المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 6 ص -3-            كتاب الطلاق
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الطلاق في اللغة عبارة عن إزالة القيد وهو مأخوذ من الإطلاق يقول الرجل أطلقت إبلي وأطلقت أسيري وطلقت امرأتي فالكل من الإطلاق وإنما اختلف اللفظ لاختلاف المعنى ففي المرأة يتكرر الطلاق وإذا تم رفع القيد بتكرر الطلاق لا يأتي تقييده ثانيا في الحال ففي التفعيل معنى المبالغة فلهذا يقال في المرأة طلقت وهو كقولهم حصان وحصان لكن يقال في الفرس حصان أي بين التحصن وفي المرأة حصان أي بينة الحصن وكذا يقال عدل وعديل وكلاهما مشتق من العدالة والمعادلة ولكن يختص أحد اللفظين بالآدمي لمعنى اختص به وموجب الطلاق في الشريعة رفع الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح إذا تم العدد ثلاثا كما قال الله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ويوجب زوال الملك باعتبار سقوط اليد عند انقضاء العدة في المدخول بها وانعدام العدة عند عدم الدخول والاعتياض عند الخلع فالاسم شرعي فيه معنى اللغة وإيقاع الطلاق مباح وإن كان مبغضا في الأصل عند عامة العلماء ومن الناس من يقول لا يباح إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله كل ذواق مطلاق" وقال صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة اختلعت من زوجها من نشوز فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقد روي مثله في الرجل يخلع امرأته ولأن فيه كفران النعمة فإن النكاح نعمة من الله تعالى على عباده قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم: 21] وقال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14] الآية وكفران النعمة حرام وهو رفع النكاح المسنون فلا يحل إلا عند الضرورة وذلك إما كبر السن لما روي أن سودة لما طعنت في السن طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما لريبة لما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال صلوات الله عليه "طلقها" فقال إني أحبها فقال صلى الله عليه وسلم "أمسكها إذن" وأما قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وذلك كله يقتضي كله إباحة الإيقاع وطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها حتى نزل عليه الوحي يأمره أن يراجعها فإنها صوامة قوامة ولم يكن هناك كبر سن ولا ريبة وكذلك الصحابة

 

ج / 6 ص -4-            رضوان الله عليهم فإن عمر رضي الله عنه طلق أم عاصم رضي الله عنها وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق تماضر رضي الله عنها والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه كان له أربع نسوة فأقامهن بين يديه صفا وقال أنتن حسان الأخلاق ناعمات الأرداف طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق وإن الحسن بن علي رضي الله عنهما استكثر من النكاح والطلاق بالكوفة حتى قال علي رضي الله عنه على المنبر إن ابني هذا مطلاق فلا تزوجوه فقالوا إنا نزوجه ثم نزوجه ولأن هذا إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا في الأصل كالإعتاق وفيه معنى كفران النعمة من وجه ومعنى إزالة الرق من وجه فالنكاح رق قال صلى الله عليه وسلم "النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته" وروي "بم يرق كريمته" ولهذا صان الشرع القرابة القريبة عن هذا الرق حيث حرم نكاح الأمهات والبنات والأخوات وإلى هذا المعنى أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وإن أبغض المباحات عند الله تعالى الطلاق فقد نص على أنه مباح لما فيه من إزالة الرق ومبغض لما فيه من معنى كفران النعمة ثم معنى النعمة إنما يتحقق عند موافقة الأخلاق فأما عند عدم موافقة الأخلاق فاستدامة النكاح سبب لامتداد المنازعات فكان الطلاق مشروعا مباحا للتفصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق.
ثم هو نوعان: طلاق سنة وطلاق بدعة والسنة في الطلاق نوعان سنة من حيث العدد وسنة من حيث الوقت فالسنة من حيث العدد ما بدأ ببيانه الكتاب وهو نوعان حسن وأحسن فالأحسن أن يطلقها واحدة في وقت السنة ويدعها حتى تنقضي عدتها هكذا نقل عن إبراهيم رحمه الله تعالى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كانوا يستحسنون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة وأن هذا أفضل عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا عند كل طهر واحدة ولأنه مبغض شرعا لكنه مباح لمقصود التفصي عن عهدة النكاح وذلك يحصل بالواحدة ولا يرتفع بها الحل الذي هو نعمة فالاقتصار عليها أحسن والحسن أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار عند كل طهر واحدة وقال مالك رحمه الله تعالى لا أعرف المباح من الطلاق إلا واحدة والدليل على صحة ما قلنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنه:
"إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" يريد به الإشارة إلى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ولما قابل الله تعالى الطلاق بالعدة والطلاق ذو عدد والعدة ذات عدد تنقسم آحاد أحدهما على الآخر كقول القائل اعط هؤلاء الرجال الثلاثة ثلاثة دراهم ولأن عدم موافقة الأخلاق أمر باطن لا يوقف على حقيقته فأقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه مقام حقيقة الحاجة لعدم موافقة الأخلاق لأنه زمان الرغبة فيها طبعا وشرعا فلا يختار فراقها إلا للحاجة ومتى قام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجودا
وعدما وهذا السبب الظاهر متكرر فتتكرر إباحة الطلاق بتكرره ويجعل ذلك قائم مقام تجدد الحاجة حكما وإليه أشار ابن مسعود رضي الله عنه فقال إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته للسنة طلقها تطليقة

 

ج / 6 ص -5-            وهي طاهرة من غير جماع فإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها بعد ما تحيض وتطهر ثم يدعها حتى تحيض وتطهر ثم يطلقها أخرى فكانت قد بانت منه بثلاث تطليقات وبقي عليها من عدتها حيضة وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله إيقاع الثلاث جملة بدعة.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا أعرف في الجمع بدعة ولا في التفريق سنة بل الكل مباح وربما يقول إيقاع الثلاث جملة سنة حتى إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا للسنة وقع الكل في الحال عنده قال وبالأتفاق لو نوى وقوع الثلاث جملة يقع جملة ولو لم يكن سنة لما عملت نيته لأن النية بخلاف الملفوظ باطل واستدل في ذلك بحديث العجلاني فإنه لما لاعن امرأته قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث جملة وقالت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها طلقني زوجي ثلاثا الحديث إلى أن قالت فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته تماضر رضي الله عنها ثلاثا في مرض موته والحسن بن علي رضي الله عنهما طلق امرأته شهباء رضي الله عنها ثلاثا حين هنته بالخلافة بعد موت علي رضي الله عنه والمعنى فيه أن إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا مطلقا جمع أو فرق كالعتق والدليل عليه أنه لو طلق أربع نسوة له جملة كان مباحا بمنزلة ما لو فرق فكذلك في حق الواحدة بل أولى لأن هذا يزيل الملك عن امرأة واحدة وهناك الإيقاع يزيل الملك عن أربع نسوة ولأن الطلاق تصرف مملوك بالنكاح فيكون مباحا في الأصل والتحريم فيه لمعنى عارض كالظهار الذي انضم إليه وصف كونه منكرا من القول وزورا والإيلاء الذي انضم إليه معنى قطع الإمساك بالمعروف على وجه الإضرار والتعنت فكذلك الطلاق مباح الإيقاع إلا إذا انضم إليه معنى محرم وهو الإضرار بها بتطويل العدة عليها إذا طلقها في حالة الحيض وتلبيس أمر العدة عليها إذا طلقها في طهر قد جامعها فيه لأنها لا تدري أنها حامل فتعتد بوضع الحمل أو حائل فتعتد بالإقراء وذلك منعدم إذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه سواء أوقع الثلاث أو الواحدة وهو معنى قولهم هذا طلاق صادف زمان الاحتساب مع زوال الارتياب وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] معناه دفعتان كقوله أعطيته مرتين وضربته مرتين والألف واللام للجنس فيقتضي أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين ودفعة ثالثة في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أو في قوله عز وجل: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير وفي حديث محمود بن لبيد رحمه الله تعالى أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا فقال: "أتلعبون بكتاب الله تعالى وأنا بين أظهركم" واللعب بكتاب الله ترك العمل به فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب وأن المراد من قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] تفريق الطلقات على عدد أقراء العدة ألا ترى أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة وفائدته التفريق فإنه قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا أي يبدو له فيراجعها وذلك عند التفريق لا عند الجمع.

 

ج / 6 ص -6-            وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن قوما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن أبانا طلق امرأته ألفا فقال صلى الله عليه وسلم: "بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى وبقي تسعمائة وسبعة وتسعين وزرا في عنقه إلى يوم القيامة" وأن ابن عمر رضي الله تعالى عنه لما طلق امرأته في حالة الحيض أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها فقال أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بانت منك وهي معصية" وبهذه الآثار تبين أنه إنما ترك الإنكار على العجلاني في ذلك الوقت شفقة عليه لعلمه أنه لشدة الغضب ربما لا يقبل قوله فيكفر فأخر الإنكار إلى وقت آخر وأنكر عليه في قوله: "أذهب فلا سبيل لك عليها" أو كراهة إيقاع الثلاث لما فيه من سد باب التلافي من غير حاجة وذلك غير موجود في حق العجلاني لأن باب التلافي بين المتلاعنين منسد ما داما مصرين على اللعان والعجلاني كان مصرا على اللعان ولنا اجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهم كراهة إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه مهلا مهلا بارك الله عليكم فيكم كتاب الله وسنة رسوله فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب الكعبة وقال الكرخي لا أعرف بين أهل العلم خلافا أن إيقاع الثلاث جملة مكروه إلا قول بن سيرين وإن قوله ليس بحجة ويتبين بهذا أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه إنما طلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار وأن الحسن رضي الله تعالى عنه إنما قال لشهباء أنت طالق ثلاثا للسنة وعندنا لا بأس به والمعنى فيه أنه تحريم البضع بمجرد قوله من غير حاجة فيكون مكروها كالظهار بل أولى فإن الظهار تحريم البضع بمجرد قوله من غير إزالة الملك وفي إيقاع الثلاث تحريم البضع مع إزالة الملك والفقه فيه ما بينا أن إباحة الإيقاع للحاجة إلى التفصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وذلك يحصل بالواحدة ولا يحصل بها تحريم البضع فلا تتحقق الحاجة إلى ما يكون محرما للبضع فكان ينبغي أن لا يباح أصلا ولكن أبيح عند اختلاف الأطهار لتجدد الحاجة حكما على ما قررنا ولأن في إيقاع الثلاث قطع باب التلافي وتفويت التدارك عند الندم وفيه معنى معارضة الشرع فالأسقاطات في الأصل لا تتعدد كالعتاق وغيره وإنما جعل الشرع الطلاق متعددا لمعنى التدارك عند الندم فلا يحل له تفويت هذا المعنى في نفسه بعد ما نظر الشرع له كما لا يباح له الإيقاع في حالة الحيض لأنه حالة نفرة الطبع عنها وكونه ممنوعا شرعا فالظاهر أنه يندم إذا جاء زمان الطهر فيكره إيقاع الطلاق لمعنى خوف الندم فهذا مثله والدليل عليه أنه لو طلقها واحدة في الطهر ثم أخرى في الحيض يكون مكروها وليس في إيقاع الثانية في الحيض معنى تطويل العدة ولا معنى اشتباه أمر العدة عليها فدل أن معنى كراهة الإيقاع لمعنى خوف الندم إذا جاء زمان الطهر وهذا في إيقاع الثلاث أظهر فكان مكروها ويستوي في هذا المدخول بها وغير المدخول بها

 

ج / 6 ص -7-            لأن معنى تحريم البضع بإيقاع الثلاث يحصل في الحالتين بصفة واحدة وكذلك يستوي في الكراهة إيقاع الثلاث جملة وإيقاع الثنتين لأن الكراهة لمعنى عدم الحاجة حقيقة وحكما وهو موجود في الثانية كوجوده في الثالثة ولأن إيقاع الثنتين وإن كان لا يحصل به تحريم البضع فإنه يقرب منه وهذا القرب معتبر في الحكم ألا ترى أن المرأة إذا قالت لزوجها طلقني ثلاثا بألف وطلقها واحدة يجب ثلث الألف ولو طلقها اثنتين يجب ثلثا الألف وكما أن سد باب التلافي حرام من غير حاجة فكذلك ما يقرب منه يكون حراما.
وأما السنة من حيث الوقت معتبر في حق المدخول بها وذلك أن يطلقها إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها فيه قال في الكتاب بلغنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد منه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه فإنه لما طلق امرأته في حالة الحيض قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما هكذا أمرك الله يا ابن عمر إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا" الحديث وفي رواية قال لعمر رضي الله تعالى عنه: "إن ابنك أخطأ السنة مره فليراجعها فإذا حاضت وطهرت فليطلقها إن شاء طاهرة من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" وجاء عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم في تفسير قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي يطلقها طاهرة من غير جماع والمعنى فيه أن إباحة الإيقاع للتفصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وذلك لا يظهر بالإيقاع حالة الحيض لأنها حال نفرة الطبع عنها وكونه ممنوعا عنها شرعا فربما يحمله ذلك على الطلاق وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لأنه قد حصل مقصوده منها فتقل رغبته فيها فلا يكون الإيقاع دليل عدم موافقة الأخلاق فأما في الطهر الذي لم يجامعها فيه تعظم رغبته فيها فلا يقدم على الطلاق إلا لعدم موافقة الأخلاق فلهذا اختصت إباحة الإيقاع به ولهذا المعنى قال زفر رحمه الله تعالى إنه يكره إيقاع الطلاق في حالة الحيض من غير المدخول بها لأن معنى نفرة الطبع والمنع شرعا لا يختلف بين كونها مدخولا بها أو غير مدخول بها ومعنى آخر فيه أن في الإيقاع في حالة الحيض اضرارا بها من حيث تطويل العدة عليها لأن هذه الحيضة لا تكون محسوبة من العدة وتطويل العدة من الإضرار بها قال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وفي الإيقاع في طهر قد جامعها فيه إضرار بها من حيث اشتباه العدة عليها ولهذا قلنا لا بأس بإيقاع الطلاق في الحيض على غير المدخول بها لأنه ليس فيه معنى تطويل العدة عليها ولأن رغبته فيها كانت بالنكاح فلا يقل ذلك بحيضها ما لم يحصل مقصوده منها فكان الإيقاع دليل عدم موافقة الأخلاق بخلاف المدخول بها فإن مقصوده بالنكاح قد حصل منها وإنما رغبته فيها في الطهر بعد ذلك لتمكنه فيه من غشيانها وينعدم ذلك بالحيض توضيحه أن إباحة الإيقاع بشرط أن يأمن الندم كما قال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] وفي الإيقاع في حالة الحيض على المدخول بها لا يأمن الندم إذا جاء زمان الطهر والرغبة فيها وكذلك في الإيقاع في طهر قد جامعها فيه لا يأمن الندم لأنه ربما يظهر بها حبل

