اللباب في شرح الكتاب

كتاب الرجوع عن الشهادة.
- إذا رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها سقطت، وإن حكم بشهادتهم ثم رجعوا لم يفسخ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معه: إن وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس، كما نقل عن القاضي شريح (ولا أعزره) بالضرب؛ لأن المقصود الانزجار، وهو يحصل بالتشهير، بل ربما يكون أعظم عند الناس من الضرب، فيكتفي به (وقال أبو يوسف ومحمد: نوجعه ضرباً ونحبسه) حتى يحدث توبة. قال في التصحيح: وعلى قول أبي حنيفة مشى النسفي والبرهاني وصدر الشريعة، اهـ. ثم شهد شاهد الزور هو المقر على نفسه بذلك؛ إذ لا طريق إلى إثباته بالبينة، لأنه نفي للشهادة، والبينات للإثبات، وقيل: هو أن يشهد بقتل رجل ثم يجئ المشهود بقتله حيا حتى يثبت كذبه بيقين، أما إذا قال: "أخطأت في الشهادة " أو "غلطت" لا يعزر، جوهرة.
كتاب الرجوع عن الشهادة
هو بمنزلة الباب من كتاب الشهادات؛ لأنه مندرج تحت أحكام الشهادات.
(إذا رجع الشهود عن شهادتهم) بأن قالوا: رجعنا عما شهدنا به، ونحوه، بخلاف الإنكار؛ فإنه لا يكون رجوعاً، وكان ذلك (قبل الحكم بها) أي بالشهادة (سقطت) شهادتهم؛ لأن الحق إنما يثبت بالقضاء، والقاضي لا يقضي بكلام متناقض، ولا ضمان عليهما؛ لأنهما ما أتلفا شيئاً: لا على المدعي، ولا على المشهود عليه، هداية. (وإن) كان (حكم بشهادتهم ثم رجعوا، لم يفسخ

(4/71)


الحكم، ووجب عليهم ضمان ما أتلفوه بشهادتهم، ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم.
وإذا شهد شاهدان بمالٍ فحكم الحاكم به ثم رجعا ضمنا المال المشهود عليه، وإن رجع أحدهما ضمن النصف، وإن شهد بالمال ثلاثةٌ فرجع أحدهم فلا ضمان عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحكم) ؛ لأن آخر كلامهم يناقض أوله، فلا ينقض الحكم بالمتناقض، ولأنه في الدلالة على الصدق مثل الأول، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به (ووجب عليهم) أي الشهود (ضمان ما أتلفوه بشهادتهم) ؛ لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، لأن رجوعهم يتضمن دعوى بطلان القضاء، ودعوى إتلاف المال على المشهود عليه بشهادتهم؛ فلا يصدقون في حق القضاء، ويصدقون بسبب الضمان.
(ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم) ولو غير الأول؛ لأنه فسخ للشهادة، فيختص بما تختص به الشهادة من المجلس، وهو مجلس القاضي كما في الهداية.
(وإذا شهد شاهدان بمال فحكم الحاكم به ثم رجعا) عن الشهادة عند الحاكم (ضمنا المال) المشهود به (للمشهود عليه) ؛ لأن السبب على وجه التعدي سبب الضمان كحافر البئر، وقد تسببا للاتلاف تعديا مع تعذر تضمين المباشر - وهو القاضي - لأنه كالملجأ إلى القضاء (وإن رجع أحدهما ضمن النصف) والأصل: أن المعتبر في هذا بقاء من بقي، لا رجوع من رجع، وقد بقي من يتقي بشهادته نصف الحق.
(وإن شهد بالمال ثلاثة) من الرجال (فرجع أحدهم فلا ضمان عليه)

(4/72)


