المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 5 ص -3-            باب نكاح البكر:
قال رضي الله عنه: وإذا زوج الرجل ابنته الكبيرة وهي بكر فبلغها فسكتت فهو رضاها, والنكاح جائز عليها, وإذا أبت وردت لم يجز العقد عندنا. وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى: يجوز العقد وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى احتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للولي مع الثيب أمر" فتخصيص الثيب بالذكر عند نفي ولاية الاستبداد للولي بالتصرف دليل على أنه يستبد بتزويج البكر. ولأن هذه بكر, فيملك أبوها تزويجها كما لو كانت صغيرة وهذا لما بينا أن بالبلوغ لا يحدث لها رأى في باب النكاح. فإن طريق معرفة ذلك التجربة, فكان بلوغها مع صفة البكارة كبلوغها مجنونة, بخلاف المال والغلام, فإن الرأي هناك يحدث بالبلوغ عن عقل, والدليل عليه أن للأب أن يقبض صداقها بغير أمرها إذا كانت بكرا. فإذا جعل في حق قبض الصداق كأنها صغيرة حتى يستبد الأب بقبض صداقها, فكذا في تزويجها, وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما, أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر زوجها أبوها وهي كارهة.
وفي حديث آخر قال في البكر:
"يزوجها وليها فإن سكتت فقد رضيت وإن أبت لم تكره" وفي رواية: "فلا جواز عليها" والدليل عليه حديث الخنساء, فإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أن أبي زوجني من بن أخيه وأنا لذلك كارهة. فقال صلى الله عليه وسلم: "أجيزى ما صنع أبوك" فقالت: ما لي رغبة فيما صنع أبي. فقال صلى الله عليه وسلم: "أذهبي فلا نكاح لك انكحى من شئت" فقالت: أجزت ما صنع أبي ولكني أردت أن يعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء. ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتها, ولم يستفسر أنها بكر أو ثيب, فدل أن الحكم لا يختلف.
وفي الحديث المعروف:
"البكر تستأمر في نفسها وسكوتها رضاها" فدل أن أصل الرضا منها معتبر, والشافعي رحمه الله تعالى لا يعمل بهذا الحديث أصلا فإنه يقول: في حق الأب والجد لا يشترط رضاها, وفي تزويج غير الأب والجد لا يكتفي بسكوتها. وما علق في حديث آخر من الحق لها بصفة الثيوبة المراد به في حق الضم والتفرد بالسكني, يعني أن للولي أن يضم البكر إلى نفسه لأنه يخاف عليها أن تخدع, فإنها لم تمارس الرجال ولم تعرف كيدهم. وللثيب أن تنفرد بالسكني لأنها آمنة من ذلك, والمعني فيه إنها حرة مخاطبة, فلا يجوز تزويجها بغير

 

ج / 5 ص -4-            رضاها كالثيب وتأثيره أن الحرية والخطاب وصفان مؤثران في استبداد المرء بالتصرف وزوال ولاية الافتيات عليه كما في حق المال والغلام, وبقاء صفة البكارة تأثيره في عدم الاهتداء بسبب انعدام التجربة والامتحان ولهذا لا تثبت ولاية الافتيات عليه كما في المال.
فإن الظاهر إن من يبلغ لا يكون مهتديا إلى التصرفات قبل التجربة والامتحان, ولكن الاهتداء وعدم الاهتداء لا يوقف على حقيقته وتختلف فيه أحوال الناس. فأقام الشرع البلوغ عن عقل مقام حقيقة الاهتداء تيسيرا للأمر على الناس, وسقط اعتبار الاهتداء الذي يحصل قبل البلوغ بسبب التجربة, ويسقط اعتبار الجهل الذي يبقى بعد البلوغ لعدم التجربة.
ألا ترى أن البكر التي لا أب لها غير مهتدية كالتي لها أب؟ ثم اعتبار رضاها في تزويجها بالاتفاق وكذلك إقرارها بالنكاح يصح. فلو كان بقاء صفة البكارة في حقها كبقاء صفة الصغر لم يجز إقرارها بالنكاح. وإما قبض الصداق فعندنا لو نهت الأب عن قبض صداقها لم يكن له أن يقبض ولكنه عند عدم النهي له أن يقبض لوجود الأذن دلالة, فإن الظاهر أن البكر تستحي من قبض صداقها وأن الأب هو الذي يقبض لتجهيزها بذلك مع مال نفسه إلى بيت زوجها فكان له أن يقبض لهذا. وبعد الثيوبة لا توجد هذه العادة لأن التجهيز من الآباء بالإحسان مرة بعد مرة لا يكون فصار الأب في المرة الثانية كسائر الأولياء.
قال: وإن سكتت حين بلغها عقد الأب, فالنكاح جائز عليها لأن الشرع جعل السكوت منها رضا لعلة الحياء, فإن ذلك يحول بينها وبين النطق فتكون بمنزلة الخرساء. فكما تقوم أشارة الخرساء مقام عبارتها فكذلك يقام سكوت البكر مقام رضاها وكان محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى يقول: إذا استأمرها قبل العقد فسكتت فهو رضا منها بالنص فأما إذا بلغها العقد فسكتت لا يتم العقد, لأن الحاجة إلى الإجازة هنا والسكوت لا يكون إجازة منها لأن هذا ليس في معنى المنصوص. فإن السكوت عند الاستئمار لا يكون ملزما وحين يبلغها العقد الرضا يكون ملزما فلا يثبت ذلك بمجرد السكوت. ولكنا نقول: هذا في معنى المنصوص لأن عند الاستئمار لها جوابان نعم أو لا فيكون
سكوتها دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك وهو نعم لما فيه من إظهار الرغبة إلى الرجال. وكذلك إذا بلغها العقد فلها جوابان: أجزت أو رددت فيجعل السكوت دليلا على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك وهو الإجازة.
قال: وكذلك لو ضحكت لأن الضحك أدل علي الرضا بالتصرف من السكوت بخلاف ما إذا بكت فإن البكاء دليل السخط والكراهة. وقد قال بعض المتأخرين هذا إذا كان لبكائها صوت كالويل فأما إذا خرج الدمع من عينها من غير صوت البكاء لم يكن هذا ردا, بل هي تحزن علي مفارقة بيت أبويها وإنما يكون ذلك عند الإجازة وكذلك قالوا: إن ضحكت كالمستهزئة لما سمعت لا يكون رضا والضحك الذي يكون بطريق الاستهزاء معروف بين الناس.

 

ج / 5 ص -5-            قال: فإن قال قبل النكاح: أن فلانا يخطبك وأنا مزوجك إياه فسكتت ثم ذهب فزوجها جاز النكاح لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب إليه بنت من بناته دنا من خدرها وقال: "إن فلانا يخطب فلانة" ثم ذهب فزوجها إن سكتت وإن نكتت خدرها بإصبعها لم يزوجها وفي رواية أنه كان يقول إن فلانا يخطب فلانة فإن كرهتيه قولي لا فإنما طلب منها جواب الرد لا جواب الرضا فدل أن السكوت يكفي للرضا وفي الكتاب لم يشترط تسمية الصداق في الاستئمار وإنما اشترط تسمية الزوج لأن الظاهر إن اختلاف رغبتها يكون باختلاف الزوج وإن الأب لا يقف على مرادها في حق الزوج فأما في حق الصداق فالأب يعلم بمرادها في ذلك وهو صداق مثلها فلا حاجة إلى تسمية ذلك مع أن في أصل النكاح الشرط تسمية الزوجين لا المهر ففي الاستئمار أولى وبعض المتأخرين يقولون لا بد من تسمية المهر في الاستئمار لأن رغبتها تختلف باختلاف الصداق والقلة والكثرة والذي بيناه في الأب هو الحكم في سائر الأولياء فهذا دليل على أن الاستئمار إنما يكون معتبرا من الولي الذي يملك مباشرة العقد فأما الأجنبي إذا استأمرها فسكتت لم يكن له أن يزوجها لأن سكوتها لعدم الالتفات إلى إستئمار الأجنبي فكأنها قالت مالك وللاستئمار حين لم تكن بسبيل من العقد إلا أن يكون الذي استأمرها رسول الولي فحينئذ الرسول قائم مقام المرسل, وحكي عن الكرخي رحمه الله تعالى: أن سكوتها عند استئمار الأجنبي يكون رضا لأنها تستحي من الأجنبي أكثر مما تستحي من الولى.
قال: وإذا قالت البكر: لم أرض حين بلغني وادعى الزوج رضاها, فالقول قولها عندنا. وقال زفر رحمه الله تعالى: القول قول الزوج لأنه متمسك بما هو الأصل وهو السكوت. والمرأة تدعى عارضا وهو الرد فيكون القول قول من يتمسك بالأصل كالمشروط له الخيار مع صاحبه إذا اختلفا بعد مضي المدة فادعى المشروط له الخيار الرد وأنكره صاحبه, فالقول قوله لتمسكه بالأصل وهو السكوت. وكذلك الشفيع مع المشتري إذا اختلفا, فقال:الشفيع علمت بالبيع أمس فطلبت الشفعة وقال المشتري: بل سكت فالقول قول المشتري لتمسكه بما هو الأصل. ولكنا نقول: الزوج يدعى ملك بضعها وهذا ملك حادث وهي تنكر ثبوت ملكه عليها, فكانت هي المتمسكة بالأصل فكان القول قولها,كما لو ادعى أصل العقد وأنكرت هي. وهذا لأن ما قاله زفر رحمه الله تعالى نوع ظاهر, والظاهر يكفي لدفع الاستحقاق لا لأثبات الاستحقاق وحاجة الزوج هنا إلى اثبات الاستحقاق.
وفي الحقيقة, المسألة تنبنى على مسألة أخرى وهو أنه إذا قال لعبده: إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر فمضى اليوم وقال العبد:لم أدخل وقال المولى: قد دخلت عند زفر رحمه الله تعالى: القول قول العبد لتمسكه بما هو الأصل وعندنا: القول قول المولى لأن حاجة العبد إلى إثبات الاستحقاق والظاهر لهذا لا يكفي. ولأن عدم الدخول شرط للعتق ولا يكتفي بثبوت الشرط بطريق الظاهر, فكذا هنا رضاها شرط لثبوت النكاح, والظاهر لا يكفي لذلك.

 

ج / 5 ص -6-            فأما الشفيع إذا قال:طلبت الشفعة حين علمت فالقول قوله وأن قال:علمت أمس وطلبت الآن فالقول قول المشتري, لأن حاجة المشتري إلى دفع استحقاق الشفيع والظاهر يكفي للدفع. وكذلك في باب البيع فإن سبب لزوم العقد وهو مضى مدة الخيار قد ظهر فحاجة الآخر إلى دفع استحقاق مدعي الفسخ والظاهر يكفي لذلك. فإن أقام الزوج البينة على سكوتها ثبت النكاح وإلا فلا نكاح بينهما ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: تستحلف فإن نكلت قضى عليها بالنكاح.
وأصل المسألة أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا يستحلف في ستة أشياء: في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والنسب والولاء. وعندهما يستحلف في ذلك كله فيقضي بالنكول. وقد ذكر في الدعوى فصلا شائعا إذا ادعت الأمة على مولاها أنها أسقطت سقطا مستبين الخلق وصارت أم ولد له بذلك, وحجتهما في ذلك أن هذه الحقوق تثبت مع الشبهات, فيجوز القضاء فيها بالنكول كالأموال وهذا لأن النكول قائم مقام الإقرار, ولكن فيه نوع شبهة لأنه سكوت والسكوت محتمل فإنما يثبت به ما يثبت مع الشبهات ولهذا لا يثبت القصاص بالنكول لأنه يندرئ بالشبهات, وإنما يثبت بالنكول ما يثبت بالإبدال من الحجج نحو كتاب القاضي إلى القاضي, والشهادة على الشهادة. وهذه الحقوق تثبت بذلك فكذلك بالنكول لأنه بدل عن الإقرار.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: هذه الحقوق لا يجزى فيها البدل, فلا يقضي فيها بالنكول كالقصاص في النفس. وبيان الوصف ظاهر فإن المرأة لو قالت: لا نكاح بيني وبينك ولكن بذلت لك نفسي لا يعمل بذلها. وكذلك لو قال:لست بابن لك ولا مولى ولكن أبذل لك نفسي, أو قال:أنا حر الأصل ولكن أبذل لك نفسي لتسترقني, لا يعمل بذله أصلا بخلاف المال فإنه لو قال:هذا المال ليس لك ولكن أبذله لك لأتخلص من خصومتك, كان بذله صحيحا وتأثيره إن النكول بمنزلة البذل لا بمنزلة الإقرار, فإنا لو جعلناه بذلا يتوصل المدعي إلى حقه مع بقاء المدعى عليه محقا في إنكاره, وإذا جعلناه إقرارا يجعل المدعى عليه مبطلا في إنكاره وذلك لا يجوز إلا بحجة. ولأن النكول سكوت فهو إلى ترك المنازعة أقرب منه إلى الإقرار فإنما يثبت به أدنى ما يثبت بترك المنازعة وهو البذل.
فرق أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا وبين القصاص في النفس. فإن هناك يستحلف وإن كان لا يقضي بالنكول لأن اليمين في النفس مقصودة لعظم أمر الدم. ألا ترى أن الأيمان في القسامة شرعت مكررة؟ وفي هذه المسائل اليمين ليست بحق له مقصودا وإنما المقصود منه القضاء بالنكول فإذا لم يجز القضاء بالنكول لا حاجة إلى الاستحلاف لكونه غير مفيد وبأن كان يثبت بالإبدال من الحجج فذاك لا يدل على أنه يستحلف فيه, كتصديق المقذوف القاذف يثبت بالإبدال من الحجج ولا يجري فيه الاستحلاف.

 

ج / 5 ص -7-            قال: وإن كان الزوج قد دخل بها ثم قالت لم أرض لم تصدق على ذلك لأن تمكينها الزوج من نفسها أدل على الرضا من سكوتها إلا أن يكون دخل بها وهي مكرهة, فحينئذ القول قولها لظهور دليل السخط منها دون دليل الرضا. ولا يقبل عليها قول وليها بالرضا لأنه يقر عليها بثبوت الملك للزوج وإقراره عليها بالنكاح بعد بلوغها غير صحيح بالاتفاق وهذا لأنه لا يملك إلزام العقد عليها فلا يعتبر إقراره في لزوم العقد عليها أيضا.
قال: وإذا زوج ابنه الكبير فبلغه فسكت لم يكن رضا حتى يرضى بالكلام أو بفعل يكون دليل الرضا لأن في حق الأنثى السكوت جعل رضا لعلة الحياء, وذلك لا يوجد في الغلام, فإنه لا يستحي من الرغبة في النساء ولأن السكوت من البكر محبوب في الناس عادة وفي حق الغلام السكوت مذموم لأنه دليل على التخنث, فلهذا لا يقام سكوته مقام رضاه.
قال: وإذا مات زوج البكر قبل أن يدخل بها بعد ما خلا بها زوجها أبوها بعد انقضاء العدة كما تزوج البكر, لأن صفة البكارة قائمة والحياء الذي هو علة قائم. فإن بوجوب العدة والمهر لا يزول الحياء فلهذا يكتفي بسكوتها. وإن جومعت بشبهة أو نكاح فاسد لم يجز تزويجها بعد ذلك إلا برضاها ولا يكتفي بسكوتها. في هذا الموضع لأنها ثيب, لقوله صلى الله عليه وسلم:
"والثيب تشاور" فأما إذا زنت يكتفى بسكوتها عند التزويج عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وعند أبي يوسف, ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى. لا يكتفي بسكوتها لأنها ثيب, لأن الثيب اسم لامرأة يكون مصيبها عائدا إليها مشتق من قولهم: ثاب, أي رجع والبكر اسم لامرأة مصيبها يكون أول مصيب لها, لأن البكارة عبارة عن أولية الشيء, ومنه يقال لأول النهار بكرة, وأول الثمار باكورة, والدليل عليه أنها تستحق من الوصية للثيب دون الوصية للأبكار.
وإذا كانت ثيبا وجب مشورتها بالنص, ولا يجوز الاشتغال بالتعليل مع هذا لأنه يكون تعليلا لابطال حكم ثابت بالنص, ولأن الحياء بعد هذا يكون رعونة منها فإنها لما لم تستح من إظهار الرغبة في الرجال على أفحش الوجوه, كيف تستحي من إظهار الرغبة على أحسن الوجوه؟ بخلاف حياء البكر لأنه حياء كرم الطبيعة وذلك أمر محمود. وهذه لو كان فيها حياء إنما هو استحياء من ظهور الفاحشة وذلك غير ما ورد فيه النص.
ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: صاحب الشرع إنما جعل سكوتها رضا لا للبكارة بل لعلة الحياء فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لما أخبرت أنها تستحي فحينئذ قال:"سكوتها رضاها". وغلبة الحياء هنا موجودة فإنها وإن أبتليت بالزنى مرة لفرط الشبق أو أكرهت على الزنى لا ينعدم حياؤها بل يزداد لأن في الاستنطاق ظهور فاحشتها وهي تستحي من ذلك غاية الاستحياء وهذا الاستحياء محمود منها لأنها سترت ما على نفسها وقد أمرت بذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: "من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله". وقبل هذا الفعل إنما كانت لا تستنطق لأن الاستنطاق دليل ظهور رغبتها في الرجال, فإذا سقط نطقها في موضع

 

ج / 5 ص -8-            يكون النطق دليل رغبتها في الرجال على أحسن الوجوه, فلأن يسقط نطقها في موضع يكون النطق دليل الرغبة في الرجال على أفحش الوجوه كان أولى, بخلاف ما إذا وطئت بشبهة أو بنكاح فاسد لأن الشرع أظهر ذلك الفعل عليها حين ألزم المهر والعدة وأثبت النسب بذلك الفعل. وهنا الشرع ما أظهر ذلك عليها إذ لم يعلق به شيئا من الأحكام وأمرها بالستر على نفسها. فإن أخرجت وأقيم عليها الحد فالصحيح أنه لا يكتفي بسكوتها أيضا بعد ذلك وكذلك إذا صار الزنى عادة لها.
وبعض مشايخنا رحمهم الله تعالى يقول في هذين الفصلين يكتفي بسكوتها أيضا لأنها بكر شرعا. ألا ترى أنها تدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم:
"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"؟ ولكن هذا ضعيف فإن في الموطؤة بالشبهة والنكاح الفاسد هذا موجود ولا يكتفي بسكوتها فعرفنا أن المعتبر بقاء صفة الحياء.
ولو زالت بكارتها بالوثبة أو الطفرة أو بطول التعنيس يكتفي بسكوتها عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى: هي بمنزلة الثيب استدلالا بالبيع فإنه لو باع جارية بشرط أنها بكر فوجدها المشتري بهذه الصفة كان له أن يردها, فدل أنها ليست ببكر بعد ما أصابها ما أصابها ولكنا نقول: هي بكر لأن مصيبها أول مصيب لها إلا أنها ليست بعذراء. والعادة بين الناس أنهم باشتراط البكارة في السرائر يريدون صفة العذرة فلهذا ثبت حق الرد فأما هذا الحكم تعلق بالحياء أو بصفة البكارة وهما قائمان. ألا ترى أن عائشة رضي الله عنها لما افتخرت بالبكارة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أشارت إلى هذا المعنى فقالت: رأيت لو وردت واديين أحداهما رعاها أحد قبلك والأخرى لم يرعها أحد قبلك إلى أيهما تميل؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
"إلى التي لم يرعها أحد قبلى" فقالت: أنا ذاك, فعرفنا أنها ما لم توطأ فهي بكر.
قال: وإذا زوج البكر أبوها من رجل وأخوها من رجل آخر بعده, فأجازت نكاح الأخ جاز ذلك عليها ولم يجز نكاح الأب وهو بناء على أصلنا أن العقد لا يجوز إلا برضاها سواء كان المباشر أبا أو أخا فإنما وجد شرط نفوذ نكاح الأخ وهو رضاها بذلك. ومن ضرورة رضاها بنكاح الأخ رد نكاح الأب فلهذا يبطل نكاح الأب.
قال: وإذا زوجها وليها بغير أمرها فلم يبلغها حتى ماتت هي أو مات الزوج لم يتوارثا, لأن النكاح لا ينفذ عليها إلا برضاها والإرث حكم يختص بالنكاح الصحيح المنتهى بالموت ولم يوجد فهو بمنزلة النكاح الفاسد إذا مات فيه أحدهما لم يتوارثا.
قال: وإن زوجها أبوها وهو عبد أو كافر ورضيت به جاز, لأن العقد كان موقوفا على إجازتها. ألا ترى أنها لو أذنت في الابتداء نفذ عقده بإذنها؟ فكذلك إذا أجازت في الانتهاء. ولكن لا نقول: سكوتها رضا منها لأن العاقد لم يكن وليا لها والحاجة في عقد غير الولي إلى توكيلها لا إلى رضاها والتوكيل غير الرضا. فإن التوكيل إنابة والرضا إسقاط حق الرد,

 

ج / 5 ص -9-            فلهذا لا يثبت التوكيل بالسكوت. وهذا يبين لك ما قلنا: أن الصحيح في استئمار الأجنبي أنه لا يكتفي بسكوتها.
 قال: وإذا زوج البكر وليها بأمرها وزوجت هي نفسها. فإن قالت: هو الأول فالقول قولها وهو الزوج لأنها أقرت بملك النكاح له على نفسها, وإقرارها حجة تامة عليها. وإن قالت لا أدري أيهما أول ولا يعلم ذلك فرق بينهما لأنه لا يمكن تصحيح نكاحهما فإن المرأة لا تحل لرجلين بالنكاح وليس أحدهما بأولى من الآخر, فيفرق بينها وبينهما لهذا, وكذلك لو زوجها وليان بأمرها والثيب والبكر في هذا سواء لما بينا.
قال: وإذا زوج البكر وليها فأخبرها بذلك فقالت لا أرضى, ثم قالت قد رضيت, فلا نكاح بينهما لأن العقد قد بطل بينهما بردها. فإنما رضيت بعد ذلك بالعقد المفسوخ وذلك باطل ولهذا جرى الرسم بتجديد العقد عند الزفاف, لأنها في المرة الأولى تظهر الرد, وغير ذلك لا يحمد منها ثم لا يزال بها أولياؤها يرغبونها حتى رضيت. فلو لم يتجدد العقد كانت تزف إلى أجنبي فلهذا استحسنا تجديد العقد عند الزفاف.
قال: وإذا استؤمرت في نكاح رجل خطبها فأبت, ثم زوجها الولى منه فسكتت فهو رضاها لأنها لما أبت بطل استئمارها, فكأنه زوجها من غير استئمار, فيكون سكوتها رضاها. وكان محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى يقول: هنا لا يجوز, ولا يكون سكوتها رضا لأنها قد صرحت بالسخط فكيف يكون سكوتها بعد ذلك دليل رضاها؟ ولكنا نقول: قد يسخط المرء الشيء في وقت ويرضى به في وقت آخر, فسخطها قبل العقد لا يمنعنا أن نجعل سكوتها رضا بعد العقد, والله أعلم بالصواب.

باب نكاح الثيب
قال: قد بلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا زوج ابنته وهي كارهة وهي تريد عم صبيانها
"ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين الذي زوجها منه أبوها ثم زوجها عم ولدها" وهذه المرأة كانت ثيبا لأن الراوي قال وهي تريد عم صبيانها فهذا دليل على أن نكاح الأب الثيب لا ينفذ بدون رضاها وهو مجمع عليه.
ولا يكون للشافعي في هذا الحديث حجة علينا في البكر لأن ضد هذا الحكم في حق البكر مفهوم والمفهوم عندنا ليس بحجة ولأنه خص الثيب بالذكر وتخصيص الثيب بالذكر لا يدل على أن الحكم في غيرها بخلافه.
ثم في هذا الحديث دليل على أن الولي إذا امتنع عن التزويج زوجها الإمام فإن الأب هنا امتنع من تزويجها ممن أرادت فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بولاية الإمامة وفيه دليل على أن اختيار الأزواج إليها لا إلى الولي لأنها هي التي تعاشر الأزواج فإنما تحسن العشرة مع من تختاره دون من يختاره الولي.

 

ج / 5 ص -10-         قال: وإذا زوج الثيب أبوها فبلغها فسكتت لم يكن سكوتها رضا بالنكاح لأن الأصل في السكوت أن لا يكون رضا لكونه محتملا في نفسه وإنما أقيم مقام الرضا في البكر لضرورة الحياء والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ولا ضرورة في حق الثيب فلهذا لا يكتفي بسكوتها عند الاستئمار ولا إذا بلغها العقد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب النكاح بغير ولي
قال: رضي الله عنه بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن امرأة زوجت ابنتها برضاها فجاء أولياؤها فخاصموها إلى علي رضي الله عنه فأجاز النكاح وفي هذا دليل على أن المرأة إذا زوجت نفسها أو أمرت غير الولي أن يزوجها فزوجها جاز النكاح وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى سواء كانت بكرا أوثيبا إذا زوجت نفسها جاز النكاح في ظاهر الرواية سواء كان الزوج كفؤا لها أو غير كفء فالنكاح صحيح إلا أنه إذا لم يكن كفؤا لها فللأولياء حق الاعتراض.
وفي رواية الحسن رضي الله عنه أن كان الزوج كفؤا لها جاز النكاح وإن لم يكن كفؤا لها لا يجوز وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى أولا يقول لا يجوز تزويجها من كفء أو غير كفء إذا كان لها ولي ثم رجع وقال أن كان الزوج كفؤا جاز النكاح وإلا فلا ثم رجع فقال النكاح صحيح سواء كان الزوج كفؤا لها أو غير كفء لها وذكر الطحاوي قول أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن الزوج أن كان كفؤا أمر القاضي الولي بإجازة العقد فإن أجازه جاز وإن أبي أن يجيزه لم ينفسخ ولكن القاضي يجيزه فيجوز.
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يتوقف نكاحها على إجازة الولى سواء زوجت نفسها من كفء أو غير كفء فإن أجازه الولي جاز وأن أبطله بطل إلا إنه إذا كان الزوج كفؤا لها ينبغي للقاضي أن يجدد العقد إذا أبي الولى أن يزوجها منه.
وعلى قول مالك والشافعي رحمهما الله تعالى تزويجها نفسها منه باطل على كل حال ولا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلا سواء زوجت نفسها أو بنتها أو أمتها أو توكلت بالنكاح عن الغير ومن العلماء رحمهم الله تعالى من يقول إذا كانت غنية شريفة لم يجز تزويجها نفسها بغير رضا الولي وإن كانت فقيرة خسيسة يجوز لها أن تزوج نفسها من غير رضا الولي ومنهم من فصل بين البكر والثيب وهم أصحاب الظواهر أما من شرط الولى استدل بقوله تعالى:
{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232].
وقال الشافعي رحمه الله تعالى وهذه آبين آية في كتاب الله تعالى تدل على أن النكاح لا يجوز بغير ولي لأنه نهي الولي عن المنع وإنما يتحقق المنع منه إذا كان الممنوع في يده وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أيما امرأة نكحت بغير أذن وليها فنكاحها باطل

 

ج / 5 ص -11-         باطل باطل وإذا دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها لاوكس ولا شطط فإن تشاجرا فالسلطان ولي من لا ولي له" وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي" وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها" وإنما الزانية هي التي تنكح نفسها وإن عائشة رضي الله عنها كانت تحضر النكاح وتخطب ثم تقول اعقدوا فإن النساء لا يعقدن والمعنى فيه أنها ناقصة بنقصان الأنوثة فلا تملك مباشرة عقد النكاح لنفسها كالصغيرة والمجنونة.
وهذا لأن النكاح عقد عظيم خطره كبير ومقاصده شريفة ولهذا أظهر الشرع خطره باشتراط الشاهدين فيه من بين سائر المعاوضات فلا ظهار خطره تجعل مباشرته مفوضة إلى أولى الرأى الكامل من الرجال لأن النساء ناقصات العقل والدين فكان نقصان عقلها بصفة الأنوثة بمنزلة نقصان عقلها بصفة الصغر ولهذا قال محمد رحمه الله تعالى أن عقدها يتوقف على إجازة الولي. كما أن عقد الصغيرة التي تعقل يتوقف على إجازة الولي.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا ينعقد العقد بعبارتها أصلا كما لا ينعقد التصرف بعبارة الصغيرة عنده والدليل عليه ثبوت حق الاعتراض للأولياء إذا وضعت نفسها في غير كفء ولو ثبتت لها ولاية الإستبداد بالمباشرة لم يثبت للأولياء حق الاعتراض كالرجل وكذلك تملك مطالبة الولى بالتزويج ولو كانت مالكة للعقد على نفسها لما كان لها أن تطالب الولي به والدليل على اعتبار نقصان عقلها أنه لم يجعل إليها من جانب رفع العقد شيء بل الزوج هو الذي يستبد بالطلاق.
وأما من جوز النكاح بغير ولي استدل بقوله تعالى:
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] وبقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] أضاف العقد إليهن في هذه الآيات فدل أنها تملك المباشرة والمراد بالعضل المنع حسا بأن يحبسها في بيت ويمنعها من أن تتزوج وهذا خطاب للأزواج فإنه قال في أول الآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 231] وبه نقول: أن من طلق امرأته وانقضت عدتها فليس له أن يمنعها من التزوج بزوج آخر.
وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم:
"الأيم أحق بنفسها من وليها" والأيم اسم لامرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا وهذا هو الصحيح عند أهل اللغة وهو اختيار الكرخي رحمه الله تعالى قال الأيم من النساء كالأعزب من الرجال بخلاف ما ذكر محمد رحمه الله تعالى أن الأيم اسم للثيب وقد بينا هذا في شرح الجامع.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"ليس للولي مع الثيب أمر". وحديث الخنساء حيث قالت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكني أردت أن تعلم النساء ان ليس إلى الآباء من أمور بناتهم شيء.

 

ج / 5 ص -12-         ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله عنها اعتذرت بأعذار من جملتها أن أولياءها غيب فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس في أوليائك من لا يرضي بي قم يا عمر فزوج أمك من رسول الله صلى الله عليه وسلم". خاطب به عمر بن أبي سلمة وكان بن سبع سنين وعن عمر وعلي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم جواز النكاح بغير ولي وأن عائشة رضي الله تعالى عنها زوجت ابنة أخيها حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر بن الزبير وهو غائب فلما رجع قال أو مثلى بفتات عليه في بناته فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها أو ترغب عن المنذر والله لتملكنه أمرها.
وبهذا تبين أن مارووا من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها غير صحيح فإن فتوي الراوي بخلاف الحديث دليل وهن الحديث ومدار ذلك الحديث على الزهري وأنكره الزهري وجوز النكاح بغير ولي ثم هو محمول على الأمة إذا زوجت نفسها بغير أذن مولاها أو على الصغيرة أو على المجنونة وكذلك سائر الأخبار التي رووا على هذا تحمل أو على بيان الندب أن المستحب أن لا تباشر المرأة العقد ولكن الولي هو الذي يزوجها والمعني فيه أنها تصرفت في خالص حقها ولم تلحق الضرر بغيرها فينعقد تصرفها كما لو تصرفت في مالها.
وبيان الوصف أن النكاح من الكفء بمهر المثل خالص حقها بدليل أن لها أن تطالب الولي به ويجبر الولي على الإيفاء عند طلبها وهي من أهل استيفاء حقوق نفسها فإنما استوفت بالمباشرة حقها وكفت الولى مؤنة الإيفاء فهو نظير صاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه فاستوفى كان استيفاؤه صحيحا فكذلك هنا والدليل عليه أن اختيار الأزواج إليها بالإتفاق والتفاوت في حق الإغراض والمقاصد إنما يقع باختيار الزوج لا بمباشرة العقد ولو كان لنقصان عقلها عبرة لما كان لها اختيار الأزواج وكذلك إقرارها بالنكاح صحيح على نفسها ولو كانت بمنزلة الصغيرة ما صح إقرارها بالنكاح وكذلك يعتبر رضاها في مباشرة الولي العقد ولو كانت بمنزلة الصغيرة لما اعتبر رضاها ويجب على الولي تزويجها عند طلبها ولو كانت كالصغيرة لما وجب الإيفاء بطلبها وإنما يثبت لها حق مطالبة الولي لنوع من المروءة وهو أنها تستحي من الخروج إلى محافل الرجال لتباشر العقد على نفسها ويعد هذا رعونة منها ووقاحة ولكن هذا لا يمنع صحة مباشرتها.
كما ورد الشرع بالنهي عن ان يخطب على خطبة غيره ولو فعل جاز لأن هذا النهي لنوع من المروءة فلا يمنع جواز المنهي عنه وإذا زوجت نفسها من غير كفء فقد ألحقت الضرر بالأولياء فيثبت لهم حق الاعتراض لدفع الضرر عن أنفسهم كما أن الشفيع يثبت له حق الأخذ بالشفعة لدفع الضرر عن نفسه ولأن طلب الكفاءة لحق الأولياء فلا تقدر على إسقاط حقهم وهذا لا يمنع وجود أصل عقدها في حق نفسها كأحد الشريكين إذا كاتب كان للآخر أن يفسخ دفعا للضرر عن نفسه وعلى رواية الحسن رحمه الله تعالى قال إذا زوجت نفسها من غير كفء لم يجز النكاح أصلا وهو أقرب إلى الاحتياط فليس كل ولي يحتسب في المرافعة

 

ج / 5 ص -13-         إلى القاضي ولا كل قاض يعدل فكان الأحوط سد باب التزويج من غير كفء عليها وبهذا الطريق قال أبو يوسف رحمه الله تعالى الأحوط أن يجعل عقدها موقوفا على إجازة الولي ليندفع الضرر عن الولي إلا أن الولي إذا قصد بالفسخ دفع الضرر عن نفسه بأن لم يكن كفؤا لها صح فسخه وإن قصد الإضرار بها بأن كان الزوج كفؤا لها لم يصح فسخه ولكن القاضي يقوم مقامه في الإجازة كما يقوم مقامه في العقد إذا عضلها ومحمد رحمه الله تعالى يقول لما توقف العقد على إجازة الولي لتمام الاحتياط فكما ينعقد بإجازته ينفسخ بفسخه وبعد ما يفسخ فليس للقاضي أن يجيزه ولكن يستقبل العقد إذا تحقق العضل من الولي.
وعلى هذا الأصل يقول إذا زوجت نفسها من كفء ثم مات أحدهما قبل المرافعة إلى القاضي توارثا إما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فظاهر وأما على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فلأن تصرفها في حق نفسها صحيح ومعنى التوقف لدفع الضرر عن الولي ولهذا لا ينفسخ بفسخ الولي وإنما انتهى النكاح الصحيح بالموت فيجري التوارث بينهما وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يتوارثان لأن أصل العقد كان موقوفا وفي العقد الموقوف لا يجري التوارث.
وعلى هذا لو ظاهر منها أو آلى منها صح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى خلافا لمحمد رحمه الله تعالى وإن كانت قصرت في مهرها فزوجت نفسها بدون صداق مثلها كان للأولياء حق الاعتراض حتى يبلغ بها مهر مثلها أو يفرق بينهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يثبت للأولياء حق الاعتراض إلا أن قول محمد رحمه الله تعالى لا يتحقق في تزويجها نفسها وإنما يتحقق فيما قال في كتاب إلا كراه.
وإذا أكرهت المرأة الولي على أن يزوجها بأقل من مهر مثلها فزوجها ثم زال إلا كراه فرضيت المرأة وأبي الولي أن يرضي فليس له ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن المهر من خالص حقها فإنه بدل ما هو مملوك لها ألا ترى أن الاستيفاء والإبراء إليها والتصرف فيه كيف شاءت وتصرفها فيما هو خالص حقها صحيح فلا يكون للأولياء حق الاعتراض وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أنها ألحقت الضرر بالأولياء فيكون لهم حق الاعتراض كما لو زوجت نفسها من غير كفء وبيان ذلك أن الأولياء يتفاخرون بكمال مهرها ويعيرون بنقصان مهرها فإن ذلك مهر المومسات الزانيات عادة وفيه يقول القائل:

وما علي أن تكون جاريه                      تمشط رأسي وتكون فاليه

حتى ما إذا بلغت ثمانية                      زوجتها مروان أو معاويه

أختان صدق ومهور غاليه

 

ج / 5 ص -14-         ومع لحوق العار بالأولياء فيه الحاق الضرر بنساء العشيرة أيضا فإن من تزوج منهن بعد هذا بغير مهر فإنما يقدر مهرها بمهر هذه فعرفنا أن في ذلك ضررا عليهن وإنما يذب عن نساء العشيرة رجالها فكان لهم حق الاعتراض فأما بعد تسمية الصداق كاملا صار حق العشيرة مستوفي وبقاء المهر يخلص لها فإن شاءت استوفت وإن شاءت أبرأت وهونظير حق الشرع في تسمية أصل المهر في الإبتداء وإن كان البقاء يخلص لها وإن طلقها قبل أن يدخل بها كان لها نصف ما سمى لها لأن الطلاق قبل الدخول مسقط للصداق قياسا فإن المعقود عليه يعود إليها كما خرج عن ملكها وذلك سبب لسقوط البدل إلا أنا أوجبنا لها نصف المسمى بالنص وهو قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فلا تجب الزيادة على ذلك.
وأن فرق القاضي بينهما فإن كان قبل الدخول بها فلا شيء عليه لأنه فسخ أصل النكاح بهذا التفريق فلا يجب لها شيء وإن ولت المرأة أمرها رجلا فزوجها كفؤا فهو بمنزلة تزويجها نفسها وفي قول محمد رحمه الله تعالى لا يجوز ذلك كما لا يجوز تزويجها نفسها زاد في نسخ أبي حفص رضي الله عنه وقال إلا أن يكون لها ولي فحينئذ يجوز وهذا شيء رواه أبو رجاء بن أبي رجاء عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال سألته عن النكاح بغير ولي فقال لا يجوز قلت فإن لم يكن لها ولي قال يرفع أمرها إلى الحاكم ليزوجها قلت فإن كانت في موضع لاحاكم في ذلك الموضع قال يفعل ما قال سفيان رحمه الله تعالى قلت وما فعل سفيان قال تولى أمرها رجلا ليزوجها ثم قد صح رجوع محمد إلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في النكاح بغير ولي وعلى ذلك تنبني مسائل الجامع.
يقول في الكتاب فإن طلقها ثلاثا قبل أن يجيز الحاكم أو الولي عقدها يكون هذا ردا للنكاح وهو قول محمد رحمه الله تعالى فإما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى تصح التطليقات الثلاث ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وعند محمد رحمه الله تعالى لا يقع الطلاق ولكن هذا رد للنكاح إلا أنه يكره له أن يتزوجها ثانيا قبل أن تتزوج بزوج آخر لاختلاف العلماء واشتباه الأخبار في جواز النكاح بغير ولي ولأن ترك نكاح امرأة تحل له خير من أن يتزوج امرأة لا تحل له ولكنه لو تزوجها لم يفرق بينهما عنده لأن الطلاق لم يكن واقعا عليها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الوكالة في النكاح
قال: وإذا خطب الرجل امرأة على رجل غائب لم يأمره فزوجت نفسها أو زوجها أبوها برضاها فقدم الغائب أو بلغه ذلك فأجاز النكاح فهو جائز عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو باطل بناء على أصله أن العقود لا تتوقف على الإجازة وهي مسألة في البيوع معروفة وعندنا تتوقف العقود على الإجازة وكلعقد لو سبق الإذن به ممن يقع له كان صحيحا فإنه يتوقف على إجازته فإذا أجازه في الانتهاء جعل ذلك كالإذن في الإبتداء ولو عقد

 

ج / 5 ص -15-         هذا العقد بإذنه في الإبتداء كان صحيحا فكذلك بإجازته في الانتهاء وهذا لأن ركن العقد هو الإيجاب والقبول وذلك من حق المتعاقدين وقد أضافه إلى محل قابل للعقد فيتم به الانعقاد إذ لا ضرر على الغائب في انعقاد العقد وإنما الضرر عليه في التزام العقد وقد يتراخى الالتزام عن أصل العقد فتثبت صفة الانعقاد لأنه حق المتعاقدين ويتوقف تمامه وثبوت حكمه على إجازة من وقع العقد له دفعا للضرر عنه ولو أن الغائب وكل هذا الحاضر بكتاب كتبه إليه حتى زوجها منه كان صحيحا وكذلك لو كتب إليها يخطبها فزوجت نفسها منه كان صحيحا.
والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي يخطب أم حبيبة رضي الله عنها فزوجها النجاشي منه وكان هو وليها بالسلطنة وروي أنه زوجها منه قبل أن يكتب به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه وكلاهما حجة لنا على أن النكاح تلحقه الإجازة وأن الخطبة بالكتاب تصح وهذا لأن الكتاب ممن نأى كالخطاب ممن دنى فإن الكتاب له حروف ومفهوم يؤدي عن معنى معلوم فهو بمنزلة الخطاب من الحاضر.
وكان الحسن بن حي رحمه الله تعالى يقول لا ينعقد النكاح بالكتاب لعظم خطر أمر النكاح وهذا فاسد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67] وقد بلغ تارة بالكتاب وتارة باللسان فإنه كتب إلى ملوك الأفاق يدعوهم إلى الدين وكان ذلك تبليغا تاما فكذلك في عقد النكاح الكتاب بمنزلة الخطاب إلا أنه إذا كتب إليها فبلغها الكتاب فقالت زوجت نفسي منه بغير محضر من الشهود لا ينعقد النكاح كما في حق الحاضر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بشهود". ولو قالت بين يدي الشهود زوجت نفسي منه لا ينعقد النكاح أيضا لأن سماع الشهود كلام المتعاقدين شرط لجواز النكاح وإنما سمعوا كلامها هنا لا كلامه لو كانت حين بلغها الكتاب قرأته على الشهود وقالت أن فلانا كتب إلي يخطبني فاشهدوا أني قد زوجت نفسي منه فهذا صحيح لأنهم سمعوا كلام الخاطب باسماعها إياهم إما بقراءة الكتاب أو العبارة عنه وسمعوا كلامها حيث أوجبت العقد بين أيديهم فلهذا تم النكاح.
وهذا بخلاف البيع فإن المكتوب إليه إذا قال هناك بعت هذه العين من فلان بكذا جاز وإن لم يكن بحضرة الشهود أو كان بحضرتهم ولم يقرأ الكتاب عليهم لأن البيع يصح بغير شهود كما في الحاضر إلا أنه ذكر في الكتاب في البيع أنه إذا كتب إليه أن بعني كذا بكذا فقال بعت يتم البيع وقد طعنوا في هذا فقالوا أن البيع لا ينعقد بهذا اللفظ من الحاضر فإن من قال لغيره بع عبدك منى بكذا فقال بعت لا ينعقد ما لم يقل الثاني اشتريت لأنه لا بد في البيع من لفظين هما عبارة عن الماضي بخلاف النكاح فإن النكاح ينعقد بلفظين أحدهما عبارة عن الماضي والآخر عن المستقبل والشافعي ومحمد رحمهما الله تعالى سويا بينهما والفرق لعلمائنا رحمهم الله تعالى أن البيع يقع بغتة وفلتة فقوله:

 

ج / 5 ص -16-         بعني يكون استياما عادة فلا بد من الإيجاب والقبول بعده فأما النكاح يتقدمه خطبة ومراودة فقلما يقع بغتة فقوله زوجني يكون أحد شطري العقد.
توضيح الفرق أن قوله زوجيني نفسك تفويض للعقد إليها وكلام الواحد في باب النكاح يصلح لا تمام العقد إذا كان الأمر مفوضا إليه من الجانبين فيمكن أن يجعل قولها زوجت نفسي عقدا تاما.
وفي باب البيع كلام الواحد لا يصلح لا تمام العقد من الجانبين وأن كان مفوضا إليه من الجانبين فكان قوله بعت منك شطر العقد فلا بد من أن ينضم إليه الشطر الثاني ليصح إذا عرفنا هذا فنقول مراد محمد رحمه الله تعالى هنا بيان الفرق بين النكاح والبيع في شرط الشهود دون اللفظ الذي ينعقد به البيع أو نقول بعني قوله من الحاضر يكون إستياما عادة فأما من الغائب إذا كتب إليه فقوله بغي يكو أحد شطري العقد فإذا انضم إليه الشطر الثاني تم البيع.
فإن جاء الزوج بالكتاب مختوما إلى الشهود وقال هذا كتابي إلى فلانة فاشهدوا على ذلك لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى حتى يعلم الشهود ما في الكتاب وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع فقال يجوز ولا يشترط اعلام الشهود بما في الكتاب وأصل الخلاف في كتاب القاضي إلى القاضي عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تجوز الشهادة على الكتاب والختم وإن كان لا يعلم الشهود ما في الكتاب وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا تجوز لأن المشهود به ما في الكتاب لا نفس الكتاب.
ولكن استحسن أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال قد يشتمل الكتاب على شرط لا يعجبهم اعلام الشهود بذلك وإذا كان مختوما يؤمن من الزيادة والنقصان فيه فيكون صحيحا ثم في هذا الكتاب قال يجوز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى مختوما كان أو غير مختوم وذكر في الأمالي أن الكتاب إذا كان غير مختوم لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أصلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يجوز إلا أن يعلم الشهود ما فيه وإذا كان مختوما فحينئذ هل يشترط إعلام الشهود ما فيه فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى فيه روايتان وكما ينعقد النكاح بالكتاب ينعقد البيع وسائر التصرفات للمعنى الذي قلنا.
قال: ويجوز للواحد أن ينفرد بالعقد عند الشهود على الاثنين إذا كان وليا لهما أو كيلا عنهما وعلى قول زفر رحمه الله تعالى أن كان وليهما جاز وأن كان وكيلا لا يجوز أما زفر رحمه الله تعالى يقول النكاح عقد معاوضة فلا يباشره الواحد من الجانبين كعقد البيع وهو قياس يوافقه الأثر وهو ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل" والشافعي رحمه الله تعالى بنحوه يستدل في الوكيل من الجانبين أنه لا يتم العقد بعبارته لأنه لا ضرورة في توكيل الواحد من الجانبين بخلاف ما

 

ج / 5 ص -17-         إذا كان وليا من الجانبين لأن في تنفيذ العقد بعبارته ضرورة لأن أكثر ما في الباب أن يأمر غيره من أحد الجانبين فيكون مأموره قائما مقامه وهو الولي من الجانبين شرعا فيملك مباشرة العقد وهو نظير ما قلتم في الأب إذا باع مال ولده من نفسه بمثل قيمته يجوز ولا يجوز بيعه من غيره.
ووجه قول علمائنا قوله تعالى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] أي في نكاح اليتامى فهو دليل على أن للولي أن يزوج وليته من نفسه وكذا قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] ان تنكحوهن دليل على ان للولي ان يزوج وليته من نفسه وفي الحديث أن شرط علي رضي الله تعالى عنه أتوه بشيخ مع جارية فسأله عن قصتها فقال أنها ابنة عمي وإني خشيت أنها إذا بلغت ترغب عني فتزوجتها فقال خذ بيد امرأتك والمعنى فيه أن العاقد في باب النكاح سفير ومعبر والواحد كما يصلح أن يكون معبرا عن الواحد يصلح أن يكون معبرا عن اثنين ودليل الوصف أنه لا يستغني عن إضافة العقد إلى الزوجين وبه يظهر الفرق بينه وبين البيع فإنه يستغني عن إضافة العقد إلى غيره فكان مباشرا للعقد لا معبرا.
توضيحه أن حقوق العقد في باب البيع تتعلق بالعاقد فإذا باشر العقد من الجانبين يؤدي إلى تضاد الأحكام لأنه يكون مطالبا مطالبا مسلما مستلما مخاصما مخاصما.
وفي باب النكاح لا تتعلق الحقوق بالعاقد فلا يؤدي إلى تضاد الإحكام ولهذا قلنا يبيع الأب مال ولده من نصيبه لأنه في جانب الصغير يكون ملزما إياه حقوق العقد بولايته عليه حتى إذا بلغ كانت الخصومة في ذلك إليه دون الأب بخلاف بيعه من غيره فلا يؤدي إلى تضاد الإحكام.
توضيحه أن البيع لا يصح إلا بتسمية الثمن فإذا تولاه من الجانبين كان مستزيدا مستنقصا وذلك لا يجوز والنكاح يصح من غير تسمية المهر فلا يؤدي إلى هذا المعنى إذا باشره الواحد من الجانبين.
وعلى هذا روى إبن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى في الكتابة ان الواحد لا يباشره من الجانبين لأنه لا يصح إلا بتسمية البدل فأما على ظاهر الرواية يجوز لأن حقوق العقد في الكتابة لا تتعلق بالعاقد بل هو معتبر كما في النكاح ولا حجة لهم في هذا الحديث لأن هذا النكاح قد حضره أربعة معنى فإنه إذا اجتمع وصفان في واحد كان بمنزلة المثنى من حيث المعنى لاعتبار كل صفة على حدة فإن هذا الواحد إذا كان وليا أو وكيلا من أحد الجانبين دون الآخر وفضوليا من الجانب الآخر أو لم يكن وليا ولا وكيلا من الجانبين ولكنه فضولي باشر النكاح بمحضر من الشهود فبلغ الزوجين فاجازاه لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وجاز في قوله الآخر.

 

ج / 5 ص -18-         وكذلك لو قال الزوج بين يدي الشهود أشهدوا أني تزوجت فلانة ولم يخاطب عنها أحدا فبلغها فاجازت أو قالت المرأة أشهدوا أني قد زوجت نفسي من فلان ولم تخاطب عنه أحدا فبلغه فاجاز فهو على هذا الخلاف ولو قبل فضولي من جهة الغائب ينعقد موقوفا بالإتفاق حتى لو أجاز يجوز.
أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الإجازة في الانتهاء كالإذن في الإبتداء وإذا كان كلام الواحد في باب النكاح عقدا تاما باعتبار الاذن في الابتداء فكذلك باعتبار الاجازة في الانتهاء وجعل هذا قياس الطلاق والعتاق بمال فإن كلام الواحد فيه لما كان عقدا تاما عند الإذن كان عقدا موقوفا على إجازة الغائب عند عدم الإذن.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا النكاح عقد معاوضة محتمل للفسخ فكلام الواحد فيه يكون شطر العقد وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس كما في البيع بخلاف الطلاق والعتاق فإنه لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه أصلا وتحقيقه أن قول الرجل طلقت فلانة بكذا أو أعتقت عبدي فلانا بكذا يكون تعليقا للطلاق والعتاق بالقبول لأن تعليقهما بالشرط صحيح فإذا بلغهما فقبلا وقع لوجود الشرط.
وفي النكاح قوله: زوجت فلانة لا يمكن أن يجعل تعليقا لأن النكاح لا يحتمل التعليق بالشرط فكان هذا شطر العقد ولا يدخل على هذا ما لو قال الزوج بمحضر منها طلقتك بكذا فقامت عن المجلس قبل القبول فإنه يبطل ذلك ولو كان تعليقا بالشرط لما بطل بقيامها عن المجلس لأن من التعليقات ما يقتصر على وجود الشرط في المجلس كقوله لها أنت طالق أن شئت يقتصر على وجود المشيئة في المجلس فهذا مثله وهذا بخلاف ما إذا كانمأمورا من الجانبين لأن هناك عبارته تنتقل إليهما فيصير قائما مقام عبارتهما فإنما يكون تمام العقد بالمثنى من حيث المعني وهنا لا تنتقل عبارته إلى الغير لأنه غير مأمور به فإذا بقى مقصورا عليه كان شطر العقد والدليل عليه أنه لو قال لها تزوجتك وهي حاضرة كان هذا شطر العقد حتى لا يتوقف على اجازتها بعد قيامها من ذلك المجلس فكذا إذا قال ذلك وهي غائبة يكون هذا شطر العقد.
ولو كان عقد النكاح بين فضوليين خاطب أحدهما عن الرجل والآخر عن المرأة فبلغهما فاجازا جاز ذلك العقد لأنه جرى بين اثنين ولو كانا وكيلين كان كلامهما عقدا تاما فكذلك إذا كانا فضوليين يكون كلامهما عقدا موقوفا.
قال: وليس على العاقد في باب النكاح وليا كان أو وكيلا حق قبض مهرها بدون أمرها لما بينا أنه معبر لا يتعلق به شيء من حقوق العقد وكما لا يتوجه عليه المطالبة بتسليم المعقود عليه لا يكون إليه قبض البدل وكذلك الوكيل من جانب الزوج لا يكون عليه من المهر شيء كما لا يكون إليه قبض المعقود عليه وإليه أشار علي رضي الله عنه في قوله:

 

ج / 5 ص -19-         الصداق على من أخذ الساق إلا الأب في حق ابنته البالغة فإنه يقبض مهرها فيجوز ذلك استحسانا وقد بيناه.
قال: وإذا أرسل إلى المرأة رسولا حرا أو عبدا صغيرا أو كبيرا فهو سواء لأن الرسالة تبليغ عبارة المرسل إلى المرسل إليه ولكل واحد من هؤلاء عبارة مفهومة فيصلح أن يكون رسولا إلا ترى أن سليمان عليه السلام جعل الهدهد رسولا في تبليغ كتابه إلى بلقيس فالآدمى المميز أولى أن يصلح لذلك فإذا بلغ الرسالة فقال أن فلانا سألك أن تزوجيه نفسك فاشهدت أنها قد تزوجته كان ذلك جائزا إذا أقر الزوج بالرسالة أو أقامت عليه البينة لأن الرسول بلغها رسالة المرسل فكانه حضر بنفسه وعبر عن نفسه بين يدي الشهود وقد سمع الشهود كلامها أيضا فكان نكاحا بسماعهما كلام المتعاقدين وإذا أنكر الرسالة ولم تقم عليه البينة لها فالقول قوله ولا نكاح بينهما لأن الرسالة لما لم تثبت كان المخاطب فضوليا ولم يرض الزوج بما صنع فلا نكاح بينهما.
فإن كان الرسول قد خطبها وضمن لها المهر وزوجها إياه وقال قد أمرني بذلك فالنكاح لازم للزوج أن أقر أو قامت عليه البينة بالأمر والضمان لازم للرسول ان كان من أهل الضمان لأنه جعل نفسه زعيما بالمهر والزعيم غارم وان جحد الزوج ولم يكن عليه بينة بالأمر فلا نكاح بينهما لما قلنا وللمرأة على الرسول نصف الصداق من قبل أنه مقر بأنه قد أمره وإن النكاح جائز وأن الضمان قد لزمه وإقراره على نفسه صحيح.
وذكر في كتاب الوكالة أن على الرسول جميع المهر بحكم الضمان فقيل ما ذكر هنا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقول أبي يوسف الأول وما ذكر هناك قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمه الله بناء على أن قضاء القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول فنفذ قضاؤه بالفرقة هنا قبل الدخول وسقط نصف الصداق عن الزوج فيسقط عن الكفيل أيضا وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد رحمه الله تعالى لا ينفذ قضاؤه باطنا فيبقى جميع المهر واجبا على الزوج ويكون الكفيل مطالبا به لاقراره وقيل بل فيه روايتان.
وجه تلك الرواية أن الزوج منكر لاصل النكاح وإنكاره اصل النكاح لا يكون طلاقا فلا يسقط به شيء من الصداق بزعم الكفيل.
ووجه هذه الرواية أنه أنكر وجوب الصداق عليه وهو مالك لاسقاط نصف الصداق عن نفسه بسبب يكسبه فيجعل مسقطا فيما يمكنه اسقاطه ومن ضرورة سقوط نصف الصداق عن الأصيل سقوطه عن الكفيل فلهذا كان الكفيل ضامنا لنصف الصداق.
قال: فإن كان الرسول قال لم يأمرني ولكن أزوجه وأضمن عنه المهر ففعل ثم أجاز الزوج جاز عليه ولزم الزوج الضمان لأن الإجازة في الإنتهاء بمنزلة الأذن في الإبتداء وأن

 

ج / 5 ص -20-         أبي الزوج أن يجيز النكاح لم يكن على الرسول شيء من الضمان لأن أصل السبب انتفى برد الزوج النكاح فينتفي حكمه وهو وجوب الصداق وبراءة الأصيل حقيقة توجب براءة الكفيل.
قال: وأن أمره أن يزوجه امرأة بعينها على مهر قد سماه فزوجها إياه وزاد عليه في المهر فإن شاء الزوج أجازه وإن شاء رده لأنه أتى بخلاف ما أمر به فكان مبتدئا فيتوقف عقده على إجازته وإن لم يعلم الزوج بذلك حتى دخل بها فهو بالخيار أيضا لأن دخوله بها كان باعتبار أنه امتثل الوكيل أمره فلا يصير به راضيا بما خالف فيه الوكيل فإن الرضا بالشيء لا يتحقق قبل العلم به فكان على خياره إن شاء أقام معها بالمهر المسمى وأن شاء فارقها وكان لها الأقل من المسمى ومن مهر مثلها لأن الدخول بحكم النكاح الموقوف بمنزلة الدخول في النكاح الفاسد فيسقط به الحد للشبهة ويجب الأقل من المسمى ومن مهر المثل لأن الوطء في غير الملك لا ينفك عن عقوبة أو غرامة.
قال: فإن كان الرسول ضمن لها المهر ولم يدخل بها الزوج وأخبرهم أنه أمره بذلك ثم رد الزوج النكاح للزيادة في المهر فعلى الرسول نصف المسمى لاقراره على نفسه أنه أمره به وهذا لأن انكار الزوج الأمر بالزيادة بمنزلة انكاره الأمر بالعقد أصلا كما بيناه في الفصل الأول.
قال: فإن قال الرسول أنا أغرم المهر وألزمك النكاح لم يكن له ذلك إلا أن يشاء الزوج لأنه فيما باشر من العقد غير ممتثل أمره فكان بمنزلة الفضولي والفضولي ولا يملك أن يلزم عليه حكم العقد إلا برضاه وهذا لأنه وإن تبرع باداء الزيادة فلا بد من أن يجب على الزوج أولا لأن المسمي في العقد صداق والصداق مطلقا يجب على الزوج وقد تعذر الزام الزوج بذلك وانعدم منها الرضا بدونه.
قال: وإذا وكل الرجل الرجل أن يزوجه امرأة فزوجها إياه وضمن لها عنه المهر جاز ذلك ولم يرجع به الوكيل على الزوج لأنه ضمن عنه بغير أمره فإن أمره إياه بالنكاح لا يكون أمرا بالتزام الصداق لأن الوكيل بالنكاح سفير ومعبر لا ملتزم ومن ضمن عن غيره دينه بغير أمره لم يرجع به عليه لأن تبرعه بالضمان كتبرعه بالأداء فإن كان أمره بذلك رجع عليه كما لو أمره بالأداء.
قال: وإذا كان العقد من الوكيل بشهود جاز وإن لم يكن على التوكيل شهود لأن التوكيل بالنكاح ليس بنكاح والشهود من خصائص شرائط النكاح وإنما شرط الشهود في النكاح لأنه يتملك به البضع فلا ظهار خطره اختص بشهود وذلك لا يوجد في التوكيل فإن البضع لا يتملك بالتوكيل فهو بمنزلة التوكيل بسائر العقود.
قال: وإذا أدخل على الرجل غير امرأته فدخل بها فعلى الزوج مهر التي دخل بها لأنه دخل بها بشبهة النكاح بخبر المخبر أنها امرأته وخبر الواحد في المعاملات حجة فيصير شبهة في اسقاط الحد فإذا سقط الحد وجب المهر وعليها العدة ويثبت نسب ولدها منه.

 

ج / 5 ص -21-         ولا تتقى في عدتها ما تتقى المعتدة وبنحوه قضى علي رضي الله عنه في الوطء بالشبهة والحداد إظهار التحزن على فوات نعمة النكاح وذلك لا يوجد في الوطء بالشبهة وليس لها عليه نفقة العدة لأن وجوب النفقة باعتبار ملك اليد الثابت بالنكاح وذلك غير موجود في الوطء بالشبهة ولأنه يبقى بالعدة ما كان ثابتا من النفقة باصل النكاح ولم يكن لها نفقة مستحقة هنا ليبقى ذلك ببقاء العدة ولا يرجع بالمهر على الذي أدخلها عليه لأنه وجب عليه عوضا عما استوفى وهو الذي نال اللذة بالاستيفاء فلا يرجع بالعوض على غيره ولأن المخبر أخبر بكذب من غير أن ضمن له شيئا وهذا العقد من الغرور لا يثبت له الرجوع عليه كمن أخبره بأمن الطريق فسلك فيه حتى أخذ اللصوص متاعه.
قال: فإن كانت هذه أم امرأته حرمت عليه امرأته بالمصاهرة ولها عليه نصف الصداق لوقوع الفرقة قبل الدخول بسبب من جهة الزوج ولا يرجع به علي أحد أيضا لما قلنا وإن كانت بنت امرأته حرمت عليه امرأته بالمصاهرة وله أن يتزوج التي دخل بها لأن مجرد العقد على الام لا يوجب حرمة الربيبة وليس له أن يتزوج أم التي دخل بها لأن بالدخول بالبنت تحرم الأم على التأبيد بخلاف الفصل الأول فإن هناك لا يتزوج واحدة منهما لوجود العقد الصحيح على البنت والدخول بالام ولو كانت هذه أخت امرأته أو ذات رحم محرم منها لم يقرب امرأته حتى تنقضى عدتها لأن أختها معتدة منه فلو قربها كان جامعا ماءه في رحم أختين وذلك لا يجوز والله أعلم بالصواب.

باب الإكفاء
قال: إعلم أن الكفاءة في النكاح معتبرة من حيث النسب الأعلى قول سفيان الثوري رحمه الله تعالى فإنه كان يقول لا معتبر في الكفاءة من حيث النسب وقيل إنه كان من العرب فتواضع ورأى الموالى إكفاء له وأبو حنيفة رحمه الله تعالى كان من الموالى فتواضع ولم ير نفسه كفؤا للعرب وحجته في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمى إنما الفضل بالتقوى". وهذا الحديث يؤيده قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم طف للصاع لم يملأ". وقال: "الناس كابل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة واحدة" فهذه الآثار تدل على المساواة وإن التفاضل بالعمل ومن أبطا به عمله لم يسرع به نسبه.
وخطب أبو طيبة امرأة من بني بياضة فابوا أن يزوجوه فقال صلى الله عليه وسلم:
"زوجوا أباطيبة إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" فقالوا نعم وكرامة وخطب بلال رضي الله عنه إلى قوم من العرب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني". وأن سلمان خطب بنت عمر رضي الله عنه فهم أن يزوجها منه ثم لم يتفق ذلك وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "قريش بعضهم اكفاء لبعض بطن ببطن والعرب بعضهم

 

ج / 5 ص -22-         أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة والموالي بعضهم اكفاء لبعض رجل برجل". وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الإكفاء" وما زالت الكفاءة مطلوبة فيما بين العرب حتى في القتال.
بيانه في قصة الثلاثة الذين خرجوا يوم بدر للبراز عتبة وشيبة والوليد فخرج إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار فقالوا لهم انتسبوا فانتسبوا فقالوا أبناء قوم كرام ولكنا نريد أكفاءنا من قريش فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك فقال صلى الله عليه وسلم:
"صدقوا"، وأمر حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث رضوان الله عليهم أجمعين بأن يخرجوا إليهم.
فلما لم ينكر عليهم طلب الكفاءة في القتال ففي النكاح أولى وهذا لأن النكاح يعقد للعمر ويشتمل على أغراض ومقاصد من الصحبة والألفة والعشرة وتأسيس القرابات وذلك لا يتم الا بين الأكفاء وفي أصل الملك على المرأة نوع ذلة وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته" وإذلال النفس حرام، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" وإنما جوز ما جوز منه لأجل الضرورة وفي استفراش من لا يكافئها زيادة الذل ولا ضرورة في هذه الزيادة فلهذا اعتبرت الكفاءة.
والمراد من الآثار التي رواها في أحكام الآخرة وبه نقول أن التفاضل في الآخرة بالتقوى وتأويل الحديث الآخر الندب إلى التواضع وترك طلب الكفاءة لا الالزام وبه نقول أن عند الرضا يجوز العقد ويحكي عن
الكرخي رحمه الله تعالى أنه كان يقول الأصح عندي أن لا تعتبر الكفاءة في النكاح أصلا لأن الكفاءة غير معتبرة فيما هو أهم من النكاح وهو الدماء فلأن لا تعتبر في النكاح أولى ولكن هذا ليس بصحيح فإن الكفاءة غير معتبرة في الدين في باب الدم حتى يقتل المسلم بالكافر ولا يدل ذلك على أنه غير معتبر في النكاح.
إذا عرفنا هذا فنقول الكفاءة في خمسة أشياء.
أحدها: النسب وهو على ما قال قريش أكفاء بعضها لبعض فإنهم فيما بينهم يتفاضلون وأفضلهم بنو هاشم ومع التفاضل هم أكفاء ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تيمية وتزوج حفصة رضي الله تعالى عنها وكانت عدوية وزوج ابنته من عثمان رضي الله تعالى عنه وكان عبشميا فعرفنا أن بعضهم أكفاء لبعض وروى عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال إلا أن يكون نسبا مشهورا نحو أهل بيت الخلافة فإن غيرهم لا يكافئهم وكإنه قال ذلك لتسكين الفتنة وتعظيم الخلافة لا لانعدام أصل الكفاءة.
والعرب بعضهم أكفاء لبعض فإن فضيلة العرب بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ونزول القرآن بلغتهم. وقال صلى الله عليه وسلم:
"حب العرب من الإيمان". وقال صلى الله عليه وسلم لسلمان رضي الله تعالى عنه "لا تبغضني" قال وكيف أبغضك وقد هداني الله بك قال: "تبغض العرب فتبغضني ولا تكون العرب كفؤا لقريش والموالي لا يكونون كفؤا للعرب". كما قال صلى الله عليه وسلم: "والموالي بعضهم

 

ج / 5 ص -23-         أكفاء لبعض" وهذا لأن الموالي ضيعوا أنسابهم فلا يكون التفاخر بينهم بالنسب بل بالدين كما أشار إليه سلمان رضي الله تعالى عنه حين تفاخر جماعة من الصحابة بذكر الانساب فلما انتهى إلى سلمان رضي الله تعالى عنه قالوا سلمان بن من فقال سلمان بن الإسلام فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فبكى وقال وعمر بن الإسلام فمن كان من الموالي له أبوان في الإسلام فهو كفؤ لمن له عشرة آباء لأن النسبة تتم بالانتساب إلى الأب والجد فمن كان له أبوان مسلمان فله في الإسلام نسب صحيح ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب في الإسلام ومن أسلم أبوه لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام لأن هذا يحتاج في النسبة إلى الأب الكافر وذلك منهى عنه لما روى أن رجلا انتسب إلى تسعة آباء في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم "هو عاشرهم في النار" ولكن هذا إذا كان على سبيل التفاخر دون التعريف.
والثاني: الكفاءة في الحرية فإن العبد لا يكون كفؤا لامرأة حرة الأصل وكذلك المعتق لا يكون كفؤا لحرة الأصل والمعتق أبوه لا يكون كفؤا لامرأة لها أبوان في الحرية وهذا لأن الرق أثر من آثار الكفر وفيه معنى الذل فكان هو بمنزلة أصل الدين من الوجه الذي قلنا وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الذي أسلم بنفسه أو أعتق لو أحرز من الفضائل ما يقابل نسب الآخر كان كفؤا له.
والثالث: الكفاءة من حيث المال فإن من لا يقدر على مهر امرأة ونفقتها لا يكون كفؤا لها لأن المهر عوض بضعها والنفقة تندفع بها حاجتها وهي إلى ذلك أحوج منها إلى نسب الزوج فإذا كانت تنعدم الكفاءة بضعة نسب الزوج فبعجزه عن المهر والنفقة أولى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إذا كان يقدر على ما يعجله ويكتسب فينفق عليها يوما بيوم كان كفؤا لها وأما إذا كان قادرا على المهر والنفقة كان كفؤا لها وإن كانت المرأة صاحبة مال عظيم وبعض المتأخرين اعتبروا الكفاءة في كثرة المال لحديث عائشة رضي الله عنها رأيت ذا المال مهيبا ورأيت ذا الفقر مهينا وقالت أن أحساب ذوي الدنيا المال والأصح أن ذلك لا يعتبر لأن كثرة المال في الأصل مذموم قال صلى الله عليه وسلم:
"هلك المكثرون إلا من قال بماله هكذا وهكذا"، يعني تصدق به.
والرابع: الكفاءة في الحرف والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن ذلك غير معتبر أصلا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه معتبر حتى أن الدباغ والحجام والحائك والكناس لا يكون كفؤا لبنت البزاز والعطار وكأنه اعتبر العادة في ذلك وورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الناس أكفاء إلا الحائك والحجام" ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى قال الحديث شاذ لا يؤخذ به فيما تعم به البلوي والحرفة ليست بشيء لازم فالمرء تارة يحترف بحرفة نفيسة وتارة بحرفة خسيسة بخلاف صفة النسب لأنه لازم له وذل الفقر كذلك فإنه لا يفارقه.

 

ج / 5 ص -24-         والخامس: الكفاءة في الحسب وهو مروى عن محمد رحمه الله تعالى قال هو معتبر حتى أن الذي يسكر فيخرج فيستهزئ به الصبيان لا يكون كفؤا لامرأة صالحة من أهل البيوتات وكذلك أعوان الظلمة من يستخف به منهم لا يكون كفؤا لامرأة صالحة من أهل البيوتات إلا أن يكون مهيبا يعظم في الناس وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال الذي يشرب المسكر فإن كان يسر ذلك فلا يخرج سكران كان كفؤا وإن كان يعلن ذلك لم يكن كفؤا لامرأة صالحة من أهل البيوتات ولم ينقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى شيء من ذلك والصحيح عنده أنه غير معتبر لأن هذا ليس بلازم حتى لا يمكن تركه.
قال: وإذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء فللأولياء أن يفرقوا بينهما لأنها ألحقت العار بالأولياء فإنهم يتعيرون بأن ينسب إليهم بالمصاهرة من لا يكافئهم فكان لهم أن يخاصموا لدفع ذلك عن أنفسهم ولا يكون التفريق بذلك إلا عند القاضي لأنه فسخ للعقد بسبب نقص فكان قياس الرد بالعيب بعد القبض وذلك لا يثبت إلا بقضاء القاضي ولأنه مختلف فيه بين العلماء فكان لكل واحد من الخصمين نوع حجة فيما يقول فلا يكون التفريق إلا بالقضاء وما لم يفرق القاضي بينهما فحكم الطلاق والظهار والإيلاء والتوارث قائم بينهما لأن أصل النكاح انعقد صحيحا.
في ظاهر الرواية فإنه لا ضرر على الأولياء في صحة العقد وإنما الضرر عليهم في اللزوم فتتوفر عليه أحكام العقد الصحيح فإذا فرق القاضي بينهما كانت فرقة بغير طلاق لأن هذا التفريق كان على سبيل الفسخ لأصل النكاح والطلاق تصرف في النكاح فما النكاح فما يكون فسخا لاصل النكاح عندنا لا يكون تصرفا فيه ولأن الطلاق إلى الزوج فتفريق القاضي متى كان على وجه النيابة عن الزوج كان طلاقا وهذا التفريق ليس على وجه النيابة عنه فإذا لم يكن طلاقا قلنا لا مهرلها عليه أن لم يكن دخل بها وإن كان دخل بها أو خلا بها فلها ما سمى من المهر وعليها العدة لأن أصل النكاح كان صحيحا فيتقرر المسمى بالتسليم أما بالدخول أو بالخلوة والمكاتب والمدبر نظير العبد في أنه لا يكون كفؤا للحرة لأن الرق فيهما قائم قال صلى الله عليه وسلم:
"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم".
قال: وإذا تزوجت المرأة غير كفء فرضي به أحد الأولياء جاز ذلك ولا يكون لمن هو مثله في الولاية أو أبعد منه أن ينقضه إلا أن يكون أقرب منه فحينئذ له المطالبة بالتفريق وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى في نوادر هشام إذا رضى أحد الوليين بغير كفء فللولى الذي هو مثله أن لا يرضى به وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى وكذلك ان كان هذا الولي الراضي هو الذي زوجها والخلاف مع الشافعي إنما يتحقق هنا.
وجه قولهم أن طلب الكفاءة حق جميع الأولياء فإذا رضى منهم واحد فقد أسقط حق نفسه وحق غيره فيصح اسقاطه في حق نفسه دون غيره كالدين المشترك إذا أبرأ أحدهم أو

 

ج / 5 ص -25-         ارتهن رجلان عينا ثم رده أحدهما أو سلم أحد الشفيعين الشفعة أو عفى أحد الولبين عن القصاص يصح في حقه دون غيره وكذلك لو قذف أم جماعة وصدقه أحدهم كان للباقين المطالبة بالحد والدليل عليه أنها لو زوجت نفسها من غير كفء كان للأولياء أن يفرقوا ولم يكن رضاها بعدم الكفاءة مبطلا حق الأولياء فكذلك هنا وحجتنا أن الحق واحد وهو غير محتمل للتجزي لأنه ثبت بسبب لا يحتمل التجزي فيجعل كل واحد منهم كالمنفرد به كما في الأمان فإن فيه إبطال حق الاستغنام والاسترقاق.
ثم صح من واحد من المسلمين في حق جماعتهم للمعنى الذي قلنا وهذا لأن الأسقاط صحيح في حق المسقط بالاتفاق فإذا كان الحق واحدا وقد سقط في حق المسقط فمن ضرورته سقوطه في حق غيره لأنه لو لم يسقط في حق غيره لكان إذا استوفاه يصير حق الغير مستوفي أيضا وذلك لا يجوز ولأنه لما لم يبق بعد السقوط لا يتمكن الآخر من المطالبة به بخلاف الدين فإنه متجزى ء في نفسه وبخلاف الرهن فأنا لو نفينا حق الآخر لا يصير حق المسقط مستوفى وبه تبين أن الحق يتعدد هناك.
وكذلك في الشفعة وفي القصاص مالا يحتمل التجزي لا يبقى بعد عفو أحدهم وإنما يبقى ما يحتمل التجزي وهو الدية وبخلاف حد القذف فإن ذلك لا يحتمل السقوط ولكن المصدق ينكر سبب الوجوب وهو احصان المقذوف وانكار سبب وجوب الشيء لا يكون اسقاطا له فوزانه مما نحن فيه أن لوادعي أحد الأولياء أن الزوج كفؤ وأثبت الآخر أنه ليس بكفء فيكون له أن يطلب التفريق وأما إذا رضيت هي فلان الحق الثابت لها غير الحق الثابت للأولياء لأن الثابت لها صيانة نفسها عن ذل الاستفراش وللأولياء صيانة نسبهم عن أن ينسب إليهم بالمصاهرة من لا يكافئهم وأحدهما غير الآخر فلم يكن اسقاط أحدهما موجبا سقوط الآخر إلا ترى إنه قد يثبت الخيار لها في موضع لا يثبت للأولياء على ما نبينه في آخر الباب أن شاء الله تعالى ومتى فرق القاضي بينهما بعد الدخول لعدم الكفاءة حتى وجبت عليها العدة فلها نفقة العدة على الزوج لأنها كانت تستحق النفقة في أصل النكاح فيبقى ذلك ببقاء العدة وسكوت الولى عن المطالبة بالتفريق ليس برضى منه بالنكاح وأن طال ذلك حتى تلد وله الخصومة إن شاء لأن هذا حق ثابت له والسكوت ليس بمبطل للحق الثابت بصفة التأكد ولأنه يحتاج إلى الخصومة في المطالبة وقد لا يرغب الإنسان بالخصومة في كل وقت فتأخيره إلى أن يتمكن منه لا يكون مبطلا حقه.
قال: وإذا زوجها الولي غير كفء ثم فارقها ثم تزوجت به بغير ولي كان للولي أن يفرق بينهما لأن العقد الثاني غير الأول ورضاه بالعقد الأول بينهما لا يكون رضا بالعقد الآخر كما أن رضاه برجل لا يكافئها لا يكون رضا برجل آخر إذا زوجت نفسها منه بعد ذلك.
قال: وإذا تزوجت المرأة غير كفء ثم جاء الولي فقبض مهرها وجهزها فهذا منه رضا

 

ج / 5 ص -26-         بالنكاح لأن قبض المهر تقرير لحكم العقد فيتضمن ذلك الرضا بالعقد ضرورة ومباشرة الفعل الذي هو دليل الرضا بمنزلة التصريح بالرضا ألا ترى أن مثل هذا الفعل يكون إجازة للعقد فلأن يكون رضا بالعقد النافذ كان أولى وأن لم يفعل هذا ولكن خاصم زوجها في نفقتها أو في بقية مهرها عليه بوكالة منها ففي القياس هذا لا يكون رضا لأنه إنما خاصم في ذلك ليظهر عجز الزوج عنه وهو أحد أسباب عدم الكفاءة واشتغاله بإظهار سبب عدم الكفاءة يكون تقريرا لحقه لا اسقاطا وفي الاستحسان يكون هذا رضا بالنكاح لأنه إنما يخاصم في المهر والنفقة ليستوفي والاستيفاء ينبنى على تمام العقد فتكون خصومته في ذلك رضا منه بتمام النكاح بينهما.
قال: وإذا تزوجت المرأة غير كفء ودخل بها وفرق القاضي بينهما بخصومة الولي وألزمه المهر وألزمها العدة ثم تزوجها في عدتها بغير ولي وفرق القاضي بينهما قبل الدخول بها كان لها عليه المهر الثاني كاملا وعليها عدة ستقبلة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله تعالى لا مهر لها عليه وعليها بقية العدة الأولى وعند زفر رحمه الله تعالى لاعدة عليها وعلى هذا الخلاف لو طلقها تطليقة ثانية في النكاح الأول ثم تزوجها في العدة فطلقها قبل الدخول عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يجب المهر الثاني كاملا وعليها العدة وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يجب نصف المهر الثاني ولا عدة عليها إلا أن عند محمد يلزمها بقية العدة الأولى لظاهر قوله تعالى:
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية. وقال: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].
وفي النكاح الثاني الطلاق حصل قبل المسيس لأن العقد الثاني غير مبني على الأول والدخول في النكاح الأول لم يجعل دخولا في النكاح الثاني ألا ترى أن صريح الطلاق يبينها فصار في حق العقد الثاني كأن الأول لم يوجد أصلا إلا أن محمدا رحمه الله تعالى يوجب بقية العدة الأولى احتياطا لأن تلك العدة كانت واجبة وبالطلاق قبل الدخول صار النكاح الثاني كالمعدوم وزفر رحمه الله تعالى يقول العدة الأولى سقطت بالنكاح الثاني والساقط من العدة لا يعود وتجدد وجوب العدة يستدعى تجدد السبب وهما قالا العقد الثاني يتأكد بنفسه والفرقة متى حصلت بعد تأكد العقد يجب كمال العدة والمهر.
وبيان التأكد أن اليد والفراش يبقي ببقاء العدة فإنما تزوجها والمعقود عليه في يده حكما فيصير قابضا بنفس العقد كالغاصب إذا اشترى من المغصوب منه المغصوب وبه يتأكد حكم النكاح سواء وجد الدخول أو لم يوجد كما يتأكد بالخلوة وبه يبطل اعتمادهم على حصول البينونة بصريح الطلاق فإن بعد الخلوة صريح الطلاق يبينها ويكون النكاح متأكدا في حكم المهر والعدة.

 

ج / 5 ص -27-         ولأن وجوب العدة لتوهم اشتغال الرحم بالماء عند الفرقة وهذا قائم في العقد الثاني لأنه لا تأثير في تجديد العقد في براءة الرحم وقد كان نوهم الشغل ثابتا حتى أوجبنا العدة عند الفرقة لأولى وهذا على قول محمد رحمه الله تعالى الزم لأنه يلزمها بقية العدة الأولى باعتبار توهم الشغل والعدة لا تتجزى في الوجوب وعلى هذا الأصل لو كانت الفرقة بسبب اللعان أو بخيار البلوغ أو بخيار العتق كله على الأصل الذي بيناه.
وكذلك أن كان النكاح الأول فاسدا أو كان دخل بها بشبهة ثم تزوجها نكاحا صحيحا في العدة وان كان النكاح الأول صحيحا والثاني فاسدا ففرق بينهما قبل الدخول لا يجب المهر بالاتفاق لأن صيرورته قابضا باعتبار تمكنه من القبض شرعا وذلك بالعقد الفاسد لا يكون ألا ترى أن الخلوة في النكاح الفاسد لا توجب المهر والعدة فهنا كذلك العدة الأولى لم تسقط بمجرد العقد الفاسد فبقيت معتدة كما كانت ولا مهر لها عليه إذا فرق بينهما قبل الدخول.
ولو كان العقد الثاني صحيحا فارتدت ووقعت الفرقة بينهما فهو على هذا الخلاف الذي قلنا لها كمال المهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى لا مهر لها لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول فلو كان تزوجها في جميع هذه الوجوه بعد انقضاء العدة كان الجواب عندهم كما هو قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى في الفصول المتقدمة لأنه لم يبق له عليها تلك اليد بعد انقضاء العدة فالتزوج بها وبأجنبية أخرى سواء .
قال: وإذا تزوجت المرأة رجلا خيرا منها فليس للولي أن يفرق بينهما لأن الكفاءة غير مطلوبة من جانب النساء فإن الولي لا يتغير بأن يكون تحت الرجل من لا تكافئه ولأن نسب الولد يكون إلى أبيه لا إلى أمه ألا ترى أن إسماعيل عليه السلام كان من قوم إبراهيم صلوات الله عليه لا من قوم هاجر وكذلك إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قريش وما كان قبطيا وأولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة.
قال: وإذا تسمى الرجل لامرأة بغير اسمه وانتسب لها إلى غير نسبه فتزوجته فالمسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون النسب المكتوم أفضل مما أظهره بأن أخبرها أنه من العرب ثم تبين أنه من قريش وفي هذا لا خيار لها ولا للأولياء لأنها وجدته خيرا مما شرط لها فهو كمن اشترى شيئا على أنه معيب فإذا هو سليم.
والثاني: إذا كان نسبه المكتوم دون ما أظهره ولكنه في النسب المكتوم غير كفء لها بأن تزوج قرشية على أنه من قريش ثم تبين أنه من العرب أو من الموالي وفي هذا لها الخيار وإن رضيت هي فللأولياء أن يفرقوا بينهما لعدم الكفاءة.
والثالث: إن كان النسب المكتوم دون ما أظهر ولكنه في النسب المكتوم كفؤ لها بأن تزوج عربية على أنه من قريش ثم تبين أنه من العرب وفي هذا ليس للأولياء حق المطالبة

 

ج / 5 ص -28-         بالفرقة بالاتفاق لأن حق الخصومة للأولياء لدفع العار عن أنفسهم حتى لا ينسب إليهم بالمصاهرة من لا يكافئهم وهذا غير موجود هنا ولكن لها الخيار إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته عندنا.
 وقال زفر رحمه الله تعالى لا خيار لها كما لا يثبت للأولياء لأن الحق في المطالبة بالكفاءة وهي موجودة ولكنا نقول شرط لها زيادة منفعة وهو أن يكون ولدها منه صالحا للخلافة فإذا لم تنل هذا الشرط كان لها الخيار كمن اشترى عبدا على أنه كاتب أو خباز فوجده لا يحسنه وهذا لأن في الاستفراش ذلا في جانبها والمرأة قد ترضى استفراش من هو أفضل منها ولا ترضى استفراش من هو مثلها فإذا ظهر أنه غرها فقد تبين انعدام تمام الرضا منها فلهذا كان لها الخيار بخلاف الأولياء فإن ثبوت الخيار لهم لعدم الكفاءة فقط.
وللشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة ثلاثة أقوال قول مثل قولنا وقول مثل قول زفر رحمه الله تعالى وقول آخر أن النكاح باطل لأنها زوجت نفسها من رجل هو قرشي ولم يوجد ذلك الرجل ولكنا نقول الإشارة مع التسمية إذا اجتمعا فالعبرة للإشارة لأن التعريف بالإشارة أبلغ وبهذا ونحوه نستدل على قلة فقهه فإن مثل هذا الجواب لا يعجز عنه غير الفقيه ومن سئل عن طريق فقال إما من هذا الجانب وإما من هذا الجانب فيشير إلى الجوانب الأربعة علم أنه لا علم له بالطريق أصلا.
 قال: وإن كانت المرأة هي التي غرت الزوج وانتسبت إلى غير نسبها فلا خيار له فيه إذا علم وهي امرأته إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها لما بينا أنه لا يفوت عليه شيء من مقاصد النكاح بما ظهر من غرورها لا في حق نفسه ولا في ولده ولأنه يتمكن من التخلص منها بالطلاق فلا حاجة إلى إثبات الخيار والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب النكاح بغير شهود
قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بشهود" وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى وكان مالك وبن أبي ليلى وعثمان البتى رحمهم الله تعالى يقولون الشهود ليس بشرط في النكاح إنما الشرط الإعلان حتى لو أعلنوا بحضرة الصبيان والمجانين صح النكاح ولو أمر الشاهدين بأن لا يظهرا العقد لا يصح وحجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا النكاح ولو بالدف". وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أملاك رجل من الأنصار فقال "أين شاهدكم" فأتى بالدف فأمر بأن يضرب على رأس الرجل وكان لعائشة رضي الله عنها دف تعيره للانكحة وهذا لأن حرام هذا الفعل لا يكون إلا سرا فالحلال لا يكون إلا ضده وذلك بالاعلان لتنتفي التهم وحجتنا في ذلك الحديث الذي رويناه ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولى وشاهدان" وقال عمر رضي الله عنه لا أوتي برجل تزوج امرأة بشهادة رجل واحد إلا رجمته ولأن

 

ج / 5 ص -29-         الشرط لما كان هو الإظهار يعتبر فيه ما هو طريق الظهور شرعا وذلك شهادة الشاهدين فإنه مع شهادتهما لا يبقى سرا قال القائل:

وسرك ما كان عند امرئ                          وسر الثلاثة غير الخفي

ولأن اشتراط زيادة شيء في هذا العقد لاظهار خطر البضع فهو نظير اشتراط زيادة شيء في إثبات إتلاف ما يملك بالنكاح وإنما اختص ذلك من بين سائر نظائره بزيادة شاهدين فكذلك هذا التمليك مختص من بين سائر نظائره بزيادة شاهدين ثم الأصل عندنا أن كل من يصلح أن يكون قابلا للعقد بنفسه ينعقد النكاح بشهادته وكل من يصلح أن يكون وليا في نكاح يصلح أن يكون شاهدا في ذلك النكاح وعلى هذا الأصل قلنا ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين ولا ينعقد عند الشافعي رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ولكنا نقول ذكر العدالة في هذا الحديث والشهادة مطلقة فيما روينا فنحن نعمل بالمطلق والمقيد جميعا مع أنه نكر ذكر العدالة في موضع الإثبات فيقتضي عدالة ما وذلك من حيث الاعتقاد.
وفي الحقيقة المسألة تنبني على أن الفاسق من أهل الشهادة عندنا وإنما لا تقبل شهادته لتمكن تهمة الكذب وفي الحضور والسماع لا تتمكن هذه التهمة فكان بمنزلة العدل وعند الشافعي رحمه الله تعالى الفاسق ليس من أهل الشهادة أصلا لنقصان حاله بسبب الفسق وهو ينبني أيضا على أصل أن الفسق لا ينقص من إيمانه عندنا فإن الإيمان لا يزيد ولا ينقص والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفسه وعنده الشرائع من نفس الإيمان ويزداد الإيمان بالطاعة وينتقص بالمعصية فجعل نقصان الدين بسبب الفسق كنقصان الحال بسبب الرق والصغر واعتبر بطرف الأداء فإن المقصود إظهار النكاح عند الحاجة إليه والصيانة عن خلل يقع بسبب التجاحد ولا يحصل ذلك بشهادة الفاسق.
ولكنا نقول الفسق لا يخرجه من أن يكون أهلا للإمامة والسلطنة فإن الأئمة بعد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم قل ما يخلو واحد منهم عن فسق فالقول بخروجه من أن يكون إماما بالفسق يؤدي إلى فساد عظيم ومن ضرورة كونه أهلا للإمامة كونه أهلا للقضاء لأن تقلد القضاء يكون من الإمام ومن ضرورة كونه أهلا لولاية القضاء أن يكون أهلا للشهادة وبه ظهر الفرق بينه وبين نقصان الحال بسبب الرق والأداء ثمرة من ثمرات الشهادة وفوت الثمرة لا يدل على انعدام الشيء من أصله إلا ترى أن بشهادة المستور الذي ظاهر حاله العدالة ينعقد النكاح ولا يظهر بمقالته وكذلك بشهادة ابنته منها وكذلك ينعقد بشهادة الأعميين بالإتفاق أما عندنا فلان الأعمى إنما لا تقبل شهادته لأنه لا يميز بين المشهود له والمشهود عليه إلا بدليل مشتبه وهو النغمة والصوت وذلك لا يكون في حالة الحضور والسماع وعند الشافعي رحمه الله تعالى لأن الأعمى من أهل أداء الشهادة ولهذا قال لو تحمل وهو بصير ثم عمى تقبل شهادته.