 

ج / 6 ص -8-            فتحمله شفقته على الولد على تحمل سوء خلقها وإلى نحوه أشار ابن مسعود رضي الله عنه فقال لعل شفقة الولد تندمه فلهذا كره الإيقاع في هذين الوقتين وإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها واحدة إذا طهرت من الحيض واختار بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى تأخير الإيقاع إلى آخر الطهر ليكون أبعد عن تطويل العدة وظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه يطلقها حين تطهر من الحيض لأنه لو أخر الإيقاع ربما يجامعها ومن قصده أنه يطلقها فيبتلى بالإيقاع عقيب الجماع وذلك مكروه فلهذا طلقها حين تطهر من حيضها فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى واحتسب بهذه الحيضة من عدتها فإذا حاضت الثالثة وطهرت طلقها أخرى وقد بقي عليها من عدتها حيضة وللشافعي رحمه الله تعالى قول أن ابتداء العدة من آخر التطليقات إذا تكرر الإيقاع لأن الطلاق بعد الدخول موجب للعدة كالحدث بعد الطهارة موجب للوضوء فكما أنه إذا أحدث بعد غسل بعض الأعضاء يلزمه استئناف الوضوء فكذلك إذا تكرر وقوع الطلاق عليها يلزمها استئناف العدة ولكنا نقول السبب الموجب للعدة الدخول وإنما تصير شارعة في العدة حين يصير الزوج غير مريد لها وقد حصل ذلك بالتطليقة الأولى ثم الثانية والثالثة تقرر ذلك المعنى ولا تبطله بخلاف ما لو راجعها ثم طلقها لأن بالرجعة ينعدم ذلك المعنى فإنه يصير مريدا لها توضيحه أن المقصود تبين فراغ الرحم وذلك لا يتغير بتكرر الطلاق وعدم التكرر فلهذا كانت عدتها من التطليقة الأولى وعلى هذا اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
قال: ولا تحل له المرأة بعد ما وقع عليها ثلاث تطليقات حتى تنكح زوجا غيره يدخل بها والطلاق محصور بعدد الثلاث ولا خلاف بين العلماء أن بيان التطليقتين في قوله تعالى:
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وإنما اختلفوا في الثالثة فقيل هي في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وهكذا روي أن أبا رزين العقيلي رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عرفنا التطليقتين في القرآن فأين الثالثة فقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وأكثرهم على أن بيان الثالثة في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً} [البقرة: 230] لأنه عند ذكرها ذكر ما هو حكم الثالثة وهو حرمة المحل إلى غاية ومعناه فإن طلقها الثالثة ولا خلاف بين العلماء أن النكاح الصحيح شرط الحل للزوج الأول بعد وقوع الثلاث عليها والمذهب عند جمهور العلماء أن الدخول بها شرط أيضا وقال سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه ليس بشرط لأن في القرآن شرط العقد فقط ولا زيادة بالرأي ولكن هذا قول غير معتبر ولو قضى به قاض لا ينفذ قضاؤه فإن شرط الدخول ثابت بالآثار المشهورة فمن ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا فتزوجت بزوج آخر لم تحل للأول حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسيلتها" ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي رضي الله عنه طلق امرأته فأبت طلاقها فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ما وجدت معه إلا مثل هذه وأشارت إلى هدبة ثوبها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضبط نفسه فقال: "أتريدين

 

ج / 6 ص -9-            أن ترجعي إلى رفاعة" فقالت نعم فقال "لا حتى يذوق من عسيلتك وتذوقي من عسيلته" وعن عائشة رضي الله عنها أن عمرو بن حزم رضي الله عنه طلق امرأته العميصاء رضي الله عنها ثلاثا فتزوجت بآخر فلما خلا بها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو ضعف حاله في باب النساء فقال صلى الله عليه وسلم: "هل أصابك" فقالت: لا. فقال صلوات الله عليه "لا تحلين لعمرو حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك" وقبل في القرآن ذكر الدخول إشارة فإنه أضاف فعل النكاح إلى الزوج وإليها فيقضي ذلك فعل النكاح بعد الزوجية وذلك الوطء ولأن المقصود منع الأزواج من الاستكثار من الطلاق وذلك لا يحصل بمجرد العقد إنما يحصل بالدخول ففيه مغايظة الزوج الأول ودخول الثاني بها بالنكاح مباح مبغض عند الزوج الأول كما أن الاستكثار من الطلاق مبغض شرعا ليكون الجزاء بحسب العمل.
قال: فإن تزوج بها الثاني على قصد أن يحللها للزوج الأول من غير أن يشترط ذلك في العقد صح النكاح ويثبت الحل للأول إذا دخل بها الثاني وفارقها فإن شرط أن يحللها للأول فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الجواب كذلك ويكره هذا الشرط وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى النكاح جائز ولكن لا تحل به للأول وعند محمد رحمه الله تعالى النكاح فاسد لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله المحلل والمحلل له" وعقد النكاح سنة ونعمة فما يستحق به المرء اللعن لا يكون نكاحا صحيحا ولأن هذا في معنى شرط التوقيت وشرط التوقيت مبطل للنكاح ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول هذا ليس بتوقيت في النكاح ولكنه استعجال لما هو مؤخر شرعا فيعاقب بالحرمان كمن قتل مورثه يحرم من الميراث وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا الشرط وراء ما يتم به العقد فأكثر ما فيه أنه شرط فاسد والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة ثم النهي عن هذا الشرط لمعنى في غير النكاح فإن هذا النكاح شرعا موجب حلها للأول فعرفنا أن النهي لمعنى في غير المنهي عنه وذلك لا يؤثر في النكاح فلهذا ثبت الحل للأول إذا دخل بها الثاني بحكم هذا النكاح الصحيح.
قال: وإذا أراد أن يطلق امرأته وهي حامل طلقها واحدة متى شاء حتى أنه لا بأس بأن يطلقها عقيب الجماع لأن كراهة الإيقاع عقيب الجماع لاشتباه أمر العدة عليها وخوف الندم إذا ظهر بها حبل وذلك غير موجود هنا ولأن الحبل يزيد في رغبته فيها فيكون إيقاع الطلاق بعد ظهوره دليل عدم موافقة الأخلاق.
قال: فإن كان جامعها ثم أراد أن يطلقها ثلاثا فله ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويفصل بين التطليقتين بشهر وعند محمد وزفر رحمها الله تعالى لا تطلق الحامل للسنة أكثر من واحدة وفي الكتاب قال بلغنا ذلك عن ابن مسعود وجابر رضي الله تعالى عنهما والحسن البصري وقول الصحابي إذا كان فقيها مقدم على القياس والمعنى فيه أن الأصل في طلاق السنة أن يفصل بين التطليقتين بفصل محسوب من فصول العدة كما في حق ذوات الإقراء والآيسة والشهر في حق الحامل ليس بفصل محسوب من فصول العدة، فلا

 

ج / 6 ص -10-         يفصل به بين طلاقي السنة وهذا لأن الطلاق مقابل بفصول العدة ألا ترى أن عدة الأمة لما تقدرت بحيضتين ملك عليها تطليقتين وأن بسبب عدم الدخول لما انعدمت فصول العدة انعدم ملك التفريق إلا أن النكاح يعقد للدخول فلا يؤثر في ملك أصل الطلاق لهذا فعرفنا أن التفريق باعتبار فصول العدة ومدة الحبل طالت أو قصرت بمنزلة فصل واحد ألا ترى أن الاستبراء يتقدر بها وفي الفصل الواحد لا يملك تفريق الطلقات على الوجه المسنون ولأن هذا شهر في حق ذوات الإقراء فلا يصلح للفصل بين طلاقي السنة كما في الممتدة طهرها بخلاف الآيسة والصغيرة وحجتنا في ذلك أن هذا نوع عدة فيكون محلا لتفريق الطلقات المملوكة على وجه السنة كالإقراء والأشهر وهذا لأن الله تعالى جعل محل إيقاع الطلقات العدة بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وعدة الحامل نوع من أنواع العدة بل هي الأصل فيما هو المقصود لأن المقصود بالعدة تبين فراغ الرحم وذلك يحصل بوضع الحمل على أكمل الوجوه فيستحيل أن يقال لا يملك تفريق الطلاق على ما هو الأصل في العدة وفي حق ذوات الإقراء فصول العدة إنما تقع اتفاقا لا قصدا فأما المعنى المعتبر تجدد زمان الرغبة وذلك لا يحصل إلا بمضي حيضة وفي حق الآيسة والصغيرة لا يوجد هذا المعنى لأن الأوقات في حقها سواء ولا بد من إباحة التفريق في عدتها فأقمنا الشهر في حقها مقام الحيضة في حق ذوات الإقراء باعتبار أنه فصل من فصول العدة ثم ينعدم هذا المعنى في حق الحامل فلا بد من إباحة التفريق في عدتها فأقمنا الشهر في حق الآيسة باعتبار أنه شهر في عدة لا حيض فيها والدليل على أنه لا معتبر بفصول العدة أنه لو قال لامرأته الصغيرة أنت طالق ثلاثا للسنة يقع عليها للحال واحدة فإذا مضى شهر وقعت أخرى وإذا مضى شهر وقعت أخرى ثم إذا حاضت يلزمها استئناف العدة والتطليقات الثلاث وقعت على وجه السنة فعرفنا أنه لا معتبر بفصول العدة ثم الحامل لا تحيض والشهر في حق من لا تحيض فصل من فصول العدة في حق انقضاء العدة وتفريق الطلاق ولكن هنا في حق انقضاء العدة وجدنا ما هو أقوى من الشهر وهو وضع الحمل وفي حق التفريق بالطلاق لم نجد ما هو أقوى من الشهر فبقي الشهر فصلا من فصول العدة في حق تفريق الطلاق وإن لم يبق في حق إنقضاء العدة كما في الصغيرة إذا حاضت
يقرره أن الحبل يؤثر في إباحة إيقاع كان محرما قبله وهو الطلاق عقيب الجماع فيستحيل أن يؤثر في المنع مما كان مباحا قبله ولا يدخل على ما قلنا إذا بقي من مدة حملها يوم لأن التعليل لمدة الحمل ولا يتصور أن يكون ذلك يوما إلا أن التفريط جاء من قبله حين أخر الإيقاع حتى لم يبق من المدة فلا يخرج به من أن يكون أصل المدة قابلا لتفريق الثلاث كالكافر إذا أسلم وقد بقي من الوقت مقدار ما لا يمكنه أن يصلي فيه تلزمه الصلاة لأن التفريط جاء من قبله حين أخر الإسلام ولا معنى لما قال أن مدة الحبل كحيضة واحدة بل هي بمنزلة ثلاث حيض حتى تنقضي بها العدة ولكن الاستبراء إنما لا يقدر ببعض مدة الحبل لأن المقصود تبين فراغ الرحم وذلك لا يحصل قبل الوضع فزيد في مدة الاستبراء إذا كانت حاملا لهذا المعنى لا أن تجعل مدة الحبل كحيضة

 

ج / 6 ص -11-         واحدة ولا نسلم أن الحامل من ذوات الإقراء على الاطلاق فإنه لزمها صفة منافية للحيض حتى أنها وإن رأت الدم لا يكون حيضا بخلاف الممتدة طهرها.
قال: وإذا أراد أن يطلقها وهي لا تحيض من كبر أو صغر طلقها واحدة متى شاء عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى ليس له أن يطلقها عقيب الجماع حتى يمضي الشهر لأنه يفصل بين الطلاق والجماع بما يفصل به بين الطلاقين في عدة هي ذات فصول كما في حق ذوات الإقراء ثم هنا يفصل بين طلاقيها بشهر فكذلك يفصل بين طلاقها وجماعها بشهر ولكنا نقول أنها بمنزلة الحامل في أنها لا حيض في عدتها فيباح إيقاع الطلاق عليها عقيب الجماع كما يباح الإيقاع على الحامل وكأن المعنى فيه أن في حق ذوات الإقراء إنما كره إيقاع الطلاق عقيب الجماع لتوهم الحبل وهذا لا يوجد هنا فكان إيقاع الطلاق عليها عقيب الجماع مباحا فإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها بعد شهر آخر ثم بعد شهر آخر وعدتها ثلاثة أشهر من التطليقة الأولى وذلك يتلى في القرآن قال الله تعالى:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] والمراد الصغيرة ولا خلاف أن الإيقاع إذا كان في أول الشهر تعتبر الشهور بالأهلة ناقصة أو كاملة فإن كان الإيقاع في وسط الشهر ففي حق تفريق الطلاق يعتبر كل شهر بالإيام وذلك ثلاثون يوما بالاتفاق وكذلك في حق انقضاء العدة عند أبي حنيفة تعتبر ثلاثة أشهر بالأيام وعندهما يعتبر شهر واحد بالأيام وشهران بالأهلة لأن الأهلة هي الأصل قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] والأيام بدل عنها ففي الشهر الواحد تعذر اعتبار ما هو الأصل فاعتبر البدل وفي الشهرين لم يتعذر اعتبار ما هو الأصل ولكن أبو حنيفة يقول ما لم يتم الشهر الأول لا يدخل الشهر الثاني فدخول الشهر الثاني وسط الشهر الثاني أيضا وكذلك في الشهر الثالث فيتعذر اعتبار الكل بالأهلة فوجب اعتبارها بالأيام ولا يحكم بانقضاء عدتها إلا بتمام تسعين يوما من حين طلقها وقد ظن بعض مشايخنا أن الشهر في حق التي لا تحيض بمنزلة الحيض والطهر في حق التي تحيض وليس كذلك بل الشهر في حقها بمنزلة الحيض في حق التي تحيض حتى يتقدر به الاستبراء ويفصل به بين طلاقي السنة وهذا لأن المعتبر في حق ذوات القرء الحيض ولكن لا يتصور الحيض إلا بتخلل الطهر وفي الشهور ينعدم هذا المعنى فكان الشهر قائما مقام ما هو المعتبر وإذا طلقها واحدة أو ثنتين فهو يملك الرجعة ما لم تنقض العدة وهذا حكم ثبت بخلاف القياس بالنص فإن إزالة الملك بالطلاق إسقاط والإسقاط يتم بنفسه كالعتق ولكن الشرع أثبت للزوج حق الرجعة في العدة بعد التطليقة والتطليقتين للتدارك عند الندم قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] معناه قرب انقضاء عدتهن فأمسكوهن بالمراجعة وقال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] والمراد بالإمساك المراجعة بعد التطليقتين ما دامت في العدة ثبت ذلك بقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وعدة التي تحيض ثلاث حيض كما قال الله