فإن رجع آخر ضمن الراجعان نصف المال. وإن شهد رجلٌ وامرأتان فرجعت امرأةٌ ضمنت ربع الحق وإن رجعتا ضمنتا نصف الحق، وإن شهد رجلٌ وعشر نسوةٍ ثم رجع ثمان منهن فلا ضمانٌ عليهن، وإن رجعت أخرى كان على النسوة ربع الحق، فإن رجع الرجل والنساء فعلى الرجل سدس الحق، وعلى النسوة خمسة أسداس الحق عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمدٌ: على الرجل النصف وعلى النسوة النصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق (فإن رجع آخر ضمن الراجعان نصف المال) لأنه ببقاء أحدهم يبقى نصف الحق.
(وإن شهد رجل وامرأتان، فرجعت امرأة ضمنت ربع الحق) لبقاء ثلاثة الأرباع ببقاء من بقي (وإن رجعتا) أي المرأتان (ضمنتا نصف الحق) ؛ لأن بشهادة الرجل الباقي يبقى نصف الحق.
(وإن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجع ثمان منهن، فلا ضمان عليهن) ، لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق (فإن رجعت) امرأة (أخرى كان على النسوة) الراجعين (1) من حق العربية أن يقول "الراجعات" (ربع الحق) لأنه بقي النصف بشهادة الرجل، والربع بشهادة الباقية (فإن رجع الرجل والنساء) جميعاً (فعلى الرجل سدس الحق، وعلى النسوة خمسة أسداس الحق عند أبي حنيفة) ، لأن كل امرأتين قامتا مقام رجل واحد، فصار كما إذا شهد بذلك ستة رجال ثم رجعوا جميعاً، وقال أبو يوسف ومحمد: على الرجل النصف، وعلى النسوة النصف)

(4/73)


وإن شهد شاهدان على امرأةٍ بالنكاح بمقدار مهر مثلها ثم رجعا فلا ضمان عليهما، وكذلك إن شهدا على رجلٍ بتزوج امرأةٍ بمقدار مهر مثلها وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا ضمناً الزيادة. وإن شهدا ببيعٍ بمثل القيمة أو أكثر ثم رجعا لم يضمنا، وإن كان بأقل من القيمة ضمنا النقصان وإن شهدا على رجلٍ أنه طلق امرأته قبل الدخول ثم رجعا ضمنا نصف المهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنهن - وإن كثرن - يقمن مقام رجل واحد؛ ولهذا لا تقبل شهادتهن إلا بانضمام رجل، قال في التصحيح: وعلى قول الإمام مشى المحبوبي والنسفي وغيرهما] .
(وإن شهد شاهدان على امرأة بالنكاح) على مهر (بمقدار مهر مثلها) أو أقل أو أكثر (ثم رجعا فلا ضمان عليهما) ؛ لأن منافع البضع غير متقومة عند الإتلاف؛ لأن التضمين يستدعي المماثلة، ولا مماثلة بين البضع والمال، وإنما تتقوم على الزوج عند التملك ضرورة الملك إظهارا لخطر المحل (وكذلك إن شهدا على رجل بتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها) ، لأنه إتلاف بعوض، لأن البضع متقوم حالة الدخول في الملك كما سبق، والإتلاف بعوض كالإتلاف (فإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا ضمنا الزيادة) لإتلافها الزيادة من غير عوض.
(وإن شهدا) على بائع (ببيع) شيء (بمثل القيمة أو أكثر، ثم رجعا لم يضمنا) ؛ لأنه ليس بإتلاف معنى نظرا إلى العوض (وإن كان) ما شهدا به (بأقل من القيمة ضمنا النقصان) لإتلافهما هذا الجزء بلا عوض.
(وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته) وكان ذلك (قبل الدخول) بها (ثم رجعا ضمنا نصف المهر) ؛ لأنهما قررا عليه مالا كان على شرف السقوط

(4/74)