 

ج / 5 ص -30-         فإما بشهادة المحدودين في القذف فإن لم تظهر توبتهما فهما فاسقان وأن ظهرت توبتهما ينعقد النكاح بشهادتهما بالاتفاق عند الشافعي رحمه الله تعالى لجواز الإداء منهما بعد التوبة وعندنا إنما لا تقبل شهادة المحدود في القذف لكونه محكوما بكذبه فإنما يؤثر ذلك فيما يتصور فيه تهمة الكذب أو فيما يستدعي قولا من جهتهما وذلك لا يكون في الحضور والسماع.
فأما بشهادة العبدين والصبيين لا ينعقد النكاح لأنهما لا يقبلان هذا العقد بأنفسهما ولأنهما لا يصلحان للولاية في هذا العقد وهذا لأن النكاح يعقد في محافل الرجال والصبيان والعبيد لا يدعون إلى محافل الرجال عادة فلهذا جعل حضورهما كلا حضورهما.
وعلى هذا الأصل ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا ينعقد بناء على أصله أن شهادة النساء مع الرجال إنما تكون حجة في الأموال وفيما يكون تبعا للأموال باعتبار أن المعاملة تكثر بين الناس ويلحقهم الحرج بإشهاد رجلين في كل حادثة فكانت حجة ضرورية في هذا المعنى ولا ضرورة في النكاح والطلاق وما ليس بمال لأن المعاملة فيها لا تكثر فكانت كالحدود والقصاص.
وكذلك هذا ينبني على أصله أن المرأة لا تصلح أن تكون موجبة للنكاح ولا قابلة فكذلك لا تصلح شاهدة في النكاح وعندنا هي تصلح لذلك وللنساء مع الرجال شهادة أصلية ولكن فيها ضرب شبهة من حيث أنه يغلب الضلال والنسيان عليهن كما أشار الله تعالى في قوله:
{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] الآخرى فتذكر أحداهما الأخرى وبانضمام إحدى المرأتين إلى الآخرى تقل تهمة النسيان ولا تنعدم لبقاء سببها وهي الانوثة فلا تجعل حجة فيها يندرى ء بالشبهات كالحدود والقصاص.
فأما النكاح والطلاق يثبت مع الشبهات فهذه الشهادة فيها نظير شهادة الرجال ولا اشكال ان تهمة الضلال والنسيان في شهادة الحضور لا تتحقق فكان ينبغي أن ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأة ولكنا نقول قد ثبت بالنص أن المرأتين شاهد واحد فكانت المرأة الواحدة نصف الشاهد وبنصف الشاهد لا يثبت شيء ولهذا لو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا لم تضمن المرأة شيئا وسنقرر هذه الأصول في موضعها من كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى واعتمادنا على حديث عمر رضي الله تعالى عنه حيث أجاز شهادة رجل وامرأتين في النكاح والفرقة.
قال: ولو تزوجها بشهادة ابنته أو ابنتها أو بنته منها ينعقد النكاح بالاتفاق لحضور من هو أهل للشهادة فإن امتناع قبول شهادة الولد لوالده لا لنقصان حاله بل لتهمة ميل كل واحد منهما إلى صاحبه ولا تتمكن هذه التهمة في إنعقاد العقد بشهادتهما.
قال: ولو تزوج مسلم نصرانية بشهادة نصرانيين جاز النكاح في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولم يجز في قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى لأن هذا نكاح لا يصح إلا

 

ج / 5 ص -31-         بشهود فلا يصح بشهادة الكافرين كالعقد بين المسلمين بخلاف أنكحة الكفار فإنها تنعقد بغير شهود وحقيقة المعنى أن هذا السماع شهادة ولا شهادة للكافر على المسلم فلم يصح سماعهما كلام المسلم بطريق الشهادة وشرط الانعقاد سماع البينة كلا شطري العقد ولم يوجد فكان هذا بمنزلة ما لو سمع الشاهدان كلام المرأة دون كلام الزوج ولهما طريقان:
أحدهما: ما بينا أن الكافر يصلح أن يكون وليا في العقد ويصلح أن يكون قابلا لهذا العقد بنفسه فيصلح أن يكون شاهدا فيه أيضا كالمسلم وهذا استدلال بطريق الأولى فإن الإيجاب والقبول ركن العقد والشهادة شرطه فإذا كان يصلح الكافر للقيام بركن هذا العقد بنفسه فلأن يقوم بشرطه كان أولى بخلاف ما يجري بين المسلمين ولأن المخاطب بالإشهاد هو الرجل لأنه يتملك البضع ولا يتملك إلا بشهادة الشهود فإما المرأة تملك المال والشهود ليس بشرط لتملك المال ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بالنكاح بغير شهود ثم كانت المرأة لا تحتاج إلى الإشهاد عليه إذا ثبت هذا فنقول الرجل قد اشهد عليها من يصلح أن يكون شاهدا عليها بخلاف ما إذا كانت مسلمة وبخلاف ما إذا سمعوا كلامها لأنه مخاطب بالإشهاد عليها بالعقد والعقد لا يكون إلا بكلام المتعاقدين وسماعهما كلام المسلم صحيح ألا ترى أنه لو تزوجها بشهادة كافرين ومسلمين ثم وقعت الحاجة إلى أداء هذه الشهادة تقبل شهادة الكافرين بالعقد عليها إذا جحدت وعلى الزوج لو كانا اسلما بعد ذلك فظهر أن سماعهما كلام المسلم صحيح فيحصل به الإشهاد عليها بالعقد وهذا بخلاف ما إذا تزوجها بغير شهود فإنه لا يجوز ذلك وإن كان في دينهم حلالا لأن صاحب العقد هو الزوج وهو مسلم مخاطب بالإشهاد فلا يعتبر اعتقادها في حقه.
قال: وإذا زوج ابنته بشهادة ابنيه ثم جحد الزوج النكاح وادعاه الأب والمرأة فشهد الابنان بذلك فشهادتهما لا تقبل في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى تقبل ولو كان الزوج هو المدعي وجحد الأب والمرأة لذلك فشهادة الابنين فيه تكون مقبولة على أبيهما والحاصل أن شهادتهما لاختهما وعلى أختهما تكون مقبولة وشهادتهما على أبيهما فيما يجحده الأب مقبولة فأما إذا شهدا لأبيهما فيما يدعيه إن كان للأب فيه منفعة نحو أن يشهدا بعقد تتعلق الحقوق به لا تقبل شهادتهما وإن لم يكن للأب فيه منفعة لا تقبل الشهادة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى أيضا وعند محمد تقبل.
وأصل المسألة فيما إذا قال لعبده إن كلمك فلان فأنت حر فشهدا بنا فلان أن أباهما كلم العبد فإن كان الأب يجحد ذلك فشهادتهما مقبولة وإن كان الأب يدعى ذلك لا تقبل الشهادة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى تقبل قال لأن امتناع قبول شهادة الولد لوالده لتمكن تهمة الميل إليه وإيثاره بالمنفعة على غيره وهذا لا يتحقق فيما لا منفعة للأب فيه فقبلت الشهادة جحدها أو ادعاها.

 

ج / 5 ص -32-         وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول شهادة الولد لوالده لا تكون مقبولة بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقبل شهادة الولد لوالده" وإنما تكون شهادة له إذا كان مدعيا بشهادته ولا معتبر بالمنفعة فإن جحوده الشهادة يقبل وإن كان له فيه منفعة بأن شهدوا عليه ببيع ما يساوي مائة درهم بألف درهم مع أن المنفعة هنا تتحقق فإن ظهور صدقه عند القاضي والناس من جملة المنفعة والعاقل يؤثر هذا على كثير من المنافع الدنيوية ثم ذكر في الكتاب وقال محمد رحمه الله تعالى كل شيء للأب فيه منفعة جحد أو ادعى فشهادة ابنيه فيه باطل وكذلك كل شيء تولاه مما يكون فيه خصما كالبيع وما أشبهه.
والمراد بهذا أن عند دعوى الأب لا تقبل شهادة الابن للتهمة وعند جحود الأب أن كان الآخر جاحدا أيضا لا تقبل الشهادة لعدم الدعوى فأما إذا كان الآخر مدعيا كانت الشهادة مقبولة وإن كان للأب فيها منفعة كما إذا شهدوا عليه ببيع ما يساوي مائة درهم بألف درهم والمشتري يدعيه وهذا لأن هذه منفعة غير مطلوبة من جهة الأب والمنفعة التي هي غير مطلوبة لا تؤثر في المنع من قبول الشهادة.
قال: وأما شهادة الشاهد على فعل تولاه لنفسه أو لغيره مما يكون فيه خصما ومما لا يكون خصما فساقطة بالاتفاق وبهذا يستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال الابن جزء من أبيه فشهادته كشهادة الأب لنفسه فكما أن شهادة الأب فيما باشره لا تكون مقبولة وإن لم يكن له فيه منفعة فكذلك شهادة الابن للأب ولكنا نقول فيما باشره يكون مدعيا لا شاهدا فأما الابن فيما باشر أبوه يكون شاهدا فبعد تحقق الشهادة المانع من القبول هو التهمة ففي كل موضع لا تتحقق التهمة تكون الشهادة مقبولة.
قال: وإذا زوج الرجل ابنته فأنكرت الرضا فشهد عليها أخوها وأبوها بالرضا لم تقبل لأن الأب يريد تتميم ما باشره ولو شهد عليها أخواها بالرضا كانت مقبولة لأنه لا تهمة في شهادتهما عليها.
قال: ولو تزوج امرأة بغير شهود أو بشاهد واحد ثم أشهد بعد ذلك لم يجز النكاح لأن الشرط هو الإشهاد على العقد ولم يوجد وإنما وجد الإشهاد على الإقرار بالعقد الفاسد والإقرار بالعقد الفاسد ليس بعقد وبالإشهاد عليه لا ينقلب الفاسد صحيحا.
قال: ولا يجوز النكاح بين مسلمين بشهادة عبدين أو كافرين أو صبيين أو معتوهين أو نساء ليس معهن رجل لما قلنا فإن كان معهم شاهدان حران مسلمان جاز النكاح لوجود شرطه فإن أدرك الصبيان وعتق العبدان وأسلم الكافران ثم شهدوا بذلك عند الحاكم جازت شهادتهم لأن شرائط أداء الشهادة إنما يعتبر عند الأداء وهو موجود والعتق والإسلام والبلوغ ليس من شرائط التحمل فتحملهما كان صحيحا حين تحملا لأن التحمل ليس بشهادة والحرية والإسلام والبلوغ تعتبر في الشهادة فلهذا جازت شهادتهما.

 

ج / 5 ص -33-         قال: وإذا شهد شاهد أنه تزوجها أمس وشهد شاهد أنه تزوجها اليوم فشهادتهما باطلة لأن النكاح وإن كان قولا إلا أن من شرائطه ما هو فعل وهو حضور الشهود فكان بمنزلة الأفعال واختلاف الشهود في المكان والزمان في الأفعال يمنع قبول الشهادة توضيحه إن كل واحد منهما شهد بعقد عقد بحضوره وحده وذلك عقد فاسد.
قال: وإذا جحد الزوج النكاح فأقامت المرأة البينة جاز ولم يكن جحوده طلاقا ولا فرقة لأن الطلاق تصرف في النكاح وهو منكر لأصل النكاح فلا يكون إنكاره تصرفا فيه بالرفع والقطع ألا ترى أن بالطلاق ينتقص العدد وبانتفاء أصل النكاح لا ينتقص فإن أقامت البينة على إقراره بالنكاح جاز أيضا لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
قال: ولو زوج عبده أمته بغير شهود لم يجز لأنه نكاح بين مسلمين واشتراط الشهود في نكاح المسلمين لاظهار خطر البضع وذلك المعنى لا يختلف في الإحرار والعبيد وهذا بخلاف المهر لأنه على طريق بعض مشايخنا يجب المهر بهذا العقد لإظهار خطر البضع حقا للشرع ثم يسقط بعد ذلك لأنه لو بقى كان للمولى ولا دين للمولى على عبده وأن قلنا لا يجب فإنما امتنع وجوبه لوجود المنافي له ولكونه غير مفيد لأن فائدة الوجوب الاستيفاء وهذا لا يوجد في الشهود فإن ملكه رقبتهما لا ينافي الإشهاد على النكاح ويحصل به ما هو مقصود الإشهاد.
قال: وإن طلقها الزوج في النكاح بغير شهود لم يقع طلاقه عليها ولكنه متاركة للنكاح لأن وقوع الطلاق يستدعي ملكا له على المحل أما ملك العين أو ملك اليد وذلك لا يحصل بالنكاح الفاسد فإن العدة وإن وجبت بالدخول لا يثبت ملك اليد باعتباره ولهذا لا تستوجب النفقة ولكنه يكون متاركة فإن الطلاق في النكاح الصحيح يكون رافعا للعقد موجبا نقصان العدد لكن امتنع ثبوت أحد الحكمين هنا فبقي عاملا فى الآخر وهو رفع الشبهة لأن رفع الشبهة دون رفع العقد ثم بين حكم الدخول في النكاح الفاسد وما لو تزوجها في العدة ثانية بشهود ثم طلقها قبل الدخول وقد بينا الخلاف فيه فيما سبق.
قال: وإذا قال تزوجتك بغير شهود وقالت هي تزوجتني بشهود فالقول قولها لأنهما اتفقا على أصل العقد فيكون ذلك كالإتفاق منهما على شرائطه لأن شرط الشيء يتبعه فالإتفاق على الأصل يكون اتفاقا على الشرط ثم المنكر منهما للشرط في معنى الراجع فإن كانت هي التي أنكرت الشهود فالنكاح بينهما صحيح وأن كان الزوج هو المنكر يفرق بينهما لاقراره بالحرمة عليه لأنه متمكن من تحريمها على نفسه فجعل إقراره مقبولا في إثبات الحرمة ويكون هذا بمنزلة الفرقة من جهته فلها نصف المهران كان قبل الدخول وجميع المسمى ونفقة العدة أن كان بعد الدخول وهذا بخلاف ما إذا أنكر الزوج أصل النكاح لأن القاضي كذبه في إنكاره بالحجة والمكذب في زعمه بقضاء القاضي لا يبقى لزعمه عبرة وهنا القاضي

 

ج / 5 ص -34-         ما كذبه في زعمه بالحجة ولكنه رجح قولها للمعنى الذي قلنا فبقي زعمه معتبرا في حقه فلهذا فرق بينهما.
قال: وكذلك لو قال تزوجتها ولها زوج أو هي معتدة من غيري أو هي مجوسية أو أختها عندي أو هي أمة تزوجتها بغير إذن مولاها لأن هذه الموانع كلها معني في محل العقد والمحال في حكم الشروط فكان هذا واختلافهما في الشهود سواء على ما بينا وهذا بخلاف ما إذا ادعى أحدهما أن النكاح كان في صغره بمباشرته لأنه ينكر أصل العقد هنا فإن الصغير ليس بأهل لمباشرة النكاح بنفسه فاضافة العقد إلى حالة معهودة تنافي الأهلية يكون إنكارا لاصل العقد كما لو قال تزوجتك قبل أن تخلقي أو قبل أن أخلق وإذا كان القول قول المنكر منهما فلا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها قبل الإدراك وإن كان دخل بها قبل الإدراك فلها الأقل من المسمى ومن مهر المثل لوجود الدخول بحكم النكاح الموقوف فإن عقد الصغير يتوقف على إجازة وليه إذا كان الولي يملك مباشرته وإن كان الدخول بعد الإدراك فهذا رضي بذلك النكاح وبعد الإدراك لو أجاز العقد الذي عقده في حالة الصغر جاز كما لو أجاز وليه قبل إدراكه فكذلك بدخوله بها يصير مجيزا.
قال: وإذا زوج الرجل امرأة بأمره ثم اختلفا فقال الوكيل أشهدت فيه على النكاح وقال الزوج لم تشهد فيه فإنه يفرق بينهما لاقراره وعليه نصف الصداق لما قلنا أن إقراره باصل عقد الوكيل إقرار بشرطه وإن اختلفت المرأة ووكيلها في مثل ذلك فالقول قول الزوج لأنها أقرت بالوكالة والنكاح فيكون ذلك إقرارا منها بشرط النكاح.
قال: وكذلك لو قالت لم تزوجني لا يلزمها إقرار الوكيل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى خلافا لهما لأن إقرار الوكيل بالنكاح في حال بقاء الوكالة صحيح وقد بيناه وكذلك وكيل الزوج إذا أقر بالنكاح وجحد الزوج فهو على الخلاف الذي بينا هكذا ذكر المسألة هنا.
وأعاد المسألة في كتاب الطلاق وذكر أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال سواء النكاح والخلع والبيع والشراء في إن إقرار الوكيل بفعله جائز إذا كان الآمر مقرى أنه أمره بفعله ففي رواية كتاب الطلاق الخلاف في إقرار الولي على الصغير في النكاح لا في إقرار الوكيل على الموكل لأن الوكيل مسلط من جهة الموكل باختياره فاقرار الوكيل به كإقرار الموكل بنفسه فأما الولي مسلط شرعا والشرع اعتبر الشهود في النكاح فلا يصح إقرار الولي بغير شهود وإلا صح أن الخلاف في الكل كما ذكر هنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب نكاح أهل الذمة
قال: رضي الله تعالى عنه اعلم أن كل نكاح يجوز فيما بين المسلمين فهو جائز فيما بين أهل الذمة لأنهم يعتقدون جوازه ونحن نعتقد ذلك في حقهم أيضا فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود" وخطاب الواحد خطاب الجماعة فما توافقنا في اعتقاده يكون

 

ج / 5 ص -35-         ثابتا في حقهم فإما ما لا يجوز بين المسلمين فهو أنواع منها النكاح بغير شهود فإنه جائز بين أهل الذمة يقرون عليه إذا أسلموا عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى لا يتعرض لهم في ذلك إلا أن يسلموا أو يترافعوا إلينا فحينئذ يفرق القاضي بينهم لقوله تعالى:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] ولأنهم بعقد الذمة صاروا منا دارا والتزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فيثبت في حقهم ما هو ثابت في حقنا ألا ترى أن حرمة الربا ثابتة في حقهم بهذا الطريق فكذلك حرمه النكاح بغير شهود ولكنا نقول نعرض عنهم لمكان عقد الذمة لا لأنا نقرهم على ذلك كما نتركهم وعبادة النار والأوثان على سبيل الإعراض لا على سبيل التقرير والحكم بصحة ما يفعلون ولا نعرض عنهم في عقد الربا لأن ذلك مستثنى عن عقد الذمة.
قال صلى الله عليه وسلم:
"إلا من أربي فليس بيننا وبينه عقد" ويروي عهد وكتب إلى بني نجران: "إما أن تدعوا الربا أو فأذنوا بحرب من الله ورسوله" وحجتنا في ذلك أن الإشهاد على النكاح من حق الشرع وهم لا يخاطبون بحقوق الشرع بما هو أهم من هذا ولأن النكاح بغير شهود يجوزه بعض المسلمين ونحن نعلم أنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام بجميع الاختلاف ثم من المنزل أن يترك أهل الكتاب وما يعتقدون إلا ما استثني عليهم وإن حكم خطاب الشرع في حقهم كأنه غير نازل لاعتقادهم خلاف ذلك ألا ترى أن الخمر والخنزير يكون ما لا متقوما في حقهم ينفذ تصرفهم فيهما بهذا الطريق فكذا ما نحن فيه بخلاف الشرك فإن ذلك لم يحل قط ولن يحل قط وإذا انعقد انعقد فيما بينهم صحيحا بهذا الطريق فما بعد المرافعة والإسلام حال بقاء النكاح والشهود شرط ابتداء النكاح لا شرط البقاء فإما إذا تزوج ذمية في عدة ذمي جاز النكاح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى لا يفرق بينهما وأن أسلما أو ترافعا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يفرق لأن النكاح في العدة مجمع على بطلانه فيما بين المسلمين فكان باطلا في حقهم أيضا ولكن لا نتعرض لهم لمكان عقد الذمة فإذا ترافعوا أو أسلموا وجب الحكم فيهم بما هو حكم الإسلام كما في نكاح المحارم فإما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى من أصحابنا من يقول العدة لا تجب من الذمى لأن وجوبها لحق الشرع أو لحق الزوج ولا يمكن إيجابها لحق الشرع هنا لأنهم لا يخاطبون بذلك ولا لحق الزوج لأنه لا يعتقد ذلك فإذا لم تجب العدة كان النكاح صحيحا ومنهم من يقول العدة واجبة ولكنها ضعيفة لا تمنع النكاح بناء على اعتقادهم كالاستبراء فيما بين المسلمين فكان النكاح صحيحا وبعد المرافعة أو الإسلام الحال حال بقاء النكاح والعدة لا تمنع بقاء النكاح كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة وهذا بخلاف ما إذا كانت معتدة من مسلم لأن تلك العدة قوية واجبة حقا للزوج.
فإما إذا تزوج ذات رحم محرم منه من أم أو بنت أو أخت فإنه لا يتعرض له في ذلك وإن علمه القاضي ما لم يترافعوا إليه إلا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر.

 

ج / 5 ص -36-         وذكر في كتاب الطلاق أنه يفرق بينهما إذا علم بذلك لما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله أن فرقوا بين المجوس وبين محارمهم وامنعوهم من الرمرمة إذا أكلوا ولكنا نقول هذا غير مشهور وإنما المشهور ما كتب به عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصرى رضي الله تعالى عنهما ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وماهم عليه من نكاح المحارم واقتناء الخمور والخنازير فكتب إليه إنما بذلوا الجزية ليتركوا وما يعتقدون وإنما أنت متبع وليس بمبتدع والسلام ولأن الولاة والقضاة من ذلك الوقت إلى يومنا هذا لم يشتغل أحد منهم بذلك مع علمهم أنهم يباشرون ذلك.
ثم قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لهذه الإنكحة فيما بينهم حكم الصحة ولهذا قال يقضي لها بنفقة النكاح إذا طلبت ولا يسقط احصانه إذا دخل بها حتى إذا أسلم يحد قاذفه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو باطل في حقهم ولكنا لا نتعرض لهم في ذلك لمكان عقد الذمة وهذا لأن الخطاب بحرمة هذه الإنكحة شائع في دار الإسلام وهم من أهل دار الإسلام فيكون الخطاب ثابتا في حقهم لأنه ليس في وسع المبلغ التبليغ إلى كل واحد وإنما في وسعه جعل الخطاب شائعا فيجعل شيوع الخطاب بمنزلة البلوغ إليهم ولكن لا نتعرض لهم لمكان عقد الذمة ألا ترى أنهم لا يتوارثون بهذه الإنكحة ولو كانت صحيحة في حقهم لتوارثوا بها.
وأما الخمر والخنزير فقد قيل الحرمة بخطاب خاص في حق المسلمين وهو قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وقيل: ليس من ضرورة الحرمة سقوط المالية والتقوم فالمال قد يكون حراما وقد يكون حلالا وإنما تنبني المالية على التمول وهم يتمولون ذلك فأما من ضرورة حرمة المحل بطلان النكاح وقد ثبتت الحرمة في حقهم كما بينا.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لو تزوج مجوسية صح بالإتفاق والمجوسية محرمة النكاح بخطاب الشرع كذوات المحارم وإنما حكمنا بجوازه بينهم لأن الخطاب في حقهم كأنه غير نازل فإنهم يكذبون المبلغ ويزعمون أنه لم يكن رسولا وقد انقطعت ولاية الالزام بالسيف أو بالمحاجة لمكان عقد الذمة فصار حكم الخطاب قاصرا عنهم وشيوع الخطاب إنما يعتبر في حق من يعتقد كون المبلغ رسولا فإذا اعتقدوا ذلك بأن أسلموا ثبت حكم الخطاب في حقهم فأما قبل ذلك لما قصر الخطاب عنهم بقي حكم المنسوخ في حقهم ما لم يثبت الناسخ كما بقي حكم جواز الصلاة إلى بيت المقدس في حق أهل قباء لما لم يبلغهم الخطاب بالتوجه إلى الكعبة فإذا ثبت حكم صحة الإنكحة بهذا الطريق ثبت به ما هو من ضرورة صحة النكاح كالنفقة وبقاء الإحصان.
وأما الميراث فليس إستحقاق الميراث من ضرورة صحة النكاح فقد يمتنع التوارث

 

ج / 5 ص -37-         بأسباب كالرق واختلاف الدين مع أن التوارث إنما يستحق الميراث على المورث بعد موته وحكم اعتقاده بخلاف الشرع سقط اعتباره بالموت لعلمنا أنه قد تيقن بذلك ولما أشار الله تعالى إليه في قوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] فلا يكون اعتقاد الوارث معتبرا في الاستحقاق عليه فلهذا لا يرثه بخلاف النفقة في حال الحياة وبقاء الإحصان إذا ثبتت هذه القاعدة فنقول عند أبي حنيفة أن رفع أحدهما الأمر إلى القاضي وطلب حكم الإسلام لم يفرق بينهما إذا كان الآخر يأبى ذلك وعندهما يفرق بينهما لأن أصل النكاح كان باطلا ولكن ترك التعرض كان للوفاء بعقد الذمة فإذا رفع أحدهما الأمر وانقاد لحكم الإسلام كان هذا بمنزلة ما لو أسلم أحدهما ولو أسلم أحدهما فرق القاضي بينهما فكان إسلام أحدهما كإسلامهما فكذلك رفع أحدهما إليه كمرافعتهما.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أصل النكاح كان صحيحا فرفع أحدهما إلى القاضي ومطالبته بحكم الإسلام لا يكون حجة على الآخر في إبطال الاستحقاق الثابت له باعتقاده بل اعتقاده يكون معارضا لاعتقاد الآخر فبقى حكم الصحة على ما كان بخلاف ما إذا أسلم أحدهما فإن الإسلام يعلو ولا يعلى فلا يكون اعتقاد الآخر معارضا لا سلام المسلم منهما وبخلاف ما إذا رفعا لأنهما انقادا لحكم الإسلام فيثبت حكم الخطاب في حقها بانقيادهما له وإليه أشار الله تعالى في قوله:
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] فتكون مرافعتهما كإسلامهما وبعد إسلامهما يفرق بينهما لأن المحرمية كما تنافى ابتداء النكاح تنافي البقاء بعد ما انعقد صحيحا كما لو اعترضت المحرمية في نكاح المسلمين برضاع أو مصاهرة.
قال: وإذا تزوج الذمى ذمية على خمر أو خنزير بعينه أو بغير عينه فهو جائز ولا مهر لها غير ما سمى لأن شرط صحة التسمية كون المسمى مالا منقوما والخمر والخنزير مال متقوم في حقهم بمنزلة الخل والشاء في حقنا وأن تزوجها على ميتة أو دم أو غير شيء فالنكاح جائز ولها مهر مثلها لأنهم لا يتمولون الميتة والدم كما لا يتمولهما المسلمون ولو كان المسلم هو الذي تزوج امرأة بهذه الصفة كان لها مهر مثلها فكذلك الذمي وقيل هذا قولهما إما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا شيء لها إذا كانوا يدينون بالنكاح بغير مهر إلى هذا يشير في الجامع الصغير والخلاف مشهور فيما إذا تزوجها على أن لا مهر لها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب المهر وإن أسلما وعندهما لها مهر مثلها وهو بناء على ما ذكرنا من الأصل فإن تقييد الإبتغاء بالمال ثبت بخطاب الشرع فعندهما يكون ثابتا في حق أهل الذمة لشيوع الخطاب في دار الإسلام وكونهم من أهلها واشتراطهم بخلاف ذلك باطل إلا إنه لا يتعرض لهم ما لم يسلموا أو يرفع أحدهم الأمر إلى القاضي بخلاف أهل الحرب فإن الخطاب غير شائع في دار الحرب ولأن الحربية محل للتملك بالقهر فيتمكن من اثبات ملك النكاح عليها بغير عوض بخلاف الذمية.

 

ج / 5 ص -38-         وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول حكم هذا الخطاب قاصر عنهم من الوجه الذي قلنا فصح الشرط ووجب الوفاء به ما لم يسلموا وبعد الإسلام أو المرافعة الحال حال بقاء النكاح والمهر ليس بشرط بقاء النكاح فكان هذا والنكاح بغير شهود سواء فإما إذا سكتا عن ذكر المهر فكذا في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن تملك البضع في حقهم كتملك المال في حق المسلمين فلا يجب العوض إلا بالشرط وفي الرواية الأخرى يجب لأن النكاح معاوضة البضع بالمال فالتنصيص عليه بمنزلة اشتراط العوض كالتنصيص على البيع فيما بين المسلمين فما لم يوجد التنصيص على نفي العوض كان العوض مستحقا لها وكذا عند تسمية الميتة والدم لأن ذلك لغو باعتبار أنه ليس بمال فكان هذا والسكوت عن ذكر المهر سواء.
قال: وإذا طلق الذمي امرأته ثلاثا ثم أقام عليها فرافعته إلى السلطان فرق بينهما لأنهم يعتقدون أن الطلاق مزيل للملك وإن كانوا لا يعتقدونه محصور العدد فامساكه إياها بعد التطليقات الثلاث ظلم منه وما أعطيناهم الذمة لنقرهم على الظلم أرأيت لو اختلعت بمال أكنا ندعه ليقوم عليها وقد استوفى منها فإما إذا تزوجها بعد التطليقات الثلاث برضاها فالآن هذا ونكاح المحارم سواء لأن الثلاث يوجب حرمة المحل بخطاب الشرع كالمحرمية وهم لا يعتقدون ذلك وحرمة المحل بهذا السبب تمنع بقاء النكاح كما تمنع الإبتداء فكان كالمحرمية فيما ذكرنا من التفريعات.
قال: وإذا تزوج الذمى ذمية على خمر بعينها أو خنزير بعينه ثم أسلما أو أسلم أحدهما فليس لها غير ذلك المعين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن كانت الخمر بغير عينها فلها قيمتها وفي الخنزير بغير عينه في القياس كذلك ولكنه استحسن فقال لها مهر مثلها وفي قول محمد لها القيمة على كل حال وفي قول أبي يوسف الآخر لها مهر مثلها على كل حال ولم يذكر قوله الأول وقيل هو كقول محمد رحمه الله أما حجتهما في العين أن الإسلام ورد والحرام مملوك بالعقد غير مقبوض فيمنع الإسلام قبضه كما في الخمر المشتراة إذ أسلم أحدهما قبل القبض وهذا لأن القبض يؤكد الملك الثابت بالعقد ألا ترى أن الصداق تتنصف بنفس الطلاق قبل الدخول إذا لم يكن مقبوضا وبعد القبض لا يعود شيء إلى ملك الزوج إلا بقضاء أو رضاء وكذلك الزوائد تنتصف قبل القبض ولا تتنصف بعده.
وكذلك لو مر يوم الفطر والصداق عبد عند الزوج ثم طلقها قبل الدخول لا تجب صدقة الفطر عليها بخلاف ما بعد القبض إذا ثبت هذا فنقول الإسلام كما يمنع تملك الخمر بالعقد ابتداء يمنع تأكد الملك فيها بالقبض وبه فارق الخمر المغصوبة فإنه ليس في الاسترداد تأكد الملك إنما فيه مجرد النقل من يد إلى يد وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الإسلام ورد وعين المسمى مملوك لها مضمون بنفسه في يد الزوج فلا يمنع الإسلام قبضه،

 

ج / 5 ص -39-         كالخمر المغصوبة لا يمنع الإسلام استردادها وهذا لأن ملكها في الصداق يتم بنفس العقد حتى تملك التصرف فيه كيف شاءت ومع من شاءت ببدل وغير بدل فليس القبض هنا بموجب ملك التصرف ولا تملك العين بخلاف المبيع فإن بالقبض هناك يستفاد ملك التصرف والإسلام المانع منه ولأن ضمان المبيع في يد البائع ضمان ملك حتى لو هلك يهلك على ملكه فكان قبض المشتري ناقلا لضمان الملك فإما ضمان المسمى في يد الزوج فليس بضمان ملك حتى لو هلك يهلك على ملكها ولهذا وجب لها القيمة فلا يكون الإسلام مانعا من القبض الناقل للضمان إذا لم يكن ضمان ملك كاسترداد المغصوب وهذا بخلاف ما إذا كان المسمى بغير عينه لأن القبض هناك موجب ملك العين والإسلام يمنع من ذلك.
 وإذا عرفنا هذا فمحمد رحمه الله تعالى يقول في الفصول كلها تعذر بالإسلام تسليم المسمى بعد صحة التسمية وذلك موجب للقيمة على كل حال كما لو تزوجها على عبد فاستحق أو هلك قبل التسليم وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الإسلام الطارئ بعد العقد قبل القبض يجعل في الحكم كالمقارن للعقد كما في البيع ولو اقترن الإسلام بالعقد وجب لها مهر المثل على كل حال فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول القياس ما قاله محمد رحمه الله تعالى لأن التسمية صحيحة وبطريان الإسلام لا يتبين فساد التسمية بخلاف ما إذا اقترن الإسلام بالعقد فإن التسمية هناك مفسدة وبخلاف البيع لأن أصل السبب هناك يفسد بالإسلام الطارئ وهنا أصل السبب باق وقد كانت التسمية صحيحة فإذا تعذر تسليم المسمى كان لها القيمة غير أني أستقبح إيجاب قيمة الخنزير فأوجب لها مهر مثلها قيل إنما استقبح ذلك لعبد الخنزير عن المالية في حق المسلمين ولأن المسلمين لا يعرفون قيمته والرجوع إلى أهل الذمة في معرفة قيمة الخنزير ليقضي به مستقبح ولكن هذا ضعيف فإن المسلم إذا أتلف خنزير الذمي يضمن قيمته كما إذا أتلف خمره والصحيح أن يقال قيمة الخنزير كعينه ألا ترى أن قبل الإسلام لو أتاها بالقيمة أجبرت على القبول كما إذا أتاها بالعين فكما تعذر قبض عين الخنزير بالإسلام فكذلك القيمة بخلاف الخمر يقرره أن قيمة الخنزير من موجبات صحة التسمية وبالإسلام قد تغير حكم التسمية فإنما يجوز أن يستوفي بعد الإسلام ما ليس من موجبات صحة التسمية وذلك مهر المثل فإما قيمة الخمر ليس من موجبات صحة التسمية لأن الخمر من ذوات الأمثال فلهذا يصار إلى قيمة الخمر.
ثم إن طلقها قبل الدخول ففي العين لها نصف العين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي غير العين في الخمر لها نصف القيمة وفي الخنزير لها المتعة لأن مهر المثل لا ينتصف بالطلاق قبل الدخول بل في كل موضع كان الواجب مهر المثل قبل الطلاق فالواجب المتعة بعد الطلاق على ما نذكره في باب المهور إن شاء الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى لها بعد الطلاق نصف القيمة على كل حال وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لها المتعة على كل حال.

 

ج / 5 ص -40-         قال: مسلم تزوج مسلمة على خمر أو خنزير أو شيء مما لا يحل كان النكاح جائزا لأن صحة التسمية ليس من شرائط أصل النكاح فالنكاح صحيح بغير تسمية المهر فكذلك مع فساد التسمية لأن ما كان فاسدا شرعا فذكره كالسكوت عنه في حكم الاستحقاق وتقدم اشتراطه غير مبطل للنكاح فإن النكاح يهدم الشرط ولا ينهدم به هكذا قال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى النكاح يهدم الشرط والشرط يهدم البيع وإذا صح النكاح فلها مهر مثلها لأن البضع لا يتملك إلا بعوض وقد تعذر إيجاب المسمى فيصار إلى العوض الأصلي وهو قيمة البضع على ما نبينه في باب المهور إن شاء الله تعالى.
قال: وتجوز المناكحة بين اليهود والنصارى والمجوس وقد دللنا على جواز أصل المناكحة فيما بينهم ثم هم أهل ملة واحدة وإن اختلفت نحلهم لأنه يجمعهم اعتقاد الشرك والانكار لنبوة محمد فتجوز المناكحة فيما بينهم كأهل المذاهب فيما بين المسلمين ولهذا جوزنا شهادة بعضهم على بعض وورثنا بعضهم من بعض.
ثم المولود بينهما على دين الكتابي من الأبوين عندنا تحل ذبيحته ومناكحته للمسلمين ولا يحل ذلك عند الشافعي رحمه الله تعالى لأن المعارضة تتحقق بينهما واحدهما يوجب الحرمة والآخر الحل فيغلب الموجب للحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال" بخلاف ما إذا كان أحدهما مسلما لأن الكفر لا يعارض الإسلام على ما بينا ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه" الحديث فقد جعل اتفاق الأبوين علة ناقلة عن أصل الفطرة فيثبت ذلك فيما إذا اتفق عليه الأبوان وفيما اختلفا فيه يبقى على اصل الفطرة ولأن حل الذبيحة والمناكحة من حكم الاسلام فإذا كان ذلك اعتقاد احد الأبوين يجعل الولد تبعا له في ذلك كما في نفس الإسلام وهذا لأن اليهودية إذا قوبلت بالمجوسية فالمجوسية شر فلا تقع المعارضة بينهما ولكن يترجح جانب التبعية للكتابي لأنه يعتقد التوحيد أو يظهره فكان في جعل الولد تبعا له نوع نظر للولد وذلك واجب.
قال: وإذا زوج صبية من صبي وهما من أهل الذمة جاز ذلك كما يجوز بين المسلمين لأن الولاية ثبتت للأولياء فيما بينهم قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] ثم إن كان المزوج هو الأب والجد فلا خيار لهما إذا أدركا لشفقة الأبوة فإن ذلك لا يختلف باختلاف الدين على ما قيل كل شيء يحب ولده حتى الحباري وإن كان المزوج غير الأب والجد فلهما الخيار في قول أبي حنيفة ومحمد على ما بينا فيما بين المسلمين.
قال: وإذا تزوجت الذمية ذميا فقال وليها هذا ليس بكفء لم يلتفت إلى قوله لأن ذل الشرك وصغار الجزية يجمعهم فلا يظهر مع ذلك نقصان النسب بل هم إكفاء بعضهم لبعض ألا ترى أنهم لو استرقوا كانوا اكفاء ولو اعتقوا كذلك ولو أسلموا كانوا اكفاء فعرفنا أنه لا يظهر التفاوت بينهم فلا يكون للولي أن يخاصم.

 

ج / 5 ص -41-         قال: إلا أن يكون شيئا مشهورا يعني كابنة ملك منهم خدعها حائك أو سايس ونحوه فهنا يفرق بينهما لا لانعدام الكفاءة بل لتسكين الفتنة لأن هذا يهيج الفتنة والقاضي مأمور بتسكين الفتنة بينهم كما هو مأمور بذلك بين المسلمين.
قال: وإذا تزوج الذمي مسلمة حرة فرق بينهما لقوله تعالى:
{وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى"، فاستقر الحكم في الشرع على أن المسلمة لا تحل للكافر وإن كان ذلك حلالا في الابتداء فيفرق بينهما ويوجع عقوبة أن كان قد دخل بها ولا يبلغ به أربعين سوطا وتعذر المرأة والذي سعى فيما بينهما وفي حق الذمي لم يذكر لفظ التعذير لأنه ينبئ عن معنى التطهير والتوقير قال الله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9] فلهذا قال يوجع عقوبة وهذا لأنه أساء الأدب فيما صنع واستخف بالمسلمين وارتكب ما كان ممنوعا منه فيؤدب على ذلك.
وكان مالك بن أنس رحمه الله تعالى يقول يقتل لأنه يصير بهذا ناقضا للعهد حين باشر ما ضمن في العهد أن لا يفعله فهو نظير الذمي إذا جعل نفسه طليعة للمشركين على قوله ولكنا نقول كما أن المسلم بارتكاب مثله لا يصير ناقضا لأمانه فالذمى لا يصير ناقضا لأمانه فلا يقتل ولكن يوجع عقوبه وكذلك يعذر الذي سعى بينهما لأنه أعان على مالا يحل والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله الراشي والمرتشي والرائش" وهو الذي يسعى بينهما وأن أسلم بعد النكاح لم يترك على نكاحه لأن أضل النكاح كان باطلا فبالإسلام لا ينقلب صحيحا.
قال: ولو أسلم الزوج و امرأته من أهل الكتاب بقي النكاح بينهما ولا يتعرض لهما لأن ابتداء النكاح صحيح بعد إسلام الرجل فلأن يبقى أولى وإن كانت من غير أهل الكتاب فهي امرأته حتى يعرض عليها الإسلام فإن أسلمت والأفرق بينهما وكذلك أن كانت المرأة هي التي أسلمت والزوج من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب فهي امرأته حتى يعرض عليها الإسلام فإن أسلم وإلا فرق بينهما ويستوي أن كان دخل بها أو لم يدخل بها عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: أن كان قبل الدخول تقع الفرقة بإسلام أحدهما وإن كان بعد الدخول يتوقف وقوع الفرقة بينهما على انقضاء ثلاث حيض ولا يعرض الإسلام على الآخر واستدل في ذلك فقال قد ضمنا بعقد الذمة أن لا نتعرض لهم في الإجبار على الإسلام وذلك يقطع ولاية الإجبار والتفريق عندنا بالإسلام ولكن النكاح قبل الدخول غير متأكد فينقطع بنفس اختلاف الدين إذا كان على وجه يمنع ابتداء النكاح وبعد الدخول النكاح متأكد فلا يرتفع بنفس اختلاف الدين حتى ينضم إليه ما يؤثر في الفرقة وهو انقضاء العدة وقاس بالطلاق فإن بنفس الطلاق قبل الدخول يرتفع النكاح وبعد الدخول لا يرتفع إلا بانقضاء العدة وحجتنا في ذلك ما روى أن دهقانة بهز الملك أسلمت فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن يعرض الإسلام على زوجها فإن أسلم وإلا فرق بينهما وإن دهقانا أسلم في

 

ج / 5 ص -42-         عهد علي رضي الله عنه فعرض الإسلام على امرأته فأبت ففرق بينهما وكان المعنى فيه أن النكاح كان صحيحا بينهما فلا يرتفع إلا بعد وجود السبب الموجب له وإسلام المسلم منهما لا يصلح سببا لذلك لأنه سبب لاثبات العصمة وتأكيد الملك له وكذلك كفر من أصر منها على الكفر لأنه كان موجودا قبل هذا وما كان مانعا لابتداء النكاح ولا بقائه وكذلك اختلاف الدين فإن عينه ليس بسبب كما لو كان الزوج مسلما والمرأة كتابية فلا بد من أن يتقرر السبب الموجب للفرقة لما تعذر استدامة النكاح بينهما وذلك السبب عرض الإسلام على الكافر منهما لا بطريق الإجبار عليه ولكن لأن بالنكاح وجب عليه الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان فالإمساك بالمعروف في أن يساعدها على الإسلام فإذا أبى ذلك تعين التسريح بالإحسان فإذا امتنع من ذلك ناب القاضي منابه في التفريق بينهما.
ثم إن كانت المرأة هي التي أبت الإسلام حتى فرق القاضي بينهما فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها وإن كان بعد الدخول فليس لها نفقة العدة لأن الفرقة جاءت من قبلها وتكون الفرقة بغير طلاق بالاتفاق لأنه ليس إليها من الطلاق شيء وإنما فرق القاضي بينهما بإصرارها على الخبث والخبيثة لا تصلح للطيب.
فإما إذا كان الزوج هو الذي أبى الإسلام فإن كان قبل الدخول فلها نصف المهر وان كان بعد الدخول فلها نفقة العدة وتكون الفرقة بطلاق عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى تكون فرقة بغير طلاق وإما الفرقة بردة المرأة تكون بغير طلاق وردة الزوج كذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وفي قول محمد رحمه الله تعالى تكون بطلاق.
وحجة أبي يوسف رحمه الله تعالى في الفصلين أن سبب هذه الفرقة يشترك فيه الزوجان على معنى أنه يتحقق من كل واحد منهما وهو الإباء والردة ومثل هذه الفرقة تكون بغير طلاق كالفرقة الواقعة بالمحرمية وملك أحد الزوجين صاحبه وهذا لأنه ليس إليها من الطلاق شيء فكل سبب للفرقة يتحقق من جهتها يعلم أنه ليس بسبب للطلاق.
وحجة محمد رحمه الله تعالى في الفصلين أن سبب الفرقة قول من جهة الزوج إما إباء أو ردة فيكون بمنزلة إيقاع الطلاق وهذا لأنه يفوت الإمساك بالمعروف بهذا السبب فيتعين التسريح بالإحسان والتسريح طلاق ألا ترى أن الفرقة بين العنين و امرأته تجعل طلاقا بهذا الطريق وأبو حنيفة يفرق بينهما والفرق من وجهين:
أحدهما: ان الفرقة بالردة كانت لفوات صفة الحل وذلك مناف للنكاح ألا ترى أن الفرقة لا تتوقف على قضاء القاضي فإنه ينافي النكاح ابتداء وبقاء فيكون نظير المحرمية والملك.
فأما إباء الإسلام فإنه غير مناف للنكاح ألا ترى أن الفرقة به لا تقع إلا بقضاء القاضي والفرقة بسبب غير مناف للنكاح إذا كان مضافا إلى الزوج يكون طلاقا.

 

ج / 5 ص -43-         توضيح الفرق إن في فصل الإباء لما كانت الفرقة لا تقع إلا بقضاء القاضي أشبه الفرقة بسبب العنة من حيث أن القاضي ينوب فيه عن الزوج وفي مسألة الردة لما لم تتوقف الفرقة على القضاء أشبه الفرقة بسبب المحرمية والملك ألا ترى أنه يتم بالمرأة وليس إليها من الطلاق شيء ثم في الفصلين يقع طلاقه عليها ما دامت في العدة إما في الإباء فظاهر لأن الفرقة كانت بالطلاق وإما في الردة فلان حرمة المحل بهذا السبب غير متأبدة ألا ترى أنه يرتفع بالإسلام فيتوفر على الطلاق ما هو موجبه وهو حرمة المحل إلى غاية إصابة الزوج الثاني فلهذا يقع طلاقه عليها في العدة بخلاف ما بعد المحرمية فإن حرمة المحل هناك مؤبدة فلا يظهر معها ما هو موجب الطلاق.
قال: وإذا عقد النكاح على صبيين من أهل الذمة ثم أسلم أحدهما وهو يعقل الإسلام صح إسلامه عندنا استحسانا ويعرض على الآخر الإسلام إن كان يعقل فإن أسلم فهما على نكاحهما وإن أبي أن يسلم فإن كان الزوج هو الذي أسلم والمرأة كتابية لم يفرق بينهما كما لو كانا بالغين وإن كان بخلاف ذلك ففي القياس لا يفرق بينهما أيضا لأن الإباء إنما يتحقق موجبا للفرقة ممن يكون مخاطبا بالإداء والذي لم يبلغ وإن كان عاقلا فهو غير مخاطب بذلك ولكنه استحسن فقال كل من صح منه الإسلام إذا أتى به صح منه الإباء إذا عرض عليه وعند تقرر السبب الموجب للفرقة الصبي يستوي بالبالغ كما لو وجدته امرأته مجنونا وقيل هذا علي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فأما أبو يوسف رحمه الله فإنه يأخذ بالقياس وهو نظير اختلافهم في ردة الصبي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى تجب الفرقة خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى والأصح أنه قولهم جميعا والفرق لأبي يوسف رحمه الله تعالى أن الإباء تمسك بما هو عليه فيكون صحيحا منه فأما الردة إنشاء لما لم يكن موجودا وهو يضره فلا يصح منه ألا ترى أن رده الهبة بعد ما قبض لا يصح وامتناعه من القبول في الإبتداء صحيح ثم إذا فرق باباء الزوج وكان صغيرا فبعض مشايخنا يقولون هذا لا يكون طلاقا لأن الصبي ليس من أهل الطلاق بخلاف البالغ والصحيح إنه طلاق لأن السبب قد تقرر فهو نظير الفرقة بسبب الجب وهذا لأن الصبي ليس بأهل لا يقاع الطلاق والعتاق ثم العتق ينفذ من جهته إذا تقرر سببه بأن ورث قريبه فكذلك الطلاق.
قال: نصراني تزوج نصرانية ثم أنها تمجست فهما على نكاحهما لأنها لو كانت مجوسية في الإبتداء صح النكاح بينهما فكذلك إذا تمجست وهو بناء على أصلنا أنه إذا تحول من دين إلى دين يترك على ما اعتقد لأن الكفر كله ملة واحدة وللشافعي فيه ثلاثة أقوال:
قول مثل قولنا.
وقول آخر أنه يقتل إن لم يسلم لأن الأمان له كان على ما اعتقده فإذا بد له بغيره لم

 

ج / 5 ص -44-         يبق له أمان فيقتل أن لم يسلم وهذا فاسد فإن الأمان بسبب الذمة كان له مع كفره وما ترك الكفر وإذا كان ما اعتقد لا ينافي ابتداء عقد الذمة لا يكون منافيا للبقاء أيضا.
وفي قول آخر يقول يجبر على العود إلي ما كان عليه كالمسلم إذا ارتد والعياذ بالله وهو بعيد أيضا فإن ما كان عليه كان كفرا فكيف يجبر على العود إليه والنصراني إذا تهود فقد اعتقد التوحيد ظاهرا فكيف يجبر على العود إلى التثليث بعد ما اعتقد التوحيد فإن أسلم الزوج بعد ما تمجست عرض عليها الإسلام كما لو كانت مجوسية في الأصل فإن أسلمت وإلا فرق بينهما وإن تهودت أو تنصرت كانا على النكاح كما لو كانت يهودية أو نصرانية في الابتداء وإن تمجست بعد ما أسلم الزوج وقعت الفرقة بينهما لأن تمجسها بعد الإسلام كردة المسلمة فكما يتعجل الفرقة بنفس ردة المرأة فكذا بتمجسها بعد إسلام الزوج.
قال: نصراني تزوج نصرانية بشهادة عبدين كان جائزا إذا كان ذلك في دينهم نكاحا لأنه لو تزوجها بغير شهود جاز فبشهادة العبدين أولى والله أعلم بالصواب

باب نكاح المرتد
قال: ولا يجوز للمرتد أن يتزوج مرتدة ولا مسلمة ولا كافرة أصلية لأن النكاح يعتمد الملة ولا ملة للمرتد فإنه ترك ما كان عليه وهو غير مقر علي ما اعتقده وحقيقة المعني فيه من وجهين:
أحدهما: إن النكاح مشروع لمعنى البقاء فإن بقاء النسل به يكون وكذلك بقاء النفوس بالقيام بمصالح المعيشة والمرتد مستحق للقتل فما كان سبب البقاء لا يكون مشروعا في حقه.
والثاني: أن قتله بنفس الردة صار مستحقا وإنما يمهل ثلاثة أيام ليتأمل فيما عرض له من الشبهة ففيما وراء ذلك جعل كأنه لا حياة له حكما فلا يصح منه عقد النكاح لأن اشتغاله بعقد النكاح يشغله عما لأجله حياته وهو التأمل وكذلك لا يجوز نكاح المرتدة مع أحد لأنها مأمورة بالتأمل لتعود إلى الإسلام وممنوعة من الاشتغال بشيء إخر ولأنها بالردة صارت محرمة والنكاح مختص بمحل الحل ابتداء فلهذا لا يجوز نكاحها مع أحد.
قال: وإذا ارتد المسلم بانت منه امرأته مسلمة كانت أو كتابية دخل بها أو لم يدخل بها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى أن كان لم يدخل بها فكذلك وأن كان بعد الدخول لا يتوقف انقطاع النكاح على انقضاء ثلاث حيض بناء على أصله في الفرق بين تأكد النكاح بالدخول وعدم تأكده على ما بينا في الإسلام فإنه بالردة يقصد منابذة الملة لا الحليلة فلا يكون ذلك موجبا للفرقة بعد تأكده ما لم ينضم إليه سبب آخر كما لو أسلم أحدهما وبن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول لا تقع الفرقة بردة أحدهما قبل الدخول ولا بعده حتى يستتاب المرتد فإن تاب فهي امرأته وإن مات أوقتل ورثته وجعل هذا قياس إسلام أحد الزوجين على ما بينا.

 

ج / 5 ص -45-         ولكنا نقول الردة تنافي النكاح واعتراض سبب المنافي للنكاح موجب للفرقة بنفسه كالمحرمية فأما اختلاف الدين عينه لا ينافي النكاح حتى يجوز ابتداء النكاح بين المسلم والكتابية وكذلك الإسلام لا ينافي النكاح فإن النكاح نعمة وبالإسلام تصير النعم محرزة له فلهذا لا تقع الفرقة هناك إلا بقضاء القاضي بعد إباء الآخر.
ثم إن كان الزوج هو المرتد فلها نصف المهران كان لم يدخل بها ونفقة العدة أن كان دخل بها وإن كانت هي التي ارتدت فلا مهر لها أن كان قبل الدخول وليس لها نفقة العدة بعد الدخول والكلام في أن هذه الفرقة بطلاق أو بغير طلاق كما بيناه.
قال: وإذا ارتد الزوجان معا فهما على نكاحهما استحسانا عندنا وفي القياس تقع الفرقة بينهما وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأن في ردتهما ردة أحدهما وزيادة فإذا كانت ردتهما تنافي ابتداء النكاح تنافي البقاء أيضا ولكنا تركنا القياس لاتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإن بني حنيفة ارتدوا بمنع الزكاة فاستتابهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه ولم يأمرهم بتجديد الإنكحة بعد التوبة ولا أحد من الصحابة رحمهم الله تعالى سواه ولا يقال لعل الإرتداد من بعضهم كان قبل بعض ولم يشتغل بذلك أيضا لأن كل أمرين لا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما وقعا معا.
وفقه هذا الكلام أنوقوع الفرقة عند ردة أحدهما لظهور خبثه عند المقابلة بطيب المسلم فإذا ارتدا معا لا يظهر هذا الخبث بالمقابلة لأنه تقابل الخبث بالخبث والمعنى فيه أنه لم يختلف لهما دين ولا دار فيبقى ما كان بينهما على ما كان كما إذا أسلم الكافران معا واعتبار البقاء بالابتداء فاسد فإن العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء ولا فرق لأن كل واحد منهما يوجب حرمة المحل ولكنها غير متأبدة فإن أسلم أحدهما وقعت الفرقة بينهما بإصرار الآخر على الردة لظهور خبثه الآن عند المقابلة بطيب الآخر حتى لو كانت المرأة هي التي أسلمت قبل الدخول فلها نصف الصداق وإن كان الزوج هو الذي أسلم فلا شيء لها لأن الفرقة من جانب من أصر على الردة فإن اصراره بعد إسلام الآخر كإنشاء الردة.
قال: وإن أسلم النصراني و امرأته نصرانية ثم تحولت إلى اليهودية فهي امرأته كما لو كانت يهودية في الإبتداء وإن أسلم وهي مجوسية ثم ارتد عن الإسلام بانت منه لأن النكاح بعد إسلامه باق ما لم يفرق القاضي بينهما ألا ترى أنها لو أسلمت كانا على نكاحهما فتفرده بالردة في حال بقاء النكاح موجب للفرقة وكذلك إذا أسلمت المرأة المجوسية ثم ارتدت بانت منه وكذلك لو ارتد الزوج بانت منه وإن لم يرتد الزوج ولم تسلم هي حتى مات الزوج كان لها المهر كاملا دخل بها أو لم يدخل بها لأن النكاح ينتهي بالموت حين لم يفرق القاضي بينهما فيتقرر به جميع المهر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

 

ج / 5 ص -46-         باب نكاح أهل الحرب
قال: رضي الله عنه بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن مناكحة أهل الحرب من أهل الكتاب فكره ذلك وبه نأخذ فنقول يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية في دار الحرب ولكنه يكره لأنه إذا تزوجها ثمة ربما يختار المقام فيهم وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا ترآاى ناراهما" ولأن فيه تعريض ولده للرق فربما تحبل منه فتسبى فيصير ما في بطنها رقيقا وإن كان مسلما وإذا ولدت تخلق الولد بأخلاق الكفار وفيه بعض الفتنة فيكره لهذا فإن خرج وتركها في دار الحرب وقعت الفرقة بينهما بتباين الدارين حقيقة وحكما فإنها من أهل دار الحرب والزوج من أهل دار الإسلام وتباين الدارين بهذه الصفة موجب للفرقة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون موجبا للفرقة حتى إذا أسلم أحد الزوجين وخرج إلى دارنا.
فإن كانت المرأة هي التي خرجت مراغمة وقعت الفرقة بالاتفاق عندنا لتباين الدارين وعنده للقصد إلى المراغمة والاستيلاء على حق الزوج فإن خرجت غير مراغمة لزوجها أو خرج الزوج مسلما أو ذميا تقع الفرقة بتباين الدارين عندنا ولا تقع عند الشافعي رحمه الله تعالى واستدل بحديث أبي سفيان رضي الله عنه فإنه أسلم بمر الظهران في معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يجدد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكاح بينه وبين امرأته هند.
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب عكرمة بن أبي جهل وحكيم بن حزام رضي الله عنهما حتى أسلمت امرأة كل واحد منهما وأخذت الأمان لزوجها وذهبت فجاءت بزوجها ولم يجدد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكاح بينهما وإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إلى المدينة ثم تبعها زوجها أبو العاص بعد سنين فردها عليه بالنكاح الأول.
والمعني فيه: أن اختلاف الدار عبارة عن تباين الولايات وذلك لا يوجب ارتفاع النكاح كاختلاف الولايتين في دار الإسلام إلا ترى أن الحربي لو خرج إلينا مستأمنا أو المسلم دخل دار الحرب بإمان لم تقع الفرقة بينه وبين امرأته وكذلك الخارج من مصر أهل العدل إلى منعة أهل البغي لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته وأصحابنا رحمهم الله تعالى استدلوا بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلى قوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] الآية وليس في هذه الآية بيان قصد المراغمة فاشتراطه يكون زيادة على النص وقال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] والكوافر جمع كافرة معناه لا تعدوا من خلفتموه في دار الحرب من نسائكم.
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يهاجر إلى المدينة نادي بمكة إلا من أراد أن تئيم امرأته منه أو تبين فليلتحق بي أي فليصحبني في الهجرة والمعنى فيه أن من بقي في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت قال الله تعالى:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ}

 

ج / 5 ص -47-         [الأنعام: 122] ميتا فاحييناه أي كافرا فرزقناه الهدى إلا ترى أن المرتد اللاحق بدار الحرب يجعل كالميت حتى يقسم ماله بين ورثته فكما لا تتحقق عصمة النكاح بين الحي والميت فكذلك لا تتحقق عند تباين الدارين حقيقة وحكما.
فأما إذا خرج إلينا بأمان فتباين الدارين لم يوجد حكما لأنه من أهل دار الحرب متمكن من الرجوع إليها وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بإمان فهو من أهل دار الإسلام حكما ومنعه أهل البغي من جملة دار الإسلام ومن فيها لا يجعل بمنزلة الميت حكما والدليل عليه أنه ما خرج إلا قاصدا احراز نفسه من المشركين فلا يعتبر مع ذلك القصد إلى المراغمة ولو كان خروجها على سبيل المراغمة لزوجها وقعت الفرقة بالإتفاق فأما حديث زينب رضي الله عنها فالصحيح إنه ردها عليه بالنكاح الجديد وما روى إنه ردها عليه بالنكاح الأول أي بحرمة النكاح الأول إلا ترى إنه ردها عليه بعد سنين والعدة تنقضي في مثل هذه المدة عادة وقد روى أن الكفار تتبعوها وضربوها حتى أسقطت فانقضت عدتها بذلك وعند الشافعي رحمه الله تعالى أن كان لا تقع الفرقة بتباين الدارين تقع بانقضاء العدة.
وأما إسلام أبي سفيان فالصحيح أنه لم يحسن إسلام أبي سفيان  يومئذ وإنما أجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشفاعة عمه العباس رضي الله عنه وعكرمة وحكيم بن حزام إنما هربا إلى الساحل وكانت من حدود مكة فلم يوجد تباين الدارين وقال الزهري إن دار الإسلام إنما تميزت من دار الحرب بعد فتح مكة فلم يوجد تباين الدارين يومئذ فلهذا لم يجدد النكاح بينهما.
فإما إذا سبى أحد الزوجين تقع الفرقة بينهما بالاتفاق فعندنا لتباين الدارين وعند الشافعي رضي الله عنه للسبى حتى إذا سبيا معالم تقع الفرقة بينهما لقوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] الآية معناه ذوات الأزواج من النساء {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فإنها محللة لكم وإنما نزلت الآية في سبايا أو طاس وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا لا توطأ الحبالي من الفيء حتى يضعن ولا الحيالي حتى يستبرأن بحيضة وإنما سبي أزواجهن معهن والمعنى فيه أن السبي يقتضي صفاء المسبي للسابي ولهذا لا يبقى الدين الذي كان واجبا على المسبي وإنما يصفو إذا لم يبق ملك النكاح وهذا لأن السبي سبب لملك ما يحتمل التملك ومحل النكاح محتمل للتملك فيصير مملوكا للسابي لأنه لو امتنع ثبوت الملك إنما يمتنع لحق الزوج وهو ليس بذي حق محترم ألا ترى أنه تسقط به مالكيته عن نفسه وعن ماله ولهذا قلنا لو كانت المسبية منكوحة لمسلم أو لذمي لا يبطل النكاح لأن ملك النكاح محترم ولا يدخل عليه القصاص أنه لا يسقط بالسبي لأن المستحق بالقصاص الدم وهو ليس بمحتمل للتملك ولأن القصاص لا يجب إلا لمحترم.
وحجتنا في ذلك أن السبى سبب لملك الرقبة مالا فلا يكون مبطلا للنكاح كالشراء وهذا لأن المملوك في النكاح ليس بمال فلا يثبت فيه التملك بالسبي مقصودا لأن تملك

 

ج / 5 ص -48-         البضع مقصودا بسببه يختص بشرائط من الشهود والولى وذلك لا يوجد في السبى فإنما يثبت الملك هنا تبعا لملك الرقبة وذلك لا يثبت إلا عند فراغ المحل عن حق الغير ونفس السبي ليس بمناف للنكاح ألا ترى أن ملك النكاح لو كان محترما لا يبطل النكاح مع تقرر السبي والمنافي إذا تقرر فالمحترم وغير المحترم فيه سواء كما إذا تقرر بالمحرمية والرضاع ولأن السبى لا ينافي ابتداء النكاح فلأن لا ينافي البقاء أولى.
وأما الدين فإن كان على عبد فسبى لم يسقط الدين مخصوص عليه في المأذون وإن كان على حر فسبى فإنه يسقط لأنه لما صار عبدا والدين لا يجب على العبد إلا شاغلا مالية رقبته فكذلك لا يبقي إلا شاغلا للمالية وحين كان واجبا على الحر لم يكن شاغلا لمالية الرقبة إذ لا مالية في رقبته فلا يمكن إبقاؤه إلا بتلك الصفة وقد تعذر إبقاؤه بتلك الصفة بعد السبي ألا ترى أنه لو كان الدين لمحترم لا يبقى كذلك وبه يبطل قولهم أن السبي يقتضي صفاء المسبى للسابي فإن ملك النكاح إذا كان محترما بقى النكاح ولا صفاء وكذلك إذا سبي الزوج وقعت الفرقة وهنا الملك له لا عليه.
فأما الحديث فالمروى أن الرجال هربوا إلى حصونهم وإنما سبى النساء وحدهن فقد وقعت الفرقة بتباين الدارين والآية دليلنا فإن الله تعالى حرم ذوات الأزواج فما لم يثبت انقطاع الزوجية بينهما كانت محرمة على السابي بهذا النص إذا عرفنا هذا فنقول إذا خرج لزوج مسلما وتركها في دار الحرب حتى وقعت الفرقة بينهما لم يقع عليها طلاقه بعد ذلك لأن النكاح قد انقطع لا إلى عدة فإن بقاءها في دار الحرب كما ينافي أصل النكاح بينها وبين الزوج ينافي العدة فلهذا لا يقع طلاقه عليها وإن خرجت المرأة قبل الزوج مسلمة أو ذمية فهما على نكاحهما لأن الزوج مسلم من أهل دار الإسلام أيضا فلم تتباين بهم الدار.
قال: حربية كتابية دخلت دار الإسلام بأمان فتزوجت مسلما أو ذميا جاز ذلك وصارت ذمية لأنها تابعة لزوجها في المقام فتزويجها نفسها ممن هو من أهل دار الإسلام يكون رضي منها بالمقام في دارنا على التأبيد فتصير ذمية وإن كانت غير كتابية فأن تزوجها ذمي فكذلك الجواب وإن تزوجها مسلم لم يجز النكاح وصيرورتها ذمية تكون ضمنا لصحة النكاح ولم يصح النكاح هنا وهذا بخلاف المستأمن في دارنا إذا تزوج ذمية فإنه لا يصير ذميا لأن الرجل ليس بتبع للمرأة في المقام ألا ترى أنه لا يصير مقيما بإقامة المرأة والمرأة تصير مقيمة بإقامة الزوج ومسافرة بسفره فلهذا افترقا.
قال: حربي أسلم وتحته خمس نسوة وأسلمن معه فإن كان تزوجهن في عقدة واحدة يفرق بينه وبينهن وإن كان تزوجهن في عقود متفرقة فنكاح إلاربع الأول جائز ونكاح الخامسة فاسد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله

 

ج / 5 ص -49-         تعالى سواء تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقود متفرقة يخير فيختار أي أربع منهن شاء ويفارق الخامسة وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى.
وكذلك لو كان تحته أختان فأسلمن معه فإن تزوجهما في عقدة واحدة بطل نكاحهما ولو كان تزوجهما في عقدين جاز نكاح الأولى وبطل نكاح الثانية عندهما وقال محمد والشافعي رحمهما الله تعالى يختار أيتهما شاء ويفارق الآخرى واستدل بحديث غيلان بن سلمة أنه أسلم وتحته ثمان نسوة وأسلمن معه فقال صلى الله عليه وسلم:
"اختر منهن أربعا وفارق سائرهن" وقيس بن حارثة رضي الله عنه أسلم وتحته عشر نسوة وأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا منهن والضحاك بن فيروز الديلمي أسلم وتحته أختان فقال صلى الله عليه وسلم: "اختر أيتهما شئت" والمعنى فيه أن هذه حرمة اعترضت في بعض المنكوحات بعد صحة النكاح فتوجب التخيير دون التفرق كما لو طلق إحدى نسائه لا بعينها ثلاثا.
وبيان ذلك أن الإنكحة وقعت صحيحة في الأصل لأن حرمة الجمع بخطاب الشرع وقد بينا أن حكم هذا الخطاب قاصر عنهم لاعتقادهم بخلاف ذلك ما لم يسلموا ألا ترى أنه لو ماتت واحدة منهن أو بانت ثم أسلم وليس عنده إلا أربع منهن جاز نكاحهن سواء ماتت الأولى أو الأخيرة وإذا ثبت إن الإنكحة صحيحة كان العقد الواحد والعقود المتفرقة فيه سواء بمنزلة الحربي إذا كان تحته أربع نسوة فسبي وسبين معه فإن العقد الواحد والعقود المتفرقة فيه سواء بالإتفاق وإن اختلفنا في التفريق أو التخيير.
وفرق محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير بين أهل الحرب وأهل الذمة فقال لو كانت هذه العقود فيما بين أهل الذمة كان الجواب كما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى لأن خطاب الشرع بحكم الشيوع في دار الإسلام يجعل ثابتا في حق أهل الذمة وإن كنا لا نتعرض لهم ما لم يسلموا وقد بينا هذا من أصلهما والشافعي رحمه الله تعالى يسوي بين أهل الحرب وأهل الذمة.
فأما أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فالجمع بين الأختين نكاحا حرام بهذا النص وبنكاح الأولى ما حصل الجمع فوقع نكاحها صحيحا بحكم الإسلام وبنكاح الثانية حصل الجمع فلم يكن نكاحها صحيحا بحكم الإسلام وإنما وجب الاعتراض بعد الإسلام بسبب الجمع إذ لا سبب هنا سوى الجمع فتعين الفساد في نكاح من حصل الجمع بنكاحها وكان نكاحها فاسدا بحكم الإسلام دون من لم يحصل بنكاحها الجمع وكان نكاحها صحيحا بحكم الإسلام وإن تزوجهما في عقدة واحدة فالجمع حصل بهما ولم يكن ابطال نكاح أحداهما بأولى من الأخرى فبطل نكاحهما بمنزلة الحربية تحت رجلين إذا أسلمت وأسلما معها.
وكذلك في نكاح الخمس الحرمة بسبب الجمع بين ما زاد على الأربع فإنما حصل ذلك

 

ج / 5 ص -50-         بنكاح الخامسة فصرف الفساد إليها أولى وإن كان تزوجهن في عقد واحد فالجمع حصل بهن جميعا وهذا بخلاف ما لو ماتت إحداهن أو بانت لأن الاعتراض بسبب الجمع بعد الإسلام فلا بد من بقاء الجمع المحرم بعد الإسلام حتى يجب الاعتراض ولم يبق ذلك إذا ماتت إحداهما أو بانت وهو نظير ما لو تزوج رضيعتين فجاءت امرأة فأرضعتهما بانتا منه ولو أرضعت إحداهما فماتت ثم أرضعت الأخرى لم يبطل نكاح الثانية لأن الجمع إنما يتحقق عند ارضاع الثانية فإذا كانت الأولى في نكاحه تحقق الجمع بين الأختين وإن ماتت أو بانت لم يتحقق الجمع بين الأختين.
وهذا بخلاف المسبيات فإن نكاح الأربع هناك وقع صحيحا بحكم الإسلام على الأطلاق لأنه حين تزوجهن كان حرا وللحر أن يتزوج أربع نسوة ثم وجب الاعتراض بسبب الرق الحادث فيه وعند حدوث الرق هن مجتمعات مستويات فلهذا استوى العقد الواحد والعقود المتفرقة بمنزلة الرضيعتين إذا أرضعتهما امرأة بانتا منه وان تزوجهما في عقدين لأن الاعتراض وجب بعد صحة النكاح بالأختية العارضة فيهما وهما مستويان في ذلك بخلاف ما تقدم على ما بينا.
والأحاديث التي رويت فقد قال مكحول أن تلك كانت قبل نزول الفرائض معناه قبل نزول حرمة الجمع فوقعت الإنكحة صحيحة مطلقا ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الأربع لتجديد العقد عليهن أو لما كانت الإنكحة صحيحة في الأصل جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مستثنى من تحريم الجمع ألا ترى أنه قال في بعض الروايات: وطلق سائرهن فهذا دليل على أنه لم يحكم بالفرقة بينه وبين ما زاد على الأربع.
وعلى هذا لو أسلم وتحته بنت وأم فاسلمتا معه فإن كان تزوجهما في عقد واحد بطل نكاحهما ثم أن كان لم يدخل بهما فله أن يتزوج البنت دون الأم وإن كان دخل بهما لم يكن له أن يتزوج واحدة منهما لأن الدخول بكل واحدة منهما يوجب حرمة الأخرى بالمصاهرة على التأبيد وإن كان دخل بالأم فليس له أن يتزوج واحدة منهما لأن الأم حرمت بعقد البنت والبنت حرمت بالدخول بالأم وإن كان دخل بالبنت دون الأم فله أن يتزوج البنت دون الأم لأن بمجرد العقد على الأم لا يوجب حرمة البنت وإن كان تزوجهما في عقدين فنكاح الأولى جائز ونكاح الثانية فاسد إن لم يدخل بهما وكذلك إن دخل بالأولى فإن كان دخل بالثانية فإن كانت الأولى بنتا فسد نكاحهما لأن الأم حرمت بالعقد على البنت
والبنت حرمت بالدخول بالأم وإن كانت الأولى أما فنكاح البنت صحيح لأن الدخول بالبنت يحرم الأم والعقد على الأم لا يحرم البنت.
فأما على قول محمد رحمه الله تعالى سواء تزوجهما في عقدة أو في عقدتين فنكاح البنت صحيح لأن العقد على الأم لا يوجب حرمة البنت والعقد على البنت يوجب حرمة

 

ج / 5 ص -51-         الأم إلا أن يكون دخل بالأم فحينئذ يفرق بينه وبينهما وهذا إذا كان دخوله بالأم بعد ما تزوج بالبنت فإن كان قبل أن يتزوج البنت فنكاح الأم صحيح لأن الدخول بها يحرم البنت فإذا لم يصح نكاح البنت لا تحرم الأم بذلك إلا أن يكون دخل بالبنت أيضا فحينئذ تقع الفرقة بينه وبينهما بالمصاهرة وليس له أن يتزوج واحدة منهما.
قال: وإن أسلم الحربي و امرأته وقد كان نكاحهما بعد أن طلقها ثلاثا قبل أن تنكح زوجا آخر فرق بينهما لأن التطليقات الثلاث تقع في دار الحرب كما في دار الإسلام فإنهم يعتقدون ذلك وهي سبب حرمة المحل إلى وقت إصابة الزوج الثاني بمنزلة الحرمة بالقرابة والرضاع فكما إن ذلك يوجب التفريق بعد الإسلام فكذلك هنا وكذلك لو جامع أمها أو ابنتها أو قبل واحدة منهما بشهوة لأن الحرمة بسبب المصاهرة نظير الحرمة بسبب الرضاع وذلك يتحقق في دار الحرب كما يتحقق في دار الإسلام فهذا مثله.
قال: وإذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب ولم يكونا من أهل الكتاب أو كانا والمرأة هي التي أسلمت فإنه يتوقف انقطاع النكاح بينهما على انقضاء ثلاث حيض عندنا سواء دخل بها أو لم يدخل بها وقال الشافعي رحمه الله تعالى أن كان قبل الدخول تقع الفرقة بإسلام أحدهما وإن كان بعد الدخول يتوقف على انقضاء العدة وعنده لا يختلف هذا الحكم بدار الحرب ودار الإسلام ولكنه ينبني على تأكد النكاح بالدخول وعدم تأكده كما ذكرنا فأما عندنا نفس إسلام أحدهما غير موجب للفرقة ولا كفر من أصر منهما على الكفر ولا اختلاف الدين نفسه كما بينا في دار الإسلام إلا أن في دار الإسلام يمكن تقرير سبب الفرقة بعرض الإسلام على الآخر منهما حتى إذا أبي يصير مفوتا الإمساك بالمعروف وفي دار الحرب لا يتأتى ذلك لأن يد إمام المسلمين لا تصل إلى المصر منهما ليعرض عليه الإسلام ويحكم بالفرقة عند إبائه فيقام ثلاث حيضات مقام ثلاث عرضات في تقرر سبب الفرقة لأنه صار غير مريد لها حين لم يساعدها على الإسلام وبعد ما صار غير مريد لها تقع الفرقة بانقضاء ثلاث حيض كما لو طلقها إلا أن هناك إذا كان الطلاق قبل الدخول يمكن إثبات الفرقة بنفسه لمباشرة الزوج سبب الفرقة وهنا لا يمكن إثبات الفرقة قبل الدخول بدون انقضاء ثلاث حيض لأن الزوج ما باشر شيئا بل بل هو مستديم لما كان عليه فلهذا يتوقف انقطاع النكاح على انقضاء ثلاث حيض في الوجهين جميعا وإذا وقعت الفرقة بذلك فإن كان قبل الدخول فلا عدة عليها وإن كان بعد الدخول والمرأة حربية فكذلك الجواب لأن حكم الشرع لا يثبت في حقها فإن كانت المرأة هي المسلمة فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا يوجب العدة على المسلمة من الحربي.
وأصل المسألة في المهاجرة فإنها إذا خرجت إلى دار الإسلام مسلمة أو ذمية لم تلزمها العدة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا أن تكون حاملا فحينئذ لا تتزوج حتى تضع

 

ج / 5 ص -52-         حملها وإن كانت حاملا فلها أن تتزوج في الحال وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تلزمها العدة وحجتهما في ذلك حديث نسيبة أنها لما هاجرت أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد. والمعنى فيه أن هذه حرة فارقت زوجها بعد الإصابة فتلزمها العدة كالمطلقة في دارنا وهذا لأن وجوب العدة عليها لحق الشرع كيلا ايجتمع ماء رجلين في رحمها وهي مسلمة مخاطبة بحق الشرع.
وهذا بخلاف المسبية فإنها ليست بحرة وتأثيره أنها حلت للسابي ومن ضرورة الحكم بحلها للسابي الحكم بفراغ رحمها من ماء الزوج بخلاف ما نحن فيه ولا يقال لماذا يجب الاستبراء على السابي لأنا نقول كما يجب الاستبراء على السابي إذا كانت ثيبا أو منكوحة فكذلك إذا كانت بكرا أو لم تكن منكوحة فكذا هذا مع إن هذا دليلنا لأن بالإستبراء هناك يحصل المقصود فلا حاجة إلى إيجاب العدة عليها بخلاف المهاجرة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى:
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فالله تعالى أباح نكاح المهاجرة مطلقا فتقييد ذلك بما بعد انقضاء العدة يكون زيادة وقال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وفي إيجاب العدة تمسك بعصمة الكافرة.
والمعنى فيه أن هذه الفرقة وقعت بتباين الدارين فلا توجب العدة عليها وكالمسبية هذا لأن تباين الدارين حقيقة وحكما مناف للنكاح فيكون منافيا لأثر النكاح فلا تجب العدة لحق الشرع مع وجود المنافي ولا لحق الزوج لأنه حربي غير محترم وهو نظير من اشترى امرأته لا تجب العدة لحقه لأن الحل الثابت بالملك حقه ولا تجب لحق الشرع لوجود المنافي فأما إذا كانت حاملا فلا نقول تجب العدة عليها ولكنها لا تتزوج ما لم تضع حملها لأن في بطنها ولد ثابت النسب من الغير وذلك مانع من النكاح كأم الولد إذا حبلت من مولاها ليس له أن يزوجها حتى تضع.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى إنها إذا تزوجت صح النكاح ولكن لا يقربها زوجها حتى تضع لأنه لا حرمة لماء الحربي كماء الزاني فهو بمنزلة ماء الزاني والحبل من الزنى لا يمنع النكاح عندنا ولكن الأول أصح لأن الحبل من الزنى لا نسب له وهنا النسب ثابت من الحربي وباعتبار ثبوت النسب المحل مشغول فلهذا لا يصح النكاح ما لم يفرغ المحل عن حق الغير ويستوي في وقوع الفرقة بتباين الدارين إن خرج أحدهما مسلما أو ذميا أو خرج مستأمنا ثم أسلم أو صار ذميا لأنه صار من أهل دارنا حقيقة وحكما في الفصلين وإن كان الخارج هو الزوج فله أن يتزوج أربعا سواها أو أختها إن كانت في دار الإسلام لأنه لا عدة على التي بقيت في دار الحرب عندهم جميعا فكان هذا بمنزلة الفرقة قبل الدخول.
وإذا أسلمت المرأة ثم خرج الزوج مستأمنا فهما على النكاح ما لم تحض ثلاث حيض

 

ج / 5 ص -53-         لأن المستأمن وإن كان في دارنا صورة من أهل دار الحرب حكما فكأنه باق في دار الحرب حتى إذا أسلم الزوج قبل أن تحيض فهما على النكاح وإن صار الزوج من أهل الذمة قبل أن تحيض ثلاث حيض فهما على النكاح أيضا حتى إذا خرجت المرأة فهي امرأته حتى يعرض السلطان عليه الإسلام بمنزلة ما لو كان الزوج في الأصل ذميا وكذلك لو كان الزوج هو الذي أسلم في دار الحرب ثم خرجت إلينا ذمية قبل أن تحيض ثلاث حيض فهما على النكاح حتى يعرض السلطان عليها الإسلام فأما إذا خرجا مستأمنين ثم أسلمت المرأة ففي رواية هذا الكتاب يتوقف انقطاع النكاح بينهما على انقضاء ثلاث حيض لأن الزوج من أهل دار الحرب فهو بمنزلة ما لو كان في دار الحرب.
وفي رواية كتاب الطلاق يقول إن عرض السلطان الإسلام على الزوج فأبى أن يسلم فرق بينهما وإن لم يعرض حتى مضى ثلاث حيض تقع الفرقة أيضا ففي حق الذمي يتعين عرض الإسلام وفي حق الحربي في دار الحرب يتعين انقضاء ثلاث حيض وفي حق المستأمن أي الأمرين يوجد تقع به الفرقة لأن المستأمن من وجه يشبه الذمي لأنه تحت يد الإمام يتمكن من عرض الإسلام عليه ومن وجه يشبه الحربي لأنه متمكن من الرجوع إلى دار الحرب فيوفر حظه على الشبهين فلشبهه بالذمى إذا وجد عرض الإسلام عليه تقع به الفرقة ولشبهه بالحربي إذا وجد انقضاء ثلاث حيض أو لا تقع به الفرقة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الهبة في النكاح
قال: رضي الله عنه النكاح بلفظة الهبة والصدقة والتمليك صحح في قول علمائنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يصح إلا بلفظة النكاح والتزويج واستدل بقوله تعالى:
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]الآية فقد جعل النكاح بلفظة الهبة خالصا للرسول صلوات الله عليه دون غيره من المؤمنين وقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان اتخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" وكلمة الله التي أمرنا بالاستحلال بها إلا نكاح والتزويج وفي قوله: "اتخذتموهن بأمانة الله"، أشارة إلا أن هذا العقد غير معقود لمقصود إثبات الملك ولهذا انعقد بلفظة إلا نكاح والتزويج وهما لا يدلان على الملك.
ألا ترى أنه لا ينعقد بهما شيء من عقود التمليكات ولكن المقصود بالنكاح ما لا يحصى من مصالح الدين والدنيا وألفاظ التمليك لا تدل على شيء من ذلك فلا ينعقد بها هذا العقد وهو معنى قولهم هذا عقد خاص فلا ينعقد بغيره ألا ترى أن الشهادة لما شرعت بلفظ خاص لمعنى وهو إنها موجبة بنفسها؟
كما أشار الله تعالى إليه في قوله:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] لم يقم لفظ آخر مقام هذا اللفظ حتى لو قال الشاهد احلف لا يصح أداء الشهادة به والدليل عليه

 

ج / 5 ص -54-         أن التزويج هو التعليق والنكاح هو الضم وليس فيهما ما يدل على الملك وليس في التمليك معني التلفيق والضم فلا ينعقد هذا اللفظ بالفاظ التمليك وكيف ينعقد النكاح بهذا اللفظ والفرقة تقع به إذا قال لامرأته وهبت نفسك منك كان بمنزلة لفظ الطلاق مع إن النكاح لا يصح إلا بشهود وعند ذكر لفظ الهبة الشهود لا يعرفون إنهما أرادا النكاح وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] صلى الله عليه وسلم الآية معناه أن أراد النبي أن يستنكحها فوهبت نفسها منه فقد جعل الله تعالى الهبة جوابا للاستنكاح والاستنكاح طلب النكاح.
وأما قوله:
{خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] فقد قيل المراد به المرأة يعني أنها خالصة لك فلا تحل لأحد بعدك حتى يكون شريكك في الفراش من حيث الزمان كما قال الله تعالى في آية أخرى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53] والأصح أن المراد هبة خالصة لأن قوله: {إِنْ وَهَبَتْ} يقتضي هبة والكناية تنصرف إلى الثابت بمقتضى الكلام فيكون المعنى هبة خالصة لا يلزمك مهر لها وهذا لك دون المؤمنين ألا ترى أنه قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] يعني من الابتغاء بالمال والدليل عليه أنه قابل الموهوبة نفسها بالمؤتى مهرها بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] الآية وكذلك قال في آخر الآية: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] وهو نص على أن الخصوصية لدفع الحرج عنه وذلك ليس في اللفظ اذ لا حرج عليه في ذكر لفظ النكاح إنما الحرج في ابقاء المهر مع ان المذكور لفظة الهبة في جانب المرأة لا في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفنا ان المراد الخصوصية بجوار نكاحه بغير مهر.
وإمامنا في المسألة علي رضوان الله عليه فإن رجلا وهب ابنته لعبيد الله بن الحر بشهادة شاهدين فأجاز ذلك علي رضي الله تعالى عنه والمعنى فيه ان هذا ملك يستباح به الوطء فينعقد بلفظ الهبة والتمليك كملك اليمين وهذا كلام على سبيل الاستدلال لا على سبيل المقايسة لان صلاحية اللفظ كناية عن غيره وليس بحكم شرعي ليعرف بالقياس بل طريق معرفة ذلك النظر في كلام أهل اللغة وهذه اشارة إلى مذهبهم في الاستعارة لانهم يستعيرون اللفظ لغيره لاتصال بينهما من حيث السببية كما قال الله تعالى أني أراني أعصر خمرا أي عنبا بالعصر يصير خمرا ويسمى المطر سماء لأنه ينزل من السماء وما يكون من علو فالعرب تسميه سماء وكذلك النبات يسمى سماء لأنه ينبت بسبب المطر فإنهم يقولون ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم.
وإذا ثبت هذا فنقول هذه الالفاظ سبب لملك الرقبة وملك الرقبة في محل ملك المتعة موجب لملك المتعة فللاتصال بينهما سببا يصلح هذا اللفظ كناية عن ملك المتعة والمقصود من النكاح ملك المتعة دون ما سواه من المقاصد ألا ترى أنه يختص به الزوج حتى يجب

 

ج / 5 ص -55-         البدل عليه وسائر المقاصد يحصل لهما وان ملك الطلاق الرافع لهذا الملك يختص به الزوج فعرفنا أن المقصود هو الملك دون ما توهمه الخصم وإنما انعقد بلفظ النكاح والتزويج لأنهما لفظان جعلا علما لهذا العقد بالنص واعتبار المعنى في غير المنصوص عليه فأما في المنصوص لا يعتبر المعنى مع أنهما لفظان لا يجاب ملك ما ليس بمال فلهذا لا تأثير لهما في اثبات ملك المال ومتى صار اللفظ كناية عن غيره سقط اعتبار حقيقته وقام مقام اللفظ الذي جعل كناية عنه والشرط سماع الشاهدين اللفظ الذي ينعقد به النكاح.
فأما وقوفهما على مقصود المتعاقدين ليس بشرط مع أنه اذا قال وهبت ابنتي منك بصداق كذا فالشهود يعلمون أنه أراد النكاح وكما أن الفرقة تحصل بلفظ الهبة تحصل بلفظ الزوجية اذا قال ل امرأته تزوجي ونوى به الطلاق يقع ولم يدل ذلك على أنه لا ينعقد به النكاح فأما لفظ البيع فالصحيح أنه ينعقد به النكاح وإليه أشار في كتاب الحدود قال إذا زنى بامرأة ثم قال تزوجتها أو اشتريتها وهذا للفقه الذي بينا أن البيع يوجب ملكا هو سبب لملك المتعة في محله وكان أبو بكر الأعمش رحمه الله تعالى يقول لا ينعقد النكاح بلفظ البيع لأنه خاص لتمليك مال بمال والمملوك بالنكاح ليس بمال فأما لفظة الإجارة لا ينعقد بها النكاح لأنها غير موجبة ملكا يستفاد به ملك المتعة فإنها توجب ملك المنفعة وبملك المنفعة لا يستفاد ملك المتعة ويحكى عن الكرخي رحمه الله تعالى أنه كان يقول ينعقد به لأن المستوفى بالنكاح منفعة في الحقيقة وإن جعل في حكم العين وقد سمى الله تعالى العوض في النكاح أجرا بقوله عز وجل:
{فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وذلك دليل على أنه بمنزلة الإجارة ولكن هذا فاسد فإن الإجارة شرعا لا تنعقد إلا مؤقتا والنكاح لا ينعقد إلا مؤبدا فبينهما مغايرة على سبيل المنافاة فأما لفظ الوصية لا ينعقد به النكاح لأنه لا يوجب الملك بنفسه بل موجبه الخلافة مضافة إلى ما بعد الموت ولو صرح بلفظ النكاح مضافا إلى ما بعد الموت لا يصح أيضا.
فإن قيل الهبة أيضا لا توجب الملك ما لم ينضم إليه القبض.
قلنا الهبة لا توجب إضافة الملك ولكن لضعف في السبب لتعريه عن العوض يتأخر الملك إلى أن يتقوى بالقبض وينعدم ذلك الضعف إذا استعمل في النكاح لأن العوض يجب به بنفسه ولهذا جاز استعماله في حق الصغيرة والكبيرة فلهذا كان موجبا ملك النكاح بنفسه مع أن المملوك بالنكاح بنفس العقد يصير كالمقبوض ولهذا لو ماتت عقيب العقد تعذر البدل فكان هذا بمنزلة هبة عين في يد الموهوب له فيوجب الملك بنفسه.
فأما لفظ الأحلال والتمتع لا يوجب ملكا أصلا فأن من أحل لغيره طعاما أو أذن له أن يتمتع به لا يملكه وإنما يتلفه على ملك المبيح فكذلك إذا استعمل هذا اللفظ في موضع النكاح لا يثبت به الملك وإما الإعارة فكذلك فإنه لا يوجب ملكا يستفاد به ملك المتعة.