 

ج / 6 ص -12-         تعالى في كتابه: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وهو حكم مقطوع به ثابت بالنص ثم عطف عليه ما هو مجتهد فيه فقال القرء هي الحيض وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى هي الإطهار حتى أن على مذهبه كما طعنت في الحيضة الثالثة يحكم بإنقضاء عدتها وعندنا ما لم تطهر من الحيضة الثالثة لا يحكم بإنقضاء العدة وأصل الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فقد روى الشعبي رضي الله عنه عن بضعة عشر من الصحابة الحبر فالحبر منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وعبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنهم قال الزوج أحق برجعتها ما لم تحل لها الصلاة وعن ابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم قالوا الإقراء الإطهار وعن ابن عباس رضي الله عنه كما طعنت في الحيضة الثالثة تبين من زوجها ولا يحل لها أن تتزوج حتى تطهر وكذلك أهل اللغة يطلقون اسم القرء على الطهر والحيض جميعا قال القائل:

يا رب ذي ضغن وضب فارض                           له قروء كقروء الحائض

وقال الأعشى:

مورثة مال وفي الحي رفعة                   لما ضاع فيها من قروء نسائكا

والمراد الأطهار لأن زمان الحيض يضيع وإن كان حاضرا وأصله في اللغة الوقت قال القائل:

إذا هبت لقارئها الرياح

فمنهم من يقول وقت الطهر به أشبه لأنه عبارة عن الاجتماع يقال ما قرأت النافة سلا قط أي ما جمعت في رحمها ولدا قط واجتماع الدم في الرحم في حالة الطهر ومنهم من يقول وقت الحيض به أشبه لأن هذا الوصف عارض للنساء فوقت الطهر أصل ووقت الحيض عارض مع أن اجتماع الدم في حالة الطهر لا يعلم حقيقة ولو ثبت ذلك فإنما يسمى ذلك الوقت قرءا باعتبار الدم المجتمع ثم أن عند اختلاف أهل اللغة يجب المصير إلى لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة رضوان الله عليهم لما اختلفوا في التابوت والتابوه رجحوا لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا اكتبوا بالتاء والقرء في لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيض قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "إذا أتاك قرؤك فدعي الصلاة" وقال صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تدع الصلاة أيام اقرائها" والقرء والإقراء كلاهما جمع كما يقال فلس وفلوس ونزل وإنزال ثم الشافعي رحمه الله تعالى رجح الإطهار باعتبار حرف الهاء المذكور في قوله ثلاثة قروء فقال جمع المذكر يؤنث والطهر هو المذكر ولكنا نقول الإعراب يتبع اللفظ دون المعنى يقال ثلاثة أفراس وثلاث دواب وقال أيضا القرء عبارة عن الانتقال يقال قرأ النجم إذا انتقل وكما طعنت في الحيضة الثالثة فقد وجد ثلاث انتقالات من الطهر ولكن هذا لا معنى له فالانتقال من الحيض إلى الطهر أيضا قرء فكان ينبغي على هذا أن تنقضي العدة إذا طعنت في الحيضة الثالثة واحد لم يقل بهذا ولكن الصحيح ما قاله علماؤنا رحمهم الله تعالى أن الله تعالى لما ذكر جمعا مقرونا بالعدد اقتضى الكوامل منه والطلاق هو المباح في حالة الطهر فلو جعلنا القرء الإطهار لكان انقضاء العدة

 

ج / 6 ص -13-         بقرأين وبعض الثالث وهذا يستقيم في جمع غير مقرون بالعدد كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فأما في جمع مقرون بالعدد فلا بد من الكوامل وإنما يحصل ذلك إذا حمل القرء على الحيض فيكون انقضاء العدة بثلاث حيض كوامل واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] معناه في عدتهن والطلاق المباح في حالة الطهر فعرفنا أن العدة بالطهر وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لابن عمر رضي الله تعالى عنه: "إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" واستدل علماؤنا بقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه من الحيض والحبل فهو بيان المراد بالقروء قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] الآية وإنما نقل إلى الأشهر عند عدم الحيض والنقل إلى البدل يكون عند عدم الأصل فهو تنصيص على أن المراد بالقرء الحيض وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي قبل عدتهن كما يقال زينت الدار لقدوم الحاج وتوضأت للصلاة أي قبلها وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لقبل عدتهن مع أن المراد عدة الإيقاع ونحن نقول إن عدة الإيقاع بالإطهار فأما عدة الاعتداد بالحيض بيانه في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان ومن حيث المعنى هو يقول الطلاق السني يستعقب جزءا محسوبا من العدة كما في الأيسة والصغيرة وإنما يكون ذلك إذا كان الاعتداد بالإطهار ونحن نقول المقصود من هذه العدة تبين فراغ الرحم ولهذا لا تجب إلا عند توهم اشتغال الرحم ولهذا يعتبر بوضع الحمل إذا كانت حاملا والحيض هي التي تدل على تبين فراغ الرحم دون الطهر فكان الاعتبار بالحيض أولى ثم الأصل في العبادات التي تشتمل على أركان ينفصل بعضها عن بعض أن الأداء لا يتصل بالشروع فيها كما في الحج وفيما يكون متصل الأركان يتصل الأداء بالشروع كالصلاة والعدة بالأشهر متصلة الأركان فيتصل الأداء بالشروع فيها والعدة بالإقراء منفصلة الأركان بعضها عن بعض فلا يجب أن يتصل الأداء بالشروع فيها والدليل على ما قلنا الاستبراء فإنه معتبر بالحيض بالنص والمقصود تبين فراغ الرحم فكذلك العدة.
قال: وعدة الحامل أن تضع حملها ولو وضعت حملها بعد الطلاق بيوم لقوله تعالى:
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولأن وضع الحمل أدل على ما هو المقصود وهو معرفة براءة الرحم من الاقراء وعدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر بالنص وتكلموا في معنى قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]قال مالك رضي الله عنه المراد ارتيابها في حال نفسها أنها هل تحيض بعد هذا أولا حتى قال إذا ارتابت تربصت سنة ثم اعتدت بثلاثة أشهر ولكنا نقول لما نزل قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قالت الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم فإن كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر وارتابوا في ذلك فنزل قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] وفي قول الصحابة

 

ج / 6 ص -14-         رضوان الله عليهم فإن كانت ممن لا تحيض دليل على أنهم فهموا من القرء الحيض.
قال: والكتابية تحت المسلم في الطلاق والعدة بمنزلة المسلمة لأن المخاطب بمراعاة وقت السنة الزوج وهو مسلم وفي العدة الواجب عليها حق الزوج وهو مسلم.
قال: والأمة بمنزلة الحرة في وقت السنة لأن المخاطب بمراعاة وقت السنة الزوج وذلك لا يختلف بكونها حرة أو أمة وعدتها حيضتان إذا كانت من ذوات الإقراء للحديث الذي روينا ولقول عمر رضي الله تعالى عنه عدة الأمة حيضتان ولو استطعت لجعلتها حيضة ونصفا بين أن التنصيف بسبب الرق يثبت في العدة ولكن بقدر الممكن والحيضة الواحدة لا تحتمل التنصيف وإن كانت آيسة أو صغيرة فعدتها شهر ونصف لقول عمر رضي الله تعالى عنه ولأن الشهر محتمل للتنصيف وعلى قول مالك عدتها بالشهور ثلاثة أشهر لظاهر الآية ولكنا نقول الرق ينصف ذوات الأعداد بمنزلة الجلدات في الحدود وعدتها إذا كانت حاملا بوضع الحمل بالاتفاق لأن تبين فراغ الرحم لا يحصل قبل ذلك.
قال: وإذا كان الرجل غائبا عن امرأته فأراد أن يطلقها للسنة كتب إليها إذا جاءك كتابي هذا ثم حضت فطهرت فأنت طالق لجواز أن يكون قد امتد طهرها الذي جامعها فيه فلو كتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق يقع الطلاق عليها في طهر جامعها فيه وهو خلاف السنة فلهذا قيد بهذه الصفة وفي الرقيات زاد محمد رحمه الله تعالى فقال وعلمت ما فيه لجواز أن لا تقرأ كتاب زوجها فيقع الطلاق عليها وهي لا تشعر بذلك ولكن في ظاهر الرواية لم يذكر هذه الزيادة لأن المغيبة لا تكون أحرص على شيء منها على قراءة كتاب زوجها والظاهر أنها لا تؤخر ذلك.
قال: فإن أراد أن يطلقها ثلاثا كتب ثم إذا حضت وطهرت فأنت طالق وإن شاء أوجز فكتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق ثلاثا للسنة فيقع بهذه الصفة لأن الكتاب ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا وإن كانت ممن لا تحيض كتب إذا جاءك كتابي هذا ثم أهل شهر فأنت طالق وإن شاء كتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق ثلاثا للسنة لما بينا أن له أن يطلقها للسنة إذا كانت ممن لا تحيض في أي وقت شاء.
قال: وإن كان لم يدخل بامرأته ولم يخل بها فله أن يطلقها متى شاء خلافا لزفر وقد بينا ذلك وليس عليها عدة لقوله تعالى:
{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] قال مشايخنا رحمهم الله تعالى وفي كتاب الله تعالى المتلو لا بهذه الصفة بل المتلو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية ولكن هذا غلط وقع من الكاتب وترك كذلك وإن كان قد خلا بها فطلاقها وعدتها مثل التي دخل بها لأن الخلوة الصحيحة في حكم العدة بمنزلة الدخول ومراعاة وقت السنة في الطلاق لأجل العدة فتقام الخلوة فيه أيضا مقام الدخول.
قال: وإذا طلق امرأته وهي حائض فقد أخطأ السنة والطلاق واقع عليها وعلى قول الروافض لا يقع وفي الكتاب ذكر بابا ردا عليهم فيؤخر الكلام فيه إلى ذلك الموضع والقدر

 

ج / 6 ص -15-         الذي نذكره هنا حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "مر ابنك فليراجعها" والمراجعة تكون بعد وقوع الطلاق ولكنهم يدعون أن المروي فليرجعها وقد كان أخرجها من بيته فإنما أمره أن يردها إلى بيته وهذا باطل من الكلام فقد قيل لابن عمر رضي الله عنه هل احتسبت بتلك الطلقة فقال وما لي لا أحتسب بها وإن استحمقت أو استجهلت أكان لا يقع طلاقي ولما ذكر لعمر رضي الله عنه في الشورى ابنه فقال سبحان الله أقلد أمور المسلمين ممن لم يحسن طلاق امرأته فطلقها في حالة الحيض فهو إشارة إلى أن ذلك الطلاق كان واقعا وأنه ينبغي للمرء أن يصون نفسه عن ذلك.
قال: ثم ينبغي له أن يراجعها كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه لو راجعها لم تبن منه بطلاق محظور ويندفع عنها ضرر تطويل العدة فإذا لم يراجعها بانت منه بطلاق محظور ويتحقق معنى تطويل العدة فلهذا ينبغي له أن يراجعها.
قال: فإذا طهرت من حيضة أخرى طلقها إن شاء وهذا إشارة إلى أنها إذا طهرت من هذه الحيضة لا يباح إيقاع الطلاق عليها وذكر الطحاوي رحمه الله أنه إذا طلقها في الحيض ثم طهرت من تلك الحيضة يباح إيقاع الطلاق عليها وقيل ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن وقت السنة الطهر الذي لا جماع فيه وقد وجد وما ذكر في الكتاب قولهما لأن الفصل بين الطلاقين بحيضة كاملة وذلك لا يكون إذا طهرت من هذه الحيضة وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه روي بروايتين من طريق شعبة مر ابنك فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض وتطهر ثم ليطلقها إن شاء فهو دليل قولهما ومن طريق آخر مر ابنك فليراجعها فإذا حاضت وطهرت فليطلقها إن شاء وهذا يحتمل بقية هذه الحيضة كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك إن طلقها في حالة الحيض.
قال: ولو طلقها في طهر لم يجامعها فيه واحدة ثم راجعها بالقول فأراد أن يطلقها أخرى في ذلك الطهر للسنة فله ذلك عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى وليس له ذلك عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعن محمد رضي الله تعالى عنه فيه روايتان فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول شرط الفصل بين طلاقي السنة الحيضة الكاملة كما قال صلى الله عليه وسلم:
"فليطلقها في كل قرء تطليقة" ولأن إيقاع تطليقة في طهر في المنع من تطليقة أخرى في ذلك الطهر كالجماع فكما لا يجوز له أن يطلقها بعد الجماع في طهر واحد فكذلك بعد الطلاق وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الفصل بالحيضة إنما يعتبر إذا كانت الثانية تقع في العدة وبالمراجعة قد ارتفعت العدة فكانت الثانية بمنزلة ابتداء الإيقاع وقد حصل في طهر لا جماع فيه ثم الرجعة تسقط جميع العدة ولو تخلل بين التطليقتين ما يسقط بعض العدة كانت الثانية واقعة على وجه السنة فإذا تخلل ما يسقط جميع العدة أولى وكذلك لو راجعها بالتقبيل أو المس عن شهوة حتى روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه إذا كان أخذ بيد امرأته عن شهوة فقال لها أنت طالق ثلاثا للسنة يقع عليها ثلاث تطليقات في الحال يتبع بعضها بعضا لأن كلما وقع عليها

 