فإن كان بعد الدخول لم يضمنا.
وإن شهدا أنه أعتق عبده ثم رجعا ضمنا قيمته.
وإن شهدا بقصاصٍ ثم رجعا بعد القتل ضمنا الدية، ولا يقتص منهما وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا. وإن رجع شهود الأصل وقالوا "لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا" فلا ضمان عليهم، وإن قالوا "أشهدناهم وغلطنا" ضمنوا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بمجئ الفرقة من قبلها (وإن كان) ذلك (بعد الدخول) بها (لم يضمنا) شيئا؛ لأن المهر تأكد بالدخول، والبضع عند الخروج عن الملك لا قيمة له كما مر، فلا يلزم بمقابلته شيء.
(وإن شهدا) على رجل (أنه أعتق عبده ثم رجعا ضمنا قيمته) ، لإتلافهما مالية العبد من غير عوض، والولاء للمعتق، لأن العتق لا يتحول إليهما بهذا الضمان، فلا يتحول الولاء، هداية.
(وإن شهدا بقصاص ثم رجعا بعد القتل ضمنا الدية) في مالهما في ثلاث سنين؛ لأنهما معترفان، والعاقلة لا تعقل الاعتراف (ولا يقتص منهما) ، لأنهما لم يباشرا القتل ولم يحصل منهما إكراه عليه.
(وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا) ما أتلفوه بشهادتهم، لأن الشهادة في مجلس القضاء صدرت منهم، فكان التلف مضافا إليهم (وإن رجع شهود الأصل) بعد القضاء (وقالوا: لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا، فلا ضمان عليهم) لأنهم أنكروا السبب، ولا يبطل القضاء، لتعارض الخبرين. أما إذا كان قبل القضاء فإنها تبطل شهادة الفرع، لإنكار شهود الأصل التحميل، ولابد منه (وإن قالوا: أشهدناهم و) لكن (غلطنا ضمنوا) قال في الهداية: وهذا عند محمد، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: لا ضمان عليهم، لأن القضاء وقع بشهادة

(4/75)


وإن قال شهود الفرع "كذب شهود الأصل" أو "غلطوا في شهادتهم" لم يلتفت إلى ذلك.
وإذا شهد أربعةٌ بالزنا وشاهدان بالإحصان فرجع شهود الإحصان لم يضمنوا، وإذا رجع المزكون عن التزكية ضمنوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفروع؛ لأن القاضي يقضي بما يعاين من الحجة، وهي شهادتهم، وله أن الفروع نقلوا شهادة الأصول، فصار كأنهم حضروا، اهـ. قال في الفتح: وقد أخر المصنف دليل محمد، وعادته أن يكون المرجح عنده ما أخره، اهـ. وفي الهداية: ولو رجع الأصول والفروع جميعا يجب الضمان عندهما على الفروع لا غير؛ لأن القضاء وقع بشهادتهم، وعند محمد المشهود عليه بالخيار: إن شاء ضمن الأصول، وإن شاء ضمن الفروع، وتمامه فيها (وإن قال شهود الفرع) بعد القضاء بشهادتهم: (كذب شهود الأصل، أو غلطوا في شهادتهم، لم يلتفت إلى ذلك) ، لأن ما أمضى من القضاء لا ينقض بقولهم، ولا يجب الضمان عليهم، لأنهم ما رجعوا عن شهادتهم، وإنما شهدوا بالرجوع على غيرهم.
(وإذا شهد أربعة بالزنا وشاهدان بالإحصان، فرجع شهود الإحصان) عن شهادتهم (لم يضمنوا) ؛ لأن الحكم يضاف إلى السبب - وهو منا الزنا - بخلاف الإحصان، فإنه شرط كالبلوغ، والعقل والإسلام، وهذه المعاني لا يستحق عليهما العقاب، وإنما يستحق العقاب بالزنا، وتمامه في الجوهرة.
(وإذا رجع المزكون عن التزكية ضمنوا) قال في الهداية: وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمنون؛ لأنهم أثنوا على الشهود، فصاروا كشهود الإحصان؛ وله أن التزكية إعمال للشهادة، إذ القاضي لا يعمل بها إلا بالتزكية فصار في معنى علة العلة، بخلاف شهود الإحصان، لأنه شرط محض. قال جمال الإسلام في شرحه: والصحيح قول الإمام، واعتمده البرهاني، والنسفي، وصدر الشريعة، تصحيح

(4/76)


وإذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان بوجود الشرط ثم رجعوا فالضمان على شهود اليمين خاصة.