 

ج / 5 ص -56-         والإقراض في معنى الإعارة مع إن الإقراض في محل ملك المتعة لا يصح لأن محل ملك المتعة الآدمى والاستقراض في الحيوان لا يجوز فلهذا لا ينعقد النكاح بهذه الألفاظ بخلاف لفظة الهبة والصدقة ولكن باعتبار هذه الألفاظ تنعقد الشبهة فيسقط به الحد ويجب الأقل من المسمى ومن مهر المثل عند الدخول.
قال: ولو قال أتزوجك بكذا فقالت قد فعلت فهو بمنزلة قولها قد تزوجتك لأنها أخرجت الكلام مخرج الجواب لخطابه فيصير ما تقدم من الخطاب كالمعاد فيه ولا يحتاج إلى أن يقول الزوج قبلت بخلاف البيع على ما بيناه فيما سبق وذكر في النوادر أنه إذا قال جئتك خاطبا فقالت قد فعلت أو زوجتك نفسي كان نكاحا تاما وفي الكتاب يقول إذا قال خطبتك إلى نفسك بكذا فقالت زوجتك نفسي فهو نكاح جائز إذا كان بمحضر من الشهود لأن هذا كلام الناس وليس بقياس معناه إنه بلفظ الخطبة لا ينعقد النكاح في القياس لأن الخطبة غير العقد ولكنه استحسن فقال المراد به في عادة الناس العقد فلأجل الفرق الظاهر جعلنا ذلك بمنزلة النكاح استحسانا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب المهور
قال: وعقد النكاح بغير تسمية المهر جائز ولها مهر مثلها من نسائها لا وكس ولا شطط إن دخل بها أو مات عنها وهذا مذهبنا أن مهر المثل يجب للمفوضة بنفس العقد وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى وفي القول الآخر لا يجب المهر بنفس العقد وإنما يجب بالتراضي أو بقضاء القاضي حتى إذا مات أحدهما قبل الدخول فلا مهر لها عنده ومشايخهم رحمهم الله تعالى مختلفون فيما إذا دخل بها وأكثرهم على أنه يجب المهر بالدخول ومنهم من يقول لا يجب بالدخول أيضا واحتج بحديث عمر وعلي وابن عمر وزيد رضي الله عنهم أنهم قالوا حسبها الميراث ولا مهر لها والمعنى فيه أنها جادت بحقها وهي من أهل الجود فيصح منها كما لو وهبت شيئا من مالها وهذا لأن المستوفي بالنكاح إما أن يكون في حكم المنفعة كما هو مذهبي أو في حكم العين كما هو مذهبكم فإن كان في حكم العين فبدله بمنزلة أرش الطرف يخلص حقا لها ويسقط باسقاطها وإن كان بمنزلة المنفعة فبدل المنفعة لها والدليل عليه أنها يملك الإبراء عن المهر والشراء به شيئا وبهذا الطريق قال بعضهم إنه وإن دخل بها لا يجب المهر لأنها كما رضيت بثبوت الملك عليها بغير عوض فقد رضيت بالاستيفاء من غير عوض وأكثرهم على أن فيما يجب بالاستيفاء معنى حق الشرع ألا ترى أن ما يجب بالاستيفاء من العقوبة وهو حد الزنى يكون خالص حق الشرع فكذلك المال الذي يجب عند الاستيفاء لا يسقط برضاها بالاستيفاء بغير عوض وإلى هذا أشار الله تعالى في قوله:
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] ولأن المعاوضة في النكاح بين

 

ج / 5 ص -57-         الزوجين حتى لا ينعقد النكاح إلا بذكرهما فأما المهر ليس بعوض أصلى ولكنه زائد وجب لها بازاء احتباسها عنده بمنزلة النفقة ومثل هذا يحتمل التعجيل والتأجيل.
ولكن النكاح كما لا ينعقد إلا موجبا لهذا الملك عليها لا ينعقد إلا بشرط التعويض فتارة يتعجل العوض بالتسمية وتارة يتأخر إلى التأكد بالدخول أو الفرض بالتراضي أو بالقضاء ألا ترى أن ملك اليمين تارة يثبت بعوض واجب بنفس العقد وتارة بشرط التعويض وإن لم يكن واجبا بنفس السبب والدليل عليه أن مهر المثل لا يتنصف بالطلاق قبل الدخول وما كان واجبا بنفس العقد يتنصف كالمسمى وحجتنا في ذلك ما روى أن سائلا سأل ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن هذا فجعل يردده شهرا ثم قال أقول فيه بنفسي فإن يك صوابا فمن الله ورسوله وإن يك خطأ فمن بن أم عبد.
وفي رواية فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان أرى لها مهر مثل نسائها لأوكس ولا شطط فقام رجل يقال له معقل بن سنان أو معقل بن يسار وأبو الجراح صاحب الأشجعين رضوان الله عليهم فقال نشهدان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق الأشجعية بمثل قضيتك هذه فسر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بذلك سرورا لم يسر قط مثله بعد إسلامه لما وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي روى أن عليا رضي الله تعالى عنه رد هذا الحديث وقال ماذا نصنع بقول إعرابي بوال على عقبيه إنما رده لمذهب تفرد به وهو أنه كان يحلف الراوي ولم ير هذا الرجل حتى يحلفه ولسنا نأخذ بذلك والمعنى فيه أن النكاح عقد معاوضة بالمهر فإذا انعقد صحيحا كان موجبا للعوض كالبيع وكما لو زوج الأب ابنته بغير مهر وبيان الوصف قوله تعالى:
{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] يعني تبتغوا ملك النكاح على النساء بالمال وحرف الباء يصحب الإعواض فدل أن العوض الأصلي هو المهر والدليل عليه أنه يثبت لها حق المطالبة بالفرض والفرض عبارة عن التقدير والمطالبة بالتقدير تنبني على وجوب الأصل ففي كل موضع لم يجب الأصل بالعقد لا تثبت المطالبة بالتقدير كما في ملك اليمين بطريق الهبة فعرفنا أن أصل الوجوب بالعقد شرعا وإليه أشار الله تعالى في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50].
أضاف إلى نفسه وبين خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح بغير مهر فذلك دليل على أنه في غيره لا ينعقد إلا موجبا للمهر وإليه أشار أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه بقوله لا نكاح إلا بمهر وشهود إلا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والدليل عليه إنها تحبس نفسها لاستيفاء المهر ولا تحبس المبدل إلا ببدل واجب وإن بعد الدخول بها يجب ولا وجه لانكاره لأنه منصوص عليه في القرآن.
والدخول تصرف في الملك فإذا ثبت الملك بغير عوض لا يجب العوض بالتصرف فيه بعد ذلك ولا معنى لما يقول إن الملك يثبت بشرط التعويض لأن هذا العقد لا ينعقد إلا

 

ج / 5 ص -58-         بمعاوضة المال إظهارا لخطر هذا الملك وهنا إظهار الخطر إنما يظهر إذا وجب البدل بنفس الملك فكما أن الملك لا يحتمل التأخر عن حالة العقد فكذلك وجوب البدل إلا في حق من قصر عنه حكم هذا الخطاب وهم أهل الذمة كما بينا.
والطلاق قبل الدخول مسقط لأنه رفع للعقد من الأصل فيكون مسقطا للعوض وسقوط العوض عند وجود المسقط لا يكون دليلا على أنه لم يكن واجبا بالعقد وتنصف المسمى بالطلاق حكم ثبت بالنص بخلاف القياس وكان المعنى فيه أن المسمى تأكد بالتسمية والعقد جميعا فلتأكده لا يسقط كله لا بالطلاق ولا بالموت والنفقة ضعيفة من كل وجه لأنها لا تجب بالتسمية ولا بنفس العقد وتسقط بالطلاق والموت جميعا ومهر المثل ضعيف من كل وجه لأنه غير مسمى في العقد وقوي من وجه لأنه واجب بنفس العقد فلقوته من وجه لا يسقط بالموت ولضعفه من وجه يسقط كله بالطلاق قبل الدخول.
إذا عرفنا هذا فنقول نساؤها اللآتي يعتبر مهرها بمهورهن عشيرتها من قبل أبيها كأخواتها وعماتها وبنات عماتها عندنا وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى أمها وقوم أمها كالخالات ونحو ذلك لأن المهر قيمة بضع النساء فيعتبر فيه قرابتها من النساء ولكنا نقول قيمة الشيء إنما تعرف بالرجوع إلى قيمة جنسه والإنسان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه ألا ترى أن الأم قد تكون أمة والبنت تكون قرشية تبعا لأبيها فلهذا اعتبر عشيرتها من قبل أبيها ولا يعتبر مهرها بمهر أمها إلا أن تكون أمها من قوم أبيها بأن كانت بنت عمه فحينئذ يعتبر مهرها لا لأنها أمها بل لأنها بنت عم أبيها وإنما يعتبر من عشيرتها امرأة هي مثلها في الحسن والجمال والسن والمال والبكارة لأن المهور تختلف باختلاف هذه الأوصاف. قال صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لمالها وجمالها" الحديث. وكذلك يعتبر أن تكون تلك المرأة من بلدتها ولا يعتبر مهرها بمهر عشيرتها في بلدة أخرى لأن المهور تختلف باختلاف البلدان عادة.
وفي الحاصل مهر المثل قيمة البضع وقيمة الشيء إنما تعرف بالرجوع إلى نظيره بصفته قال فإن فرض لها الزوج بعد العقد مهرا فرضيت به أو رافعته إلى القاضي ففرض لها مهرا فهو سواء ولها ذلك أن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل أن يدخل بها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول لها نصف المهر المفروض بعد العقد وهذا والمسمى في العقد سواء ثم رجع فقال لها المتعة وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن الفرض بعد العقد يقدر بمهر المثل وقد بينا إن مهر المثل لا يتنصف بالطلاق قبل الدخول ولأن تنصف المسمى في العقد بالطلاق حكم ثبت بالنص بخلاف القياس والمفروض بعد العقد ليس في معناه لأنه وإن استند حكمه إلى وقت العقد لا يصير كالمسمى في العقد.

 

ج / 5 ص -59-         وعلى هذا لو تزوجها على مهر مسمى ثم زادها في المهر بعد العقد ففي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول تتنصف الزيادة والأصل بالطلاق لأن الزيادة بعد العقد مثل المسمى في العقد قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]أي من فريضة بعد الفريضة وفي قوله الآخر لا يتنصف بالطلاق إلا المسمى في العقد خاصة لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي سميتم في العقد فأما الزيادة بعد العقد تسقط كلها بالطلاق وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى.
قال: وإذا اختلف الزوجان في المهر فقال الزوج ألف وقالت المرأة ألفان ففي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يحكم مهر مثلها وفي قول أبي يوسف وبن أبي ليلى رحمهما الله تعالى القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا.
وجه قولهما أنهما اختلفا في بدل عقد لا يحتمل الفسخ بالإقالة فيكون القول قول المنكر للزيادة كما لو اختلفا في بدل الخلع والعتق بمال ولا معني للمصير إلى تحكيم مهر المثل لأن وجود مهر المثل عند عدم التسمية وهنا مع اختلافهما اتفقا على أصل المسمى وذلك مانع وجوب مهر المثل ولا معنى للتحالف بينهما لأن التحالف لفسخ العقد بعد تمامه والنكاح لا يحتمل هذا النوع من الفسخ والدليل عليه أنه لو طلقها قبل الدخول كانلها نصف ما يقوله الزوج ولا يصار إلى تحكيم المتعة فكذا في حال قيام العقد لأن المتعة بعد الطلاق موجب نكاح لا تسمية فيه كمهر المثل قبله.
وأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لصحة النكاح في الشرع موجب وهو مهر المثل لا تقع البراءة عنه إلا بتسمية صحيحة فعند الاختلاف في المسمى يجب المصير إلى الموجب الأصلي كالصباغ ورب الثوب إذا اختلفا في الأجر فإنه يصار إلى تحكيم قيمة الصبغ لهذا المعنى وهذا بخلاف القصار ورب الثوب إذا اختلفا في الأجر لأنه ليس لعمل القصار موجب بدون التسمية.
ثم النكاح عقد محتمل للفسخ فإنه يفسخ بخيار العتق وبخيار البلوغ وعدم الكفاءة ويستحق فيه التسليم والتسلم فيشبه البيع من هذا الوجه فإذا وقع الاختلاف في البدل يجب التحالف بخلاف الطلاق بمال والعتق بمال وأما إذا طلقها قبل الدخول يصار إلى تحكيم المتعة على ما نص عليه في الجامع ووضع المسألة فيما إذا كان الاختلاف بينهما في المائة والمائتين.
فأما في كتاب النكاح فإنه وضع المسألة فيما إذا كان الاختلاف في الألف والألفين والمتعة لا تزيد على خمسمائة فلهذا قال لها نصف ما يقوله الزوج على أنه يجوز أن يصار إلى مهر المثل قبل الطلاق ولا يصار إلى المتعة بعد الطلاق كما إذا تزوجها على ألف وكرامة يكون لها نصف الألف بعد الطلاق ويكون لها كمال مهر المثل قبل الطلاق إذا لم

 

ج / 5 ص -60-         يف بما شرط لها من الكرامة وفي معنى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا قولان لمشايخنا:
أحدهما: أن يدعى ما دون العشرة فإنه مستنكر شرعا لأنه لا مهر أقل من عشرة دراهم والأصح أن مراده أن يدعى شيئا قليلا يعلم أنه لا يتزوج مثل تلك المرأة على ذلك المهر عادة فإنه ذكر هذا اللفظ في البيع أيضا فيما إذا اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا وليس في الثمن تقدير شرعا.
وأما بيان قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فقد كان الكرخي يقول يتحالفان في الإبتداء ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول يحكم مهر المثل أولا فإن كان مهر مثلها ألفين أو أكثر فالقول قولها مع يمينها لأن الظاهر يشهد لها وإن كان ألف درهم أو أقل فالقول قول الزوج مع يمينه لأن الظاهر يشهد للزوج وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة فحينئذ يتحالفان ثم يقضي لها بمقدار مهر مثلها لأن المصير إلى التحالف إذا لم يمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر بشهادة الظاهر له وذلك في هذا الموضع والأصح ما ذكره الكرخي رحمه الله تعالى لأن ظهور مهر المثل عند عدم التسمية وذلك إنما يكون بعد التحالف فإن ما يدعى كل واحد منهما من المسمى ينتفي بيمين صاحبه فيبقى نكاحا بلا تسمية فيكون موجبه مهر المثل فعرفنا أنه لا بد من المصير إلى التحالف في الإبتداء.
وأصل النكاح وإن كان لا يحتمل الفسخ بالتحالف فالتسمية تحتمل الإنتفاء فإذا تحالفا نظر إلى مهر مثلها فإن كان ألفين أو أكثر فلها ألفان وإن كان ألفا أو أقل فلها الألف لاقرار الزوج به وإن كان ألفا وخمسمائة فلها مهر المثل وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه وأيهما أقام البينة وجب قبول بينته لأنه نور دعواه بالحجة فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة لأنها تثبت الزيادة والبينة مشروعة للإثبات وكذلك لو مات أحدهما قبل أن يتفقا ثم وقع الاختلاف بين الحي وورثة الميت فهو وورثة الميت على ما ذكرنا لأن الوارث يقوم مقام المورث فأما إذا ماتا معا فهنا فصلان:
أحدهما: أن يتفق الورثة إنه لم يكن في العقد تسمية.
والثاني: أن يختلف الورثة في المسمى.
أما في الأول فإنه يقضي لورثتها في تركة الزوج بمهر المثل في القياس وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن مهر المثل وجب بنفس العقد كالمسمى فكما لا يسقط المسمى بعد موتهما فكذلك مهر المثل ألا ترى أن بعد موت أحدهما لا يسقط مهر المثل وورثة الميت يقومون مقامه في ذلك فكذلك بعد موتهما واستحسن أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال لا يقضي بشيء واستدل في الكتاب فقال أرأيت لو ادعى ورثة

 

ج / 5 ص -61-         علي رضي الله عنه على ورثة عثمان رضي الله عنه مهر أم كلثوم اكنت تقضي فيه بشيء وهذا إشارة إلى أنه إنما يفوت هذا بعد تقادم العهد لأن مهر المثل يختلف باختلاف الأوقات فإذا تقادم العهد وانقرض أهل ذلك العصر يتعذر على القاضي الوقوف على مقدار مهر المثل وعلى هذا الطريق إذا لم يكن العهد متقادما يقضي بمهر مثلها.
والطريق الآخران المستحق بالنكاح ثلاثة أشياء المسمى وهو إلا قوى والنفقة وهي الأضعف ومهر المثل وهو متوسط على ما قررنا.
فالمسمى لقوته لا يسقط بموتهما وموت أحدهما والنفقة لضعفها تسقط بموتهما وبموت أحدهما ومهر المثل يتردد بين ذلك فيسقط بموتهما ولا يسقط بموت أحدهما لأن ما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما ألا ترى أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا أن مهر المثل هل يسقط بموت أحدهما فيكون ذلك إتفاقا منهم على أنه يسقط بموتهما.
فإما إذا وقع الاختلاف في مقدار المسمى بعد موتهما فعلى قول محمد رحمه الله تعالى يصار إلى تحكيم مهر المثل لأن من أصله أن مهر المثل لا يسقط بموتهما فيكون هذا كالاختلاف الواقع بين الزوجين وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى القول قول ورثة الزوج إلا أن يأتوا بشيء مستنكر جدا كما لو وقع الاختلاف في حياتهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى القول قول ورثة الزوج أيضا لأن مهر المثل عنده لا يبقى بعد موتهما فلا يمكن المصير إلى التحالف وتحكيم مهر المثل فيبقى ظاهر الدعوى والإنكار فيكون القول قول ورثة الزوج إلا أن يقوم لورثة المرأة بينه على ما ادعوا من المسمي فحينئذ يقضي بذلك ويستوي في هذا كله إن دخل بها أو لم يدخل بها لأن ما قبل الدخول إنما يفارق ما بعد الدخول عند الطلاق أما عند الموت لا فرق لأن النكاح ينتهي بالموت.
قال: وإذا تزوجها على بيت وخادم فلها من ذلك خادم وسط وبيت وسط والكلام هنا في فصول: أحدها: أن تسمية الخادم في النكاح صحيح عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يصح وكذلك لو تزوجها على عبد مطلق أو على أمه فلها عبد وسط أو أمة وسط فإن أتاها بالعين أجبرت على القبول وإن أتاها بالقيمة أجبرت على القبول وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تصح التسمية لأن النكاح عقد معاوضة فيكون قياس البيع والعبد المطلق لا يستحق بعقد البيع عوضا فكذلك بالنكاح وهذا أصل للشافعي رحمه الله تعالى أن كل ما لا يصح مسمى عوضا في البيع لا يستحق في النكاح لأن المقصود بالمسمى مهرا المالية وبمجرد ذكر الجنس بدون بيان الوصف لا تصير المالية معلومة فلا يصح التزامه بعقد المعاوضة لبقاء الجهالة والغرر فيه ألا ترى أنه لو سمى ثوبا أو دابة أو دارا لم تصح التسمية؟ فكذلك إذا سمى عبدا.

 

ج / 5 ص -62-         وحجتنا في ذلك أن المهر إنما يستحق عوضا عما ليس بمال والحيوان يثبت دينا في الذمة مطلقا في مبادلة ما ليس بمال. ألا ترى أن الشرع أوجب في الدية مائة من الإبل وأوجب في الجنين غرة عبدا أو أمة فإذا جاز أن يثبت الحيوان مطلقا دينا في الذمة عوضا عما ليس بمال شرعا فكذلك يثبت شرطا وهذا لأن في معنى المالية هذا مال ملتزم ابتداء والجهالة المستدركة في التزام المال ابتداء لا تمنع صحته كما في الإقرار فإن من أقر لإنسان بعبد صح إقراره إلا أن هناك لا ينصرف إلى الوسط عند محمد رحمه الله تعالى لأن المقربة عينه ليس بعوض وهنا عين المهر عوض وإن كان باعتبار صفة المالية هذا إلتزام مبتدأ فلكونه عوضا صرفناه عند اطلاق التسمية إلى الوسط ليعتدل النظر من الجانبين.
كما أوجب الشرع في الزكوات الوسط نظرا إلى الفقراء وأرباب الأموال وبكونه ما لا يلتزم ابتداء لا تمنع جهالة الصفة صحة الالتزام ولهذا لو أتاها بالقيمة أجبرت على القبول لأن صحة الالتزام باعتبار صفة المالية والقيمة فيه كالعين وللاعتبار بما أوجبه الشرع من الدية فإن ذلك يتردد بين الإبل والدراهم والدنانير.
ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول لو لم تصح التسمية احتجنا إلى إيجاب مهر المثل لأن بفساد التسمية لا يبطل النكاح كما لا يبطل بترك التسمية وكل جهالة في المسمى إذا كانت دون جهالة مهر المثل فذلك لا يمنع صحة التسمية لأن بعض الجهالة يرتفع بهذه التسمية وكل جهالة هي مثل جهالة مهر المثل أو فوق جهالة مهر المثل تمنع صحة التسمية لأنه لا يحصل به شيء من الإعلام فجهالة العبد المسمى جهالة الصفة دون الجنس فأما جهالة مهر المثل جهالة جنس فصححنا فيه التسمية ليحصل بها التحرز عن بعض الجهالة.
فأما جهالة الثوب فوق جهالة مهر المثل لأن اسم الثوب يتناول أجناسا مختلفة من القطن والكتان وإلا بريسم وغير ذلك وكذلك جهالة الدابة لأنها تتناول أجناسا مختلفة وكذلك جهالة الدار لأنها تختلف باختلاف البلدان والمحال والضيق والسعة وكثرة المرافق وقلتها فكانت تلك الجهالة فوق جهالة مهر المثل فلهذا لم تصح التسمية ووجب المصير إلى مهر المثل وبه فارق البيع فأنا لو لم نصحح التسمية مع جهالة الوصف هناك لا نحتاج إلى إيجاب جهالة أخرى لأنه يفسد البيع ويعود إليه عوضه وهو معلوم.
فأما إذا سمى في المهر بيتا فالمراد منه متاع البيت عادة دون البيت المسمى وهذا معروف بالعراق يتزوج على بيت أو بيتين فيريدون متاع البيت مما تجهز به تلك المرأة وينصرف إلى الوسط من ذلك لاعتبار معنى المعاوضة على ما قلنا ثم قال أبو حنيفة رضي الله عنه قيمة البيت أربعون درهما وقيمة الخادم أربعون دينارا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو على قدر الغلاء والرخص وليس هذا باختلاف في الحقيقة،

 

ج / 5 ص -63-         ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى قصر فتواه على ما شاهده في زمانة وهما زادا على ذلك وبينا الفتوى في الأوقات والأمكنة كلها والأمر على ما قالا فإن القيم تختلف باختلاف الغلاء والرخص.
قال: والوسط من الخادم السندي وهذا لأن أرفع الخدم الأتراك وأدني الخدم الهنود فالسندي هو الوسط فيما بين ذلك ولكنه في بلادنا قلما يوجد السندي فالوسط أدنى إلا تراك وأعلى الهنود.
قال: وإن كان تزوجها على وصيف أبيض فلها خمسون دينارا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذا أيضا بناء على ما شاهد في زمانه من التفاوت بين قيمة الوسط والجيد وذلك يختلف باختلاف الغلاء والرخص ولكن في زمانه كان هذا التفاوت بقدر عشرة دنانير فلهذا قدره به وإن أعطاها وصيفا أبيض لا يساوي ذلك فهو جائز لأنه وفي لها بما شرط واعتبار القيمة عند اختياره أداء القيمة فأما إذا اختار أداء العين فلا معتبر بالقيمة.
قال: وإن كانا من أهل البادية وقد تزوجها على بيت فلها بيت من شعر من بيوت أهل البادية وإن تزوجها على خادم فلها خادم وسط مما يعرف هناك لأن المعتبر في التسمية العرف ألا ترى أنه لو اشترى بدراهم مطلقا ينصرف إلى نقد البلد للعرف فهنا في كل موضع يعتبر العرف أيضا والمتعارف من تسمية البيت مطلقا فيما بين أهل البادية البيت من الشعر وفيما بين أهل الأمصار متاع البيت فصرفنا التسمية إلي ذلك في كل موضع.
قال: وإن تزوجها على شيء بعينه ولم تره فليس لها في ذلك خيار الرؤية لأن عدم الرؤية لما لم يمنع ثبوت صفة اللزوم فيما هو المقصود بهذا العقد وهي المنكوحة فكذلك في عوضه وكان المعنى فيه أن الفائدة في إثبات خيار الرؤية أن يتمكن به من إعادة العوض الذي خرج منه إليه وهذا في البيع يحصل لأنه ينفسخ بالرد وفي النكاح لا يحصل لأنه لا ينفسخ برد المسمى بخيار الرؤية ولكن تجب القيمة والقيمة غير مرئية كالعين فعرفنا أنه لا يستدرك بالرد فائدة.
وكذلك لا ترد الصداق بالعيب إلا أن يكون فاحشا عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى كل عيب يرد به في البيع يرد به في الصداق وهو بناء على أصل بيننا وبينه أن عنده بالرد بالعيب تبطل التسمية فيجب مهر المثل وعندنا لا تبطل التسمية ولكن تجب قيمة المسمى فإن كان العيب يسيرا لا تستدرك بالرد فائدة إذ لا فرق بين عين الشيء وبه عيب يسير وبين قيمته وإذا كان العيب فاحشا فتستدرك بالرد فائدة لأنها ترجع بقيمته صحيحا وهذا هو حد الفرق بين اليسير والفاحش إن كل عيب ينقص من المالية مقدار ما لا يدخل تحت تقويم المقومين في الأسواق فهو عيب فاحش وإذا كان ينقص بقدر ما يدخل بين تقويم المقومين فهو عيب يسير.

 

ج / 5 ص -64-         وحجته لاثبات أصله أن الصداق مال مملوك بعقد معاوضة وهو مما ينفصل عن أصل العقد فتبطل التسمية بالرد كالبيع ولكن بطلان التسمية في النكاح لا يبطل النكاح كانعدام التسمية في الإبتداء ولكنا نقول السبب الموجب للمسمى هو العقد فلا يجوز الحكم ببطلان التسمية مع بقاء السبب الموجب له ولكن بالرد بالعيب يتعذر تسليم العين كما التزم فتجب قيمته كالمغصوب إذا أبق.
وعلى هذا الأصل إذا هلك الصداق قبل التسليم عندنا لا تبطل التسمية ولكن يجب على الزوج مثله إن كان من ذوات الأمثال وقيمته إن لم يكن من ذوات الأمثال وعند الشافعي رحمه الله تعالى تبطل التسمية كما يبطل البيع بهلاك المبيع قبل القبض فيكون لها مهر مثلها وبعض أصحابه يقول لا تبطل التسمية بالهلاك عندنا ولكن تجب قيمة المسمى لتعذر تسليم العين فأما الرد بالعيب لا يكون إلا لرفع تلك التسمية فتبطل به التسمية وعلى هذا لو استحق المسمى بعينه لا تبطل التسمية لأن شرط صحة التسمية كون المسمى مالا وبالاستحقاق لا تنعدم المالية ولكن يتعذر التسليم فيكون بمنزلة الهلاك في إنه يجب قيمته على الزوج.
قال: وإن كان الزوج أجر الصداق فالأجر له لأن الصداق في يده مضمون بنفسه كالمغصوب والغاصب إذا أجر المغصوب فالأجر له ولكن يتصدق به لأنه حصل له بكسب خبيث فكذلك الزوج وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى الأجر لها بناء على أصله أن المنافع عنده مال والأجر بدل ما هو مال لها فيكون بمنزلة العقر وأرش الطرف وعندنا المنافع ليست بمال متقوم وإنما تتقوم بالعقد والعاقد هو الزوج فكان الأجر له لأنه بعقده صير ما ليس بمتقوم من ملك الغير متقوما فهو كمن صنع كوزا من تراب غيره وباعه يكون الثمن له.
قال: فإن ولدت أو اكتسبت ما لا قبل التسليم فذلك كله للمرأة معها والحاصل أن الزيادة في الصداق قبل القبض نوعان: متصلة ومنفصلة.
فالمتصلة كالسمن في الجارية وانجلاء البياض عن العين.
والزيادة المنفصلة أما متولدة من العين كالولد والثمار والعقر وإما غير متولدة من العين كالكسب والغلة وذلك كله يسلم للمرأة إذا دخل بها الزوج أو مات عنها لأنه يملك بملك الأصل وملك الأصل كان سالما لها وقد تقرر ذلك بالموت والدخول فكذلك الزيادة.
وأما إذا طلقها قبل الدخول بها فالزيادة المتولدة منفصلة كانت أو متصلة تتنصف بالطلاق مع الأصل لأنها في حكم جزء من العين والحادث من الزيادة بعد العقد قبل القبض كالموجود وقت العقد بدليل المبيعة فإن الزيادة المتولدة هناك كالموجود وقت العقد حتى يصير بمقابلتها شيء من الثمن عند القبض.

 

ج / 5 ص -65-         فأما الكسب والغلة لا تتنصف بالطلاق قبل الدخول بل يسلم الكل لها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأما في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تتنصف مع الأصل وكذلك لو جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول حتى يبطل ملكها عن جميع الصداق يسلم لها الكسب في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يدور الكسب مع الأصل.
وكذلك المبيع قبل القبض إذا اكتسب كسبا ثم انفسخ البيع بهلاك المبيع قبل القبض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يسلم الكسب للمشترى وعندهما هو للبائع وحجتهما في ذلك أن الكسب زيادة منفصلة عن الأصل فيكون قياس الولد فكما لا يسلم ذلك لها بعد ما بطل ملكها عن الأصل فكذلك هذا وهذا لأن بطلان ملكها عن الأصل بحكم انفساخ السبب فيه والزيادة إنما تملك بملك الأصل متولدة كانت أو غير متولدة فبعد ما انفسخ سبب الملك لها في الأصل لا يبقى سببا لملك الزيادة لها.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول السبب الذي به ملكت الكسب لم ينفسخ فيبقى ملك الكسب لها كما قبل الطلاق وبيان ذلك أن سبب ملك الكسب إما قبول العبد الهبة أو إجارته نفسه واكتسابه من حيث الاحتطاب والاحتشاش وشيء من هذه الأسباب لا ينفسخ بالطلاق وتأثيره أن الاكتساب يوجب الملك للمكتسب ولكن إذا لم يكن المكتسب من أهل الملك فمن يخلفه وهو مولاه يقوم مقامه في الملك بذلك السبب لوصلة الملك بينهما وقت الاكتساب تم ببطلان ملكه في الأصل بعد ذلك لا يتبين أنه لم يخلفه في الملك بذلك السبب.
وليس الكسب بمنزلة الزيادة المتولدة لأن المتولد جزء من الأصل يسري إليه ملك الأصل إلا أن يكون مملوكا بسبب حادث ألا ترى إن ولد المكاتبة يكون مكاتبا وكسبها لا يكون مكاتبا وولد المبيعة قبل القبض يكون مبيعا يقابله حصة من الثمن عند القبض وكسب المبيع لا يكون مبيعا فلا يقابله شيء من الثمن وإن قبض مع الأصل فظهر الفرق بينهما.
وكذلك لو قبضت المرأة الأصل مع لزيادة المتولدة ثم طلقها قبل أن يدخل بها يتنصف الأصل والزيادة لأن حكم التنصف عند الطلاق ثبت في الكل حين كانت الزيادة حادثة قبل القبض فلا يسقط ذلك بقبضها.
ولو كانت قبضت الأصل قبل حدوث الزيادة ثم حدثت الزيادة في يدها ثم طلقها قبل الدخول فإن كانت الزيادة غير متولدة كالكسب والغلة فهو سالم لها وردت نصف الأصل على الزوج لأن حدوث الكسب كان بعد تمام ملكها ويدها فيكون سالما لها وإن لزمها رد الأصل أو بعضه كالمبيع إذا اكتسب في يد المشترى ثم رد الأصل بالعيب يبقى الكسب سالما له وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الخراج بالضمان" وقد كان الصداق في ضمانها فمنفعته تسلم لها والكسب بدل المنفعة.
فأما إذا كانت الزيادة متولدة من العين فإن كانت منفصلة كالولد والثمار يمنع تنصف

 

ج / 5 ص -66-         الأصل بالطلاق وعود الكل إليه إذا جاءت الفرقة من قبلها ولكن للزوج عليها نصف قيمة الأصل أو جميع قيمته يوم دفع إليها وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يتنصف الأصل مع الزيادة بالطلاق ويعود الكل إلى الزوج إذا جاءت الفرقة من قبلها لأن بقبضها لا يتأكد ملكها ما لم يدخل بها بل توهم عود النصف إلى الزوج بالطلاق أو الكل إذا جاءت الفرقة من قبلها ثابت فيسرى ذلك الحق إلى الزيادة بمنزلة المشتراة شراء فاسدا إذا قبضها المشترى وازدادت زيادة منفصلة فإن البائع يستردها بزيادتها.
وروى بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى قال في الطلاق يرجع الزوج عليها بنصف قيمة الأصل وعند ردتها يسترد منها الأصل مع الزيادة لأن الردة تفسخ السبب مع الأصل فيكون الرد بحكم انفساخ السبب بمنزلة الرد بسبب فساد البيع وهناك حكم الرد يثبت في الأصل والزيادة فأما الطلاق حل العقد وليس بفسخ له من الأصل فلا يثبت حق الزوج في الزيادة التي لم تكن في ملكه ولا في يده ويتعذر تنصف الزيادة بتعذر تنصف الأصل.
ووجه ظاهر الرواية أنها ملكت الصداق بالعقد وتم ملكها بالقبض فالزيادة حدثت على ملك تام لها وحكم التنصف عند الطلاق إنما يثبت في المفروض في العقد والزيادة ما كانت مسماة في العقد لا حقيقة ولا حكما إذا لم يرد عليها القبض المستحق بالعقد فتعذر تنصفها وهي جزء من العين فيتعذر تنصفها بتعذر تنصف العين كالزيادة المنفصلة في المبيع تمنع رد الأصل بالعيب إذا كان حادثا بعد القبض وهذا بخلاف الزيادة المنفصلة في الموهوب فإنه لا يمنع الواهب من الرجوع في الأصل لأن الهبة عقد تبرع فإذا رجع في الأصل بقيت الزيادة للموهوب له بغير عوض وقد كان الأصل سالما له بغير عوض فيجوز أن تسلم الزيادة له أيضا بغير عوض.
فأما البيع والنكاح معاوضة فبعد تعذر رد الزيادة لو أثبتنا حكم الرد في الأصل بقيت الزيادة سالمة بغير عوض وهو جزء من الأصل فلا يجوز أن يسلم الملك بغير عوض بعد رفع عقد المعاوضة بينهما فإذا تعذر تنصيف الأصل وجب عليها نصف القيمة للزوج لتعذر رد العين بعد تقرر السبب الموجب له وإنما دخل الصداق في ضمانها بالقبض فلهذا كان المعتبر القيمة وقت القبض.
فأما إذا كانت الزيادة متصلة كالسمن والجمال وانجلاء البياض فطلقها قبل أن يدخل بها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى هذا والزيادة المنفصلة سواء وللزوج عليها نصف قيمة الصداق يوم قبضت وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يتنصف الأصل بزيادته وحجتهما في ذلك أن النكاح عقد معاوضة والزيادة المتصلة لا عبرة بها في عقود المعاوضات كما في البيع لو اشترى جارية بعبد وقبض الجارية فازدادت زيادة متصلة ثم هلك العبد قبل التسليم أو رده المشتري بعيب يسترد الجارية بزيادتها بخلاف ما لو كانت

 

ج / 5 ص -67-         الزيادة منفصلة وهذا لأن الزيادة المتصلة بمنزلة زيادة الشعر ألا ترى أنها لو حدثت قبل القبض لا ينقسم الثمن باعتبارها كزيادة الشعر فكذلك في الصداق وهذا بخلاف الموهوبة فإن الزيادة المتصلة فيها تمنع الرجوع لأن الهبة ليست بعقد ضمان فالقبض بحكمه لما لم يوجب ضمان العين على الموهوب له لم يبق للواهب حق في العين حتى تسرى إلى الزيادة وإذا تعذر الرجوع في الزيادة تعذر في الأصل لأن الأصل لا ينفصل عن الزيادة.
فأما قبضها الصداق قبض ضمان وثبوت الضمان لحق الزوج فبه يتبين بقاء حق الزوج في الأصل فيسري إلى الزيادة كما في البيع.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا هذه الزيادة حدثت من ملك صحيح تام لها فيكون سالما لها بكل حال كالزيادة المنفصلة وإذا تعذر تنصف الزيادة تعذر تنصف الأصل لما قال محمد رحمه الله تعالى والدليل عليه أن الصداق في حكم الصلة من وجه لأنها تملكه لا عوضا عن مال يستحق عليها والزيادة المتصلة في الصلات تمنع رد الأصل كالموهوب وتأثير الزيادة المتصلة في الصلات أكثر من تأثير الزيادة المنفصلة حتى أن الزيادة المنفصلة في الهبة لا تمنع الرجوع والمتصلة تمنع ثم الزيادة المنفصلة هنا تمنع تنصف الأصل فالمتصلة أولى.
فأما البيع فالصحيح أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الزيادة المتصلة هناك تمنع فسخ العقد من الأصل كالمنفصلة وما ذكر في المأذون فهو قول محمد رحمه الله تعالى خاصة وقد نص في كتاب البيوع على أن الزيادة المتصلة تمنع الفسخ بالتحالف عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى كالزيادة المنفصلة ولو كان حدوث الزيادة في يدها بعد ما طلقها الزوج قبل الدخول يتنصف الأصل مع الزيادة لأن بالطلاق صاررد نصف الأصل مستحقا عليها فيسرى ذلك إلى الزيادة كالمشترى شراء فاسدا يرد بزيادته المتصلة والمنفصلة بخلاف ما قبل الطلاق.
فأما حكم النقصان فإن تعيب الصداق في يد الزوج بعيب يسير فلا خيار للمرأة لأن العيب اليسير لو كان موجودا وقت العقد لم يثبت لها الخيار بسببه فكذا إذا حدث بعد العقد قبل القبض وعن زفر رحمه الله تعالى أنه يثبت لها الخيار أيضا لأنه تغير عليها شرط العقد فإنها استحقت الصداق بصفة السلامة وبالتعيب قد تغير ولكن هذا ينبغي على قوله في العيب الموجود وقت العقد أن يثبت لها الخيار أيضا إذ لا فرق بينهما فأما إذا حدث بالصداق عيب فاحش في يد الزوج فهو على خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون العيب بآفة سماوية فيثبت لها الخيار إن شاءت رجعت بقيمة الصداق يوم تزوجها على الزوج وإن شاءت أخذت المعيب ولا شيء لها من ضمان النقصان لأن الزوج عجز عن تسليم الصداق سليما كما أوجبه العقد فيثبت لها الخيار وإذا أرادت رجعت بالقيمة،

 

ج / 5 ص -68-         لأنه تعذر تسليم العين مع بقاء السبب الموجب له فإن اختارت الأخذ فلا شيء لها من ضمان النقصان على الزوج لأن الصداق مضمون عليه بالعقد والأوصاف لا تكون مضمونة بالعقد وعن زفر رحمه الله تعالى إن لها أن تضمن الزوج النقصان لأن الصداق مضمون في يد الزوج بنفسه كالمغصوب إذا تعيب في يد الغاصب كان للمغصوب منه أن يضمنه النقصان مع استرداد العين ولكنا نقول المغصوب مضمون بالقبض والأوصاف تضمن بالقبض.
والثاني: أن يكون التعيب بفعل الزوج فيكون لها الخيار للتغير وإن اختارت الأخذ ضمنت الزوج النقصان وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه ليس لها حق تضمين النقصان لأنه مضمون على الزوج بالعقد فكان بمنزلة المبيع والبائع إذا عيب المبيع قبل القبض لا يلزمه ضمان النقصان للمشتري فهذا مثله ووجه ظاهر الرواية أن الزوج أتلف جزء من الصداق ولو أتلف الكل ضمن قيمة الكل فكذلك إذا أتلف جزءا منه وبه فارق البيع فإن البائع هناك لو أتلف الكل لم يضمنه فكذا إذا أتلف الجزء ثم المعنى فيه أن المبيع مضمون بالثمن وفيما هو مضمون به فصلنا بين العيب بفعل البائع وبآفة سماوية حتى أنه إذا تعيب بفعل البائع سقطت حصته من الثمن عن المشتري بخلاف ما إذا تعيب بآفة سماوية فهنا أيضا يفصل بينهما فيما إذا كان الصداق مضمونا به وهو القيمة وهذا لأن الاتلاف من الزوج يتحقق في الأوصاف كما يتحقق في الأصل بخلاف ما إذا تعيب بغير فعله فإن الضمان هناك بالعقد والعقد لا يتناول الأوصاف مقصودا.
الثالث: ان يكون التعيب بفعل الصداق بنفسه ففي ظاهر الرواية هذا كالعيب بآفة سماوية لأن فعله بنفسه هدر وقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا بمنزلة تغييب الزوج لأنه مضمون عليه وفعل المضمون كفعل الضامن في استحقاق موجبه عليه كما في المغصوب.
الرابع: إن حصل التعيب بفعل الأجنبي يجب عليه ضمان النقصان ويكون ضمان النقصان بمنزلة الزيادة المتولدة قبل القبض فيثبت لها الخيار للتغير فإذا اختارت الأخذ رجعت على الجاني بضمان النقصان وإن اختارت تضمين الزوج القيمة رجع الزوج على الجاني بضمان النقصان ولو أرادت أن تأخذ العين وتضمن الزوج النقصان لم يكن لها ذلك لانعدام الصنع من الزوج في التعيب.
الخامس: أن يكون التعيب بفعل المرأة فتصير به قابضة للصداق لأنها أتلفت جزء منه فتكون قابضة لذلك الجزء بالإتلاف ولما وراء ذلك بالتخلي ولا خيار لها في ذلك.
والذي بينا في هذه الفصول فيما إذا دخل بها الزوج أو مات عنها فأما إذا لم يدخل بها فهي في حق النصف إذا طلقها قبل الدخول كما في الكل إذا طلقها بعد الدخول فأما إذا تعيب في يد المرأة بعد ما قبضت الصداق فهو على خمسة أوجه أيضا أما إذا تعيب بآفة سماوية ثم طلقها الزوج قبل أن يدخل بها فهو بالخيار إن شاء ضمنها نصف قيمته يوم قبضت

 

ج / 5 ص -69-         لتعذر رد النصف كما قبضت وإن شاء أخذ النصف ناقصا وليس عليها من ضمان النقصان شيء لأن الصداق كان مملوكا لها ملكا تاما فتعيبه في يدها لا يلزمها شيئا من ضمان النقصان وكذلك لو كان التعيب بفعل الصداق بنفسه فهو كالتعيب بآفة سماوية لأن فعله بنفسه هدر وكذلك لو كان التعيب بفعل المرأة لأن فعلها صادف ملكا صحيحا لها فلا يكون موجبا ضمان النقصان عليها بخلاف فعل الزوج قبل القبض فإنه صادف ملكها فيصلح أن يكون موجبا للضمان عليه.
فأما إذا كان التعيب في يدها بفعل أجنبي فإن الأجنبي ضامن للنقصان وذلك بمنزلة الزيادة المنفصلة المتولدة لأنه بدل جزء من عينها فيمنع تنصف الأصل بالطلاق وإنما يرجع الزوج عليها بنصف قيمة الصداق يوم قبضت وكذلك أن كان التعيب بفعل الزوج لأن الزوج بمنزلة الأجنبي في جنايته على الصداق بعد التسليم إليها فكان فعله كفعل أجنبي آخر في إيجاب الإرش وذلك يمنع تنصف الصداق بالطلاق.
وإن كان التعيب في يدها بعد الطلاق كان للزوج أن يأخذ نصف الأصل مع نصف النقصان لأن السبب فسد في النصف بالطلاق وصار مستحق الرد على الزوج فكان في يدها في هذه الحالة بمنزلة المقبوض بحكم شراء فاسد فيلزمها ضمان النقصان إذا تعيب بافة سماوية أو بفعله بنفسه أو بفعلها لأنه مضمون عليها بالقبض والأوصاف تضمن بالقبض كالمغصوب وإن كان التعيب بفعل الأجنبي فالأرش بمنزلة الزيادة المنفصلة وقد بينا حكمه ووقع في المختصر أن التعيب في يدها قبل الطلاق وبعده في الحكم سواء وهو غلط بل الصحيح من الجواب في كل فصل ما ذكرنا.
قال: وإن كان المهر جارية فلم تقبضها المرأة حتى وطئها الزوج فولدت فادعى ولدها لم يصدق على ذلك لأنها مملوكة للمرأة والاستيلاد في ملكها غير صحيح إلا أن الحد سقط عن الزوج لأن الصداق مضمون عليه بالعقد بمنزلة المبيع في يد البائع فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد وإذا سقط الحد لزمه العقر فكان العقر مع الولد زيادة منفصلة متولدة من الأصل لأن المستوفى بالوطء في حكم جزء من العين والعقر بدل عن ذلك.
فإذا طلقها قبل الدخول تنصف الكل فتكون الجارية بينهما ولا تصيرام ولد للزوج لأن حق أمومية الولد يثبت لها باعتبار ثبوت نسب الولد ونسب الولد غير ثابت هنا فكذلك لا يثبت لها حق أمومية الولد ولكن نصف الولد يعتق على الزوج لأنه ملك ولده من الزنى فيعتق عليه باعتبار الجزئية ويسعى للمرأة في نصف القيمة لأن نصيبها احتبس عند الولد ولا يصير الزوج ضامنا لأنه ما صنع في الولد شيئا إنما صنعه في الطلاق وذلك ليس بمباشرة لا عتاق الولد بل من حكم الطلاق عود النصف إلى الزوج ثم يعتق عليه حكما لملكه ولكنها ترجع عليه بنصف العقر لأن العقر تنصف بينهما.

 

ج / 5 ص -70-         فإن قتلت الخادم أو ماتت عند المرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها فللزوج عليها نصف القيمة يوم قبضت لأنه تعذر عليها رد نصف الصداق بعد تقرر السبب الموجب له ولا سبيل للزوج على القاتل لأن فعله ما لاقى ملك الزوج فإنه حين قتلها كان الخادم ملكا للمرأة فلهذا لم يكن للزوج أن يضمن القاتل شيئا.
قال: وإن كانت ازدادت في يدها زيادة متصلة فهلكت ثم طلقها قبل الدخول فإنه يرجع عليها بنصف قيمة الصداق يوم قبضت وكذلك أن استهلكت لأنها أتلفت ملك نفسها فلا يلزمها بالاتلاف شيء ولكنها بالقبض تصير ضامنة للزوج نصف قيمتها حين قبضت.
قال: ولو كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل فهلكت في يدها ثم طلقها قبل أن يدخل بها تنصف الأصل لأن المانع من تنصيف الأصل هو الزيادة فحين مات ولم يخلف بدلا صار كان لم يكن فيتنصف الأصل إلا أنه أن كانت الزيادة ولدا وقد نقصتها الولادة ثبت للزوج الخيار للنقصان الحادث في يدها في الصداق وإن لم يتمكن نقصان بسبب الولادة فلا خيار له إلا أن تكون المرأة هي التي استهلكت الولد فحينئذ يكون له الخيار بمنزلة الجارية المبيعة إذا ولدت فأتلف المشتري ولدها ثم أراد رد الأصل بالعيب.
ولو كانت الولادة في يد الزوج فهلك الولد لم يضمن الزوج شيئا لأن الولد حدث بغير صنعه وهلك بغير صنعه بمنزلة ولد المغصوبة ولكن أن تمكن نقصان بسبب الولادة يثبت لها الخيار لأجل النقصان وأن كان الزوج هو الذي أتلف الأصل والزيادة ضمن قيمتها للمرأة لأن الزيادة أمانة في يده فيضمنها بالاتلاف كالمغصوبة وإن طلقها قبل الدخول ضمن لها نصف الأصل والزيادة.
قال: وإن كانت الجارية قائمة عند الزوج فاعتقها الزوج لم يجز عتقه لأنه أعتق ما لا يملك وكذلك لو طلقها قبل الدخول لم ينفذ ذلك العتق لأنه سبق ملكه ولو كانت المرأة هي التي أعتقتها نفذ عتقها في الكل لمصادفته ملكها ثم إذا طلقها الزوج ضمنها نصف قيمتها يوم أعتقتها لأنها بالاعتاق تصير قابضة متلفة.
قال: وإن كانت المرأة قبضت الصداق وهو جارية ثم طلقها قبل أن يدخل بها ثم أعتقها الزوج لم ينفذ عتقه في شيء منها وعند زفر رحمه الله تعالى ينفذ عتقه في نصفها لأن من أصله أن حكم التنصيف يثبت بنفس الطلاق ويعود نصفها إلى ملك الزوج كما لو كان قبل القبض فينفذ عتقه في نصيبه ولكنا نقول سبب ملكها في النصف يفسد بالطلاق حتى يستحق عليها رد النصف ولكن لا يبطل ملكها في شيء إلا بالرد بقضاء أو رضاء لأن فساد السبب في الإبتداء لا يمنع ثبوت الملك بالقبض فلأن لا يمنع بقاء الملك أولى فإذا لم يعد شيء من العين إلى الزوج لا ينفذ عتقه.
قال: ولو قضى القاضي له بنصفها بعد ذلك لا ينفذ ذلك العتق السابق لأنه سبق ملكه،

 

ج / 5 ص -71-         بمنزله المشتراة شراء فاسدا وقد قبضها المشتري وأعتقها البائع ثم ردت عليه لم ينفذ العتق وإن كان أعتقها بعد ما قضى له القاضي بنصفها أو ردت المرأة عليه النصف بالتراضي نفذ عتقه فيكون حكمه كحكم جارية بين رجلين أعتقها أحدهماولو كانت هي التي أعتقت الجارية بعد الطلاق نفذ عتقها في الكل وكذلك إن باعت أو وهبت لأن الملك في الكل باق لها قبل قضاء القاضي وإذا نفذ تصرفها فقد تعذر عليها رد النصف بعد تقرر السبب الموجب له فتضمن نصف قيمتها للزوج يوم قبضت ولو وطئت الجارية بالشبهة حتى غرم الواطى ء عقرها فحكم العقر كحكم الزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل وكحكم الأرش لأنه بدل جزء من عينها فإنالمستوفي بالوطء في حكم العين دون المنفعة.
قال: ولا شفعة في الدار التي تتزوج عليها المرأة وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أيضا لأن الشفعة في الدار لو وجبت إنما تجب للجار وهو لا يوجب الشفعة للجار أصلا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى تجب الشفعة.
قال: ولو تزوجها على شقص من دار لم تجب فيه الشفعة عندنا وعند بن أبي ليلى والشافعي رحمهما الله تعالى تجب لأن النصف ملك بعقد معاوضة فكان كالمملوك بالشراء فتجب فيه الشفعة بقيمة العوض والعوض هو البضع وقيمته مهر المثل وهو كمن اشترى دارا بعبد يأخذها الشفيع بقيمة العبد وعندنا وجوب الشفعة يختص بمعاوضة مال بمال بمطلق والبضع ليس بمال مطلق فكان المملوك صداقا بمنزلة الموهوب فلا تجب فيها الشفعة وهذا لأن الشفيع إنما يتملك بمثل السبب الذي به تملك المشتري فإن الشرع قدم الشفيع على المشترى في إثبات حق الأخذ له بذلك السبب لا في إنشاء سبب آخر ولهذا لا تجب الشفعة في الموهوب لأنه لو أخذه أخذه بعوض فكان سببا آخر غير السبب الذي تملك به المتملك فكذلك هنا المرأة إنما ملكت الدار بالنكاح صداقا فلو أخذها الشفيع كان شراء فكان سببا آخر بخلاف ما إذا اشتراها بعبد فإن الشفيع يأخذها بمثل ذلك السبب لأن الشراء بقيمة العبد بمنزلة الشراء بعين العبد في أنه شراء مطلق.
قال: وإذا تزوجها على دار على أن ترد المرأة عليه ألف درهم لم يجب للشفيع الشفعة في شيء من الدار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما تقسم الدار على الألف وعلى مهر مثلها فما يخص الألف تجب الشفعة فيه للشفيع لأن العقد فيما يخص الألف شراء وفيما يخص البضع نكاح ألا ترى أنه يثبت فيه حكم الشراء من الرد بالعيب اليسير والفاحش وغيره من أحكام البيع وكذلك حكم الصرف يثبت فيه لو تزوجها على مائة دينار على أن ترد عليه ألف درهم يجب التقابض في حصة الصرف ويجوز أن تستحق الشفعة في بعض ما تتناوله الصفقة دون البعض كما لو اشترى دارا وعبدا صفقة واحدة فإنه تجب الشفعة في الدار دون العبد.

 

ج / 5 ص -72-         ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن البيع هنا تبع للنكاح لأن البيع لم يكن مقصودا بهذه الصفقة وإنما كان المقصود النكاح ألا ترى أنه تتوقف حصة البيع على قبول المرأة إذا حصل العقد من فضولي والشراء مقصودا لا يتوقف وكذلك ينعقد بلفظه الرد ولا يحتاج فيه إلى القبول حتى إذا قال زوجيني نفسك على هذه الدار على أن تردي علي ألفا فقالت فعلت يتم بدون قبول الزوج وأنها لو قبلت حصة النكاح دون البيع صح ولو قبلت حصة البيع دون النكاح لم يصح.
وإذا ثبت أن الشراء تبع للنكاح فنقول إذا لم تجب الشفعة باعتبار الأصل لا تجب باعتبار التبع كالعرصة الموقوفة إذا كان عليها بناء لم تجب الشفعة في ذلك البناء وهذا لأن المقصود بالأخذ بالشفعة دفع ضرر الجار الحادث ولا يحصل هذا المقصود إذا لم تجب الشفعة فيما هو الأصل بخلاف الرد بالعيب فإنه يثبت باعتبار البيع لأن العيب في الأصل فوات وصف هو تبع وكذلك حكم الصرف يثبت فيما هو تبع كالصفائح من الذهب في الدار المشتراة بالفضة يثبت فيها حكم الصرف.
قال: ولو تزوج امرأة على كذا من الأبل أو البقر أو الغنم فلها العدد المسمى من الوسط من ذلك الجنس وإن أتى بقيمة ذلك أجبرت على القبول بمنزلة ما لو تزوجها على عبد وقد بيناه.
قال: والأثواب الهروية وغيرها من أجناس الثياب كذلك وهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتزوجها على ثوب هروي بعينه فلها ذلك الثوب إن كان هرويا وإن لم يكن هرويا وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لها قيمة ثوب هروي وسط وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لها الخيار أن شاءت أخذت الثوب بعينه وإن شاءت طالبت الزوج بقيمة ثوب هروي وسط لأن العقد أضيف إلى عين ذلك الثوب ولكنها وجدته على خلاف شرطها فلها الخيار كما لو وجدته معيبا ولكنا نقول المشار إليه ليس من جنس المسمى فيتعلق العقد بالمسمى دون المشار إليه وهو أصل معروف نقرره في موضعه إن شاء الله تعالى.
ولو تزوجها على ثوب هروي بغير عينه ولم يبين الصفة فإن أتاها بالثوب أجبرت على القبول وإن أتاها بالقيمة أجبرت أيضا بمنزلة العبد المطلق لأن الثوب الذي هو غير موصوف لا تثبت عينه في الذمة ثبوتا صحيحا وإنما صحت هذه التسمية باعتبار المالية والثوب في ذلك وقيمته سواء وإن بين صفة هذا الثوب فعلى قول زفر رحمه الله تعالى تجبر على قبول القيمة إذا أتاها بها وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن ذكر الأجل مع ذلك لم تجبر على قبول القيمة وإن لم يذكر الأجل أجبرت عليه لأن الثياب لا تثبت في الذمة ثبوتا صحيحا إلا مؤجلا إلا ترى أنه لا يجوز استقراضها ويجوز السلم فيها لأن القرض لا يكون إلا حالا والسلم لا يكون إلا مؤجلا فعند ذكر الأجل يثبت الثوب دينا ثبوتا صحيحا فلا

 

ج / 5 ص -73-         تجبر على قبول القيمة وعند عدم ذكر الأجل لا يثبت ثبوتا صحيحا وزفر رحمه الله تعالى يقول الثوب يثبت في الذمة موصوفا ثبوتا صحيحا لأن بالمبالغة في ذكر وصفه يلتحق بذوات الأمثال ولهذا يجوز السلم فيه واشتراط الأجل هناك من حكم السلم لا من حكم ثبوت الثياب دينا في الذمة فيستوي في هذا أن ذكر الأجل أو لم يذكر ولكنا نقول لو باع عبدا بثياب موصوفة في الذمة لا يجوز إلا مؤجلا وإن لم يكن العقد سلما فعرفنا أن الثياب لا تثبت دينا ثبوتا صحيحا إلا مؤجلا.
قال: فإن تزوجها على مكيل أو موزون فإن سمى جنسه وصفته ومقداره لم تجبر على قبول القيمة إذا أتاها بها لأن المكيل والموزون يثبت في الذمة موصوفا ثبوتا صحيحا حالا كان أو مؤجلا بدليل جواز استقراضها والسلم فيها فإن لم يذكر الصفة ففي ظاهر الرواية إذا أتاها بالقيمة أجبرت على القبول لأنها بتسمية الجنس بدون الصفة لا تثبت في الذمة ثبوتا صحيحا وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنها لا تجبر على قبول القيمة لأن التسمية متى صحت بذكر الجنس تعين الوسط من ذلك الجنس كما في العبد والثوب الهروي فما تعين من الوصف شرعا يكون كالمذكور نصا فلا تجبر على قبول القيمة.
قال: فإن تزوجها على دراهم أو شيء من العروض لا تبلغ قيمته عشرة دراهم فإنه يكمل لها عشرة دراهم عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لها ما سمى والأصل عنده أن كل ما يصلح ثمنا في البيع يصلح صداقا في النكاح وعندنا أدنى المهر عشرة دراهم من الفضة أو مما تكون الفضة فيه غالبة على الغش واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:
"المهر جائز قليله وكثيره" وفي رواية: "المهر ما تراضى عليه الأهلون". وفي رواية: "من استحل بدرهم فقد استحل".
وروى أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير فيها رغبة فقال: "مالي حاجة إلى النساء" فقالت: زوجني ممن شئت فقام رجل فقال زوجها مني فقال: "ماذا تصدقها؟" فقال أزاري هذه فقال: "آذا قعدت ولا إزار لك التمس ولو بفلس التمس ولو خاتما من حديد" فقال لا أجد فقال: "هل تحسن شيئا من القرآن؟" فقال نعم سورة كذا فقال: "زوجتكها بما عندك من القرآن".
فهذه الآثار تدل على أن المهر لا يتقدر بشيء وكذلك في الكتاب الشرط هو المال المطلق قال الله تعالى:
{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فتقييد ذلك المال بالعشرة يكون زيادة على النص وحجتنا في ذلك حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الأكفاء ولا مهر أقل من عشرة دراهم" وفي حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في أقل من عشرة دراهم ولا مهر أقل من عشرة دراهم".
وفي الكتاب قال بلغنا ذلك عن علي وابن عمر وعائشة وعامر وإبراهيم رضوان الله

 

ج / 5 ص -74-         عليهم أجمعين والمعنى فيه أنه بدل في عقد لم يجعل إيجاب أصله إلى المتعاقدين فيكون مقدرا شرعا كالدية وبيان ذلك أن النكاح لا ينعقد صحيحا إلا موجبا للعوض أما في الحال أو في الثاني على ما بينا وإنما كان اشتراط العوض فيه شرعا لا ظهار خطر البضع ولا يحصل هذا المقصود بأصل المالية فاسم المال يتناول الخطير والحقير وإنما يحصل إظهار الخطر بمال مقدر وإليه أشار الله تعالى في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] والبضع من وجه في حكم النفوس حتى لا يسقط حكم الفعل فيه بالبدل ولأن الوطء سبب لا علاق النفس وإذا كان بغير ملك يضيع لانعدام من ينفق عليه فكان الخطر هنا في معنى الخطر في النفوس والمال الذي هو بدل عن النفوس مقدر شرعا وهوالدية وهذا لأن كل مال أوجبه الشرع تولى بيان مقداره كالزكاة وغيرها فكذا الصداق مما أوجبه الشرع فيكون مقدرا شرعا وإليه أشار الله تعالى في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 50] الآية معناه ما قدرنا فإن الفرض عبارة عن التقدير.
وعلى هذا نصاب السرقة يدخله التقدير بالإتفاق لأنه يستباح به ما لا يستباح بالبدل فكذلك الصداق وتأويل الآثار المروية فيما يعجله لها باليد ألا ترى أنه أمر ذلك الرجل بالإلتماس والصداق يمكن إثباته في الذمة فعرفنا أن المراد ما يعجله لها باليد وذلك غير مقدر شرعا عندنا وإذا ثبت هذا فنقول إذا تزوجها على خمسة دراهم فلها عشرة دراهم استحسانا في قول علمائنا الثلاثة أن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل الدخول بها فلها خمسة وفي القياس لها مهر مثلها أن دخل بها والمتعة أن طلقها قبل الدخول بها وهو قول زفر رحمه الله تعالى وجه القياس أنه سمى ما لا يصلح أن يكون صداقا لها شرعا فيكون بمنزلة ما لو سمى لها خمرا أو خنزيرا وللاستحسان وجهان:
أحدهما: أن العشرة في كونها صداقا لا تتجزى وذكر بعض ما لا يتجزى كذكر كله كما لو تزوج نصفها صح النكاح في الكل جميعا.
والثاني: أن الأمهار إلى تمام العشرة حق الشرع وما زاد على ذلك حقها فإذا رضيت بالخمسة فقد أسقطت ما هو حقها وبعض ما هو حق الشرع فيعمل اسقاطها فيما هو حقها وهو الزيادة على العشرة ولا يعمل في حق الشرع وعلى هذا لو تزوجها على ثوب يساوي خمسة فلها الثوب وخمسة دراهم وإن طلقها قبل أن يدخل بها فلها نصف الثوب ودرهمان ونصف وإنما تعتبر قيمة الثوب يوم تزوجها عليه وكذلك أن سمى لها مكيلا أو موزونا لأن تقدير المهر واعتباره عند العقد.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في الثوب تعتبر قيمته يوم القبض وفي المكيل والموزون يوم العقد لأن المكيل والموزون يثبت في الذمة ثبوتا صحيحا بنفس العقد والثوب لا يثبت ثبوتا صحيحا بل يتردد بينه وبين القيمة فلهذا يعتبر قيمته وقت القبض.

 

ج / 5 ص -75-         قال: وإذا تزوجها على غير مهر مسمى ثم طلقها قبل الدخول فلها المتعة لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] إلى قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] وأدني المتعة درع وخمار وملحفة هكذا روى عن ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما أن المتعة ثلاثة أثواب لأن المرأة تصلي في ثلاثة أثواب وتخرج في ثلاثة أثواب عادة فيكون ذلك متعة لها تذكرة من الزوج إذا فارقها قبل أن يدخل بها وعند الشافعي رحمه الله تعالى المتعة شيء نفيس من ثوب أو خادم أو فرس أو نحو ذلك إلا أن يكون مهر مثلها أقل من قيمة المتعة فحينئذ يكون لها نصف مهر مثلها لا ينقص من خمسة دراهم عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لها المتعة ولا معتبر بمهر المثل لأنه سقط بالطلاق قبل الدخول فلا معنى لاعتباره بعد ذلك ولكنا نقول النكاح الذي فيه تسمية في حكم الصداق أقوى مما لا تسمية فيه فإذا كان في العقد الذي فيه التسمية لا يجب لها بالطلاق أكثر من نصف ما كان واجبا قبله فكذلك في النكاح الذي لا تسمية فيه وقد كان الواجب قبل الطلاق مهر المثل فلا تزاد المتعة على نصف مهر المثل وإن كانا سواء فالواجب هو المتعة لأنها فريضة في كتاب الله تعالى فعند المساواة تترجح المتعة.
قال: ولو تزوجها على ما في بطن جاريته أو على ما في بطن أغنامه لم تصح التسمية لأن شرط صحة التسمية كون المسمى مالا وما في البطن ليس بمال متقوم وهذا بخلاف الخلع فإنه لو خالعها على ما في بطن جاريتها صحت التسمية لأن ما في البطن بعرض أن يصير مالا بالإنفصال واحد العوضين في الخلع يحتمل الإضافة وهو الطلاق فالعوض الآخر كذلك يحتمل الإضافة فإذا سمي ما في البطن فكإنه أضاف التسمية إلى ما بعد الإنفصال وفي النكاح أحد العوضين لا يحتمل الإضافة فالعوض الآخر كذلك والمسمى في الحال ليس بمال فكان لها مهر مثلها وكذلك لو تزوجها على ما تحمل نخله أو تخرج أرضه العام أو على ما يكتسب غلامه لأن المسمى معدوم وتأثير العدم أبلغ من تأثير الجهالة فإذا كان لا يصح تسمية مجهول الجنس كالثوب والدابة فتسمية المعدوم أولى أن لا تصح.
قال: ولو تزوجها على عبد بعينه فوجدته حرا فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر قيمة ذلك الشخص أن لو كان عبدا وكذلك لو تزوجها على هذه الشاة المذبوحة فإذا هي ميتة أو تزوجها على هذا الدن من الخل فإذا هو خمر فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لها مهر مثلها وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لها مثل ذلك الدن من خل وسط.
أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول سمي لها في العقد مالا وهو العبد والذكية والخل فصحت التسمية ثم تعذر تسليم المسمى بما ظهر فتجب القيمة فيما ليس من ذوات

 

ج / 5 ص -76-         الأمثال والمثل فيما هو من ذوات الأمثال كما لو تعذر تسليم المسمى بالهلاك في يد الزوج وهذا لأنه حين ظهر حرا فقد استحق نفسه فيجعل كاستحقاق الغير إياه.
ولو تزوجها على عبد فاستحق كان لها قيمته فكذلك إذا استحق نفسه بالحرية وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الأصل أن الإشارة والتسمية إذا اجتمعتا فإن كان المشار إليه من جنس المسمى يتعلق العقد بالمشار إليه وإن كان من غير جنس المسمى يتعلق العقد بالمسمى الا ترى إنه لو اشترى فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج كان البيع باطلا لأن المشار إليه من غير جنس المسمى فيتعلق العقد بالمسمى والمسمى معدوم وبيع المعدوم باطل ولو اشترى فصا على أنه ياقوت أحمر فإذا هو ياقوت أصفر جاز البيع لأن المشار إليه من جنس المسمى فيتعلق العقد بالمشار إليه لأن الإشارة أبلغ في التعريف لأنها تقطع الشركة من كل وجه.
إذا عرفنا هذا فنقول الحر والعبد جنس واحد فإن الآدمي باعتبار الأصل حر ثم يعترض الرق فيه والأعتاق إتلاف لذلك الرق العارض فلا يوجب تبديل الجنس واختلاف الجنس إما باختلاف الأصل أو الهيثة أو المقصود وذلك لا يوجد بين الأحرار والعبيد فإذا اتحد الجنس تعلق العقد بالمشار إليه وهو الحر دون المسمى والمشار إليه ليس بمال فلا يصح تسميته بخلاف عبد الغير فإنه مال متقوم وإن كان لا يقدر على تسليمه وعلى هذه الذكية والميتة فإن الجنس واحد فيتعلق العقد بالمشار إليه.
فأما محمد رحمه الله تعالى في الخمر والخل قال هما جنسان مختلفان لأن المقصود منهما يختلف وكذلك الخل قط لا يصير في مثل حال الخمر والخمر اسم لعين حرام والخل اسم لمطعوم حلال فكانا جنسين فيتعلق العقد بالمسمى والمسمى هو الخل فلهذا كان لها مثل ذلك الدن من الخل.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الخل والخمر جنس واحد فإن الأصل واحد والهيئة واحدة وهذه أوصاف تعترض على العين فلا توجب تبديل الجنس كالصغر والكبر في الأدمى فإن الحلاوة في العصير بمنزلة الحلاوة التي تكون في الصغر ثم الشدة في الخمر بمنزلة الحدة والقوة التي تكون في الشباب ثم الحموضة في الخل بمنزلة حال الشيخوخة فكما إن بتبدل الأحوال لا يختلف جنس الآدمى فكذلك بتبدل الأحوال في العصير فإذا كان الجنس واحدا تعلق العقد بالمشار إليه والمشار إليه ليس بمال فلهذا كان لها مثلها.
قال: فإن تزوجها على أمة فولدت عنده ثم مات ولدها فليس على الزوج في الولد ضمان لأنه لم يصنع في الولد شيئا ولا يكون حاله أعلى من حال ولد المغصوبة ولكن لها الأمة أن دخل بها ولا خيار لها أن كان نقصان الولادة يسيرا كما لو تعببت في يد الزوج بعيب يسير سوى نقصان الولادة وإن كان النقصان فاحشا فلها الخيار إن شاءت أخذت الجارية ولا يضمن الزوج شيئا من النقصان وإن شاءت أخذت قيمتها يوم تزوجها عليها لأن

 

ج / 5 ص -77-         نقصان الولادة كالعيب السماوي وقد كان الولد جابرا لذلك النقصان فأما إذا مات الولد ظهر النقصان لانعدام ما يجبره وقد بينا ثبوت الخيار لها في العيب السماوي بهذه الصفة وإن كان الزوج قتل الولد ضمن لها قيمته لأنه كان أمانة في يده فيضمنه بالإتلاف فإن كان في قيمته وفاء نقصان الولادة لم يضمن نقصان الولادة لأن قيمة الولد قائمة مقام الولد فيكون جابرا للنقصان وإن لم يكن فيها وفاء فعليه تمام ذلك به أجاب في الكتاب وهو غلط فقد بين في الإبتداء أن الزوج لا يضمن نقصان الولادة عند موت الولد فكذلك لا يضمن ما زاد على قيمة الولد من قدر النقصان ولكنه إذا كان يسيرا فلا خيار لها وإن كان فاحشا فلها الخيار كما بينا.
قال: وإذا أخذت المرأة رهنا بصداقها وقيمته مثل الصداق فهلك عندها فهو كما فيه لأن دين الصداق يستوفي كسائر الديون والرهن يثبت يد الاستيفاء ويتم الاستيفاء به عند هلاك الرهن قال صلى الله عليه وسلم
"الرهن بما فيه" فصارت عند هلاك الرهن مستوفيه لصداقها بمنزلة ما لو استوفت حقيقة فإن طلقها قبل أن يدخل بها ضمنها نصف الصداق كما لو كانت استوفت حقيقة وإن كان هلاك الرهن بعد الطلاق فلا ضمان عليها في ذلك لأن بالطلاق قبل الدخول سقط نصف الصداق من غير عوض غرمه الزوج ولو سقط الكل بابرائها خرج الرهن من أن يكون مضمونا في الكل فكذلك إذا سقط النصف فإنما يبقى ضمان الرهن بما بقى وعند هلاكه إنما صارت مستوفيه لما بقي فلهذا لا تغرم له شيئا بخلاف الأول فإن عند هلاكه إنما صارت مستوفيه لما بقى فلهذا لا تغرم له شيئا بخلاف الأول فإن عند هلاك الرهن كان جميع الصداق واجبا هناك فصارت مستوفيه للكل فلهذا لزمها رد النصف بعد الطلاق.
قال: ولو لم يكن في النكاح تسمية ورهن عندها بمهر المثل رهنا صح الرهن لأن مهر المثل كالمسمى في كونه دينا واجب الاستيفاء فإن هلك الرهن وفي قيمته وفاء بمهر المثل صارت مستوفيه وإن طلقها قبل أن يدخل بها فعليها أن ترد ما زاد على قدر المتعة لأن قدر المتعة هنا كنصف المسمى هناك فعليها أن ترد ما زاد على ذلك وإن طلقها قبل الدخول بها والرهن قائم فليس لها أن تحبس الرهن بالمتعة في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر وهو القياس وفي قوله الأول وهو الاستحسان وهو قول محمد رحمه الله تعالى لها أن تحبس الرهن بالمتعة لوجهين.
أحدهما: أن المتعة بمنزلة جزء من أجزاء مهر المثل ألا ترى أن في النكاح الذي فيه التسمية ما يجب بعد الطلاق جزء مما كان فيه فكذا في النكاح الذي لا تسمية فيه وهذا لأن الطلاق مسقط فلا يصلح أن يكون موجبا فعرفنا أن ما بقي بعض ما كان واجبا قبل الطلاق والرهن بالدين يكون محبوسا بكل جزء منه.
والثاني: أن المتعة خلف عن مهر المثل لأنه يجب عند سقوط مهر المثل بالسبب الذي كان يجب به مهر المثل وهو النكاح وهذا هو حد الأصل والخلف ثم الرهن بالشيء يكون محبوسا بما هو خلف عنه كالرهن بالعين المغصوبة يكون محبوسا بقيمتها.