ج / 6 ص -16-         تطليقة صار مراجعا لها فتقع أخرى فأما إذا راجعها بالجماع فإن لم تحبل فليس له أن يطلقها أخرى في هذا الطهر بالإجماع لأنه طهر قد جامعها فيه وإن راجعها بالجماع فحبلت فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ليس له أن يطلقها أخرى أيضا لأنه قد طلقها في هذا الطهر واحدة والطهر الواحد لا يكون محلا لأكثر من تطليقة واحدة على وجه السنة وعند أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهما الله تعالى له أن يطلقها أخرى لأن العدة الأولى قد سقطت والطلاق عقيب الجماع في الطهر إنما لا يحل لاشتباه أمر العدة عليها وذلك لا يوجد إذا حبلت وظهر الحبل بها.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته واحدة بائنة فقد أخطأ السنة والطلاق واقع عليها وفي زيادات الزيادات قال التطليقة البائنة تقع بصفة السنة كالرجعية لأن بن ركانة رضي الله تعالى عنه طلق امرأته البتة ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الطلاق بهذا اللفظ فلو كان خلاف السنة لأنكر عليه كما أنكر على ابن عمر رضي الله تعالى عنه والواقع بهذا اللفظ يكون بائنا والدليل عليه الطلاق قبل الدخول والخلع فإنه يقع بائنا ولا يكون مكروها فأما وجه ظاهر الرواية أن إباحة الإيقاع للحاجة إلى التفصي عن عهدة النكاح ولا حاجة به إلى زيادة صفة البينونة فكانت زيادة هذه الصفة كزيادة العدد ثم لا مقصود له في ذلك سوى رد نظر الشرع له بقطع خيار الرجعة وسد باب التلافي على نفسه عند الندم وهذا بخلاف الخلع فإنه يحتاج إلى ذلك لاسترداد ما ساق لها من الصداق إذا كان النشوز منها مع أن الخلع لا يكون إلا عند تحقق الحاجة ولهذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يكره في حالة الحيض والطلاق قبل الدخول لا يكون إلا بائنا والتي لم يدخل بها ليست نظير التي دخل بها بدليل الإيقاع في حالة الحيض وتأويل حديث بن ركانة رضي الله عنه أنه طلقها قبل الدخول بها وقبل الدخول بأي لفظ أوقع يكون بائنا ويحتمل أن يكون أخر الإنكار إلى وقت آخر لعلمه أنه لفرط الغيظ لا يقبل في ذلك الوقت والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الرجعة
قال: وإذا طلقها واحدة في الطهر أو في الحيض أو بعد الجماع فهو يملك الرجعة ما دامت في العدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق سودة رضي الله تعالى عنها بقوله اعتدي ثم راجعها وطلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها بالوطء ويستوي إن طالت مدة العدة أو قصرت لأن النكاح بينهما باق ما بقيت العدة وقد روي أن علقمة رضي الله عنه طلق امرأته فارتفع حيضها سبعة عشر شهرا ثم ماتت فورثه ابن مسعود رضي الله عنه منها وقال إن الله تعالى حبس ميراثها عليك فإذا انقضت العدة قبل الرجعة فقد بطل حق الرجعة وبانت المرأة منه وهو خاطب من الخطاب يتزوجها برضاها إن اتفقا على ذلك وإذا أراد أن يراجعها قبل انقضاء العدة فأحسن ذلك أن لا يغشاها حتى يشهد شاهدين على رجعتها والإشهاد على الرجعة مستحب عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى شرط لا تصح الرجعة إلا به وهو قول مالك رحمه الله تعالى وهذا عجيب من مذهبه فإنه لا يجعل الإشهاد على النكاح شرطا ويجعل

 

ج / 6 ص -17-         الإشهاد على الرجعة شرطا لظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والأمر على الوجوب ومذهبنا مروي عن ابن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهما ولأن الرجعة استدامة للنكاح والإشهاد ليس بشرط في استدامة النكاح وبيانه أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكا وهو منع للمزيل من أن يعمل عمله بعد انقضاء المدة فلا يكون الإشهاد عليه شرطا كالفيء في الإيلاء والمراد بالآية الاستحباب ألا ترى أنه جمع بين الرجعة والفرقة وأمر بالإشهاد عليهما ثم الإشهاد على الفرقة مستحب لا واجب فكذلك على الرجعة وهو نظير قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ثم البيع صحيح من غير إشهاد وليس في الرجعة عوض لا قليل ولا كثير لأنه استدامة للملك فلا يستدعي عوضا ولهذا لا يعتبر فيه رضاها ولا رضى المولى لأن الله تعالى جعل الزوج أحق بذلك بقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وإنما يكون أحق إذا استبد به والبعل هو الزوج وفي تسميته بعلا بعد الطلاق الرجعي دليل بقاء الزوجية بينهما فالمباعلة هي المجامعة ففيه إشارة إلى أن وطأها حلال له وهو قول علمائنا أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء ولكن لا يستحب له أن يطأها قبل الإشهاد على المراجعة لأنه يصير مراجعا لها من غير شهود وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحرم عليه وطأها ما لم يراجعها ولهذا شرط الإشهاد على الرجعة لأنه سبب لاستباحة الوطء واستدل بقوله تعالى: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة: 228] والإصلاح يكون بعد تمكن الفساد ولم يتمكن الفساد هنا بزوال أصل الملك عرفنا أنه تمكن الفساد بحرمة الوطء ويجوز أن تثبت حرمة الوطء مع قيام أصل الملك كمن كاتب أمته يحرم عليه وطأها وإن بقي الملك بعد الكتابة ولهذا لا يلزمه مهر جديد بالوطء كما في المكاتبة ولأن هذا طلاق واقع فيحرم الوطء كالواقع بقوله أنت بائن وتقريره أن الإقراء يحتسب بها من العدة بعد الطلاق ومع بقاء ملك النكاح مطلقا لا يحتسب بالإقراء من العدة لأن العدة لصيانة الماء وصون الماء بالنكاح أبلغ منه بالعدة ولأن العدة لتبين فراغ الرحم فيستحيل أن تكون هي مشغولة بما يبين فراغ رحمها ويكون الزوج مسلطا على شغل رحمها والدليل عليه أنها إذا جاءت بالولد إلى سنتين يجعل هذا من علوق قبل الطلاق ولو بقي الحل بينهما لكان يستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهي ستة أشهر وحجتنا في ذلك أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكا وذلك استدامة للملك فدل أن الملك باق على الإطلاق وملك النكاح ليس إلا ملك الحل فإنه لا يملك عينها ولا منافعها فبقاء ملك النكاح مطلقا يكون دليل بقاء حل الوطء إلا بعارض يحرم به الوطء في ملك اليمين كالحيض والظهار واختلاف الدين وبكونها مطلقة لا يحرم الوطء بملك اليمين لأنها لو كانت أمة فاشتراها بعد الطلاق كان له أن يطأها فكذلك لا يحرم الوطء في ملك النكاح والدليل على بقاء الملك مطلقا أنه يملك التصرفات كالظهار والإيلاء واللعان وأنهما يتوارثان وأنه يملك الاعتياض بالخلع وملك الاعتياض لا يكون إلا مع بقاء أصل الملك وأنه بعد الرجعة يحل له وطأها والرجعة ليست بسبب لحل الوطء مقصودا حتى لا يعتبر فيها المهر ولا رضاها والدليل عليه أن الطلاق بعد

 

ج / 6 ص -18-         الطلاق واقع فلو كان حكم الطلاق زوال الملك به لم يقع الطلاق بعد الطلاق لأن المزال لا يزال وكما أن الطلاق الثاني واقع من غير أن يزول الملك به فكذلك الأول لأن الحكم الأصلي للطلاق رفع الحل عن المحل إذا تم ثلاثا فأما زوال الملك به معلق بانقضاء العدة قبل الرجعة والمعلق بالشرط عدم قبله وإنما سمى الله تعالى الرجعة ردا واصلاحا لأنه يعيدها بالرجعة إلى الحالة الأولى حتى لا تبين بانقضاء العدة لا لأنه يعيدها إلى الملك وملك النكاح ليس نظير ملك اليمين فإن صفة الحل هناك تنفصل عن أصل الملك ابتداء وبقاء كالأخت من الرضاعة والأمة المجوسية وهنا صفة الحل تنفصل عن أصل الملك ابتداء وبقاء مع أن المكاتبة صارت أحق بنفسها بما التزمت من العوض وهنا الزوج أحق بها ووزان هذا من المكاتبة أن لو طلقها بعوض وكون الطلاق واقعا لا يكون دليل حرمة الوطء مع قيام الملك كما بعد الرجعة فإن الطلاق يبقى واقعا والوطء حلال وهذا لأن هذه الإزالة بطريق الإسقاط والمسقط يكون متلاشيا لا يتصور إعادته والاحتساب بالإقراء من العدة لأنه صار غير مريد لها بالطلاق كمن وطى ء أمته ثم أراد بيعها يستبرئها مع قيام الملك والحل واستناد العلوق إلى أبعد الأوقات للتحرز عن إثبات الرجعة بالشك فإنا لو أسندنا العلوق إلى أقرب الأوقات جعلناه مراجعا لها بالشك وهو بناء على مذهبنا أن جماعة إياها في العدة رجعة منه وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون رجعة واعتبر الرجعة بأصل النكاح فكما لا يثبت أصل النكاح بالفعل فكذلك لا تثبت الرجعة وفي الحقيقة هذا بناء على ما تقدم فإن عنده الرجعة سبب لاستباحة الوطء ورفع الخلل الواقع في الملك فلا يكون إلا بالقول والجماع قبل الرجعة حرام فلا يكون سببا للحل وعندنا الرجعة استدامة للملك والفعل المختص به يكون أدل على استدامة الملك من القول وهو نظير الفيء في الإيلاء فإنه منع للمزيل من أن يعمل بعد انقضاء العدة وذلك يحصل بالجماع ونقول أكثر ما في الباب أن يثبت له أن الطلاق مزيل للملك ولكن المزيل متى ظهر وأعقب خيار الاستبقاء في مدة معلومة يكون مستبقيا للملك بالوطء كمن باع أمته على أنه بالخيار ثلاثة أيام ثم وطئها صار بالوطء مستبقيا للملك بل أولى لأن هناك يحتاج إلى فسخ السبب المزيل وهنا لا يحتاج إلى رفع الطلاق الواقع وكذلك لو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة لأن هذه الأفعال تختص بالملك الموجب للحل كالوطء فتكون مباشرته دليل استبقاء الملك ألا ترى في ثبوت حرمة المصاهرة جعلت هذه الأفعال بمنزلة الوطء فكذلك في حكم الرجعة والأحسن له أن يشهد شاهدين بعد ذلك هكذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حين سئل عمن طلق امرأته ولم يعلمها حتى غشيها فقال طلقها لغير السنة وراجعها على غير السنة وليشهد على ذلك شاهدين.
قال: ولا يكون النظر إلى شيء من جسدها سوى الفرج رجعة لأن ذلك لا يختص بالملك ولأنه لا تثبت به حرمة المصاهرة ولأن النظر إلى الفرج نوع استمتاع فإن النظر إلى الفرج إما لحسنه أو للاستمتاع وليس في الفرج معنى الحسن فكان النظر إليه استمتاعا بخلاف

 

ج / 6 ص -19-         سائر الأعضاء والنظر إلى الفرج بغير شهوة لا يكون رجعة لأنه غير مختص بالملك فإن القابلة تنظر والحافضة كذلك فأما إذا قبلته بشهوة أو لمسته بشهوة أو نظرت إلى فرجه بشهوة تثبت به الرجعة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا تثبت عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن هذا الفعل من الزوج دليل استبقاء الملك وليس لها ولاية استبقاء الملك فلا يكون فعلها رجعة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا فعلها به كفعله بها فإن الحل مشترك بينهما وفعلها به في حرمة المصاهرة كفعله بها فكذلك في الرجعة ثم فرق أبو يوسف رحمه الله تعالى في ظاهر الرواية بين هذا وبين الخيار فقال الأمة إذا فعلت ذلك بالبائع في مدة الخيار يكون فسخا للبيع وهنا لا يكون رجعة منها لأن إسقاط الخيار قد يحصل بفعلها وهو ما إذا جنت على نفسها أو قتلت نفسها والرجعة لا تكون بفعلها قط وقد روى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى التسوية بين الفصلين فقال لا يسقط هناك الخيار بفعلها ومحمد رحمه الله تعالى يفرق فيقول هناك يسقط الخيار بفعلها لما فيه من فسخ البيع إن كان الخيار للبائع وإثبات الملك إن كان الخيار للمشتري وليس إليها ذلك وهنا ليس في الرجعة فسخ السبب ولا إثبات الملك ولكن إنما تثبت الرجعة بفعلها إذا أقر الزوج أنها فعلت ذلك بشهوة فأما إذا ادعت هي وأنكر الزوج لا تثبت الرجعة وكذلك إن شهد شاهدان أنها فعلت ذلك بشهوة لأن الشهود لا يعرفون ذلك إلا بقولها وقولها غير مقبول إذا أنكره الزوج.
قال: وتعليق الرجعة بالشرط باطل وكذلك الإضافة إلى وقت حتى إذا قال راجعتك غدا أو إذا جاء غد فهو باطل لأنه استدامة الملك فلا يحتمل التعليق بالشرط كأصل النكاح وإنما يحتمل التعليق بالشرط ما يجوز أن يحلف به ولا يحلف بالرجعة بخلاف الطلاق وهو نظير الإذن للعبد والتوكيل يحتمل التعليق بالشرط لأنه إطلاق ورفع للقيد والحجر على العبد وعزل الوكيل لا يحتمل التعليق بالشرط لأنه تقييد.
قال: وإن قال كنت راجعتك أمس صدق إن كانت في العدة بعد لأنه أخبر بما يملك استئنافه فلا يكون متهما في الإخبار ولم يصدق إذا قال ذلك بعد انقضاء العدة لأنه أخبر بما لا يملك استئنافه وهذا لأن الإقرار خبر متردد بين الصدق والكذب فإذا كان يملك مباشرته في الحال تنتفي تهمة الكذب عن خبره وإذا كان لا يملك مباشرته تتمكن تهمة الكذب في خبره وهو كالوكيل بالبيع إذا قال قبل العزل كنت بعته من فلان يصدق بخلاف ما لو قال بعد العزل فإن صدقته المرأة في إخباره بعد انقضاء العدة كان مصدقا لأن الحق لا يعدوهما وتصادقهما على الرجعة كتصادقهما على أصل النكاح.
قال: وإذا طهرت من الحيضة الثالثة غير أنها لم تغتسل فالرجعة باقية له عليها وهذا إذا كانت أيامها دون العشرة فأما إذا كانت أيامها عشرة فقد تيقنا بخروجها من الحيض بنفس انقطاع الدم وإذا كانت أيامها دون العشرة لم نتيقن بذلك لجواز أن يعاودها الدم فيكون ذلك حيضا إذا لم يجاوز العشرة وقد قالت الصحابة رضوان الله عليهم الزوج أحق برجعتها ما لم

