمه فليس بقاذف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وليس للعبد أن يطالب مولاه) ولا للابن أن يطالب أباه (بقذف أمه الحرة) المحصنة، لأن المولى لا يعاقب بسبب عبده، وكذا الأب بسبب ابنه، ولهذا لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده.
(وإن أقر بالقذف ثم رجع لم يقبل رجوعه) ، لأن للمقذوف فيه حقاً فيكذبه في الرجوع، بخلاف ما هو خالص حق الله تعالى، لأنه لا مكذب له فيه.
(ومن قال لعربي يا نبطي) نسبة إلى النبط - بفتحتين - جيل من العرب ينزلون البطائح في سواد العراق (لم يحد) لأنه يراد به التشبيه في الأخلاق أو عدم الفصاحة، وكذا إذا قال (لست بعربي) لما قلنا، هداية (ومن قال لرجل يا ابن ماء السماء فليس بقاذف) لأنه يحتمل المدح بحسن الخلق والكرم والصفاء، لأن ابن ماء السماء لقب لجد النعمان بن المنذر، لقب به لصفائه وسخائه كما في الجوهرة (وإذا نسبه إلى عمه أو خاله أو زوج أمه فليس بقاذف) لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أبا: أما الأول فلقوله تعالى: {وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} وإسماعيل كان عما له، والثاني بقوله صلى الله عليه وسلم: (الخال أب) والثالث للتربية، هداية

(3/197)


ومن وطئ وطئاً حراماً في غير ملكه لم يحد قاذفه، والملاعنة بولدٍ لا يحد قاذفها.
ومن قذف عبداً أو أمةً أو كافراً بالزنا، أو قذف مسلماً بغير الزنا، فقال: يا فاسق، أو يا كافر، أو يا خبيث، عزر، وإن قال يا حمار أو يا خنزير لم يعزر.
والتعزير: أكثره تسعةٌ وثلاثون سوطاً، وأقله ثلاث جلدات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن وطئ وطئا حراما في غير ملكه) ، ولو بشبهة كالوطء بنكاح فاسد (لم يحد قاذفه) لعدم الإحصان (والملاعنة بولد لا يحد قاذفها) ، لأن ولدها غير ثابت النسب؛ وهو أمارة الزنا، فسقط إحصانها، وإن كانت الملاعنة بغير ولد حد قاذفها.
ومن قذف أمة أو عبداً أو كافراً) أو صغيراً (بالزنا) عزر، لأنه آذاه وألحق به الشين، ولا يحد به، لعدم إحصانه، ولا مدخل للقياس في الحدود، فوجب التعزير إلا أنه يبلغ بع غايته، لأنه من جنس ما يجب فيه الحد، وكذا لو قذف من ذكر (أو قذف مسلما) محصنا (بغير الزنا فقال) له (يا فاسق أو يا كافر أو يا خبيث) أو يا سارق، أو يا فاجر، أو يا آكل الربا، أو نحو ذلك (عزر) لما قلنا، إلا أن هذا أخف من الأول، لأنه ليس من جنس ما يجب فيه الحد، فالرأي فيه للإمام كما في الهداية (وإن قال) له (يا حمار أو يا خنزير) أو يا كلب أو يا تس (لم يعزر) لأنه ما ألحق به الشين، للتيقن بنفيه، وقيل: في عرفنا يعزر، لأنه تلحقهم الوحشة بذلك، وإن كان من العامة لا يعزر، وهو الأحسن، هداية.
(والتعزير) لغة: التأديب، وشرعا: تأديب دون الحد؛ كما أشار إليه بقوله (أكثره تسعة وثلاثون سوطا، وأقله ثلاث جلدات) ، لأن حد الرقيق في

(3/198)


وقال أبو يوسف: يبلغ بالتعزير خمسةً وسبعين سوطاً، فإن رأى الإمام أن يضم إلى الضرب في التعزير الحبس فعل.
وأشد الضرب التعزير، ثم حد الزنا، ثم حد الشرب، ثم حد القذف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القذف أربعون فينقص منه سوطا لئلا يبلغ الحد، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد (وقال أبو يوسف: يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا) قال في الهداية: والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين) فأبو حنيفة ومحمد نظرا إلى أن أدنى الحد وهو حد العبد في القذف أربعون فنقصا منه سوطا، وأبو يوسف اعتبر أقل الحد في الأحرار إذ الأصل هو الحرية، ثم نقص سوطا في رواية عنه، وهو قول زفر، وهو القياس، وفي هذه الرواية نقص خمسة، وهو مأثور عن علي رضي الله عنه، فقلده، ثم قدر الأدنى في الكتاب بثلاث جلدات، لأن ما دونها لا يقع به الزجر، وذكر مشايخنا أن أدناه على ما يراه الإمام يقدره بقدر ما يعلم أنه ينزجر، لأنه يختلف باختلاف الناس، هداية. وفي المجتبى: ويكون بالحبس، وبالصفع على العنق، وفرك الأذن، وبالكلام العنيف، وبنظر القاضي له بوجه عبوس، ويشتم غير القذف، ثم قال: وعن السرخسي لا يباح بالصفع؛ لأنه من أعلى ما يكون من الاستخفاف فيصان عنه أهل القبلة، اهـ (وإن رأى الإمام أن يضم إلى الضرب في التعزير الحبس فعل) ، لأن المقصود الزجر والتأديب، فإذا رأى الإمام حصوله بالضرب اكتفى به، وإلا ضم إليه ما يراه من الحبس والنفي كما مر.
(وأشد الضرب التعزير) ، لأنه خفف من حيث العدد فيغلظ من حيث الوصف لئلا يؤدي إلى فوت المقصود، ولهذا لم يخفف من حيث التفريق على الأعضاء كما في الهداية (ثم حد الزنا) ، لأنه أعظم جناية حتى شرع فيه الرجم (ثم حد الشرب) لأن سببه متيقن (ثم حد القذف) ، لأن سببه محتمل لاحتمال صدقه

(3/199)


ومن حده الإمام أو عزره فمات فدمه هدرٌ، وإذا حد المسلم في القذف سقطت شهادته، وإن تاب، وإن حد الكافر في القذف ثم أسلم قبلت شهادته، والله أعلم.