 

ج / 5 ص -78-         ووجه قوله الآخران المتعة دين حادث سوى مهر المثل والمحبوس بدين لا يكون محبوسا بدين آخر سواه والدليل على أنه من خلاف جنس مهر المثل فإن المتعة ثياب ومهر المثل من النقود ولأن مهر المثل قيمة بضعها والمتعة تذكرة لها ولا يلتقيان بحال فإن مهر المثل يجب في حال قيام النكاح والمتعة تجب بعد ارتفاع النكاح والدليل عليه أن الكفيل بمهر المثل لا يكون كفيلا بالمتعة فإذا ثبت إنهما دينان مختلفان لم يكن الرهن بأحدهما محبوسا بالآخر فإذا هلك الرهن في يدها قبل أن تمنعه لم يكن عليها ضمان ولكنها في قوله الأول تصير مستوفيه للمتعة وفي قوله الآخر لا تصير مستوفيه فلها أن تطالب الزوج بالمتعة وإن منعت الرهن على الزوج بعد مطالبته حتى هلك ففي قوله الأول لاضمان عليها لأنها حبسته لحق وفي قوله الآخر هي ضامنة للزوج قيمة المرهون لأنها حبسته بغير حق فصارت غاصبة ضامنة.
قال: فإن تزوجها على غير مهر مسمى ثم فرض لها بعد العقد دارا فلا شفعة للشفيع فيها لأن الفرض بعد العقد تقدير مهر المثل ومهر المثل بدل البضع فلا شفعة فيه ولهذا لو طلقها قبل الدخول بها كان عليها ان ترد الدار وترجع على الزوج بالمتعة وان كان سمى في العقد مهرا ثم باعها داره به كان للشفيع فيها الشفعة لأنها ملكت الدار شراء بالمهر ولو طلقها قبل أن يدخل بها كانت الدار سالمة لها لأن الشراء لا يبطل بالطلاق ولكنها ترد نصف المسمى على الزوج لأنها صارت مستوفيه للصداق بالشراء.
قال: ولو تزوجها على أن يشتري لها هذه الدار ويعطيها إياها مهرا أو قال أتزوجك على هذه الدار على أن أشتريها فاسلمها إليك كان لها أن تأخذه بذلك لأنه شرط لها ذلك والوفاء بالشرط واجب فإن عجز عن ذلك فعليه قيمة الدار لها وأن طلقها قبل الدخول فلها نصف القيمة لأن التسمية صحيحة فإن المسمى مال وإن كان الزوج عاجزا عن تسليمه وقت العقد لأن القدرة على تسليم الصداق لا تشترط لصحة التسمية فإن القدرة على التسليم فيما يقابل الصداق ليس بشرط لصحة العقد ولكن شرط صحة العقد فيه صفة الحل فكذا في الصداق شرط صحة التسمية صفة المالية وقد وجد فإذا تحقق عجزه عن تسليم المسمى تلزمه قيمته وهذا بخلاف الكتابة فإنه لو كاتب عبده على عبد الغير فإنه لا يجوز على الرواية التي تجوز الكتابة على العين لأن عقد الكتابة كالبيع من حيث أنه يحتمل الفسخ ولا يصح إلا بتسمية البدل فكما أن العجز عن التسليم في البيع يمنع صحة العقد فكذا في الكتابة.
قال: وإن تزوجها على دار فاستحق نصفها خيرت في النصف الباقي لأن التشقيص في الأملاك المجتمعة عيب فاحش فإن نصف الدار لا يشتري بنصف ما يشتري به جميع الدار عادة وقد بينا أن ما لا يدخل تحت تقويم المقومين فهو عيب فاحش فإن شاءت ردت النصف الباقي بالعيب ورجعت بجميع قيمة الدار وإن شاءت أمسكت ورجعت بنصف قيمة

 

ج / 5 ص -79-         الدار وإن طلقها قبل الدخول كان لها النصف الذي في يدها لأن حقها بعد الطلاق في نصف الدار ونصف الدار سالم لها فلا ترجع بشيء آخر عليه.
قال: ولو تزوجها على مهر مسمى ثم زاد فيه جازت الزيادة أن دخل بها أو مات عنها إلا على قول زفر رحمه الله تعالى أصله الزيادة في الثمن بعد العقد وهي مسألة البيوع ودليلنا لجواز الزيادة هنا قوله تعالى:
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] من بعد الفريضة معناه من فريضة بعد الفريضة ولو طلقها قبل الدخول بها بطلت الزيادة إلا في قول أبي يوسف الأول وقد بيناه.
قال: وإذا تزوجها على مهر في السر وسمع في العلانية بأكثر منه يؤخذ بالعلانية وهذا على وجهين:
إن كانا تواضعا في السر على مهر ثم تعاقدا في العلانية بأكثر منه فالمهر مهر العلانية لأن تلك المواضعة ما كانت لازمة وجعل ما عقدا عليه في العلانية بمنزلة الزيادة في مهرها إلا أن يكون أشهد عليها أو على وليها الذي زوجها منه أن المهر هو الذي في السر والعلانية سمعة فحينئذ المهر ما سمي لها في السر لأنهما في الإشهاد أظهرا أن مرادهما الهزل بالزيادة على مهر السر والهزل ببعض المسمى مانع من الوجوب إلا على قول بن أبي ليلي رحمه الله تعالى فإنه يقول كما لا يعمل الهزل في جانب المنكوحة فكذلك في جانب الصداق فيكون مهرها مهر العلانية.
فإما إذا تعاقدا في السر بألف وأشهدا أنهما يجدد أن العقد بالفين سمعة فالمهر هو الأول لأن العقد الثاني بعد الأول لغو وبالإشهاد علمنا أنهما قصدا الهزل بما سمعا فيه وإن لم يشهدا في ذلك فالذي أشار إليه في الكتاب أن المهر هو مهر العلانية ويكون هذا منه زيادة لها في المهر قالوا وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى المهر هو الأول لأن العقد الثاني لغو فما ذكر فيه من الزيادة أيضا يلغو وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أصل العقد الثاني وإن صار لغوا فما ذكر فيه من الزيادة يكون معتبرا بمنزلة من قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني فإنه لما لغي صريح كلامه عندهما لم يعتق العبد وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأن لغي صريح كلامه في حكم النسب بقي معتبرا في حق العتق قال: وإذا تزوجها على ألف درهم على أن ردت عليه عبدا فهو جائز لأنها بذلت شيئين بإزاء الألف البضع والعبد فيقسم الألف على قيمة العبد ومهر مثلها فما أصاب العبد يكون شراء حتى إذا مات العبد قبل التسليم أو وجد الزوج به عيبا فرده بطل ذلك القدر وما أصاب مهر المثل فهو صداق لها حتى إذا طلقها قبل الدخول كان لها نصف ذلك.
قال: وإن تزوجها على أبيها وقيمته ألف درهم على أن ردت عليه أمة قيمتها ألفان جاز ذلك وعتق الأب قبضته أو لم تقبضه لأن الأب مقسوم على مهر مثلها وعلى قيمة الأمة فما

 

ج / 5 ص -80-         يخص قيمة الأمة تكون مشترية له بالأمة وما يخص مهر المثل يكون صداقا لها وكلا السببين يوجب الملك بنفسه فإذا ملكت الأب عتق عليها ثم إذا طلقها قبل الدخول فعليها رد نصف ما يخص مهر المثل من قيمة أبيها لأنها صارت قابضة للأب بالعتق وحصة الصداق منه تتنصف بالطلاق وقد عجزت عن رده فعليها رد نصف قيمة ذلك.
قال: وإذا تزوجها على ألف درهم على أن ترد عليه ألف درهم فلها مهر مثلها بمنزلة ما لو لم يسم لها مهرا لأن الألف المذكورة بمقابلة الألف المشروطة عليها فإن الأموال الربوية متى قوبلت بجنسها يكون الجنس بمقابلة المثل لأن المقابلة باعتبار المالية والمالية مع القدرة لا تتفاوت فإذا صارت الألف بمقابلة الألف بقى النكاح بغير تسمية المهر فلها مهر مثلها.
قال: وإن تزوجها على ألف على أن ترد عليه مائة دينار جاز وتقسم الألف على مائة دينار وعلى مهر مثلها فما أصاب الدنانير يكون صرفا فيشترط فيه التقابض في المجلس وما يخص مهر المثل يكون صداقا فإذا طلقها قبل الدخول ردت نصف ذلك على الزوج إن كانت قبضت الألف وهذا لأن المقابلة هنا بخلاف الجنس وعند اختلاف الجنس المقابلة باعتبار القيمة لأن الجودة لها قيمة في هذه الحالة والدنانير في حكم المقابلة كالعروض ولو تفرقا قبل التقابض بطلت حصة الدنانير من الدراهم لوجود الإفتراق قبل القبض في عقد الصرف وفي هذه الوجوه إن كانت حصة مهر المثل من الألف أقل من عشرة يكمل لها عشرة كما لو تزوجها على ذلك القدر.
ولو تزوجها على ألف درهم وعلى أن يطلق امرأته فلانة وعلى أن ردت عليه عبدا فنقول المرأة بذلت شيئين البضع والعبد والزوج بذل الألف وشرط الطلاق في ضرتها فيقسم الألف على مهر مثلها وعلى قيمة العبد فإن كانا سواء صار نصف الألف ثمنا للعبد ونصف الألف صداق لها فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلها نصف ذلك وإن دخل نظر فإن كان مهر مثلها خمسمائة أو أقل فليس لها إلا ذلك وإن كان مهر مثلها أكثر من ذلك فإن وفي بالشرط بأن طلق امرأته فلانة فليس لها إلا الخمسمائة وإن أبي أن يطلق لم يجبر على ذلك لأنه شرط الطلاق وإيقاع الطلاق لا يصح التزامه في الذمة فلا يلزمه بالشرط شيء ولكن لها كمال مهر مثلها لأن لها في طلاق ضرتها منفعة فإنما رضيت بدون مهر مثلها بشرط أن تسلم لها هذه المنفعة فإذا لم تسلم كان لها كمال مهر مثلها.
قال: ولو كان تزوجها على ألف درهم وعلى طلاق فلانة على أن ردت عليه عبدا فهنا يقع الطلاق بنفس العقد بخلاف الأول لأن هناك شرط أن يطلق فما لم يطلق لم يقع وهنا أوجب الطلاق بالعقد عوضا والعوض يثبت بنفس العقد فلهذا يقع الطلاق هنا والزوج بذل شيئين الالف والطلاق والمرأة بذلت شيئين البضع والعبد والشيئان متى قوبلا بشيئين

 

ج / 5 ص -81-         ينقسم كل واحد منهما على الاخرين فإذا كان مهر المثل وقيمة العبد سواء كان نصف الالف ونصف الطلاق بمقابلة العبد ثمنا ونصف الالف ونصف الطلاق صداق لها.
فإذا طلقها قبل الدخول بها كان لها مائتان وخمسون والطلاق الواقع على الضرة بائن لأن بمقابلة الطلاق نصف العبد ونصف البضع فكان الطلاق بجعل فيكون بائنا وإن لم يكن الجعل مشروطا على المطلقة وإنما جعلنا نصف العبد ونصف البضع بمقابلة الطلاق لأن المجهول إذا ضم إلى المعلوم فالانقسام باعتبار الذات دون القيمة وإن استحق العبد أو هلك قبل التسليم رجع بحصة خمسمائة حصة العبد لما قلنا وتتنصف قيمة العبد أيضا لأن نصف العبد بمقابلة نصف الطلاق واستحقاق الجعل أو هلاكه قبل التسليم يوجب قيمته على من كان ملتزما تسليمه فلذا رجع بقيمة ذلك النصف.
قال: ولو تزوجها على ألف درهم وعلى أن يطلق فلانة فأبى أن يطلقها فلها كمال مهر مثلها عندنا لأنها إنما رضيت بالألف باعتبار منفعة طلاق الضرة فإذا لم يسلم لها ذلك فلها كمال مهر مثلها كما لو تزوجها على ألف وكرامتها أو يهدي إليها هدية وعلى قول زفر رحمه الله تعالى أن شرط لها مع الألف ما هو مال كالهدية والكرامة فكذلك الجواب وإن شرط ما ليس بمال كطلاق الضرة فليس لها إلا الألف لأن المال يتقوم بالإتلاف فكذلك يمنع التسليم إذا شرط لها في العقد فأما الطلاق ونحوه لا يتقوم بالإتلاف فكذا لا يتقوم بمنع التسليم ولكنا نقول لا نوجب الزيادة باعتبار تقوم ما شرط لها ولكن لانعدام رضاها بالألف بدون المنفعة المشروطة.
قال: ولو تزوجها على خمر أو خنزير وهما مسلمان كان لها مهر مثلها عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى النكاح فاسد لأن تسمية الخمر والخنزير يمنع وجوب عوض آخر ولا يمكن إيجاب الخمر بالعقد على المسلم فكان باطلا كما لو باع عبدا بخمر ولكنا نقول هما شرطا قبول الخمر وهو شرط فاسد إلا أن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة وشرط صحة التسمية أن يكون المسمى مالا فإذا لم يكن بطلت التسمية فكأنه لم يسم لها عوضا فلهذا كان لها مهر مثلها وهكذا نقول في البيع أنه يصير كأنه لم يسم ثمنا والبيع يفسد عند عدم تسمية الثمن.
قال: ولو تزوجها على ألف وعلى أرطال معلومة من خمر فليس لها سوى الألف لأن تسمية الخمر والسكوت عنها سواء كما قلنا وذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا تزوجها على هذا الدن من الخمر وقيمة الدن عشرة دراهم فلها الدن دون الخمر لأن الدن متقوم فيصير كأنه سمى لها الخمر مع العشرة وفي رواية أخرى أن لها مهر مثلها لأن المقصود بهذه التسمية المظروف دون الظرف والمظروف ليس بمال.
قال: ولو تزوجها على هذا الخمر فإذا هو خل أو على هذا الحر فإذا هو عبد فعلى

 

ج / 5 ص -82-         رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لها المشار إليه وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن لها مهر مثلها لأنه صرح بتسمية ما ليس بمال والأصح رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى لما بينا فيما سبق أن عنده إذا كان المشار إليه من جنس المسمى يتعلق الحكم بالمشار إليه والمشار إليه مال متقوم.
قال: ولو تزوجها على ألف درهم أن لم يكن له امرأة وعلى ألفى درهم أن كانت له امرأة أو على ألف درهم أن لم يخرجها من الكوفة وعلى ألفين أن أخرجها أو قدم شرط الألفين في الفصلين فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى المذكور أولا صحيح في الوجهين والثاني فاسد حتى إذا طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المذكور أولا وإن دخل بها فإن وفي بالشرط فلها الألف وإن لم يوف لها بالشرط فلها مهر مثلها لا يجاوز بها ألفي درهم لأنها رضيت بالألف باعتبار منفعة مشروطة فإذا لم تنل ذلك كان لها مهر مثلها ولكنها رضيت بالألفين بيقين فلهذا لا يجاوز به ألفين وإنما جوز الشرط الأول دون الثاني لأن موجب العقد مع بقائه قد تم بذكر الشرط الأول واستقر بذلك فبذكر الشرط الثاني قصد تغير موجب العقد مع بقائه فلا يكون ذلك صحيحا.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الشرطان جائزان على ما اشترطا وعند زفر رحمه الله تعالى الشرطان فاسدان فيكون لها مهر مثلها لا ينقص عن الألف ولا يزاد عن الألفين وأصل المسألة في كتاب الإجارات إذا دفع إلى خياط ثوبا وقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم وسنبينهاثمة مع نظائرها إن شاء الله تعالى.
قال: وإن تزوجها على ألف وكرامتها ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الألف لأن مهر المثل سقط بالطلاق قبل الدخول واشتراط الزيادة المجهولة إنما كان معتبرا في حال قيام العقد لا يجاب مهر المثل بقوله وقد سقط مهر المثل بالطلاق فكان لها نصف الألف كما لو لم يشترط تلك الزيادة أصلا.
قال: وإذا تزوجها على ألف درهم أو ألفين فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يحكم مهر المثل فإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل فلها الألف وأن كان ألفين أو أكثر فلها ألفان وأن كان أكثر من ألف وأقل من ألفين فلها مهر مثلها وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لها الألف في الوجوه كلها وحجتهما ذلك أن تسمية المال في النكاح منفصل عن العقد بدليل أنه لا يتوقف العقد على ذكره فكان ذلك بمنزلة التزام المال من غير عقد فإنما يجب القدر المتيقن به كمن أقر لإنسان بألف أو ألفين ولأن النكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه والتخيير بين الألف والألفين فيه لا يمنع صحة العقد فكان قياس الطلاق بمال والعتق بمال وهناك إذا سمى الألف أو الألفين يجب القدر المتيقن به ولا وجه إلى الرجوع إلى مهر المثل لأنه موجب نكاح لا تسمية فيه وبالتخيير لا تنعدم التسمية.

 

ج / 5 ص -83-         وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول النكاح عقد يستحق فيه التسليم والسلم فالتخيبر في المسمى فيه بين الأقل والأكثر يمنع صحة التسمية كالبيع بخلاف الطلاق والعتاق فإنه لا يحتاج فيه إلى التسليم والتسلم إلا أن في البيع انعدام التسمية يمنع صحة البيع فكذا جهالة المسمى بخلاف النكاح وهذا لأن هذه الجهالة كجهالة مهر المثل أو أقوى منها فإنه متردد بين أجناس مختلفة تارة وبين المقادير المختلفة تارة ومثل هذه الجهالة يمنع صحة التسمية فإذا لم تصح التسمية يصار إلى الموجب الأصلي وهو مهر المثل وبه فارق الطلاق والعتاق لأنه لا موجب لذلك العقد في الأصل حتى لا يجب شيء عند عدم ذكر البدل فلهذا أوجبنا الأقل وبخلاف الإقرار لأن المال المقر به ليس بعوض فلو عينا الأقل لا يكون فيه بخس لحق المقر له وهنا الصداق عوض عما يستحق عليها وفي تعيين الأقل بخس لحقها والنظر واجب من الجانبين فحكمنا مهر المثل لهذا.
قال: وكذا إذا تزوجها على هذا العبد الحبشي أو على هذا العبد الأبيض فهو على ما بينا من تحكيم مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ووجوب الأوكس لها عندهما إلا أن يعطي الزوج الأفضل فحينئذ يجوز ذلك لأنه تبرع عليها وهذا عندهما بمنزلة ما لو قال على أن أعطيك أيهما شئت ولو صرح بهذا كان له أن يعطيها أيهما شاء أن شرط المشيئة لنفسه وكان لها أن تأخذ أيهما شاءت أن شرط المشيئة لها ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول باشتراط الخيار لأحدهما تنعدم المنازعة بينها ويستبد من له الخيار بالتعيين فلهذا صحت التسمية وعند عدم شرط الخيار تتحقق المنازعة وليس الرجوع إلى قول أحدهما بأولى من الآخر فكانت التسمية فاسدة كما في البيع إذا باع أحد العبدين لا يجوز ولو سمى لكل واحد منهما ثمنا وشرط الخيار فيه لأحدهما جاز ولو طلقها قبل الدخول فلها نصف الأوكس وفي الفصل الأول لها نصف الألف لأن الزيادة على ذلك كانت باعتبار مهر المثل وقد سقط مهر المثل بالطلاق فلهذا كان لها نصف الأقل.
قال: وإن تزوجها على حكمه أو على حكمها أو على حكم رجل أجنبي فهذه التسمية فاسدة للجهالة وهذه الجهالة فوق جهالة مهر المثل إلا أنه أضاف الحكم إلى نفسه فإن حكم لها بمهر المثل أو أكثر جاز حكمه لأنه يحكم بالزيادة على نفسه وله هذه الولاية وإن حكم بأقل من مهر مثلها لم يجز بدون رضاها لأنه حكم عليها بإسقاط بعض حقها وليس له هذه الولاية عليها وإن أضاف الحكم إليها فإن حكمت بمهر المثل أو أقل فلها ذلك لأنها تحكم على نفسها وإن حكمت بأكثر من مهر مثلها لم يجز حكمها بدون رضا الزوج. لأنها تحكم على الزوج بالزيادة وليس لها عليه هذه الولاية وإن أضاف الحكم إلى الأجنبي فإن حكم بمهر المثل جاز ذلك وإن حكم بأقل من مهر المثل لم يجز بدون رضاها وإن حكم بأكثر من مهر المثل لم يجز بدون رضا الزوج.

 

ج / 5 ص -84-         قال: ولا يجب المهر على من قبل النكاح لغيره بوكالة أو ولاية على صغيره أو على عبده أو على مكاتبه ما لم يضمنه ولها المهر على الزوج لحديث علي رضي الله عنه الصداق على من أخذ الساق ولأن تسليم المعقود عليه إلى الزوج فوجب البدل عليه أيضا والعاقد معبر عنه حتى لا يستغني عن إضافة العقد إليه فلا يكون ملتزما للبدل إلا أن يضمنه فيؤاخذ بالضمان حينئذ.
قال: وإذا تزوج الحربي الحربية من غير مهر أو على ميتة ثم أسلما فلا مهر لها أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فظاهر كما في الذميين على ما بينا وعندهما في الذميين إنما يجب المهر لأن الخطاب بالابتغاء بالمال شائع في دار الإسلام وأهل الذمة ملتزمون لا حكامنا في المعاملات فإما في دار الحرب الخطاب به غير شائع وهم غير ملتزمين لاحكامنا فلهذا لا شيء لها وإذا أسلما بعد ذلك فالحال حال بقاء النكاح والصداق ليس بشرط في حال بقاء النكاح.
قال: ولو تزوجها على مهر مسمى ثم أسلما أو صارا ذمة فلها ذلك المسمي لأنه صار دينا لها عليه بالتسمية في عقد صحيح فلا يزيده الإسلام إلا وكادة وأن طلقها قبل أن يدخل بها ثم أسلما فلها أن تأخذه بنصف المسمى لأن الطلاق قبل الدخول لا يسقط عنه إلا النصف فيبقى مطالبا بما زاد على ذلك ولو لم يكن سمى لها شيئا فلا متعة لها عليه لأن في حال قيام النكاح ما كان لها عليه شيء وإن أسلما فبعد الطلاق أولى.
قال: رجل تزوج امرأتين على ألف درهم فالألف بينهما على قدر مهر كل واحد منهما لأن المال الواحد إذا قوبل بشيئين مختلفين بعقد المعاوضة ينقسم على مقدار قيمتهما كما لو اشترى عبدين بألف درهم وقيمة البضع مهر المثل فإن طلق إحداهما قبل الدخول كان لها نصف حصتها من الألف فإن طلقهما كان لهما نصف الألف بينهما على قدر مهريهما فإن كانت إحداهما ممن لا يحل له بأن كانت ذات زوج أو معتدة من زوج أو محرمة عليه برضاع أو صهرية فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الألف كلها مهر التي تحل له وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تقسم الألف على قدر مهريهما فمهر التي تحل له حصتها من ذلك وحجتهما أن الألف مسمي بمقابلة البضعين وإنما التزمها الزوج عند سلامة البضعين له فإذا لم يسلم له إلا أحدهما لا يلزمه إلا حصتها من الألف كما لو خاطب امرأتين بالنكاح بألف فأجابت أحداهما دون الأخرى وكما لو اشترى عبدين فإذا أحدهما مدبر.
والدليل عليه: أن الانقسام جعل معتبرا في حق التي لا تحل له حتى لو دخل بها يلزمه مهر مثلها لا يجاوز به حصتها من الألف عليه نص في الزيادات وادعى المناقضة على أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذا وكذلك يدخل في العقد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى لا يلزمه الحد بوطئها مع العلم ومن ضرورة دخولها في العقد انقسام البدل المسمى.

 

ج / 5 ص -85-         وعندهما إنما يجب الحد لانتفاء شبهة الحل فإن العقد لا ينعقد في غير محل الحل وسقوط الحد من حكم انعقاد العقد فأما الانقسام من حكم التسمية لا من حكم انعقاد العقد كما لو أجابته إحدى المرأتين دون الآخرى.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى في ذلك وقال ضم التي لا تحل له إلى التي تحل له في عقد النكاح لغو فهو بمنزلة ضم جدار أو أسطوانة إلى المرأة في النكاح وهناك البدل المسمى كله بمقابلتها دون ما ضمه إليها فكذا هنا وبيان ذلك أن النكاح يختص بمحل الحل لأن موجبه ملك الحل وبين الحل والحرمة في المحل منافاة ففي حق المحرمة العقد مضاف إلى غير محله وانقسام البدل من حكم المعاوضة والمساواة في الدخول في العقد فإذا انعدم ذلك لا يثبت الانقسام ألا ترى أنه لو طلق امرأته ثلاثا بألف درهم كان بإزاء كل تطليقة ثلث الألف ولو كانت عنده بتطليقة واحدة فطلقها ثلاثا بألف درهم كانت الألف كلها بمقابلة الواحدة وهذا بخلاف ما إذا خاطبهما بالنكاح لأنهما استويا في الايجاب حتى لو أجابتاه صح نكاحهما جميعا فيثبت حكم انقسام البدل بالمساواة في الإيجاب.
وكذلك المدبر مع العبد فإنه مال مملوك فيدخل تحت العقد ثم يستحق نفسه بحق الحرية ولهذا لو قضى القاضي بجواز بيعه جاز فأما إذا دخل بالتي لا تحل له ففي هذا الكتاب يقول لها مهر مثلها مطلقا وهو الأصح على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وما ذكر في الزيادات فهو قولهما وبعد التسليم يقول المنع من المجاوزة بمجرد التسمية ورضاها بالقدر المسمى لا نعقاد العقد وذلك موجود في حق التي لا تحل له فإما الانقسام للاستحقاق باعتبار الدخول في العقد فالتي تحل له هي المختصة بذلك فكان جميع البدل لها وكذلك سقوط الحد على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى من حكم صورة العقد لا من حكم انعقاده وقد وجد ذلك في حق التي لا تحل له فأما انقسام البدل من حكم انعقاد العقد.
قال: رجل تزوج امرأة على عبد ودفعه إليها ثم طلقها قبل الدخول وقد جنى العبد عندها جناية فالزوج بالخيار لأن تعلق الجناية برقبته من أفحش العيوب فإنه شبيه باستحقاق نفسه وذلك مثبت الخيار للزوج فإن أخذ نصفه دفعاه أو فدياه لأنه لا يتملكه ابتداء بالطلاق ولكن يعود إليه هذا النصف إلى قديم ملكه ولم يوجد من المرأة صنع يكون اختيارا أو استهلاكا فلهذا تبقي الجناية متعلقة برقبته فيخاطب كل واحد منهما بدفع النصف أو الفداء بنصف الدية ثم لا يرجع عليها من قبل الجناية بشيء لأنه رضي بأخذ النصف مشغولا بالجناية وقد وصل إليه ذلك وإن شاء تركه وأخذ منها نصف قيمته يوم دفعه إليها لأنه تعذر عليها الرد كما قبضت وكذلك أن كانت الجناية في يد الزوج قبل القبض ثم طلقها قبل أن يدخل بها كان لها الخيار بين أن تأخذ نصف قيمته يوم تزوجها عليه وبين أخذ نصفه ثم يخاطبان بالدفع أو الفداء كما بينا وأن دخل بها الزوج والعبد في يده فإن شاءت أخذت

 

ج / 5 ص -86-         قيمته صحيحا يوم تزوجها عليه وإن شاءت أخذت العبد ثم تخاطب بالدفع أو الفداء ولا ترجع على الزوج بشيء لما قلنا والله أعلم بالصواب.

باب الخيار في النكاح
قال: وإذا تزوج الرجل امرأة واشترط فيه لأحدهما أو لهما خيار فالنكاح جائز والخيار باطل عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى النكاح باطل فمنهم من جعل هذا بناء على مسألة نكاح المكره فإن اشتراط الخيار يعدم الرضا كالإكراه ومن أصلنا أن انعدام الرضا بسبب الإكراه لا يمنع صحة النكاح ولزومه وعنده يمنع فكذلك اشتراط الخيار ولكن هذا البناء على أصله غير صحيح فإن الإكراه عنده يفسد العقد والعبارة وخيار الشرط لا يفسد ولهذا لم يصحح الطلاق والعتاق من المكره وصححهما مع اشتراط الخيار.
وحجته في المسألة أن اشتراط الخيار في معنى التوقيت إلا ترى أن ما يثبت فيه الخيار وهو البيع يتأخر حكم العقد وهو الملك إلى ما بعد مضي المدة ويصير العقد في حق ملكه كالمضاف فكذلك هنا باشتراط الخيار يصير النكاح مضافا وإضافة النكاح إلى وقت في المستقبل لا يجوز والتوقيت في النكاح يمنع صحة النكاح كما لو تزوجها شهرا وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق" والهزل واشتراط الخيار سواء لأن الهازل قاصد إلى مباشرة السبب غير راض بحكمه بل أولى فإن الهازل غير راض بالحكم أبدا وشارط الخيار غير راض بالحكم في وقت مخصوص فإذا لم يمنع الهزل تمامه فاشتراط الخيار أولى والمعنى فيه أنه قد لا يحتمل الفسخ بعد تمامه ولا يقبل خيار الشرط فاشتراط الخيار فيه لا يمنع تمامه كالطلاق والعتاق بمال وهذا لأن اشتراط الخيار لا يمنع انعقاد أصل السبب مطلقا وإنما يعدم الرضا بلزومه كما في البيع.
ومن ضرورة انعقاد النكاح صحيحا اللزوم فاشتراط الخيار فيه يكون شرطا فاسدا والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة ولا تتوقف صحته ولزومه على تمام الرضا إلا ترى أن تمام الرضا إنما يكون بعد الرؤية كما في البيع ثم عدم الرؤية لا يمنع صحة النكاح ولزومه حتى لا يثبت فيه خيار الرؤية بخلاف الإضافة إلى وقت فإنه يمنع انعقاد السبب في الحال إلا ترى أن مثله لا يصح في البيع بخلاف التوقيت فإنه يمنع انعقاد السبب فيما وراء الوقت المنصوص عليه والنكاح لا يحتمل الانعقاد في وقت دون وقت فلهذا بطل بالتوقيت.
قال: ولا يرد الرجل امرأته عن عيب بها وأن فحش عندنا ولكنه بالخيار أن شاء طلقها وأن شاء أمسكها وعند الشافعي رحمه الله تعالى يثبت له حق الرد بالعيوب الخمسة وهي الرتق والقرن والجنون والجذام والبرص فإذا ردها انفسخ العقد ولا مهر لها أن لم يكن دخل بها وأن كان دخل بها قبل العلم بالعيب فلها مهر مثلها ويرجع به على من زوجها منه وحجته في ذلك ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فلما خلا بها وجد في

 

ج / 5 ص -87-         كشحها بياضا فردها وقال "دلستموني" أو قال "دلستم علي" والرد متى ذكر عقيب العيب يكون بطريق الفسخ.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"فر من المجذوم فرارك من الأسد" وعن عمر رضي الله عنه أنه أثبت الخيار للزوج بهذه العيوب والمعنى فيه أن النكاح عقد معاوضة يحتمل الفسخ بأسباب فيثبت فيه حق الرد بعيب يخل بالمقصود كالبيع والمقصود بالنكاح طبعا قضاء الشهوة وشرعا النسل وهذه العيوب تخل بهذا المقصود أما الرتق والقرن يفوته أصلا وأما الجنون والجذام والبرص يخل به من حيث أن الطبع ينفر من صحبة مثلها وربما تعدي إلى الولد بخلاف سائر العيوب من العمى والشلل فإنه لا يخل بالمقصود واحد العوضين في هذا العقد وهو المهر عندكم يرد بالعيب الفاحش دون اليسير فكذلك العوض الآخر.
وكذلك المرأة إذا وجدت زوجها عنينا أو مجبوبا يثبت لها الخيار ولا يثبت في سائر العيوب فكذا في حق الزوج لأنهما في حكم هذا العقد سواء وإذا كان العيب الذي يخل بالمقصود في جانب الزوج يثبت له الخيار دون الذي لا يخل بالمقصود فكذلك في جانبها والزوج وإن كان متمكنا من الطلاق فهو محتاج إلى إثبات الخيار له ليسقط به المهر عن نفسه كما قلتم في الصغير إذا بلغ وقد زوجه عمه يثبت له الخيار وإن كان متمكنا من الطلاق.
وحجتنا في ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه لا ترد الحرة عن عيب وعن علي رضي الله عنه قال إذا وجد بامرأته شيئا من هذه العيوب فالنكاح لازم له أن شاء طلق وإن شاء أمسك وما روى عن عمر رضي الله عنه أنه أثبت الخيار فالمراد خيار الطلاق وكذلك ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه ردها أي ردها بالطلاق ألا ترى أنه قال:
"الحقي بأهلك" وهذا من كنايات الطلاق.
والذي قال:
"فر من المجذوم فرارك من الأسد"، قلنا نحن نمكنه من الفرار ولكن بالطلاق والمعنى فيه إن الرد بالعيب فسخ العقد بعد تمامه بلا خلل في ولاية المحل والنكاح لا يحتمل هذا النوع من الفسخ ألا ترى أنه لا يحتمل الفسخ بالإقالة وهذا لأن ملك النكاح ملك ضروري لا يظهر في حق النقل إلى الغير ولا في حق الانتقال إلى الورثة وإنما أظهره الشرع في حق الطلاق للتقصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وهذا لا يقتضي ظهوره في حق الفسخ بعد تمامه لأنه لا ضرورة فيه فكان في هذا الفسخ بمنزلة الاسقاطات كالطلاق والعتاق بخلاف الفسخ بعدم الكفاءة أو بخيار البلوغ فإنه فسخ قبل تمامه لخلل في ولاية المحل فيكون في معنى الامتناع من تمامه.
وكذلك الفسخ بخيار العتق فإنه امتناع من التزام زيادة الملك على ما نبينه في موضعه أن شاء الله تعالى ولأن هذه العيوب لا تخل بموجب العقد وهو الحل فلا يثبت خيار الفسخ كالعمى والشلل والزمانة.
فأما الاستيفاء ثمرة وفوات الثمرة لا يؤثر في عقد النكاح ألا ترى أن الاستيفاء يفوت

 

ج / 5 ص -88-         بموت أحد الزوجين ولا يوجب ذلك انفساخ النكاح حتى لا يسقط شيء من المهر وعيب الجنون والجذام فيما هو المقصود دون الموت لأن الاستيفاء هنا يتأتى ومقصود النسل يحصل وبه فارق البيع فإن هناك فوات التسليم قبل القبض يوجب انفساخ البيع فكذلك وجود العيب وكذلك أيضا هلاك المهر قبل التسليم يثبت الرجوع بقيمته فوجود العيب الفاحش به كذلك بخلاف المنكوحة ولأن وجود العيب تأثيره في انعدام تمام الرضا به والنكاح لزومه لا يعتمد تمام الرضا كما بينا في الهزل وعدم الرؤية بخلاف البيع وهذا بخلاف ما إذا وجدت المرأة زوجها مجبوبا أو عنينا لأن هناك لا يثبت لها خيار الفسخ عندنا وإنما يثبت لها حق المطالبة بالإمساك بالمعروف وذلك في إن يوفيها حقها في الجماع فإذا عجز عن ذلك تعين التسريح بالإحسان والتسريح طلاق وعندنا هنا له أن يطلقها.
ثم المعنى فيه أن هناك قد انسد عليها باب تحصيل المقصود لأنها لا تتوصل إلى ذلك من جهة غيره ما دامت تحته وهو غير محتاج إليها فلو لم يثبت لها الخيار بقيت معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة فأثبتنا لها الخيار لا زالة ظلم التعليق وهذا لا يوجد في جانبه لأنه متمكن من تحصيل مقصوده من جهة غيرها أما بملك اليمين أو بملك النكاح ومتمكن من التخلص منها بالطلاق ولا معتبر بحاجته إلى التخلص من المهر كما لو ماتت قبل الدخول لا ينفسخ العقد مع قيام حاجته إلي التخلص من المهر يوضح الفرق أن الزوج لو منع حقها في الجماع قصدا إلى الاضرار بها بالإيلاء كان موجبا للفرقة فكذلك إذا تعذر عليه أيفاء حقها بالجب والعنة والمرأة لو منعت حقه على قصد الإضرار لم يكن له به الخيار بذلك السبب فكذلك إذا تعذر عليه الاستيفاء بالرتق أو القرن.
فأما المرأة إذا وجدت بالزوج عيب الجنون أو الجذام أو البرص فليس لها أن ترده به في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعلى قول محمد لها الخيار إذا كان على حال لا تطيق المقام معه لأنه تعذر عليها الوصول إلى حقها لمعنى فيه فكان بمنزلة ما لو وجدته مجبوبا أو عنينا ولكنا نقول بهذه العيوب لا ينسد عليها باب استيفاء المقصود إنما تقل رغبتها فيه أو تتأذى بالصحبة والعشرة معه وذلك غير مثبت لها الخيار كما لو وجدته سيء الخلق أو مقطوع اليدين أو الرجلين بخلاف الجب والعنة على ما قررنا.
يوضح الفرق أن الزوج هناك ظالم في إمساكها من غير حاجة إليها وللقاضي ولاية إزالة الظلم بالطلاق وهنا الزوج غير ظالم في إمساكها مع صدق حاجته إليها وذلك لا يثبت لها الخيار وكذلك أن اشترط أحدهما على صاحبه السلامة من العمى والشلل والزمانة فوجد بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار وكذلك لو شرط الجمال والبكارة فوجدها بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار لأن فوت زيادة مشروطة بمنزلة العيب في إثبات الخيار كما في البيع وبهذا تبين أنه لا معتبر لتمام الرضا في باب النكاح فإنه لو تزوجها بشرط أنها بكر شابة جميلة

 

ج / 5 ص -89-         فوجدها ثيبا عجوزا شوهاء لها شق مائل وعقل زائل ولعاب سائل فإنه لا يثبت له الخيار وقد انعدم الرضا منه بهذه الصفة.
قال: وإذا قال الرجل للمرأة بحضرة الشهود زوجيني نفسك فقالت قد فعلت جاز النكاح ولو قال بعنى هذا الثوب بكذا فقال فعلت لايتم البيع ما لم يقل المشتري اشتريت أو قبلت وقد بينا هذا فيما سبق وإنما أعاده هنا لا يضاح الفرق بين البيع والنكاح وقد استكثر من الشواهد لذلك ثم قال وهما في القياس سواء وهكذا ذكره أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي قال إنما تركنا القياس في النكاح للسنة وهو ما حدثني أبو إسحاق الشيباني عن الحكم أن بلالا رضي الله عنه خطب إلى قوم فأبوا أن يزوجوه فقال لو لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخطب إليكم ما فعلت فقالوا قد ملكت فدل أن بهذه اللفظة بعد الخطبة ينعقد النكاح.
ثم ذكر بعد حكم توقف النكاح على الإجازة ليبين أن ذلك لا يشبه حكم الرد بالعيب لأن من توقف العقد على حقه غير راض بأصل السبب فكان أصل السبب في حقه كالمعدوم ما لم يجز.
وأما عند اشتراط الخيار أو وجود العيب فقد ظهر السبب في حقه وهو راض بأصل السبب حين باشره فلهذا تم العقد ثم بين في العقد الموقوف أن الزوج إذا كان هو الولي ففي حق الزوج يتوقف على قبوله أو رده بكلام أو فعل يدل عليه وفي حق المرأة إذا كانت ثيبا كذلك وإذا كانت بكرا فسكوتها رضاها لعلة الحياء وقد بيناه.
وذكر بن سماعة في نوادره عن محمد رحمهما الله تعالى أن البكر إذا زوجها وليان كل واحد منهما من رجل فبلغها العقدان فإن أجازت أحدهما جاز ذلك وإن أجازتهما معا بطلا للمنافاة بينهما ولو سكتت لم يكن سكوتها رضا منها بواحد منهما وروى علي بن صالح عن محمد رحمهما الله تعالى أن سكوتها بمنزلة رضاها بالعقدين فيبطل العقدان جميعا والأصح رواية بن سماعة لأنه لا يمكن أن يجعل سكوتها رضا بأحد العقدين إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر ولا رضي بهما لأن السكوت إنما يقام مقام الرضا لتصحيح العقد وفي الرضا هنا بهما أبطالهما فلهذا لا يعتبر سكوتها هنا رضى.
قال: وإذا اعتقت الأمة ولها زوج قد كان زوجها المولى منه أو تزوجته بإذن المولى فلها الخيار أن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته لما روى أن عائشة رضي الله عنها لما أعتقت بريرة قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ملكت بضعك فاختارى"، وكان زوجها مغيث يمشي خلفها ويبكي وهي تأباه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: "ألا تعجبون من شدة حبه لها وبغضها له"؟ ثم قال لها: "اتقي الله فإنه زوجك وأب ولدك"، فقالت أتأمرني فقال:" لا إنما أنا شافع" فقالت إذا لا حاجة بي إليه فاختارت نفسها وكان المعني فيه أن ملك الزوج يزداد عليها بالعتق فإن قبل العتق كان يملك عليها تطليقتين ويملك مراجعتها في قرأين

 

ج / 5 ص -90-         وعدتها حيضتان وذلك كله يزداد بالعتق وهي لا تتوصل إلى رفع هذه الزيادة إلا برفع أصل العقد فأثبت الشرع لها الخيار لهذا ولهذا لو اختارت نفسها كان فسخا لاطلاقا بمنزلة الخيار الثابت لرفع أصل العقد وفي حق من توقف على إجازته لا يكون طلاقا ولأن سبب هذا الخيار معنى في جانبها وهو ملكها أمر نفسها والفرقة متى كانت بسبب من جهة المرأة لا تكون طلاقا ويستوي أن كان الزوج حرا أو عبدا عندنا.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى أن كان زوجها عبدا فلها الخيار وأن كان زوجها حرا عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى أن كان زوجها عبدا فلها الخيار وإن كان زوجها حرا فلا خيار لها والرواة اختلفوا في زوج بريرة رضي الله تعالى عنها فروي أنه كان عبدا وروى أنه كان حرا فأصحابنا رحمهم الله تعالى أولوا ما روى أنه كان عبدا أي عند أصل العقد ولكنه كان حرا عند عتقها ولما تعارضت الروايات في صفة زوجها يجعل كأنه لم ينقل في ذلك شيء فيبقى الاعتماد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ملكت بضعك فاختاري". وفي هذا التعليل لا فرق بين أن يكون الزوج حرا أو عبدا والشافعي رحمه الله تعالى استدل بما روى أنه كان لعائشة رضي الله عنها زوجان مملوكان فأرادت عتقهما وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمرها بالبداءة بالغلام قال وإنما أمرها بذلك كيلا يثبت لها الخيار ولكنا نقول أمرها بذلك لاظهار فضيلة الرجال على النساء فإنها لو اعتقتهما معا عنده لا يثبت لها الخيار أيضا.
ومن طريق المعنى يقول بما اعترض تحقق المساواة بينهما فلا معنى لاثبات الخيار كالكتابية تحت مسلم إذا أسلمت أو المعسرة إذا أيسرت والزوج موسر والمنفية إذا أثبتت نسبها وللزوج نسب ثابت فلا خيار لها بخلاف ما إذا كان الزوج عبدا فإن بما اعترض هناك من حريتها يظهر التفاوت وتنعدم الكفاءة ولكنا نقول ثبوت الخيار لها ليس لانعدام الكفاءة فإن الكفاءة شرط لابتداء النكاح لا في البقاء ألا ترى أنه لو أعسر الزوج أو انتفي نسبه لا يثبت الخيار ولكن ثبوت الخيار لزيادة ملك الزوج عليها وفي هذا لا فرق عندنا بين أن يكون الزوج حرا أو عبدا وهذا لان الملك إنما يثبت بحسب الحل والحل في جانبها يتنصف بالرق كما يتنصف الحل في جانبه بالرق فتزوج العبد امرأتين والحر أربعا وإذا انتصف الحل برقها فإذا أعتقت ازداد الحل وبحسبته يزداد الملك على ما نبينه في بابه أن شاء الله تعالى.
وعلى هذا لو كانت مكاتبة زوجت نفسها بإذن مولاها ثم أدت فعتقت يثبت لها الخيار لزيادة الملك عليها عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لا يثبت الخيار هنا لأن ثبوت الخيار في الأمة لنفوذ العقد عليها بغير رضاها وسلامة المهر لمولاها وهذا غير موجود هنا فإن المهر لها والنكاح ما انعقد إلا برضاها وكان بن أبي ليلى يقول أن أعانها على أداء بدل الكتابة لا خيار لها وإن لم يعنها فلها الخيار ولكن الصحيح الموافق لتعليل صاحب الشرع ما بيناه.
قال: ولو كانت حرة في أصل العقد ثم صارت أمة ثم عتقت بأن ارتدت امرأة مع زوجها ولحقا بدار الحرب معا والعياذ بالله ثم سبيا معا فأعتقت الأمة فلها الخيار عند أبي يوسف رحمه

 

ج / 5 ص -91-         الله تعالى ولا خيار لها عند محمد رضي الله تعالى عنه لأن بأصل العقد يثبت عليها ملك كامل برضاها ثم انتقض الملك فإذا أعتقت عاد الملك إلى أصله كما كان فلا يثبت الخيار لها وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول بالعتق ملكت أمر نفسها وازداد ملك الزوج عليها وذلك مثبت الخيار لها شرعا ولما صارت أمة حقيقة التحقت بالتي كانت أمة في الأصل في حكم النكاح فثبت لها الخيار بالعتق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب العنين
قال: رضي الله عنه بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال يؤجل العنين سنة فإن وصل إلى امرأته فهي امرأته وإن لم يصل إليها فرق بينهما وجعلها تطليقة بائنة وجعل لها المهر كاملا وعليها العدة وبهذا أخذ علماؤنا بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا خيار لامرأة العنين أصلا لحديث امرأة رفاعة فإنها تزوجت بعبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه فلم يصل إليها فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت أن رفاعة طلقني فابت طلاقي وتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير فلم أجد منه إلا مثل هدبة ثوبي تحكى ضعف حاله في باب النساء فلم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاءت امرأة إلى علي رضي الله عنه فذكرت أن زوجها لا يصل إليها فقال ولا وقت السحر فقالت: ولا وقت السحر فقال هلكت وأهلكت ما أنا بمفرق بينكما ولأنه عاجز معذور فيكون منظرا بانظار الله تعالى ولكنا نستدل بحديث عمر رضي الله عنه وقد روى مثله عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وعن علي رضي الله عنه أنه فرق بين العنين وبين امرأته وأوجب عليه المهر كاملا.
والصحيح من الحديث الذي رووا عن علي رضي الله عنه أن تلك المرأة قالت لم يكن ذلك منه الأمرة وفي هذا لا يفرق بينهما عندنا وامرأة رفاعة بما ذكرت حكت صغر متاعه لا العنة وفي مثل هذا عندنا لا تخير ثم هو معذور ولكنه في إمساكها ظالم لأنه ينسد عليها باب قضاء الشهوة بنكاحه ولا حاجة به إليها فوجب رفع الظلم عنها ولأن مقصودها بالعقد قد فات لأن مقصودها أن تستعف به وتحصل به صفة الإحصان لنفسها وفوات المقصود بالعقد أصلا يثبت للعاقد حق رفع العقد وهي تحتاج إلى تقرير مهرها أيضا وتمام ذلك بالاتفاق يحصل بالدخول فإذا انسد عليها الباب يثبت لها الخيار إلا أن العجز قد يكون لآفة في أصل الخلقه وقد يكون لعارض وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بالمدة فلهذا يؤجل والأجل في هذا سنة كما اتفق الصحابة رضي الله عنهم الأسى.
وقد روي عن عبد الله بن نوفل رضي الله عنه قال الأجل عشرة أشهر وإنما قدرنا بالسنة لأن التأجيل لا بلاء العذر والحول حسن في ذلك قال قائلهم:
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

 

ج / 5 ص -92-         ولأن العجز عن الوصول قد يكون بعلة الرطوبة وإنما يعالج ذلك في فصل الحر واليبوسة من السنة وقد يكون لغلبة الحرارة وإنما يعالج ذلك في فصل البرد وقد يكون لغلبة اليبوسة وإنما يعالج في فصل الرطوبة فقدرنا الأجل بحول حتى يعالج نفسه فيوافقه العلاج في فصل من فصول السنة فيبرأ فإذا مضت السنة ولم يصل إليها علم أن الآفة في أصل الخلقة ولهذا قالوا يقدر بسنة شمسية أخذا بالاحتياط فربما تكون موافقة العلاج في الأيام التي يقع التفاوت فيها بين القمرية والشمسية.
وابتداء التأجيل من وقت الخصومة حتى إذا صبرت مدة ثم خاصمت فإن ادعى الزوج أنه قد وصل إليها سألها القاضي أبكر هي أم ثيب فإن قالت ثيب فالقول قول الزوج لأن الظاهر من حال الفحل أنه إذا خلا بأنثى نزى عليها وفي الدعاوي القول قول من يشهد له الظاهر وإن كانت بكرا أراها القاضي النساء فإن البكارة لا يطلع عليها الرجال والمرأة الواحدة تكفي لذلك والمثنى أحوط لأن طمأنينة القلب إلى قول المثنى أكثر فإن قلن أنها بكر فالقول قولها وكذلك أن أقر الزوج أنه لم يصل إليها ويؤجله القاضي سنة فيأمره أن يعالج نفسه في هذه المدة هكذا قال علي رضي الله عنه أفيضوا عليه الدحج والعسل ليراجع نفسه.
فإن مضت السنة وادعى الزوج أنه وصل إليها فهو على ما بينا من البكارة والثيابة فإن أراها النساء فقلن هي بكر خيرها القاضي لأن البكارة لا تبقى مع الوصول إليها فإذا خيرها القاضي فاختارت الزوج أو قامت من مجلسها أو أقامها أعوان القاضي أو قام القاضي قبل أن تختار شيئا بطل خيارها لأن هذا بمنزلة تخيير الزوج امرأته وذلك يتوقت بالمجلس فهذا مثله والتفريق كان لحقها فإذا رضيت بالإسقاط صريحا أو دلالة بتأخير الاختيار إلى أن قامت أو أقيمت يسقط حقها فلا تطالب بعد ذلك بشيء وأن اختارت الفرقة أمر القاضي الزوج بأن يطلقها فإن أبى فرق القاضي بينهما وكانت تطليقة بائنة عندنا وعند الشافعي يكون فسخا بمنزلة الرد بالعيب كما هو مذهبه فأما عندنا لمستحق على الزوج أحد الشيئين أما الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان فإذا عجز عن أحدهما تعين الآخر فإذا امتنع منه ناب القاضي منابة في التسريح والتسريح طلاق وقد روينا عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جعلها تطليقة بائنة وهذا لأن المقصود بالرجعي لا يحصل فالمقصود أزالة ظلم التعليق وفي الرجعى يستبد الزوج بالمراجعة مع أن حكم الرجعة مختص بعدة واجبة بعد حقيقة الدخول وذلك غير موجود هنا.
وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في غير الأصول أنها كما اختارت نفسها تقع الفرقة بينهما اعتبارا بالمخيرة بتخيير الزوج أو بتخيير الشرع كالمعتقة ثم لها المهر كاملا عليه لوجود التسليم المستحق بالعقد منها وعليها العدة لما استوفت كمال المهر به قضي

 

ج / 5 ص -93-         عمر وعلي رضي الله عنهم وقالا ما ذنبهن إذا جاء العجز من قبلكم وكما لا يسقط حقها بترك المرافعة زمانا فكذلك لا يسقط حقها بتأخير الخصومة بعد مضي الأجل فإن ذلك للاختيار منها لا للرضا به.
 والإنسان لا يتمكن من الخصومة في كل وقت خصوصا في هذه الحالة إلا أنه لا يحتسب على الزوج بما مضى من المدة قبل المرافعة لأن الأمر لم يكن مضيقا عليه قبل التأجيل وربما كان امتناعه من صحبتها لغرض له في ذلك سوى العجز ولكن بعد التأجيل يترك ذلك الغرض بما يلحقه من العار وضرر زوال ملكه فلهذا لا يحتسب بالمدة قبل التأجيل ويحتسب عليه بزمان حيضها وشهر رمضان لأن الصحابة رضي الله عنهم قدروا الأجل بسنة مع علمهم أنه لا يخلو عن ذلك عادة فإن مرض الزوج في المدة أو مرضت مرضا لا يستطاع جماعها فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى روايتان:
في إحدى الروايتين: إذا كان المرض أكثر من نصف الشهر لا يحتسب بمدة المرض على الزوج وأن كان دون ذلك يحتسب عليه بالقياس على أيام شهر رمضان فإنه في النهار يمتنع عليه غشيانها ثم ذلك محسوب عليه فعرفنا أن نصف الشهر وما دونه عفو.
وفي الرواية الأخرى قال إذا كانا صحيحين في شيء من السنة ولو في يوم واحد يحتسب عليه بزمان المرض وعلى قول محمد رحمه الله تعالى أن مرض أحدهما فيما دون الشهر يحتسب عليه بذلك وأن كان المرض شهرا لا يحتسب ويزاد في مدته بقدر مدة المرض وأن أحرمت بحجة الإسلام لا يحتسب على الزوج بتلك المدة لأنه لا يقدر أن يحللها إلا تري أنها لو كانت محرمة حين خاصمت لم يؤجله القاضي حتى تفرغ من الحج ولو خاصمت والزوج مظاهر منها فإن كان يقدر على العتق أجله وإن كان عاجزا عن ذلك أمهله شهرين لأنه ممنوع عن غشيانها ما لم يكفر والعاجز عن العتق كفارته بالصوم شهران فإن ظاهر منها بعد التأجيل لم يلتفت القاضي إلى ذلك واحتسب عليه تلك المدة لأنه كان متمكنا من أن لا يظاهر منها وكذلك أن كان يصل إلى غيرها من النساء أو جواريه ولا يصل إليها خيرها القاضي لأن التخيير لرفع الضرر عنها ولا يحصل ذلك بوصوله إلى غيرها بل تزداد به غيظا ولو كان غشيها مرة واحدة ثم انقطع بعد ذلك فلا خيار لها لأن ما هو مقصودها من تأكد البدل أو ثبوت صفة الإحصان قد حصل لها بالمرة.
قال: ولو وجدته مجبوبا خيرها القاضي في الحال لأن التأجيل في العنين لرجاء الوصول إليها وذلك في المجبوب لا يوجد فالمقطوع من الآلة لا ينبت فلهذا فرق بينهما في الحال وإن كان قد خلا بها فلها المهر كاملا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولها نصف المهر في قولهما لأن التيقن بعدم الوصول إليها موجود هنا وعذر الجب في الزوج أبين من عذر المرض فإذا كان مرضه يمنع صحة الخلوة فكونه مجبوبا أولى بخلاف

 

ج / 5 ص -94-         العنين فإن ذلك باطن لا يوقف على حقيقته وهذا ظاهر يشاهد فيجب إعتباره في الحكم.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هي أتت بالتسليم المستحق عليها بالعقد وحقها في البدل يتقرر بذلك وهذا لأن العقد ما انعقد لاستحقاق المجامعة به فإنه لا كون له وإنما انعقد لما وراء ذلك وقد أتت به فيتقرر حقها ثم يجب عليها العدة إما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يشكل لأنه قد تقرر جميع المهر وإما عندهما تجب العدة استحسانا وأشار في كتاب الطلاق إلا أنه لا تجب العدة عندهما وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فحيث قال لا تجب العدة أراد في مجبوب قد جف ماؤه فيكون هذا بمنزلة الصبي لا تعتبر خلوته في إيجاب العدة وحيث قال تجب العدة أراد في مجبوب له ماء يسحق فينزل فتجب العدة احتياطا وأن لم يكن دخل بها أو خلا بها فلها نصف المهر ولا عدة عليها.
ثم بعد ما فرق القاضي بينهما في الموضع الذي وجبت عليها العدة إذا جاءت بولد إلى سنتين يثبت النسب منه ولا تبطل تلك الفرقة لأن ثبوت النسب باعتبار الإنزال بالسحق وذلك غير مبطل حقها بخلاف العنين إذا فرق القاضي بينهما وهو يدعي الوصول إليها ثم جاءت بولد لا قل من سنتين يثبت النسب ويبطل التفريق لأنا حين حكمنا بثبوت النسب فقد حكمنا بوصوله إليها وكذلك لو شهد شاهدان بعد التفريق على إقرارها بالوصول إليها قبل التفريق بطل تفريق القاضي بينهما كما لو عرف القاضي إقرارها في ذلك الوقت بخلاف ما إذا أقرت بعد التفريق أنه كان وصل إليها فإن قولها في إبطال التفريق ورفع الطلاق الواقع غير مقبول لكونها متهمة في ذلك والخصي بمنزلة العنين لأن رجاء الوصول في حقه موجود لبقاء الآلة.
ولو تزوجت واحدا من هؤلاء وهي تعلم بحاله فلا خيار لها فيه لأنها صارت راضية به حين أقدمت على العقد مع علمها بحاله ولو رضيت به بعد العقد بأن قالت رضيت سقط خيارها فكذلك إذا كانت عالمة به ولا فرق في قولها رضيت بالمقام معه بين أن يكون عند السلطان أو غيره لأنه أسقاط لحقها.
قال: وليس يكون أجل العنين إلا عند قاضي مصر أو مدينة يجوز قضاؤه ولا يجوز عند من هو دون هؤلاء ومراده بهذا الإشارة إلى الفرق بين خيار المعتقة والعنين فإن ذلك لا يختص بمجلس الحكم وهو من جهتها فلم يكن طلاقا وهذا يختص بمجلس الحكم وهو لمعنى من الزوج فلهذا كان طلاقا وقد تبين بهذا اللفظ أن المصر شرط لجواز القضاء فإنه لا يجوز القضاء في غير المصر بمنزلة إقامة الجمعة أنه يختص بالمصر.
قال: ولو تزوج امرأة فوصل إليها ثم فارقها ثم تزوجها بنكاح جديد ولم يصل إليها يؤجل كما يؤجل العنين لأن النكاح الثاني غير النكاح الأول فلا يعتبر الوصول في النكاح الأول فيما يستحق في النكاح الثاني.
قال: والخنثى إذا كان يبول من مبال الرجال فهو رجل يجوز له أن يتزوج امرأة فإن لم

 

ج / 5 ص -95-         يصل إليها أجل كما يؤجل العنين لأن رجاء الوصول قائم فإن كان يبول من مبال النساء فهو امرأة فإذا تزوجت رجلا لم يعلم بحالها ثم علم بذلك بعده فلا خيار للزوج لأن الطلاق في يده وهو نظير الرتقاء وقد بيناه.
قال: ولو كانت المرأة رتقاء والزوج عنينا لم يكن لها أن تخاصمه لأنه لاحق لها في المطالبة بالجماع مع قيام المانع فيها وذكر في اختلاف زفر ويعقوب إذا زوج أمته فوجدته عنينا أن الخصومة في ذلك إلى المولى في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن المهر واجب له فهو محتاج إلى أن يؤكد حقه ولأن النسل يكون ملكا له وبكونه عنينا يفوت ذلك وعلى قول زفر رحمه الله تعالى الخيار لها لأن المقصود بالوطء قضاء الشهوة وذلك يحصل لها دون المولى فكان حق المرافعة إليها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب

باب نكاح الشغار
قال: رضي الله عنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نكاح الشغار وأصل الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام". والشغار أن يقول الرجل للرجل أزوجك أختي على أن تزوجني أختك على أن يكون مهر كل واحدة منهما نكاح الأخرى أو قالا ذلك في ابنتيهما أو أمتيهما ثم النكاح بهذه الصفة يجوز عندنا ولكل واحدة منهما مهر مثلها وعند الشافعي رضي الله عنه النكاح باطل لنهيه صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ولأنه شرط الإشراك في بضع كل واحدة منهما حين جعل النصف منه صداقا والنصف منكوحة وملك النكاح لا يحتمل الإشتراك فالإشتراك به يكون مبطلا كما إذا زوجت المرأة نفسها من رجلين.
وحجتنا في ذلك أنه سمى بمقابلة بضع كل واحدة منهما ما لا يصلح أن يكون صداقا فكأنه تزوجها على خمر أو خنزير وهذا لأنه لما لم يكن في البضع صلاحية كونه صداقا لم يتحقق الإشراك فبقى هذا شرطا فاسدا والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة كما لو شرط أن يهبها لغيره أو نحوه بخلاف ما إذا زوجت المرأة نفسها من رجلين لأنها تصلح منكوحة لكل واحد منهما فيتحقق معنى الإشراك واستدلاله بالنهي باطل لأن النهي للخلو عن المهر هكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج المرأة بالمرأة من غير مهر لكل واحدة منهما وهذا لأن الشغار هو الخلو في اللغة يقال شغر الكلب إذا رفع آحدى رجليه ليبول وبلدة شاغرة إذا كانت خالية من السلطان وإنما أراد به أن لا تخلو المرأة بالنكاح عن المهر وبه نقول وإن سمى لكل واحدة من المرأتين مهرا فلكل واحدة منهما ما سمي من المهر واشتراط أحد العقدين في الآخر غير مؤثر هنا لأنه شرط فاسد والنكاح لا يبطل بمثله.
قال: وإذا جعل مهر امرأته طلاق أخرى كان النكاح جائزا بمهر مثلها ولم يكن

 

ج / 5 ص -96-         الطلاق مهرا وكذلك أن جعل القصاص مهرا فقد وقع العفو ولها مهر مثلها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى كلما يجوز أخذ العوض عنه بالشرط يصلح أن يكون مهرا لأن المقصود تحقق المعاوضة وأصل المسألة في تعليم القرآن فإن عنده تعليم القرآن يصلح أن يكون صداقا للحديث الذي روينا في قوله زوجتكها بما معك من القرآن ولكنا نقول اشتراط صفة المالية في الصداق ثابت بالنص وهو قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وطلاق الضرة والعفو عن القصاص ليس بمال وكذلك تعليم القرآن وتأويل الحديث بحرمة ما معك من القرآن وعلى هذا الأصل قلنا إذا اعتق أمته على أن يتزوجها ويكون العتق صداقا لها فزوجت نفسها منه فلها مهر مثلها لأن الاعتاق إبطال للرق فلا يصلح أن يكون صداقا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى.
وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه جوز ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية بنت حي رضي الله عنها وتزوجها وجعل عتقها صداقا لها ولكنا نقول قد روى إنه تزوجها بمهر جديد ولو ثبت ذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصا بالنكاح بغير مهر وعلى هذا لو تزوجها على أن يخدمها سنة فإن كان الزوج عبدا صحت التسمية لتضمنها تسليم المال إليها فإن رقبة العبد مال وإن كان الزوج حرا لم تصح التسمية هكذا ذكر في الجامع الصغير ونحوه.
روى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى إنه إذا تزوجها على أن يرعى غنمها سنة يجوز استدلالا بقصة موسى مع شعيب عليهما السلام فمن أصحابنا من فرق بينهما فقال هي مأمورة بإن تعظمه وتراعى حقه وذلك ينعدم باستخدامها إياه فلهذا لم يجز أن تكون خدمتها صداقا وذلك لا يوجد في عمل الرعي ألا ترى أن الابن لا يستأجر أباه للخدمة ويستأجره لعمل آخر والأصح أن في الفصلين روايتين.
في إحدى الروايتين: لا تصح التسمية لأن المنفعة ليست بمال واشتراطها من الحر لا يتضمن تسليم المال إليها.
وفي الرواية الأخرى: تصح التسمية لأن المنفعة تأخذ حكم المالية عند العقد ولهذا لا يثبت الحيوان دينا في الذمة بمقابلتها.
فإذا لم تصح تسمية الخدمة فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لها مهر مثلها لأنه سمي مالا يصلح ان يكون صداقا لها فهو كتسمية الخمر وعند محمد رحمه الله تعالى لها قيمة خدمته لأن الخدمة متقومة عند العقد وأن لم تكن ما لا فإذا تعذر سلامتها لها تجب قيمتها كما لو تزوجها على عبد فاستحق.
ثم قد بينا الفرق بينهما إذا تزوج المرأة على طلاق ضرتها وبين ما إذا تزوجها على أن يطلق ضرتها في حكم وقوع الطلاق على الضرة فكذا إذا تزوجها على القصاص حصل العفو

 

ج / 5 ص -97-         بنفس العقد وإذا تزوجها على أن يعفو عن القصاص لم يسقط القصاص إلا بمباشرة العفو ولا يجبر على ذلك.
وكذلك إذا تزوجها على عتق أبيها عتق الأب بنفس العقد بخلاف ما إذا تزوجها على أن يعتق أباها ولها مهر مثلها لأن ما سمى صداقا من عتق الأب ليس بمال بخلاف ما إذا تزوجها على عتق أبيها عنها لأنه يتضمن تمليك رقبة الأب منها فإن العتق عنها لا يكون إلا بهذا الشرط ورقبة الأب مال يصلح أن يكون صداقا لها.
وإذا زوج ابنته من رجل على مهر مسمى على أن يزوجه الآخر ابنته على مهر مسمى فإن زوجه فلكل واحدة منهما ما سمى لها من المهر وإن لم يزوجه الآخر كان للمزوجة تمام مهر مثلها لأن رضاها بدون مهر المثل باعتبار منفعة مشروطة لأبيها ومنفعة أبيها كمنفعتها ولو شرط لها مع المسمى منفعة كان لها مهر مثلها كذا هنا والله أعلم بالصواب.

باب نكاح الإكفاء
قال: رضي الله عنه قد قدمنا بيان ما هو مقصود هذا الباب وهو اعتبار الكفاءة في النكاح وصحة عقد النكاح من كفء بمهر مثلها بمباشرتها أو بمباشرة غيرها برضاها بغير ولي واستدل على ذلك بآثار رويت.
فمنه حديث جعفر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وكان الذي ولي عقد النكاح النجاشي ومهرها عنه أربعمائة دينار.
ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير رضي الله عنه وعبد الرحمن غائب فقال أمثلي يفتات عليه في بناته فقالت عائشة رضي الله عنها أو ترغب عن المنذر لتملكن أمرها عبد الرحمن فملكها فقال ما بي رغبة عنه.
ومنه حديث عبد الرحمن بن مروان رضي الله عنه قال زوجت امرأة معنا في الدار ابنتيها فجاء أولياؤها فخاصموها إلى علي رضي الله عنه فأجاز النكاح.
ومنه حديث بحرية بنت هانئ قالت زوجت نفسي من القعقاع بن شور فخاصم أبي إلى علي رضي الله عنه فأجاز النكاح.
ولكن الحجة بهذه الأثار على الشافعي رضي الله عنه حيث يقول لا ينعقد النكاح بعبارة النساء فأما على قول محمد رحمه الله تعالى لا تقوى الحجة ببعض هذه الآثار فإنه يقول في حديث النجاشي أنه كان هو الولى لأنها كانت مسلمة في ولايته فإن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من جملة من هاجر إلى الحبشة ولأن عقد عائشة رضي الله تعالى عنها كان موقوفا على إجازة عبد الرحمن وكذلك ما أجازه على رضي الله تعالى عنه إنما أجازه بولاية السلطنة.

 

ج / 5 ص -98-         ثم استكثر من الشواهد في جواز تزويج المرأة نفسها من كفء فمن ذلك أن الولي لو عضلها فخاصمته إلى السلطان فإنه يحق على السلطان أن يأمر الولي بذلك وأن أبى أن يزوجها السلطان فإذا صنعت هي بنفسها كيف تحكم ببطلان ما صنعت وكذلك لو أن رجلا أعتق أم ولده ولها ولد ثم تزوجها من غير أن يعلم ولدها منه أما كان يجوز هذا النكاح باعتبار أن الولي هذا الولد أرأيت لو أن امرأة أعتقت أباها وهو معتوه فزوجته أما كان يجوز هذا فإذا كانت تملك أن تزوج أباها فكيف لا تملك أن تزوج نفسها واستكثر من هذا الجنس من الشواهد.
وقد ذكر في اختلاف أبي حنيفة وبن أبي ليلى ان بن أبي ليلى قال لا يجوز ذلك وأن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لا يجوز ذلك حتى يجيزه القاضي أو الولي وقد تقدم بيان ما فيه من اختلاف الروايات عنهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب نكاح الإماء والعبيد
قال: رضي الله عنه وللرجل الحر إذا لم يكن تحته حرة أن يتزوج أربعا من الإماء عندنا وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ليس للحر أن يتزوج إلا أمة واحدة والخلاف بيننا وبينه في فصول.
أحدها: أن الحر إذا لم يكن تحته حرة ولكنه قادر على طول الحرة عندنا له أن يتزوج الأمة والأولى أن لا يفعله وعنده ليس له أن يتزوج أمة لقوله تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] الآية، إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] فالله تعالى شرط لجواز نكاح الأمة عدم طول الحرة والتعليق بالشرط يقتضي الفصل بين الوجود والعدم ثم بين أن نكاح الأمة للحر لضرورة خوف الزنى على نفسه وذلك إنما يكون عند عدم طول الحرة والمعنى فيه أن في تزوج الحر الأمة تعريض ولده للرق لأن الولد جزء منه وهو تابع للأم في الرق وكما لا يجوز له أن يعرض نفسه للرق لا يجوز له أن يعرض ولده للرق من غير ضرورة.
ولهذا المعنى لا يجوز نكاح الأمة إذا كان تحته حرة فكذلك إذا كان قادرا على طول الحرة ولا يبعد أن يمتنع النكاح عليه لحق الولد ألا ترى أنه لا يتزوج المعتدة من الغير لما فيه من اشتباه نسب الولد ولأن نكاح الأمة بدل في حق الحرلان عقد النكاح عقد ازدواج وهو ينبني على المساواة في الأصل ولا مساواة بين الحر والأمة فكان نكاح الأمة في معنى البدل فكما أن وجود الأصل يمنع العدول إلى البدل فكذلك القدرة على تحصيله كالتيمم فإن وجود الماء كما يمنع التيمم فالقدرة على تحصيله بالشراء تمنع وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فإذا استطاب نكاح الأمة جاز له ذلك بظاهر الآية والمعنى فيه أن النكاح يختص بمحل الحل والأمة من جملة المحلات في حق الحر كالحر فيكون جواز نكاحها أصلا لا بدلا ولا ضرورة.

 

ج / 5 ص -99-         والدليل على أنها محللة له أنها بملك اليمين محللة له ولا يحل بملك اليمين إلا ما يحل بملك النكاح وأنها محللة للعبد أصلا بالإتفاق فكذلك الحر بل أولى لأن الحل في حق الحر أوسع منه في حق العبد حتى لا يثبت الحل للعبد بملك اليمين ويثبت للحر وهذا لأن الأنثى من بنات آدم في أصل الخلقة تحل للذكور لأن المقصود حصول النسل وذلك يتحقق بين الذكور والأناث ثم الحرمة بعد ذلك بمعاني نص عليها الشرع من الأمية والأختية ونحوهما فإذا انعدمت هذه المعاني كان الحل ثابتا باعتبار الأصل ولا معنى لاعتبار تعريض الولد للرق أيضا فإن نكاح العقيم والعجوز يجوز وفيه تضييع النسل أصلا فلان يجوز نكاح الأمة وإن كان فيه تضييع صفة الحرية للنسل أولى.
وكذلك إن تزوج أمة ثم قدر على طول الحرة أو تزوج حرة كان له أن يطأ الأمة بالنكاح بعد ذلك وفي هذا تعريض ولده للرق فبهذا تبين أن اعتماده على هذا المعنى لا يصح وكذلك دعواه أن الأمة في حكم البدل فاسد فإنها لو كانت بدلا لم يبق النكاح بينه وبينها بعد وجود الأصل كما لا يبقى حكم التيمم بعد وجود الماء.
فأما إذا كانت تحته حرة فمن أصحابنا من يقول حرمة نكاح الأمة في هذه الحالة بالنص بخلاف القياس على ما قال صلى الله عليه وسلم:
"لا تنكح الأمة على الحرة". ألا ترى أن الحرة لو كانت صغيرة أو غائبة لم يجز له أن يتزوج الأمة وأن كان هو لا يستغني بنكاحها عن الأمة ويخاف الوقوع في الزنى فعرفنا أن المانع هناك عين نكاح الحرة لا الاستغناء بنكاحها.
وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول بنكاح الحرة يثبت لنسله حق الحرية فهو بتزوج الأمة يبطل الحق الثابت وحق الحرية لا يجوز إبطاله بعد ثبوته فأما بطول الحرة لا يثبت حق الحرية لولده ومنهم من يقول أن الأمة ليست من جملة المحلات بالنكاح مضمومة إلى الحرة وهي من جملة المحلات منفردة عن الحرة لأن الحل الذي ينبني عليه عقد النكاح نعمة في جانب الرجال والنساء فكما يتنصف ذلك الحل برق الرجل حتى يتزوج العبد اثنتين والحر أربعا فكذلك يتنصف برق المرأة ولا يمكن إظهار هذا التنصيف في جانبها بنقصان العدد لأن المرأة الواحدة لا تحل إلا لواحد فظهر التنصيف باعتبار الحالة.
فأما أن يقول الأحوال ثلاثة حال ما قبل نكاح الحرة وحال ما بعده وحال المقارنة ولكن الحالة الواحدة لا تحتمل التجزي فتغلب الحرمة على الحل فتجعل محللة سابقة على الحرة ومحرمة مقترنة بالحرة أو متأخرة عنها أو في الحقيقة حالتان حالة الانضمام إلى الحرة وحالة الانفراد عنها فتجعل محللة منفردة عن الحرة ومحرمة مضمومة إلى الحرة.
فإذا كانت تحته حرة فهو بنكاح الأمة يضمها إلى الحرة فلهذا لا يصح فأما مع طول الحرة فهو بنكاح الأمة لا يضمها إلى الحرة فلهذا جاز نكاحها فأما الآية، فقد نقل عن ابن

 

ج / 5 ص -100-       عباس رضي الله عنه أن المراد حال وجود نكاح الحرة وبه نقول على أن من أصلنا أن التعليق بالشرط يقتضي وجود الحكم عند وجود الشرط ولكن لا يوجب انعدام الحكم عند انعدام الشرط لجواز أن يكون الحكم ثابتا قبل وجود الشرط لعلة أخرى.
وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله تعالى يجوز للحران يتزوج أربعا من الإماء كما يجوز له أن يتزوج أربعا من الحرائر وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى ليس للحر أن يتزوج إلا أمة واحدة لأن جواز نكاح الأمة للحر عنده لا جل الضرورة وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة فلا يجوز له أن يتزوج أكثر منها كتناول الميتة لما كان حلها لاجل الضرورة لم يجز إلا بقدر ما يسد به رمقه.
وعندنا نكاح الأمة للحر مباح مطلقا كنكاح الحرة فيجوز له أن يتزوج أربعا من الحرائر.
وعلى هذا يستوي عندنا أن كن مسلمات أو كتابيات وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية للمسلمين لأن الضرورة ترتفع عنه بنكاح الأمة المسلمة فلا يجوز له نكاح الأمة الكتابية أصلا فإن الكتابية تكون في ملك الكافر عادة وتعريض ولده لرق المسلم أهون من تعريضه لرق الكافر واستدل بقوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] معناه من الحرائر فلما جوز نكاح الكتابية بشرط أن تكون حرة فإذا كانت أمة لم تدخل تحت النص وإنما دخلت تحت قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ولأن كفرها يغلظ ببعض آثاره وهو الرق فلا يجوز نكاحها أصلا كالمجوسية.
وحجتنا في ذلك ما بينا أن الأمة الكتابية محللة للمسلم بملك اليمين فكذلك بملك النكاح كالمسلمة وهذا لأن ما لا يحل بملك النكاح لا يحل بملك اليمين كالمجوسية والدليل عليه أن الشرع سوى بين حكم النكاح والذبيحة ثم في حق حل الذبيحة الكتابية كالمسلمة أمة كانت أو حرة فكذلك في حكم النكاح.
وأما الآية فقد قيل أن المراد من قوله:
{وَالْمُحْصَنَاتُ}: العفائف من أهل الكتاب فتتناول الأمة كالحرة ولئن كان المراد الحرائر فأباحة نكاح الحرائر من أهل الكتاب لا يكون دليلا علي حرمة نكاح الإماء ولكن هذا لبيان الأولى واسم المشركة لا يتناول الكتابية لاختصاصها باسم آخر ألا ترى أن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب بقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] الآية.
قال: ولو تزوج أمة بغير إذن مولاها ثم تزوج حرة ثم أجاز مولى الأمة لم يجز لأن ثبوت ملك الحل عند الإجازة وعند الإجازة الحرة تحته فبهذه الإجازة يحصل ضم الأمة إلى الحرة وهي ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة ولأنه اعترض بعد العقد قبل الإجازة ما يمنع ابتداء العقد فيمنع الإجازة كما لو تزوج امرأة نكاحا موقوفا ثم تزوج أختها ثم إن

 

 

ج / 5 ص -101-       الأولى أجازت لم يجز أرأيت لو تزوج أم هذه الأمة أو ابنتها وهي حرة قبل أجازة مولاها ثم أجاز المولى أكان يجوز قال لا يجوز قال لا يجوز شيء من ذلك لما ذكرنا.
قال: وإذا تزوج أمة بغير إذن مولاها ثم أعتقها المولى ولم يعلم بالنكاح فإن هذا العتق إمضاء للنكاح وإجازة له لأن الأمة مخاطبة وإنما امتنع نفوذ عقدها لحق المولى فإذا سقط حق المولى نفذ العقد وكان نفوذ هذا العقد من جهتها لا من جهة المولى وما قال إنه إمضاء وإجازة توسع في الكلام فأما نفوذ العقد من جهتها ولهذا لا يثبت لها خيار العتق كما لو زوجت نفسها بعد العتق لأن خيار العتق إنما يثبت إذا ازداد الملك عليها بالعتق ولا يتحقق ذلك إذا كان نفوذ العقد ابتداء بعد العتق ولهذا كان المهر لها إن لم يكن دخل بها قبل العتق لأن الملك إنما يثبت عليها فما يقابله من البدل يكون لها.
وعن زفر رحمه الله تعالى أنه قال يبطل النكاح لأن توقفه كان على إجازة المولى فلا ينفذ من جهة غيره ولا يمكن إبقاؤه موقوفا على إجازته لسقوط حقه بالعتق فتعين فيه جهة البطلان كما لو باع مال الغير ثم إن الملك باعه من إنسان آخر بطل به البيع الأول.
ولكنا نقول ما توقف هذا العقد على إجازة المولى وإنما امتنع نفوذه لقيام حق المولى وقد سقط حق المولى بالعتق بعد العقد لزوال المانع من النفوذ وهذا بخلاف ما إذا أذن لها المولى في النكاح فإنه لا ينفذ ذلك العقد ما لم يجز لأن بالأذن لم يسقط حق المولى فلا بد من إجازة المولى أو إجازة من قام مقامه فأما بالعتق هنا سقط حق المولى وهذا بخلاف ما إذا اشترت شيئا ثم أعتقها المولى فإنه يبطل الشراء لأن ذلك الشراء انعقد موجبا الملك للمولى فلو نفذ بعد عنقها كان موجبا الملك لها وذلك لا يجوز فأما هنا النكاح انعقد موجب الحل لها وبعد العتق إنما ينفذ بهذه الصفة ولو لم يعتقها ولكنه مات فورثها ابنه.
فإن كانت تحل للابن بأن لم يمسها الأب بطل النكاح وليس للابن أن يجيزه لأنه طرأ حل نافذ على الحل الموقوف فيكون مبطلا لذلك الموقوف كما إذا طرأ ملك نافذ على ملك موقوف بأن باع ملك الغير ثم اشتراه من المالك بطل ذلك العقد ولا يملك الإجازة بعد وهذا لأن بين الملكين والحلين في المحل منافاة فنفوذ أحدهما في المحل يكون مبطلا للآخر.
وإن كانت ممن لا يحل للابن فأجاز الابن ذلك النكاح جاز عندنا لأنه قائم مقام الأب في هذه الإجازة ولم يوجد المنافي وهو طريان الحل النافذ على الحل الموقوف ولا يجوز عند زفر لأنه إنما توقف على إجازة الأب فلا ينفذ بإجازة غيره وكذلك لوباعها المولى أو وهبها أو سلمها فإن كانت تحل للمشتري والموهوب له لم ينفذ ذلك العقد بإجازتهما وإن كانت لا تحل لهما نفذ العقد بإجازتهما عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى ولو كانت تحل لمن ملكها فدخل بها الزوج بعد ما ملكها وقد أجاز ما ملكها النكاح أو لم يجز كان عليه الأقل من مهر

 

ج / 5 ص -102-       مثلها ومما سمى لها في النكاح قبل انتقال الملك لأن الدخول حصل بشبهة النكاح فسقط الحد ويجب الأقل من المسمى ومن مهر المثل ويكون ذلك لمالكها يوم وطئها لأنه إنما وجب بدلا عن المستوفى بالوطء والمستوفي بالوطء مملوك للثاني فكان البدل له.
ولو كان قد جامعها في ملك الأول ثم أجاز النكاح الآخر فإنه يجعل عليه مهر واحد للأول لأن الدخول بها في الملك الأول حصل بشبهة النكاح فيجب المهر بمقابلة المستوفى منها وذلك المستوفى مملوك للأول فكان المهر له ثم ذكر أن النكاح لا ينفذ بإجازة الثاني هنا لأنه قد فسد حين ملكها ومن أصحابنا من يقول هذا غلط لأنه لما دخل بها الزوج في ملك الأول وجب عليها العدة والمعتدة لا تحل لغير المعتد منه فهي لم تصر محللة للمالك الثاني فلا يفسد النكاح الموقوف فإذا أجازه كان صحيحا.
ولكنا نقول ما ذكره في الكتاب صحيح لأن وجوب العدة إنما يكون بعد التفريق بينهما فأما قبل التفريق فهي ليست بمعتدة فاعتراض الملك الثاني يبطل الملك الموقوف وإن كان هو ممنوعا من غشيانها وجعل هذا قياس المنع بسبب الاستبراء وذلك لا يمنع بطلان النكاح الموقوف فهذا مثله.
قال: ولو كان دخل بها في ملك الأول ثم أعتقها جاز النكاح وفي القياس عليه مهران مهر للمولى بالدخول بشبهة النكاح قبل العتق ومهر لها لنفوذ العقد عليها بعد العتق لأن ملك الحل إنما يثبت بعد العتق فلا يجوز إثباته بغير مهر ولكنه استحسن فقال لا يجب الأمهر واحد للمولى لأن وجوب المهر بالدخول إنما يكون باعتبار العقد ألا ترى أنه لو لم يسبق العقد لا يجب المهر والعقد الواحد لا يوجب إلا مهرا واحدا وإذا وجب به المهر للمولى لا يجب لها به مهر آخر.
توضيحه أن الإجازة وإن كانت بعد العتق فحكمها يستند إلى أصل العقد ألا ترى أن الشهود يشترط عند العقد لا عند الإذن فكذلك إذا أجازه في الانتهاء إنما يشترط حضرة الشهود عند العقد لا عند الإجازة وشرط الشهود اختص بملك الحل كشرط المهر فكما أن وجود الشهود عند العقد يغني عن اعتباره عند الإجازة فكذا وجوب المهر للمولى عند العقد يغني عن اعتبار مهر آخر لها عند الإجازة ولو لم يعتقها ولكنه أجاز النكاح جعل إجازته في الانتهاء كالأذن في الابتداء ولو كان أذن لها في النكاح جاز عقدها ويشترط حضرة الشهود عند العقد لا عند الإجازة.
قال: وللمولى أن يكره أمته أو عبده على النكاح أما الأمة فلان بضعها مملوك للمولى فهو إنما يعقد على ملك نفسه بتزويجها وله ولاية العقد على ملك نفسه بغير رضاها كما لو باعها والدليل عليه أن البدل يجب للمولى والنفقة تسقط عن المولى فهو فيما صنع عمل لنفسه وأما العبد فللمولى أن يزوجه من غير رضاه عندنا وليس له ذلك عند الشافعي رحمه

 

ج / 5 ص -103-       الله تعالى لأن ما تناوله النكاح من العبد غير مملوك للمولى عليه فهو في تزويجه متصرف فيما لا يملكه فلا يستبد به وهذا لأن المولى فيما لا يملكه من عبده كاجنبي آخر ألا ترى أنه لا يملك الإقرار عليه بالقصاص لأن دمه غير مملوك له ولا يملك أن يطلق امرأة العبد لأنها غير مملوكة للمولى فكذلك لا يملك تزويجه لأن محل هذا العقد غير مملوك له.
توضيحه أن تزويجه بغير رضاه لا يفيد مقصود النكاح لأن الطلاق بيد العبد فيطلقها من ساعته ولكنا نستدل بقوله تعالى:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] فإنما عقد المولى على شيء لا يقدر العبد عليه ولأنه مملوكه على الإطلاق فيملك نكاحه بغير رضاه كالأمة وهذا لأن في الأمة إنما يملك المولى العقد عليها لملكه رقبتها لا لملكه ما يملك بالنكاح فإن ولاية التزويج لا تستدعي ملك ما يملك بالنكاح ولا يثبت باعتباره ألا ترى أن الولي يزوج الصغيرة وهو لا يملك عليها ما يملك بالنكاح فثبت إن في حق الأمة إنما يملك تزويجها بملكه رقبتها لا بملكه عليها ما يملك بالنكاح وهذا موجود في جانب العبد بل أولى لأن في تزويج الأمة ينظر لنفسه وفي تزويج العبد إنما ينظر للعبد ولأن الأمهار أحد شطري العقد فيملكه المولى بملك الرقبة كتمليك البضع في جانب الأمة وما قال إنه غير مملوك للمولى فاسد من الكلام فإن العبد لا يستبد بالنكاح بالاتفاق وما لا يملكه المولى من عبده فالعبد فيه مبقي على أصل الحرية يستبد به كالإقرار بالقصاص وإيقاع الطلاق على زوجته وهنا العبد لما كان لا يستبد به عرفنا أنه مملوك للمولى عليه وموجب النكاح الحل وذلك يحصل بالنكاح إلى أن يرتفع بالطلاق والظاهر أن حشمة المولى تمنعه من إيقاع الطلاق.
قال: ولو أقر المولى بالنكاح على عبده لم يصح إقراره عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بخلاف ما لو أقر على أمته بالنكاح وقد بينا هذا فيما سبق وذكر شعيب بن أبي القاسم عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى على عكس هذا أن إقرار المولى بالنكاح على عبده صحيح وعلى أمته لا يصح لأنها فرج فلا تحل للزوج بمجرد قول المولى بغير شهود.
قال: وإذا عتقت الأمة المنكوحة فلها الخيار كما بينا فإن اختارت نفسها وقد دخل الزوج بها فالمهر المسمى واجب لسيدها لان الدخول حصل بحكم نكاح صحيح فتقرر به المسمى وإن كان لم يدخل بها فلا مهر لها ولا لسيدها لأن اختيارها نفسها فسخ للنكاح من أصله فيسقط به جميع المهر كما إذا فرق بينهما لانعدام الكفاءة فإن اختارت زوجها فالمهر لسيدها دخل بها أو لم يدخل بها لأن المسمى وجب بنفس العقد بمقابلة ما ملكه الزوج وإنما ملك ذلك على المولى فكان البدل للمولى ولو لم يعتقها كان للسيد إن يستوفي الصداق من زوجها وليس للزوج أن يمتنع من ذلك حتى يسلمها إليه لأن المولى في استحقاق صداق الأمة كالحرة في استحقاق صداق نفسها وهناك لها أن تحبس نفسها لاستيفاء صداقها فهنا أيضا للمولى أن يحبسها إذا كان الصداق حالا وإن كان الصداق مؤجلا لم يكن

 

ج / 5 ص -104-       له أن يحبسها ولا للحرة أن تحبس نفسها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على قياس المبيع لا يحبس بالثمن المؤجل.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر وإن كان الصداق مؤجلا فللمرأة أن تحبس نفسها لاستيفائه بخلاف البيع لأن تسليم النفس عليها في جميع العمر والمطالبة بالصداق ثابت لها في العمر وفي البيع استحقاق التسليم عقيب العقد وليس له حق المطالبة بالثمن في ذلك الوقت إذا كان مؤجلا فإن كان استوفى المولى صداقها أمر المولى أن يدخلها على زوجها ولكن لا يلزمه أن يبوأها معه بيتا لأن خدمتها حق المولى فلا تقع الحيلولة بينه وبين استيفاء حقه ولكنها تخدم المولى في بيته كما كانت تفعله من قبل ومتى ما وجد الزوج منها خلوة أو فراغا قضى حاجته فإن لم يدخل بها حتى قتلها مولاها فعليه رد جميع الصداق على الزوج في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن كان لم يقبض الصداق سقط جميع حقه عن الزوج وعندهما لا يسقط شيء منه وكذلك لو باعها المولي في مكان لا يقدر الزوج عليها.
وجه قولهما أن القتل موت بأجل فيتقرر به جميع الصداق كما لو قتلها غير المولى وهذا لأن بالموت تنتهي مدة النكاح فإن النكاح يعقد للعمر فبمضي مدته ينتهي العقد وانتهاء العقد موجب تقرير البدل والدليل عليه أن كل واحد منهما يرث من صاحبه حتى لو جرحها المولى ثم أعتقها فاكتسبت مالا ثم ماتت من تلك الجراحة فإن الزوج يرثها ولو مات الزوج قبلها ورثته أيضا والتوريث إنما يكون عند انتهاء النكاح بالموت وبهذا يتبين أنه لم ينفسخ النكاح بينهما وسقوط المهر من حكم انفساخ النكاح.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول من له الحق في البدل اكتسب سبب فوات المعقود عليه قبل التسليم فيسقط حقه في المطالبة بالبدل كما لو أعتقها فاختارت نفسها قبل الدخول وهذا لأن القتل موت كما قال ولكن يتضمن فوات المعقود عليه فإن كان المولى هو الذي اكتسب سببه يجعل التفويت محالا به إليه ألا ترى أن البائع لو أتلف جزء من المبيع قبل القبض يسقط حقه في حصته من الثمن ولو قتل العبد المبيع يسقط جميع الثمن وهذا لأن القتل في الحقيقة موت بأجل ولكن في حق القاتل جعل في أحكام الدنيا كأنه غير الموت حتى يجب على القاتل القصاص والكفارة والدية إن كان خطأ.
ومن ذبح شاة إنسان بغير أمره يكون ضامنا له وباعتبار موته هو محسن إلى صاحب الشاة فيما صنعه غير متلف عليه شيئا.
توضيحه إن المولي لو غيب أمته لم لم يكن له أن يطالب الزوج بصداقها فإذا أتلفها أولى أن لا يكون له أن يطالب بصداقها وهذا الكلام يتضح فيما إذا باعها في مكان لا يقدر عليه الزوج فإنه لا فرق بين هذا وبينما إذا غيبها من غير بيع.
أما الميراث فنقول هذا في الحقيقة موت ولكن جعلناه أتلافا في حق القاتل.