 

ج / 6 ص -20-         تغتسل أو ما لم تحل لها الصلاة وحل الصلاة يكون بالاغتسال وإذا أخرت الغسل حتى ذهب وقت أدنى الصلاة إليها انقطع حق الرجعة عندنا ولا ينقطع عند زفر رحمه الله تعالى عملا بقول الصحابة رضي الله عنهم ما لم تحل لها الصلاة ولبقاء توهم معاودة الدم وكون ذلك حيضا ولكنا نقول بذهاب الوقت صارت الصلاة دينا في ذمتها وذلك من خواص أحكام الطاهرات فإذا انضم ذلك إلى الانقطاع تقوى به كالاغتسال ولا يعتبر توهم معاودة الدم بعده كما لا يعتبر بعد الاغتسال وقيل في معنى قول الصحابة رضي الله عنهم حتى تحل لها الصلاة أي تحل عليها الصلاة بأن تلزمها بذهاب الوقت وهو نظير قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] أي عليهم اللعنة أرأيت لو أخرت الاغتسال شهرا طمعا في أن يراجعها الزوج أكان تبقي الرجعة إلى هذه المدة هذا قبيح فإذا انقضت عدتها ثم أقام الزوج البينة أنه قال في عدتها قد راجعتها أو أنه قال قد جامعتها كان ذلك رجعة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وهذا من أعجب المسائل فإنه يثبت إقرار نفسه بالبينة بما لو أقر به للحال لم يكن مقبولا منه وإن لم تكن له بينة وكذبته المرأة فأراد أن يستحلفها فلا يمين له عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليها اليمين لأن هذا استحلاف في الرجعة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يرى ذلك على ما بيناه في النكاح فإن قيل أليس أنها لو ادعت انقضاء عدتها تستحلف في ذلك ثم لو نكلت كان للزوج أن يراجعها قلنا ذلك استحلاف في العدة فإذا نكلت بقيت العدة وهي محل الرجعة وهذا استحلاف في نفس الرجعة والخلوة بالمعتدة ليست برجعة لأنها لا تختص بالملك فإنه يحل للرجل أن يخلو بذوات محارمه فلا يكون دليل استدامة الملك
قال: ولو كتمها الطلاق ثم راجعها وكتمها الرجعة فهي امرأته لأنه في إيقاع الطلاق هو مستبد به وكذلك في الرجعة فإنه استدامة لملكه ولا يلزمها به شيئا فلا معتبر بعلمها فيه ولكنه أساء فيما صنع حين ترك الإشهاد على الرجعة وهو مستحب قال بلغنا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا أراد أن يراجع امرأته لم يدخل عليها حتى يشهد.
قال: وإذا قال زوج المعتدة لها قد راجعتك فقالت مجيبة له قد انقضت عدتي فالقول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا تثبت الرجعة وعندهما القول قول الزوج والرجعة صحيحة لأنها صادفت العدة فإن عدتها باقية ما لم تخبر بالانقضاء وقد سبقت الرجعة خبرها بالانقضاء فصحت الرجعة وسقطت العدة فإنها أخبرت بالانقضاء بعد سقوط العدة وليس لها ولاية الإخبار بعد سقوط العدة لو سكتت ساعة ثم أخبرت ولأنها صارت متهمة في الإخبار بالانقضاء بعد رجعة الزوج فلا يقبل خبرها كما لو قال الموكل للوكيل عزلتك فقال الوكيل كنت بعته وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الرجعة صادفت حال انقضاء العدة فلا تصح لأن انقضاء العدة ليس بعدة مطلقا وشرط الرجعة أن تكون في عدة مطلقة وبيانه أنها أمينة في الإخبار ولا يمكنها أن تخبر إلا بعد الانقضاء فإذا أخبرت مجيبة للزوج عرفنا ضرورة أن

 

ج / 6 ص -21-         الانقضاء سابق وأقرب أحواله حال قول الزوج راجعتك بخلاف ما إذا سكتت ساعة فإن أقرب الأحوال للانقضاء هناك حال سكوتها ولا يقال مصادفة الرجعة حال انقضاء العدة نادر لأن انقضاء العدة لا بد من أن يوافق حالة فتارة يوافق كلها وتارة يومها وتارة قول الزوج راجعتك وإن تمكن ما هو نادر وهو رجعة الزوج في هذه الحالة وإنما تصير متهمة إذا فرطت في الإخبار بالتأخير ولا تفريط منها هنا لأنها لا تقدر على الأخبار إلا بعد الانقضاء بخلاف الوكيل فإنه مفرط في الإخبار لأن بيعه كان قبل العزل لا مع العزل ولم يذكر في الكتاب ما إذا قال لها قد طلقتك فقالت مجيبة له قد انقضت عدتي قيل هو على هذا الخلاف ولا يقع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما لو قال لها أنت طالق مع انقضاء عدتك والأصح أنه يقع لإقرار الزوج بالوقوع كما لو قال بعد انقضاء العدة كنت طلقتك في العدة كان مصدقا في ذلك بخلاف الرجعة.
قال: والتوارث قائم بين الرجل والمعتدة من طلاق رجعي لأن الزوجية بينهما قائمة وإنما انتهت بالموت وهو سبب التوارث ويستوي فيه التطليقة والتطليقتان ويملك مراجعة المرأة الكتابية والمملوكة في عدتها مثل ما يملكه على الحرة المسلمة لأنها استدامة للملك كما قلنا والمكاتبة والمدبرة وأم الولد بمنزلة الأمة في الطلاق والعدة لبقاء الرق المنصف للحل فيهن والمستسعاة كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها كالمكاتبة.
قال: وإذا قال زوج الأمة بعد انقضاء عدتها قد كنت راجعتها في العدة وصدقه المولى وكذبته الأمة فالقول قولها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى القول قول الزوج لأن بضعها مملوك للمولى وينزل المولى فيها منزلة الحرة من نفسها حتى يصح تزويجه إياها واقراره بالنكاح عليها فكذلك إقراره بالرجعة بمنزلة إقرار الحرة على نفسها به وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الرجعة تنبني على سبب لا قول للمولى فيه وهو قيام العدة فإن القول في العدة قولها في البقاء والانقضاء دون المولى فكذلك فيما ينبني عليه توضيحه أن صحة الرجعة حال قيام العدة ولا ملك للمولى عند ذلك في البضع ولا تصرف فكان القول فيه قولها بخلاف التزويج والإقرار به عليها ولو كانت هي التي صدقت الزوج وكذبه المولى لم تثبت الرجعة أما عندهما فظاهر وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن بضعها في الحال خالص حق المولى فإن عدتها منقضية فلهذا لا يقبل قولها في ذلك.
قال: والمعتدة من طلاق رجعي تتشوف وتتزين له لأن الزوجية باقية بينهما وهو مندوب على أن يراجعها وتشوفها له يرغبه في ذلك فإن كان من شأنه أن لا يراجعها فأحسن ذلك أن يعلمها بدخوله عليها بالتنحنح وخفق النعل كي تتأهب لدخوله لا لأن الدخول عليها بغير الاستئذان حرام ولكن المرأة في بيتها في ثياب مهنتها فربما يقع بصره على فرجها وتقترن به الشهوة فيصير مراجعا لها بغير شهود وذلك مكروه وإذا صار مراجعا وليس من قصده إمساكها احتاج إلى أن يطلقها وتستأنف العدة فيكون إضرارا بها من حيث تطويل العدة ولهذا قال أكره أن يراها متجردة إذا كان لا

 

ج / 6 ص -22-         يريد رجعتها وإن رآها لم يكن عليه شيء لأن ما فوق الرؤية وهو الغشيان حلال له.
قال: وإذا كانت معتدة من تطليقة بائنة أو فرقة بخلع أو إيلاء أو لعان أو اختيارها أمر نفسها أو بالأمر باليد أو ما أشبه ذلك فلا رجعة له عليها لأن حكم الرجعة عرف بالنص بخلاف القياس والنص ورد بمطلق الطلاق فبقي الطلاق المقيد بصفة البينونة على أصل القياس وهذا لأن كونها مطلقة حكم مطلق الطلاق وهذا لا ينافي ملك النكاح كما بعد الرجعة وكونها مبانة أو مالكة أمر نفسها ينافي ملك النكاح والمتنافيان لا يجتمعان فإذا ثبتت البينونة انتفى النكاح ولا رجعة له عليها وفي الخلع إنما التزمت العوض لتتخلص من الزوج وذلك لا يحصل مع قيام الملك وحق الرجعة.
قال: وإذا كان الطلاق بعد الخلوة وهو يقول لم أدخل بها فلا رجعة له عليها لأنه مقر بالبينونة وسقوط حقه في الرجعة وإقراره على نفسه صحيح ولأن الخلوة إنما جعلت تسليما في حق المهر لدفع الضرر عنها وذلك المعنى لا يوجد في الرجعة لأنها حق الزوج وهو متمكن من غشيانها.
قال: وإن كانت حين خلا بها حائضا أو صائمة في رمضان أو محرمة أو رتقاء فلا رجعة له عليها لأن الخلوة فاسدة في هذه الأحوال فإذا كان حق الرجعة لا يثبت بالخلوة الصحيحة فبالفاسدة أولى وعليه نصف المهر إلا على قول بن أبي ليلى رحمه الله فإنه يقول جميع المهر لأن عليها العدة بالاتفاق ولكنا نقول في العدة معنى حق الشرع وهما متهمان في ذلك فأما المهر حقها فيفصل فيه بين الخلوة الصحيحة والفاسدة وقد بينا فصول الخلوة في كتاب النكاح.
قال: وإذا كان عنينا أو مجبوبا أو خصيا فخلى بها ولم يدخل بها فلا رجعة له عليها لأنه لو كان فحلا ولم يدخل بها لم يكن له حق المراجعة في العدة فإذا كان المانع من الدخول ظاهرا فيه أولى أن لا يكون له حق المراجعة في العدة.
قال: وإذا ادعى الزوج الدخول بها وقد خلا بها وأنكرته المرأة فله الرجعة لأن الظاهر شاهد له لأن الظاهر من حال الفحل أنه متى خلى بالأنثى التي تحل له نزا عليها فإن قيل الظاهر حجة لدفع الاستحقاق والزوج إنما يريد استحقاق الرجعة بقوله قلنا لا كذلك بل الزوج إنما يستبقي ملكه بما يقول ويدفع استحقاقها نفسها والظاهر يكفي لذلك.
قال: وإن لم يخل بها حتى طلقها وادعى الدخول فلا رجعة له عليها لأنه يدعي عارضا لا يعرف سببه ولأنه لا عدة له عليها في هذه الحالة فإن إنكارها سبب العدة كإنكارها أصل العدة والرجعة لا تكون إلا في العدة.
قال: وإذا قالت إن عدتي قد انقضت وذلك في وقت لا تحيض فيه ثلاث حيض لم تصدق على ذلك لأن الأمين إنما يقبل خبره إذا لم يكن مستحيلا أو مستنكرا فإذا أخبرت بما هو مستحيل أو مستنكر لم تصدق في خبرها ثم بين أدنى المدة التي تصدق فيها وهو شهران في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتسعة وثلاثون يوما في قولهما وقد بينا هذه المسألة بفروعها في آخر كتاب الحيض.

 

ج / 6 ص -23-         قال: فإن قالت قد أسقطت سقطا مستبين الخلق أو بعض الخلق صدقت على ذلك لأنها مسلطة أمينة في الإخبار بما في رحمها قال الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] والنهي عن الكتمان أمر بالإظهار وقال أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه إن من الأمانة أن تؤمن المرأة على ما في رحمها فإذا أخبرت بذلك وكان محتملا وجب قبول خبرها من غير بينة وإن أتهمها الزوج حلفها.
قال: وكل سقط لم يستبن شيء من خلقه لا تنقضي به العدة لأنه ليس له حكم الولد بل هو كالدم المتجمد وعند الشافعي رحمه الله تعالى يمتحن بالماء الحار فإذا ذاب فيه فهو دم وإن لم يذب فهو ولد ولكن هذا من باب الطب لا من باب الفقه وقد بيناه في كتاب الحيض.
قال: وإذا قالت بعد مضي شهرين قد انقضت عدتي وقال الزوج قد أخبرتني أمس أنها لم تحض شيئا فإن كذبته المرأة فالقول قولها مع يمينها لأنه يدعي عليها ما لا يعرف سببه وهي تنكر ذلك وقد ظهر انقضاء العدة بخبرها وإن صدقته في ذلك فله أن يراجعها لأن الثابت بالتصادق كالثابت بالمعاينة وبعد ما أخبرت أمس أنها لم تحض شيئا فاخبارها في اليوم بانقضاء العدة مستحيل ولأن الحق لهما لا يعدوهما وقد تصادقا على قيام الزوجية بينهما.
قال: فإن كانت تعتد بالشهور لصغر أو إياس فحاضت انتقض ما مضى من عدتها بالشهور وكان عليها ثلاث حيض أما في الآيسة فظاهر لأنها لما حاضت تبين أنها لم تكن آيسة وإنما كانت ممتدا طهرها وأما في الصغيرة إذا حاضت فلأنها قدرت على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل والقدرة على الأصل تمنع اعتبار البدل ولا يكمل مع الأصل لأنهما لا يلتقيان فلا بد من الاستئناف وعلى هذا قالوا لو طلقها تطليقة فحاضت وطهرت قبل مضي الشهر له أن يطلقها أخرى لأن الفصل بالشهر بين الطلاقين كان قبل ظهور الحيض.
قال: وكذلك لو حاضت حيضة ثم أيست من الحيض اعتدت بالشهور ثلاثة أشهر بعد الحيضة لأن إكمال الأصل بالبدل غير ممكن فلا بد من الاستئناف وإياسها أن تبلغ من السن ما لا يحيض فيه مثلها لأنه معنى في باطنها لا يوقف على حقيقته فلا بد من اعتبار السبب الظاهر فيه وإذا بلغت من السن ما لا يحيض فيه مثلها وهي لا ترى الدم فالظاهر أنها آيسة ولم يقدر السن في الكتاب وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى التقدير بخمسين سنة وفي رواية ستين سنة وفصل في رواية بين الروميات والخراسانيات ففي الروميات التقدير بخمسين سنة لأن الهرم يسرع إليهن وفي الخراسانيات التقدير بستين سنة وأكثر مشايخنا على التقدير بالزيادة على خمسين سنة فقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا جاوزت المرأة خمسين سنة لم تر في بطنها قرة عين.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته واحدة ثم راجعها في الحيضة الثانية ثم طلقها بعد الطهر وتركها حتى حاضت الثالثة ثم راجعها ثم طلقها بعد الطهر فعليها العدة بعد التطليقة الثالثة ثلاث حيض لأن الرجعة قد صحت لمصادفتها العدة فإذا طلقها كان عليها عدة مستقبلة وقد أساء فيما صنع لأنه طول العدة عليها وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه في تأويل قوله تعالى:
{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}