 

ج / 5 ص -105-       والميراث ليس للقاتل بل ذلك شيء بينها وبين الزوج وفيما بينهما هذا موت منه للنكاح.
ولو قتلت الحرة المنكوحة نفسها قبل أن يدخل بها الزوج لم يسقط مهرها عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يسقط لأن الحق في المهر لها وقد فوتت المعقود عليه قبل الدخول والتسليم فصار كما لو ارتدت قبل الدخول أو قتل المولى أمته ولكنا نقول قتلها نفسها في الأحكام كموتها ولو كانت ماتت لم يسقط مهرها وإنما قلنا ذلك لأن قتلها نفسها هدر في أحكام الدنيا إنما تؤاخذ به في الآخرة فأما في الدنيا لا يتعلق به شيء من الأحكام فهو كموتها بخلاف قتل المولى أمته فإنه معتبر في الأحكام حتى يتعلق به الكفارة إن كان خطأ والضمان إن كان عليها دين.
توضيحه: إن بعد قتلها نفسها المهر لورثتها لا لها ولم يوجد من الورثة ما كان تفويتا للمعقود عليه وقد بينا أن القتل موت في حق غير القاتل فأما المهر للمولى بعد قتل الأمة والتفويت وجد من جهته.
فإن قيل ما تقول فيما إذا كان الوارث هو الذي قتلها؟
قلنا الوارث إذا قتلها صار محروما عن الميراث ولا حق له في الميراث هنا فلهذا لا يعتبر فعله في إسقاط مهرها وهذا بخلاف ردتها لأنه معتبر في أحكام الدنيا ولأن المهر لها بعد الردة وتفويت المعقود عليه كان منها فأما الأمة إذا قتلت نفسها فعنه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى:
في إحدى الروايتين لا يسقط مهرها كالحرة إذا قتلت نفسها بل أولى لأن المهر هنا لمولاها لا لها.
وفي الأخرى يسقط مهرها كما لو ارتدت وهذا لأن فعل المملوك مضاف إلى المالك في موجبه ألا ترى أنها لو قتلت غيرها كان المولى هو المخاطب بدفعها أو فدائها فإذا قتلت نفسها جعل في الحكم كان المولى قتلها فلهذا يسقط مهرها.
قال: وإذا أراد الرجل أن يتزوج امرأة فأخبره رجل أنها حرة ولم يزوجها إياه ولكن الرجل تزوجها على أنها حرة فإذا هي أمة وقد ولدت له ضمن الزوج قيمة الولد لأنه مغرور وولد المغرور حر بالقيمة به قضى عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما وهذا لأنه لم يرض برق مائه ولكن كما يعتبر حقه يعتبر حق المستحق فيكون الولد حرا بالقيمة نظرا من الجانبين ولا يرجع الزوج على المخبر بشيء لأنه ما التزم له شيئا وإنما أخبره بخبر كان كاذبا فيه وذلك لا يثبت حق الرجوع عليه كما لو أخبره أن الطريق آمن فسلك فيه فأخذ اللصوص متاعه ولكنه يرجع بقيمة الولد على الأمة إذا أعتقت لأنها غرته حين زوجته نفسها على أنها حرة وضمان الغرر كضمان الكفالة فإنها ضمنت له سلامة الولد بما ذكرت من الحرية في العقد وضمان الكفالة يجب على الأمة بعد العتق ويضمن الزوج العقر للمولى ولا يرجع به على أحد لأنه

 

ج / 5 ص -106-       عوض ما استوفى منها والمستوفي كان مملوكا للمولى وهو الذي نال اللذة باستيفائه.
قال: وإذا تزوجت المستسعاة في بعض قيمتها ثم أدت السعاية فعتقت خيرت في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن المستسعاة كالمكاتبة عنده وقد بينا أن المكاتبة إذا أعتقت وقد كانت زوجت نفسها خيرت.
قال: ولا يجوز نكاح الأمة في عدة حرة من فرقة أو طلاق بائن أو ثلاث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويجوز في قول أبي يوسف ومحمد وبن أبي ليلى رحمهم الله تعالى ولو كانت معتدة من طلاق رجعي لم يجز نكاح الأمة في عدتها بالاتفاق فهم يقولون المحرم نكاح الأمة على الحرة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأمة على الحرة" والتزوج عليها إنما يتحقق إذا كان ملكه باقيا عليها وذلك بعد الطلاق الرجعي أو قبل الطلاق فأما بعد الفرقة لم يبق بينه وبينها نكاح فلا يكون متزوجا عليها كما لو كانت الحرة تعتد منه من نكاح فاسد أو وطء بشبهة فتزوج أمة يجوز.
والدليل على صحة هذا لو قال لامرأته إن تزوجت عليك امرأة فهي طالق فتزوج امرأة بعد ما أبانها لم تطلق بخلاف ما لو تزوجها بعد الطلاق الرجعي أو قبله فثبت أنه غير متزوج عليها بعد ما أبانها وهذا بخلاف المنع من نكاح الأخت في عدة الأخت لأن المحرم هناك الجمع فإذا تزوجها في عدتها صار جامعا بينهما في حقوق النكاح وهذا المنع ليس لأجل الجمع فإنه لو تزوج الأمة ثم الحرة صح نكاحها ولكن المنع من تزوج الأمة على الحرة لما فيه من إدخال ناقصة الحال في مزاحمة كاملة الحال وهذا لا يوجد بعد البينونة.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المنع من نكاح الأمة ثبت بنكاح الحرة وكل منع ثبت بسبب النكاح يبقى ببقاء العدة كالمنع من نكاح الأخت والأربع وهذا لأن العدة حق من حقوق النكاح وحق الشيء كنفس ذلك الشيء في إبقاء الحرمة ونكاح الأمة إنما لا يجوز بعد الحرة لأنها محرمة في هذه الحالة فتبقى تلك الحرمة ببقاء عدتها فإنها محرمة مضمومة إلى الحرة وفي هذا نوع ضم في فراش النكاح.
فأما إذا كانت الحرة تعتد من نكاح فاسد فقد قيل إن ذلك قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز وبعد التسليم يقول هناك المنع لم يكن ثابتا بالنكاح الفاسد حتى يقال يبقى ذلك ببقاء العدة وأما مسألة اليمين قلنا في الإيمان المعتبر العرف وفي العرف لا يسمى متزوجا عليها بعد البينونة فلهذا لا تطلق فأما في ألفاظ الشرع المعتبر المعني ومعني الحرمة باق ببقاء العدة وكذلك لو تزوج مدبرة أو مكاتبة أو أم ولد في عدة حرة لأن الرق في هؤلاء باق وحكمهن في النكاح حكم الأمة القنة.
قال: رجل تزوج خمس حرائر وأربع إماء في عقدة واحدة جاز نكاح الإماء دون الحرائر لأن نكاح الحرائر لو انفرد عن نكاح الإماء لم يصح هنا فإنهن خمس لا يمكن

 

ج / 5 ص -107-       تصحيح نكاحهن وليس بعضهن بأولى من البعض فيلغو ضمهن إلى الإماء ويبقى المعتبر نكاح الإماء وهن أربع يجوز نكاحهن للحر عندنا فلهذا جاز نكاح الإماء.
وكذلك إن تزوج حرة وأمة في عقدة واحدة وللحرة زوج لأن نكاح المنكوحة باطل وهذا هو الأصل أنه متى كان لا يصح نكاح الحرة وحدها فضمها إلى الأمة وجودا وعدما سواء فإما إذا كان يصح نكاح الحرة وحدها يتحقق ضم الحرة إلى الأمة فيبطل نكاح الأمة ويجوز نكاح الحرة عندنا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا يجوز لأن العقد واحد فإذا بطل بعضه بطل كله كما لو جمع بين أختين ولكنا نقول نكاح الحرة أقوى من نكاح الأمة ألا ترى أنه يصح تقدم أو تأخر والضعيف لا يدفع القوي ولكنه يندفع به بخلاف الأختين فإنهما مستويتان فيندفع نكاح كل واحدة منهما بالأخرى.
توضيحه إن الأمة من المحرمات مضمومة إلى الحرة والحرة من المحللات فصار هو جامعا بين محرمة ومحللة فيجوز العقد في المحللة دون المحرمة.
قال: وإذا زوج مدبرته أو أمته أو أم ولده وبوأها مع الزوج بيتا ثم بدا له أن يردها إلى خدمته كان له ذلك لأن خدمتها حق المولى وهو بالتبوئة يصير كالمعير لها من زوجها فكان له أن يستردها متى شاء وكذلك لو كان شرط ذلك للزوج كان الشرط باطلا لا يمنعه من أن يستخدم أمته لأن المستحق للزوج بالنكاح ملك الحل لا غير فاشتراطه شيئا آخر غير ملزم إياه لأنه لا يمكن إلزامه بطريق الاستجبار فإن المدة غير معلومة ولا بطريق الإعارة فإن الإعارة لا يتعلق بها اللزوم.
قال: ولو تزوجها على أنها حرة ثم علم بعد ذلك أنها أمة قد أذن المولى لها في النكاح فهي امرأته إن شاء أمسك وإن شاء طلق لأن ظهور رقها نوع عيب وقد بينا أن العيب لا يثبت الخيار للزوج غير أن ما ولد له من ولد فيما مضى وما كان في بطنها فهو حر لأجل الغرور وعلى الأب قيمة الولد يوم يختصمون لأن الولد في يده بصفة الأمانة ما لم يخاصم فإنه لا يكون أعلى حالا من ولد المغصوبة وولد المغصوبة أمانة ما لم يطالب بالرد فكذلك ولد المغرور حتى إذا مات قبل الخصومة فلا ضمان على الأب فيه ولكنه إنما يصير مانعا للولد بعد الطلب وذلك عند الخصومة فلهذا تعتبر قيمته وقت الخصومة وهذا إذا تبين أنها أمة أو مدبرة وكذلك إذا تبين أنها أم ولد.
في ظاهر الرواية وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا تجب قيمة الولد هنا لأن ولد أم الولد كأمه لا قيمة لرقه حتى لا يضمن بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فكذلك بالمنع بعد الطلب.
وجه ظاهر الرواية أن الولد إنما يصير كأمه إذا ثبت فيه حق أمية الولد وذلك بعد ثبوت الرق فيه وهنا علق الولد حر الأصل فلم يثبت فيه حق أمية الولد.

 

ج / 5 ص -108-       ولو تبين أنها مكاتبة ففي ظاهر الرواية الجواب كذلك.
وروي الحسن عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله تعالى أنه لا يضمن قيمة الولد هنا لأنه لو ضمن إنما يضمن لها وهي إنما تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وولدها ففي حرية ولدها يحصل بعض مقصودها فلا يجب الضمان ولأنه لو رجع لرجع عليها بما ضمن لأن الغرور كان منها فلا يكون مفيدا شيئا.
وجه ظاهر الرواية أن السبب الموجب لضمان قيمة ولد الغرور وقد تقرر هنا ورجوعه عليها يكون بعد العتق وهي تستوجب الضمان عليه للحال فكان مفيدا وإنما يرجع على الأمة والمدبرة وأم الولد والمكاتبة بقيمة الولد يعد العتق لما بينا إن ضمان الغرور كضمان الكفالة وضمان الكفالة في حق هؤلاء مؤخر إلى ما بعد العتق.
قال: ولو مات الولد وترك مالا فماله لأبيه بحكم الإرث ولا ضمان على الأب فيه لما بينا أن المنع بعد الطلب لم يتحقق منه.
ولو قتل الولد يأخذ الأب ديته وكان عليه قيمته لأنه سلم له بدل نفسه وحكم البدل كحكم المبدل فيتحقق به المنع بعد الطلب فلهذا كان عليه قيمته وكذلك لو ضرب إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا كان على الضارب خمسمائة درهم بدل الجنين الحر لأنه علق حر الأصل وعلى الأب نصف عشر قيمته للمولى إن كان ذكر عشر قيمتها إن كانت أنثى لأن حق المستحق في جنين الأمة فلا يغرم له الأب إلا بدل جنين الأمة وإن سلم له بدل جنين الحرة كما لو قتل بعد الانفصال.
قال: ولو مات الأب وبقي الولد أخذ المولى قيمته من تركة الأب ولا يرجع بها بقية الورثة في حصة الولد لأن المنع قد تحقق وذلك موجب ضمان القيمة على الأب فيستوفي من تركته بعد موته وقضاء دين الأب لا يكون على بعض الورثة دون البعض فلهذا لا يرجعون في حصته وإن لم يترك الأب شيئا لم يؤخذ الولد بشيء كما لا يؤخذ بسائر ديون الأب وكذلك الجواب إن كان مولى الجارية عما للولد لأن عتق الغلام هنا ليس باعتبار القرابة بل بالغرور فإنه علق حر الأصل والعتق بالقرابة إنما يكون بعد ثبوت الملك للعم فيه فلهذا كان العم فيه وغيره في هذا سواء.
قال: وإن كانت تزوجت بغير إذن المولى أخذها المولى وعقرها والجواب في قيمة الولد على ما بينا وإن كان الذي غره غير الأمة بأن زوجها منه حر على أنها حرة فهذا وما تقدم سواء إلا إن الأب يرجع بقيمة الولد على المزوج في الحال لأن ضمان الغرور كضمان الكفالة والحر يؤاخذ بضمان الكفالة في الحال وإن كان الذي غره فيها عبدا أو مدبرا أو مكاتبا فلا رجوع له عليهم حتى يعتقوا سواء كان العبد مأذونا أو لم يكن لأن المأذون إنما يؤاخذ بضمان التجارة في الحال لا بضمان الكفالة فيتأخر إلى عتقهم إلا أن يكون المولى

 

ج / 5 ص -109-       أمر العبد أو المدبر بذلك فحينئذ يؤاخذ به في الحال لأن كفالة العبد بإذن المولى موجب للضمان عليه في الحال فأما المكاتب لا يؤاخذ به حتى يعتق سواء فعله بإذن المولى أو بغير إذنه لأن المولى ليس له حق التصرف في كسبه فلا يعتبر إذنه فيه وإن كان المتزوج المغرور عبدا أو مدبرا أو مكاتبا بأن تزوج أحد من هؤلاء بإذن المولى امرأة على أنها حرة فولدت له ثم ظهر أنها أمة فالولد رقيق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله تعالى نص على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في كتاب الدعوى وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى الولد حر بقيمته على الأب إذا عتق ويرجع بذلك على الذي غره وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن السبب الموجب للحرية الغرور واشتراط الحرية فيها عند النكاح وهذا يتحقق من الرقيق كما يتحقق من الحر وكما يحتاج الحر إلى حرية الولد فالمملوك محتاج إلى ذلك بل حاجته أظهر لأنه ربما يتطرق به إلى حرية نفسه توضيحه أنه لا معتبر برق الزوج وحريته في رق الولد بل المعتبر فيه جانب الأم ألا ترى أن الحر إذا تزوج أمة وهو يعلم بحالها كان ولده رقيقا فإذا كان المعتبر رق الأم وقد سقط اعتبار رقها في حق الولد عند اشتراط الحرية إذا كان الزوج حرا فكذلك إذا كان الزوج عبدا لأن ما شرط من الحرية يجعل كالمتحقق في حرية الولد فأما أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهم الله تعالى قالا هذا الولد مخلوق من ماء رقيقين فيكون رقيقا وهذا لأن الولد متفرع من الأصل فإنما يتفرع بصفة الأصل وإذا كان الأصلان رقيقين لا تثبت الحرية للولد من غير عتق وأما إذا كان الزوج حرا فقد ثبت حرية الولد هناك باتفاق الصحابة رضي الله عنهم بخلاف القياس وهذا ليس في معنى ذاك لأن ماء الرجل هناك بصفته حر فإنه جزء منه وإنما يصير رقيقا باتصاله برحم الأمة فتأثير الغرور في المنع من ثبوت الرق في مائة بالاتصال برحم الأمة وهنا ماء العبد رقيق كنفسه فالحاجة إلى إثبات الحرية لمائة وما يصلح لا بقاء ما كان على ما كان لا يصلح لإيجاب ما لم يكن يوضحه إن الحاجة هناك إلى الترجيح عند التعارض لأن اعتبار جانب مائه يوجب حرية الولد واعتبار جانب مائها يوجب رق الولد فجعلنا الغرور دليلا مرجحا وهنا الحاجة إلى إثبات الحرية دون الترجيح وما يصلح مرجحا لا يصلح موجبا توضيحه أن هناك ثبت حرية الولد بضمان قيمته على الأب في الحال فيندفع الضرر به عنه وهنا لو ثبتت حرية الولد إنما تثبت بضمان قيمته بعد العتق فيتضرر به المستحق في الحال فإذا ثبت أن هذا ليس في معنى المنصوص وجب الرجوع فيه إلى الأصل فكان الولد رقيقا بمنزلة أمه ثم على قول محمد رحمه الله تعالى إن كان التزوج من هؤلاء بإذن السيد فعليهم قيمة الولد والمهر في الحال وإن كان بغير إذن السيد فعليهم قيمة الولد والمهر بعد العتق لأن كل دين وجب على المملوك بسبب مأذون من جهة المولى يؤاخذ به في الحال وكل دين وجب عليه بسبب غير مأذون فيه فإنما يؤاخذ به بعد العتق.

 

ج / 5 ص -110-       قال: وإذا تزوجها وهو يعلم أنها أمة أو تزوجها وهو يحسب أنها حرة ولم يغره فيها أحد فأولاده أرقاء لأن هذا ظن منه والظن لا يغنى من الحق شيئا ولأن الموجب لحرية الولد الغرور ولم يتحقق الغرور هنا ولو كانت أمة بين رجلين زوجها أحدهما من رجل ودخل الزوج بها فللآخر أن يبطل النكاح لأن المزوج لا يملك إلا نصفها وملك نصف الأمة ليس بسبب لولاية التزويج فلم ينفذ عقده عليها وقد تناول عقده نصيب الشريك فكان له أن يفسخ عقده دفعا للضرر عن نفسه وقد سقط الحد عن الزوج لشبهة النكاح فيجب المهر عليه إلا أن في نصيب المزوج يجب الأقل من نصف المسمى ومن نصف مهر مثلها لأنه راض بالمسمى ورضاه صحيح في نصيب نفسه فأما في نصيب الشريك يجب نصف مهر المثل بالغا ما بلغ لأنه لم يرض بسقوط شيء من حقه وإن كان إبطال النكاح قبل الدخول فلا مهر لواحد منهما سواء خلا بها الزوج أو لم يخل لأن الخلوة إنما تعتبر في النكاح الصحيح وهذا العقد لم يكن صحيحا فلا تعتبر الخلوة فيه.
قال: وإذا زوج أمة ابنه الصغير فذلك جائز وكذلك الوصي إذا زوج أمة اليتيم وكذلك المكاتب إذا زوج أمته وكذلك المفاوض إذا زوج أمة من الشركة لأن تزويج الأمة من عقود الاكتساب فإنه يكتسب به المهر ويسقط به نفقتها عنه وهؤلاء الأربعة يملكون الاكتساب أما المكاتب فهو منفك الحجر عنه في اكتساب المال وأما الأب والوصي فإنهما أمرا بالنظر للصغير وعقد اكتساب المال من النظر وأما المفاوض فإن المتفاوضين إنما عقدا المفاوضة لاكتساب المال ولا يملك هؤلاء تزويج العبد لأنه ليس فيه اكتساب المال بل فيه تعييب العبد وشغل ذمته بالمهر والنفقة من غير منفعة لهم في ذلك.
قال: ولو زوج الأب أو الوصي أمة الصبي من عبده لا يجوز ذلك أيضا نص عليه في المأذون وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يجوز لأنه لا ضرر فيه على الصبي فإن المهر لا يجب بهذا العقد ونفقتهما عليه بعد النكاح كما كانا قبله وفيه منفعة للصبي من حيث النسل فيجوز ذلك من الأب والوصي كانزاء الفحل من مال الصبي على أبانه ووجه ظاهر الرواية أن في هذا تعييبا لهما لأن النكاح عيب في العبيد وإلا ماء جميعا ومنفعة النسل موهومة والمنفعة الموهومة لا تكون جائزة للضرر المتحقق فلهذا لا يصح هذا العقد منهما وأما العبد المأذون أو المضارب أو الشريك شركة عنان إذا زوج واحد منهما الأمة لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يجوز لأنه عقد اكتساب المال وهؤلاء يملكون ذلك ولأن المستوفي بالوطء في الحقيقة منفعة ولهذا سمي الله تعالى المهر أجرا وهؤلاء يملكون الإجارة فكذلك يملكون التزويج وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا المأذون إنما كان منفك الحجر عنه في التجارة والتزويج ليس من جملة التجارة فإن التجار لا يعتادون اكتساب المال بتزويج الإماء.

 

ج / 5 ص -111-       والدليل عليه أن المرأة لو زوجت نفسها من رجل بعبد ونوت التجارة عند العقد لا يصير العبد به للتجارة ولو كان النكاح من التجارة لصار العبد به للتجارة فإن نية التجارة متى اقترنت بعمل التجارة يصير للتجارة وإذا لم يكن النكاح من التجارة فلا يملكه هؤلاء كالكتابة وبه فارق الأربعة التي تقدمت فإن أولئك يملكون الكتابة فعرفنا أن تصرفهم غير مقصور على التجارة وهؤلاء الثلاثة لا يملكون الكتابة فعرفنا ان تصرفهم مقصور على التجارة ولا شك أن هؤلاء الثلاثة لا يزوجون العبد لأن تزويج العبد ليس من الاكتساب ولا من التجارة.
قال: وإذا تزوج الحر أمة ابنه جاز النكاح عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمة الله تعالى وقيل هذا بناء على الأصل الذي تقدم أن عنده لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا عند عدم طول الحرة وعلى الابن أن يعف أباه فيستغنى به عن نكاح الأمة ولكن هذا ليس بصحيح فإنه لو تزوج أمة غيره صح النكاح إذا لم يكن في ملكه ما يتزوج به الحرة والأصح أن هذه مسألة مبتدأة فوجه قوله إن للأب حق الملك في مال ولده حتى لو وطيء جارية ابنه مع علمه بحرمتها لا يلزمه الحد فلا يجوز له أن يتزوجها كالمولى إذا تزوج أمة من كسب مكاتبه بل أولى لأن حق الملك في مال ولده أظهر ألا ترى أن استيلاده في جارية الابن صحيح واستيلاد المولى أمة مكاتبه لا يصح توضيحه أن الولد كسبه قال صلى الله عليه وسلم:
"إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" فجارية الابن كسب كسبه فلا يملك التزوج كأمة عبده ولكنا نقول ليس له في جارية ولده ملك ولا حق ملك فيجوز له أن يتزوجها كأمة أبيه وأخيه وإنما قلنا ذلك لأنه يحل للابن أن يطأ جاريته بالاتفاق ولو كان لأبيه فيها حق الملك لم يحل له وطؤها كالمكاتب فإنه لا يحل له أن يطأ أمته لما كان للمولى فيها حق الملك فأما سقوط الحد فليس لقيام حق الملك له في الجارية ولكن لظاهر الإضافة في قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" وهذا الظاهر وإن كان لم يكن معمولا به في إيجاب ملك أو حق ملك له فيها يصير شبهة في إسقاط الحد كالبيع بشرط الخيار لا يوجب الملك ولا حق الملك للمشتري ثم يسقط الحد به وكذلك العقد الفاسد من نكاح أو بيع قبل القبض والولد وإن كان كسبا له فهو كسب حر فلا يثبت له حق الملك في كسبه بمنزلة مال المعتق لا حق للمعتق فيه وإن كان المعتق كسبا له لأنه كسب حر فأما صحة الاستيلاد ليس باعتبار حق الملك له فيها بل بولاية التملك عند الحاجة وتقرر حاجته إلى صيانة مائة كيلا يضيع نسله فإن تزوجها فولدت له ولدا كان الولد حرا لأن الولد يتبع الأم في الملك فمولى الجارية هنا ملك أخاه فيعتق عليه بالقرابة ولا تصير الجارية أم ولد له عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى تصير أم ولد له وكذا إذا استولدها بنكاح فاسد أو وطء بشبهة عندنا لا تصير أم ولد له خلافا لزفر رحمه الله تعالى وحجته إنه لو استولدها بفجور صارت أم ولد له فإذا استولدها بنكاح أو بشبهة نكاح أولى أن تصير أم ولد له ولكنا نقول إذا استولدها بغير شبهة فهناك يصير

 

ج / 5 ص -112-       متملكا لحاجته إلى ذلك كيلا يضيع ماؤه فإن إثبات النسب غير ممكن بدون التملك لأنه ليس له فيها ملك ولا حق ملك فإذا تملكها سابقا على الاستيلاد كان الاستيلاد في ملك نفسه فلهذا صارت أم ولد له وهنا غير محتاج إلى تملكها لإثبات النسب بل النكاح أو شبهة النكاح يكفي لذلك فلم يصر متملكا لها فلهذا لا تصير أم ولد له.
قال: ولو كان الابن هو الذي تزوج أمة أبيه بتزويج الأب إياها منه جاز النكاح فإذا ولدت فالولد حر لأن الأب ملك الابن أمته ولا تصير الجارية أم ولد له لأنه لا ملك له فيها وإن كان الابن وطئها بغير نكاح أو شبهة نكاح لم يثبت نسبه منه وإن ادعاه لأنه ليس له حق التملك في جارية أبيه ولكن لأحد عليه إن قال ظننت أنها تحل لي وإن قال علمت إنها علي حرام فعليه الحد لأن عند الظن اشتبه عليه ما يشتبه فيسقط الحد به وعند العلم بالحرمة لا شبهة له في المحل حقيقة ولا صورة ولم يشتبه عليه أمر ها فلزمه الحد وإن صدقه الأب في أنه وطئها وأن الولد منه عتق الولد بإقراره لأنه إذا ملك ابنه من الزنى عتق عليه فكذلك إذا ملك بن ابنه من الزنى ولكن لا يثبت النسب لما بينا بخلاف الأب إذا كان هو الذي استولد جارية ابنه فإنه لا حاجة إلى تصديق الولد لأن الأب له ولاية تملك جارية الابن فإنما يكون مستولدا لها في ملك نفسه ولهذا ضمن قيمتها لابنه وليس للابن هذه الولاية في جارية أبيه فلهذا لا يعتق الولد إلا إذا صدقه الأب فيه.
قال: ولا يتزوج العبد أكثر من اثنتين وقال مالك رحمه الله تعالى له أن يتزوج أربعا لأن الرق لا يؤثر في مالكية النكاح حتى لا يخرج من أن يكون أهلا لملك النكاح ومالا يؤثر فيه الرق فالعبد والحر فيه سواء كملك الطلاق وملك الدم في الإقرار بالعقود ومذهبنا مروي عن عمر رضي الله عنه قال لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين ولأن الرق مؤثر في تنصيف ما كان متعددا في نفسه كالجلدات في الحدود وعدد الطلاق وإقراء العدة وهذا لأن ملك النكاح مبنى على الحل الذي يصير به أهلا للنكاح وذلك الحل يتسع بزيادة الفضيلة ويتضيق بنقصان الحال ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا باباحة تسع نسوة لفضيلة النبوة التي اختص بها فكان الحل في حقه متسعا لتسع نسوة ولا يجوز لأحد غيره أكثر من أربع نسوة فكذلك يتسع الحل لفضيلة الحرية فيتزوج الحر أربعا ولا يتزوج العبد إلا اثنتين يوضحه أن الرق ينصف الحل ألا ترى أن في جانب الأمة يتنصف حلها بالرق حتى إن ما ينبني على الحل وهو القسم يكون حالها فيه على النصف من حال الحرة وكذلك ما يجب على المستوفي لهذا الحل بغير طريقه وهو الحل يتنصف بالرق حتى يجب على العبد بالزنى خمسون جلدة وعلى الحر مائة جلدة وإذا ثبت أن الحل يتنصف بالرق وعليه ينبني عدد المنكوحات فقلنا حال العبد فيه على النصف من حال الحر فيتزوج اثنتان الحرتان والأمتان في ذلك سواء والشافعي رحمه الله تعالى هنا لا يخالفنا لأن في حق العبد نكاح الأمة أصل وليس ببدل إذ

 

ج / 5 ص -113-       ليس فيه تعريض شيء للرق فإنه رقيق بجميع أجزائه فلهذا جوز له نكاح الأمتين وعلى هذا الأصل يقول الشافعي رضي الله تعالى عنه للعبد أن يتزوج أمة على حرة ولكنا نقول لا يجوز لأن الأمة ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة في حق الحر فكذلك في حق العبد والمدبر والمكاتب وبن أم الولد في هذا كالعبد لأن الرق المنصف للحل فيهم قائم.
قال: ولا يجوز للعبد أن يتزوج بغير إذن مولاه عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى يجوز لأن الرق لم يؤثر في مالكية النكاح فيستبد العبد به كالطلاق وأصحابنا رحمهم الله تعالى استدلوا بظاهر قوله تعالى:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] والنكاح شيء فلا يملكه العبد بنفسه ومذهبنا مروي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر والمعنى فيه أن في النكاح تعييبه وفيه شغل ماليته بالمهر والنفقة وما ليته ملك مولاه فلا يملك شغل ذلك بتصرفه بغير إذن المولى يوضحه أنه لو باع رقبته أو رهنه بمال لم يجز وإن كان منفعة ذلك ترجع إلى المولى فإذا تزوج ولا منفعة في عقده للمولى أولى أن لا يجوز وكذلك المدبر وبن أم الولد والمكاتب لا يتزوج أحد من هؤلاء بغير إذن المولى لأن الرق الموجب للحجر فيهم فإن إذن المولى لهم في ذلك جاز العقد فإن المولى لو باشر تزويجهم جاز فكذلك إذا أذن لهم فيه إلا أن في المكاتب يحتاج إلى رضاه إذا باشره المولى فإن أذن له المولى فباشره المكاتب يجوز أيضا وهذا بخلاف تزويج الأمة فإن المكاتب يزوج أمته بغير رضا المولى لأن أمته غير مملوكة للمولى وتزويجها من عقود الاكتساب فيملكه المكاتب فأما تزويجه لنفسه ليس من عقود الاكتساب ورقبته مملوكة للمولى وعلى هذا لو أن المكاتبة زوجت أمتها جاز ذلك ولو تزوجت بنفسها لم يجز إلا بإذن المولى لقيام ملك المولى في رقبتها.
قال: ولو تزوج العبد بغير إذن مولاه فأجازه جاز لأن الإجازة في الانتهاء كإذنه في الابتداء فإن طلقها العبد ثلاثا بعد إجازة المولى طلقت ثلاثا ولم يجز للعبد أن يتزوج حتى تنكح زوجا غيره لأن النكاح لما صح كان العبد في إيقاع الطلاق عليها كالحر ولو طلقها ثلاثا قبل إجازة المولى النكاح لم يقع النكاح ولكن يكون هذا متاركة للنكاح لأن وقوع الطلاق يختص بنكاح صحيح ونكاحه بغير إذن المولى لم يكن صحيحا فلا يقع الطلاق ولكن إيقاع الطلاق يؤثر في إزالة الحل عن المحل وإيقاع الفرقة إذا كان صحيحا فإذا لم يكن النكاح نكاحا صحيحا فلا يؤثر في هذين الحكمين ولكن يؤثر في رفع الشبهة حتى لو وطئها قبل الطلاق لا يلزمه الحد ولو وطئها بعد الطلاق يلزمه الحد وإن لم يجز المولى ذلك العقد ولكن أذن له أن يتزوجها ابتداء فلا بأس بأن يتزوجها لأن حرمة المحل بوقوع التطليقات على المحل ولم يقع هنا فلا بأس بأن يتزوجها كالصبي والمجنون إذا طلق امرأته ثلاثا لا يثبت به حرمة المحل ولأن النكاح لما لم يصح كان هذا طلاقا قبل النكاح وقال عليه الصلاة والسلام

 

ج / 5 ص -114-       "لا طلاق قبل النكاح" ولو أجاز المولى ذلك النكاح فأجازته باطلة لأن الإجازة إنما تعمل في حال توقف العقد وقد ارتفع العقد بما أوقعه العبد لأنه يستبد بالطلاق لو أوقعه في نكاح صحيح ارتفع النكاح فإذا أوقعه في العقد الموقوف أولى أن يرتفع العقد به فإن أذن له أن يتزوجها بعد هذا كرهت له أن يتزوجها ولو فعل لم يفرق بينهما في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكره ذلك وجه قوله ظاهر فإن الطلاق غير واقع على المحل وحرمة المحل باعتبار وقوع الطلاق ولأن إجازة المولى للعقد باطل فوجوده كعدمه ولو لم يجز العقد كان له أن يتزوجها بإذنه فكذلك بعد إجازته وجه قولهما إن الطلاق تصرف ينبني على النكاح وإجازة العقود يتضمن إجازة ما ينبني عليه فاعتبار هذا المعني يوجب نفوذ الطلاق وحرمة المحل فجعلناه معتبرا في الكراهة وإن لم يكن معتبرا في حقيقة حرمة المحل ولكن هذا على أصل محمد رحمه الله تعالى غير صحيح فإن عنده المشتري من الغاصب إذا أعتق ثم أجاز المولى لا ينفذ عتقه وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما يصح هذا إن لو كان الطلاق يتوقف على أجازة المولى وقد بينا أن طلاق العبد لا يتوقف على إجازة المولى لكن الوجه فيه أن نقول الإجازة في الانتهاء كالأذن في الابتداء والأذن في الابتداء لو كان موجودا تثبت به حرمة المحل حقيقة فكذلك بوجود صورة الإجازة في الانتهاء تثبت الكراهة توضيحه أن العبد أهل للنكاح في حق نفسه ولهذا لو أعتق قبل إجازة المولى نفذ نكاحه فاعتبار هذا الجانب يوجب نفوذ طلاقه واعتبار جانب حق المولى يمنع نفوذ طلاقه فلتعارض الأدلة قلنا لا تثبت الحرمة حقيقة ولكن تثبت صفة الكراهة احتياطا لأنه إن ترك نكاح امرأة تحل له كان خيرا له من أن يتزوج امرأة لا تحل له.
قال: وإذا تزوج العبد حرة بغير إذن مولاها ثم أعتقه المولى جاز النكاح لأنه مخاطب له قول ملزم وإنما امتنع نفوذ نكاحه لحق مولاه فإذا أسقط المولى حقه بالعتق فينفذ النكاح لزوال المانع وكذلك لو باعه فأجاز المشتري لأن المشتري قام مقام البائع في ملكه رقبته فكذلك في إجازة عقده وهذا لأنه ماطرأ بالبيع حل نافذ على الحل الموقوف فإن العبد لا يحل للمشتري فلهذا كانت إجازته كإجازة البائع وعند زفر رحمه الله تعالى لا ينفذ بإجازة المشتري وقد بينا هذا وكذلك لو أجاز وارثه بعد موته.
قال: ولو أذن لعبده في النكاح لم يملك أن يتزوج إلا امرأة واحدة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى له أن يتزوج اثنتين وهذا بناء على الأصل الذي تقدم بيانه أن النكاح مملوك للمولى على عبده عندنا حتى يزوجه من غير رضاه فيكون العبد فيه نائبا عن مولاه فهو كالحر يأمر غيره أن يزوجه فلا يزوجه بمطلق الوكالة إلا امرأة واحدة وعندهما النكاح غير مملوك للمولى على عبده ولكن العبد هو المالك له إلا أنه لا ينفذ منه بدون إذن المولى لأن ضرره يتعدى إلى حق المولى فإذا أذن المولى له في ذلك فقد رضي بالتزام هذا الضرر وأسقط حق

 

ج / 5 ص -115-       نفسه فكان للعبد أن يتزوج اثنتين ولو تزوج امرأتين في عقدة لا يجوز نكاح واحدة منهما إلا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول فإنه يقول يجوز نكاح إحداهما والبيان فيه إلى العبد بمنزلة من وكل وكيلا أن يزوجه امرأة فزوجه امرأتين عنده يصح نكاح إحداهما والخيار إلى الزوج وقد تقدم بيان هذه المسألة فإن قال المولى عنيت نكاح امرأتين جاز نكاحهما لأنه لو أجاز نكاح امرأتين جاز فكذلك إذا قال نويت ذلك عند الأذن لأن المنوي من محتملات لفظه وهو غير متهم في هذا البيان.
قال: وإذا أذن له أن يتزوج واحدة فتزوجها نكاحا فاسدا ودخل بها أخذ بالمهر في حالة الرق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يؤخذ به حتى يعتق وأصل المسألة أن عندهما إذن المولى لعبده في النكاح ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد لأن مقصوده تحصيل العفة به للعبد وذلك إنما يحصل بالعقد الصحيح دون الفاسد واستدلالا بما لو حلف أن لا يتزوج ينصرف يمينه إلى العقد الصحيح دون الفاسد فعرفنا به أن الفاسد ليس بنكاح فلا يتناوله إذن المولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الفساد والصحة صفة العقد والإذن من المولى في أصل العقد فلا يتقيد بصفة دون صفة كالإذن في البيع والشراء للوكيل أو للعبد يتناول الفاسد والصحيح جميعا وهذا لأن بعض المقاصد يثبت بالعقد الفاسد نحو النسب والمهر والعدة عند الدخول وهذا لو حلف أنه ما تزوج في الماضي وقد كان تزوج فاسدا أو صحيحا كان حانثا في يمينه وفي المستقبل إنما حملناه على العقد الصحيح لدلالة العرف فإن الإيمان تنبني على العرف فأما هنا اعتبار إذن المولى لدفع الضرر عنه وذلك يعم العقد الصحيح والفاسد إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا دخل بها بالنكاح الفاسد فقد لزمه المهر بسبب كان مأذونا فيه من جهة المولى فيؤاخذ به في الحال وعندهما أذن المولى لا يتناول العقد الفاسد فإنما لزمه المهر بسبب غير مأذون فيه من جهة المولى فيتأخر إلى ما بعد العتق وعلى هذا لو تزوجها نكاحا صحيحا بعد هذا يجوز عندهما لأن حكم إذن المولى ما انتهى بالعقد الفاسد فيكون مباشرا العقد الثاني بإذنه وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يصح العقد الثاني لأن حكم إذن المولى انتهى بالعقد الأول فيحتاج في العقد الثاني إلى إذن جديد.
قال: وإذا تزوج العبد بغير إذن مولاه ودخل بها ثم أجاز المولى ذلك النكاح فعليه مهر واحد وهو الذي سماه لها استحسانا لأن الإجازة في الانتهاء كالأذن في الابتداء وفي القياس عليه مهران مهر المثل بالدخول والمسمى بنفوذ العقد بالإجازة وقد بينا نظير هذا في جانب الأمة فهو كذلك في العبد وعلى هذا لو أعتقه المولى حتى نفذ العقد بعد عتقه.
قال: وإذا تزوج المكاتب بغير إذن السيد أو العبد أو المدبر ودخل بها ثم فرق بينهما السيد فلا مهر عليه حتى يعتق لأن النكاح في حق المكاتب ليس من عقود التجارة ولا من اكتساب

 

ج / 5 ص -116-       المال والمهر عند الدخول إنما يجب بسبب ذلك العقد فإذا لم يكن عقد الكتابة متنا ولا ذلك العقد يتأخر المال الواجب بسببه إلى ما بعد العتق وهذا بخلاف جناية المكاتب فإن موجبه في كسبه يثبت في الحال لأن وجوب ذلك باعتبار الفعل والرق لا يؤثر في الحجر عن الأفعال وأما وجوب المهر هنا باعتبار العقد لأن الدخول بدون العقد غير موجب للمهر ولأنها راضية بهذا الدخول فلهذا يتأخر الواجب إلى ما بعد العتق بمنزلة المال الواجب عليه بسبب الكفالة.
قال: وإذا زوج الرجل عبده أمته بشهود فهو جائز ولا مهر لها عليه لأن المهر لو وجب كان للمولى وإنما يجب في مالية العبد وماليته مملوكة للمولى فلا فائدة في وجوبه أصلا وقد بينا أن على طريق بعض أصحابنا يجب ابتداء لحق الشرع ثم يسقط لقيام ملك المولى في رقبة الزوج فإن كان العبد نصرانيا أذن له مولاه في التزوج فأقامت عليه امرأة نصرانية شاهدين من النصارى أنه تزوجها وهو جاحد أجزت ذلك عليه لأن الخصم هو العبد ألا ترى أنه لو أقر بهذا النكاح ثبت بإقراره فكذلك يثبت بشهادة النصارى عليه لأنه نصراني ألا ترى إنهم لو شهدوا عليه ببيع أو شراء وهو مأذون له في التجارة كانت الشهادة مقبولة فكذلك بالنكاح فإن قيل النكاح مملوك للمولي على العبد فهذه الشهادة إنما تقوم على المولى وهو مسلم قلنا أصل العقد مملوك للمولى عليه ولكن حكمه وهو ملك الحل يثبت للعبد والشهود إنما يشهدون لها بذلك على العبد فلهذا اعتبرنا فيه دين العبد وقلنا لو كان المولى كافرا والعبد مسلما لم تجز شهادتهما لأنها تقوم على العبد وهو مسلم وشهادة الكافر ليس بحجة على المسلم.
قال: ولا يحل للعبد أن يتسرى وإن أذن له مولاه عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى يحل لأن ملك المتعة يثبت بطريقين إما عقد النكاح أو التسري فإذا كان العبد أهلا لملك المتعة بأحد الطريقين وهو النكاح فكذلك بالطريق الآخر بل أولى لأن ملك المتعة الذي يثبت بالنكاح أقوى مما يثبت بملك اليمين وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5، 6] وهذه ليست بزوجة له ولا مملوكة له وعن بن عمر رضي الله عنه قال لا يحل فرج مملوكه إلا لمن إذا أعتق أو وهب جاز والعبد لا يجوز عتقه ولا هبته فلا يحل الفرج له بملك اليمين وهذا لأن العبد مملوك مالا فلا يجوز أن يكون مالكا للمال لما بين المالكية والمملوكية من المنافاة وملك المتعة لا يثبت إلا بثبوت سببه فإذا كان سببه وهو ملك الرقبة لا يثبت في حق العبد فكذلك حكمه بخلاف النكاح ولأن العبد ليس بأهل لملك المال قبل إذن المولى ولا تأثير للإذن في جعل من ليس بأهل أهلا وإنما تأثير إذن المولى في إسقاط حقه عند قيام أهلية العبد فكان ينبغي أن لا يجعل العبد أهلا لملك المتعة أصلا لأن بين المالكية والمملوكية منافاة ولكن الشرع جعله أهلا لملك المتعة بسبب النكاح لضرورة حاجته إلى قضاء الشهوة وإبقاء النسل وهذه الضرورة ترتفع بثبوت الحل له بالنكاح فلا حاجة هنا إلى أن نجعله أهلا لملك المتعة بسبب ملك الرقبة

 

ج / 5 ص -117-       وكذلك المدبر والمكاتب والمستسعي في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى كالمكاتب.
قال: ولو أن عبدا بين رجلين زوجه أحدهما بغير إذن الآخر لم يجز لما بينا أن ولاية النكاح إنما تستفاد بملك رقبة العبد وكل واحد منهما غير مالك لما يسمى عبدا.
قال: ولا يحل للعبد أن يتزوج مولاته ولا امرأة لها في رقبته شقص عندنا وعلى قول نفاة القياس رضي الله عنهم يجوز وكذلك الحر إذا تزوج أمته أو أمة له فيها شقص فهو على هذا الخلاف واستدلوا بظاهر قوله تعالى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وبقوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية فإنما خاطب الله تعالى الموالي بإنكاح الإماء لا بنكاحهن ولأن العبد إذا تزوج بمولاته فهي تستوجب عليه النفقة بالنكاح وهو يستوجب عليها النفقة بملك اليمين فيتقاصان ويموتان جوعا وفي هذا من الفساد ما لا يخفي والحر إذا تزوج أمته فهذا العقد غير مفيد لأن موجب النكاح ملك الحل ومحل الحل ثابت له تبعا لملك الرقبة ولأن النكاح إنما شرع في الأصل لضرورة الحاجة إليه وعند ملكه رقبتها لا حاجة فلم يكن مشروعا أصلا ثم قيام الملك في شقص منها ينزل منزلة قيام الملك في جميعها في حرمة النكاح احتياطا وإن كان لا ينزل منزلة ذلك في حل الوطء وعلى هذا لو تزوج مكاتبته فالنكاح باطل لقيام الملك له في رقبتها وإن كان هو ممنوعا من وطئها بسبب الكتابة فإن وطئها كان لها المهر بمنزلة مالو وطئها قبل النكاح وهذا لأن الحد يسقط للشبهة فيجب المهر وهي بعقد الكتابة صارت أحق بنفسها ومكاسبها والمستوفي بالوطء في حكم جزء من عينها ولو قطع المولى يدها كان الإرش لها فكذلك إذا وطئها ألا ترى أن الواطئ لو كان غير المولى كان المهر لها فإن عتقت بعد هذا النكاح لم يجز ذلك النكاح لأنه تعين فيه جهة البطلان لملكه رقبتها فلا ينقلب صحيحا وإن زال ذلك الملك وكذلك أن تزوج المكاتب مولاته ودخل بها فعليه المهر لسقوط الحد بشبهة النكاح ولا يجوز النكاح وإن عتق لما قلنا وإن تزوج المكاتب أو العبد بنت مولاه بإذنه جاز النكاح لأنه لا ملك لها في رقبته ولا حق ملك ما دام الأب حيا فإن مات المولى فسد نكاح العبد لأنها ملكت رقبة زوجها إرثا وملكها رقبة الزوج لو اقترن بالنكاح منع صحة النكاح فإذا طرأ على النكاح يرفع النكاح أيضا لأن المنافي يؤثر سواء كان طارئا أو مقارنا فأما نكاح المكاتب لا يفسد بموت المولى عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يفسد وهو بناء على أن رقبة المكاتب لا تورث عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى تورث.
وأصل المسألة أن المشغول بحاجة المورث لا يملكه الوارث عندنا كالتركة المستغرقة بالدين والمكاتب أيضا مشغول بحاجته وعند الشافعي رحمه الله تعالى كل ما كان مملوكا للمورث فإذا لم يخرج بموته من أن يكون مملوكا للمورث يصير مملوكا لوارثه وحجته على سبيل الابتداء في هذه المسألة إنها لو تزوجت به ابتداء بعد موت المولى لا يصح النكاح فكذا

 

ج / 5 ص -118-       لا يبقى النكاح كما في العبد وتقريره أن الوارث خلافة ورقبة المكاتب كانت مملوكة للمولى فيخلفه وارثه فيه بعد الموت ألا ترى أنه لو عجز كان مملوكا للوارث وعجزه ليس بموجب ملك الرقبة للوارث ابتداء فعرفنا أنه كان مالكا قبل ذلك وحجتنا في ذلك أن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك فكذلك لا يملك بالإرث كالمدبر والدليل عليه أنه لو أدى بدل الكتابة كان ولاؤه للمولى وإنما يثبت الولاء لمن يعتق على ملكه فتبين بهذا أنه باق على ملك المولى لحاجته إلى ذلك واستحقاقه ولاءه بعقد الكتابة ولهذا يملك بعد العجز لأن المانع حق المولى وقد زال فيكون ذلك السبب عاملا في إيجاب الملك بعد زوال المانع وأما إذا تزوجت به ابتداء بعد موت المولي إنما لا يجوز لأنه ثبت لها حق أن تتملك رقبته عند زوال المانع وحق الملك يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع بقاءه ولهذا لو اشترى المكاتب امرأة مولاه لا يفسد النكاح ولو تزوج أمة مكاتبه لا يجوز وكذلك لو اشترى المكاتب امرأة نفسه لا يفسد النكاح ولو تزوجها ابتداء لم يصح وكذلك لو كفل رجل عن المكاتب بمال لابن مولاه فهو جائز فإن مات أبوه كانت الكفالة على حالها ولو كفل له بمال مستقبل عنه بعد موت أبيه لم يجز ومن غير هذا الباب العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء والإباق يمنع ابتداء البيع ولا يمنع البقاء فالقياس في هذا كثير وإذا ثبت بقاء النكاح قلنا إن أعتق المكاتب فهي امرأته لأنه بالعتق ازداد بعدا عنها وإن عجز ورد في الرق بطل النكاح ولا مهر لها إن لم يكن دخل بها لأن بطلان النكاح يقرر المنافي وذلك إذا وجد قبل الدخول أبطل النكاح من الأصل فلا يوجب شيئا من المهر كالمحرمية وإن كان قد دخل بها فلها المهر في رقبته يبطل منه بقدر حصتها لأنها ملكت بعض رقبته والمولى لا يستوجب على مملوكه دينا.
قال: رجل تزوج أمة رجل ثم اشترى بعضها قبل أن يدخل بها أو ملكها بوجه من الوجوه فسد النكاح لتقرر المنافي وهو ملكه جزء من رقبتها ولا مهر عليه إن لم يكن دخل بها وإن كان قد دخل بها فعليه المهر لمولاها وقد انتقض النكاح لملكه جزءا من رقبتها وإن أتي العبد المرأة الحرة فأخبرها إنه حر فتزوجها على ذلك ثم علمت أنه عبد قد أذن له مولاه في التزوج فهي بالخيار إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته لأنه غرها ولأنها ما رضيت أن يستفرشها مملوك ولأنه ليس بكفء لها وقد بينا إنه إذا كتم نسبه ثم ظهر إن نسبه المكتوم دون ما أظهره يكون لها الخيار فإذا أظهر الحرية وتبين الرق لأن يثبت لها الخيار كان أولى فإن اختارت الفرقة لا تكون هذه الفرقة إلا عند القاضي بمنزلة الرد بالعيب والفسخ بعدم الكفاءة لا يثبت إلا بقضاء القاضي ولا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها لأنه فسخ لأصل النكاح بينهما.
قال: عبد تزوج امرأة بإذن مولاه ولم يخبرها إنه حر أو عبد ثم علمت أنه عبد فإن كان أولياء المرأة زوجوها منه برضاها فلا خيار لهم ولا لها لأن مباشرة الأولياء العقد يكون مسقطا حقهم في طلب الكفاءة والزوج ما شرط لها من نفسه شيئا فات عليها ذلك إنما ظنت أنه حر

 

ج / 5 ص -119-       وظنها لا يلزم الزوج شيئا فلهذا لا خيار لها وإن كانت فعلته بدون الأولياء فلهم إن يفرقوا بينهما لأنه غير كفء والمرأة إذا زوجت نفسها من غير كفء فللأولياء حق الاعتراض دفعا للعار عن أنفسهم والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الرضاع
قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وذكر عروة عن عائشة رضي الله عنهما هذا الحديث قال يحرم بالرضاع ما يحرم بالولادة وفيه دليل على أن الرضاع من أسباب التحريم وإنه بمنزلة النسب في ثبوت الحرمة لأن ثبوت الحرمة بالنسب لحقيقة البعضية أو شبهة البعضية وفي الرضاع شبهة البعضية بما يحصل باللبن الذي هو جزء الآدمية في إنبات اللحم وإنشاز العظم وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "الرضاع ما أنبت اللحم وانشز العظم" وفيه دليل على أن الحرمة بالرضاع كما تثبت من جانب الأمهات تثبت من جانب الآباء وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهه بالنسب في التحريم والحرمة بالنسب تثبت من الجانبين فكذلك بالرضاع بخلاف ما يقوله بعض العلماء رحمهم الله تعالى أن لبن الفحل لا يحرم وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى احتجوا بأن الله تعالى ذكر حرمة الرضاع في جانب النساء فقال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وأخواتكم من الرضاعة فلو كانت الحرمة تثبت من جانب الرجال لبينها الله تعالى كما بين الحرمة بالنسب ولأن الحرمة في حق الرجل لا تثبت بحقيقة فعل الإرضاع فإنه لو نزل اللبن في ثندوة الرجل فأرضع به صبيا لا تثبت الحرمة فلان لا تثبت في جانبه بإرضاع زوجته أولى وحجتنا ذلك حديث عمرة عن عائشة رضي الله عنهما قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فسمعت صوت رجل يستأذن على حفصة رضي الله عنها فقلت هذا رجل يستأذن في بيتك يا رسول الله فقال صلوات الله عليه: "ما أراه إلا فلانا عما لحفصة من الرضاع" فقلت لو كان فلان عمى من الرضاع حيا أكان يدخل علي؟ فقال: "نعم الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إن أفلح بن أبي قعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل فقال صلى الله عليه وسلم: "ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة" فقلت إنما أرضعتني المرأة لا الرجل فقال صلوات الله عليه: "ليلج عليك فإنه عمك والعم من الرضاعة" لا يكون إلا باعتبار لبن الفحل والمعنى فيه أن سبب هذا اللبن فعل الواطى ء فالحرمة التي تنبني عليه تثبت من الجانبين كالولادة فأما ما قالوا إن الله تعالى بين حرمة الرضاع في جانب النساء قلنا من الأحكام ما يثبت بالقرآن ومنها ما يثبت بالسنة فحرمة الرضاع في جانب الرجل مما يثبت بالسنة والمعنى الذي لأجله تثبت الحرمة بسبب الرضاع لا يوجد في إرضاع الرجل فإن ما نزل في ثندؤته لا يغذي الصبي فلا يحصل به إنبات اللحم فهذا نظير وطء الميتة في أنه لا يوجب الحرمة.
قال: ولا ينبغي للرجل أن يتزوج امرأة أبنه من الرضاعة ولا امرأة أبيه من الرضاعة

 

ج / 5 ص -120-       وكذلك أجداده ونوافله وهو نظير الحرمة الثابتة بالنسب وعلى هذا الأخوات من الرضاعة أما إذا أرضعت امرأة واحدة اثنتان فهما أختان فإن كان زوجها واحدا فهما أختان لأب وأم من الرضاعة وإن كان زوجها مختلفا عند الإرضاعين فهما أختان لأم وإن كان تحت الرجل امرأتان لكل واحدة لبن منه فأرضعت كل واحدة منهما صبية فهما أختان لأب من الرضاعة لأن لبنهما من رجل واحد وعموم قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِْ} [النساء: 23] يتناول ذلك كله وكذلك بنات الأخ من الرضاع كبنات لأخ من النسب ألا ترى أنه لما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة رضي الله تعالى عنها قال: "لو لم تكن ربيبتي في حجري ما كانت تحل لي أرضعتني وأباها ثويبة" فقال علي رضي الله تعالى عنه يا رسول الله: إنك ترغب في قريش وترغب عنا فقال: "هل فيكم شيء" قال نعم ابنة حمزة رضي الله تعالى عنه فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها ابنة أخي من الرضاعة".
قال: وإذا كان للمرأة لبن وطلقها زوجها وتزوجت آخر فحبلت من الآخر ونزل لها اللبن فاللبن من الأول حتى تلد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإذا ولدت فاللبن بعد ذلك يكون من الثاني وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إذا عرف أن هذا اللبن من الحبل الثاني فهو من الآخر وقد انقطع اللبن الأول وعنه في رواية إذا حبلت من الثاني انقطع حكم لبن الأول وقال محمد رحمه الله تعالى أستحسن أن يكون منهما جميعا حتى تضع من الآخر وجه قوله إن ما كان بها من اللبن فهو من الأول وما ازداد بسبب الحبل فهو من الثاني وباب الحرمة مبنى على الاحتياط فثبت الحرمة منهما جميعا كما إذا حلب لبن امرأتين في قارورة وأوجر صبيا فإذا وضعت من الثاني فقد انتسخ سبب لبن الأول باعتراض مثله عليه فلهذا كان اللبن من الثاني بعده وأبو يوسف يقول اللبن ينزل تارة بعد الولادة وتارة بعد الحبل قبل الولادة فإذا عرف نزول اللبن من الثاني انتسخ به حكم اللبن من الأول كما ينتسخ بالولادة من الثاني وعلى الرواية الأخرى يقول لما كان الحبل سببا لنزول اللبن وحقيقة نزول اللبن من الثاني باطل فيقام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن تيسيرا فينتسخ به حكم لبن الأول وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كون اللبن من الأول ثابت بيقين واللبن يزداد تارة وينقص أخرى باعتبار الغذاء فهذه الزيادة تحتمل أن تكون من قوة الغذاء لا من الحبل الثاني فلا ينتسخ به حكم اللبن من الأول حتى يعترض مثل ذلك السبب من الثاني وذلك يكون بالولادة.
قال: ولا يجتمع حكم الرضاع لرجلين على امرأة واحدة في حالة واحدة لأن سببهما لا يجتمع حلالا شرعا فكذلك ما ينبني على ذلك السبب ولكن ما بقي الأول لا يثبت الثاني وإذا ثبت الثاني انتفى الأول.
قال: ولا يجوز له أن يتزوج امرأة أرضعته رضاعا قليلا أو كثيرا عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت الحرمة إلا بخمس رضعات يكتفي الصبي بكل واحدة منها ومن

 

ج / 5 ص -121-       أصحاب الظواهر من اعتبر ثلاث رضعات لا يجاب الحرمة واستدل من شرط العدد بقوله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان" وفي حديث عمرة عن عائشة رضي الله تعالى عنهما قالت كان فيما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحر من فنسخ بخمس رضعات معلومات يحرمن وكان ذلك مما يتلى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نسخ بعد ذلك وحجتنا قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] أثبت الحرمة بفعل الإرضاع فاشتراط العدد فيه يكون زيادة على النص ومثله لا يثبت بخبر الواحد وفي حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرضاع قليله وكثيره سواء" يعني في إيجاب الحرمة ولأن هذا سبب من أسباب التحريم فلا يشترط فيه العدد كالوطء أما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فضعيف جدا لأنه إذا كان متلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخ التلاوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز فلماذا لا يتلى الآن وذكر في الحديث فدخل داجن البيت فأكله وهذا يقوي قول الروافض الذين يقولون كثير من القرآن ذهب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يثبته الصحابة رضي الله تعالى عنهم في المصحف وهو قول باطل بالاجماع ولو ثبت أن هذا كان في وقت من الأوقات فإنما كان في الوقت الذي كان إرضاع الكبير مشروعا وعليه يحمل الحديث الثاني فإن إنبات اللحم وإنشاز العظم في حق الكبير لا يحصل بالرضعة الواحدة فكان العدد مشروعا فيه ثم انتسخ بانتساخ حكم إرضاع الكبير على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
قال: والسعوط والوجور يثبت الحرمة لأنه مما يتغذى به الصبي فإن السعوط يصل إلى الدماغ فيتقوي به والوجور يصل إلى الجوف فيحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فأما الأقطار في الأذن لا يوجب الحرمة لأن الظاهر أنه لا يصل إلى الدماغ لضيق ذلك الثقب وكذلك الأقطار في الإحليل فإن أكثر ما فيه أنه يصل إلى المثانة فلا يتغذى به الصبي عادة وكذلك الحقنة في ظاهر الرواية إلا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا احتقن صبي بلبن امرأة تثبت به الحرمة لأن ذلك يصل إلى الجوف ألا ترى أنه يفسد به الصوم ولكنا نقول ليس الموجب للحرمة عين الوصول إلى الجوف بل حصول معني الغذاء ليثبت به شبهة البعضية وذلك إنما يحصل من الأعالي لامن الأسافل ثم بين من يحرم بسبب الرضاعة والحاصل فيه ما بينا أنه بمنزلة النسب فكما أن الحرمة الثابتة بالنسب في حق الأمهات والبنات تتعدى إلى الجدات والنوافل والعمات والخالات فكذلك بسبب الرضاع.
قال: ولا رضاع بعد الفصال بلغنا ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وهكذا رواه جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا رضاع بعد الفصال ولا يتم بعد الحلم ولا صمت يوم إلى الليل ولا وصال في صيام ولا طلاق قبل النكاح ولا عتق قبل الملك ولا وفاء في نذر في معصية ولا يمين في قطيعة رحم ولا تغرب بعد الهجرة ولا هجرة بعد الفتح" والكلام هنا في فصول أحدها أن الحرمة لا تثبت بإرضاع الكبير عندنا وعلى قول بعض الناس

 

ج / 5 ص -122-       تثبت الحرمة لحديث سهلة امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما فإنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما انتسخ حكم التبني بقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فقالت يا رسول الله إن أبا حذيفة تبني سالما فكنا نعده ولدا له وإن لنا بيتا واحدا فماذا ترى في شأنه وفي رواية وإنه يدخل علي وأنا أرى الكراهة في وجه أبي حذيفة رضي الله عنه فقال ارضعي سالما خمسا تحرمين بها عليه وبهذا الحديث أخذت عائشة رضي الله عنها حتى كان إذا أراد إن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت اختها أم كلثوم رضي الله عنها أو بعض بنات أختها إن ترضعه خمسا ثم كان يدخل عليها إلا أن غيرها من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يأبين ذلك ويقلن لا نرى هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رخصة لسهلة خاصة ثم هذا الحكم انتسخ بقوله: "الرضاع ما أنبت اللحم وانشز العظم" وذلك في الكبير لا يحصل وقال: "الرضاعة من المجاعة" يعني ما يرد الجوع وذلك بإرضاع الكبير لا يحصل وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال "الرضاع ما فتق الإمعاء وكان قبل الطعام" والصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على هذا فقد ذكر في الكتاب عن علي وابن مسعود رضي الله عنهم قالا لا رضاع بعد الفصال وروى أن أعرابيا ولدت امرأته ومات الولد فانتفخ ثديها من اللبن فجعل يمصه ويمج فدخل بعض اللبن في حلقه فجاء إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وسأله عن ذلك فقال حرمت عليك فجاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه وسأله عن ذلك فقال هي حلال لك فاخبره بفتوى أبي موسى فقام معه إلى أبي موسى ثم أخذ بأذنه وهو يقول أرضيع فيكم هذا للحياني فقال أبو موسى رضي الله عنه لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال إن لي جارية فأرضعتها امرأتي فدخلت البيت فقالت خذها دونك فقد والله أرضعتها فقال عمر رضي الله عنه عزمت عليك أن تأتي امرأتك فتضربها ثم تأتي جاريتك فتطأها وروى نحو هذا عن بن عمر رضي الله عنهما فثبت بهذه الآثار انتساخ حكم إرضاع الكبير.
ثم اختلف العلماء في المدة التي تثبت فيها حرمة الرضاع فقدر أبو حنيفة رحمه الله تعالى بثلاثين شهرا وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قدر ذلك بحولين وزفر قدر ذلك بثلاث سنين فإذا وجد الإرضاع في هذه المدة تثبت الحرمة وإلا فلا واستدلا بظاهر قوله تعالى:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ولا زيادة بعد التمام والكمال وقال الله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ولا رضاع بعد الفصال ولأن الظاهر أن الصبي في مدة الحولين يكتفي باللبن وبعد الحولين لا يكتفي به فكان هو بعد الحولين بمنزلة الكبير في حكم الرضاع وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراًْ} [الاحقاف: 15] وظاهر هذه الإضافة يقتضي أن يكون جميع المذكور مدة لكل واحد منهما إلا أن الدليل قد قام على أن مدة

 

ج / 5 ص -123-       الحبل لا تكون أكثر من سنتين فبقي مدة الفصال على ظاهره وقال الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233] الآية فاعتبر التراضي والتشاور في الفصلين بعد الحولين فذلك دليل على جواز الإرضاع بعد الحولين وقال الله تعالى وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم قيل بعد الحولين إذا أبت الأمهات ولأن اللبن كما يغذي الصبي قبل الحولين يغذيه بعده والفطام لا يحصل في ساعة واحدة لكن يفطم درجة فدرجة حتى ينسي اللبن ويتعود الطعام فلا بد من زيادة على الحولين بمدة وإذا وجبت الزيادة قدرنا تلك الزيادة بأدنى مدة الحبل وذلك ستة أشهر اعتبارا للانتهاء بالابتداء وبهذا يحتج زفر رحمه الله تعالى أيضا إلا أنه يقول لما وجب اعتبار بعض الحول وجب اعتبار كله وتقدر مدة الفطام بحول لأنه حسن للاختبار والتحول به من حال إلى حال.
قال: فإن فطم الصبي قبل الحولين ثم أرضع في مدة ثلاثين شهرا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أو في مدة الحولين عندهما فالظاهر من مذهبهما وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه تثبت به الحرمة لوجود الإرضاع في المدة فصار الفطام كان لم يكن وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال هذا إذا لم يتعود الصبي الطعام حتى لا يكتفي به بعد هذا الفطام فأما إذا صار بحيث يكتفي بالطعام لا تثبت الحرمة برضاعه بعد ذلك لأنه بعد ما صار بحيث يكتفي بالطعام فاللبن بعده لا يغذيه فلا يحصل به معنى البعضية بيانه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال وكان قبل الطعام أي قبل أن يكتفي بالطعام.
قال: ولا بأس بأن يتزوج الرجل أم ابنه التي أرضعته لأنه لا بأس بذلك من النسب فكذلك من الرضاعة وكذلك لا بأس بإن يتزوج ابنتها وهذا من النسب لا يحل أن يتزوج أخت ابنه لا لأجل النسب ولكن لإنها ربيبته لأنه وطى ء أمها وهذا لا يوجد في الرضاع فلهذا جاز له أن يتزوجها وكذلك يتزوج أخت أخته من الرضاع ومثله من النسب يحل لأنه إذا تزوج أخت أخته من النسب يحل ذلك بأن كان له أخ لأب وأخت لأم فلأخيه لأبيه أن يتزوج أخته لإمه لأنه لا نسب بينهما موجب للحرمة فكذلك في الرضاع وكذلك لا بأس بأن يتزوج ابنة عمه من الرضاعة أو ابنة عمته أو ابنة خاله أو ابنة خالته كما لا بأس به من النسب وكذلك لا بأس بأن يتزوج التي أرضعت أخاه أو ما بداله من ولدها لأنه لا رضاع بينه وبينهم.
قال: ولا يجمع الرجل بين أختين من الرضاعة ولا بين المرأة وابنة أختها أو ابنة أخيها وكذلك كل امرأة ذات رحم محرم منها من الرضاعة للأصل الذي بينا في النسب أن كل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا والأخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الأنثى فإنه يحرم الجمع بينهما بالقياس على حرمة الجمع بين الأختين فكذلك من الرضاعة وتبين بهذا أن حرمة هذا الجمع ليس لقطيعة الرحم فإنه ليس بين الرضعتين رحم وحرمة الجمع بينهما ثابتة.
قال: وإذا ولدت المرأة من الرجل ثم طلقها وتزوجت بزوج آخر وأرضعت بلبن الأول

 

ج / 5 ص -124-       ولدا وهي تحت الزوج الثاني فالرضاع من الزوج الأول دون الثاني لأن المعتبر من كان نزول اللبن منه لا من هي تحته ونزول هذا اللبن كان من الأول.
قال: ولا يجوز شهادة امرأة واحدة على الرضاع أجنبية كانت أو أم أحد الزوجين ولا يفرق بينهما بقولها ويسعه المقام معها حتى يشهد على ذلك رجلان أو رجل وامرأتان عدول وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يثبت الرضاع بشهادة أربع نسوة بناء على مذهبه إن فيما لا يطلع عليه الرجال يعتبر فيه أربع نسوة لتقوم كل امرأتين مقام رجل وزعم أن الرضاع مما لا يطلع عليه الرجال لأنه يكون بالثدي ولا تحل مطالعته للأجانب ولكنا نقول الرضاع مما يطلع عليه الرجال لأن ذا الرحم المحرم ينظر إلى الثدي وهو مقبول الشهادة في ذلك ولأن الحرمة كما تحصل بالإرضاع من الثدي تحصل بالإيجار من القارورة وذلك يطلع عليه الرجال فلا تقبل فيه شهادة النساء وحدهن وكان مالك رحمه الله تعالى يقول تثبت حرمة الرضاع بشهادة امرأة واحدة إذا كانت عدلا وهكذا روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه واستدل بحديث عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى أنه تزوج ابنة أبي هانئ فجاءت امرأة سوداء وأخبرت أنها أرضعتهما فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ثم ذكر ثانيا فأعرض عنه ثم ثالثا فقال:
"فارقها إذن" فقال إنها سوداء يا رسول الله قال كيف وقد قيل وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال لا يقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولأن سبب نزول هذه الحرمة مما يطلع عليه الرجال فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين كالحرمة بالطلاق وحديث عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى دليلنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه في المرة الأولى والثانية فلو كانت الحرمة ثابتة لما فعل ذلك ثم لما رأى منه طمأنينة القلب إلى قولها حيث كرر السؤال أمره أن يفارقها احتياطا والدليل عليه أن تلك الشهادة كانت عن ضغن فإنه قال جاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت تشهد على الرضاع وبالإجماع بمثل هذه الشهادة لا تثبت الحرمة فعرفنا أن ذلك كان احتياطا على وجه التنزه وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله كيف وقد قيل وعندنا إذا وقع في قلبه أنها صادقة فالأحوط أن يتنزه عنها ويأخذ بالثقة سواء أخبرت بذلك قبل عقد النكاح أو بعد عقد النكاح وسواء شهد به رجل أو امرأة فأما القاضي لا يفرق بينهما ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان لأن خبر الواحد إذا كان ثقة حجة في أمور الدين وليس بحجة في الحكم والقاضي لا يفرق بينهما إلا بالحجة الحكمية فأما إذا قامت عنده حجة دينية يفتي له بأن يأخذ بالاحتياط لأنه إن ترك نكاح امرأة تحل له خير من أن يتزوج امرأة لا تحل له.
قال: وإذا نزل للمرأة لبن وهي بكر لم تتزوج فأرضعت شخصا صغيرا فهو رضاع لأن المعنى الذي يثبت به حرمة الرضاع حصول شبهة الجزئية بينهما والذي نزل لها من اللبن جزء منها سواء كانت ذات زوج أو لم تكن ولبنها يغذي الرضيع فتثبت به شبهة الجزئية.

 

ج / 5 ص -125-       قال: وإذا حلب اللبن من ثدي المرأة ثم ماتت فشربه صبيي تثبت به الحرمة لحصول المعنى الموجب للحرمة بهذا اللبن ولا معتبر بفعلها في الإرضاع ألا ترى أنها لو كانت نائمة فارتضع من ثديها الصبي تثبت الحرمة وكذلك الإيجار لو حصل في حياتها تثبت الحرمة فكذلك بعد موتها.
قال: وكذلك لو حلب اللبن من ثديها بعد موتها فأوجر الصبي تثبت به الحرمة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت وهو بناء على أصلين أحدهما أن اللبن لا يموت عندنا لأنه لا حياة فيه ألا ترى أنه يحلب في حالة الحياة من الحيوان فيكون طاهرا وما فيه الحياة إذا بان من الحي يكون ميتا فإذا لم يكن في اللبن حياة لا يتنجس بالموت بل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبقى طاهرا وعندهما يتنجس بنجاسة الوعاء كما في أنفحة الميتة فكأنه حلب لبن امرأة في قارورة نجسة فأوجر الصبي به فيثبت به الحرمة وعند الشافعي رحمه الله تعالى اللبن يموت فيكون نجس العين وثبوت حرمة الرضاع باعتبار معنى الكرامة فلا تثبت بما هو نجس العين والأصل الثاني أن عنده الفعل الذي هو حرام بعينه وهو الزنى لا يوجب حرمة المصاهرة لأن ثبوتها بطريق الكرامة فكذلك إيجار لبن الميتة حرام فلا تثبت به الحرمة ثم قاس لبن الميتة بوطء الميتة ولكن عندنا وإن كان الفعل حراما تثبت به الحرمة إذا تحقق فيه المعنى الموجب للحرمة ولهذا أثبتنا الحرمة بالزنى لأن معنى البعضية لا ينعدم به حقيقة فكذا هنا ثبوت الحرمة باعتبار أن اللبن يغذي الصبي فيتقوى به ولو سلمنا له حرمة اللبن بالموت فبالحرمة لا يخرج من أن يكون مغذيا ألا ترى أن لحم الميتة مغذ فكذلك لبنها وبه فارق وطء الميتة لأن معنى البعضية ينعدم منه أصلا وهو معنى ما قال في الكتاب الجماع بعد الموت ليس بجماع وإيجار لبن الميتة رضاع وشبه اللبن بالبيضة فإن بالموت لا تخرج البيضة أن تكون مغذية فكذا اللبن.
قال: ولو أرضع الصبيان من بهيمة لم يكن ذلك رضاعا وكان بمنزلة طعام أكلاه من إناء واحد ومحمد بن إسماعيل صاحب الإخبار رحمه الله تعالى يقول يثبت به حرمة الرضاع فإنه دخل بخارى في زمن الشيخ الإمام أبي حفص رحمه الله تعالى وجعل يفتي فقال له الشيخ رحمه الله تعالى لا تفعل فلست هنالك فأبى أن يقبل نصحه حتى استفتى عن هذه المسألة إذا أرضع صبيان بلبن شاة فأفتى بثبوت الحرمة فاجتمعوا وأخرجوه من بخارى بسبب هذه الفتوى وهذا لأن ثبوت الحرمة بسبب الكرامة وذلك يختص بلبن الآدمية دون لبن الأنعام وشبهة الجزئية لا يثبت بين الآدمي والأنعام بشرب لبنها فكذلك لا تثبت بين الآدميين بشرب لبن بهيمة وهذا قياس حرمة المصاهرة التي تثبت بالوطء ولا تثبت بوطء البهائم فكذلك هنا.
قال: ولو صنع لبن امرأة في طعام فأكله الصبي فإن كانت النار قد مست اللبن وأنضجت الطعام حتى تغير فليس ذلك برضاع ولا يحرم لأن النار غيرته فانعدم بها معنى التغذي باللبن

 

ج / 5 ص -126-       وإنبات اللحم وإنشاز العظم وإن كانت النار لم تمسه فإن كان الطعام هو الغالب لا تثبت به الحرمة أيضا لأن المغلوب في حكم المستهلك ولأن هذا أكل والموجب للحرمة شرب اللبن دون الأكل وإن كان اللبن هو الغالب فكذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تثبت به الحرمة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تثبت به الحرمة لأن الحكم للغالب والغالب هو اللبن ولم يغيره شيء عن حاله وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إلقاء الطعام في اللبن يغيره ألا ترى أنه يرق به وربما يتغير به لونه فكان بمنزلة ما لو غيرته النار وقيل هذا إذا كان لا يتقاطر اللبن من الطعام عند حمل اللقمة وإما إذا كان يتقاطر منه اللبن تثبت به الحرمة عنده لأن القطرة من اللبن إذا دخلت حلق الصبي كانت كافية لإثبات الحرمة والأصح أنه لا تثبت على كل حال عنده لأن التغذي كان بالطعام دون اللبن.
قال: وإذا جعل لبن امرأة في دواء فأوجر منه صبيا أو أسعط منه واللبن غالب فهذا رضاع لأنه إنما يجعل في الدواء ليصل بقوة الدواء إلى ما لا يصل إليه وحده فكان هذا أبلغ في حصول معنى التغذي به فلهذا تثبت به الحرمة.
قال: وإن جعل اللبن في ماء فشربه الصبي فإن كان اللبن هو الغالب تثبت به الحرمة وإن كان الماء غالبا لا تثبت به الحرمة وكذلك إن خلط لبن الآدمية بلبن الإنعام وعند الشافعي رحمه الله تعالى قدر ما يحصل به خمس رضعات من اللبن إذا جعل في جب من الماء فشربه الصبي تثبت به الحرمة فأما إذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ثم أوجر منه صبيا فعلى قول محمد رحمه الله تعالى تثبت الحرمة منهما جميعا لأن الشيء يكثر بجنسه ولا يصير مستهلكا به وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى تثبت به الحرمة بينه وبين من يكون لبنها غالبا لأن المغلوب لا يظهر حكمه في مقابلة الغالب وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان في إحداهما اعتبر الأغلب كما هو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وفي الأخرى قال تثبت الحرمة منهما وهو قول زفر رحمه الله تعالى وأصل المسألة فيما إذا حلف لا يشرب من لبن هذه البقرة فخلط لبنها بلبن بقرة أخرى فشربه فهو على هذا الخلاف.
قال: الرضاع بمنزلة النسب والوطء في إثبات حرمة المصاهرة لا فرق بين أن يوجد في دار الحرب أو في دار الإسلام.
قال: وإذا جامع الرجل المرأة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة لم تحل لابنه ولا لأبيه من الرضاعة ولا تحل له أمها ولا ابنتها من الرضاعة كما لا تحل لابنه وأبيه نسبا فإن هذه الحرمة تعلقت بأسام نثبت تلك الأسامي بالرضاعة وهي الأبوة والأمومة وكذلك لا يتزوج على المعتدة منه أختها من الرضاعة ولا ذات رحم محرم منها لأن حرمة الجمع متعلقة باسم الأختية وذلك يتحقق بالرضاع كما يتحقق بالنسب والعدة تعمل عمل صلب النكاح في المنع من النكاح.

 

ج / 5 ص -127-       قال: وإذا تزوج الرجل الصبية فأرضعتها أمه من الرضاعة أو أمه التي ولدته أو أخته من نسب أو رضاع أو امرأة ابنه بلبن ابنه من نسب أو رضاع حرمت عليه لأن المحرمية تمنع النكاح بعلة المنافاة فإن بين الحل والحرمة في المحل منافاة والمنافي كما يؤثر إذا اقترن بالنسب ينافي البقاء إذا طرأ عليه فإذا حرمت عليه لزمه بذلك نصف المهر لها لأن الفرقة قبل الدخول حصلت لا بمعنى من جهتها أو حصلت بمعنى من جهة الزوج وهي المحرمية فيجب نصف الصداق لها ويرجع بذلك على التي أرضعتها إن كانت أرادت الفساد أو عمدت ذلك وإن كانت أخطأت أو أرادت الخير بأن خافت على الرضيع الهلاك من الجوع لم يرجع به عليها والقول فيه قولها إن لم يظهر منها تعمد الفساد لأنه شيء في باطنها لا يقف عليه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه وإنما يختلف الجواب في نيتها إذا أرادت الفساد أو لم ترد لأنها مسببة لهذه الفرقة لا مباشرة فإنها مباشرة للإرضاع وهو ليس بسبب موضوع للفرقة والمسبب إذا كان متعديا في تسببه يكون ضامنا وإن لم يكن متعديا لا يضمن كحافر البئر في ملك نفسه لا يضمن ما يسقط فيه بخلاف الحافر في ملك الغير فإذا أرادت الفساد كانت متعدية في السبب وإذا لم ترد الفساد لم يكن متعدية في السبب وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه يرجع عليها بنصف الصداق على كل حال فإن من أصله إن المتسبب كالمباشر ولهذا جعل فتح باب القفص والإصطبل وحل قيد الآبق موجبا للضمان وفي المباشرة المتعدي وغيرالمتعدي سواء فكذلك في التسبب على قوله وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يرجع عليها بمهر مثل المنكوحة لأنها أتلفت ملك نكاحه فيها وملك النكاح عنده مضمون بالإتلاف حتى قال في شاهدي الطلاق بعد الدخول إذا رجعا ضمنا مهر المثل وهذا لأن ملك البضع يتقوم عند دخوله في ملك الزوج بمهر المثل فكذلك عند خروجه عن ملكه ولكنا نقول أن ملك النكاح ليس بمتقوم في نفسه لأنه ليس بملك عين ولا منفعة إنما هو ملك ضروري لا يظهر إلا في حق الاستيفاء ألا ترى أنه لا يظهر في حق النقل إلى الغير والانتقال إلى الورثة فكذلك في حق التقوم بالمال ولأنه ليس بمال في نفسه فلا يكون مضمونا بالمال لأن ضمان الإتلاف مقدر بالمثل بالنص وتقوم البضع عند دخوله في ملك الزوج للضرورة لأنه تملك للبضع وهو محترم فلا يثبت إلا بعوض وهذه الضرورة لا توجد عند الخروج من ملكه لأنه إبطال للملك لا تمليك منها وإبطال الملك لا يستدعي التقوم والدليل على الفرق أن الأب يزوج ابنه الصغير بمال الصغير وليس له أن يخلع ابنته الصغيرة بمالها فإذا ثبت أنه غير متقوم عند خروجه من ملكه لم يجب الضمان عليها بإتلاف البضع ولكنها قررت عليه ما كان على شرف السقوط فإن الصداق وإن وجب بالعقد فهو بعرض السقوط مالم يدخل بها إذا جاءت الفرقة من قبلها فهي قررت النصف عليه بما فعلته وهي متسببة في ذلك متعدية إذا تعمدت الفساد فلهذا رجع عليها بذلك.

 

ج / 5 ص -128-       قال: وإذا تزوج الرجل الصبية ثم تزوج عمتها فنكاح العمة باطل للنهي فإن أرضعت أم العمة الصبية لم يفرق بينه وبينها لأن الصبية وإن صارت أختا للعمة بالرضاعة ولكن لم يصح نكاح العمة فلم يتحقق الجمع الحرام فلهذا بقي نكاح الصبية.
قال: وإذا تزوج صبيتين رضيعتين فأرضعتهما امرأة معا أو إحداهما بعد الأخرى بانتا جميعا لأنهما صارتا أختين حين أرضعت الثانية منهما فتقرر الجمع المنافي وليست إحداهما ببطلان نكاحها بأولى من الأخرى فإذا بانتا فلكل واحدة منهما نصف الصداق يرجع بذلك على المرضعة أن تعمدت الفساد لما قلنا ولو كن ثلاثا فارضعتهن معا بأن حلبت لبنها في قارورة وألقمت إحدى ثدييها إحداهن والأخرى للأخرى وأوجرت الثلاثة معابن جميعا منه لأنهن صرن أخوات معا وإن أرضعتهن واحدة بعد الأخرى بانت الأوليان والثالثة امرأته لأنها حين أرضعت الثانية فقد تحققت الأختية بينها وبين الأولى فتقع الفرقة بينه وبينهما ثم أرضعت الثالثة وليس في نكاحه غيرها ففي نكاحها وإن كن أربعا فأرضعتهن معا أو واحدة ثم الثلاث معابن جميعا وكذلك أن أرضعتهن جميعا واحدة بعد الأخرى لأنه حين أرضعت الثانية بانت الأوليان اللاختية وحين أرضعت الثالثة والرابعة بانت الأخريان أيضا للأختية وإن أرضعت الثلاث أولا معا ثم الرابعة بانت الثلاثة الأول دون الرابعة لأنها حين أرضعتها فليس في نكاحه غيرها.
قال: وإن تزوج امرأة وصبيتين فأرضعتهما المرأة إحداهما قبل الأخرى ولم يدخل بالمرأة حرمت المرأة والصبية الأولى لأنها حين أرضعت إحداهما فقد صارتا أما وابنتا فتقع الفرقة بينه وبينهما ثم أرضعت الثانية وليس في نكاحه غيرها فبقي نكاحها لأن السابق مجرد العقد على الأم وذلك لا يوجب حرمة البنت ثم لا مهر للكبيرة لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول وللصغيرة نصف المهر لأن الفرقة ليست من قبلها إنما كانت من جهة الكبيرة حين أرضعتها فإن اللبن يصل إلى جوفها من غير فعل منها في الارتضاع ويرجع بذلك على الكبيرة إن كانت تعمدت الفساد لما قلنا ولا تحل له هذه الكبيرة أبدا لأن مجرد العقد على البنت يوجب حرمة الأم وأما الصبية فإنها تحل له إذا فارقته التي عنده لأن العقد على الأم لا يوجب حرمة البنت وإن كان بعد ما دخل بالكبيرة حر من عليه لأنهما صارتا ابنتها من الرضاعة والدخول بالأم يحرم البنت ثم للكبيرة مهرها ولكل واحدة من الصغيرتين نصف المهر ولا يحل له واحدة منهن أبدا لوجود الدخول بالأم وصحة العقد على البنت.
قال: وإذا تزوج كبيرتين وصغيرتين فأرضعت كل واحدة من الكبيرتين صغيرة وقعت الفرقة بينه وبينهن لأن كل صغيرة صارت بنتا لمن أرضعتها والجمع بين الأم والبنت في النكاح حرام فإن كانت أرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرتين ثم أرضعت الكبيرة الأخرى الصغيرتين وذلك قبل الدخول بالكبيرتين فأما الكبيرة الأولى مع الصغيرة الأولى فقد بانا لما قلنا والصغيرة الثانية لم تبن منه بإرضاع الكبيرة الأولى فأما بإرضاع الكبيرة الثانية فإن بدأت

 

ج / 5 ص -129-       بإرضاعها بانت منه وإن بدأت بإرضاع الأولى فالصغيرة الثانية امرأته لأنها حين أرضعت الأولى صارت أما لها وفسد نكاحها لصحة العقد على الصغيرة الأولى فيما سبق ثم أرضعت الثانية وليس في نكاحه غيرها فلهذا لا تقع الفرقة بينه وبينها.
قال: وإذا أقر الرجل أن هذه المرأة أخته أو أمه أو ابنته من الرضاعة ثم أراد بعد ذلك أن يتزوجها وقال أوهمت أو أخطأت أو نسيت وصدقته المرأة فهما مصدقان على ذلك وله أن يتزوجها وإن ثبت على قوله الأول وقال هو حق كما قلت ثم تزوجها فرق بينهما ولا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها وهذا استحسان وفي القياس الجواب في الفصلين سواء لأنه أقر بأنها محرمة عليه على التأييد والمقربة به يجعل في حق المقر كالثابت بالبينة أو بالمعاينة والرجوع عن الإقرار باطل لأنه ملزم بنفسه فسواء رجع أو ثبت كان النكاح باطلا بزعمه فيفرق بينهما ولا مهر لها عليه ولكنه استحسن فقال هذا شيء يقع فيه الاشتباه فقد يقع عند الرجل أو بينه وبين امرأته رضاع فيخبر بذلك ثم يتفحص عن حقيقة الحال فيتبين له أنه قد غلط في ذلك وفيما يقع الاشتباه إذا أخبر أنه غلط فيه يجب قبول قوله شرعا لوجهين:
أحدهما: أن الحل والحرمة من حق الشرع فإذا تصادقا على أنهما قد غلطا فليس هنا من يكذبهما في خبرهما.
والثاني: أن إقراره في الابتداء لم يكن على نفسه إنما كان عليها بحرمتها عليه والحل والحرمة صفة المحل وإقرار الإنسان على الغير لا يكون لازما فإذا ذكر أنه غلط فيه فهو لا يريد بهذا إبطال شيء لزمه فلهذا قبل قوله في ذلك وإن أقرت المرأة بذلك وأنكر الزوج ثم أكذبت المرأة نفسها وقالت أخطأت فالنكاح جائز وكذلك لو تزوجها قبل أن تكذب نفسها فالنكاح جائز ولا تصدق المرأة على قولها لأن حقيقة المحرمية لا تثبت بالإقرار فإنه خبر محتمل متمثل بين الصدق والكذب ولكن الثابت على الإقرار كالمجدد له بعد العقد وإقرارها بالمحرمية بعد العقد باطل فكذلك إقرارها به قبل العقد وإما إقراره بالحرمة بعد العقد صحيح موجب للفرقة وكذلك إذا أقربه قبل العقد وثبت على ذلك حتى تزوجها فإن قيل كان ينبغي أن يجب لها نصف المهر كما لو ابتدأ بعد النكاح قلنا إنما لا يجب لوجود التصديق منها على بطلان أصل النكاح أو لأنه غير متهم بالقصد إلى إسقاط المهر إذ سبق الإقرار منه بوجوب المهر بالنكاح يوضح الفرق بينهما إن الإقرار إنما يصح إذا كان مؤثرا في الملك أما بالمنافاة أو بالإزالة وإقرار الرجل مؤثر في ذلك فكان معتبرا في المنع من صحة النكاح إذا ثبت عليه وإقرار المرأة غير مؤثر في ذلك فلا يمنع صحة النكاح.
قال: وإذا أقر الزوج بهذه المقالة وثبت عليها وأشهد الشهود ثم تزوجته المرأة ولم يعلم بذلك ثم جاءت بهذه الحجة بعد النكاح فرق بينهما ولا ينفعه جحوده لأنه لما ثبت على مقالته في الابتداء وزعم أنه حق لا غلط فيه فقد لزمه حكم إقراره وصار كالمجدد لذلك.

 

ج / 5 ص -130-       الإقرار بعد النكاح فيفرق بينهما ولا ينفعه الجحود ولو أقرا بذلك جميعا ثم كذبا أنفسهما وقالا أخطأنا ثم تزوجها فالنكاح جائز وكذلك هذا الباب في النسب ليس يلزم من هذا إلا ما بينا عليه لأن الغلط والاشتباه فيه أظهر فإن سبب النسب أخفى من سبب الرضاع فكما أن هناك الإقرار بدون الثبات عليه لا يوجب الحرمة فكذلك هنا.
قال: ولو تزوج امرأة ثم قال لها بعد النكاح هي أختي أو ابنتي أو أمي من الرضاعة ثم قال أخطأت أو أهمت فالنكاح باق استحسابا ولو ثبت على هذا النطق وقال هو حق فشهدت عيه الشهود بذلك فرق بينهما ولو جحد ذلك لم ينفعه جحوده لأن إقراره إنما كان موجبا للفرقة بشرط الثبات عليه فإن قال أوهمت فقد انعدم ما هو شرطه فلا يوجب الفرقة وإذا ثبت على ذلك وجد ما هو شرط الإقرار فثبت حكمه وهو الفرقة ثم لا ينفعه جحوده بعد ذلك وكذلك لو قال هذه أختي أو هذه ابنتي وليس لها نسب معروف ثم قال أوهمت يصدق في ذلك بخلاف ما إذا قال لعبده أو أمته هذا ابني أو هذه ابنتي ثم قال أوهمت قإنه يعتق عليه ولا يصدق في ذلك والفرق من وجهين أحدهما إن إقراره بالنسب في عبده وأمته ملزم بنفسه لأن لما أقر به موجبا في ملكه وهو زوال اللك فإن من اشترى ابنه يصح الشراء ويعتق عليه فإذا كان لما أقر به موجب في ملكه كان هو مقرى به في ملك نفسه وإقرار الإنسان في ملك نفسه ملزم فلهذا يتم بنفسه ثبت عليه أو لم يثبت فأما إقراره بنسب زوجته لا موجب له في ملكه لأن من تزوج ابنته لا يصح النكاح أصلا لا إن يثبت النكاح ثم يزول وإنما لا يصح النكاح بحرمة المحل فموجب إقراره هنا لا يظهر في ملكه وإنما يظهر في المحل ولا حق له في المحل لأن الحل والحرمة صفة المحل فلم يكن إقراره متناولا لملكه ابتداء فلا يكون ملزما إلا إذا ثبت عليه فحينئذ بحكم الثبات عليه يتعدى ضرره إلى ملكه فيلزمه من هذا الوجه والثاني إن الاشتباه لا يقع بين العبد والإبن بل عبده في الغالب مباين لابه في المطعم والملبس والمجلس فإذا كان الاشتباه يندر فيه لا يعتبر فما الاشتباه قد يقع بين زوجته وابنته لتقاربهما في المطعم والملبس والمجلس فلهذا يعذر إذا قال أو همت.
قال: ولو قال ل امرأته هذه ابنتي وثبت على ذلك ولها نسب معروف لم يفرق بينهما وكذلك لو قال هي أمي وله أم معروفة لأنه مكذب شرعا فيما أقر به وتكذيب الشرع إياه أقوى من تكذيبه نفسه ولو كذب نفسه وقال أوهمت لم يفرق بينهما فكذا إذا أكذبه الشارع وبه فارق العبد لأن هناك لو أكذب نفسه كان حرا فكذلك إذا أكذبه الشرع بأن كان ثابت النسب من غيره والمعنى ما قلنا أو أقراره بنسب العبد مصادف ملكه وهو مصدق فيما يقربه في ملك نفسه فيثبت به العتق وإن امتنع بثبوت النسب لكونه معروف النسب من الغير فأما إقراره بنسب امرأته لا يصادف ملكه ابتداء وإنما يصادف المحل فيثبت به حرمة المحل ثم ينبني عليه انتفاء الملك وهنا حرمة المحل لم تثبت حين كانت معروفة النسب من الغير فلهذا لا يبطل النكاح

 

ج / 5 ص -131-       وإن لم تكن معروفة النسب من الغير ومثلها يولد لمثله وثبت على ذلك فرق بينهما ولكنه لا يثبت النسب حقيقة إلا بتصديق المرأة إياه بذلك لأن المقر يعامل في حقه وكان ما أقر به حق ولكن لا يصدق في حق الغير فيجعل النسب في حقه كالثابت حتى ينتفي ملكه عنها ولكنه لا يثبت في حقها إلا بتصديقها فلا يلزمها الانتساب إليه إلا أن تصدقه في ذلك وإذا كان لا يولد لمثله لم يثبت النسب ولا يفرق بينهما لأن تكذيب الحقيقة إياه أقوى من تكذيه نفسه والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا وبين العتق ما قلنا لإقراره بالنسب في ملكه موجبا فيجعل ذلك الإقرار كناية عن موجبه مجازا وليس لإقراره بالنسب في ملك النكاح موجب من حيث الأزلة فلا يمكن إعماله بطريق المجاز وأكثر ما في الباب أن يقال موجبه نفي أصل النكاح فيجعل كأنه صرح بذلك وجحوده لأصل النكاح لا يكون موجبا للفرقة فكذلك إقراره بذلك وكذلك لو قال أرضعتني ومثلها لا يرضع ولا لبن لها فإنه مكذب في ذلك حقيقة فينزل في ذلك منزلة تكذيبه نفسه فلهذا لا يفرق بينهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الإحصان
قال: لا يحصن الرجل المسلم إلا المرأة الحرة المسلمة إذا دخل بها هكذا نقل عن الشعبي والنخعي رحمهما الله تعالى ومعنى هذا أنه إذا تزوج أمة ودخل بها لا يصير محصنا لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد" وكان المعني فيه إن ثبوت الإحصان يختص بالوطء بالنكاح حتى لايثبت بملك اليمين وفي معنى قضاء الشهوة لا فرق بينهما فعرفنا أن الموجب للفرق إن الإحصان إنما يثبت بوجود الوطء بين مستوى الحال في صفة الكمال فإن النكاح في العادة يكون بين مستوى الحال ولا مساواة بين المالك والمملوك فلا يتحقق هذا المعنى إذا وجد الدخول بالأمة بالنكاح لأنه لا مساواة بين الأمة والحر فأما إذا دخل بالكتابية بالنكاح لم يصر محصنا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعلى قول أبي يوسف رحمها الله تعالى يصير محصنا قيل هذا بناء على الرواية التي تروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إن الكتابية محصنة وإنها ترجم إذا زنت وقيل بل هي مسألة مبتدأة فوجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إن ملك النكاح علي الكتابية وعلى المسلمة بصفة الكمال بدليل جواز نكاح كل واحدة منهما على الأخرى والمساواة بينهما في القسم وولاية المباشرة لكل واحدة منهما بنفسها فكما يصير محصنا بالدخول بالمسلمة فكذلك بالكتابية بخلاف الأمة فإنه لا مساواة بينها وبين الحرة في حكم النكاح بل حالها على النصف من حال الحرة وبخلاف الصغيرة والمجنونة فإنه لا مساواة بينها وبين البالغة العاقلة في ولاية المباشرة وفي معنى قضاء الشهوة لما في طبعه من النفرة عن المجنونة وحجتهما ما روينا وكذلك لما أراد حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن يتزوج

 

ج / 5 ص -132-       يهودية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعها فإنها لا تحصنك". ولما أراد كعب بن مالك رحمه الله تعالى أن يتزوج يهودية قال له عمر رضي الله عنه دعها فإنها لا تحصنك ولأن الرق أثر من آثار الكفر فإذا كان الإحصان لا يثبت بوطء الأمة بالنكاح لما فيه من الرق فلان لا يثبت بوطء الكافرة أولى وهذا لأن معنى الازدواج لا يتم مع الاختلاف في الدين فقل ما يركن كل واحد منهماإلى صاحبه فكانت بمنزلة الصغيرة والمجنونة توضيحه إن الزوجين إذا كانا كافرين لا يصيرا محصنين بالدخول ومعنى المساواة فيما بينهما أظهر فإذا لم يثبت الإحصان بالوطء هناك فلان لايثبت هنا كان أولى وكذلك المسلمة لا يحصنها الزوج إذا كان كافرا بأن أسلمت المرأة ثم دخل بها الزوج الكافر قبل أن يفرق بينهما لم تصر هي بهذا الدخول محصنة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على ما قلنا وكذلك لا يحصنها العبد والمجنون وغير البالغ اعتبارا لجانبها بجانبه فإن الإحصان عبارة عن كمال الحال فلا يثبت إلا بوطء موصوف بكونه نعمة كاملة من الجانبين.
قال: وجماع هؤلاء يحلها للزوج الذي قد طلقها ثلاثا قبل ذلك حتى أن المطلقة ثلاثا إذا كانت ذمية فتزوجت ذميا ثم أسلمت فدخل بها زوجها قبل أن يفرق بينهما حلت للزوج الأول بهذا الدخول لأن النكاح صحيح بينهما قبل تفريق القاضي حتى لو أسلم فهما على نكاحهما والدخول بالنكاح الصحيح يحلها للزوج الأول وكذلك إن كان الزوج عبدا تزوجها بإذن المولى ودخل بها حلت للزوج الأول لأن إصابة الزوج الثاني إنما كان مشروعا لرفع الطلقات مغايظة للزوج الأول وذلك يحصل بدخول العبد والكافر بها كما يحصل بدخول الحر المسلم بل معني المغايظة في هذا أكثر بخلاف الإحصان فإنه إنما يثبت بالوطء بالنكاح لاعتبار معنى كمال النعمة والعبد والكافر في هذا ليس نظير الحر المسلم وعلى هذا دخول الصبي الذي يجامع مثله بالمرأة يحلها للزوج الأول عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يحلها للزوج الأول لأن ثبوت الحل للأول يستدعى كمال الفعل ألا ترى أنه لا يحصل بالجماع فيما دون الفرج وفعل الصبي دون فعل البالغ فلانعدام صفة الكمال لا يثبت به الحل للزوج الأول ولكنا نستدل بقوله تعالى:
{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] واسم الزوج يتناول الصبي كما يتناول البالغ ثم هذا حكم مختص بالوطء بالنكاح فيتعلق بوطء الصبي كتقرير المسمى والعدة وما هو المعني فيه وهو مغايظة الزوج الأول حاصل أيضا فإن استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تذوقي من عسيلته" قلنا ليس المراد بذوق العسيلة ألا نزال بل هي اللذة وهي تنال ذلك بوطء الصبي الذي يجامع ولهذا يلزمها الاغتسال بنفس الإيلاج وبه يتبين كمال فعل الصبي في الوطء.
قال: وكذلك فعل هؤلاء يوجب من التحريم ما يوجبه جماع البالغ المحصن حتى أن الصبي الذي يجامع مثله يتعلق بوطئه حرمة المصاهرة وكذا الصبية التي يجامع مثلها ثبت

 

ج / 5 ص -133-       حرمة المصاهرة وطئها وإنما يختلفون فيما إذا وطى ء صغيرة لا يجامع مثلها فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يثبت به حرمة المصاهرة وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يثبت لوجود فعل الوطء حقيقة وهو كامل في نفسه حتى يتعلق به الاغتسال بالإيلاج من غير إنزال ويثبت به سائر أحكام الوطء أيضا واعتبر الوطء بالعقد فكما أن العقد على الصغيرة كالعقد على البالغة في إيجاب الحرمة فكذلك الوطء وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا ثبوت حرمة المصاهرة ليس لعين الوطء ألا ترى أنه لا يثبت بالوطء في غير المأتي ولكن ثبوته باعتبار معنى البعضية ولا تصور لذلك إذا كانت لا يجامع مثلها بخلاف ما إذا كانت يجامع مثلها لأن حقيقة البعضية وإن كانت باعتبار الماء فهو باطن لا يمكن الوقوف عليه فيقام السبب الظاهر مقامه وهو بلوغها حد الشهوة فإذا كانت ممن يشتهي أنزلت منزلة البالغة في ثبوت الحرمة بوطئها بخلاف ما إذا كانت لا تشتهي ألا ترى أن إباحة هذا الفعل شرعا لمقصود النسل ثم جعل بلوغها حد الشهوة في حكم إباحة هذا الفعل قائما مقام حقيقة البلوغ فكذلك هنا بخلاف وجوب الاغتسال فإنه متعلق باستطلاق وكاء المنى وذلك بمعنى الحرارة واللين في المحل فلهذا يستوي فيه التي يجامع مثلها والتي لا يجامع كما يستوي فيه الفعل في المأتي وغير المأتي.
قال: والخلوة بين الزوجين البالغين المسلمين وراء ستر أو باب مغلق يوجب المهر والعدة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يوجب لقوله تعالى:
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية والمراد بالمسيس الجماع هكذا قال ابن عباس رضي الله عنه أن الله تعالى يكنى القبيح بالحسن كما كنى بالمس عن الجماع ولأن هذه خلوة خلت عن الإصابة فلا توجب المهر والعدة كالخلوة الفاسدة وهذا لأن تقرر البدل في عقود المعاوضات بقبض المعقود عليه والمعقود عليه معنى في باطنها لا يصير مستوفي إلا بالآلة التي تصل إلى ذلك الموضع فلا تكون الخلوة فيها قبضا كالقصاص فإن حق من له القصاص في الباطن لا يصير مستوفي إلا بالآلة الجارحة فلم تكن الخلوة فيه قبضا والدليل عليه حكم الرجعة وبقاء المطالبة بالوطء فإن الخلوة في هذين الحكمين لا تجعل كاستيفاء المعقود عليه فكذلك في حكم المهر والعدة وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] نهي عن استرداد شيء من الصداق بعد الخلوة فإن الإفضاء عبارة عن الخلوة ومنه يسمى المكان الخالي فضاء ومنه قول القائل أفضيت إليه بشغري أي خلوت به وذكرت له سرى وتبين بهذا أن المراد بما تلى المسيس أو ما يقوم مقامه وهي الخلوة وعن عبد الرحمن بن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف قناع امرأته وقبلها فلها المهر كاملا دخل بها ولم يدخل" ولما فرق عمر وعلي رضي الله عنهما بين العنين و امرأته ألزماه كمال المهر وقالا ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم وعن زرارة بن أبي أو في أنه

 

ج / 5 ص -134-       قال مضت السنة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إن من أغلق على امرأته بابا أو أرخى حجابا كان عليه المهر كاملا دخل بها أو لم يدخل بها ولأنهاأتت بتسليم المستحق عليها بالعقد فيتقرر حقها في البدل كما إذا وطئها الزوج وهذا لأن البدل في عقود المعاوضات يتقرر بتسليم من له البدل لا باستيفاء من عليه كما في البيع والإجارة إذا خلى البائع بين المبيع والمشتري أو خلى الآجر بين الدار والمستأجر في المدة يتقرر البدل وإن لم يستوف وهذا لأنا لو علقنا تقرر البدل بالاستيفاء امتنع من ذلك قصدا منه إلى الإضرار بمن له البدل وإذا ثبت أن المعتبر التسليم فالمستحق بالعقد عليها ما في وسعها وفي وسعها تسليم النفس في حال زوال المانع لا حقيقة استيفاء الوطء فإذا أتت بما هو المستحق تقرر حقها في البدل على أن تقام نفسها مقام حقيقة المعقود عليه كما أنها في جواز العقد أقيمت نفسها مقام المعقود عليه فكذلك في حكم التسليم لأن تقرر البدل بتسليم ما باعتباره يجوز العقد وهذا. بخلاف حق الرجعة فإن ذلك من حق الزوج وهو متمكن من حقيقة الاستيفاء فإذا لم يفعل فهو الذي أبطل حق نفسه وليس من ضرورة وجوب العدة ثبوت الرجعة ألا ترى أن بالموت يتقرر المهر والعدة وليس فيه تصور الرجعة ومطالبتها بالوطء ليستعف به ويحصل لنفسها صفة الإحصان بسببه وذلك لا يحصل بالخلوة إذا ثبت هذا.
فنقول: حد الخلوة الصحيحة أن لا يكون هناك مانع يمنعه من وطئها طبعا ولا شرعا حتى إذا كان أحدهما مريضا مرضا يمنع الجماع أو صائما في رمضان أو محرما أو كانت هي حائضا لا تصح الخلوة لقيام المانع طبعا أو شرعا وفي صوم القضاء روايتان في أصح الروايتين تصح الخلوة لأن الذي يجب بالفطر قضاء يوم وهو يسير كما في صوم النفل وفي الرواية الأخرى لا تصح الخلوة اعتبارا للقضاء بالإداء وفي صوم النفل رواية شاذة أيضا أنه يمنع صحة الخلوة بمنزلة حج النفل وكذلك إن كانت رتقاء أو قرناء لا يحصل التسليم لقيام المانع حسا بخلاف ما إذا كان الزوج محبوبا أو عنينا وقد بيناه ولو كان بينهما ثالث لا تصح الخلوة لقيام المانع إلا أن يكون الثالث ممن لا يشعر بذلك كصغير لا يعقل أو مغمى عليه أو نحو ذلك وإن خلا بزوجته وهناك أمته وكان محمد رحمه الله تعالى يقول أولا تصح الخلوة بخلاف ما إذا كان هناك أمتها لأنه يحل له وطء أمته دون أمتها ثم رجع وقال لا تصح الخلوة وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأنه يمتنع من غشيانها بين يدي أمته طبعا وعلى هذا لو خلا بزوجتيه لم تصح الخلوة لما قلنا والمكان الذي لا تصح الخلوة فيه أن يأمنا فيه إطلاع غيرهما عليهما بغير إذن كالدار والبيت وما أشبه ذلك ولهذا لا تصح الخلوة في المسجد والطريق الأعظم والسطح الذي ليس على جوانبه سترة وبعد صحة الخلوة إذا تصادقا على أنه لم يدخل بها لا يكونا محصنين لأن الخلوة إنما تجعل كالاستيفاء فيما هو من حكم العقد والإحصان ليس من ذلك في شيء فإن أقرا بالجماع لزمهما حكم الإحصان وإن أقر به.

 

ج / 5 ص -135-       أحدهما صدق على نفسه دون صاحبه ولا يحصن الخصي إذا كان لا يجامع وكذلك المجبوب والعنين فإن جاءت بولد حتى ثبت به النسب من الزوج ففي الخصى والعنين يكونا محصنين لأن الحكم بثبوت النسب حكم بالدخول وفي المجبوب ذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن على قول زفر رحمه الله تعالى هي تصير محصنة لما حكمنا بثبوت النسب من الزوج وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا تصير هي محصنة لأنه لا تصور للجماع بدون الآلة والحكم بثبوت النسب بطريق الإنزال بالسحق وليس ذلك من الجماع في شيء وثبوت حكم الإحصان يتعلق بعين الجماع والرتقاء لا تحصن الرجل لانعدام الجماع مع الرتق ولا احصان بالجماع في النكاح الفاسد لأن الإحصان عبارة عن كمال الحال فإنما يحصل بوطء هو نعمة بل نهاية في النعمة حتى لا يحصل بالوطء بملك اليمين والوطء بالنكاح الفاسد حرام فلا يوجب الإحصان.
قال: وإذا دخل الخنثى ب امرأته أو دخل بالخنثى زوجها فهما محصنان لأنه لما حكم بكونه رجلا أو امرأة فالجماع بالنكاح الصحيح تحقق بينهما فيثبت به حكم الإحصان.
قال: ولو دخل مسلم ب امرأته المسلمة ثم ارتدا والعياذ بالله تعالى بطل إحصانهما لأن الردة تحبط العمل ويلحق المرتد بمن لم يزل كافرا فكما أن الكافر الأصلي لا يكون محصنا فالمرتد كذلك فإن أسلما جميعا لم يكونا محصنين إلا بجماع جديد بمنزلة زوجين حربيين أو ذميين أسلما وكذلك العبد مع امرأته الأمة إذا أعتقا لم يكونا محصنين حتى يجامعها بعد العتق فإن جامعها فهما محصنان علما بالعتق أو لم يعلما علمت المرأة أن لها الخيار أو لم تعلم فإذا جامعها قبل أن تختار نفسها فقد جامعها بنكاح صحيح بعد ما كمل حالهما بالعتق فكانا محصنين.
قال: وإذا ولدت المرأة من الرجل وهما ينكران الدخول فهما محصنان لأن الولد شاهد على الدخول بينهما وهو أقوى من شهادة شاهدين فإذا كان الإحصان يثبت بشهادة شاهدين فبثبوت النسب أولى وهذا لأنهما مكذبان في إنكارهما الدخول شرعا والمكذب شرعا لا يعتبر إنكاره.
قال: وإذا أقرت المرأة أن زوجها قد جامعها وأنكر الزوج ثم فارقها وانقضت عدتها حل لزوجها الأول الذي كان طلقها ثلاثا أن يصدقها ويتزوجها لأنها أخبرت عن أمر بينها وبين ربها وهو حلها للزوج الأول ولا حق للزوج الثاني في ذلك فإنكاره في ذلك الحكم وجودا وعدما بمنزلة وكذلك إن أخبره بذلك ثقة ولو أنكرت الدخول بعد إقرارها وقد تزوجها الزوج الأول لم تصدق في ذلك لأنها منا قضة ولو كان زوجها الذي فارقها هو الذي أقر بالجماع ولم تقر هي لم يحل للزوج الأول أن يتزوجها ولا يصدق الزوج الثاني عليها لأنه لا حق له في حلها وحرمتها للزوج الأول ولا قول له في ذلك أصلا ويستوي إن كان خلا بها أو لم يخل بها ألا ترى أنها لا تصير محصنة بإقرار الزوج الثاني أنه قد جامعها إذا أنكرت هي فكذلك لا تصير محللة للزوج الأول.

 

ج / 5 ص -136-       قال: وإذا قالت طلقني زوجي أو مات عني وانقضت عدتي حل لخاطبها أن يتزوجها ويصدقها لأن الحل والحرمة من حق الشرع وكل مسلم أمين مقبول القول فيما هو من حق الشرع إنما لا يقبل قوله في حق الغير إذا أكذبه من له الحق ولا حق لأحد هنا فيما أخبرت به فلهذا جاز قبول خبرها في ذلك والله أعلم بالصواب.

باب نكاح المتعة
قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحل المتعة ثلاثة أيام من الدهر في غزاة غزاها اشتد على الناس فيها العزوبة ثم نهى عنها وتفسير المتعة أن يقول لامرأته أتمتع بك كذا من المدة بكذا من البدل وهذا باطل عندنا جائز عند مالك بن أنس وهو الظاهر من قول ابن عباس رضي الله عنه واستدل بقوله تعالى:
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] ولأنا اتفقنا على أنه كان مباحا والحكم الثابت يبقي حتى يظهر نسخه ولكن قد ثبت نسخ هذه الإباحة بالآثار المشهورة فمن ذلك ما روى محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى يوم خيبر إلا أن الله تعالى ورسوله ينهيانكم عن المتعة ومنه حديث الربيع بن سبرة رضي الله عنه قال أحل رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة عام الفتح ثلاثة أيام فجئت مع عم لي إلى باب امرأة ومع كل واحد منا بردة وكان بردة عمي أحسن من بردتي فخرجت امرأة كأنها دمية عيطاء فجعلت تنظر إلى شبابي وإلى بردته وقالت هلا بردة كبردة هذا أو شباب كشباب هذا ثم آثرت شبابي على بردته فبت عندها فلما أصبحت إذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي ألا أن الله تعالى ورسوله ينهيانكم عن المتعة فانتهى الناس عنها ثم الإباحة المطلقة لم تثبت في المتعة قط إنما ثبتت الإباحة مؤقتة بثلاثة أيام فلا يبقى ذلك بعد مضي الأيام الثلاثة حتى يحتاج إلى دليل النسخ وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول نسختها آية الطلاق والعدة والميراث وكان عمر رضي الله عنه يقول لو كنت تقدمت في المتعة لرجمت وقال جابر بن يزيد رضي الله عنه ما خرج ابن عباس رضي الله عنهما من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة فثبت النسخ باتفاق الصحابة رضي الله عنهم ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت بيني وبينكم كتاب الله تعالى وتلت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] حافظون الآية وهذه ليست بزوجة له ولا ملك يمين له وبيان أنها ليست بزوجة ما قال في الكتاب أنه لا يرث أحدهما من صاحبه بالزوجية ولا يقع عليها الطلاق والظهار والإيلاء وإستكثر من الشواهد لذلك في الكتاب والمراد بقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] الزوجات فإنه بناء على قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] والمحصن الناكح.
قال: وإن قال تزوجتك شهرا فقالت زوجت نفسي منك فهذا متعة وليس بنكاح عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى هو نكاح صحيح لأن التوقيت شرط فاسد فإن النكاح لا

 

ج / 5 ص -137-       يحتمل التوقيت والشرط الفاسد لا يبطل النكاح بل يصح النكاح ويبطل الشرط كاشتراط الخمر وغيرها توضيحه أنه لو شرط أن يطلقها بعد شهر صح النكاح وبطل الشرط فكذا إذا تزوجها شهرا وحجتنا في ذلك ما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لا أوتي برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمته ولو أدركته ميتا لرجمت قبره والمعنى فيه أن النكاح لا يحتمل التوقيت إنما التوقيت في المتعة فإذا وقتا فقد وجد منهما التنصيص على المتعة فلا ينعقد به النكاح وإن ذكر لفظ النكاح وهذا لأنه لا يخلو إما أن ينعقد العقد مؤبدا أو في مدة الأول باطل فإنهما لم يعقدا العقد فيما وراء المدة المذكورة ولا يجوز الحكم بانعقاد العقد فيما وراء المدة المذكورة ولا يجوز الحكم بانعقاد الحكم في زمان لم يعقدا فيه العقد ألا ترى أنهما لو أضافا النكاح إلى ما بعد شهر لم ينعقد في الحال لأنهما لم يعقداه في الحال فكذلك هنا ولا يجوز أن ينعقد في المدة لأن النكاح لا يحتمل ذلك وهذا يبين أن التوقيت ليس بمنزلة الشرط ولكن ينعدم بالتوقيت أصل العقد في الزمان الذي لم يعقداه فيه وهذا بخلاف ما إذا شرط أن يطلقها بعد شهر لأن الطلاق قاطع للنكاح فاشتراط القاطع بعد شهر لينقطع به دليل على أنهما عقدا العقد مؤبدا ألا ترى أنه لو صح الشرط هناك لا يبطل النكاح بعد مضى شهر وهنا لو صح التوقيت لم يكن بينهما عقد بعد مضي الوقت كما في الإجارة وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى إن ذكرا من الوقت ما يعلم أنهما لا يعيشان أكثر من ذلك كمائة سنة أو أكثر يكون النكاح صحيحا لأن في هذا تأكيد معنى التأبيد فإن النكاح يعقد للعمر بخلاف ما إذا ذكرا مدة قد يعيشان أكثر من تلك المدة وعندنا الكل سواء لأن التأبيد من شرط النكاح فالتوقيت يبطله طالت المدة أو قصرت والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب

باب الدعوى في النكاح
قال: رضي الله عنه وإذا ادعي الرجل نكاح امرأة وأقام عليها البينة وأقامت أختها عليه البينة إنها امرأته وإنه أتاها بزوج فالقول قول الرجل والبينة بينته صدقته أو لم تصدقه لأن ملك النكاح على المرأة للزوج ولهذا كان البدل عليه لها فالزوج يثبت ببينته ما هو حقه والأخت الأخرى تثبت ببينتها حق لزوج وهو ملك النكاح له عليها وبينة المرء على حق نفسه أولى بالقبول ولأن عند تعارض البينتين لا وجه للعمل ببينة الأخت في إثبات نكاحها فلو قبلناها إنما نقبلها في نفي النكاح على امرأة أثبت الزوج نكاحها والبينات للاثبات لا للنفي ومعنى هذا أن دعوى الزوج نكاح إحدى الأختين إقرار منه بحرمة الأخرى عليه في الحال وإقراره موجب للفرقة فعرفنا إنه لا وجه للقضاء بنكاح الاخرى فبقيت تلك البينة قائمة على النفي ولا مهر للأخرى إن لم يكن دخل بها لأن أصل نكاحها لم يثبت ولو كان الزوج أقام البينة أنه تزوج أحداهما ولا تعرف بعينها غير أن الزوج قال هي هذه فإن صدقته فهي امرأته لتصادقهما فإن تصادقهما في حقهما أقوى من البينة فإن جحدت ذلك فلا نكاح بينه وبين

 

ج / 5 ص -138-       واحدة منهما لأن الشهود لم يشهدوا على شيء بعينه والشهادة بالمجهول لا تكون حجة ولأنه إما أن تزوج إحداهما بغير عينها فيكون ذلك باطلا أو تزوج إحداهما بعينها ثم نسيها الشهود فقد ضيعوا شهادتهم فإذا بطلت الشهادة بقي دعوى الزوج ولا يثبت النكاح بدعوته ولا يمين له على التي يدعي النكاح عليها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا يرى الاستخلاف في النكاح ولا مهر عليه إن لم يكن دخل بها وكذلك لو قامت البينة لامرأة بعينها إن أحد هذين الرجلين تزوجها ولا يعرفون أيهما هو والرجلان ينكران ذلك فهو باطل ولا مهر على واحد منهما فإن ادعت المرأة ذلك على أحدهما فلا يمين عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن دعواها دعوى النكاح وإن ادعت أنه طلقها قبل الدخول وإن لها عليه نصف المهر استحلفته على نصف المهر لأن دعواها الان دعوى المال والاستحلاف مشروع في دعوى المال فإن نكل عن اليمين لزمه ذلك ولا يثبت النكاح لأن الاستحلاف كان في المال لا في النكاح وإنما يقضي عند النكول بما استحلف فيه خاصة كما في دعوى السرقة إذا استحلف فنكل يقضي بالمال دون القطع.
قال: وإن ادعت أختان أنه تزوجهما جميعا وكل واحدة منهما تقيم البينة أنه تزوجها أولا كان ذلك إلى الزوج فإيهما قال هي الأولى فهي الأولى وهي امرأته لأن المعارضة بين البينتين قد تحققت والعمل بهما غير ممكن لحرمة الجمع بين الاختين نكاحا وقد علمنا أن الثابت أحدهما وهو السابق منهما فإما أن يكون بيان السابق منهما إلى الزوج لأنه أعرف الناس بها ولأنه صاحب الملك وإما أن يقال تصديقه إحداهما يرجح بينتها فإذا ظهر الرجحان في بينة إحداهما قضى بنكاحها واندفعت بينة الأخرى ولا مهر لها عليه إن لم يدخل بها فإن جحد الزوج ذلك كله وقال لم أتزوج واحدة منهما أو قال تزوجتهما جميعا ولا أدري أيتهما الأولى فهو سواء ويفرق بينه وبينهما لأن العمل بالبينتين غير ممكن فلا ترجيح لإحداهما فتعين التفريق بينه وبينهما وعليه نصف المهر بينهما إن كان لم يدخل بهما من قبل إنه كان يقدر على أن يبين فإذا تجاهل في ذلك لم يبرأ من المهر ومعنى هذا الكلام أن نكاح إحداهما صحيح بدليل أنه لو بين الزوج أن هذه هي الأولى حكمنا بصحة نكاحها فإذا أبى أن يبين كان ذلك منه بمنزلة اكتساب سبب الفرقة بينه وبين التي صح نكاحها قبل الدخول فيلزمه نصف المهر وليست إحداهما بأولى من الأخرى فلهذا كان نصف المهر بينهما ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال جمع في السؤال بين فصلين وأجاب عن أحدهما فإن هذا الجواب عما إذا قال تزوجتهما جميعا ولا أدري أيتهما الأولى أما إذا قال لم أتزوج واحدة منهما ينبغي أن لا يجب عليه شيء من المهر لأن العمل بالبينتين تعذر للتعارض وهو منكر ولا يجب المهر إلا بحجة والأصح أن هذا جواب الفصلين لأن المعارضة بين البينتين في حكم الحل دون المهر ألا ترى أن البينتين لو قامتا بعد موت الزوج عمل بهما في حق المهر والميراث فإذا لم يكن تعذر

 

ج / 5 ص -139-       العمل والمعارضة في حكم المهر وجب نصف المهر في حق الزوج وليست إحداهما بأولى من الأخرى فكان بينهما وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي قال لا شيء عليه لأن المقضى له بالمهر منهما مجهول وجهالة المقضى له تمنع صحة القضاء وعند محمد رحمه الله تعالى أنه قال بقضي بجميع المهر لأن النكاح لم يرتفع بجحوده فيقضي بمهر كامل للتي صح نكاحها.
قال: وإن كان دخل بأحداهما كان لها المهر وهي امرأته لترجح جانبها بالدخول فإن البينتين إذا تعارضتا على العقد تترجح إحداهما بالقبض كما لو ادعى رجلان تلقي الملك في عين من ثالث بالشراء وأحدهما قابض وأقاما البينة كانت بينة صاحب اليد أولى ولأن فعل المسلم محمول على الصحة والحل ما أمكن والإمكان ثابت هنا بأن يجعل نكاح التي دخل بها سابقا فإن قال الزوج هي الأخيرة وتلك الأولى فرق بينه وبينها لإقراره بحرمتها عليه وكان ذلك بمنزلة اكتساب سبب الفرقة بعد الدخول بالنكاح الصحيح حتى يلزمه المهر المسمى لها ولا يصدق على أن ينقصها عن ذلك وكانت الأخرى امرأته أيضا لتصادقهما على النكاح بإقرار الزوج إنها هي الأولى.
قال: ولو تنازع رجلان في امرأة كل واحد منهما يدعي أنها امرأته ويقيم البينة فإن كانت في بيت أحدهما وكان قد دخل بها فهي امرأته لما أن الترجيح يحصل باليد عند تعارض البينتين على العقد ولأن تمكنه من الدخول بها أو من نقلها إلى بيته دليل سبق عقده ودليل التاريخ كالتصريح بالتاريخ إلا أن يقيم الآخر البينة أنه تزوجها قبله فحينئذ يسقط اعتبار الدليل في مقابلة التصريح بالسبق فإن لم تكن في يد أحدهما فأيهما أقام البينة أنه أول فهو أحق بها لأن شهوده شهدوا بسبق التاريخ في عقده والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة أو بإقرار الخصم وإن لم يكن لهما على ذلك بينة فأيهما أقرت المرأة أنها تزوجته قبل الآخر فهي امرأته إما لأن بينته تترجح بإقرارها له كما بينا في جانب الزوج أو لأن البينتين لما تعارضتا وتعذر العمل بهما بقي تصادق أحد الرجلين مع المرأة على النكاح فيثبت النكاح بينهما بتصادقهما وإن لم تقر بشيء من ذلك فرق بينهما وبينها لأن المعارضة والمساواة قد تحققت والعمل بالبينتين غير ممكن لأن ملك الحل لا يحتمل الشركة وليس أحدهما بأولى من الآخر فيبطل نكاحهما بخلاف ملك اليمين فإن الملك يحتمل الشركة فيجب العمل بالبينتين هناك بحسب الإمكان وهذا لأن مقصود الملك هو التصرف وذلك يثبت مع الشركة وهنا المقصود استباحة الوطء والنسل وهذا يفوت بالشركة فإذا تعذر العمل بهما وليس أحدهمابأولى من الآخر يتعين البطلان فيهما فإن كانا لم يدخلا بها فلا مهر لها لأن نكاح واحد منهما لم يثبت ولأن الفرقة بمعنى من جهتها فلا مهر لها قبل الدخول وإن كانا قد دخلا بها جميعا ولا يدري أيهما أول فعلى كل واحد منهما الأقل مما سمى ومن مهر المثل لأن كل واحد منهما إن تقدم نكاحه تأكد المسمى بالدخول وإن تأخر فلها مهر المثل بالدخول لسقوط الحد بشبهة العقد غير أن المال بالشك لا

 

ج / 5 ص -140-       يجب وإنما يجب القدر المتيقن والمتيقن هو الأقل فلهذا كان على كل واحد منهما الأقل من المسمى ومن مهر المثل.
قال: فإن جاءت بولد لزمهما جميعا وكان ولدهما يعقلان عنه بناء على قولنا أن النسب يثبت من رجلين خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وهي مسألة كتاب الدعوى ويرثانه ميراث أب واحد بينهما نصفان لأن الأب في الحقيقة أحدهما وهو من حق الولد من مائة فيجب ميراث أب واحد وليس أحدهما بأولى من الآخر فيكون بينهما نصفين ويرث من كل واحد منهما ميراث بن كامل عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى يرث من كل واحد منهما نصف ميراث بن لأنه بن أحدهما فكما أن في جانبهما يرثانه ميراث أب واحد فكذلك في جانبه يرث منهما ميراث بن واحد ولكنا نقول هو بن لكل واحد منهما كما قال عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما هو أبنهما ويرثهما وهذا لأن البنوة لا تحتمل التجزي إلا أن في جانبهما تحققت المزاحمة فتثبت المناصفة وفي جانبه لا مزاحمة فيرث من كل واحد منهما ميراث بن كامل حتى لو انعدمت المزاحمة في جانبهما بأن مات أحدهما قبل الغلام أحرز الثاني من مال الغلام ميراث أب كامل وهو معني قول عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما وهو للباقي منهما ولو كانت المرأة أقرت أن أحد الرجلين هو الزوج لزمه الولد خاصة لأن نكاح المقر له قد ثبت بإقرارهما وثبوت نسب الولد منه باعتبار الفراش ولا معارضة بين الفراش الصحيح والفاسد فلهذا ثبت نسب الولد منه فإن لم تقر بذلك حتى ماتت كان على كل واحد منهما نصف ما سمى لها من المهر وكان ميراث الزوج من تركتها بينهما نصفين لأن نكاح أحدهما صحيح منته بالموت فيكون له الميراث وعليه المسمى لها وليس أحدهما بأولى من الآخر فلذلك تنصف بينهما الميراث والمهر المسمى وهذا لأن تعذر العمل بالبينتين ووجوب التوقف لمعنى الحل وذلك يزول بموتها إلا ترى أنه لو كان إقامة البينة من الرجلين بعد الموت وجب العمل بهذه الصفة فكذلك إذا ماتت بعد إقامة البينتين وهذا لأن المقصود من النكاح بعد الموت الميراث وهو مال يحتمل الشركة وفي حال الحياة المقصود هو الحل وهو غير محتمل للشركة.
قال: ولو لم تمت هي ولكن مات أحد الرجلين فإن قالت المرأة هذا الميت هو الأول فلها في ماله المهر والميراث فإن تصديقها بعد موت الزوج كتصديقها في حياته فيثبت النكاح بينهما فينتهي بالموت ألا ترى إن رجلا لو أقر بنكاح امرأة فصدقته بعد الموت كان تصديقها صحيحا لأن النكاح بموت الزوج يرتفع إلى خلف وهو العدة.
قال: وإذا تزوجت المرأة زوجين في عقدة واحدة كان النكاح باطلا لأن النكاح لا يحتمل الاشتراك وليس أحدهما بأولى من الآخر ولا خيار لها في ذلك لأن ثبوت الخيار ينبني على صحة السبب ولم يصح السبب في حق كل واحد منهما لاقتران المنافى به وكذلك لو كانت ذمية أو حربية ثم أسلموا لأن هذا لا يتجه عند أحد ممن يعتقد ملة فحكم أهل الملل في ذلك سواء.

 

ج / 5 ص -141-       قال: ولو كان أحد الزوجين له أربع نسوة كان نكاح الذي ليس له نسوة منهما جائز لأنه لو انفرد نكاح الذي له أربع نسوة لم يصح ولو انفرد نكاح الآخر كان صحيحا فإذا اجتمعا صح نكاح من يصح نكاحه عند الانفراد وهذا لأن المعارضة لا تتحقق بين ماله صحة وبين ما لا صحة له وإذا صح نكاح أحدهما فعليه جميع ما سمى لها إن كانا سميا ألف درهم وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى ظاهر بمنزلة ما لو تزوج امرأتين وأحداهما لا تحل له بمهر واحد وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يفرقان بين هذه وبين تلك فيقولان الألف هنا بمقابلة بضعها وقد سلم ذلك للذي صح نكاحه بكماله فإما هناك الألف مسمى بمقابلة بضعين فإذا لم يسلم له إلا أحدهما لا يلزمه إلا مقدار حصته من المهر وإن كان سمي كل واحد منهما لنفسه خمسمائة لم يلزم هذا الزوج إلا خمسمائة لأنه ما التزم إلا هذا المقدار ولا يلزم من المهر لا قدر ما التزمه بخلاف الأول فإن هناك كل واحد منهما قد سمى جميع الألف بمقابلة بضعها فإذا سلم ذلك لإحدهما لزمه جميع المهر.
قال: والنكاح الفاسد إذا لم يكن فيه مسيس أو نظر لا يثبت حرمة المصاهرة لأن النكاح إنما يقام مقام الوطء في إثبات حرمة المصاهرة لأنه يتوصل به إلى الوطء شرعا وذلك لا يحصل بالعقد الفاسد فلهذا لا يثبت به الحرمة ولأن النكاح الفاسد أصله غير منعقد فالسبب الفاسد لا يثبت إلا الملك الحرام وموجب النكاح ملك الحل وبين الحل والحرمة منافاة فإذا انعدم إثبات الملك الحلال بالسبب الفاسد والملك الحرام بالنكاح لا يكون خلا السبب عن الحكم والأسباب الشرعية إنما تعتبر لأحكامها فكل سبب خلا عن الحكم كان لغوا وإذا أقامت المرأة البينة على النكاح والزوج جاحد يثبت نكاحها ولم يفسد بجحوده لأن النكاح الثابت لا يرتفع إلا بالطلاق وجحوده ليس بطلاق فإن الطلاق قطع للنكاح والجحود نفي للنكاح أصلا فلا يصير به قاطعا فلهذا قضى بالنكاح بينهما والله تعالى أعلم بالصدق والصواب.

باب الغرور في المملوكة
قال: رجل تزوج امرأة على أنها حرة فولدت له أولادا فإذا هي مكاتبة قد أذن لها مولاها في التزوج أخذت عقرها وقيمة ولدها إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال لا تجب قيمة الولد أصلا لأنها تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وولدها وفي هذا تحصيل بعض مقصودها وفي ظاهر الرواية يقول هذا إن لو دخل الولد في كتابتها ولم يدخل لأنه علق حرا فوجب العقر وقيمة الولد لها كما هو الحكم في المغرور وهي بالكتابة صارت أحق بأجزائها ومنافعها فما هو بدل جزء منها فهو لها ثم يرجع الأب بقيمة الولد على الذي غره إن كان رجل حر غره بأن زوجها منه على أنها حرة فإن كانت المكاتبة هي التي غرته بأن زوجت نفسها منه على أنها حرة فلا شيء لها عليه من قيمة الولد في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول لأنها لو رجعت عليه بقيمة الولد رجع هو عليها بذلك بسبب الغرور

 

ج / 5 ص -142-       فلا يكون مفيدا ثم رجع فقال لها أن تأخذ قيمة الولد وهو قول محمد رحمه الله تعالى لأن رجوعه عليها بعد العتق فإن ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة فيتأخر إلى ما بعد عتقها والقيمة لها عليه في الحال فكان الرجوع مفيدا وإن مات مولاها وهي مكاتبة على حالها فورثه أب الولد خيرت بين أن تبطل الكتابة وبين أن تمضي عليها لأنها إن أبطلت الكتابة صارت مملوكة لأب الولد بالميراث ولها منه ولد ثابت النسب فتصير أم ولد له فقد تلقاها جهتا حرية إحداهما مؤجلة بغير بدل وهو الاستيلاد والأخرى معجلة ببدل وهو الكتابة فإن مضت على الكتابة فعتقت بالأداء فإنما عتقت على ملك المولى الأول وكان ولاؤها له وإن مات أب الولد قبل أن تؤدي عتقت وبطلت عنها المكاتبة لأنها بمنزلة أم الولد فتعتق بموت السيد فإن قيل هو لم يملك رقبتها إذا اختارت المضي على الكتابة.
قلنا: نعم ولكنه صار أحق الناس بها حتى لو أعتقها نفذ عتقه فكذلك إذا مات لأن عتق أم الولد متعلق بموت المولى شرعا على أن يصير المولى كالمعتق لها ولأنها إنما اختارت الكتابة لما في في العتق بجهة الاستيلاد من التأخير فإذا تعجل ذلك بموت المولى فالظاهر أنها تختار هذه الجهة فإذا عتقت سقط عنها بدل الكتابة إما لانفساخ العقد برضاها أو لوقوع الاستغناء لها عن أداء البدل وهو بمنزلة ما لو وهب لها المكاتبة ومعنى هذا أن حق المستولد فيها إلى موته فبالموت يصير مسقطا حقه فكأنه أبرأها عن بدل الكتابة والوارث إذا كان واحدا فإبراء المكاتب عن المكاتبة يصح إبراؤه ويعتق ولهذا لو كان معه شريك في الميراث سعت في مكاتبتها على حالها لأن إبراء أحد الوارثين عن نصيبه من بدل الكتابة لا يوجب عتق شيء منها وإنما جعلناه كالمبرئ لتعتق فإذا كانت لا تعتق هنا لم يكن مبرئا ولأنه لم يسلم لها العتق مجانا في الحال فبقيت على اختيارها الأول وهو المضي على الكتابة فلهذا سعت في مكاتبتها وكان الولاء للأول إذا أدت ألا ترى أن المكاتب إذا ورثه رجلان فأعتقه أحدهما كان عتقه باطلا ولو كانت المكاتبة حين ورثها رجلان اختارت أن تكون أم ولد بطلت الكتابة ويضمن أب الولد نصف قيمتها لشريكه لأن حكم الاستيلاد كما ثبت في نصيبه ثبت في نصيب الشريك أيضا لأنه لا يحتمل التجزي فصار هو متملكا نصيب شريكه بضمان القيمة وضمان التملك لا يختلف باليسار والإعسار.
قال: أمة غرت رجلين من نفسها فتزوجاها على أنها حرة فولدت لهما أولادا ثم ملكاها بوجه من الوجوه كانت أم ولد لهما لأنهما ملكاها ولكل واحد منهما ولد ثابت النسب منها وإن ملكها أحدهما فهي أم ولد له لهذا المعنى وهذا لأن نسب الولد لما ثبت بشبهة النكاح كان هذا بمنزلة الاستيلاد بعد الملك في ثبوت حق الولد في حقيقة الحرية فكذلك في ثبوت حقها في أمية الولد لأن حقها تبع لحق الولد فإن كانت قد ولدت عند المولى أولادا بعد ذلك فملكها أحدهما مع أولادها كان أولادها من غير أرقاء لأن ثبوت حق أمية الولد فيه بعد ما تملكها

 

ج / 5 ص -143-       المستولد فإن حق الحرية كحقيقة الحرية في استدعائه ملك الحل وقد انفصل الأولاد قبل ثبوت الحق فيها فلا يسري ذلك الحق إليهم قال: وإذا غرت الأمة رجلا من نفسها وأخبرته إنها أمة لهذا الرجل فاشتراها منه فولدت له أولادا ثم استحقها رجل أخذها وعقرها وقيمة ولدها كان لأب الولد أن يرجع بالثمن وبقيمة الولد على الذي باعه لأن سبب الغرور مباشرة البيع وإنما كان ذلك من البائع ومتى ملكها المغرور بعد ذلك فهي أم ولد لثبوت نسب الولد منه والله أعلم بالصواب.

باب النكاح في العقود المتفرقة
قال: رضي الله عنه ولا يحل للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة بالنكاح إلا على قول الروافض فإنهم يجوزون الجمع بين تسع نسوة لظاهر قوله تعالى:
{مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] والواو للجمع فإذا جمعت بين هذه الأعداد كان تسعا ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين تسع نسوة وهو قدوة الأمة صلى الله عليه وسلم فما يجوز له يجوز لأمته وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] والمراد أحد هذه الأعداء قال الفراء رحمه الله تعالى لا وجه لحمل هذا على الجمع لأن العبارة عن التسع بهذا اللفظ من العي في الكلام والدليل عليه قوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] والمراد أحد هذه الأعداد وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بسبب إباحة تسع نسوة له وهو اتساع حله بفضيلة النبوة فإن بزيادة الفضيلة يزداد الحل كما بين الأحرار والمماليك ولم ينقل عن أحد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعده إلى يومنا هذا أنه جمع بين أكثر من أربع نسوة نكاحا وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "يتزوج العبد ثنتين ويطلق تطليقتين" ما يدل على أن الحر لا يتزوج أكثر من أربع لأن حال المملوك على النصف من حال الحر وله أن يتسرى على الأربع ما بداله من السراري ما خلا امرأة ذات رحم محرم منها من نسب أو رضاع لحديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه ما حرم الله تعالى من الحرائر شيئا إلا وقد حرم من الإماء مثله إلا رجل يجمعهن يريد به العدد إذ التسري غير محصور بعدد لأن النكاح إنما كان محصورا بعدد لوجوب العدل والتسوية بينهن في القسم وعند كثرة العدد يعجز عن ذلك وفي الإماء لا يلزمه التسوية بينهن في القسم فلهذا لا يكون محصورا بالعدد وإليه أشار الله تعالى في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فأما سائر أسباب الحرمة كالرضاع والمصاهرة والمحرمية لا تختلف بالمنكوحة والمملوكة.
قال: رجل تزوج أربع نسوة بالكوفة ثم طلق إحداهن بغير عينها بمكة ثم تزوج مكية ثم طلق إحدى نسائه ثم تزوج بالطائف أخرى ثم مات ولم يدخل بواحدة منهن فنقول العقود كلها قد صحت منه لأنه إنما تزوج المكية بعد ما طلق إحدى الكوفيات قبل الدخول فحين تزوجها لم يكن في نكاحه إلا ثلاث نسوة فإن قيل أليس إن الطلاق المبهم يجعل كالمتعلق بخطر البيان فينبغي أن لا يصح نكاح المكية.

 

ج / 5 ص -144-       قلنا: هذا في حق المحل لوجود النكير في المحل فإما في جانب المطلق لا إبهام لأنه متعين في نفسه وحكم العدد ينبني على العدد في جانبه وهو يعلم أنه تزوج المكية وليس في نكاحه إلا ثلاث نسوة ثم تزوج الطائفية وليس في نكاحه إلا ثلاث نسوة ثم المسألة تشتمل على حكم المهر والميراث والعدة أما بيان حكم المهر أن للطائفية مهرا كاملا لأن نكاحها قد صح ولم يحدث بعد نكاحها طلاق فيتقرر مهرها بالموت وللمكية سبعة أثمان المهر لأنه بعد ما تزوجها طلق إحدى نسائه الأربع قبل الدخول وذلك مسقط نصف مهر المثل متردد بينها وبين ثلاث من الكوفيات فيتوزع النقصان عليهن أرباعا فيصيبها نقصان نصف ربع صداق وذلك ثمن صداق فبقي لها سبعة أثمان صداق وأما الكوفيات فلهن ثلاثة أصدقة وثمن صداق بينهن سواء لأنه حين طلق إحداهن أولا فقد سقط بهذا الطلاق نصف مهر ومن الطلاق الثاني أصابهن أيضا نقصان ثلاثة أرباع نصف مهر وذلك ثلاثة أثمان مهر وفي الأصل لهن أربعة أصدقة فإذا نقصت من ذلك مرة نصف صداق ومرة ثلاثة أثمان صداق بقي ثلاثة أصدقة وثمن صداق وحالهن في ذلك سواء فيقسم بينهن بالسوية أرباعا وأما الميراث فللطائفية ربع ميراث النساء ثمنا كان أو ربعا لأنها إحدى نسائه بيقين وللمكية ربع ما بقي لأن الباقي وهو ثلاثة أرباع ميراث النساء لا يزاحمها فيه إلا ثلاث من الكوفيات وحالهن فيه سواء فلها ربع ذلك والباقي بين الكوفيات بالسوية لاستواء حالهن في ذلك وعلى كل واحدة منهن عدة المتوفي عنها زوجها أما في حق الطائفية فللتيقن بانتهاء نكاحها بالموت وفي حق البواقي لاحتمال ذلك والعدة يحتاط لإيجابها.
قال: ولو كان بعد ما تزوج الطائفية طلق إحدى نسائه ثم مات فنقول أما بيان حكم المهر إن للطائفية هنا سبعة أثمان مهرها لأنه طلق إحدى نسائه بعد ما تزوجها فانتقص به نصف صداق وإنما يصيبها من ذلك النقصان الربع فبقي لها سبعة أثمان صداق وللمكية ستة أثمان مهر وربع ثمن مهر لأن من النقصان الحاصل بالتطليقة الأخيرة إنما يصيبها ربع ثلاثة أرباع نصف صداق فإن هذا النقصان يدور بينها وبين ثلاث من الكوفيات وربع ثلاثة أرباع النصف يكون ثلاثة أرباع ثمن الصداق فقد أصابها بالتطليقة الثانية نقصان ثمن صداق كما قلنا وبالتطليقة الثالثة ثلاثة أرباع ثمن فبقي لها ستة أثمان وربع ثمن فإذا جمعت ذلك كان مهرا وثمن مهر وربع ثمن مهر صداق وللكوفيات مهران وستة أثمان وثلاثة أرباع ثمن صداق لأنه انتقص من مهورهن بالطلاق الأول نصف صداق وبالطلاق الثاني ثلاثة أثمان صداق وبالطلاق الثالث ثمنان وربع ثمن فإذا جمعت ذلك كان مهرا وثمن مهر وربع ثمن مهر فإذا نقصت ذلك من أربعة مهور بقي مهران وستة أثمان وثلاثة أرباع ثمن وفي حكم الميراث والعدة هذا.
قال: وإذا تزوج امرأة في عقدة وامرأتين في عقدة وثلاثا في عقدة ولا يعلم أيتهن الأولى فأما الواحدة فنكاحها صحيح بيقين لأن الصحيح من العقدين الأخيرين أحدهما ونكاح الواحدة.

 

ج / 5 ص -145-       صحيح تقدم أو تأخر والقول قول الزوج في الثلاث والثنتين أيتهن قال هي الأولى لأن نكاح أحد الفريقين صحيح وهو السابق والزوج هو الذي يعرف ذلك لأنه باشر العقود فيعرف السابق من المتأخر ولأنه صاحب ملك فإليه بيان محل ملكه ولأن حقوق النكاح تجب عليه فإليه بيان من يستوجب الحق عليه وأي الفريقين مات والزوج حي فقال هي الأولى ورثهن وأعطى مهورهن وفرق بينه وبين الأواخر لأن حق البيان الثابت له لا يبطل بموتهن فإن الموت منه للنكاح مقرر لا حكامه وإن كان دخل بهن كلهن ثم قال في صحته أو عند موته لأحد الفريقين هؤلاء الأول فهو الأول ويفرق بينه وبين الأواخر ولكل واحدة الأقل من مهر مثلها ومما سمى لها لدخوله بها بحكم نكاح فاسد ومراده بهذا الفصل إن دخوله بهن لا يؤثر في البيان إذا لم يعلم من دخل بها أولا لأن حال الفريقين في ذلك سواء وإن قال الزوج لا أدري أيتهن الأولى حجب عنهن إلا عن الواحدة لأنه إنما يخلي بينه وبين من صح نكاحها منهن ونكاح الواحدة صحيح فيخلي بينه وبينهاولم يتيقن من صح نكاحه من الفريقين الآخرين فيكون محجوبا عنهن مخيرا على أن يبين الأول من الآخر فإن مات قبل أن يبين ففي المسألة بيان حكم الميراث والمهر والعدة أما بيان حكم المهران للواحدة ما سمى لها من المهر بكماله لأن نكاحها صحيح بيقين وللثلاث مهر ونصف بينهن وللثنتين مهر واحد بينهما على اختلاف الأصلين فإن أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى في جنس هذه المسائل اعتبار الجملة والتخريج على ذلك فنقول أكثر ما لهن ثلاثة مهور بأن يكون السابق نكاح الثلاث وأقل ما لهن مهران بأن يكون السابق نكاح المثنى فالتردد في مهر واحد يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان لهن مهران ونصف ثم لا خصومة للثنتين في الزيادة على مهرين فيسلم ذلك للثلاث وهو نصف مهر يبقى مهران استوت فيه منازعة الفريقين فكان بينهما نصفين فيحصل للثلاث مهر ونصف وللثنتين مهر واحد وأصل محمد رحمه الله تعالى في ذلك اعتبار الأحوال في حق كل فريق على حدة فيقول أما الثلاث فإن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر ونصف وأما المثنى فإن صح نكاحهما فلهما مهران وإن لم يصح فلا شيء لهما فلهما نصف ذلك ونكاحهما يصح في حال دون حال فلهما مهر واحد وأما حكم الميراث فنقول للواحدة سبعة أسهم من أربعة وعشرين من ميراث النساء ربعا كان أو ثمنا لأن نكاحها صحيح على كل حال فإن صح نكاحها مع الثلاث فلها ربع ميراث النساء وإن صح مع الثنتين فلها ثلث والربع بيقين وما زاد عليه إلى تمام الثلث يثبت في حال دون حال فيتنصف فنحتاج إلى حساب له ثلث وربع وذلك اثنا عشر ثم يتنصف السهم الزائد على الربع إلى تمام الثلث فيتكسر بالإنصاف فيضعف الحساب فيكون أربعة وعشرين فإن صح نكاحها مع الثلاث فلها ستة من أربعة وعشرين وإن صح نكاحها مع المثنى فلها ثمانية فالتردد في سهمين فيثبت أحدهما ويسقط الآخر فكان لها

 

ج / 5 ص -146-       سبعة من أربعة وعشرين وما بقي وهو سبعة عشر سهما بين الفريقين الآخرين نصفين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى للمثنى من ذلك ثمانية أسهم وللثلاث تسعة أسهم وجه قولهما أن السهم الزائد على ستة عشر لا منازعة فيه للمثنى لأنه إن صح نكاحهما فلهما ثلثا الميراث ستة عشر من أربعة وعشرين فيسلم ذلك السهم لثلاث وقد استوت منازعة الفريقين في ستة عشر فكان بينهما نصفين أو يعتبر حال كل فريق فنقول إن صح نكاح الثلاث فلهن ثلاثة أرباع الميراث ثمانية عشر وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو تسعة وإن صح نكاح المثني فلهما ثلثا الميراث ستة عشر وإن لم يصح فلا شيء لهما فلهما نصف ذلك ثمانية وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما بقي من ميراث النساء بعد ماأخذت الواحدة نصيبها بمنزلة جميع ميراث النساء أن لو لم تكن الواحدة أصلا ولو لم تكن الواحدة أصلا كان جميع ميراث النساء بين الفريقين نصفين فكذلك ما بقي وهذا لأن علة الاستحقاق في حق الفريقين سواء فإن كل واحد منهما مستحق إذا كان سابقا محروم إذا كان مسبوقا وقولهما أن المثنى لا يدعيان السهم الواحد فإنما لا يدعيان ذلك باعتبار استحقاق الواحدة لذلك السهم فأما بدون استحقاقهما فهما يدعيان جميع الميراث وقد خرج ذلك السهم من أن يكون مستحقا للواحدة فكان دعواهما دعوى الثلاث في استحقاق ما فرغ من استحقاق الواحدة سواء فلهذا قسم بين الفريقين نصفين.
قال: وعليهن عدة المتوفي عنهن أزواجهن احتياطا لما قلنا وإن كان قد دخل بهن كلهن ولا يعرف الأول والآخر فعلى الثلاث والثنتين عدة الوفاة والحيض جميعا على معنى إن كل واحدة تعتد أربعة أشهر وعشرا تستكمل في ذلك ثلاث حيض لأن من وجه عليهن عدة الوفاة وهو ما إذا صح نكاحهن ومن وجه الحيض وهو ما إذا فسد نكاحهن فتجب العدة بالحيض لأجل الدخول فيجمع بينهما احتياطا فأما على الواحدة عدة المتوفى عنها زوجها لا حيض في ذلك لأن نكاحها صحيح بيقين ثم إن كان مهر مثل كل واحدة من الثلاث والثنتين أقل من المسمى فلها مهر مثلها ونصف الفضل إلى تمام المسمى لأن في وجوب الأقل وهو مهر المثل إما بالعقد أو بالدخول يقين وما زاد عليه إلى تمام المسمى تستحقه كل واحدة إن صح نكاحها ونكاحها يصح في حال دون حال فلهذا كان لكل واحدة نصف ذلك فإن كان الزوج حيا فجامع امرأة منهن أو طلقها أو ظاهر منها كان هذا إقرارا منه بأنها ومن معها الأولى لأن البيان تارة يحصل بالتصريح وتارة بالدليل فإقدامه على الظهار والطلاق في إحداهن بيان منه إن نكاحها صحيح لأن ما باشره من التصرف مختص بالنكاح الصحيح وكذلك إن جامع لأن فعل المسلم محمول على الصحة والحل ما أمكن وإنما يكون وطؤه إياها حلالا إذا كان صح نكاحها فلهذا كان هذا بمنزلة البيان منه أن السابق عقدها.
قال: وإن كانت إحدى الثلاث أم إحدى الثنتين ولم يدخل بشيء منهن فالجواب على ما

 

ج / 5 ص -147-       تقدم أيضا لأن الصحيح نكاح أحد الفريقين وهو السابق منهما وفي هذا لا يفترق الحال بين أن يكون بينهما محرمية أو لم يكن.
قال: ولو كان مع الثلاث أمة كان نكاح الأمة فاسدا على كل حال لأنه أن تقدم هذا العقد فنكاح الحرائر بهذا العقد صحيح ومتى صح نكاح الحرائر بطل نكاح الأمة المضمومة إليهن وإن تأخر نكاحهن فهو فاسد ولهذا كان نكاح الأمة فاسدا على كل حال.
قال: وكذلك لو كانت إحدى الثنتين أمة فنكاحها فاسد بيقين لما قلنا فإن مات الزوج قبل أن يدخل بهن وقبل أن يبين الأولى منهن واحدى الثلاث أمة وإحدى الثنتين أمة فنكاح الأمتين فاسد ونكاح الحرائر كلهن جائز أما فساد نكاح الأمتين لما قلنا وعند فساد نكاحهما الحرائر أربع فيجوز نكاحهن المتقدم والمتأخر في ذلك سواء وإن كانت إحدى الثلاث أمة والثنتان حرتان وقد تزوج الواحدة الحرة قبلهن يعلم ذلك فنكاح الأمة فاسد لعلمنا أنه تزوجها على حرة ونكاح الأمة على الحرة فاسد وللحرة المنفردة المهر وثلث ميراث النساء لأن نكاحها صحيح بيقين وإنما يزاحمها في الميراث امرأتان إما المنفردتان أو اللتان كانتا مع الأمة فلها ثلث ميراث النساء ولكل حرتين نصف ما بقي من الميراث لاستواء حال الفريقين في ذلك فإن كل فريق أن تقدم نكاحها استحق ذلك وإن تأخر لا ويكون للفريقين مهران بينهما سواء لاستواء حال الفريقين في استحقاق المهرين على ما قلنا.
قال: وإن كانت إحدى الثنتين أمة والثلاث حرائر ولا يعلم أي النساء تزوج أولا فنكاح الأمة فاسد للتيقن بضمها إلى الحرة والميراث بين الحرائر الخمس على أربعة أسهم للثلاث من ذلك سهم ونصف وللمنفردتين ن سهمان ونصف وهذا في الحكم كرجل تزوج ثلاثا في عقدة وواحدة في عقدة وواحدة في عقدة ولا يدري أيتهن أول بل هي تلك المسألة بعينها ووجه التخريج إن الثلاث إن صح نكاحهن بأن تقدم أو كان بعد الواحدة من المنفردتين فلهن ثلاثة أرباع ميراث النساء لأن الصحيح معهن نكاح الواحدة من المنفردتين سابقا أو متأخرا وإن لم يصح فلا شيء لهن بان كان نكاحهن بعد نكاح المنفردتين فلهن نصف ثلاثة أرباع الميراث وذلك سهم ونصف من أربعة وما بقي بين المنفردتين لاستواء حالهما ولأنهما يستحقان جميع الميراث في حال وهو إن يكون نكاحهما سابقا والربع في حال وهو إن يكون نكاح الثلاث سابقا فالربع لهما بيقين وهو سهم من أربعة وثلاثة تثبت في حال دون حال فيتنصف فلهذا كان لهما سهمان ونصف من أربعة وحالهما في استحقاق ذلك سواء فيكون بينهما نصفين وللثلاث مهر ونصف لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر ونصف وللمنفردتين مهر ونصف لأن نكاح إحداهما صحيح بيقين تقدم أو تأخر فيتيقن لها بمهر والأخرى إن صح نكاحها فلها مهر وإن لم يصح فلا شيء لها فيتنصف مهرها وليست إحداهما بأولى من الأخرى بشيء فما اجتمع لهما وهو مهر ونصف بينهما نصفان.

 

ج / 5 ص -148-       قال: وإذا تزوج واحدة في عقدة وثنتين في عقدة وثلاثا في عقدة وأربعا في عقدة ثم مات ولا يعرف أيتهن أول فنقول ميراث النساء ربعا كان أو ثمنا بين الثنتين والثلاث والأربع أثلاثا لأن الميراث إنما يتوزع على الأحوال والأحوال ثلاثة بيقين إما أن يصح نكاح الأربع أو نكاح الثلاث مع الواحدة أو نكاح الثنتين مع الواحدة وليس هنا حالة رابعة وباعتبار الأحوال كل فريق في استحقاق الميراث مساو للفريقين الآخرين على معنى أنه إن تقدم نكاحه استحق الميراث وإلا فلا فلهذا كان الميراث بينهن أثلاثا لا مزاحمة للواحدة مع الأربع في الثلث الذي صار لهن لأن نكاحها لا يجوز معهن وإنما أخذن ما أخذن باعتبار جواز نكاحهن ولكنها تدخل مع الثلاث فتأخذ ثمن ما أصابهن لأنهن إنماأخذن ما أخذن باعتبار جواز نكاحهن ونكاح الواحدة يجوز معهن إلا أن في نكاح الواحدة ترددا فإنه إما أن يجوز مع الثلاث أو مع الثنتين فإن جاز مع الثلاث كان لها ربع ما في يدي الثلاث وإن جاز مع الثنتين لم يكن لها شيء مما في يدي الثلاث فتأخذ مما في يدي الثلاث نصف الربع وهو الثمن والباقي بين الثلاث أثلاثا ثم تدخل مع الثنتين فتأخذ سدس ما في يديهما لأنهما أخذتا باعتبار جواز نكاحهما ونكاح الواحدة يجوز مع نكاحهما فإن كان جواز نكاحهما معهما كان لها ثلث ما في أيديهما وإن كان مع الثلاث لم يكن لهاشيء مما في أيديهما فلهذا تأخذ منهما نصف الثلث وهو سدس ما في أيديهما والباقي بينهما نصفان وأما حكم المهر فنقول على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لهن ثلاثة مهور ونصف مهر لأنه إن جاز نكاح الأربع فلهن أربعة مهور وإن جاز نكاح الثلاث مع الواحدة فكذلك وإن كان جاز نكاح الثنتين مع الواحدة فلهن ثلاثة مهور فثلاثة مهور لهن بيقين والمهر الرابع يثبت في حالين ولا يثبت في حال ولكن أحوال الإصابة حالة واحدة فكإنه ثبت في حال دون حال فيتنصف فلهذا كان لهن ثلاثة مهور ونصف مهر فإما نصف مهر من ذلك فللأربع ثلاثة أرباعه وللثلاث ربعه لأنه لا منازعة للثنتين في هذا النصف والأربع يدعين ذلك لأنفسهن والثلاث يدعين ذلك بانضمام الواحدة إليهن وانضمام الواحدة إليهن في حال دون حال فباعتبار الحالين يكون للثلاث نصف نصف هذا وهو الربع وللأربع ثلاثة أرباع فأما مهر واحد فللأربع منه سدسان ونصف سدس وللثلاث سدسان ونصف سدس وللثنتين سدس لأن الثلاث والأربع يدعين هذا المهر لأنفسهن والثنتان لا يدعيان ذلك إلا بانضمام الواحدة إليهما وانضمام الواحدة إليهما في حال دون حال ففي حالة الانضمام لهما ثلث ذلك وفي غير حالة الانضمام لا شيء لهما فلهما نصف الثلث وهو السدس والباقي وهو خمسة أسداس استوت فيه منازعة الثلاث والأربع فكان بينهما نصفين لكل فريق سدسان ونصف سدس وأما المهران فقد استوت في ذلك منازعة الفرق الثلاث فكان بينهن أثلاثا لكل فريق ثلثا مهر فأما الأربع فقد أصابهن مرة ثلثا مهر ومرة سدسان ونصف سدس ومرة ثلاثة أرباع النصف فيجمع ذلك كله ويقسم بينهن بالسوية إذ لا مزاحمة

 

ج / 5 ص -149-       للواحدة معهن وإما الثلاث فقد أصابهن مرة ثمن مهر ومرة سدسان ونصف سدس ومرة ثلثا مهر فيجمع ذلك كله ثم الواحدة تأخذ ثمن جميع ذلك لأنه إن صح نكاحها معهن فلها ربع ذلك وإن لم يصح فلا شيء لها فتأخذ ثمن ذلك والباقي بين الثلاث بالسوية وإما الثنتان فإنهما أصابهما مرة ثلثا مهر ومرة سدس مهر فتدخل الواحدة معهما وتأخذ سدس ما في أيديهما لأنه إن جاز نكاحها معها فلها ثلث ذلك وإلا فلا شيء لها فتأخذ نصف الثلث وهو السدس ثم الباقي بينهما نصفان وإذا أردت تصحيح الحساب فالطريق فيه ضرب هذه المخارج بعضها في بعض وهو واضح لا يشتغل به للتحرز عن التطويل وعلى قول محمد رحمه الله تعالى للأربع مهر وثلث مهر وللثلاث مهر وللإثنتين ثلثا مهر وللواحدة نصف مهر فجملة ذلك أيضا ثلاثة مهور ونصف كما هو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ووجه التخريج إن الأحوال ثلاثة فيجب اعتبار كل حالة فيقول نكاح الأربع يصح في حال ولا يصح في حالين فإن صح نكاحهن فلهن أربعة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن وأحوال الحرمان أحوال فلهن ثلث ذلك وهو مهر وثلث مهر بينهن بالسوية والثلاث إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن ونكاحهن يصح في حال ولا يصح في حالين فلهن ثلث ذلك وهو مهر واحد والثنتان إن صح نكاحهما فلهما مهران ونكاحهما صحيح في حال دون حالين فلهما ثلث ذلك وذلك ثلثا مهر والواحدة يصح نكاحها في حالين إما مع الثلاث أو مع الثنتين ولا يصح نكاحها في حال وهو ما إذا تقدم نكاح الأربع لكن أحوال الإصابة حالة واحدة فكان نكاحها يصح في حال دون حال فكان لها نصف المهر وعلى كل واحدة منهن عدة المتوفي عنها زوجها احتياطا.
قال: فإن كانت إحدى الأربع أمة والمسألة بحالها فنكاح الأمة فاسد بيقين لانضمامها إلى الحرائر ولا حظ لها من المهر ولا من الميراث ونكاح المنفردة هنا صحيح على كل حال لأن الباقي في الحاصل ثلاث وثلاث واثنتان وواحدة فيتيقن بصحة نكاح الواحدة إما مع الثنتين أو مع أحد الفريقين من الثلاث ثم بيان حكم المهران على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لهن ثلاثة مهور ونصف لما بينا أن أكثر ما لهن أربعة مهور وأقل ما لهن ثلاثة مهور فيتوزع المهر الرابع نصفين ثم للمنفردة من هذه الجملة مهر كامل لأنا تيقنا بصحة نكاحها بقي مهران ونصف فأما نصف مهر من ذلك لا منازعة فيه للثنتين وكل فريق من الثلاث يدعين ذلك فيكون بين الفريقين نصفين بقي مهران استوت فيهما منازعة الفرق الثلاثة فكان بينهن أثلاثا لكل فريق ثلثا مهر فأما على قول محمد فللواحدة مهر كامل لما قلنا ولكل فريق من الثلاث مهر واحد لأن نكاح كل فريق يصح في حال ولا يصح في حالين وفي حالة الصحة لهن ثلاثة مهور وأحوال الحرمان أحوال فكان لكل فريق ثلث ذلك وهو مهر واحد ونكاح الثنتين يصح في حال ولا يصح في حالين وفي حالة الصحة لهما مهران فلهما ثلث ذلك وهو ثلثا مهر

 

ج / 5 ص -150-       وميراث النساء بينهن للواحدة من ذلك سبعة من أربعة وعشرين لأن نكاحها صحيح بيقين فإن صح مع الثنتين فلها ثلث الميراث ثمانية من أربعة وعشرين وإن صح مع الثلاث فلها ربع الميراث ستة من أربعة وعشرين فقدر ستة يقين وما زاد على ذلك يثبت في حال دون حال فلهذا كان لها سبعة ولا يقال ستة لها في حالين بأن يصح نكاحها مع هؤلاء الثلاث أو مع الفريق الآخر فكان ينبغي أن تعتبر الحالتان في حقها لأنهما حالتا حرمان الزيادة وهذا لأنه لا فرق في حقها بين أن يكون صحة نكاحها مع هذا الفريق أو مع الفريق الآخر واعتبار الأحوال لا يتفاوت وإذا لم يكن في حقها تفاوت في هاتين الحالتين فهما حالة واحدة.
قال: ولهم واحد من الباقي وهو سبعة عشر بين الثلاث نصفان لأن الثنتين لا يدعيان أكثر من ثلثي الميراث وما بقي وهو ستة عشر بينهن أثلاثا لاستواء حالهن في استحقاق ذلك ولكن هذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الباقي بعد نصيب الواحدة كله مقسوم بين الفرق أثلاثا لاستواء حالهن في استحقاق ما يفرغ من حق الواحدة وقد تقدم بيان نظائره.
قال ولو كان طلق اثنتين من نسائه ثم مات قبل أن يبين والمسئلة بحالها كان لهن مهران ونصف لأنه قد سقط بطلاق الثنتين قبل الدخول مهر واحد وقد كان الثابت لهن قبل الطلاق ثلاثة مهور ونصفا فإذا سقط مهر كان الباقي مهرين ونصفا فأما الواحدة فأكثر ما يكون لها ربع ثلاثة مهور بأن كان صح نكاحها مع الثلاث ووجب أربعة مهور ثم سقط مهر بالطلاق بقي ثلاثة مهور لها ربع ذلك وأقل ما يكون لها ثلث مهرين بأن يكون نكاحها صح مع الثنتين فكان الواجب ثلاثة مهور سقط مهر بالطلاق وبقي مهران فلها ثلث ذلك وذلك ثلثا مهر فقدر ثلثي مهر لها بيقين وما زاد على ذلك إلى تمام ثلاثة أرباع مهر وذلك نصف سدس مهر يثبت في حال دون حال فيتنصف فيكون لها ثلثا مهر وربع سدس مهر وما بقي يكون بين الفرق الثلاثة أثلاثا لاستواء حالهن في دعوى ذلك والميراث على ما وصفنا في المسألة الأولى قال الحاكم رحمه الله تعالى هذا الجواب ليس بسديد في حكم المهر على مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى ولم يبين الجواب الصواب على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولكن بيان ذلك على مذهبه أن نقول لما كان الواجب لهن مهرين ونصفا فأما نصف مهر من ذلك تأخذه الواحدة لأن الثنتين لا يدعيان ذلك أصلا والثلاث إنما يدعين ذلك بالواحدة فأما بدون الواحدة فلا يدعين شيئا من ذلك فكانت الواحدة بذلك أولى ممن يدعي الاستحقاق بها فلهذا تأخذ الواحدة نصف مهر بقي مهران فأما نصف مهر من ذلك فالثلاث يدعين ذلك بأنفسهن والمثنى يدعيان ذلك بالواحدة والواحدة مضمومة إليهن في حال دون حال فكان سدس هذا النصف للمثنى ولكل فريق من الثلاث سدسان ونصف سدس بقي مهر ونصف استوت منازعة الفرق الثلاث فيه فكان بينهن أثلاثا فقد أصاب الثنتين مرة نصف مهر ومرة سدس النصف

 

ج / 5 ص -151-       فذلك سبعة من اثني عشر وأصاب كل فريق من الثلاث مرة نصف مهر ومرة سهمان ونصف سدس من ستة من النصف الآخر فذلك ثمانية ونصف ثم الواحدة إن كان يصح نكاحها مع الثنتين فلها ثلثا مهر وقد وصل إليها نصف مهر بقي إلى تمام حقها سدس مهر ونكاحها مع الثنتين صحيح في حال دون حالين فتأخذ منهما ثلث سدس مهر ثم تجيء إلى كل فريق من الثلاث فإن صح نكاحها مع كل فريق من الثلاث فلها ثلاثة أرباع مهر وقد وصل إليها نصف مهر بقي إلى تمام حقها سدس ونصف سدس فتأخذ من كل فريق ثلث ذلك فيجتمع لها ثلثا مهر وثلث سدس مهر وما بقي في يد كل فريق مقسوم بينهم بالسوية.
قال: وإذا تزوج الرجل امرأة وابنتيها في عقد متفرقة ثم مات ولا يعلم أيتهن أول فلهن مهر واحد لأن الصحيح نكاح الواحدة وهي السابقة منهن أيتهن كانت ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى نصف هذا المهر للأم ونصفه للبنتين بينهما نصفان وكذلك الميراث نصفه للأم ونصفه للبنتين بينهما نصفان وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى المهر والميراث بينهن أثلاثا فطريقهما واضح فإن حجة كل واحدة مثل حجة صاحبتيها على معنى أنه إن تقدم نكاحها استحقت ذلك وإن تأخر فلا شيء لها والمساواة في سبب الاستحقاق يوجب المساواة في الاستحقاق ألا ترى أنهن لو كن امرأة وأمها وابنتها أو امرأة وأمها وأخت أمها كان الميراث والمهر بينهن أثلاثا فأما أبو حنيفة رحمه الله له في المسألة طريقان أشار في الكتاب إلى أحدهما فقال من قبل أنه لا يثبت نكاح إحدى البنتين بيقين ومعنى هذا أنا تيقنا ببطلان نكاح إحدى البنتين وأن الأم لا يزاحمها إلا إحدى البنتين فلهذا كان لها نصف المهر ونصف الميراث وقد استوى في النصف الآخر حال البنتين لأنه ليست إحداهما بتعيين جهة البطلان في نكاحها بأولى من الأخرى فلهذا كان بينهما نصفين وطريق آخر أن سبب بطلان النكاح في حق الأم واحد وهو المصاهرة لأنه سواء تزوج الكبرى من البنتين أولا أو الصغرى فقد حرمت الأم بالمصاهرة فأما السبب في حق كل واحد من البنتين مختلف لأن فساد نكاحها مرة في الجمع بين الأختين ومرة بالجمع بين الأم والبنت واحدهما غير الآخر فوجب اعتبار الثنتين في حق كل واحدة منهما والتوزع على أسباب الحرمة فإذا كان سبب الحرمة في حق الأم واحدا وفي حق البنتين متعددا لم يكن بينها وبين كل واحدة منهما مساواة في الحرمان بل حالها أحسن فكان لها ضعف ما لكل واحدة منهما فأما ما استشهدا به فقد قيل الكل على الاختلاف وقد يستشهد محمد رحمه الله تعالى بالمختلف على المختلف والصحيح الفرق من قبل أنه لا يقين في بطلان نكاح واحدة بل حال الأم والجدة والنافلة في ذلك سواء وكذلك السبب المتعدد في حرمة كل واحدة منهن باعتبار اختلاف الاسم كالأم والجدة والأم والخالة أو الأم والبنت فلما استوى حالهن كان الواجب بينهن أثلاثا بالسوية وإن متن جميعا والزوج حي فالقول في الأولى منهن قوله كما في حال حياتهن القول في بيان الأولى قوله لأن

 

ج / 5 ص -152-       الملك حقه فكذلك بعد موتهن القول في بيان الأولى قوله وإن مات الزوج بعدهن قبل أن يبين فله ثلث ميراث زوج من كل واحدة منهن وعليه ثلث ما سمي لكل واحدة منهن من المهر باعتبار الأحوال لأن نكاح كل واحدة صحيح في حال دون حالين فلها ثلث ما سمي لها وباعتبار صحة نكاحها له ميراث زوج منها والصحة في حال دون حالين فله ثلث ميراث زوج من كل واحدة منهن.
قال فإن كان تزوج البنتين في عقدة واحدة فنكاحهما باطل لأنا نتيقن ببطلان نكاحهما بسبب الجمع بين الأختين سواء تقدم أو تأخر وعند التيقن ببطلان نكاحهما نتيقن بصحة نكاح الأم فهي امرأته تقدم نكاحها أو تأخر.
قال: وإن كان قد دخل بهن جميعا ثم مات ولا يدري أيتهن دخل بها أولا فنقول أما لكل واحدة من البنتين الأقل مما سمى لها ومن مهر المثل لأنه دخل بهما بحكم نكاح فاسد ولا ميراث لهما لفساد نكاحهما وكذلك لا ميراث للأم لأن نكاحها قد بطل في حال حياته بالدخول بالبنتين سابقا أو متأخرا فإن الدخول بالبنت يحرم الأم على التأبيد وأما المهر ففي القياس للأم مهر وربع مهر وفي الاستحسان لها مهر واحد وجه القياس إن نكاح الأم صحيح بيقين فإن كان دخل بإحدى البنتين قبل الأم فقد حرمت الأم بذلك ووجب لها نصف المهر لأن الفرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول ثم دخل بالأم بعد ذلك فيجب لها بالدخول مهر فكان لها من هذا الوجه مهر ونصف وإن كان دخل بالأم أولا فلها مهر واحد وهو المسمى ثم حرمت عليه بالدخول بالبنت بعد ذلك فإن كان لها في وجه مهر ونصف وفي وجه مهر فلها مهر بيقين والنصف يثبت في حال دون حال فيتنصف ولكنه استحسن فقال لها مهر واحد لأنه يجعل كأنه دخل بالأم أولا فإن فعله محمول على الحل ما أمكن وأول فعله يمكن أن يحمل على الوطء الحلال ثم لا إمكان بعد ذلك فلهذا جعلنا كأنه وطى ء الأم أولا حتى يعلم غير ذلك والثاني إن المهر والنصف وجوبهما باعتبار سببين أحدهما العقد الصحيح والآخر الوطء بالشبهة ولم يظهر السببان إنما الظاهر سبب واحد وهو العقد الصحيح فأما الوطء تصرف في الملك بعده وباعتبار العقد الصحيح لا يجب الأمهر واحد فلهذا كان لها مهر واحد وعلى كل واحدة منهن ثلاث حيض لدخوله بهن ولو لم يكن دخل بالأم ودخل بالبنتين أو إحداهما فللأم نصف المسمى لوقوع الفرقة بسبب من جهة الزوج بعد صحة نكاحها ولا عدة عليها وللمدخول بها من البنتين الأقل من المسمى ومن مهر المثل وعليها العدة بثلاث حيض.
قال: وإن كان تزوجهن في عقد متفرقة ولم يدخل بشيء منهن حتى قال إحداكن طالق فهذا الكلام لغو منه لأن السابق منهن امرأته والأخريان أجنبيتان ومن جمع بين امرأته وأجنبيتين وقال إحداكن طالق لم يقع شيء.
قال: وإن قال إحدى نسائه طالق وقع على امرأته منهن لأنه أضاف الطلاق إلى امرأته فإن

 

ج / 5 ص -153-       في نكاحه امرأة واحدة ومن كان في نكاحه امرأة واحدة إذا قال إحدى نسائي طالق وقع الطلاق بذلك اللفظ على امرأته بخلاف الأول فإن هناك أوقع الطلاق على إحدى المعينات بغير عينها وفيهن من ليست بمنكوحة له فلا تتعين امرأته لذلك الطلاق وإذا وقع الطلاق على امرأته فلها نصف المهر ثم الخلاف في نصف المهر هنا كالخلاف في جميع المهر في المسألة الأولى ولا ميراث لواحدة منهن لوقوع الفرقة بالطلاق قبل الدخول.
قال: وإن كان تزوج البنتين في عقدة ثم قال إحدى نسائي طالق طلقت الأم بذلك لأن الصحيح نكاح الأم وهو بهذا اللفظ موقع الطلاق على من صح النكاح بينه وبينها فلهذا طلقت الأم ولها نصف المهر ولا عدة عليها ولا ميراث لها وإن قال إحداكن طالق لم يقع الطلاق على الأم إلا أن ينوبها لأنه جمع بين امرأته وأجنبيتين وأوقع الطلاق على إحداهن فلا يتعين لذلك امرأته ألا أن ينويها بقلبه ولو كان تزوجهن في عقدة واحدة فنكاحهن فاسد بعلة الجمع فإن كان فيهن أمة جاز نكاح الأمة لأن نكاح الحرتين منهن باطل بيقين فإن الحرتين إن كانتا ابنتين بطل نكاحهما للجمع بين الأختين وإن كانتا أما وبنتا بطل نكاحهما للجمع أيضا ومتى كان نكاح الحرتين باطلا بيقين لا يبطل به نكاح الأمة لأن بطلان نكاح الأمة بضمها إلى الحرة وذلك عند صحة نكاح الحرة لا عند بطلان نكاحها.
قال وإن كان فيهن أمتان جاز نكاح الحرة لأن نكاح الأمتين باطل بيقين فإنهما إما أختان أو أم وبنت وإذا بطل نكاحهما كان ضمهما إلى الحرة لغوا فجاز نكاح الحرة بمنزلة ما لو كانت اثنتان منهما ذواتي زوج أو في عدة من زوج ولما بطل نكاحهما صح نكاح الفارغة منهن.
قال: وإن تزوج خمس حرائر وأربع إماء في عقدة واحدة جاز نكاح الإماء وبطل نكاح الحرائر لأن نكاح الحرائر لو انفرد كان باطلا ولو انفرد نكاح الإماء كان صحيحا فعند الجمع يصح نكاح من يصح نكاحه عند الانفراد وبمثله لو تزوج أربع إماء وأربع حرائر في عقدة جاز نكاح الحرائر لأن نكاح الحرائر ولو انفرد هنا كان صحيحا فيندفع بنكاحهن نكاح الإماء كما لو تزوج حرة وأمة في عقدة واحدة والأصل الذي تدور عليه المسائل أنه متى جمع في العقد بين الحرائر والإماء نظر فإن كان نكاح الحرة يجوز عند الانفراد يبطل نكاح الأمة لأنه تحقق ضمها إلى الحرة في النكاح وإن كان نكاح الحرة لا يجوز عند الانفراد يصح نكاح الأمة لأنه لم يتحقق انضمامها إلى الحرة في النكاح ألا ترى أن الحرة لو كانت ذات رحم محرم منه فجمع بينها وبين أمة في النكاح جاز نكاح الأمة لأنه لم يتحقق ضمها إلى نكاح الحرة حين لا وجه لتصحيح نكاح الحرة.
قال: وإن تزوج حرة وأمة في عقدة واحدة وإحداهما بنت الأخرى جاز نكاح الحرة لأن كل واحدة لو انفرد نكاحها هنا يصح فيتحقق ضم الأمة إلى الحرة فلهذا جاز نكاح الحرة دون الأمة.