 

ج / 6 ص -24-         [البقرة: 231] أنه نزل فيما ذكرنا وأما قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] إنما نزلت فيما إذا خطبها الزوج بعد انقضاء عدتها وأبى أولياؤها أن يتركوها.
قال: وإذا اغتسلت المعتدة من الحيضة الثالثة غير أنه بقي منها عضو لم يصبه الماء فالزوج يملك الرجعة ولو بقي ما دون العضو لم يكن للزوج عليها رجعة قال هذا والأول سواء غير أني أستحسن ولم يذكر في الكتاب نصا موضع القياس والاستحسان وقيل عند أبي يوسف رحمه الله تعالى القياس والاستحسان في العضو الكامل في القياس ينقطع لأنها مغتسلة وقد غسلت أكثر البدن وللأكثر حكم الكل وفي الاستحسان لا ينقطع لأن العضو الكامل ورد الخطاب بتطهيره شرعا فبقاؤه كبقاء جميع البدن ولأن العضو الكامل لا يقع الانتقال عنه عادة فلا يسرع إليه الجفاف عادة بخلاف ما دونه وعند محمد رحمه الله تعالى القياس والاستحسان فيما دون العضو في القياس يبقى حكم الرجعة لبقاء حكم الحدث كما قال صلى الله عليه وسلم
"تحت كل شعرة جنابة" ولأنه لم تحل لها الصلاة فكان هذا وبقاء عضو كامل سواء وفي الاستحسان تنقطع الرجعة لأن ما دون العضو لقلته يسرع إليه الجفاف فلا يتيقن بعدم إصابة الماء فلهذا يؤخذ فيه بالاحتياط فتنقطع الرجعة ولكن لا يحل لها أن تتزوج حتى تغسل ذلك الموضع احتياطا لأن الماء لم يصل إلى ذلك الموضع من حيث الظاهر.
قال: ولو تركت المضمضة والاستنشاق في الاغتسال لا تنقطع الرجعة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لبقاء عضو كامل وتنقطع عند محمد رحمه الله احتياطا لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى فإن من الناس من يقول المضمضة والاستنشاق في الاغتسال سنة فكان الاحتياط في قطع الرجعة.
قال: وإذا لم تقدر على الماء بعد ما طهرت وأيامها دون العشرة فتيممت وصلت مكتوبة أو تطوعا فقد انقطعت الرجعة لأنا حكمنا بطهارتها حين جوزنا صلاتها بالتيمم فهو بمنزلة ما لو مضى عليها وقت صلاة وهناك تنقطع الرجعة فهنا كذلك فإن وجدت الماء بعد هذا اغتسلت ولم يعد حق الرجعة لأن صلاتها تلك بقيت مجزئة وهذا بخلاف ما إذا عاودها الدم لأن بمعاودة الدم تبين أن الانقطاع لم يكن طهرا وبوجود الماء لا يتبين ذلك فأما إذا تيممت ولم تصل فللزوج عليها حق الرجعة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله استحسانا وفي قول محمد رحمه الله تعالى قد انقطعت الرجعة وهو القياس لأن التيمم عند عدم الماء ينزل منزلة الاغتسال عند وجود الماء فيما يبنى أمره على الاحتياط بدليل حل أداء الصلاة لها وحل دخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف والحكم بسقوط الرجعة يؤخذ فيه بالاحتياط ألا ترى أنها لو اغتسلت وبقي على بدنها لمعة تنقطع الرجعة عنها احتياطا وإن لم يحل لها أداء الصلاة فهنا أولى وكذلك لو اغتسلت بسؤر الحمار ولم تجد غيره تنقطع الرجعة احتياطا ولم يحل لها أداء الصلاة في هذين الموضعين فهنا أولى أن تنقطع الرجعة وقد حل لها أداء الصلاة وهذا لأن التيمم طهارة عند عدم الماء قال الله تعالى:
{وَلَكِنْ يُرِيدُ

 

ج / 6 ص -25-         لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فإذا أتت به لم تبق مخاطبة بالتطهير فتنقطع الرجعة كالنصرانية تحت مسلم إذا انقطع دمها من الحيضة الثالثة انقطعت الرجعة بنفس الانقطاع لأنها غير مخاطبة بالتطهير وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا التيمم طهارة ضعيفة فلا تنقطع به الرجعة كنفس الانقطاع وبيانه أنه لا يرفع الحدث بيقين حتى أن المتيمم إذا وجد الماء كان محدثا بالحدث السابق ولأنه في الحقيقة تلويث وتغيير وهذا ضد التطهير وإنما جعل طهارة حكما لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة لأنها مؤقتة والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة فكان طهارة في حكم الصلاة وفيما هو من توابع الصلاة خاصة كدخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف ولا ضرورة في حكم الرجعة فكان التيمم في حكم الرجعة عند عدم الماء كهو عند وجود الماء توضيحه أن التيمم مشروع لمقصود وهو أداء الصلاة لا رفع الحدث به ولهذا لا يؤمر به قبل دخول الوقت وفي الوقت أيضا ينتظر آخر الوقت وما كان مشروعا لمقصود فقبل انضمام ذلك المقصود إليه كان ضعيفا فلا يزول به الملك كشهادة الشاهدين على الطلاق لما كان المقصود هو قضاء القاضي به فما لم ينضم إليه القضاء لا يكون مزيلا للملك وهذا بخلاف ما إذا بقي على بدنها لمعة لأن قطع الرجعة هناك لتوهم وصول الماء إلى ذلك الموضع وسرعة الجفاف فكانت طهارة قوية في نفسها والاغتسال بسؤر الحمار كذلك فإنها طهارة قوية لكونها اغتسالا بالماء ولكنها تؤمر بضم التيمم إلى ذلك في حكم حل الصلاة احتياطا لاشتباه الأدلة في طهارة الماء وقد كان الأصل فيه الطهارة ولهذا لو اغتسلت به مع وجود ماء آخر تنقطع الرجعة أيضا لكونها طهارة قوية وإذا ثبت أن الطهارة قوية جاء موضع الاحتياط فقلنا بأنه تنقطع الرجعة احتياطا ولا تحل للأزواج حتى تغتسل بماء آخر أو تتيمم وتصلي لاحتمال نجاسة ذلك الماء احتياطا وهذا بخلاف النصرانية فإنه ليس عليها اغتسال أصلا فكان نفس الانقطاع كطهارة قوية في نفسها وهنا الاغتسال واجب عليها بعد التيمم وإنما تعذر للعجز ولم يذكر في الكتاب ما إذا تيممت وشرعت في الصلاة والصحيح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن الرجعة لا تنقطع ما لم تفرغ من الصلاة لأن الحال بعد شروعها في الصلاة كالحال قبله ألا ترى أنها إذا رأت الماء لا يبقى لتيممها أثر بخلاف ما بعد الفراغ فإنها وإن رأت الماء تبقى صلاتها مجزئة وتأويل قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الزوج أحق برجعتها ما لم تحل الصلاة لها وحل الصلاة بالاغتسال فإنه صح من مذهبه أنه كان لا يرى التيمم للجنب والحائض وإن لم يجد الماء شهرا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب العدة وخروج المرأة من بيتها
قد بينا عدة ذات القروء والآيسة والصغيرة إذا كانت حرة أو أمة فأما عدة الوفاة فإنها لا تجب إلا عن نكاح صحيح ويستوي فيه المدخول بها وغير المدخول بها صغيرة كانت أو كبيرة حتى إذا كانت حرة مسلمة أو كتابية تحت مسلم فعدتها ما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] وقوله: {وَيَذَرُونَ

 

ج / 6 ص -26-         أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] بيان أنها لا تجب إلا بنكاح صحيح لأن اسم الزوجية مطلقا لا يكون إلا بعد صحة النكاح ويستوي في هذا الاسم المدخول بها وغير المدخول بها وهذا لأن العدة محض حق النكاح لأن النكاح بالموت ينتهي فإنه يعقد للعمر ومضي مدة العمر ينهيه فتجب العدة حقا من حقوقه وبين السلف رحمهم الله فيه خلاف في أربعة فصول:
أحدها: أن منهم من يقول لها عدتان الأطول وهو الحول والأقصر وهو أربعة أشهر وعشرا كما قال الله تعالى:
{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ} [البقرة: 240] أي بعد أربعة أشهر وعشرا {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ففي هذا بيان أن العدة الكاملة هو الحول وأن الاكتفاء بأربعة أشهر وعشرا رخصة لها ولكنا نقول هذه الآية منسوخة وهذا حكم كان في الابتداء أن على الزوج أن يوصي لها بالنفقة والسكنى إلى الحول وقد انتسخ ذلك بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] والدليل عليه ما روي أن المتوفى عنها زوجها لما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه في الاكتحال قال صلى الله عليه وسلم: "كانت إحداكن في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها قعدت في شر أحلاسها حولا ثم خرجت فرمت كلبة ببعرة أفلا أربعة أشهر وعشرا".
والثاني: أن المعتبر عشرة أيام وعشر ليال من الشهر الخامس عندنا وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه كان يقول عشر ليال وتسعة أيام حتى يجوز لها أن تتزوج في اليوم العاشر لظاهر قوله تعالى:
{وَعَشْراً} فإن جمع المؤنث يذكر وجمع المذكر يؤنث فيقال عشرة أيام وعشر ليال فلما قال هنا وعشرا عرفنا أن المراد الليالي ولكنا نقول هو كذلك إلا أن ذكر أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بازائه من العدد الآخر وقد بينا هذا في باب الاعتكاف.
والثالث: أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها عندنا وهو قول ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما وكان علي رضي الله عنه يقول تعتد بأبعد الأجلين إما بوضع الحمل أو بأربعة أشهر وعشرا لأن قوله تعالى:
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] يوجب عليها العدة بوضع الحمل وقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} يوجب عليها الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا فيجمع بينهما احتياطا ولو وضعت قبل أربعة أشهر وعشرا فليس لها أن تتزوج لأن أمر العدة مبنى على الاحتياط ولكن قد صح عن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أن قوله تعالى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} قاضية على قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه من شاء باهلته أن سورة النساء القصوى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} نزلت بعد {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} التي في سورة البقرة وقال عمر رضي الله تعالى عنه لو وضعت ما في بطنها وزوجها على سريرة لانقضت عدتها والدليل عليه حديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله تعالى عنها فإنها وضعت ما في بطنها بعد موت الزوج بتسعة أيام فسألت أبا السنابل بن بعكك هل لها أن تتزوج فقال لا حتى يبلغ الكتاب أجله فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما قال أبو السنابل فقال صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو

 

ج / 6 ص -27-         السنابل فقد بلغ الكتاب أجله إذا أردت النكاح فاد أبي" وإنما اشتبه على علي رضي الله تعالى عنه لأن بوضع الحمل يتبين براءة الرحم وفي التربص بأربعة أشهر وعشرا لا عبرة بشغل الرحم حتى تستوي فيها الصغيرة والكبيرة بخلاف عدة الطلاق ولكنا نقول أصل العدة مشروع لبراءة الرحم وتمام ذلك بوضع الحمل ففي حق الحامل لا يعتبر شيء آخر بأي سبب وجبت عليها العدة.
والرابع: أن عدة الوفاة معتبرة من وقت موت الزوج عندنا وهو قول ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وكان علي رضي الله عنه يقول من حين تعلم بموته حتى إذا مات الزوج في السفر فأتاها الخبر بعد مضي مدة العدة عند علي رضي الله تعالى عنه يلزمها عدة مستأنفة لأن عليها الحداد في عدة الوفاة ولا يمكنها إقامة سنة الحداد إلا بعد العلم بموته ولأن هذه العدة تجب بطريق العبادة فلا بد من علمها بالسبب لتكون مؤدية للعبادة ولكنا نقول العدة مجرد مضي المدة وذلك يتحقق بدون علمها فهو وعدة الطلاق سواء وأكثر ما في الباب أنها لم تقم سنة الحداد ولكن ذلك لا يمنع من انقضاء العدة كما لو كانت عالمة بموت الزوج ومعنى العبادة في العدة تبع لا مقصود ألا ترى أنها تجب على الكتابية تحت المسلم وهي لا تخاطب بالعبادات.
قال: والمتوفى عنها زوجها إذا كانت أمة أو مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد فإن كانت حائلا فعدتها شهران وخمسة أيام لأن الرق منصف للعدة كما بينا وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها لأن مدة الحبل لا تحتمل التنصيف فإن شيئا من المقصود وهو براءة الرحم لا يحصل قبل وضع الحمل.
قال: ولا ينبغي للمطلقة ثلاثا أو واحدة بائنة أو رجعية أن تخرج من منزلها ليلا ولا نهارا حتى تنقضي عدتها لقوله تعالى:
{وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قال إبراهيم رضي الله عنه الفاحشة خروجها من بيتها وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقال ابن مسعود رضي الله عنه الفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد وبه أخذ أبو يوسف رحمه الله تعالى وقال ابن عباس رضي الله عنه الفاحشة نشوزها وأن تكون بذيئة اللسان تبذو على أحماء زوجها وما قاله ابن مسعود رضي الله عنه هو الأصح فإنه جعل الفاحشة غاية والشيء لا يجعل غاية لنفسه وما ذكره إبراهيم محتمل أيضا والمعنى أن يكون خروجها فاحشة كما يقال لا يسب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون كافرا ولا يزني إلا أن يكون فاسقا وعلى هذا لا تخرج لسفر الحج ولا لغيره لأن الامتناع من الخروج موقت بالعدة يفوت بمضيها والخروج للحج لا يفوتها فتقدم ما يفوت على ما لا يفوت وأما المتوفى عنها زوجها فلها أن تخرج بالنهار لحوائجها ولكنها لا تبيت في غير منزلها لما روي أن فريعة بنت مالك بن أبي سنان أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنه جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها تستأذنه أن تعتد في بني خدرة فقال صلى الله عليه وسلم "امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك" ولم ينكر عليها خروجها للاستفتاء وعن علقمة رضي الله تعالى عنه أن اللاتي توفي عنهن أزواجهن شكون إلى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الوحشة فرخص لهن أن يتزاورن بالنهار ولا يبتن في غير منازلهن والمعنى فيه أنه لا نفقة في هذه العدة على زوجها فهي تحتاج إلى الخروج لحوائجها في النهار

 

ج / 6 ص -28-         وتحصيل ما تنفق على نفسها بخلاف المطلقة فإنها مكفية المؤنة ونفقتها على زوجها على أي وجه وقعت الفرقة بالطلاق فلا حاجة بها إلى الخروج وإن كانت أبرأت زوجها في الخلع فهي التي أضرت بنفسها فلا يعتبر ذلك وذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أن للمتوفى عنها زوجها أن تبيت في غير منزلها أقل من نصف الليل وهذا صحيح لأن المحرم عليها البيتوتة في غير منزلها والبيتوتة في جميعها أو أكثرها قال: وإن كانت مدبرة أو أم ولد أو أمة أو مكاتبة فلها أن تخرج في عدة الطلاق والوفاة جميعا لأنها ما كانت ممنوعة عن الخروج في حال النكاح والمنع في العدة على ذلك ينبني وهذا لأن خدمتها حق مولاها والمنع عن الخروج إما لحق الشرع أو لحق الزوج وحق المولى في الخدمة مقدم على ذلك كله والمكاتبة إنما تخرج للاكتساب وفي كسبها حق المولى إما أن يستوفي منه بدل الكتابة أو يخلص له إذا عجزت والمستسعاة كالمكاتبة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك الكتابية تحت مسلم أما في الطلاق الرجعي للزوج أن يمنعها من الخروج لقيام النكاح بينهما وأما في الطلاق البائن فإن منعها الزوج عن الخروج فله ذلك تحصينا لمائه ولكيلا تلحق به نسبا ليس منه وهو معنى قوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] أي ولدا وأما إذا كان لا يمنعها الزوج فلها أن تخرج وكذلك في عدة الوفاة لها أن تبيت في غير منزلها لأن المنع لحق الشرع وهي لا تخاطب بذلك وإليه أشار فقال لأن ما فيها من الشرك أعظم من الخروج في العدة وإن كانت صبية فلها أن تخرج لأنها لا تخاطب بما هو أعظم من هذا من حقوق الشرع كالصلوات والحدود وليس للزوج أن يمنعها في الطلاق البائن لأنه لم يبق له عليها ملك ولا يتوهم الحبل قالوا إلا أن تكون مراهقة يتوهم أن تحبل فحينئذ هي كالكتابية فأما في الطلاق الرجعي هي لا تخرج إلا بإذن الزوج لبقاء ملك النكاح له عليها.
قال: وإذا كانت المرأة مع زوجها في منزل مكرا فطلقها فيه فالكراء على زوجها حتى تنقضي عدتها لأن السكنى عليه والكراء مؤنة السكنى فتكون عليه كما في حال قيام النكاح فإن أخرجها أهل المنزل فهي في سعة من التحول لأن الحق لهم في منزلهم وهي لا تقدر على المقام مع الإخراج فيكون ذلك عذرا لها في التحول كما إذا انهدم المنزل فأما في عدة الوفاة أجر المنزل عليها لأنها لا تستوجب على زوجها السكنى كما لا تستوجب النفقة فإن مكنها أهل المنزل من المقام بكراء وهي تقدر على ذلك فعليها أن تسكن وإن كانت لا تجد ذلك فهي في سعة من التحول لأن سكناها في ذلك المنزل حق الشرع فإذا قدرت عليه بعوض لزمها كالمسافر إذا وجد الماء بثمن مثله فإن كان عنده الثمن فليس له أن يتيمم وإن لم يكن عنده الثمن فله أن يتيمم وكذلك إن كان زوج المطلقة غائبا فأخذها أهل المنزل بكراء فعليها أن تعطي الأجر وتسكن إذا كانت تقدر على ذلك وإن كانت في منزل زوجها فمات الزوج إن كان نصيبها من ذلك يكفيها فعليها أن تسكن في نصيبها في العدة ولا يخلو بها من ليس بمحرم لها من ورثة الزوج وإن كان نصيبها لا يكفيها فإن رضي ورثة الزوج أن تسكن فيه سكنت وإن

 

ج / 6 ص -29-         أبوا كانت في سعة من التحول للعذر وإن كانت في منزل مخوف على نفسها أو مالها وليس معها رجل كانت في سعة من الرحلة لأن المقام مع الخوف لا يمكن وفي المقام ضرر عليها في نفسها ومالها وذلك عذر في إسقاط حق الشرع كما لو كان بينه وبين الماء سبع أو عدو ولو كانت بالسواد فدخل عليها الخوف من سلطان أو غيره كانت في سعة من التحول إلى المصر لأنها تتمكن من إزالة الخوف هنا بالتحول إلى المصر ولو كان زوال الخوف بالتحول من منزل إلى منزل كان لها أن تتحول فكذلك إذا كان بالتحول من السواد إلى المصر.
قال: وإذا طلقها وهي في بيت أهلها أو غيرهم زائرة كان عليها أن تعود إلى منزل زوجها حتى تعتد فيه سواء كان زوجها معها أو لم يكن لأن الواجب عليها المقام في منزل مضاف إليها قال الله تعالى:
{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] والإضافة إليها بكونها ساكنة فيه فعرفنا أن المستحق عليها المقام في منزل كانت ساكنة فيه إلى وقت الفرقة وهذا لأن المنزل الذي هي فيه زائرة ليس بمضاف إليها فعليها أن تعود إلى المنزل الذي كانت ساكنة فيه لتتمكن من إقامة حق الشرع.
قال: ولو سافر بها ثم طلقها فإن كان الطلاق رجعيا فهي لا تفارق زوجها لأن الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح فأما إذا طلقها طلاقا رجعيا في منزلها فليس له أن يسافر بها قبل الرجعة عندنا وله ذلك عند زفر رحمه الله تعالى قيل هذا بناء على أن السفر بها رجعة عند زفر رحمه الله تعالى لأنه دليل استدامة الملك كالتقبيل والمس بشهوة وعندنا لا يكون السفر بها رجعة لأنه غير مختص بالملك كالخلوة وقيل هي مسألة مبتدأة فهو يقول الحل والنكاح بينهما قائم فله أن يسافر بها ولكنا نقول هي معتدة والمعتدة ممنوعة من إنشاء السفر مع زوجها كما تمنع من إنشاء السفر مع المحرم وربما تنقضي عدتها في الطريق فتبقى بغير محرم ولا زوج وأما في الطلاق البائن فإن كان بينها وبين مقصدها دون مسيرة سفر وبينها وبين منزلها كذلك فعليها أن ترجع إلى منزلها لأنها كما رجعت تصير مقيمة وإذا مضت تكون مسافرة ما لم تصل إلى المقصد فإذا قدرت على الامتناع من استدامة السفر في العدة تعين عليها ذلك وإن كان بينها وبين مقصدها دون مسيرة سفر وبينها وبين منزلها مسيرة سفر مضت إلى مقصدها ولم ترجع لأنها إذا مضت لا تكون منشئة سفرا ولا سائرة في العدة مسيرة سفر وإذا رجعت تكون منشئة سفرا فلهذا مضت إلى مقصودها وإن كان كل واحد من الجانبين مسيرة سفر فإن كان الطلاق أو موت الزوج في موضع لا تقدر على المقام فيه كالمفازة توجهت إلى أي الجانبين شاءت سواء كان معها محرم أو لم يكن وينبغي لها أن تختار أقرب الجانبين وهي في هذه المسألة كالتي أسلمت في دار الحرب لها أن تهاجر إلى دارنا من غير محرم لأنها خائفة على نفسها ودينها فهذه في المفازة كذلك فأما إذا كانت في مصر أو قرية تقدر على المقام فيه فليس لها أن تخرج عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى تنقضي عدتها وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن لم يكن معها محرم فكذلك وإن كان معها محرم فلها أن تخرج إلى أي الجانبين شاءت لأنها غريبة في هذا الموضع والغريب يؤذي ويقصد بالجفاء

 

ج / 6 ص -30-         ومن يصبر على الأذى فكانت مضطرة إلى الخروج فلها أن تخرج إلى أي الجانبين شاءت كما لو كانت في المفازة إلا أن هذا من وجه إنشاء سفر فيعتبر فيه المحرم بخلاف تلك المسألة ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان:
أحدهما: أنها إلى الآن كانت تابعة للزوج في السفر ألا ترى أن المعتبر نية الزوج في السفر والإقامة لا نيتها وقد زال ذلك فتكون هي منشئة سفرا من موضع أمن وغياث والعدة تمنعها من ذلك كما لو كانت في منزلها بخلاف المفازة فإنها ليست بموضع الإقامة فلا تكون هي في التحول منشئة سفرا وقالوا على هذا الطريق إذا كانت سافرت مع المحرم بغير زوج فأتاها خبر موت الزوج أو الطلاق لا يكون عليها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى المقام فيه لأنها ماضية على سفرها لا منشئة.
والطريق الآخر أن تأثير العدة في المنع من الخروج أكثر من عدم المحرم ألا ترى أن للمرأة أن تخرج من غير المحرم ما دون مسيرة السفر وليس لها أن تخرج من منزلها في عدتها دون مدة السفر ثم فقد المحرم هنا يمنعها من الخروج بالاتفاق فلأن تمنعها العدة من الخروج وإنها ليست في موضع مخوف أولى بخلاف ما إذا كانت في المفازة فإن فقد المحرم هناك لا يمنعها من الخروج لأنها ليست في موضع القرار فكذلك العدة حتى لو وصلت إلى مصر أو قرية لم يكن لها أن تخرج بعد ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قال: وللمعتدة أن تخرج من بيتها إلى الدار وتبيت في أي بيوت الدار شاءت لأن جميع الدار منزل واحد وعليها أن تبيت في منزلها وذلك موجود في أي بيت باتت وبالخروج إلى صحن الدار لا تصير خارجة من منزلها ألا ترى أنها في حال بقاء النكاح ليس للزوج أن يمنعها من ذلك إلا أن يكون في الدار منازل غيرهم فحينئذ لا تخرج إلى تلك المنازل لأن صحن الدار هنا بمنزلة السكة وبالوصول إليه تصير خارجة من منزلها وهي ممنوعة من ذلك في العدة.
قال: وإذا طلقها طلاقا بائنا وليس له إلا بيت واحد فينبغي أن يجعل بينه وبينها سترا وحجابا لأنه ممنوع من الخلوة بها بعد ارتفاع النكاح فيتخذ بينه وبينها سترة حتى يكون في حكم بيتين وكذلك في الوفاة إذا كان له أولاد رجال من غيرها فإذا هم وسعوا عليها وخرجوا عنها أو ستروا بينهم وبينها حجابا فلتقم حتى تنقضي عدتها وإن أبوا أن يفعلوا ذلك فلتنتقل معناه إذا أخرجوها وكان نصيبها لا يكفيها أو كانت تخاف على نفسها منهم فإذا لم يكن بهذه الصفة فلا بأس بأن تقيم معهم لأن أولاده محرم لها إلا أن يكون من ورثته من ليس بمحرم لها.
قال: بلغنا أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نقل أم كلثوم حين قتل عمر رضي الله تعالى عنه لأنها كانت في دار الإمارة وروي أن عائشة رضي الله تعالى عنها نقلت أختها أم كلثوم حين قتل طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه.
قال: وإذا انهدم منزل المطلقة أو المتوفى عنها زوجها فهي في سعة من التحول إلى أي موضع شاءت لأن المقام في المنزل المهدوم غير ممكن فكان ذلك عذرا في التحول والتدبير

 

ج / 6 ص -31-         في اختيار المنزل إليها بعد زوال الملك عنها إلا في الطلاق الرجعي فإن التدبير إلى الزوج في اختيار المنزل فله أن ينقلها حيث أحب وكذلك في الطلاق البائن إذا كان الزوج حاضرا وأراد أن ينقلها إلى منزل آخر عند العذر فالخيار في ذلك إليه لأن ملك اليد له عليها باق ما دامت في العدة والسكني والنفقة عليه فكان له أن يحصنها حتى لا تلحق به ما يكره وإنما الاختيار إليها إذا كان الزوج ميتا أو غائبا عند تحقق العذر.
قال: ولا ينبغي للمعتدة أن تحج ولا تسافر مع محرم وغير محرم على ما مر وفي الكتاب قال بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه رد المتوفى عنها زوجها من ذي الحليفة وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ردهن من قصر النجف وكن قد خرجن حاجات فدل أن المعتدة تمنع من ذلك.
قال: وإذا طلقت الأمة تطليقة رجعية ثم أعتقت صارت عدتها عدة الحرة وإن كان الطلاق بائنا لم تنتقل عدتها من عدة الأماء إلى عدة الحرائر وعند مالك لا تنتقل عدتها إلى عدة الحرائر في الوجهين جميعا وهو أحد قولي الشافعي وفي القول الآخر قال تنتقل عدتها في الوجهين وجه قول مالك أن ما يختلف بالرق والحرية يكون المعتبر فيه حال تقرر الوجوب كالحدود وهكذا يقول الشافعي رحمه الله تعالى في أحد القولين بناء على أصله أن الطلاق الرجعي يرفع الحل فالعتق بعده لا يؤثر في الحل فلا تتغير العدة كما بعد البينونة وحجتنا في ذلك أن ملك النكاح يختلف بالحرية والرق لتنصف الحل بسبب الرق وقد بيناه في كتاب النكاح ثم الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح فإذا أعتقت كمل ملك النكاح عليها بكمال حالها بعد العتق والعدة في الملك الكامل تتقدر بثلاث حيض فأما بعد البينونة فقد زال الملك فلا يتكامل بالعتق الملك الزائل عن الحل توضيحه أن العدة بعد الطلاق الرجعي بعرض التغير حتى تتغير بموت الزوج من الإقراء إلى الشهور بعد موته فكذلك بعتقها تتغير إلى ثلاث حيض فأما بعد ما بانت في الصحة فلا تتغير من الإقراء إلى الأشهر بعد موته فكذلك لا تتغير بعتقها توضيحه أن زوال الملك بعد الطلاق الرجعي بانقضاء العدة فلا يزول الملك عن الحرة إلا بثلاث حيض بخلاف ما بعد البينونة وبخلاف الحدود فإنها مبنية على الدرء والإسقاط والعدة مأخوذ فيها بالاحتياط وسائر وجوه الفرقة كالطلاق في هذا وكذلك في عدة الوفاة لأن الملك هناك يزول بالموت ومذهبنا في الفصلين مروي عن النخعي والشعبي رحمهما الله تعالى.
قال: وإذا مات زوج أم الولد عنها ومولاها ولا يعلم أيهما مات أولا وبين موتيهما أقل من شهرين وخمسة أيام فعليها أربعة أشهر وعشرا من آخرهما موتا احتياطا ولا معتبر بالحيض فيها لأنا تيقنا أنه له ليس عليها العدة بالحيض فإن المولى لو مات أولا فقد مات وهي منكوحة الغير فلا عدة عليها منه لأن وجوب العدة من المولى بزوال فراشه عنها ولا فراش للمولى عليها هنا فإن مات المولى آخرا فقد مات وهي معتدة من الزوج فلم تكن فراشا للمولى أيضا ولكن من وجه عليها شهران وخمسة أيام وهو ما إذا مات الزوج أولا ومن وجه عليها أربعة أشهر