 

ج / 5 ص -154-       قال: وإذا كان للرجل أربع نسوة فتزوج خامسة ودخل بها فرق بينه وبينها لبطلان نكاحها وعليه لها الأقل من المسمى ومن مهر المثل وعليها العدة ولم يقرب الأربع حتى تنقضي عدة الخامسة لأنه لو قربهن كان جامعا ماءه في رحم خمس نسوة بالنكاح ولأن عدة تلك الواحدة يمنع ابتداء نكاح الأربع إذا اقترن بنكاحهن فيمنع الوطء إذا طرى على نكاحهن كعدة الأخت لما منعت نكاح الأخت إذا اقترنت به منعت الوطء إذا طرأ على نكاحهن كعدة الأخت لما منعت نكاح الأخت إذا اقترنت به منعت الوطء إذا طرأت عليه حتى إذا وطى ء أخت امرأته بشبهة فليس له أن يطأ امرأته حتى تنقضي عدة أختها.
قال: ولا بأس أن يتزوج الرجل أخت أم ولده لأن فراش أم الولد ضعيف ألا ترى أنه مجوز للنسب غير ملزم حتى لو نفى المولى ولده انتفي بمجرد نفيه والنكاح قوي ملزم بنفسه والضعيف لا يكون دافعا للقوي والدليل عليه أن المولى لو زوج أم ولده كان النكاح صحيحا فكما أن فراشها لضعفه لا يمنع تزويجها فكذلك لا يمنع المولى نكاح أختها اعتبارا للمنع في أحد الجانبين بالمنع في الجانب الآخر وكذلك لو تزوج أخت مدبرته أو أخت أمة له قد كان يطأها وهذا أظهر فإنه لا فراش لهما غير أنه لا ينبغي أن يطأ التي تزوج حتى يملك فرج الأمة غيره لأنه لو وطأها صار جامعا ماءه في رحم أختين ولأن الجمع بين الأختين في الاستفراش الحقيقي حرام وقد تحقق منه استفراش الأولى فلا يحل له أن يستفرش الثانية ما لم ينقطع حكم ذلك الاستفراش وانقطاعه بالتزويج أو البيع في محل البيع فإن لم يكن وطى ء أمته ولا مدبرته فلا بأس بأن يطأ امرأته وليس له أن يطأ الأمة والمدبرة بعد النكاح لأن المنكوحة بالعقد صارت فراشا فليس له أن يستفرش الأمة بعد ذلك وله أن يطأ المنكوحة لأنه لا فراش له على المملوكة حقيقة وحكما.
قال: ولو زوج أم ولده ثم وطى ء امرأته ثم مات زوج أم الولد أو فارقها فله أن يطأ امرأته ما دامت أم ولده تعتد من زوجها لأن فرجها حرام عليه في حال عدتها كما هو حرام عليه في حال نكاحها فإذا انقضت عدتها فلا ينبغي له أن يطأ امرأته حتى يملك فرج أم الولد من غيره لأن النكاح قد ارتفع بآثاره فعاد الحكم الذي كان قبله وكذلك الأمة والمدبرة إذا كان وطئها قبل أن يتزوج الأخت فحكمهما وحكم أم الولد سواء.
قال: فإن أعتق أم ولده فعليها إن تعتد بثلاث حيض عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى عليها حيضة واحدة ومذهبنا مروي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ومذهبه مروي عن بن عمر رضي الله عنهما ويستوي أن أعتقها أو مات عنها الأعلى قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فإنه كان يقول لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا مات عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا وهذا دليلنا فإنه الزمها عدة الحرائر إلا أنا نوجب الحيض لأن هذه العدة لا تجب إلا باعتبار الدخول وتوهم اشتغال الرحم فيقدر بالحيض في الحياة والوفاة كالعدة من نكاح فاسد ووطء شبهة احتج الشافعي فقال عدتها أثر

 

ج / 5 ص -155-       ملك اليمين فتقدر بحيضة واحدة كالاستبراء ودليل صحة اعتباره بالاستبراء أنه لا يختلف بالحياة والوفاة وتأثيره أن المقصود تبين فراغ الرحم لا غير وذلك يحصل بالقرء الواحد ولكنا نقول هذه عدة وجبت على حرة فلا يكتفي فيها بحيضة واحدة كعدة النكاح بل أولى فإن عدة النكاح قد تجب على الأمة وهذه العدة لا يجب إلا على الحرة وتأثيرة أن الحرة كاملة الحال فالوظيفة التي لا تجب إلا على الحرة تجب بصفة الكمال لأن المعتبر حال وجوب العدة لا ما كان قبله وبه يتبين الفرق بينه وبين الاستبراء فإن الاستبراء لا يجب عليها ولكن على المولى أن يستبرئها قال صلى الله عليه وسلم: "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة" وهذا خطاب للمولى دون الأمة فإن قول القائل لا تضرب فلانا خطاب للضارب دون المضروب توضيحه أن سبب وجوب الاستبراء حدوث ملك الحل بسبب ملك اليمين ألا ترى أنه لو اشتراها من صبي أو امرأة يجب وهنا سبب وجوب المدة زوال الفراش والعدة التي تجب بزوال الفراش لا يكتفي فيها بحيضة واحدة فإن تزوج المولى أختها في عدتها لم يجز عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى غير أنه لا يقربها حتى تنقضي عدة أختها ولو تزوج أربعا سواها في عدتها جاز عندنا وله أن يقربهن وقال زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك زفر رحمه الله تعالى يقول إنها معتدة فلا يتزوج أختها ولا أربعا سواها كالمعتدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة بل أولى لأن أصل فراشه في النكاح الفاسد والوطء بالشبهة ما كان موجبا للحل له وأصل الفراش هنا موجب الحل ثم العدة التي هي أثر الفراش هناك تمنع نكاح الأخت والأربع فهنا أولى وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا عدة أم الولد أثر فراشها وأثر الشيء لا يربو على أثر أصله في المنع فإذا كان أصل فراشها لا يمنع المولى من نكاح أختها وأربع سواها فكذلك أثر فراشها وأصل الفراش بالنكاح الصحيح أو الفاسد بعد الدخول يمنع نكاح الأخت والأربع فكذلك أثره وهذا لأنه يبقى ببقاء العدة من المنع ما كان ثابتا لا أن يثبت ما لم يكن ثابتا وهذا بخلاف تزويجها من الغير فإن أصل فراشها مانع من التزويج من الغير إذا بقي حتى لو كانت حاملا ليس له أن يزوجها من غيره فكذلك أثر فراشها يمنع إلا أنها إذا كانت حاملا فله أن يقطع فراشها بالتزويج وليس له أن يقطع عدتها لحق الشرع والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بينهما من وجهين.
أحدهما: أن بسبب بقاء العدة يبقى الفراش حتى إذا جاءت بالولد يثبت النسب منه ولا يثبت النسب منه إلا باعتبار الفراش فلو تزوج أختها صار جامعا بين الأختين في الفراش وذلك حرام وإذا تزوج أربعا سواها صار جامعا بين خمس نسوة في الفراش ولكن بسببين مختلفين وذلك جائز ألا ترى أن من عنده أربع نسوة له أن يستولد من الجواري ما شاء والثاني أن فراشها بالعتق يتقوى حتى يثبت النسب بعد العتق على وجه لا يملك نفيه بخلاف ما قبل العتق وكذلك بعد العتق لا يملك تزويجها وإن كان قبل العتق يجوز تزويجها فكل منع كان ثابتا في أصل

 

ج / 5 ص -156-       فراشها يتقوى ذلك بعتقها والمنع من استفراش الأخت كان ثابتا في أصل فراشها حتى لا يحل له أن يطأ أختها بملك اليمين ولا بملك النكاح فيتقوى ذلك المنع بالعتق فيمنع عقد النكاح أصلا ولم يكن هو في أصل فراشها ممنوعا من استفراش الأربع بالنكاح فلو صار ممنوعا بعد العتق كان هذا إثبات منع مبتدأ لا إظهار قوة فيما كان ثابتا توضيحه أن المقصود بالنكاح الوطء ولما لم يكن هو باعتبار عدتها ممنوعا من وطء الأربع بالنكاح بأن يعتقها وتحته أربع نسوة كان له أن يطأهن فكذلك لا يكون ممنوعا من العقد عليها أيضا بمنزلة المعتدة بالنكاح.
قال: وإذا تزوج الرجل أربع نسوة في عقدة وثلاثا في عقدة ثم طلق إحدى نسائه ثم مات قبل أن يبين فلهن ثلاثة مهور أما على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فلأن أكثر مالهن ثلاثة مهور ونصف مهربان صح نكاح الأربع وقد سقط بطلاق إحداهن نصف مهر وأقل مالهن مهران ونصف مهر بأن صح نكاح الثلاث وقد سقط نصف مهر بطلاق إحداهن فقدر مهرين ونصف يقين ومهر آخر يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان لهن ثلاثة مهور نصف مهر من ذلك للأربع خاصة لأن الثلاث لا يدعين ذلك واستوت منازعة الفريقين في المهرين والنصف فكان بينهما نصفان لكل فريق مهر وربع والميراث بين الفريقين نصفان لاستواء حالهما في استحقاقه وعند محمد رحمه الله تعالى كذلك لأن الأربع إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور ونصف مهر لأنه طلق إحداهن قبل الدخول وإن لم يصح نكاحهن فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر وثلاثة أرباع والثلاث إن صح نكاحهن فلهن مهران ونصف وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر وربع مهر.
قال: ولو تزوج ثلاث نسوة في عقدة فدخل بواحدة منهن ولم يدخل بالثنتين ثم طلق إحدى نسائه واحدة والأخرى ثلاثا ثم مات قبل أن يبين فللمدخول بها مهر تام لتأكد مهرها بالدخول وللتين لم يدخل بهما مهر وربع مهر في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن أكثر ما يكون لهما مهر ونصف بأن يكون أحد الطلاقين واقعا على المدخول بها والآخر على أحدهما وأقل مالهما مهر واحد بأن يكون الطلاقان وقعا عليهما فمهر واحد لهما بيقين ونصف مهر يثبت في حال دون حال فيتنصف فيكون لهما مهر وربع مهر بينهما نصفان وعلى قول محمد رحمه الله تعالى للتين لم يدخل بهما مهر وثلث مهر هكذا ذكر في هذا الكتاب وفي الزيادات يقول لهما مهر وربع مهر كما هو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولكن بطريق آخر وهو أن إحداهما مطلقة بيقين فيعزلها بنصف مهر والأخرى إن وقع الطلاق عليها فلها نصف مهر وإن لم يقع فلها مهر كامل فنصف مهر لها بيقين والنصف الآخر يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان لها ثلاثة أرباع مهر فإذا ضممت ذلك إلى نصف مهر يكون مهرا وربع مهر بينهما ووجه رواية هذا الكتاب إنه لو لم يدخل بشيء منهن لكان الواجب عليه مهرين بينهن أثلاثا لكل واحدة منهن ثلثا مهر لأنه قد سقط بالطلاقين مهر واحد وبأن دخل بإحداهن

 

ج / 5 ص -157-       حتى لم ينتقص من مهرها شيء لم يؤثر ذلك في حق الأخريين بل يجعل في حقهما كأنه لم يدخل بشيء منهن فيكون لهما مهر وثلث مهر بينهما نصفان لكل واحدة منهما ثلثا مهر وأما الميراث فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى للمدخول بها خمسة أسهم من اثني عشر سهما من ميراث النساء وللأخر بين سبعة أسهم لأنه يلغي التطليقات الثلاث فإن حالهن فيها على السواء على معنى أنه على أيتهن وقعت حرمتها بقيت التطليقة الواحدة فإن وقعت على المدخول بها فلها ثلث ميراث النساء أربعة من اثني عشر سهما وإن وقعت على إحدى اللتين لم يدخل بهما فلها نصف الميراث ستة فمقدار أربعة لها بيقين وما زاد على ذلك وهو سهمان يثبت في حال دون حال فيتنصف فيكون لها خمسة من اثني عشر والباقي للتين لم يدخل بهما وإن وقع الطلاق على إحدى اللتين لم يدخل بهما فلهما نصف الميراث وإن وقع على المدخول بها فلهما ثلثا الميراث فمقدار ستة لهما بيقين وسهمان يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان لهما سبعة وذكر في بعض نسخ هذا الكتاب إن قول محمد رحمه الله تعالى في الميراث كقول أبي يوسف رحمه الله تعالى وفي بعض النسخ قال عنده للمدخول بها خمسة أثمان ميراث النساء وللتين لم يدخل بهما ثلاثة أثمان ميراث النساء ووجه ذلك إن إحدى اللتين لم يدخل بهما مطلقة محرومة عن الميراث يقينا فعزلها للحرمان وإن كانت معزولة بوقوع الواحدة عليها بقي الثلاث على أيتهما وقعت حرمتها فيكون الميراث في هذه الحالة نصفين نصفه للتي دخل بها ونصفه للتين لم يدخل بهما وإن كانت المعزولة للحرمان معزولة بوقوع الثلاث عليها فإن وقعت الواحدة على غير المدخول بها فالميراث كله للمدخول بها وإن وقعت على المدخول بها فالميراث بينهما نصفان فيثبت للمدخول بها في هذه الحالة ثلاثة أرباع الميراث ستة من ثمانية باعتبار أن لها النصف في حال والكل في حال وقد كان لها في الحالة الأولى أربعة فأربعة لها بيقين وما زاد على ذلك إلى تمام ستة يثبت في حال دون حال فيتنصف فلهذا كان لها خمسة من ثمانية وما بقي للتين لم يدخل بهما أو لأن لهما في الحالة الثانية الربع وفي الحالة الأولى النصف فيتنصف الربع باعتبار الأحوال فلهذا كان لهما ثلاثة أثمان الميراث.
وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن للمدخول بها ثلاثة أرباع الميراث ووجه ذلك أن إحدى اللتين لم يدخل بهما محرومة عن الميراث فيعزلها بإيقاع الثلاث عليها لأنا نتيقن أن إيقاع الثلاث موجب حرمان الميراث ولا يتيقن بذلك في الواحدة فجعلنا المعزولة للحرمان كان الثلاث وقعت عليها بقيت الواحدة فإن وقعت على المدخول بها فلها نصف الميراث وإن وقعت على غير المدخول بها فللمدخول بها جميع الميراث فكان لها باعتبار الأحوال ثلاثة أرباع الميراث والباقي وهو ربع الميراث للتين لم يدخل بهما ولو كان دخل باثنتين منهن والمسألة بحالها فلكل واحدة من اللتين دخل بهما مهر كامل لتأكد مهرهما بالدخول بالنكاح الصحيح وللتي لم يدخل بها ثلاثة أرباع المهر في قول أبي يوسف رحمه

 

ج / 5 ص -158-       الله تعالى فإنها إن كانت مطلقة فلها نصف مهر وإن لم يقع عليها شيء فلها مهر كامل فنصف مهر لها بيقين والنصف الآخر يثبت في حال دون حال فيتنصف قال وكذلك الجواب عند محمد رحمه الله تعالى وينبغي على قول محمد رحمه الله تعالى أن يكون لها ثلثا مهر بالطريق الذي قلنا أنه لو لم يدخل بشيء منهن كان لكل واحدة منهن ثلثا مهر فيجعل في حق التي لم يدخل بها كأنه لم يدخل بشيء منهن لأن الدخول بغيرها لا يزيد في حقها سببا فأما الميراث فعلى قول أبي يوسف للتي لم يدخل بها سدس الميراث لأنه إن لم يقع عليها شيء فلها ثلث الميراث وإن وقع عليها الطلاق فلا شيء لها فلها سدس الميراث به علل محمد رحمه الله تعالى في الكتاب وهو غلط فإنه إن لم يقع عليها شيء كان لها نصف الميراث لأنه لا يزاحمها في الميراث إلا واحدة فإن من وقع عليها الطلاق الثلاث من المدخولين محرومة عن الميراث ولكن الطريق في التخريج أن التي لم يدخل بها لها ثلاثة أحوال إن وقع عليها واحدة فلا شيء لها وإن وقع عليها الثلاث فلا شيء لها وإن لم يقع عليها شيء فلها نصف الميراث فلها حالتا حرمان وحالة إصابة فلهذا جعل لها ثلث النصف وهو السدس قال وكذلك الجواب في الميراث عند محمد رحمه الله تعالى قال الحاكم رحمه الله وليس ذلك بسديد بل الصواب عند محمد رحمه الله تعالى أن يكون لها ثمن الميراث.
وهكذا ذكر في بعض الروايات لأن إحدى المدخولتين وارثة فيعزلها للاستحقاق فإن كانت معزولة بإن لم يقع عليها شيء فلا شيء للتي لم يدخل بها في هذه الحالة لأن احد الطلاقين وقع عليها لا محالة وإن كانت المعزولة للاستحقاق معزولة بوقوع الواحدة عليها فإن وقع الثلاث على الأخرى فللتي لم يدخل بها نصف الميراث وإن وقع الثلاث على التي لم يدخل بها فلا شيء لها من الميراث فإذا كان لها النصف في حالة وفي حالة لا شيء لها كان لها الربع ثم هذا الربع لها في هذه الحالة ولا شيء لها في الحالة الأولى فلها نصف الربع وهو الثمن والباقي للتين دخل بهما.
قال: وإذا تزوج امرأتين في عقدة وثلاثا في عقدة ثم قال قد دخلت بأحد الفريقين ثم مات قبل أن يبين فللثنتين مهر واحد وللثلاث مهر ونصف لأن الثلاث إن صح نكاحهن بالسبق وقد دخل بهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن مهر ونصف مهر والثنتان إن صح نكاحهما فإن دخل بهما فلهما مهران وإن لم يصح فلا شيء لهما فلهما مهر واحد والميراث بين الفريقين نصفان لاستواء حالهما فيه وفقه هذه المسألة أنه جعل إقراره بالدخول بأحد الفريقين إقرارا بالدخول بمن صح نكاحه حملا لفعله وقوله على الصحة فإن دينه وعقله يدعو أنه إلى الإقدام على الوطء الحلال ويمنعانه من الإقدام على الوطء الحرام وكذلك لو طلق إحدى نسائه ثلاثا لأن الإيقاع بهذا اللفظ يتناول من صح نكاحها فإن من لم يصح نكاحها ليست من نسائه وإيقاع الثلاث بعد الدخول لا يسقط شيئا من الصداق فكان هذا

 

ج / 5 ص -159-       مثله من جهة أخرى فكذلك النفقة وبه فارق الجب والعنة فإن هناك تحقق فوات ما هو المقصود مع إن عندنا هناك لا يفسخ العقد ولكن يفرق بينهما بطريق التسريح بالإحسان حتى يكون ذلك طلاقا لإزالة ظلم التعليق عنها وهذا ليس في معنى ذلك من وجوه:
أحدها: أن هناك قد انسد عليها باب تحصيل ذلك المقصود بدون التفريق بينهما وهنا لم ينسد عليها وصول النفقة بدون التفريق بأن تستدين فتنفق.
والثاني: إن هناك الزوج يمسكها من غير حاجة به إليها فيما هو المقصود فكان ظالما وهنا يمسكها مع حاجته إليها فيما هو المقصود فلا يكون ظالما ولأن هناك في ترك التفريق إبطال حقها لأن وظيفة الجماع لا تصير دينا على الزوج بمضي المدة ولو فرقنا كان فيه إبطال ملك الزوج فاستوى الجانبان في ضرر الإبطال وفي جانبها رجحان لصدق حاجتها وهنا في ترك التفريق تأخير حقها لأن النفقة تصير دينا على الزوج وفي التفريق إبطال الملك على الزوج وضرر التأخير دون ضرر الإبطال وبه يفرق بينه وبين العبد فالضرر هناك ضرر الإبطال لأن النفقة هناك لا تصير دينا للمملوك على المالك ثم فيه إبطال حقه بغير بدل وفي البيع إبطال ملك المولى ببدل فكان هذا الضرر أهون حتى إن في الموضع الذي يكون إبطالا بغير بدل لا يفعل ذلك وهو أنه إذا عجز عن نفقة أم ولده لم يعتقها القاضي عليه.
قال: والتبوئة في الأمة أن يخلى بين الأمة وزوجها ولا يستخدمها لما بينا أن المعتبر في استحقاق النفقة تفريغها نفسها لقيام مصالح الزوج وإنما يحصل ذلك بهذا النوع من التبوئة فإن استخدمها بعد ذلك ولم يخل بينه وبينها فلا نفقة لها لأنه إزال ما به كانت تجب نفقتها عليه فهي كالحرة الناشزة فإن قيل المولى إنما أزال ذلك بحق له فلماذا لا يجعل هذا كالحرة إذا احتبست نفسها لصداقهاقلنا كما في الابتداء فإن الحرة إذا احتبست نفسها بالصداق كان لها أن تطلب النفقة والمولى إذا لم يبوئها بيتا في الابتداء لم يكن لها النفقة والمعني فيه أن الحرة إذا احتبست نفسها بصداقها فالتفويت إنما جاء من قبل الزوج حين امتنع من أيفاء ما لزمه لتنتقل إلى بيته فأما هنا التفويت ليس من جهة الزوج بل من جهة من له الحق وهو المولى لشغله إياها بخدمة نفسه فلهذا لم يكن لها نفقة عليه فإن كانت هي تجيء فتخدمه من غير أن يستخدمها فلها النفقة لأن الحق للمولى ولم يوجد من جهته تفويت بل الموجود من جهته التسليم فإن جاءت في وقت والزوج ليس في البيت فاستخدموها ومنعوها من الرجوع إلى بيتها فلا نفقة لها لأن استخدام أهل المولى إياها كاستخدام المولى وقد بينا أن فيه تفويت التبوئة والتبوئة شرط لاستحقاق النفقة وبعد التفويت ممن له الحق لا يكون لها نفقة.
قال: ونفقة المرأة واجبة على الزوج وإن مرضت من قبل أنها مسلمة نفسها إلى الزوج في بيته ولا فعل منها في المرض لتصير به مفوتة مع أنه لا يفوت ما هو المقصود من الاستئناس وغيره ولا معتبر بمقصود الجماع في حق النفقة فإن الرتقاء تستحق النفقة على زوجها مع فوات مقصود الجماع وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الرتقاء لا تستوجب النفقة

 

ج / 5 ص -160-       صحيح والبيان إلى الزوج ولو كان أمره أن يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه وأخرى في عقدة جاز نكاح التي أمره بها لأنه في العقد عليها ممتثل لأمر الزوج وفي العقد على الأخرى مبتدئ غير ممتثل لأمر سبق من الزوج فينفذ عقده على التي امتثل بهاأمر الزوج في العقد عليها ويتوقف في الأخرى على إجازة الزوج والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب النفقة
قال: رضي الله عنه أعلم بإن نفقة الغير تجب بأسباب منها الزوجية ومنها الملك ومنها النسب وهذا الباب لبيان نفقة الزوجات والأصل فيه قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقال الله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] وقال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] معناه أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم وقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان اتخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا وأن لا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه فإذا فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح وإن لهن عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف" وقال صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي من مال أبي سفيان رضي الله عنه ما يكفيك وولدك بالمعروف" ولأنها محبوسة لحق الزوج ومفرغة نفسها له فتستوجب الكفاية عليه في ماله كالعامل على الصدقات لما فرغ نفسه لعمل المساكين استوجب كفايته في مالهم والقاضي لما فرغ نفسه لعمله للمسلمين استوجب الكفاية في مالهم إذا عرفنا هذا فنقول طريق إيصال النفقة إليها شيئان التمكين أو التمليك حتى إذا كان الرجل صاحب مائدة وطعام كثير تتمكن هي من تناول مقدار كفايتها فليس لها أن تطالب الزوج بفرض النفقة فإن لم يكن بهذه الصفة فخاصمته في النفقة فرض لها عليه من النفقة كل شهر ما يكفيها بالمعروف لأن النفقة مشروعة للكفاية فإنما يفرض بمقدار ما يعلم أنه تقع به الكفاية ويعتبر المعروف في ذلك وهو فوق التقتير ودون الإسراف لأنه مأمور بالنظر من الجانبين وذلك في المعروف وكذلك بفرض لها من الكسوة ما يصلح لها للشتاء والصيف فإن بقاء النفس بهما وكما لا تبقى النفس بدون المأكول عادة لا تبقى بدون الملبوس عادة والحاجة إلى ذلك تختلف باختلاف الأوقات والأمكنة فيعتبر المعروف في ذلك فإن كان لها خدم فرض القاضي لخادم واحد لأن الزوج محتاج إلى القيام بحوائجها وأقرب ذلك إصلاح الطعام لها وخادمها ينوب عنه في ذلك فيلزمه نفقة خادمها بالمعروف ولا تبلغ نفقة خادمها نفقتها حتى قالوا يفرض لخادمها أدنى ما يفرض لها على الزوج المعسر ولا يفرض إلا لخادم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يفرض لخادمين لأنها قد تحتاج إليهما ليقوم أحدهما بأمور داخل البيت والآخر يأتيها من خارج البيت بما تحتاج إليه وهما قالا حاجتها ترتفع بالخادم الواحد عادة وما زاد على الواحد فللتجمل والزينة ووجوب النفقة

 

ج / 5 ص -161-       على الزوج للكفاية فكما لا يزيدها على قدر الكفاية في نفقتها فكذلك في نفقة خادمها ولو فرض لخادمين لفرض لأكثر من ذلك فيؤدي إلا ما لا يتناهى: ثم في ظاهر الرواية المعتبر في ذلك حال الزوج في اليسار والإعسار في ذلك قال الله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] الآية تبين أن التكليف بحسب الوسع وإن النفقة على الرجال بحسب حالهم وذكر الخصاف رحمه الله تعالى في كتابه إن المعتبر حالهما جميعا حتى إذا كانا موسرين فلها نفقة الموسرين وإن كانت هي معسرة تحت زوج موسر تستوجب عليه دون ما تستوجب إذا كانت موسرة لأن الظاهر إن دون ذلك يكفيها وإن كانت موسرة والزوج معسرا تستوجب عليه فوق ما تستوجب إذا كانت معسرة لتحصل كفايتها بذلك وفي ظاهر الرواية يقول لما زوجت نفسها من معسر فقد رضيت بنفقة المعسرين فلا تستوجب على الزوج إلا بحسب حاله ثم ليس في النفقة تقدير عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يقدر كل يوم بمدين على الموسر وبمد ونصف على وسط الحال وبمد على المعسر وهذا ليس بقوي فإن المقصود الكفاية وذلك مما تختلف فيه طباع الناس وأحوالهم من الشباب والهرم ويختلف باختلاف الأوقات أيضا ففي التقدير بمقدار إضرار بأحدهما والذي قال في الكتاب إن كان معسرا فرض لها من النفقة كل شهر أربعة دراهم أو خمسة ولخادمها عليه ثلاثة دراهم أو أقل من ذلك أو أكثر فليس هذا بتقدير لازم لأن هذا يختلف باختلاف الأسعار في الغلاء والرخص واختلاف المواضع واختلاف الأوقات فلا معتبر بالتقدير بالدراهم في ذلك وإنما ذكر هذا بناء على ما شاهد في ذلك الوقت والذي يحق على القاضي اعتبار الكفاية بالمعروف فيما يفرض لها في كل وقت ومكان وكما يفرض لها من قدر الكفاية من الطعام فكذلك من الإدام لأن الخبز لا يتناول إلامأدوما عادة وجاء في تأويل قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] إن أعلى ما يطعم الرجل أهله الخبز واللحم وأوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز والزيت وأدنى ما يطعم الرجل أهله الخبز واللبن وأما الدهن فلأنه لا يستغني عنه خصوصا في ديار الحر فهو من أصل الحوائج كالخبز.
قال: فإن لم يكن لها خادم لم تفرض نفقة الخادم عليه وعن زفر رحمه الله تعالى أنه يفرض لخادم واحد لأن على الزوج أن يقوم بمصالح طعامها وحوائجها فإذا لم يفعل ذلك أعطاها نفقة خادم ثم تقوم هي بذلك بنفسها أو تتخذ خادما فإما في ظاهر الرواية استحقاقها نفقة الخادم باعتبار ملك الخادم فإذا لم يكن لها خادم لا تستوجب نفقة الخادم كالغازي إذا كان راجلا لا يستحق سهم الفارس وإن أظهر غنا الفارس في القتال.
قال: والكسوة على المعسر في الشتاء درع وملحفة زطية وخمار سابوري وكساء كأرخص ما يكون كفايتها مما يدفئها ولخادمها قميص كرابيس وإزار وكساء كأرخص ما يكون وللخادم في الصيف قميص مثل ذلك وإزار وللمرأة درع وملحفة وخمار وإن كان

 

ج / 5 ص -162-       موسرا فالنفقة عليه للمرأة ثمانية دراهم أو تسعة ولخادمها ثلاثة دراهم أو أربعة والكسوة للمرأة في الشتاء درع يهودي أو هروي وملحفة دينورية وخمار ابريسم وكساء أذربيجاني ولخادمها قميص زطي وإزار كرابيس وكساء رخيص وفي الصيف للمرأة درع سابوري وملحفة كتان وخمار ابريسم ولخادمها قميص مثل ذلك وإزار والحاصل أن ما ذكر من التقدير بالدراهم لا معتبر به لما قلنا وما ذكر من الثياب فهو بناء على عادتهم أيضا وذلك يختلف باختلاف الأمكنة في شدة الحر والبرد وباختلاف العادات فيما يلبسه الناس في كل وقت فيعتبر المعروف من ذلك فيما يفرض ولم يذكر في كسوة المرأة الإزار والخف في شيء من المواضع وذكر الإزار في كسوة الخادم ولم يذكر الخف فإن كانت تخرج للحوائج فلها الخف أو المكعب بحسب ما يكفيها فأما المرأة فمأمورة بالقرار في البيت ممنوعة من الخروج فلا تستوجب الخف والمكعب على الزوج وكذلك لا تستوجب الإزار لأنها مأمورة بأن تكون مهيأة نفسها لبساط الزوج فليس على الزوج أن يتخذ لها ما يحول بينه وبين حقه فلهذا لم يذكر الإزار في كسوتها ثم النفقة للكفاية في كل يوم فأما الكسوة فإنما تفرض في السنة مرتين في كل ستة أشهر مرة فإن فعل ذلك لم يجدد لها الكسوة حتى يبلغ ذلك الوقت إلا أن تكون لبست لبسا معتادا فتخرق قبل مجيء ذلك الوقت فحينئذ تبين إن ذلك لم يكن يكفيها فتجدد لها الكسوة ولكن إن أخذت الكسوة ورمت بها حتى جاء الوقت وقد بقيت تلك الكسوة عندها يفرض لها كسوة أخرى لأنها لو لبست لتخرق ذلك فبأن لم تلبس لا يسقط حقها ويجعل تجدد الوقت كتجدد الحاجة وهذا بخلاف كسوة الأقارب فالمعتبر هناك حقيقة الحاجة وإذا بقيت تلك الكسوة فلا حاجة وهنا لا معتبر بحقيقة الحاجة فإنها وإن كانت صاحبة ثياب تستوجب كسوتها على الزوج فلهذا فرقنا بينهما.
قال: وإن كان الرجل من أهل الغني المشهورين بذلك فل امرأته خمسة عشر درهما كل شهر ولخادمها خمسة ولها من الكسوة في الشتاء درع يهودي وملحفة هروي وجبة فرو أو درع خز وخمار ابريسم ولخادمها قميص يهودي وإزار وجبة وكساء وخفين ثم قال محمد رحمه الله تعالى لا ينبغي أن تؤقت النفقة على الدراهم لأن السعر يغلو ويرخص لكن تجعل النفقة على الكفاية في كل زمان فينظر إلى قيمة ذلك فيفرض لها عليه دراهم شهرا شهرا وقد بينا هذا الفصل والذي قال تفرض شهرا شهرا إنما بناه على عادتهم أيضا وبعض المتأخرين من مشايخنا يعتبر في ذلك حال الرجل أيضا فإن كان محترفا تفترض عليه النفقة يوما يوما لأنه يتعذر عليه أداء النفقة شهرا دفعة واحدة وإن كان من التجار يفرض الأداء شهرا شهرا وإن كان من الدهاقين تفرض عليه النفقة سنة سنة لأن تيسر الإداء عليه عند إدراك الغلات في كل سنة وتيسر الأداء على التاجر عند اتخاذ أجر غلات الحوانيت وغيرها في كل شهر وتيسر الأداء على المحترف بالاكتساب في كل يوم ولا يؤخذ من الزوج كفيل بشيء من النفقة أما نفقة المستقبل فلم تجب بعد والإنسان لا يجبر على إعطاء الكفيل ما لم يجب عليه وأما الماضي فلإنه بمنزلة

 

ج / 5 ص -163-       سائر الديون يؤمر بقضائها ولا يجبر على إعطاء الكفيل ولو خاصمته امرأته في نفقة ما مضى من الزمان قبل أن يفرض القاضي عليه لها النفقة لم يكن لها شيء من ذلك عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يقضي لها بما لم تستوف من النفقة الماضية وأصل المسألة أن النفقة لا تصير دينا إلا بقضاء القاضي أو التراضي عندنا وعند الشافعي تصير دينا لأن وجوبها بالعقد فلا تحتاج إلى القضاء أو إلى الرضاء في صيرورتها دينا بعد العقد كالمهر ولأن وجوب النفقة باعتبار قيام الزوج عليها بعد العقد وقد تقرر ذلك فيصير دينا بدون القضاء كالأجرة يصير دينا باستيفاء المنفعة بعد العقد وحجتنا في ذلك أن النفقة صلة والصلات لا تتأكد بنفس العقد ما لم ينضم إليها ما يؤكدها كالهبة والصدقة من حيث إنها لا تتم إلا بالقبض وبيان الوصف أن النفقة ليست بعوض عن البضع فإن المهر عوض عن البضع ولا تستوجب عوضين عن شيء واحد بعقد واحد ولأن ما يكون عوضا عن البضع يجب جملة لأن ملك البضع يحصل للزوج جملة ولا يجوز أن يكون عوضا عن الاستمتاع والقيام عليها لأن ذلك تصرف منه في ملكه فلا يوجب عليه عوضا فعرفنا أن طريقه طريق الصلة وتأكدها إما بالقضاء أو التراضي ولأن هذه نفقة مشروعة للكفاية فلا تصير دينا بدون القضاء كنفقة الوالدين والمولودين لا تصير دينا بمجرد مضي الزمان فكذا هنا وكذلك لو استدانت عليه قبل قضاء القاضي أو التراضي لأنه ليس لها عليه ولاية الاستدانة وإنما ولايتها على نفسها فما استدانت يكون في ذمتها وإنفاقها مما استدانت كإنفاقها من سائر أملاكها فلا ترجع بشيء من ذلك على الزوج إلا أن يكون القاضي فرض لها عليه نفقة كل شهر أو صالحته على نفقة كل شهر ثم غاب أو حبس للنفقة عليها فاستدانت عليه أو لم تستدن أخذته بنفقة ما مضى لأن حقها تأكد بقضاء القاضي أو بالصلح عن تراض فإن ولايته على نفسه في الالتزام فوق ولاية القاضي في الإلزام وذكر عن شريح قال أيما امرأة استدانت على زوجها وهو غائب فإنما استدانت على نفسها وإنما أراد به إذا لم يفرض القاضي لها النفقة أو فرض لها ولم يأمرها بالاستدانة على زوجها فأما إذا أمرها بالاستدانة عليه فذلك على الزوج لأن القاضي عليه ولاية فأمرها بالاستدانة عليه كأمر الزوج بنفسه.
قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا أجيز الفرض عليه إذا كان غائبا لأن الفرض عليه إذا كان غائبا إلزام وليس للقاضي ولاية الإلزام على الغائب وإن كان لها منه ولد فطلبت أن يفرض للولد معها نفقة فرض عليه للصغار والنساء والرجال الزمني فأما الذين لا زمانة بهم من الرجال فلا نفقة لهم عليه بل يؤمرون بالاكتساب والإنفاق على أنفسهم فأما من كان زمنا منهم فهو عاجز عن الاكتساب وبالنساء عجز ظاهرعن الاكتساب وفي أمرها بالاكتساب فتنة فإن المرأة إذا أمرت بالاكتساب اكتسبت بفرجها فإذا لم يكن لها زوج فهي بمنزلة الصغيرة ونفقتها في صغرها على الوالد لحاجتها فكذلك بعد بلوغها ما لم تتزوج لأن ببلوغها تزداد الحاجة والأصل في ذلك ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم:
"خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك

 

ج / 5 ص -164-       بالمعروف" ولأن مؤنة الرضاع على الوالد بالنص قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] إلى قوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فسترضع له أخرى وذلك حاجة الولد ما دام رضيعا فيكون هذا دليلا على أن كفاية الولد على الوالد ما بقيت حاجته ثم يدفع نفقة الكبار من الولد إليهم لأن النفقة حقهم ولهم أهلية استيفاء حقوقهم ولا ولاية لأحد عليهم ويدفع نفقة الصغار إلى المرأة لأن الصغير في حجرها وهي التي تصلح له طعامه فيدفع نفقته إليها ثم بين نفقة الصغير على المعسر بالدراهم وكسوته بالثياب وهذا نظير ماذكرنا في نفقة الزوجة إن المعتبر ما تقع به الكفاية وهذا أظهر هنا فإن الحاجة تختلف باختلاف سن الصغير فلا عبرة بالتقدير اللازم فيه ولكنه إن كان موسرا أمر بأن يوسع عليه في النفقة والكسوة على حسب ما يرى الحاكم فيه ويعتبر فيه المعروف في ذلك كما يعتبر في نفقة الزوجة.
قال: وإذا صالحت المرأة زوجها على نفقة لا تكفيها فلها أن ترجع عن ذلك وتطالب بالكفاية لأن النفقة إنما تجب شيئا فشيئا فرضاها بدون الكفاية إسقاط منها لحقها قبل الوجوب وذلك لا يجوز ألا ترى أنها لو أبرأته عن النفقة لم تسقط بذلك نفقتها وهذا بخلاف الأجرة فإن الأبراء عن بعض الأجرة بعد العقد قبل استيفاء المنفعة يجوز بلا خلاف لأن سبب الوجوب هنا وهو العقد موجود فيقام ذلك مقام حقيقة الوجوب في صحة الإسقاط وهناك السبب ليس هو العقد ولكن تفريغها نفسها لخدمة الزوج وذلك يتجدد حالا فحالا فإسقاطها قبل وجود السبب باطل توضيحه إن النفقة مشروعة للكفاية وفي التراضي على ما لا تقع به الكفاية تفويت المقصود لا تحصيله فكان باطلا وكذلك إن كان القاضي قضى بذلك لأنه تبين أنه أخطأ في قضائه حين قضى بما لا يكفيها فعليه أن يتدارك الخطأ بالقضاء لها بما يكفيها.
قال: وإذا فرض على المعسر نفقة المعسرين ثم أيسر فخاصمته فعليه نفقة الموسرين لما بينا أن النفقة تجب شيئا فشيئا فيعتبر حاله في كل وقت فكما لا يستأنف القضاء بنفقة المعسر بعد اليسار فكذلك لا يستديم ذلك القضاء وقد كان القضاء عليه بنفقة المعسر لعذر العسرة فإذا زال العذر بطل ذلك كمن شرع في صوم الكفارة للعسرة ثم أيسر كان عليه التكفير بالمال.
قال: وإذا تغيبت المرأة عن زوجها أو أبت أن تتحول معه إلى منزله أو إلى حيث يريد من البلدان وقد أوفاها مهرها فلا نفقة لها لأنها ناشزة ولا نفقة للناشزة فإن الله تعالى أمر في حق الناشزة بمنع حظها في الصحبة بقوله تعالى:
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] فذلك دليل على أنه تمنع كفايتها في النفقة بطريق الأولى لأن الحظ في الصحبة لهما وفي النفقة لها خاصة ولأنها إنما تستوجب النفقة بتسليمها نفسها إلى الزوج وتفريغها نفسها لمصالحة فإذا امتنعت من ذلك صارت ظالمة وقد فوتت ما كان يجب النفقة لها باعتباره فلا نفقة لها وقيل لشريح رحمه الله تعالى هل للناشزة نفقة فقال نعم فقيل كم قال جراب من تراب معناه لا نفقة لها وإن كان لم يوفها مهرها فأبت عليه ذلك حتى يوفيها فلها النفقة لأنها حبست

 

ج / 5 ص -165-       نفسها بحق فلا تكون مفوتة ما به تستوجب النفقة حكما بل الزوج هو المفوت بمنعها حقها ولأن النفقة حقها والمهر حقها فمطالبتها بأحد الحقين لا يسقط حقها الآخر وكذلك لو لم يدخل بها في ظاهر الرواية إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها قبل الدخول إذا حبست نفسها لاستيفاء مهرها فلا نفقة لها وكأنه على هذه الرواية اعتبر لوجوب النفقة انتقالها إلى بيت الزوج فإذا لم يوجد لا تستوجب النفقة ابتداء فأما بعد ما انتقلت إلى بيته ووجبت لها النفقة فلا يسقط ذلك إلا بمنعها نفسها بغير حق وفي ظاهر الرواية بعد صحة العقد النفقة واجبة لها وإن لم تنتقل إلى بيت زوجها إلا ترى أن الزوج لو لم يطلب انتقالها إلى بيته كان لها أن تطالبه بالنفقة فكذلك إذا حبست نفسها لاستيفاء المهر وإن رجعت الناشزة إلى بيت الزوج فنفقتها عليه لأن المسقط لنفقتها نشوزها وقد زال ذلك والأصل فيه قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34].
قال: ولا نفقة للصغيرة التي لا يجامع مثلها عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لها النفقة لأنها مال يجب بالعقد فالصغيرة والكبيرة فيه سواء كالمهر وهذا لأن الوجوب لحاجتها والصغيرة محتاجة إلى ذلك كالكبيرة ألا ترى أن بسبب ملك اليمين تجب النفقة للصغير كما تجب للكبير فكذلك بسبب النكاح وحجتنا في ذلك أنها غير مسلمة نفسها إلى زوجها في منزلة فلا تستوجب النفقة عليه كالناشزة وهذا لأن الصغيرة جدا لا تنتقل إلى بيت الزوج بل تنقل إليه ولا تنقل إليه للقرار في بيته أيضا فتكون كالمكرهة إذا حملت إلى بيت الزوج ولأن نفقتها عليه باعتبار تفريغها نفسها لمصالحة فإذا كانت لا تصلح لذلك لمعنى فيها كان ذلك بمنزلة منع جاء من قبلها فلا نفقة لها على الزوج بخلاف المملوكة فإن نفقتها لأجل الملك فقط وذلك لا يختلف بالصغر والكبر وإن كانت قد بلغت مبلغا يجامع مثلها فلها النفقة على زوجها صغيرا كان زوجها أو كبيرا لأنها مسلمة نفسها في منزله مفرغة نفسهالحاجته وإنما الزوج هو الممتنع من الاستيفاء لمعني فيه فلا يسقط به حقها في النفقة وإن كان الزوج صغيرا لا مال له لم يؤخذ الأب بنفقة زوجته إلا أن يكون ضمنها لأن استحقاق النفقة على الزوج كاستحقاق المهر فكما لا يؤخذ أبوه بشيء من المهر إذا لم يضمن ذلك فكذلك لا يؤخذ بالنفقة.
قال: وكل امرأة قضى لها بالنفقة على زوجها وهو صغير أو كبير معسر لا يقدر على شيء فإنها تؤمر بأن تستدين ثم ترجع عليه ولا يحبسه القاضي إذا علم عجزه وعسرته لأن الحبس إنما يكون في حق من ظهر ظلمه ليكون زاجرا له عن الظلم وقد ظهر هنا عذره لا ظلمه فلا يحبسه ولكن ينظر لها بأن يأمرها بالاستدانة فإذا استدانت بأمر القاضي كان كاستدانتها بأمر الزوج فترجع عليه بذلك إذا أيسر وإن كان القاضي لا يعلم من الزوج عسره فسألت المرأة حبسه بالنفقة لم يحبسه القاضي في أول مرة لأن الحبس عقوبة لا يستوجبها إلا الظالم ولم

 

ج / 5 ص -166-       يظهر حيفه وظلمه في أول مرة فلا يحبسه ولكن يأمره بأن ينفق عليها ويخبره أنه يحبسه إن لم يفعل فإن عادت إليه مرتين أو ثلاثا حبسه لظهور ظلمه بالامتناع من أيفاء ما هو مستحق عليه فإن علم أنه محتاج خلى سبيله لأنه مستحق للنظرة إلى ميسرة بالنص وليس بظالم في الامتناع من الإيفاء مع العجز.
قال: وينبغي للقاضي إذا حبس الرجل شهرين أو ثلاثة في نفقة أو دين أن يسأل عنه وفي بعض المواضع ذكر أربعة أشهر وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قدر ذلك بستة أشهر وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن أدنى المدة فيه شهر والحاصل أنه ليس فيه تقدير لازم لأن الحبس للاضجار وذلك مما تختلف فيه أحوال الناس عادة فالرأي فيه إلى القاضي حتى إذا وقع في أكبر رأيه أنه يضجر بهذه المدة ويظهر مالا إن كان له أن يسأل عن حاله بعد ذلك وذكر هشام في نوادره عن محمد رحمه الله تعالى إن له أن يسأل عن حاله بعد ما حبسه ولم يعتبر في ذلك مدة فإذا سأل عنه فأخبر أنه معسر خلى سبيله لأن ما صار معلوما بخبر العدول فهو بمنزلة الثابت بإقرار الخصم ولا يحول بين الطالب وبين ملازمته عندنا وكان إسماعيل بن حماد رحمه الله تعالى يقول ليس للطالب أن يلازمه وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى لأنه منظر بإنظار الله تعالى فهو بمنزلة ما لو أجله الخصم أو أبرأه منه فكما لا يلازمه هناك فكذلك لا يلازمه هنا ولكنا نستدل بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي بعيرا بثمن مؤجل فلما حل الأجل طالبه الإعرابي فقال ليس عندنا شيء فقال الأعرابي واغدراه فهم به الصحابة رضوان الله عليهم فقال صلى الله عليه وسلم:
"دعوه فإن لصاحب الحق اليد واللسان" والمراد باللسان التقاضي وباليد الملازمة ولأن قضاء الدين مستحق على المديون من كسبه وماله فكما أنه إذا كان له مال كان للطالب أن يطالبه بقضاء الدين منه فكذلك إذا كان له كسب كان له أن يطالبه بقضاء الدين من كسبه وذلك إنما يتحقق بالملازمة حتى إذا فضل من كسبه شيء عن نفقته أخذه بدينه ولسنا نعني بهذه الملازمة أن يقعده في موضع فإن ذلك حبس ولكن لا يمنعه من التصرف بل يدور معه حيثما دار وإن كان غنيا لم يخرجه من السجن أبدا حتى يؤدي النفقة والدين لقوله صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" ولأنه حال بين صاحب الحق وبين حقه مع قدرته على إيفائه فيجازي بمثله وذلك بالحيلولة بينه وبين نفسه وتصرفه حتى يوفي ما عليه وإن كان له مال حاضر أخذ القاضي الدراهم والدنانير من ماله وأدى منها النفقة والدين لأن صاحب الحق إذا ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه فللقاضي أن يعينه على ذلك أيضا وكذلك إذا ظفر بطعامه في النفقة لأنه عين ما عليه من الحق والمرأة تتمكن من أخذه إذا قدرت عليه فيعينها القاضي على ذلك ولا يبيع القاضي عروضه في النفقة والدين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يبيع ذلك كله وهو بناء على مسألة الحجر فإن عند أبي

 

ج / 5 ص -167-       حنيفة رحمه الله تعالى القاضي لا يحجر على المديون بسبب الدين وبيع المال عليه نوع حجر فلا يفعله القاضي وعندهما القاضي يحجر عليه بسبب الدين فيبيع عليه ماله واستدلا في ذلك بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ رضي الله عنه وباع عليه ماله وقسم ثمنه على غرمائه بالحصص.
وقال عمر رضي الله عنه في خطبته أيها الناس إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب وإن أسيفع جهينة قد رضى من دينه وأمانته أن يقال له قد سبق الحاج فأدان مقرضا أصبح وقد ربدته إلا أني بائع عليه ماله وقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص فمن كان له عليه دين فليعد والمعنى فيه أن قضاء الدين مستحق عليه بدليل أنه يحبس لأجله فإذا امتنع من ذلك وهو مما تجري النيابة فيه ناب القاضي منابه كالتفريق بين العنين و امرأته وبالاتفاق يبادل أحد النقدين بالآخر بهذا الطريق فكذلك يبيع العروض ولأبي حنيفة ما روى أن رجلا من جهينة أعتق شقصا من عبد بينه وبين آخر فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له وأدى ضمان نصيب شريكه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان علم بيساره حين ألزمه ضمان العتق ثم اشتغل بحبسه ولم يبع عليه ماله فلو كان ذلك جائزا لاشتغل به لأن فيه نظرا من الجانبين والمعنى فيه أن المستحق عليه قضاء الدين ولقضاء الدين طرق سوى بيع المال فليس للقاضي عليه ولاية تعيين هذا الطريق لقضاء الدين ألا ترى أنه لا تزوج المديونة لتقضي الدين من صداقها ولا يؤاجر المديون ليقضي الدين من أجرته لأنه تعين قضاء الدين عليه فكذلك لا يبيع ماله لأنه تعين طريق قضاء الدين عليه ومبادلة أحد النقدين بالآخر لا يفعله في القياس أيضا ولكن في الاستحسان الدراهم والدنانير جعلا كجنس واحد فإن المقصود منهما واحد فكان ذلك بمنزلة قضاء الدين من جنس الحق وذلك متعين عليه لصاحب الحق لأن له أن يأخذ جنس حقه فكذلك للقاضي أن يعينه عليه وأما حديث معاذ رضي الله تعالى عنه فإنما باع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله برضاه وسؤاله لأنه لم يكن في ماله وفاء بديونه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشر بيع ماله لينال بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله فيصير فيه وفاء بدينه والمشهور من حديث عمر رضي الله تعالى عنه أني قاسم ماله بين غرمائه فإنما يحمل ذلك على أن ماله كان من النقود والدليل عليه أن عندهما ليس للقاضي أن يبيع المال إلا بطلب من الخصم ولم يكن منهم طلب فعرفنا أنه كان ذلك من جنس الحق أو كان فيه نوع مصلحة رآها لا سيفع جهينة.
قال: وإذا كان لرجل نسوة فرضت النفقة لهن عليه بحسب الكفاية على ما قلنا فإن كانت إحداهن كتابية أو أمة قد بوأها مولاها معه بيتا فرض عليه لكل واحدة منهن ما يكفيها ولا تزاد الحرة المسلمة على الأمة والذمية شيئا لأن النفقة مشروعة للكفاية وهذا لا يختلف باختلاف الدين ولا باختلاف الحال في الرق والحرية فإن فرض ذلك وهو معسر وعلم القاضي ذلك منه أمرهن بالاستدانة عليه ففي هذا يعتدل النظر من الجانبين وإن كان الزوج غائبا فقد كان أبو

 

ج / 5 ص -168-       حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا يأمرهن بالاستدانة عليه إذا كان يعلم النكاح بينه وبينهن وهو قول زفر رحمه الله تعالى كما يفعل ذلك عند حضرته ثم رجع فقال لا يأمر بذلك وهو قولهما لأن فيه قضاء على الغائب وليس له ذلك وإن أمرهن بالاستدانة فلم يجدن ذلك لم يفرق بينه وبينهن ولم يجبره على طلاقهن عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يفرق بينه وبينهن إذا طلبن ذلك لقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] والمعروف في الإمساك أن يوفيها حقها من المهر والنفقة فإذا عجز عن ذلك تعين التسريح بالإحسان وهو المعنى في ذلك فإن المستحق عليه أحد الشيئين فإذا تعذر أحدهما تعين الآخر ألا ترى أنه إذا عجز عن الوصول إليها بسبب الجب والعنة فرق بينهما لفوات الإمساك بالمعروف بل أولى لأن حاجتها إلى النفقة أظهر من حاجتها إلى قضاء الشهوة ولكن لما تعين التفريق لا يصالها إلى حقها من جهة عسره فرق القاضي بينهما فكذلك هنا تعين التفريق لإيصالها إلى حقها من جهة غيره وبه فارق المهر والنفقة المجتمعة عليه فإن التفريق ليس بطريق لا يصالها إلى ذلك الحق من جهة غيره فأما نفقة الوقت تصل إليها بعد التفريق من جهة زوج آخر وقاس بنفقة العبد والأمة فإنه يستحق عليه بسبب الملك فإذا تعذر عليه أجبره القاضي على إزالة الملك بالبيع فهنا كذلك واستدل بحديث عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كتبا إلى أمراء الأجناد أن مروا من قبلكم أن تبعثوا بنفقة أهليكم أو بطلاقهن وقيل لسعيد بن المسيب رضي الله عنه أتفرق بين العاجز عن النفقة وبين امرأته فقال نعم فقيل له أنه سنة فقال نعم والسنة إذا أطلقت يفهم منها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فهذا تنصيص على أن المعسر منظر ولو أجلته في ذلك لم يكن لها أن تطالب بالفرقة فكذلك إذا استحق النظرة شرعا إلا أن المستحق بالنص التأخر فلا يلحق به ما يكون إبطالا لأن ذلك فوق المنصوص وفي حق المملوك يكون إبطالا لأنه لا يثبت للمملوك على مولاه دين فأما في حق الزوجية يكون تأخيرا لا إبطالا وبهذا يتبين أنه غير عاجز عن معروف يليق بحاله وهو الالتزام في الذمة فإن المعروف في النفقة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وهو الالتزام في الذمة مع أن التسريح طلاق وعند الشافعي المستحق هنا هو الفسخ بسبب العيب حتى إذا فرق بينهما لم يكن طلاقا وبه نجيب عن حديث عمر وعلي رضي الله عنهما مع أنهم ما كانوا عاجزين عن المهر والنفقة فإن نفقة عيال من هو من الجند من مال بيت المال والإمام هو الذي يوصل ذلك إليهم ولكنهما خافا عليهن الفتنة لطول غيبة أزواجهن فأمراهم أن يبعثوا إليهن ما تطيب به قلوبهن والمعنى فيه أن النفقة مال فالعجز عنه لا يكون موجبا للفرقة كالمهر والنفقات المجتمعة بل أولى لأن ذلك دين مستقر ونفقة الوقت لم تستقر دينا بعد وهذا لأن المقصود بالنكاح غير المال فكان المال زائدا والعجز عن التبع لا يكون سببا لرفع الأصل وكما ان بالفرقة لا تتوصل إلى مهرها الذي على الزوج الأول وإنما تتوصل إلى

 

ج / 5 ص -169-       مثله من جهة أخرى فكذلك النفقة وبه فارق الجب والعنة فإن هناك تحقق فوات ما هو المقصود مع إن عندنا هناك لا يفسخ العقد ولكن يفرق بينهما بطريق التسريح بالإحسان حتى يكون ذلك طلاقا لإزالة ظلم التعليق عنها وهذا ليس في معنى ذلك من وجوه:
أحدها: أن هناك قد انسد عليها باب تحصيل ذلك المقصود بدون التفريق بينهما وهنا لم ينسد عليها وصول النفقة بدون التفريق بأن تستدين فتنفق.
والثاني: إن هناك الزوج يمسكها من غير حاجة به إليها فيما هو المقصود فكان ظالما وهنا يمسكها مع حاجته إليها فيما هو المقصود فلا يكون ظالما ولأن هناك في ترك التفريق إبطال حقها لأن وظيفة الجماع لا تصير دينا على الزوج بمضي المدة ولو فرقنا كان فيه إبطال ملك الزوج فاستوى الجانبان في ضرر الإبطال وفي جانبها رجحان لصدق حاجتها وهنا في ترك التفريق تأخير حقها لأن النفقة تصير دينا على الزوج وفي التفريق إبطال الملك على الزوج وضرر التأخير دون ضرر الإبطال وبه يفرق بينه وبين العبد فالضرر هناك ضرر الإبطال لأن النفقة هناك لا تصير دينا للمملوك على المالك ثم فيه إبطال حقه بغير بدل وفي البيع إبطال ملك المولى ببدل فكان هذا الضرر أهون حتى إن في الموضع الذي يكون إبطالا بغير بدل لا يفعل ذلك وهو أنه إذا عجز عن نفقة أم ولده لم يعتقها القاضي عليه.
قال: والتبوئة في الأمة أن يخلى بين الأمة وزوجها ولا يستخدمها لما بينا أن المعتبر في استحقاق النفقة تفريغها نفسها لقيام مصالح الزوج وإنما يحصل ذلك بهذا النوع من التبوئة فإن استخدمها بعد ذلك ولم يخل بينه وبينها فلا نفقة لها لأنه إزال ما به كانت تجب نفقتها عليه فهي كالحرة الناشزة فإن قيل المولى إنما أزال ذلك بحق له فلماذا لا يجعل هذا كالحرة إذا احتبست نفسها لصداقهاقلنا كما في الابتداء فإن الحرة إذا احتبست نفسها بالصداق كان لها أن تطلب النفقة والمولى إذا لم يبوئها بيتا في الابتداء لم يكن لها النفقة والمعني فيه أن الحرة إذا احتبست نفسها بصداقها فالتفويت إنما جاء من قبل الزوج حين امتنع من أيفاء ما لزمه لتنتقل إلى بيته فأما هنا التفويت ليس من جهة الزوج بل من جهة من له الحق وهو المولى لشغله إياها بخدمة نفسه فلهذا لم يكن لها نفقة عليه فإن كانت هي تجيء فتخدمه من غير أن يستخدمها فلها النفقة لأن الحق للمولى ولم يوجد من جهته تفويت بل الموجود من جهته التسليم فإن جاءت في وقت والزوج ليس في البيت فاستخدموها ومنعوها من الرجوع إلى بيتها فلا نفقة لها لأن استخدام أهل المولى إياها كاستخدام المولى وقد بينا أن فيه تفويت التبوئة والتبوئة شرط لاستحقاق النفقة وبعد التفويت ممن له الحق لا يكون لها نفقة.
قال: ونفقة المرأة واجبة على الزوج وإن مرضت من قبل أنها مسلمة نفسها إلى الزوج في بيته ولا فعل منها في المرض لتصير به مفوتة مع أنه لا يفوت ما هو المقصود من الاستئناس وغيره ولا معتبر بمقصود الجماع في حق النفقة فإن الرتقاء تستحق النفقة على زوجها مع فوات مقصود الجماع وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الرتقاء لا تستوجب النفقة

 

ج / 5 ص -170-       على الزوج إذا لم يرض الزوج بها ويكون له أن يردها إلى أهلها ولا ينفق عليها وفي المريضة إن تحولت إلى بيته وهي مريضة فله أن يردها إلى أن تبرأ وإن مرضت في بيته بعد ما تحولت إليه فليس له أن يردها بل ينفق عليها إلا أن يتطاول مرضها.
قال: وهذا استحسان لأن النكاح يعقد للصحبة والألفة وليس من الألفة أن يمتنع عن الإنفاق أو يردها لقليل مرض فإذا تطاول ذلك فهو بمنزلة الرتق الذي لا يزول عادة وإنما يلزمه نفقتها لقيامه عليها وقد فات ذلك بمعنى من جهتها فتسقط نفقتها كما إذا كانت صغيرة لا يجامع مثلها ولكن قد بينا الفرق بينهما من حيث أن الصغر يزول فلا ينعدم به استحقاق الجماع بسبب العقد بخلاف الرتق والقرن وكذلك لو جنت أو أصابها بلاء يمنعه من الجماع أو هرمت حتى لا يستطيع جماعها وذكر في الكتاب أنه لو أصابتها هذه العوارض من بعد ما دخل بها وليس مراده حقيقة الوطء بل المراد انتقالها إلى منزله وسواء انتقلت أو لم تنتقل إذا لم تكن مانعة نفسها ظالمة فهي مستوجبة للنفقة على ما قلنا.
قال: ولا نفقة في النكاح الفاسد والوطء بالشبهة ولا في العدة منه لأن ما به تستوجب النفقة معدوم هنا وهو تسليمها نفسها إلى الزوج للقيام بمصالحه فإن فساد النكاح يمنعها من ذلك شرعا ولهذا لم تجعل الخلوة في النكاح الفاسد تسليما في حق وجوب المهر فكذا لا تستوجب النفقة في التسليم بالنكاح الفاسد.
قال: وإذا اختلف الزوج والمرأة فقال الزوج أنا فقير وقالت المرأة هو غني فالقول قول الزوج مع يمينه وعلى المرأة البينة لأن الفقر في الناس أصل وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله يولد كل مولود أحمر ليس عليه غبرة أي سترة ثم يرزقه الله تعالى من فضله فالزوج يتمسك بما هو الأصل والمرأة تدعي غني عارضا فعليها البينة وعليه اليمين لانكاره وبه أجاب في كتاب العتاق إذا ادعي المعتق أنه معسر فالقول قوله فأما ما أشار في سائر الديون إن كان وجوب الدين عليه ببيع أو قرض لم يقبل قوله أنه معسر لأنه صار غنيا بما دخل في ملكه من المال فلا قول له في دعوى الفقر بعد تيقننا بزوال ذلك الأصل وكذلك قالوا في كل دين التزمه بالعقد اختيارا كالمهر ودين الكفالة فإقدامه على الالتزام بمنزلة إقرار منه أنه قادر على الأداء فإن العاقل لا يلتزم مالا يقدر على أدائه اختيارا فأما فيما سوى ذلك فالقول قوله في دعوى العسرة وبعض المتأخرين من مشايخنا يقولون يحكم في ذلك زيه فإن كان عليه زي الأغنياء لم يقبل قوله إنه معسر لأن الزي دليل على غناه قال الله تعالى:
{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وقال جل وعلا {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] ففي هذا دليل على أن الظاهر من العلامة يجعل حكما إلا في الفقهاء والعلوية فإنهم يتكلفون الزي مع العسرة ليعظمهم الناس فلا يجعل الزي حكما في حقهم لظهور العادة بخلافه.

 

ج / 5 ص -171-       قال: فإن لم يكن لها بينة على يساره وسألت القاضي أن يسأل عن يساره في السر فليس ذلك على القاضي لأنه وجد دليلا يعتمده لفصل الحكم وهو التمسك بالأصل فليس عليه أن يطلب دليلا آخر وإن فعله فأتاه من أخبر عنه أنه موسر لا يعتمد ذلك أيضا إلا أن يخبره بذلك رجلان عدلان ويكونا بمنزلة الشاهدين يخبران أنهما قد علما ذلك فحينئذ لو شهدا عنده في مجلس الحكم يثبت يساره بشهادتهما وكذلك إن أخبراه بذلك لأن المعتبر علم القاضي ويحصل له علم بخبرهما كما يحصل بشهادتهما وإن أخبرا أنهما علما ذلك من رواية راو لم يؤخذ بقولهما لأنهما ما أخبراه عن علم وإنما أخبراه عن ظن أو عن خبر من لا يعتمد خبره والخبر إذا تداولته الألسنة تتمكن فيه الزيادة والنقصان عادة فلهذا لا يعتمد مثل هذا الخبر.
قال: وإن أقامت المرأة البينة أنه موسر وأقام الزوج البينة أنه محتاج أخذ ببينة المرأة لأنها قامت على الإثبات ولأن شهود الزوج اعتمدوا في شهادتهم ما هو الأصل وشهود المرأة عرفوا الغني العارض فلهذا يفرض لها عليه نفقة الموسرين.
قال: وإذا كان للزوج عليها دين فقال احسبوا لها نفقتها منه كان له ذلك لأن أكثر ما في الباب أن تكون النفقة لها دينا عليه فإذا التقى الدينان تساويا قصاصا ألا ترى أن له أن يقاص بمهرها فالنفقة أولى.
قال: وإذا فرضت النفقة لها على زوجها ولها عليه شيء من مهرها فأعطاها شيئا من ذلك فقال الزوج هو من المهر وقالت المرأة بل هو من النفقة فالقول قول الزوج أنه من المهر وكذلك هذا في جميع قضاء الديون إذا كان من وجوه مختلفة لأنه هو المملك فالقول قوله في بيان جهة التمليك وهو المحتاج إلى تفريغ ذمته فالقول قوله في أنه تفرغ ذمته بهذا الأداء من كذا دون كذا.
قال: وإذا اختلفا فيما وقع الصلح عليه أو الحكم به من النفقة في الجنس أو القدر فالقول قول الزوج والبينة بينة المرأة لأنها مدعية الزيادة فتحتاج إلى الإثبات بالبينة والزوج منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه فإن كان الذي أقر به الزوج وحلف عليه لا يكفيها بلغ بها الكفاية في المؤتنف لأن النفقة للكفاية وقد بينا أن ما قضى به القاضي أو وقع الصلح عليه إن كان لا يكفيها فلها أن تطالب بما يكفيها في المستقبل فكذلك ما أقربه الزوج.
قال: ولو أخذت المرأة من زوجها كفيلا بالنفقة كل شهر لم يكن على الكفيل إلا شهر واحد لأنه أضاف كلمة كل إلا مالا يعرف منتهاه فيتناول الأدنى كمن يقول لفلان على كل درهم وأصله في الإجارة إذا استأجر دارا لكل شهر كان لزوم العقد في شهر واحد وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كفيل بنفقتها ما عاشت وبقي النكاح بينهما استحسانا لما فيه من العرف الظاهر ولأن قصد المرأة التوثق بهذا الجنس من حقها فكان الكفيل صرح لها بما هو مقصودها فقال في كفالته أبدا أو ما عاشت وهناك يثبت حكم الكفالة بهذا الجنس من حقها

 

ج / 5 ص -172-       عليه عاما فكذا هنا ولو ضمن لها نفقة سنة كان جائزا وإن لم يكن واجبا ولكن إضافة الكفالة إلى سبب الوجوب صحيح وقد حصل ذلك بتسمية المدة ولم يبين أن الزوج هل يجبر على إعطاء الكفيل بالنفقة أم لا فظاهر المذهب أنه لا يجبر على ذلك كما لا يجبر على إعطاء الكفيل بدين آخر وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال إذا قالت المرأة إنه يريد أن يغيب ولا يترك لي نفقة أمره القاضي أن يعجل لها نفقة شهر أو يعطيها كفيلا بنفقة شهر استحسانا لأنها طلبت من القاضي أن ينظر لها فيجيبها على ذلك لأن الحال حال النظر.
قال: وإذا فرض القاضي لها على الزوج نفقة معلومة كل شهر فمضت أشهر لم يعطها حتى مات أو ماتت لم يؤخذ بشيء منها لأن النفقة تستحق استحقاق الصلات لا استحقاق المعاوضات على ما قررناه والصلات لا تتم إلا بالقبض وتسقط بالموت قبل القبض وشبهه في الكتاب بمن وجبت عليه الجزية إذا مات لم تستوف من تركته لهذا ولأن السبب قيام الزوج عليها وتفريغها نفسها لمصالحه وقد زال ذلك قبل الاستيفاء فيسقط حقها كما إذا زال العيب قبل رد المشتري لم يكن له أن يرد بعد ذلك.
قال: ولو كانت المرأة استعجلت النفقة لمدة ثم ماتت قبل مضي تلك المدة لم يكن للزوج أن يسترد من تركتها شيئا من ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لما قلنا أنها صلة وحق الاسترداد في الصلات ينقطع بالموت كالرجوع في الهبة وعند محمد رحمه الله تعالى يترك من ذلك حصة المدة الماضية قبل موتها ويسترد ما وراء ذلك لأنها أخذت ذلك من ماله لمقصود لم يحصل ذلك المقصود له فكان له أن يسترد منها كما لو عجل لها نفقة ليتزوجها فماتت قبل أن يتزوجها وروي بن رستم عن محمد رحمه الله تعالى قال إن كان الباقي من المدة شهرا أو دونه لم يرجع بشيء في تركتها وإن كان فوق ذلك ترك لها مقدار نفقة شهر استحسانا ويسترد من تركتها ما زاد على ذلك لأنه إنما يعطيها النفقة شهرا فشهرا عادة ففي مقدار نفقة شهر هي مستوفية حقها وفيما زاد على ذلك مستعجلة.
قال: ولو كانا حيين فاختلفا فيما مضى من المدة من وقت قضاء القاضي فالقول قول الزوج لإنكاره الزيادة وإنكاره سبق التاريخ في القضاء والبينة بينة المرأة لإثباتها ذلك.
قال: وإذا بعث إليها بثوب فقالت هو هدية وقال الزوج هو من الكسوة فالقول قول الزوج مع يمينه لأنه هو المملك للثوب منها فالقول قوله في بيان جهته إلا أن تقيم المرأة البينة أنه بعث به هدية وإن أقاما البينة فالبينة بينة الزوج لأنه يثبت ببينته فراغ ذمته عن حقها من الكسوة أو المهر وكذلك إن أقام كل واحد منهما البينة على إقرار الآخر بما ادعاه لأن الزوج هو المدعي للقضاء فيما عليه من الحق فمعنى الإثبات في بينته أظهر وكذلك إن بعث بدراهم فقال هي نفقة وقالت المرأة هي هدية فالقول قوله لما بينا.
قال: وإذا أعطاها كسوة فعجلت تمزيقها أو هلكت منها لم يكن عليه أن يكسوها حتى

 

ج / 5 ص -173-       يأتي الوقت لما بينا أن أحوال الناس تختلف في صيانة الثياب وتمزيقها فيتعذر تعليق الحكم بحقيقة تجدد الحاجة فيقام الوقت مقامه تيسيرا فما لم يأت الوقت لا تتجدد الحاجة فلا يتجدد سبب الوجوب لها فلم يكن لها أن تطالبه بشيء.
قال: وكذلك إن صانتها ولبست غيرها فإذا جاء الوقت المعلوم لها أن تطالب بالكسوة والقاضي في الابتداء يوقت من المدة ما يتمزق فيه الثوب باللبس المعتاد فما لم يتبين خطأه في ذلك التوقيت يجب بناء الحكم عليه ولا ينظر إلى تعجيلها التمزيق ولا إلى صيانتها فوق المعتاد.
قال: وكذلك إن أخذت نفقة شهر فلم تنفق حتى جاء الشهر الثاني وهي معها فلها أن تطالبه بنفقة الشهر الثاني بخلاف نفقة ذي الرحم المحرم فإن هناك المعتبر تحقق الحاجة ألاترى أنه لو كان له مال لم يستوجب النفقة على غيره والحاجة مرتفعة ببقاء المأخوذ معه بخلاف نفقة الزوجة.
قال: وإذا فرض القاضي لها النفقة على زوجها فأنفقت من مالها ولم تأخذ منه شيئا فلها أن تأخذه بما مضى من ذلك لأن نفقة الزوجة تصير دينا بقضاء القاضي أو الصلح عن التراضي وقد بيناه.
قال: وإن كان هذا في ذي الرحم المحرم فأنفق على نفسه من مال آخر بعد فرض القاضي لم يكن له أن يرجع على الذي فرض له عليه بشيء لما مضى لما بينا أن المعتبر هنا حقيقة الحاجة وقد انعدم ذلك بمضي ذلك الوقت فلا تصير النفقة دينا وأورد في باب الزكاة من الجامع أن نفقة ذي الرحم المحرم تصير دينا بقضاء القاضي وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فوضع المسألة هناك فيما إذا استدان المنفق عليه وأنفق من ذلك فتكون الحاجة قائمة لقيام الدين عليه وهنا وضع المسألة فيما أذا أنفق من مال له أو من صدقة تصدق بها عليه والحاجة لا تبقى بعد مضي المدة وقد قررنا هذا فيماأمليناه من شرح الجامع.
قال: وإن كان الرجل غائبا وله مال حاضر فطلبت المرأة النفقة فإن كان القاضي يعلم بالنكاح بينهما فرض لها النفقة في ذلك المال لعلمه بوجود السبب الموجب له ألا ترى أن من أقر بدين ثم غاب قضى القاضي عليه بذلك لعلمه به فكذلك النفقة ولكن يشترط أن ينظر للغائب وذلك في أن يحلفها أنه لم يعطها النفقة لجواز أن يكون أعطاها النفقة قبل أن يغيب وهي تلبس على القاضي لتأخذ ثانيا وإذا حلفت فأعطاها النفقة أخذ منها كفيلا لجواز أن يحضر الزوج فيقيم البينة أنه قد كان أوفي نفقتها وهذا لأن القاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه.
قال: وإذا حضر الزوج وأثبت بالبينة أنه كان قد أوفاها أو أرسل إليها بشيء في حال غيبته أمرها برد ما أخذت لأنه ظهر عند القاضي أنها أخذت بغير حق وللزوج الخيار إن شاء أخذها بذلك وإن شاء أخذ الكفيل وإن لم يكن النكاح بينهما معلوما للقاضي فأرادت إقامة البينة على الزوجية لم يقبل القاضي ذلك منها عندنا لما فيه من القضاء على الغائب بالبينة وعن زفر رحمه

 

ج / 5 ص -174-       الله تعالى أنه يسمع منها البينة ويعطيها النفقة من مال الزوج وإن لم يكن للزوج مال يأمرها بالاستدانة فإن حضر الزوج وأقربالنكاح أمره بقضاء الدين وإن أنكر ذلك كلفها إعادة البينة فإن لم تعد أمرها برد ما أخذت ولم يقض لها بشيء مما استدانت على الزوج لأن في قبول البينة بهذه الصفة نظرا لها ولا ضرر فيه على الغائب فيجيبها القاضي إلى ذلك ولكنا نقول فيه قضاء على الغائب لأن دفع ماله إليها لتنفق على نفسها لا يكون إلا بعد القضاء عليه بالزوجية.
قال: وإن أحضرت غريما للزوج أو مودعا في يده مال للزوج وهو مقر بالمال والزوجية أمره القاضي بأداء نفقتها من ذلك بخلاف دين آخر على الغائب فإن صاحب الدين إذا أحضر غريما أو مودعا للغائب لم يأمره بقضاء دينه منه وإن كان مقرى بالمال وبدينه لأن القاضي إنما يأمر في حق الغائب بما يكون نظرا له وحفظا لملكه عليه وفي الإنفاق على زوجته من ماله حفظ ملكه عليه وليس في قضاء الدين من ماله حفظ ملكه عليه بل فيه قضاء عليه بقول الغير فلهذا المعنى تقع الفرقة بينهما.
قال: وإن جحد المديون أو المودع الزوجية بينهما أو كون المال في يده لم تقبل بينتها على شيء من ذلك أما على الدين الوديعة فلإنها تثبت الملك للغائب حتى إذا ثبت ملكه ترتب عليه حقها فيه وهي ليست بخصم في إثبات الملك للزوج في أمواله وأما إذا جحدا الزوجية فقد كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا تقبل بينتها على الزوجية لأنها تدعى حقا فيما في يده من المال بسبب فكان خصما في إثبات ذلك السبب كمن ادعى عينا في يد إنسان إنه له اشتراه من فلان الغائب ثم رجع وقال لا تقبل بينتها على ذلك وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأنها تثبت النكاح على الغائب والمودع والمديون ليس بخصم عن الغائب في إثبات النكاح عليه بالبينة والاشتغال من القاضي بالنظر يكون بعد العلم بالزوجية فإذا لم يكن ذلك معلوما له لا يشتغل بسماع البينة من غير خصم وإن لم يكن له مال حاضر لم يفرض لها النفقة بطريق الاستدانة عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى لأن في هذا قضاء على الغائب وقد بيناه وإن كان له مال حاضر فحضور ماله بمنزلة حضوره استحسانا.
قال: ولا يبيع العروض في نفقتها أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فظاهر لأن الزوج لو كان حاضرا لم يبع القاضي عروضه في ذلك فإذا كان غائبا أولى وأما على قولهما إنما يبيع على الحاضر عروضه بعد ما يحجر عليه وليس له ولاية الحجر وإلزام القضاء على الغائب.
قال: وينفق عليها من غلة الدار والعبد لأن ذلك من جنس حقها ويعطيها الكسوة من الثياب إن كانت له والنفقة من طعامه إن كان له لأنه من جنس حقها ولها أن تأخذ من غير قضاء كما قال صلى الله عليه وسلم لهند:
"خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف" فلأن يقضى لها القاضي بذلك كان أولى ويأخذ منها كفيلا بجميع ذلك نظرا منه للغائب فإذا رجع الزوج وأقام البينة على وصول النفقة إليها لهذا الوقت فالكفيل ضامن لما أخذت لأنه التزم بالكفالة

 

ج / 5 ص -175-       وإن لم يكن له بينة وحلفت المرأة على ذلك فلا شيء على الكفيل وإن نكلت عن اليمين ونكل الكفيل لزمها وللزوج الخيار بين أن يأخذها بذلك أو يأخذ الكفيل لأنه كفيل بما لزمها رده من النفقة وقد ثبت ذلك بنكولها ولهذا لزم كفيلها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب نفقة العبد
قال: رضي الله عنه وإذا كان للعبد أو المدبر أو المكاتب امرأة حرة أو أمة قد بوئت معه بيتا فإنه يفرض عليه نفقتها بقدر ما يكفيها لأن سبب وجوب النفقة الزوجية وهي تحقق في حق المملوك كما تتحقق في حق الحر وهو تسليمها إلى الزوج في منزله والحكم ينبني على السبب ألا ترى أن المهر بالنكاح يجب على العبد كما يجب على الحر ثم ما يجب على العبد من الديون إذا ظهر في حق المولى تعلق بمالية رقبته حتى يباع فيه إلا أن يقضيه المولى ودين النفقة ظهر في حق المولى لأن سببه وهو النكاح كان برضاه فإذا اجتمع عليه من النفقة ما يعجز عن أدائه يباع فيه ثم إذا اجتمع عليه النفقة مرة أخرى يباع فيه أيضا وليس في شيء من ديون العبد ما يباع فيه مرة بعد مرة إلا النفقة لأن النفقة يتجدد وجوبها بمضي الزمان وذلك في حكم دين حادث وأما المدبر لا يمكن بيعه في النفقة ولكن يؤمر فيه بالسعاية وكذلك المكاتب لا يمكن بيعه مع قيام عقد الكتابة وإنما يقضي بالنفقة في كسبه كما يقضي بسائر ديونه في كسبه فإن كان للعبد أو المدبر ولد من امرأته لم يكن عليها نفقة الولد لأنها إن كانت أمة فالولد ملك لمولاها ونفقة المملوك على المالك دون الأب وإن كانت حرة فولدها يكون حرا ولا تجب نفقة الحر على المملوك بحال لأن كسب العبد والمدبر لمولاه ونفقة الولد الحر ليست على المولى وكذلك لا يكون في كسبها وكذلك المكاتب لا يجب في كسبه نفقة ولد حر ولا نفقة ولد هو مملوك للغير وإن كانت امرأته مكاتبة معه لمولى واحد كاتبهما كتابة واحدة فنفقة الولد على الأم دون الأب لأن الولد تابع للام في كتابتها ألا ترى أن كسب الولد يكون لها ولو جنى عليه كان أرش الجناية لها وإن مات الولد وترك مالا فذلك كله لها فكذلك نفقة الولد تكون عليها وهذا بخلاف ما إذا وطى ء المكاتب أمته فولدت فإن نفقة ذلك الولد على المكاتب لأنه داخل في كتابته حتى كان كسبه له وأرش الجناية عليه له أيضا ليس للأم من ذلك شيء لأنها أمة ولو كان للأم فالأم أمة له أيضا فلهذا كانت نفقته عليه ولأنه جزء منه فإذا تبعه في العقد كانت نفقته بمنزلة نفقة نفسه.
قال: ولو تزوج العبد أو المدبر أو المكاتب بغير إذن المولى فلا نفقة عليهم ولا مهر لأن وجوب النفقة والمهر يكون بعد صحة العقد ونكاحهم بغير إذن المولى غير صحيح وإن عتق واحد منهم جاز نكاحه حين يعتق لسقوط حق المولى ويجب عليه المهر والنفقة في المستقبل والمستسعى في بعض القيمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كالمكاتب.

 

ج / 5 ص -176-       قال: وإن كانت المدبرة أو الأمة أو أم الولد تحت حر أو عبد فلا نفقة عليهما ما لم يبوئها معه بيتا لانعدام التسليم قبل التبوئة ويستوى إن كان دخل بها أو لم يدخل بها لأن بالدخول إنما يوجد تسليم المعقود عليه ولا معتبر به في النفقة فإن تسليم المعقود عليه مقرر للبدل والنفقة ليست ببدل ألا ترى أن الرتقاء تستحق النفقة وقد انعدم منها تسليم المعقود عليه فعرفنا أن المعتبر في النفقة تفريغها نفسها لحق الزوج وذلك يكون بالتبوئة فإن بوأها معه بيتا فعليه النفقة وإن انتزعها منه واحتاج إلى خدمتها فلا نفقة على الزوج ما دامت عند مولاها وإن أعادها إليه وبوأها معه بيتا فعليه النفقة كالحرة إذا هربت من زوجها ثم عادت إلى بيته توضيحه أن الأمة محبوسة عند مولاها لحق المولى في خدمتها فكانت كالمحبوسة في الدين ولا نفقة للمحبوسة بالدين إذا كان الزوج ممنوعا منها فإذا قضت الدين وعادت إلى بيت الزوج كان لها النفقة وإن كان لها منه ولد فلا نفقة عليه للولد لأن ولد الأمة مملوك لمولاها فنفقته تكون على مالكه وإن كانت المرأة مكاتبة وقد بوأها معه بيتا أو لم يبوئها منه فهو سواء ولها النفقة ولأن المكاتبة في يد نفسها كالحرة وليس لمولاها أن يستخدمها فكانت هي كالحرة في استحقاق النفقة على الزوج إذا لم تحبس نفسها عنه ظالمة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب نفقة أهل الذمة
قال: رضي الله عنه ويفرض علي الذمى نفقة امرأته بالمعروف كما يفرض على المسلم لأنها كفاية مشروعة للحاجة وسببها وهو الزوجية يتحقق فيما بين أهل الذمة كما يتحقق فيما بين المسلمين فإن كانت ذات رحم محرم منه وذلك في دينهم نكاح فطلبت نفقتها منه من قبل النكاح فرض لها من ذلك عليه كما يفرض في النكاح الصحيح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لما بينا من أصله أن لهذه الأنكحة فيما بينهم حكم الصحة وإن رفع أحدهما الأمر إلى القاضي لا يفرق القاضي بينهما فيقضي لها بالنفقة وعندهما ليس لهذه الأنكحة فيما بينهم حكم الصحة وبرفع أحدهما لأمر القاضي يفرق القاضي بينهما فلا يقضي لها بالنفقة ولا خلاف في النكاح بغير شهودان القاضي يقضي لها بالنفقة لأن النكاح بغير شهود صحيح فيما بينهم فإن الإشهاد من حق الشرع وهم لا يخاطبون بذلك ألا ترى أنهم يقرون عليه بعد الإسلام.
قال: وإذا أسلم الذمى و امرأته من غير أهل الكتاب فأبت الإسلام وفرق بينهما فلا نفقة لها في العدة لأن الفرقة جاءت من قبلها بسبب هي عاصية في ذلك وهو إباء الإسلام بعد ما عرض عليها ولهذا لا مهر لها إذا كان قبل الدخول فليس لها نفقة العدة وإن كان بعد الدخول أيضا إلا أن في المهر إذا جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول سقط المهر عنه سواء كان بحق أو بغير حق لأن سقوط المهر بتفويتها المعقود عليه على الزوج وذلك موجود في الحالين فأما سقوط النفقة باعتبار حبسها نفسها فيكون بمنزلة النفقة حال قيام النكاح وهناك إن حبست نفسها ظلما كالناشزة لم يكن لها النفقة وإن حبست نفسها بحق لم تسقط نفقتها كما لو حبست

 

ج / 5 ص -177-       نفسها لاستيفاء صداقها فكذلك في نفقة العدة إن كانت الفرقة من جهتها بسبب هي عاصية في ذلك فليس لها نفقة العدة وإن لم تكن عاصية في ذلك فلها نفقة العدة.
قال: وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فأبى الزوج أن يسلم ففرق بينهما كان عليه النفقة والسكنى ما دامت في العدة لأن الفرقة جاءت بسبب من جهة الزوج وهو أباؤه عن الإسلام وذلك منه تفويت الإمساك بالمعروف فتعين التسريح بالإحسان والإحسان في التسريح أن يوفيها مهرها ونفقة عدتها.
قال: وإذا خرج أحد الحربيين مسلما ثم خرج الآخر بعده فلا نفقة عليه لها قال لأن العصمة انقطعت فيما بينهما بخروج أولهما ومعنى هذا إن وجوب نفقة العدة باعتبار ملك اليد الثابت للزوج عليها في حالة العدة ولهذا لا تجب النفقة في العدة من نكاح فاسد أو وطيء بشبهة ولا في عدة أم الولد من المولى وتباين الدارين كما يقطع عصمة النكاح يقطع ملك اليد الثابت بالنكاح ثم إن كان الزوج هو الخارج فلا عدة عليها لأنها حربية وإن كانت المرأة هي التي خرجت فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما عليها العدة لحق الشرع لا لحق الزوج فلا تكون نفقة العدة عليه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب النفقة في الطلاق والفرقة والزوجية
قال: ولكل مطلقة بثلاث أو واحدة السكنى والنفقة ما دامت في العدة أما المطلقة الرجعية فلإنها في بيته منكوحة له كما كانت من قبل وإنما أشرف النكاح على الزوال عند انقضاء العدة وذلك غير مسقط للنفقة كما لو آلى منها أو علق طلاقها بمضي شهر فأما المبتوتة فلها النفقة والسكنى ما دامت في العدة عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لها السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا نفقة للمبتوتة في العدة واستدلوا بحديث فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها قالت طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، إلا أن في صحة هذا الحديث كلاما فإنه روى أن زوج فاطمة أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه كان إذا سمع منها هذا الحديث رماها بكل شيء في يده وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت تلك المرأة فتنت العالم أي بروايتها هذا الحديث وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت حفظت أم نسيت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للمطلقة الثلاث النفقة والسكني ما دامت في العدة" وتأويله إن ثبت من وجهين:
أحدهما: أن زوجها كان غائبا فإنه خرج إلى اليمن ووكل أخاه بأن ينفق عليها خبز الشعير فأبت هي ذلك ولم يكن الزوج حاضرا ليقضي عليه بشيء آخر.
والثاني: أنها كانت بذيئة اللسان على ما روى أنها كانت تؤذي أحماء زوجها حتى أخرجوها فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه فظنت

 

ج / 5 ص -178-       أنه لم يجعل لها نفقة ولا سكني ثم لا خلاف في استحقاقها السكني فإنه منصوص عليه بقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] الآية وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] فعلماؤنا قالوا النفقة والسكني كل واحد منهما حق مالي مستحق لها بالنكاح وهذه العدة حق من حقوق النكاح فكما يبقى باعتبار هذا الحق ما كان لها من استحقاق السكني فكذلك النفقة وباستحقاق السكني يتبين بقاء ملك اليد للزوج عليها ما دامت في العدة وكما يثبت استحقاق النفقة بسبب ملك اليمين يثبت بسبب ملك اليد ألا ترى أن نفقة رقيق المكاتب عليه في كسبه لماله فيه من ملك اليد ولا يدخل عليه نفقة المرهون فإنه لا يكون على المرتهن مع ملك اليد له لأن ملك اليد للمرتهن في المالية دون العين فإن يده يد الاستيفاء وذلك في المالية دون العين فأما إذا كانت حاملا فلها النفقة بالنص وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].
ومن أصل الشافعي رحمه الله تعالى أن تعليق الحكم بالشرط كما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط يدل على نفيه عند عدم الشرط وعندنا تعليق الحكم بالشرط لا يدل على عدم الحكم عند عدم الشرط لأن مفهوم النص ليس بحجة ولأنه يجوز أن يكون الحكم ثابتا قبل وجود الشرط بعلة أخرى ألا تري أن من قال لعبده أنت حر إذا جاء رأس الشهر ثم قال أنت حر غدا يبقى ذلك التعليق صحيحا حتى لو أزاله من ملكه اليوم فمضي الغد ثم اشتراه ثم جاء رأس الشهر يعتق ولو بقي في ملكه حتى الغد يعتق أيضا كيف وقد قال:
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم وقراءته لا بد أن تكون مسموعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك دليل على أن النفقة مستحقة لها بسبب العدة وإن قوله وإن كن أولات حمل لإزالة إشكال كان عسى أن يقع فإن مدة الحمل تطول عادة فكان يشكل أنها هل تستوجب النفقة بسبب العدة في مدة الحمل وإن طالت فأزال الله تعالى هذا الإشكال بقوله: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ثم النفقة إذا كانت حاملا تجب لها لا للولد بدليل أنه لا تجب في مال الولد وإن كان له مال أوصى له به وإنها لا تتعدد بتعدد الولد وأنها إذا كانت أمة فنفقتها على زوجها ونفقة الولد تكون على مولاه كما بعد الانفصال وأن المنكوحة إذا حبلت لا تتضاعف نفقتها ولو كان الحمل يستحق النفقة لتضاعف نفقة المنكوحة إذا حبلت فإذا ثبت أن النفقة لها فقلنا لا بد من سبب لاستحقاق النفقة بينهما وبين الزوج ولا سبب لذلك سوى العدة والحامل والحائل في هذا السبب سواء ولا تخرج من بيتها ليلا ولا نهارا لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [الطلاق: 1] قال إبراهيم رضي الله عنه خروجها من بيتها فاحشة ولأنها مكفية المؤنة لا حاجة لها إلى الخروج ليلا ولا نهارا بخلاف المتوفي عنها زوجها فإنه لا نفقة لها في تركة الزوج فهي تحتاج إلى أن تخرج بالنهار في حوائجها والبائنة بالخلع والإيلاء واللعان وردة الزوج ومجامعة أمها سواء في ذلك

 

ج / 5 ص -179-       لأن هذه الفرقة كلها بسبب من جهة الزوج بعد أن كانت مستحقة للنفقة في أصل النكاح فيبقي ذلك الحق ببقاء العدة فإن اشترط الزوج في الخلع أن لا سكني في العدة ولا نفقة فعليه السكني ولا نفقة عليه لأن خروجها من بيتها معصية واشتراط المعصية في الخلع باطل ولأن النفقة حقها وإسقاطها حق نفسها صحيح فأما السكنى من حق الشرع وإسقاط ما هو حق الشرع باطل ألا ترى أن إسقاطها لما زاد على العشرة من المهر عند العقد صحيح بخلاف العشرة حتى لو أبرأت زوجها من مؤنة السكني ورضيت أن تكون في بيت نفسها أو تلتزم مؤنة السكني من مالها كان صحيحا لأن ذلك حقها.
قال: وإذا طلق امرأته طلاقا بائنا وهي أمة وقد بوأها معه بيتا فعلى الزوج النفقة لأنها كانت مستحقة للنفقة حال قيام النكاح فيبقي ذلك ببقاء العدة فإن أخرجها المولى إليه لخدمته بطلت النفقة عن الزوج كما في حال قيام النكاح إذا شغلها بخدمته فإن أعادها إلى بيت الزوج وترك استخدامها فلها النفقة كما في حال قيام النكاح فأماإذا كانت عند الطلاق في بيت المولى يستخدمها ثم عادت إلى بيت الزوج بعد الطلاق فلا نفقة لها عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لها النفقة كما لو كان استخدامه إياها بعد الطلاق وهذا لأن سقوط النفقة بعارض فإذا زال ذلك العارض صار كان لم يكن إلا ترى أن الحرة إذا كانت ناشزة هاربة من الزوج حين طلقها ثم عادت إلى بيته كان لها نفقة العدة لهذا المعنى وحجتنا في ذلك أن باعتبار العدة يبقي ما كان ثابتا ولا يثبت ما لم يكن ثابتا لأن الثبوت ابتداء يستدعي قيام الملك مطلقا فإما ثبوت نفقة العدة عند الفرقة فإن كانت في بيت الزوج عند ذلك كانت مستحقة للنفقة فيبقى ذلك ببقاء العدة فإن اعترض بعد ذلك مسقط ثم زال صار كان لم يكن وإذا لم تكن مستحقة للنفقة عند الفرقة فلو جعلنا لها النفقة في العدة كان هذا إثبات النفقة لها ابتداء في العدة وذلك لا يكون وهذا المعنى وهو أن المقصود من التبوئة أن تتفرغ للقيام بمصالح الزوج وذلك في حال قيام النكاح فإذا بوأها بيتا في حال قيام النكاح استحقت النفقة فيبقى ذلك ببقاء العدة فأما إذا كان ابتداء التبوئة في العدة لا يحصل به هذا المقصود لأنها لا تقوم بمصالح الزوج والقياس في الناشزة هكذا ولكنا استحسنا فيها لإن الحرة مستحقة في أصل النكاح والعارض المسقط عند الفرقة وبعدها في حقها سواء إذا زال صار كان لم يكن بخلاف الأمة وإن جاءت الفرقة من قبل المرأة بالمعصية كالردة ومطاوعة بن الزوج على الجماع وما أشبه ذلك فلا نفقة لها إن أصرت على ذلك أو رجعت وتابت من الردة أما السكنى فواجبة لها لأن القرار في البيت مستحق عليها فلا يسقط ذلك بمعصيتها أما النفقة فواجبة لها فتسقط بمجيء الفرقة من قبلها بالمعصية.
قال: وإن كانت أمة قد بوأها المولى بينا فعتقت واختارت نفسها فلها النفقة في العدة لأن اختيارها كان بسبب حق مستحق لها وقد بينا أن النفقة لا تسقط في حال قيام النكاح إذا حبست نفسها بحق فكذلك إذا وقعت الفرقة بسبب حق مستحق لها.

 

ج / 5 ص -180-       قال: وإذا لم تخاصم المعتقة في نفقتها حتى انقضت عدتها فلا نفقة لها وكذلك التي طلقها زوجها لأن نفقة العدة لا تكون أوجب من نفقة النكاح وقد بينا أن نفقة النكاح لا تصير دينا بمضي المدة قبل الفرض ولا يكون لها أن تطالب بها بعد زوال النكاح فنفقة العدة أولى وهذا لأن السبب ملك اليد والمستحق بهذا السبب في حكم الصلة فلا بد من قيام السبب لثبوت حق المطالبة ألا ترى أن الذمي أذا أسلم وعليه خراج رأسه لم يطالب بشيء منه لزوال السبب قبل الاستيفاء فهذا مثله.
قال: وإن كان الزوج غائبا فاستدانت عليه ثم قدم بعد انقضاء العدة فهذا ونفقة النكاح سواء وقد بينا هناك أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول استدانتها على الزوج صحيح وعلى قوله الآخر إنما استدانت على نفسها وليس على الزوج من ذلك شيء فكذلك في حكم نفقة العدة.
قال: وإذا تطاولت العدة بالمرأة فالنفقة لها واجبة حتى تنقضي العدة بالحيض أو بالشهور عند الإياس لأن سبب الاستحقاق قائم فيبقى الاستحقاق ببقاء السبب طالت المدة أو قصرت ألا ترى أن في الطلاق الرجعي يسوى بين أن تطول مدة الحيض أو تقصر والأصل فيه حديث علقمة رضي الله عنه فإنه طلق امرأته فارتفع حيضها سبعة عشر شهرا ثم ماتت فورثه منها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال إن الله تعالى حبس ميراثها عليك.
قال: وإن اختلفا في انقضاء العدة فالقول قولها مع يمينها لأن ما في رحمها لا يعلمه غيرها فتكون أمينة فيه مقبولة القول هكذا قال أبي بن كعب رضي الله عنه من الأمانة أن تؤمن المرأة على ما في رحمها ولأنها متمسكة بالأصل والأصل بقاء العدة واستحقاق النفقة كان ثابتا لها فيبقى ما لم يظهر انقضاء العدة وبقول الزوج ذلك لا يظهر في حقها لأن قوله ليس بحجة عليها فإن أقام الزوج البينة على إقرارها بانقضاء العدة بريء من النفقة لأن ثبوت إقرارها بالبينة كثبوته بالمعاينة.
قال: وإذا جامعت بن زوجها مطاوعة في عدتها لم تبطل بذلك نفقتها إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول النفقة تجب شيئا فشيئا فكما أنها لو طاوعت بن الزوج في حال قيام النكاح لم يكن لها النفقة فكذلك إذا فعلت ذلك في العدة ولكنا نقول لا تأثير لفعلها هنا في الفرقة فإن الفرقة بينهما قد وقعت قبل فعلها ولا تأثير لهذا الفعل في إسقاط العدة فتبقى النفقة مستحقة لها بخلاف ما إذا فعلت حال قيام النكاح لأن الفرقة هناك وقعت بفعلها وهي عاصية في ذلك فأما إذا ارتدت في العدة سقطت نفقتها لا لعين الردة ولكن لأنها تحبس فلا تكون في بيت زوجها والمحبوسة بحق عليها لا تستوجب النفقة في حال قيام النكاح فكذلك لا تستوجب النفقة في العدة وإن تابت ورجعت إلى بيته كان لها النفقة لزوال العارض وهو الحبس بخلاف ما إذا وقعت الفرقة بردتها فإن هناك لا نفقة لها وإن تابت لأن

 

ج / 5 ص -181-       أصل الفرقة كان من جهتها بمعصية ولو لحقت بدار الحرب مرتدة فقد انقطعت العصمة بينهما حتى إذا جاءت مسلمة أو تائبة أو سبيت فأعتقت أو لم تعتق فلا نفقة لها لأن استحقاق النفقة باعتبار بقاء العصمة وتباين الدارين قاطع للعصمة.
قال: ولو أن مستأمنا في دارنا تزوج ذمية ودخل بها وطلقها فلها النفقة في قول من يوجب على الذمية العدة وقد بينا فيه شبه الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فمن أوجب عليها يقول النفقة لما كانت مستحقة في حال قيام النكاح لها يبقى ببقاء العدة ولا يشبه هذا لذمي الذي له أبوان حربيان دخلا بأمان فإنه لا نفقة لهما عليه لأنهما وإن كانا في دارنا صورة فهما من أهل الحرب متمكنان من الرجوع إلى دار الحرب ونفقة الأقارب بمنزلة الصلة ولا يثبت استحقاق الصلة للحربي على من هو من أهل دارنا وهذا لأن هذه الصلة لإبقائه وهو من أهل الحرب فهو به مستوجب للقتل غير مستوجب للإبقاء وكما لا تجب نفقتهما على الذمي لا تجب على المسلم بطريق الأولى.
قال: وإن كان للمسلم أب ذمي معسر ففي القياس لا نفقة له عليه لاختلاف الدينين ألا ترى أن التوارث بينهما منقطع فكذلك استحقاق النفقة وهو نظير سائر الاقارب حتى لا يستوجبون النفقة مع اختلاف الدين ولكنا نستحسن في حق الأب الذمي والأم لقوله تعالى:
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وهذا في الأبوين الكافرين لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتركهما يموتان جوعا ثم استحقاق النفقة فيما بين الوالد والولد بسبب الولادة وذلك متحقق مع اختلاف الدين بخلاف سائر الأقارب فإن الاستحقاق هنا بسبب الوراثة قال الله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك وباختلاف الدين ينقطع التوارث وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن الفقة ألا ترى أن حكم العتق عند دخوله في ملكه وحرمة الرجوع في الهبة لما تعلق بالمحرمية شرعا لم يختلف باختلاف الدين.
قال: رجل أعتق أم ولده فلا نفقة لها في العدة لأن استحقاق النفقة كان لها بملك اليمين والعتق مناف للملك وما عليها من العدة نظير العدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة ألا ترى أنه لا يختلف بالحياة والوفاة وبمثل هذه العدة لا تستحق النفقة.
قال: وإذا أقر الرجل ان نكاح امرأته عليه حرام وقد دخل بها ففرق بينهما فلها المسمى من المهر ونفقة العدة لأن أصل النكاح كان صحيحا باعتبار الظاهر وهو غير مصدق في إقراره بالحرمة في حقها وإنما يصدق في حق نفسه بابطال ملكه عنها فيجعل هذا في حقها كالطلاق فلها جميع المسمى ونفقة العدة.
قال: والتي زوجها عمها إذا اختارت نفسها بعد البلوغ وقد دخل بها الزوج فلها النفقة

 

ج / 5 ص -182-       ما دامت في العدة لأن الفرقة من جهتها بسبب حق مستحق لها وكذلك إذا فرق القاضي بينهما بعد الدخول لعدم الكفاءة فلها النفقة والسكني ما دامت في العدة لأن أصل النكاح كان صحيحا يتوارثان به إذا مات أحدهما والفرقة إذا جاءت بسبب حق مستحق لا تسقط به نفقتها.
قال: وإذا فرض القاضي للمرأة على زوجها النفقة فأعطاها فسرق منها لم يكن على الزوج أن يعطيها مرة أخرى ما لم يمض الوقت لأنها قد استوفت حق نفسها فدخل المستوفي في ضمانها كما إذا استوفت المهر ويكون الهلاك بعد ذلك عليها دون الزوج ولو أرسل بها إليها رسولا فقال الرسول قد أعطيتها إياها وجحدت هي كان القول قولها مع يمينها لأن رسول الزوج نائبه فدعواه أنه أعطاها كدعوى الزوج ذلك عليها ولو قال الزوج أعطيتها نفقتها وأنكرت هي الاستيفاء كان القول قولها مع يمينها فكذلك إذا أدعى الرسول أنه أعطاها ولو أقرت بالاستيفاء ثم ماتت قبل مضي المدة ففي حق الزوج في الاسترداد من التركة خلاف كما بينا فيما سبق ولا فرق بين أن يكون المقبوض بعينه قائما أو يكون مستهلكا على القولين جميعا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب حكم الولد عند افتراق الزوجين
اعلم بأن الصغار لما بهم من العجز عن النظر لأنفسهم والقيام بحوائجهم جعل الشرع ولاية ذلك إلى من هو مشفق عليهم فجعل حق التصرف إلى الآباء لقوة رأيهم مع الشفقة والتصرف يستدعي قوة الرأي وجعل حق الحضانة إلى الأمهات لرفقهن في ذلك مع الشفقة وقدرتهن على ذلك بلزوم البيوت والظاهر أن الأم أحفى وأشفق من الأب على الولد فتتحمل في ذلك من المشقة ما لا يتحمله الأب وفي تفويض ذلك إليها زيادة منفعة للولد والأصل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أن ولدي هذا قد كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وأن هذا يريد أن ينتزعه مني فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تتزوجي" ولما خاصم عمر أم عاصم بين يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه لينتزع عاصما منها قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه ريحها خير له من سمن وعسل عندك وفي رواية ريقها خير له يا عمر فدعه عندها حتى يشب وفي رواية دعه فريح لفاعها خير له من سمن وعسل عندك إذا عرفنا هذا فنقول إذا فارق الرجل امرأته ولهما ولد فالأم أحق بالولد أن يكون عندها حتى يستغني عنها فإن كان غلاما فحتى يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده وفي نوادر داود بن رشيد ويستنجي وحده وإن كانت جارية فهي أحق بها حتى تحيض وكان القياس أن يستوي الغلام والجارية في ذلك وإذا استغنيا يكون الأب أحق بهما لأن للأم حق الحضانه وذلك ينتهي إذا استغنى عن ذلك والحاجة إلى الحفظ بعد ذلك والأب أقدر على الحفظ فإن المرأة تعجز عن حفظ نفسها وتحتاج إلى من يحفظها على ما قيل النساء لحم على وضم إلا ماذب عنهن فكيف تقدر على

 

ج / 5 ص -183-       حفظ غيرها ولكنا تركنا القياس فقلنا الجارية وإن استغنت عن التربية فقد احتاجت إلى تعلم الغزل والطبخ وغسل الثياب والأم على ذلك أقدر وإذا دفعت إلى الأب اختلطت بالرجال فيقل حياؤها والحياء في النساء زينة وإنما يبقى ذلك إذا كانت تحت ذيل أمها فكانت أحق بها حتى تحيض فإذا بلغت احتاجت إلى التزويج وولاية التزويج إلى الأب وصارت عرضة للفتنة ومطمعة للرجال وبالرجال من الغيرة ما ليس للنساء فيتمكن الأب من حفظها على وجه لا تتمكن الأم من ذلك وفي نوادر هشام عن محمد رحمه الله تعالى إذا بلغت حد الشهوة فالأب أحق بها للمعنى الذي أشرنا إليه وهو قوة غيرة الرجال فإن الأم ربما تخدع فتقع في فتنة ولا تشعر الأم بذلك ويؤمن ذلك على الأب فأما الغلام إذا استغنى فقد احتاج إلى تعلم أعمال الرجال والأب على ذلك أقدر واحتاج إلى من يثقفه ويؤدبه والأب هو الذي يقوى على ذلك ولأن صحبة النساء مفسدة للرجال فإذا ترك عندها ينكسر لسانه ويميل طبعه إلى طبع النساء فربما يجيء مخنثا فلهذا يدفع إلى الأب بعد ذلك وهذا مذهبنا فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى يخير بين الأبوين فيدفع إلى من اختار الغلام صحبته لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين الأبوين ولكنا نقول في هذا بناء الإلزام والحكم على قول الصبي وذلك لا يجوز ولأن الصبي في العادة يختار ما يضره لأنه يختار من لا يؤدبه ولا يمنعه شهوته والذي روى من الأثر فقد دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الغلام فقال اللهم سدده فببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار ما هو أنفع له ولا يوجد مثله في حق غيره والرضاع والنفقة على الوالد لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] يعني مؤنة الرضاع وهذا بخلاف حال قيام النكاح بينهما فإنها لا تستوجب الأجر على ارضاع الولد وإن استأجرها عندنا لأن في حال بقاء النكاح الرضاع من الأعمال المستحقة عليها دينا وبعد الفرقة ليس ذلك بمستحق عليها دينا ولا دينا وكما أن النفقة بعد الفطام على الأب لا يشاركه أحد في ذلك بإعتبار أن الولد جزء منه والإنفاق عليه كالإنفاق على نفسه فكذلك قبل الفطام مؤنة الرضاع عليه فإن كان يجد من يرضعه بأقل مما ترضعه المرأة ولم تأخذه المرأة بذلك استأجر الظئر لترضعه قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ولأنها قصدت الأضرار بالزوج في التحكم عليه وطلب الزيادة إلا أن الظئر تأتى فترضعه عند أمه وليس للأب أن يأخذ الولد منها لأن حق الحضانة لها فلا يملك الأب أبطال حقها وأن اخذته الأم بمثل ذلك فهي أحق به لأنها أشفق على الولد من الظئر ولبنها أوفق له والأب في هذا الموضوع قاصد إلى الإضرار والتعنت حين رضي بدفع مقدار إلى الظئر ولا رضي بدفع مثل ذلك إلى الأم فإن لم يكن وقع بينهما فرقة فلا أجر لها على الرضاع وأن أبت أن ترضع لم تكره على ذلك لأن المستحق عليها بالنكاح تسليم النفس إلى الزوج للاستمتاع وما سوى ذلك من الأعمال تؤمر به تدينا ولا تجبر عليه في الحكم نحو كنس البيت وغسل الثياب والطبخ والخبز فكذلك أرضاع الولد.

 

ج / 5 ص -184-       قال: وإن لم يكن للصبي أب وكان له أم وعم فالرضاع عليهما أثلاثا على قدر ميراثهما أن كانا موسرين لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] مثل ذلك فقد اعتبر صفة الوراثة في حق غير الأب فدل ذلك على أنه يكون على الورثة بحسب الميراث ولكن بعد أن يكون ذا رحم محرم ثبت ذلك بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك فإن قراءته لا تختلف عن روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ما كان هذا إلا سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال في النفقة بعد الفطام الجواب هكذا وكذلك فيما يحتاج إليه من النفقة قبل الفطام فأما الرضاع فإنه كله على الأم لأنها موسرة باللبن والعم معسر في ذلك ولكن في ظاهر الرواية قال قدرة العم على تحصيل ذلك بماله يجعله موسرا فيه فلهذا كان عليهما إثلاثا والأم أحق أن يكون عندها حتى يبلغ ما وصفنا فإن كان العم فقيرا والأم غنية فالرضاع والنفقة على الأم لأن النفقة على العم مستحقة في ماله لا في كسبه على ما نبينه في نفقة ذوي الأرحام إن شاء الله تعالى والمعسر ليس له مال فلا يلزمه شيء من النفقة بل هو كالمعدوم فكانت النفقة على الأم فإن كان له أم وأخ لأب وأم وعم وهم أغنياء فالرضاع على الأم والأخ أثلاثا بحسب الميراث ولا شيء من ذلك على العم لأنه ليس بوارث مع الأخ والغرم مقابل بالغنم وإنما يستحق على من يكون الغنم له إذا مات الولد والحاصل أن بعد الأب النفقة على كل ذي رحم محرم إذا كانوا أغنياء على حسب الميراث ومن كان منهم فقيرا لم يجبر على النفقة فإن تطوع بشيء فهو أفضل فإن كانت الأم فقيرة وللولد عمه وخالة غنيتان فالنفقة عليهما أثلاثا على العمة الثلثان وعلى الخالة الثلث لأن الأم الفقيرة كالمعدومة وبعدها الميراث بين العمة والخالة أثلاثا فكذا النفقة عليهما وعلى هذا لو كان له بن عم هو وارثه فإن بن العم ليس بذى رحم محرم فلا شيء عليه من النفقة بل يجعل هو في حق النفقة كالمعدوم وتكون النفقة على العمة والخالة أثلاثا وإن كان الميراث لابن العم وكذلك كل عصبة ليس بذي رحم محرم فلا نفقة عليه وإن كان الميراث له ألا ترى أن مولى العتاقة عصبة في حق الميراث ولا نفقة عليه فكذلك من ليس بمحرم من الأقارب.
قال: ويؤمر الموسر والوسط لولده إذا كانوا أكثر من واحد بخادم فإن لم يكفهم فخادمان يقومان عليهم في خدمتهم لأن هذا من جملة كفايتهم فتكون على الأب كالنفقة والكسوة إلا أن المعسر عاجز عن ذلك والتكليف بحسب الوسع فأما الموسر ووسط الحال يقدر على ذلك فيؤمر من ذلك بما تقع به الكفاية.
قال: فإن تزوجت الأم فللأب أن يأخذ الولد منها لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ما لم تتزوجي" فإنما جعل الحق لها إلي أن تتزوج وحكم ما بعد الغاية مخالف لما قبل ذلك ولأنها لما تزوجت فقد اشتغلت بخدمة زوجها فلا تتفرغ لتربية الولد والولد في العادة يلحقه الجفاء والمذلة من زوج الأم فكان للأب أن لا يرضى بذلك فيأخذ الولد منها.

 

ج / 5 ص -185-       قال: وأم الأم في ذلك سواء بمنزلة الأم بعدها لأن حق الحضانة بسبب الأمومة وهي أم تدلي بأم فهي أولى من أم الأب لأنها تدلى بقرابة الأب وقرابة الأم في الحضانة مقدمة على قرابة الأب.
قال: ويستوي أن كانت الأم مسلمة أو كتابية أو مجوسية لأن حق الحضانة لها للشفقة على الولد ولا يختلف ذلك باختلاف الدين على ما قيل كل شيء يحب ولده حتى الحباري ومن مشايخنا من يقول إذا كانت كافرة فعقل الولد فإنه يؤخذ منها جارية كانت أو غلاما لأنه مسلم بإسلام الأب وأنها تعلمها الكفر فلا تؤمن من الفتنة إذا تركت عندها فلهذا تؤخذ منها فإن كان لأم الأم زوج نظرنا فإن كان زوجها جد الولد فهي أحق به لأن جد الولد يكون مشفقا عليه ولا يلحقه الأذى والجفاء من جهته وإن كان أجنبيا فلا حق لها في الولد كالأم إذا تزوجت أجنبيا.
قال: وأم الأب بعدها أحق بهم عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى الأخت من الأب والأم أو من الأم أو الخالة أحق من الجدة أم الأب لأنها تدلي بقرابة الأب ومن سمينا بقرابة الأم واستحقاق الحضانة باعتبار قرابة الأم ولكنا نقول هذه أم في نفسها كأم الأم والأم مقدمة على غيرها في الحضانة ثم أصل الشفقة باعتبار الولاد وذلك للجدات دون الأخوات والخالات فلهذا كانت أم الأب أحق وإن كان لها زوج فإن كان زوجها جد الولد فكذلك وإن كان زوجها أجنبيا أو كانت هي ميتة فحق الحضانة إلى الأخوات والأخت لأب وأم أولى من الأخت لأم وعلى قول زفر رحمه الله تعالى هما مستويتان لأن ثبوت هذا الحق بقرابة الأم وهما سواء في ذلك ولكنا نقول قرابة الأخت لأب وأم من جهتين والشفقة بالقرابة فذو القرابتين يكون أشفق فكان بالحضانة أحق ويجوز أن يقع الترجيح بما لا يكون علة الاستحقاق ألا ترى أن الأخ لأب وأم مقدم في العصوبة على الأخ لأب بسبب قرابة الأم وقرابة الأم ليست بسبب لاستحقاق العصوبة بها ثم الآخت لأم تقدم على الأخت لأب لأن استحقاق الحضانة بقرابة الأم وهي تدلي بقرابة الأم والأخرى إنما تدلي بقرابة الأب ثم بعد الأخت لأم قال في كتاب النكاح الأخت لأب أولى من الخالة وفي كتاب الطلاق قال الخالة أولى من الأخت لأب ففي رواية كتاب النكاح اعتبر قرب القرابة والأخت لأب أقرب لأنها ولد الأب والخالة ولد الجد وفي كتاب الطلاق اعتبر المدلي به فقال الخالة تدلي بالأم والأخت لأب تدلي بالأب والأم في حق الحضانة مقدمة على الأب فكذلك من يدلى بقرابة الأم يكون مقدما على من يدلى بقرابة الأب ثم بعد الأخوات بناتهن على الترتيب الذي ذكرنا في الأخوات وبنات الأخوات في الحضانة أحق من بنات الأخوة لأن المدلى به في بنات الأخوة لم يكن له حق في الحضانة بخلاف بنات الأخوات ثم بعدهن الخالة لأب وأم ثم بعدها الخالة لأب والدليل على ثبوت حق الحضانة للخالات ما روى أن علي بن أبي طالب وجعفرا وزيد بن حارثة رضي الله عنهم اختصموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة رضي الله عنه فقال علي

 

ج / 5 ص -186-       رضي الله عنه بنت عمي فأنا أحق بها وقال جعفر رضي الله عنه ابنة عمى وخالتها عندي وقال زيد بن حارثة رضي الله عنه ابنة أخي آخيت بيني وبينه يا رسول الله فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر رضي الله عنه فقال: "الخالة أم" والترتيب في الخالات على قياس الترتيب في الأخوات وهن أحق بالحضانة من العمات لأن الخالة تدلى بالأم والعمة تدلى بالأب واستحقاق الحضانة بقرابة الأم فلهذا قدمت الخالة في ذلك على العمة ثم بعد الخالات العمات فالتي من الأب والأم تقدم ثم بعدها التي من الأم ثم التي من الأب على قياس الخالات وبنت الأخ أولى من العمات لأن كل واحدة منهما تدلى بمن لا حق له في الحضانة ولكن بنت الأخ أقرب والخالة أولى من بنت الأخ لأن الخالة تدلى بمن لها حق في الحضانة وهي الأم وابنة الأخ تدلي بمن ليس له حق في الحضانة فلهذا كانت الخالة أحق.
قال: وليس لمن سوى الأم والجدتين حق في الولد إذا أكل وشرب ولبس وحده جارية كانت أو غلاما لأن ترك الجارية عند الأم والجدتين لتعليم أعمال داخل البيت وإنما يتأتي ذلك بالاستخدام وللأم والجدتين حق الاستخدام وليس لغيرهن ممن سمينا حق الاستخدام ولا يحصل مقصود تعليم الأعمال إلا بذلك فلهذا أخذ منهن ثم بعد ما استغنى الغلام أو حاضت الجارية عند الأم والجدتين أو استغنت عند غيرهن فالأب أحق بالولد ثم بعده الجدات لأب ثم الأخ من الأب والأم ثم الأخ من الأب لأن ولاية الضم إلى نفسه بعد هذا باعتبار العصوبة فمن يكون مقدما في العصوبة من ذي الرحم المحرم أولى بذلك وقد بينا ترتيب العصبات في أول الكتاب ولا حق لابن العم في ذلك لأنه رحم غير محرم فلا يؤمن منه أن يطمع فيها فلهذا لا يكون له أن يضمها وأن كانت ولاية التزويج له باعتبار العصوبة.
قال: وإذا اجتمع أخوة لأب وأم فأفضلهم صلاحا وورعا أحق به لأن ضمه إلى أقرب العصبات لمنفعة الولد ولهذا قدم الأقرب وضمه إلى أبينهم صلاحا أنفع للولد لأنه يتخلق بأخلاقه فإن كانوا في ذلك سواء فأكبرهم أحق لقوله صلى الله عليه وسلم:
"الكبر الكبر" ولأن حق أكبرهم أسرع ثبوتا فعند التعارض يترجح ذلك وكذلك الأعمام بعد الأخوة ثم الغلام إذا بلغ رشيدا فله أن ينفرد بالسكنى وليس للأب أن يضمه إلى نفسه إلا أن يكون مفسدا مخوفا عليه فحينئذ له أن يضمه إلى نفسه اعتبارا لنفسه بماله فإنه بعد ما بلغ رشيدا لا يبقى للأب يد في ماله فكذلك في نفسه وإذا بلغ مبذرا كان للأب ولاية حفظ ماله فكذلك له أن يضمه إلى نفسه أما لدفع الفتنة أو لدفع العار عن نفسه فإنه يعير بفساد ولده فأما الجارية إذا كانت بكرا فللأب أن يضمها إلى نفسه بعد البلوغ لأنها لم تختبر الرجال فتكون سريعة الانخداع فأما إذا كانت ثيبا فلها إن تنفرد بالسكنى لأنها قد اختبرت الرجال وعرفت كيدهم ومكرهم فليس للأب أن يضمها إلى نفسه بعد البلوغ لأن ولايته قد زالت بالبلوغ وإنما بقي حق الضم في البكر لأنها عرضة للفتنة وللانخداع وذلك غير موجود في حق الثيب والأصل فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم

 

ج / 5 ص -187-       أنه قال: "ليس للولي مع الثيب أمر" وقال صلى الله عليه وسلم "الثيب أحق بنفسها من وليها" يعني في التفرد بالسكنى ولكن هذا إذا كانت مأمونة على نفسها.
وذكر في كتاب الطلاق أن الثيب إذا كانت مخوفة على نفسها لا يوثق بها فللأب أن يضمها إلى نفسه لبقاء الخوف وقد بينا أن ولاية الضم في البكر لكونها مخوفا عليها فإذا وجد ذلك في حق الثيب كان له أن يضمها إلى نفسه وإما البكر فإن لم يكن لها أب ولا جد وكان لها أخ أو عم فله أن يضمها إليه أيضا لأنه مشفق عليها فيقوم بحفظها وإن كانت لا تبلغ شفقته شفقة الأب بمنزلة ولاية التزويج يثبت للعم والأخ بعد الأب والجد فإن كان أخوها أو عمها مفسدا مخوفا لم يخل بينه وبينها لأن ضمها إليه لدفع الفتنة فإذا كان سببا للفتنة لم يكن له حق ضمها إليه بل يجعل هو كالمعدوم فتكون ولاية النظر بعد ذلك إلى القاضي ينظر امرأة من المسلمين ثقة فيضعها عندها وكما يثبت للقاضي ولاية النظر في مالها عند عجزها عن ذلك فكذلك في حق نفسها فإن كانت البكر قد دخلت في السن فاجتمع لها رأيها وعقلها وأخوها أو عمها مخوف عليها فلها أن تنزل حيث شاءت في مكان لا يخاف عليها لأن الضم كان لخوف الفتنة بسبب الانخداع وفرط الشبق وقد زال ذلك حين دخلت في السن واجتمع لها رأيها وعقلها.
قال: وأم الولد إذا أعتقها مولاها في الولد بمنزلة الحرة المطلقة لأن ثبوت هذا الحق للأم باعتبار شفقتها على الولد وذلك موجود في حق أم الولد بل شفقتهن على أولادهن أظهر من شفقة الحرائر لأن الولد كان سبب عتقها إلا أن قبل العتق ليس لها حق الحضانة لاشتغالها بخدمة مولاها ولأنها مملوكة لا على نفسها وحق الحضانة نوع ولاية فكما لا يثبت سائر الولايات للرقيق فكذلك في الحضانة وهذا المعنى يزول بالعتق فكانت في الحضانة بعد العتق كالحرة الأصلية.
قال: والأمة إذا فارقها زوجها فإن الولد رقيق لمولى الأمة يأخذهم المولى وهو أولى بهم من الأب لأن الولد تبع الأم في الملك والمملوك مالكه أحق من غيره وكذلك إذا كان الزوج حرا لم يفارق أمه فالمولى أولى بالولد لكونه مملوكا له ولكن لا ينبغي أن يفرق بين الولد الصغير وبين أمه لقوله صلى الله عليه وسلم
"من فرق بين والدة وولدها فرق الله تعالى بينه وبين أحبته يوم القيامة" والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب متاع البيت
قال: رضي الله عنه وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت فما كان للنساء كالدرع والخمار والمغازل وما أشبه ذلك فهو للمرأة وما كان للرجال كالسلاح والقباء والقلنسوة والمنطقة والطيلسان والسراويل والفرس فهو للرجل وما كان للرجال والنساء كالخادم والعبد والشاة والفرش فهو للرجل في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن كانا حيين وأن مات أحدهما ووقع الاختلاف بين الحي منهما وورثة الميت فهو للباقي منهما أيهما كان وقال محمد رحمه الله تعالى ما يصلح للرجال والنساء فهو للرجل أن كان حيا ولورثته إن كان ميتا وقال أبو

 

ج / 5 ص -188-       يوسف رحمه الله تعالى تعطى المرأة جهاز مثلها والباقي للرجل استحسن ذلك وقال بن أبي ليلى ما يصلح للرجال والنساء فهو للزوج إن كان حيا ولورثته إن كان ميتا وإنما لها ما يصلح للنساء خاصة وعلى قول بن شبرمة المتاع كله للرجل إلا ما على المرأة من ثياب بدنها وقال زفر رحمه الله تعالى المتاع بينهما نصفان إذا لم تقم لواحد منهما بينة وهو قول مالك رحمه الله تعالى واحد أقاويل الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي قول آخر المشكل بينهما نصفان وعلى قول الحسن البصري أن كان البيت بيت المرأة فالمتاع كله لها إلا ما على الزوج من ثياب بدنه وإن كان البيت بيت الزوج فالمتاع كله له لأن يد صاحب البيت على ما في البيت أقوى وأظهر من يد غيره ولأن المرأة ساكنة البيت ألا ترى أنها تسمى قعيدة فإذا كان البيت لها فالبيت مع ما فيه في يدها وعند دعوى مطلق الملك القول قول ذي اليد ومن يقول المتاع كله للزوج قال لأن المرأة في يد الزوج فما في بيتها يكون في يد الزوج أيضا ألا ترى أنه صاحب البيت وأن المنزل يضاف إليه ولهذا لو تنازع رجلان في امرأة وهي في بيت أحدهما فأقاما البينة كانت بينة صاحب اليد أولى ويكون هذا بمنزلة الأجير مع المستأجر إذا اختلفا في متاع الحانوت فالقول قول المستأجر وليس للأجير إلا ما عليه من ثياب بدنة فهذا مثله ومن يقول الكل بينهما نصفان يقول استويا في سبب الاستحقاق لأنهما ساكنان في البيت فالبيت مع ما فيه يكون في يدهما ولا معتبر في الدعوى والخصومات بالشبه ألا ترى أن اسكافا وعطارا لو تنازعا في آلات الإسكافة أو الآت العطارين وهو في أيديهما قضى بينهما نصفان ولا ينظر إلى ما يصلح لكل واحد منهما وهذا لأن الإنسان قد يتخذ الشيء لاستعماله وقد يتخذه ليتجر فيه فكذلك هذا ومن يقول أن المشكل بينهما يقول لكل واحد منهما فيما يصلح له نوع ترجيح من حيث أن الظاهر أنه هو الذي اتخذه لاستعماله فيترجح به كما لو تنازع صاحب الدار مع سكانها في لوح موضوع في الدار ونقشه يشبه نقش الألواح التي في السقف وموضعه من السقف ظاهر فإن القول قول صاحب الدار لأجل شهادة الظاهر له وإن لم يكن بهذه الصفة فالقول قول الساكن كسائر الأمتعة فأما في المشكل لا ترجيح لواحد منهما فيعتبر فيه المساواة في سبب الاستحقاق فيكون بينهما نصفان.
وأما أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول القياس أن يكون الكل للزوج لأن المرأة مع ما في يدها في يد الزوج إلا أن الظاهر أنها لا تزف إلى بيت زوجها إلا مع جهاز مثلها ففي مقدار جهاز مثلها يترك القياس للعرف الظاهر ويجعل ذلك لها وفيما زاد على ذلك القول قول الزوج بطريق القياس الذي قلنا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما يصلح للرجال فهو قريب من استعمال الرجل وما يصلح للنساء فهو قريب من استعمالها والاستعمال يد حتى لو تنازع رجلان في ثوب واحد وأحدهما لابسه والآخر متعلق بذيله أو تنازعا في دابة واحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها يجعل القول قول المستعمل فكانت يد المستعمل هنا أقوى فيما هو صالح

 

ج / 5 ص -189-       لأحدهما فأما فيما يصلح لهما فيترجح جانب الرجل في الطلاق لأنه صاحب البيت فقد كانت هي مع المتاع في يده فأما بعد موت أحدهما قال محمد رحمه الله تعالى ورثة الزوج يقومون مقام الزوج فكما أن في المشكل القول قوله في حياته فكذلك بعد موته القول قول ورثته وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يد الباقي منهما إلى المتاع أسبق لأن الوارث إنما يثبت يده بعد موت المورث وكما يقع الترجيح هنا بقوة اليد لصلاحية الاستعمال فكذا يقع الترجيح بسبق اليد ولأن يد الباقي منهما يد نفسه ويد الوارث قائمة مقام يد مورثه فلهذا النوع من الترجيح كان المشكل للباقي منهما أيهما كان وما كان من متاع التجارة والرجل معروف بتلك التجارة فهو للرجل والجبة المحشوة وجبة القز والخز والبرود فهو للرجل إذا كانت ذات لبة لأن هذا مما يستعمله الرجال دون النساء والمستقة والبركان المعلم مما يكون للرجال والنساء جميعا.
وإن كان أحد الزوجين حرا والآخر مملوكا أو مكاتبا فالمتاع للحر منهما أيهما كان في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هذا وما لو كانا حرين سواء على ما بينا في الفصل الأول من قول كل واحد منهما وإنما نص على هذا الخلاف في الجامع الصغير وجه قولهما أن المملوك بمنزلة الحر في الاستحقاق باليد لأن له يدا معتبرة ألا ترى أنه لو تنازع حر ومملوك في متاع في يدهما كان بينهما نصفان ولا تترجح يد الحر بحريته فكذلك هذا ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول يد الحر أقوى فإنها يد ملك ويد العبد ليست بيد ملك فكما يقع الترجيح هنا بقوة اليد يقع بالقرب من الاستعمال بخلاف سائر الدعاوي والخصومات فكذلك يقع الترجيح هنا بقوة اليد بالحرية توضيحه أن يد الحر يد نفسه ويد العبد من وجه كأنها يد مولاه وقد بينا أن الترجيح هنا باعتبار أن يده يد نفسه كما بعد موت أحدهما وأن كان أحدهما كافرا والآخر مسلما فالمسلم والكافر في ذلك سواء لأنهما في قوة اليد يستويان فإن يد كل واحد منهما يد نفسه وهي يد ملك فيستويان في الاستحقاق ويستوي أن وقعت المنازعة بينهما في حال قيام النكاح أو بعد وقوع الفرقة بأي وجه وقعت الفرقة بينهما سواء كانت الفرقة من قبل الزوج أو من قبل المرأة وأن كانت أمة فأعتقت فاختارت نفسها فما عرف أنه كان في البيت قبل أن تعتق فهو للرجل عند أبي حنيفة بمنزلة ما لو وقعت المنازعة في ذلك قبل عتقها وما أحدثا بعد العتق قبل أن تختار نفسها فهو على ما بينا في الطلاق لأن يدها بالعتق تتقوى فتستوي بيد الرجل فيما أحدث بعد العتق.
قال: فإن كان له نسوة فوقع الاختلاف بينه وبينهن فإن كن في بيت واحد فمتاع النسوة بينهن سواء للمساواة بينهن في سبب الاستحقاق وهو القرب من الاستعمال وقوة اليد بسببه وإن كانت كل واحدة منهن في بيت واحد فما في بيت كل واحدة منهن بينها وبين زوجها على ما وصفنا ولا يشارك بعضهن بعضا لأنه لا يد لكل واحدة منهن فيما في بيت ضرتها فلا تستحق شيئا من ذلك إلا بحجة.

 

ج / 5 ص -190-       قال: وإذا أقرت المرأة بمتاع أن الرجل اشتراه فهو للرجل لأن الشراء سبب موجب للملك وقد أقرت له بمباشرة هذا السبب ولأن ما أقرت به كالمعاين ولو عايناه اشترى شيئا كان ذلك مملوكا له فكذلك إذا أقرت هي بشرائه.
قال: وإذا مات الرجل فقالت الورثة للمرأة قد كان طلقك في حياته ثلاثا وأرادوا أن يأخذوا منها المشكل لم يصدقوا على ذلك وهذا التفريع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنه يقول إذا وقعت الفرقة بالطلاق ففي المشكل القول قول الزوج وإذا وقعت بالموت ففي المشكل القول قول الباقي منهما ثم هنا الورثة يدعون طلاقا لم يظهر سببه فلا يقبل قولهم في ذلك إلا بحجة ألا ترى أنهم لو أرادوا منع ميراثها بهذه الدعوى لم يقبل قولهم في ذلك ولأن القول قولها بعد ما تحلف بالله أنها ما تعلم أنه طلقها لأنها لو أقرت بالطلاق لزمها فإذا أنكرت حلفت عليه ولكن الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم فإن علم أنه طلقها في صحته ثلاثا ثم مات أو طلقها في مرضه ثلاثا ثم مات بعد انقضاء العدة ففي المشكل القول قول ورثة الزوج لأنها صارت أجنبية بهذا الطلاق ولو وقعت المنازعة بينهما في المشكل بعد الطلاق كان القول فيه قول الزوج فكذلك بعد موته القول فيه قول ورثته وإن مات قبل أن تنقضي العدة فهو للمرأة لأن الطلاق في المرض لا يجعلها أجنبية ما لم تنقضي عدتها ألا ترى أنها ترثه بالزوجية إذا مات فكان هذا وما لو وقعت الفرقة بينهما بالموت سواء فلهذا كان القول في المشكل قولها وإن كانا مملوكين أو مكاتبين أو كافرين فالقول في المتاع على ما وصفنا في الحرين المسلمين لأن هذا من باب الدعوى والخصومة والكفار والمماليك في ذلك يستوون بالإحرار المسلمين كما في سائر الخصومات والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب القسمة بين النساء
اعلم بأن الزوج مأمور بالعدل في القسمة فيما بين النساء وذلك ثابت بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] إلى قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] معناه إن لا تجوروا وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في أحكام القرآن أن معناه أن لا تكثر عيالكم وهذا مخالف لقول السلف فالمنقول عنهم أن لا تميلوا ومع ذلك فهو خطأ من حيث اللغة فإنه لو كان المراد كثرة العيال لكان يقول أن لا تعيلوا يقال عال إذا مال وأعال إذا صار معيلا ومن حيث المعنى كذلك أيضا غلطا فإنه أمر بالإكتفاء بالواحدة واتخاذ ما بينا من ملك اليمين عند هذا الجور ومعنى كثرة العيال ووجوب النفقة يحصل في ملك اليمين كما يحصل في ملك النكاح وإنما ينعدم في ملك اليمين استحقاق التسوية في القسمة وأما السنة فما روى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه وكان يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يعني من زيادة المحبة لبعضهن وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له زوجتان فمال إلى

 

ج / 5 ص -191-       إحداهما في القسم جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل" ولأن النساء رعاياه ألا ترى أنه يحفظهن وينفق عليهن وكل راع مأمور بالعدل في رعيته وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" إذا عرفنا هذا فنقول إذا كان للرجل الحر أو المملوك امرأتان حرتان فإنه يكون عند كل واحدة منهما يوما وليلة وإن شاء أن يجعل لكل واحدة منهما ثلاثة أيام فعل لأن المستحق عليه التسوية فأما في مقدار الدور فالاختيار إليه وهذه التسوية في البيتوتة عندها للصحبة والمؤانسة لا في المجامعة لأن ذلك ينبني على النشاط ولا يقدر على اعتبار المساواة فيه فهو نظير المحبة في القلب وروى عن الأشعث بن الحكم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها حين دخل بها "أن شئت سبعت لك وسبعت لهن" زاد في بعض الروايات "أن شئت ثلثت لك وثلثت لهن" وفي رواية "وأن شئت ثلثت لك ثم درت" وبهذا الحديث أخذ علماؤنا فقالوا الجديدة والقديمة في حكم القسم سواء بكرا كانت الجديدة أو ثيبا وقال الشافعي رحمه الله تعالى أن كانت بكرا يفضلها بسبع ليال وأن كانت ثيبا فثلاث ليال ثم التسوية بعد ذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفضل البكر بسبع والثيب بثلاث" ولأن القديمة قد ألفت صحبته وأنست به والجديدة ما ألفت ذلك بل فيها نوع نفرة ووحشة فينبغي أن يزيل ذلك عنها ببعض الصحبة لتستوي بالقديمة في الألف ثم المساواة بعد ذلك فإذا كانت بكرا ففيها زيادة نفرة عن الرجال فيفضلها بسبع ليال وإذا كانت ثيبا فهي قد صحبت الرجال وإنما لم تصحبه خاصة فيكفيها ثلاث ليال لتأنس بصحبته وحجتنا في ذلك أن سبب وجوب التسوية اجتماعها في نكاحه وقد تحقق ذلك بنفس العقد ولو وجب تفضيل إحداهما كانت القديمة أولى بذلك لأن الوحشة في جانبها أكثر حيث أدخل غيرها عليها فإن ذلك يغيظها عادة ولأن للقديمة زيادة حرمة بسبب الخدمة كما يقال لكل جديد لذة ولكل قديم حرمة وأما الحديث فالمراد التفضيل بالبداية دون الزيادة كما ذكر في حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن شئت سبعت لك وسبعت لهن وقوله أن شئت ثلثت لك ثم درت أي أخبرت بمثل ذلك على كل واحدة منهن ونحن نقول به أن للزوج أن يبدأ بالجديدة لما له في ذلك من اللذة ولكن بعد أن يسوي بينهما.
قال: والمسلمة والكافرة والمراهقة والمجنونة والبالغة في استحقاق القسم سواء للمساواة بينهن في سبب هذا الحق وهو الحل الثابت بالنكاح فلا ينبغي أن يقيم عند إحداهن أكثر مما يقيم عند الآخرى إلا أن تأذن له فيه لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن نساءه في مرضه أن يكون في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها فأذن له في ذلك فكان في بيتها حتى قبض صلى الله عليه وسلم، ففي هذا دليل على أن الصحيح والمريض في القسم سواء لأن النبي صلى الله عليه وسلم في أول مرضه كان يكون عند كل واحدة منهن ثم لما شق ذلك عليه استأذنهن في أن يكون عند عائشة رضي الله تعالى عنها فدل ذلك على أن الصحيح والمريض سواء وأن عند الأذن له أن يقيم عند

 

ج / 5 ص -192-       إحداهن فأما الأمة والمكاتبة والمدبرة وأم الولد تكون زوجة الرجل فيتزوج عليها حرة فللحرة يومان وللأمة يوم واحد لحديث علي رضي الله تعالى عنه على ما روينا قال وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث ولأن حل الأمة على النصف من حل الحرة واستحقاق القسم باعتبار ذلك والرق في المكاتبة والمدبرة وأم الولد قائم.
قال: وإن سافر الرجل مع إحدى امرأتيه لحج أو غيره فلما قدم طالبته الثانية أن يقيم عندها مثل المدة التي كان فيها مع الآخرى في السفر لم يكن لها ذلك ولم يحتسب عليه بأيام سفره مع التي كانت معه ولكنه يستقبل العدل بينهن والكلام هنا في فصلين أحدهما أن له أن يسافر بأيتهما شاء من غير إقراع بينهما عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس له ذلك إلا أن يقرع بينهما لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه قالت عائشة رضي الله عنها وأصابتني القرعة في السفرة التي أصابني فيها ما أصابني وحجتنا في ذلك أنه لا حق للمرأة في القسم عند سفر الزوج ألا ترى أن له أن يسافر ولا يستصحب واحدة منهن فليس عليه التسوية بينهن في حالة السفر وإنما كان يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيبا لقلوبهن ونفيا لتهمة الميل عن نفسه وبه نقول أن ذلك مستحب للزوج ثم إذا سافر ببعضهن ليس للباقين بعد الرجوع الاحتساب عليه بتلك المدة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى أن سافر ببعضهن بغير اقتراع فذلك محسوب عليه في حق الأخرى بناء على أصله أن الإقراع مستحق عليه فإذا لم يفعل ذلك كانت مدة سفره نوبة التي كانت معه فينبغي أن يكون عند الآخرى مثل ذلك ليتحقق العدل ولكنا نقول وجوب التسوية في وقت استحقاق القسم عليه وقد بينا أنه لا حق للمرأة في القسم في حال سفر الزوج فلا يلزمه مراعاة التسوية باعتبار تلك المدة كما إذا سافر بها بالقرعة إلا ترى أنه في حالة الحضر لا فرق بين أن تكون البداية باقراع أو بغير إقراع فكذلك في السفر. قال: ولو أقام عند إحداهما شهرا ثم خاصمته الأخرى في ذلك قضى عليه أن يستقبل العدل بينهما وما مضى فهو هدر غير أنه هو فيه آثم لأن القسمة تكون بعد الطلب من كل واحدة منهما فما مضى قبل الطلب ليس من القسمة في شيء والواجب عليه العدل في القسمة ألا ترى أن ما مضى قبل نكاح أحداهما لا يعتبر في حق التي جدد نكاحها فكذلك ما مضى قبل طلبها.
قال: فإن عاد إلى الجور بعد ما نهاه القاضي أوجعه عقوبة وأمره بالعدل لأنه أساء الأدب فيما صنع وارتكب ما هو حرام عليه وهو الجور فيعذر في ذلك ويؤمر بالعدل.
قال: ولو كان عند الرجل امرأة فدخلت في سنها أي كبرت فأراد أن يستبدل بها شابة فطلبت أن يمسكها ويتزوج بالأخرى ويقيم عند التي تزوج أياما ويقيم عندها يوما فتزوج على هذا الشرط كان جائزا لا بأس به لقوله تعالى:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} [النساء: 128] نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما الآية قال علي رضي الله عنه إنما نزلت هذه الآية في هذا وبلغنا عن

 

ج / 5 ص -193-       رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها حين طعنت في السن اعتدى فسألته لوجه الله تعالى أن يراجعها ويجعل يوم نوبتها لعائشة رضي الله عنها لكي تحشر يوم القيامة مع أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن ففعل.
قال: ولا بأس بأن يقيم الرجل عند إحدى امرأتيه أكثر مما يقيم عند الأخرى إذا أذنت له لما روينا من الحديث في مقامه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها بأذنهن رضي الله عنهن ولقول ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] الآية قال هذا في الحب فأما في القسم فينبغي أن يعدل ولا يفضل أحداهما إلا بإذن الأخرى وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً} [النساء: 128] مثل قول علي رضي الله تعالى عنه وكان المعنى فيه أن التي رضيت أسقطت حق نفسها وهي من أهل أن تسقط حقها ألا أن هذا الرضا ليس يلزمها شيئا حتى إذا أرادت أن ترجع وتطالب بالعدل في القسم فلها ذلك.
قال: وإذا أقام عند امرأته الأمة يوما ثم أعتقت لم يقم عند الحرة الأخرى إلا يوما واحدا لأن المعتقة استوت بالحرة في السبب فعليه مراعاة التسوية بينهما في القسم وتجعل حريتها عند انتهاء النوبة إليها بمنزلة حريتها عند ابتداء النوبة ولو أقام عند الحرة يوما ثم أعتقت تحول عنها إلى المعتقة لأنها قد إستوت بها فليس له أن يفضل الحرة بشيء بعد ما استوت المعتقة بها.
قال: وإذا كان للرجل امرأة واحدة فكان يقوم الليل ويصوم النهار فاستعدت عليه امرأته فإنه يؤمر بأن يبت معها ويفطر لها وبلغنا عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لكعب بن سور اقض بينهما فقال أراها إحدى نسائه الأربع لهن ثلاثة أيام ولياليها ولها يوم وليلة وقصة هذا الحديث أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله تعالى عنه وقالت أن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل فقال نعم الرجل زوجك فأعادت كلامها مرارا في كل ذلك يجيبها عمر رضي الله عنه بهذا فقال كعب بن سور يا أمير المؤمنين أنها تشكو من زوجها في أنه هجر من صحبتها فتعجب عمر رضي الله تعالى عنه من فطنته وقال اقض بينهما فقضى كعب رضي الله تعالى عنه بما ذكر فولاه عمر رضي الله تعالى عنه قضاء البصرة ثم في ظاهر الرواية لا يتعين حقها في يوم وليلة من كل أربع ليال ولكن يؤمر الزوج بأن يراعى قلبها ويبيت معها أحيانا وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال إذا كان للرجل امرأة واحدة فاشتغل عنها بالصيام والقيام أو بصحبة الإماء فخاصمته في ذلك قضى القاضي لها بليلة من كل أربع ليال لحديث كعب بن سور ولأن للزوج أن يسقط حقها عن ثلاث ليال بأن يتزوج ثلاثا سواها وليس له أن يسقط حقها أكثر من ذلك وجه ظاهر الرواية أن القسمة والعدل إنما يكون عند المزاحمة ولا مزاحمة هنا حين لم يكن في نكاحه إلا واحدة أرأيت لو كان تحته أربع نسوة أكان يستحق عليه يوم وليلة من أربعة لكل واحدة منهن فلا يشتغل بالصيام والقيام أبدا حتى لا يصوم

 

ج / 5 ص -194-       لا رمضان ولا غيره هذا ليس بشيء والصحيح أنه يؤمر بأن يؤنسها بصحبته أحيانا من غير أن يكون في ذلك شيء مؤقت وهذا لأن عند المزاحمة تلحق كل واحدة منهما المغايظة لمقامه عند الأخرى فيستحق عليه التسوية ولا يوجد ذلك عند عدم المزاحمة.
قال: وإذا تزوج امرأتين على أن يقيم عند إحداهما يوما والأخرى يومين ثم طلبت التي لها اليوم أن يعدل بينهما فلها ذلك لما بينا أنها رضيت بترك العدل فيما مضى من المدة فلا يلزمها ذلك في المستقبل شيئا ولأن هذا الشرط مخالف لحكم الشرع وهو باطل لقوله صلى الله عليه وسلم:
"كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل".
قال: والمجبوب والخصى والعنين في القسمة سواء بين النساء لما بينا أن وجوب القسم والعدل للصحبة والمؤانسة دون المجامعة وحال هؤلاء في هذا كحال الفحل وكذلك الغلام الذي لم يحتلم إذا دخل بامرأتين فإنه يسوي بينهما في القسم لأن وجوب التسوية لحق النساء وحقوق العباد تتوجه على الصبيان عند تقرر السبب كما يتوجه على البالغين.
قال: وإذا جعلت المرأة لزوجها جعلا على أن يزيدها في القسم يوما ففعل لم يجز وترجع في ماله لأنها رشته على أن بحور والرشوة حرام وهذا بمنزلة الرشوة في الحكم وهو من السحت فلهذا تسترد ما أعطت وعليه التسوية في القسم وكذلك لو حطت له شيئا من المهر على هذا الشرط أو زادها الزوج في مهرها أو جعل لها جعلا على أن تجعل نوبتها لفلانة فهذا كله باطل لأنها بهذا لا يملك الزوج شيئا فلا تستوجب عليه المال بمقابلته ولأنها أخذت الرشوة على أن ترضى بالجور وذلك حرام فكان الجعل مردودا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب نفقة ذوي الأرحام
قال: رضي الله عنه ويجبر الرجل الموسر على نفقة أبيه وأمه إذا كانا محتاجين لقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23] نهى عن التأفيف لمعنى الأذى ومعنى الأذى في منع النفقة عند حاجتهما أكثر ولهذا يلزمه نفقتهما وإن كانا قادرين على الكسب لأن معنى الأذى في الكد والتعب أكثر منه في التأفيف وقال صلى الله عليه وسلم: "أن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وأن ولده لمن كسبه فكلوا مما كسب أولادكم" وإذا كان الأولاد ذكورا وأناثا موسرين فنفقة الأبوين عليهم بالسوية في أظهر الروايتين وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن النفقة بين الذكور والأناث للذكر مثل حظ الانثيين على قياس الميراث وعلى قياس نفقة ذوي الأرحام ووجه الرواية الأخرى أن استحقاق الأبوين النفقة باعتبار التأويل وحق الملك لهما في مال الولد كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" وفي هذا الذكور والأناث سواء ولهذا يثبت لهما هذا الاستحقاق مع اختلاف الملة وأن انعدم التوارث بسبب اختلاف الملة.
قال: وإن كان الولد معسرا وهما معسران فليس عليه نفقتهما لأنهما لما استويا في الحال لم يكن أحدهما بإيجاب نفقته على صاحبه بأولى من الآخر إلا أنه روى عن أبي يوسف

 

ج / 5 ص -195-       رحمه الله تعالى قال إذا كان الأب زمنا وكسب الابن لا يفضل عن نفقته فعليه أن يضم الأب إلى نفسه لأنه لو لم يفعل ضاع الأب ولو فعل ذلك لا يخشى الهلاك على الولد والإنسان لا يهلك على نصف بطنه.
قال: وكذلك الجد أب الأب والجدة أم الأم وأم الأب لأنهم من الوالدين وحالهم في استحقاق النفقة كحال الأبوين ألا ترى أن التأويل في مال النافلة يثبت للجد عند عدم الأب كما يثبت للأب.
قال: ويجبر الرجل على نفقة أولاده الصغار لقوله عز وجل:
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] والنفقة بعد الفطام بمنزلة مؤنة الرضاع قبل ذلك ولأن الولد جزء من الأب فتكون نفقته عليه كنفقته على نفسه ثم في ظاهر الرواية لا يشارك الأب في النفقة أحد وقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن النفقة على الأب والأم أثلاثا بحسب ميراثهما من الولد فأما في ظاهر الرواية كما لا يشارك الأب في مؤنة الرضاع أحد فكذلك في النفقة وهذا إذا كان الأب موسرا فإن كان معسرا والأم موسرة أمرت بأن تنفق من مالها على الولد ويكون ذلك دينا على الأب إذا أيسر وكذلك الأب إذا كان معسرا وله أخ موسر فإن الأخ وهو عم الولد يعطي نفقة الولد ويكون ذلك دينا على الأب له إذا أيسر لأن استحقاق النفقة على الأب ولكن الإنفاق لا يحتمل التأخير فيقام مال الغير مقام ماله في أداء مقدار الحاجة منه على أن يكون ذلك دينا عليه إذا أيسر والذي قلنا في الصغار من الأولاد كذلك في الكبار إذا كن إناثا لأن النساء عاجزات عن الكسب واستحقاق النفقة لعجز المنفق عليه عن كسبه وإن كانوا ذكورا بالغين لم يجبر الأب على الانفاق عليهم لقدرتهم على الكسب إلا من كان منهم زمنا أو أعمى أو مقعدا أو أشل اليدين لا ينتفع بهما أو مفلوجا أو معتوها فحينئذ تجب النفقة على الوالد لعجز المنفق عليه عن الكسب وهذا إذا لم يكن للولد مال فإذا كان للولد مال فنفقته في ماله لأنه موسر غير محتاج واستحقاق النفقة على الغنى للمعسر باعتبار الحاجة إذ ليس أحد الموسرين بإيجاب نفقته على صاحبه بأولى من الآخر بخلاف نفقة الزوجة فإن استحقاق ذلك باعتبار العقد لتفريغها نفسها له فتستحق موسرة كانت أو معسرة فإما الاستحقاق هنا باعتبار الحاجة فلا يثبت عند عدم الحاجة.
قال: فإن كان مال الولد غائبا أمر الأب بأن ينفق عليه من ماله على أن يرجع في مال الولد إذا حضر ماله لكنه أن أشهد فله أن يرجع في الحكم وأن أنفق بغير إشهاد لكن على نية الرجوع فله أن يرجع فيما بينه وبين الله تعالى وفي الحكم ليس له ذلك لأن الظاهر أنه يقصد التبرع بمثل هذا والقاضي يتبع الظاهر فأما فيما بينه وبين الله تعالى فله أن يرجع لأن الله تعالى عالم بما في ضميره.
قال: وكذلك يجبر على نفقة كل ذي رحم محرم منه الصغار والنساء وأهل الزمانة من

 

ج / 5 ص -196-       الرجال إذا كانوا ذوي حاجة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تجب النفقة على غير الوالدين والمولودين وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى تجب النفقة على كل وارث محرما كان أو غير محرم واستدل بظاهر قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك ولكنا نقول قد بينا أن في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك والشافعي رحمه الله تعالى يبني على أصله فإن عنده استحقاق الصلة باعتبار الولاد دون القرابة حتى لا يعتق أحد على أحد إلا الوالدين والمولودين عنده وجعل قرابة الأخوة في ذلك كقرابة بني الأعمام فكذلك في حق استحقاق النفقة وفيما بين الأباء والأولاد الاستحقاق بعلة الجزئية دون القرابة وحمل قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: من 233] على نفى المضارة دون النفقة وذلك مروى عن ابن عباس رضي الله عنه ولكنا نستدل بقول عمر وزيد رضي الله عنهما فإنهما قالا وعلى الوارث مثل ذلك من النفقة ثم نفي المضارة لا يختص به الوارث بل يجب ذلك على غير الوارث كما يجب على الوارث على أن الكناية في قوله ذلك تكون عن الأبعد وإذا أريد به الأقرب يقال هذا فلما قال ذلك عرفنا أنه منصرف إلى قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف والمعني فيه أن القرابة القريبة يفترض وصلها ويحرم قطعها قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث معلقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم تقول النعمة كفرت ولم أشكر وتقول الأمانة خونت ولم أرد ويقول الرحم قطعت ولم أوصل" وقد جعل الله تعالى قطيعة الرحم من الملاعن بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 52] ومنع النفقة مع يسار المنفق وصدق حاجة المنفق عليه يؤدي إلى قطيعة الرحم ولهذا اختص به ذو الرحم المحرم لأن القرابة إذا بعدت لا يفرض وصلها ولهذا لا تثبت المحرمية بها وكذلك المرأة الموسرة تجبر على ما يجبر عليه الرجل من نفقة الأقارب لأن هذا الاستحقاق بطريق الصلة فيستوي فيه الرجال والنساء كالعتق عند الدخول في الملك.
قال: ولا يجبر المعسر على نفقة أحد إلا على نفقة الزوجة والولد الصغير أما استحقاق نفقة الزوجة باعتبار العقد وأما الأولاد الصغار فلأنهم اجزاؤه فكما لا تسقط عنه نفقة نفسه لعسرته فكذلك نفقة أولاده والأصل فيه قوله تعالى:
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فأما نفقة الأقارب استحقاقها بطريق الصلة فتكون على الموسرين دون المعسرين كالزكاة وعلى هذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى من لم يكن له فضل على حاجته مقدار ما تجب فيه الزكاة لا تلزمه نفقة الأقارب إلا أنه يروي هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال إذا كان كسبه كل يوم درهما ويكفيه لنفقته ونفقة عياله أربعة دوانق يؤمر بصرف الفضل إلى أقاربه لأن الاستحقاق باعتبار الحاجة فيعتبر في جانب المؤدي لتيسير الأداء وتيسير الأداء موجود إذا كان كسبه يفضل عن نفقته.
قال: وإذا امتنع الأب من الإنفاق على أولاده الصغار بحبس في ذلك بخلاف سائر

 

ج / 5 ص -197-       الديون فإن الوالد غير محبوس فيه لوجهين أحدهما أن النفقة لحاجة الوقت فهو بالمنع يكون قاصدا إلى إتلافه والأب يستوجب العقوبة عند قصده إلى إتلاف ولده كما لو عدى عليه بالسيف كان له أن يقتله دفعا له بخلاف سائر الديون لا تسقط بتأخير الأداء والنفقة لا تصير دينا بل تسقط بمضى الوقت فيستوجب الحبس إذا امتنع من الأداء وهو نظير ما قلنا أن من جار في القسم بوجع عقوبة وإذا امتنع من إيفاء حق آخر لا يحبس لأن ذلك الحق لا يسقط بتأخير الأداء وما جار فيه من الزمان لا يصير دينا فيوجع عقوبة ليمتنع من الجور.
قال: ومن كان له مسكن أو خادم ليس له غيره وهو محتاج تحل له الصدقة فعلى الموسر من ذي الرحم المحرم نفقته وقال الخصاف في كتابه بعد ما روى هذا عن محمد رحمه الله تعالى وقال غيره ليس عليه نفقته ولكن يقال له بع مسكنك وخادمك وأنفق على نفسك لأنه يمكنه أن يكتفي بمنزل يكرى فأما في ظاهر الرواية المنزل والخادم من أصول حوائجه فإنه لا بدله من ذلك فلا ينعدم بملكها حاجته.
قال: ولا يقضي بالنفقة في مال أحد ممن ذكرنا إذا كان رب المال غائبا أو مفقودا ما خلا الوالدين والزوجة فإني أقضى لهم من مال الغائب والحاصل أن ما كان مختلفا فيه فلا يتقوى الإبقضاء القاضي وليس للقاضي أن يوجد القضاء على الغائب فأما ما كان متفقا عليه فهو ثابت بنفسه ولصاحب الحق أن يمديده فيأخذ ذلك من غير قضاء القاضي وللقاضي أن يعينه على ذلك إذا كان صاحب المال حاضرا أو غائبا والسبب معلوما للقاضي إلا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند رضي الله عنها:
"خذي من مال أبي سفيان رضي الله عنه ما يكفيك وولدك بالمعروف" وهو كان غائبا وقال في كتاب المفقود وإن استوثق منه بكفيل فحسن لجواز أن يكون أخذ النفقة أو بعث الغائب بنفقته فيقصد الأخذ ثانيا والقاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه فإذا كان الغائب عاجزا عن النظر لنفسه نظر القاضي له بأخذ الكفيل إن شاء وإن شاء ضمنهم ذلك ولم يأخذ منهم كفيلا فهو مستقيم أيضا لأنه ليس هنا خصم يطلب من القاضي أخذ الكفيل وإنما يجب ذلك على القاضي عند طلب الخصم.
قال: فإن كان له عند هؤلاء مال فأنفقه على نفسه أجزته ولم أضمنه لأنه ظفر بجنس حقه فله أن يأخذ بقدر حقه وأن كان عند غيرهم فأعطاهم بغير أمر القاضي حتى أنفقوا كان ضامنا له لأنه مأمور بالحفظ ودفعه إلى غيره لينفق ليس من الحفظ فيصير به مخالفا ضامنا وهو نظير مالو أراد المودع أن يقضي بالوديعة دين المودع ليس له ذلك ويصير ضامنا أن فعله وأن كان صاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه.
قال: وإن باع أحد منهم متاع الغائب للنفقة أبطلت بيعه ما خلا الأب المحتاج فإني أجيز بيعه على ولده الغائب فيما سوى العقار استحسانا لما ينفقه على نفسه ولا يجوز في العقار إلا أن يكون الولد صغيرا وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في كتاب المفقود.

 

ج / 5 ص -198-       قال: وكذلك قياس قوله في المفقود وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يجوز بيع الأب أيضا على ابنه الكبير الغائب في العقار كما لا يجوز بيع غيره والقياس ما قالا لأن ولاية الأب قد زالت ببلوغ الصبي عن عقل فيكون هو في بيع أمواله كغيره يدل عليه أن النفقة لا تكون أوجب من سائر الديون وليس للأب بيع شيء من متاع ولده في دين له عليه ولا يقضي القاضي بذلك أيضا لما فيه من القضاء على الغائب فكذلك في النفقة واستحقاق الأم النفقة كاستحقاق الأب ثم الأم لا تبيع عروض الولد في نفقتها فكذلك الأب واستحسن أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال ولاية الأب وإن زالت بالبلوغ ولكن بقي أثرها ولهذا صح منه الاستيلاد في جارية الابن فلبقاء أثر ولايته كان له أن يبيع العروض لأن بيع العروض من الحفظ فإن العروض يخشى عليه من الهلاك وحفظ الثمن أيسر وولاية الحفظ تثبت لمن يثبت له ولاية التصرف كالوصى في حق الوارث الكبير الغائب له ولاية الحفظ وبيع العروض فكذلك للأب ذلك وبعد البيع الثمن من جنس حقه فله أن يأخذ منه مقدار النفقة فأما بيع العقار ليس من الحفظ لأنه محصن بنفسه فلا يملك ذلك إلا بمطلق الولاية وهو عند صغر الولد أو جنونه وإذا باع عند ذلك أخذ من الثمن نفقته لأنه من جنس حقه وبخلاف الأم وسائر الأقارب لأنه لم تكن لهم ولاية التصرف في حالة الصغر ليبقي أثر تلك الولاية بعد البلوغ وكذلك ليس لهم ولاية حفظ المال فلهذا لا يجوز منهم بيع العروض.
قال: ولا يجبر المسلم على نفقة الكفار من قرابته ولا الكفار على نفقة المسلمين من قرابتهم لأن هذا الاستحقاق بعلة ولاية الوراثة شرعا وبسبب اختلاف الدين ينعدم التوارث إلا الوالدين والولد والزوجة أما استحقاق الزوجة للنفقة بسبب العقد وذلك متحقق مع اختلاف الدين أما في حق الوالدين والولد القياس أن لا يثبت استحقاق النفقة مع اختلاف الدين لأن استحقاقها بطريق الصلة كنفقة الأقارب ولكنه استحسن فقال يجب على الولد المسلم نفقة أبويه الذميين لقوله تعالى:
{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعم الله ويدعهما يموتان جوعا والنوافل والإجداد والجدات من قبل الأب والأم بمنزلة الأبوين في ذلك لأن استحقاقهم باعتبار الولاد بمنزلة استحقاق الأبوين.
قال: وإذا مات الأب وللولد الصغير أم وجد أب الأب فنفقته عليهما على قدر ميراثهما أثلاثا بخلاف الأب في ظاهر الرواية فإنه لا يشاركه في النفقة أحد لحقيقة الجزئية بينه وبين الولد وذلك لا يوجد في حق الجد فإن اتصال النافلة بواسطة الأب كاتصال الأخ فكما أن في الأخ والأم النفقة عليهما بحسب الميراث إذا كانا موسرين فكذلك في الجد والأم النفقة عليهما بحسب الميراث.
قال: وإن كان للولد خال موسر وبن عم موسر فالنفقة على الخال دون بن العم وإن كان الميراث لابن العم لأن النفقة على ذي الرحم المحرم وبن العم ليس بمحرم فلا نفقة عليه والخال محرم فتكون النفقة عليه إذا كان موسرا.

 

ج / 5 ص -199-       قال: وإذا كان الرجل زمنا معسرا وله بن معسر صغير أو كبير زمن وللرجل ثلاثة أخوة متفرقين أهل يسار فنفقة الرجل تكون على أخيه لأب وأم وعلى أخيه لأم أسداسا بحسب ميراثهما منه وأما نفقة الأولاد فعلى الأخ لأب وأم خاصة لأن له ميراث الولد عند عدم الأب خاصة فإنه عم لاب وأم فلا يرث معه العم لأب ولا العم لأم والحاصل أن من يكون محتاجا يجعل في حكم المعدوم فتكون النفقة بعده على من يكون وارثا بحسب ميراثه وإذا كان الولد بنتا كانت نفقة الأب والبنت على الأخ لأب وأم خاصة أما نفقة البنت فلما بينا وأما نفقة الأب فلأن الوارث هنا هو الأخ لأب وأم خاصة لأن الأخ لأب وأم يرث مع البنت والأخ لأم لا يرث مع البنت فلا حاجة إلى أن تجعل البنت كالمعدومة ولكن تعتبر صفة الوراثة مع بقائها بخلاف الابن فإنه لا يرث معه أحد من الأخوة فلا بد أن يجعل كالمعدوم وإذا جعل كذلك فميراث الأب بين الأخ لأب وأم والأخ لأم أسداسا فالنفقة عليهما بحسب ذلك.
قال: وإن كان مكان الأخوة أخوات متفرقات فإن كان الولد ذكرا فنفقة الأب على أخواته أخماسا لأن أحدا من الأخوات لا يرث مع الابن فلا بد من أن يجعل الابن كالمعدوم وبعد ذلك الميراث بينهن أخماسا ثلاثة أخماسة للأخت لأب وأم وخمسه للأخت لأب وخمسه للأخت لأم بطريق الفرض والرد فالنفقة عليهم بحسب ذلك ونفقة الولد على الأخت من الأب والأم خاصة في قول علمائنا لأن ميراثه إذا مات عند عدم الوالد للعمة لأب وأم خاصة دون العمة لأب أو لأم أما في قول من يورث العمات المتفرقات كما يورث الإخوات وهو قول أهل التنزيل فنفقة الولد عليهن أيضا أخماسا بحسب الميراث ومن قال بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الميراث قال نفقة الأب تكون على الأخت لأب السدس من ذلك والباقي أرباع على الأخت لأب وأم ثلاثة أرباعه وعلى الأخت لأم ربعه بحسب الميراث فإنه لا يرى الرد على الأخت لأب مع الأخت لأب وأم فإن كان الولد بنتا فنفقة الأب على الأخت لأب وأم خاصة لأنها وارثة مع البنات فإن الأخوات مع البنات عصبة فلا تجعل البنت كالمعدوم هنا ولكن لو مات الأب كان نصف ميراثه للبنت والباقي للأخت لأب وأم فكذلك نفقته على الأخت لأب وأم وكذلك نفقة البنت في قولهم جميعا إلا في قول أهل التنزيل فإنهم يجعلون الميراث بين العمات أخماسا فنفقة البنت عليهن أخماسا أيضا وأما عندنا ميراث البنت عند عدم الأب كله للعمة لأب وأم فالنفقة عليها أيضا ثم أشار إلى الأصل الذي قلنا أنه ينظر إلى وارث الأب فإن كان يحرز الميراث كله وهو معسر جعلته كالميت ثم نظرت إلى من يرثه فجعلت النفقة عليهم على قدر ميراثهم فإن كان الذي يرثه لا يحرز الميراث كله جعلت النفقة على من يرث معه.
قال: امرأة معسرة ولها ولد موسر وأم موسرة فنفقتها على الولد دون الأم وكذلك الأب نفقته على ابنه دون أبيه للتأويل الثابت له في مال ولده بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" ولا

 

ج / 5 ص -200-       يوجد ذلك في حق الوالد ولا في حق الأم وكما لا يشارك الوالد في النفقة على الولد أحد فكذلك لا يشارك الولد في النفقة على الوالدين أحد من أم ولا أب ولا جد.
قال: ويجبر أهل الذمة فيما بينهم على النفقة كما يجبر أهل الإسلام وإن اختلفت مللهم في الكفر لأنهم أهل ملة واحدة يتوارثون مع اختلاف النحل فيثبت حكم استحقاق النفقة فيما بينهم أيضا ولا يجبر الموسر على نفقة المعسر من قرابته إذا كان رجلا صحيحا وإن كان لا يقدر على الكسب لأن الصحيح الذي لازمانة به لا يعجز عن كسب القوت عادة وبناء الحكم على العادة الظاهرة دون النادر إلا في الوالدين خاصة وفي الجد أب الأب إذا مات أب الولد فإنه يجبر الولد على نفقته وإن كان صحيحا لدفع الأذى الذي يلحقه للكد والتعب على ما بينا.
قال: ولا يجبر المملوك والمكاتب على نفقة أحد من قرابته لأن كسب المملوك لمولاه والمكاتب ليس له في كسبه ملك في الحقيقة بل هو دائر بينه وبين مولاه فلا يلزمه نفقة أحد من قرابته إلا ولده المولود في الكتابة من أمته فإنه داخل في كتابته وكسبه له لتكون نفقته عليه.
قال: ولا يجبر المسلم ولا الذمي على النفقة لوالديه وولده من أهل الحرب وأن كانوا مستأمنين في دار الإسلام لأن الاستحقاق بطريق الصلة ولا يثبت للحربي استحقاق الصلة على من هو أهل دار الإسلام ألا ترى أنهما لا يتوارثان وإن كانا على ملة واحدة من الكفر فكذلك استحقاق النفقة لبعضهم على البعض.
قال: ونفقة المعتوه على ابنه دون أبيه لتأويل الملك له في مال ابنه دون مال أبيه ألا ترى أنه لو كان صحيحا معسرا كانت نفقته على الابن دون الأب فكذلك إذا كان معتوها والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
قال رحمه الله تعالى هذا آخر شرح كتاب النكاح بالمأثور من المعاني والآثار الصحاح أملاه المنتظر للفرج والفلاح مصليا على المبعوث بالحق بالسيوف والرماح وعلى آله وأصحابه أهل التقى والصلاح الذين مهدوا قواعد الحق وسلكوا طريق النجاح.