 

ج / 6 ص -32-         وعشرا وهو ما إذا مات الزوج آخرا فقلنا تعتد بأربعة أشهر وعشرا احتياطا وإن علم أن بين موتيهما شهرين وخمسة أيام أو أكثر فعدتها أربعة أشهر وعشرا تستكمل فيها ثلاث حيض لأنه إن مات الزوج أولا فقد انقضت عدتها بشهرين وخمسة أيام ثم مات المولى فعليها العدة بثلاث حيض لأنه مات بعد ما صارت فراشا وإن مات المولى أولا فقد عتقت بموته ثم عليها بموت الزوج أربعة أشهر وعشرا والعدة يؤخذ فيها بالاحتياط فلهذا جمعنا بين العدتين فأما إذا لم يعلم ما بين موتيهما ولا أيهما مات أولا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى عليها أربعة أشهر وعشرا لا حيض فيها وعندهما تستكمل فيها ثلاث حيض لأنه يحتمل أن يكون الزوج مات أولا ثم مات المولى بعد ما مات الزوج بعد شهرين وخمسة أيام وفي العدة معنى العبادة فالوجه الواحد يكفي لوجوبها للاحتياط وهو نظير مسائل العقد إذا تزوج أربعا في عقدة وثلاثا في عقدة واثنتين في عقدة ثم مات قبل البيان وجب على كل واحدة منهن عدة الوفاة احتياطا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول سبب وجوب العدة بالحيض لم يوجد وهو زوال فراش المولى عنها والاحتياط إنما يكون بعد ظهور السبب وبيانه أنه إذا مات المولى أولا فقد مات وهي منكوحة الزوج وإن مات آخرا فقد مات وهي معتدة من الزوج وأما قولهما إن مضى الشهرين وخمسة أيام بين الموتين محتمل قلنا نعم ولكن مضي هذه المدة بين الموتين ليس بعدة حتى يؤخذ فيها بالاحتياط ولا سبب لوجوب العدة فلا يقدر به عند التردد مع أن كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما حصلا معا فيجعل كأنهما ماتا معا كالغرقي والحرقي والهدمي لا يرث بعضهم بعضا ولأن هنا أحوالا ثلاثة إن مات المولى أولا فهناك نكاح يمنع وجوب العدة بالحيض وإن مات الزوج أولا ثم مات المولى بعده قبل شهرين وخمسة أيام فهناك عدة تمنع وجوب العدة بالحيض وإن كان بعد شهرين وخمسة أيام فحينئذ تجب العدة بالحيض والحالة الواحدة لا تعارض الحالتين وهذا بخلاف العقد لأن هناك في حق كل امرأة حالتان إما حال صحة النكاح أو حال فساده والتعارض يقع بين الحالتين فلهذا يؤخذ بالاحتياط هناك وكذلك إذا علم أن بين الموتين شهرين وخمسة أيام فهنا حالتان إما العدة بالأشهر من الزوج أو بالحيض من المولى فلتعارض الحالتين أخذنا بالاحتياط.
قال: وكذلك لو كان الزوج طلقها تطليقة رجعية في هذه الوجوه لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح فهو وما تقدم سواء ولا ميراث لها من الزوج لأنه إن مات الزوج أولا فقد مات وهي أمة والأمة لا ترث من الحر شيئا وإن مات المولى أولا ترث والإرث بالشك لا يثبت وشرط ارثها منه أن تكون حرة عند موته فما لم يتيقن بذلك الشرط لا ترث منه.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته طلاق الرجعة ثم مات عنها بطلت عدة الطلاق عنها ولزمها عدة الوفاة لأن النكاح قائم بينهما بعد الطلاق الرجعي فكان منتهيا بالموت وانتهاء النكاح بالموت يلزمها عدة الوفاة ولأن العدة بعد الطلاق الرجعي بالحيض ليزول الملك بها وقد زال بالموت فعليها العدة التي هي من حقوق النكاح وهي عدة الوفاة وإن كانت بائنة

 

ج / 6 ص -33-         عنه في الصحة بوجه من الوجوه لم تنتقل عدتها إلى عدة الوفاة لأن النكاح ما انتهى بالوفاة هنا وهو السبب الموجب لعدة الوفاة لأن الله تعالى قال: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] وهذه ليست بزوجة له عند وفاته حتى لا ترث منه بالزوجية شيئا فلا يلزمها عدة الوفاة أيضا.
قال: وإذا أتى المرأة خبر وفاة زوجها بعد ما مضت مدة العدة فقد انقضت العدة لما قلنا أن المعتبر وقت موته لا وقت علمها به وإن شكت في وقت وفاته اعتدت من الوقت الذي تستيقن فيه بموته لأن العدة يؤخذ فيها بالاحتياط والاحتياط في أن يؤخذ باليقين وفي الوقت المشكوك فيه لا يقين فلهذا لا تعتد إلا من الوقت المتيقن.
قال: وطلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان تحت حر كانت أو تحت عبد وطلاق الحرة ثلاث تطليقات وعدتها ثلاث حيض تحت حر كانت أو تحت عبد وفي العدة اتفاق أن العبرة بحالها لا بحال الزوج لأنها هي المعتدة ألا ترى أنها تختلف بصغرها وكبرها وكونها حاملا أو حائلا فكذلك برقها وحريتها فأما الطلاق بالنساء أيضا عندنا وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما وعند الشافعي رحمه الله تعالى عدد الطلاق معتبر بحال الرجل في الرق والحرية وهو مذهب عمر وزيد رضي الله عنهما وابن عمر رضي الله عنه يعتبر بمن رق منهما حتى لا يملك عليها ثلاث تطليقات إلا إذا كانا حرين وحجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
"الطلاق بالرجال والعدة بالنساء" وفي رواية "يطلق العبد تطليقتين وتعتد الأمة بحيضتين" والمعنى فيه أن الزوج هو المالك للطلاق المتصرف فيه وثبوت الملك باعتبار حال المالك كملك اليمين ألا ترى أن ما يمنع إيقاع الطلاق وهو الصغر والجنون يعتبر وجوده في الرجل دون المرأة فكذلك ما يمنع ملك الطلاق ولأن في اعتبار عدد الطلاق اعتبار عدد النكاح لأن من يملك على امرأته ثلاث تطليقات يملك عليها ثلاث عقد ومن يملك عليها تطليقتين يملك عليها عقدتين والمعتبر حال الزوج في ملك العقد ألا ترى أن الحر يتزوج أربع نسوة والعبد لا يتزوج إلا اثنتين وأصحابنا رحمهم الله استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" فقد جمع بين الطلاق والعدة وما روي أن الطلاق بالرجال قيل إنه كلام زيد رضي الله تعالى عنه لا يثبت مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل معناه إيقاع الطلاق بالرجال وما روي يطلق العبد اثنتين فليس فيه أنه لا يطلق الثالثة أو معناه إذا كانت تحته أمة وإنما قاله بناء على ظاهر الحال واعتبار الكفاءة في النكاح ولأنه صلى الله عليه وسلم قابل الطلاق بالعدة والمقابلة تقتضي التسوية وبالاتفاق في العدة المعتبر حالها فكذلك في الطلاق ومن ملك على امرأته عددا من الطلاق يملك إيقاعه في أول أوقات السنة، وبهذا أفحم عيسى بن إبان الشافعي رضي الله عنه فقال أيها الفقيه إذا ملك الحر على امرأته الأمة ثلاث تطليقات كيف يطلقها في أوقات السنة فقال يوقع عليها واحدة فإذا حاضت وطهرت أوقع عليها أخرى فلما أن أراد أن يقول فإذا حاضت وطهرت قال حسبك فإن عدتها قد انقضت فلما تحير رجع فقال ليس في الجمع بدعة ولا في التفريق سنة ولأن الطلاق تصرف مملوك في

 

ج / 6 ص -34-         النكاح فيستوي فيه العبد والحر كالظهار والإيلاء وهذا لأن العبد يستبد بإيقاع الطلاق من غير أن يحتاج فيه إلى رضا المولى فيكون فيه مبقي على أصل الحرية كالإقرار بالقصاص وما يؤثر فيه الرق يخرج الرقيق من أن يكون أهلا لملكه كالمال ولما بقي أهلا لملك الطلاق عرفنا أن الرق لا يؤثر فيه ولا يدخل عليه النكاح لأن الرق يؤثر فيه ولكن ملك النكاح باعتبار الحل والحل يتنصف برقه فلهذا لا يتزوج إلا اثنتين وهذا لأن الحل نعمة وكرامة فيكون في حق الحر أزيد منه في حق العبد ألا ترى أن حل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتسع لتسع نسوة كرامة له بسبب النبوة فأما اعتبار عدد النكاح فلا معنى فيه لأن الإنسان يملك على امرأته من العقد ما لا يحصى حتى لو وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق مرارا كان له أن يتزوجها مرة بعد أخرى ما لم تحرم عليه ولو كان معتوها فهذا دليلنا لأن جميع ما يملكه الحر على النساء اثنتي عشرة عقدة فإنه يتزوج أربع نسوة ويملك على كل واحدة ثلاث عقد فينبغي أن يملك العبد نصف ذلك وذلك ست عقد بأن يتزوج حرتين فيملك على كل واحدة منهما ثلاث عقد كما هو مذهبنا فأما الصغر والجنون لا يؤثر في ملك الطلاق وإنما يؤثر في المتصرف والمتصرف هو الزوج ثم هو مقابل بصفة البدعة والسنة في الطلاق فإن المعتبر فيه حالها في الحيض والطهر لا حال الرجل.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض لم يعتد بتلك الحيضة من عدتها هكذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه وشريح وإبراهيم رحمهما الله تعالى وهذا لأن الحيضة الواحدة لا تتجزأ وما سبق الطلاق منها لم يكن محسوبا من العدة فيمنع ذلك الاحتساب بما بقي ولو احتسب بما بقي وجب إكمالها بالحيضة الرابعة لأن الاعتداد بثلاث حيض كوامل فإذا وجب جزء من الحيضة الرابعة وجب كلها.
قال: ولو اعتدت المرأة بحيضتين ثم أيست فعليها استئناف العدة بالشهور وقد بينا هذا وفيه اشكال فإن بناء البدل على الأصل يجوز كالمصلي إذا سبقه الحدث فلم يجد ماء يتيمم ويبني وإذا عجز عن الركوع والسجود يومئ ويبني ولكنا نقول الصلاة بالتيمم ليست ببدل عن الصلاة بالوضوء إنما البدلية في الطهارة ولا تكمل إحداهما بالأخرى قط وكذلك الصلاة بالإيماء ليست ببدل عن الصلاة بالركوع والسجود فأما العدة بالأشهر فهي بدل عن العدة بالحيض وإكمال البدل بالأصل غير ممكن ثم قال إذا أيست من الحيض فاعتدت شهرا أو شهرين ثم حاضت اعتدت بالحيض وهذا يجوز في العبادة فإنها بعد ما أيست لا تحيض وإنما كان ذلك معجزة لنبي من الأنبياء عليهم السلام ولكنها حين حاضت تبين أنها لم تكن آيسة وإنما كان ممتدة طهرها فلها تعتبر ما مضى من الحيض قبل أيامها إذا حاضت.
قال: وإذا ولدت المعتدة وفي بطنها ولد آخر لم تنقض عدتها حتى تلد الآخر هكذا نقل عن علي وابن عباس والشعبي رضي الله عنهم وهذا لأن الله تعالى قال:
{أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وذلك اسم لجميع ما في بطنها ولأن المقصود هو العلم بفراغ الرحم ولا يحصل ذلك ما لم تضع جميع ما في بطنها.

 

ج / 6 ص -35-         قال: وإذا تزوجت المرأة المعتدة من الطلاق برجل ودخل بها ففرق بينهما فعليها عدة واحدة من الأول والآخر ثلاث حيض وهو مذهبنا لأن العدتين إذا وجبتا يتداخلان وينقضيان بمضي مدة واحدة إذا كانتا من جنس واحد وهو قول معاذ بن جبل رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يتداخلان ولكنها تعتد بثلاث حيض من الأول ثم بثلاث حيض من الثاني فإن كانت العدتان من واحد بأن وطى ء معتدته بعد البينونة بالشبهة فلا شك عندنا أنهما ينقضيان بمدة واحدة وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى وفي القول الآخر يقول لا تجب العدة بسبب الثاني أصلا وحجته في ذلك أنهما حقان وجبا لمستحقين فلا يتداخلان كالمهرين ولأن العدة فرض كف لزمها في المدة ولا يجتمع الكفان في مدة واحدة كصومين في يوم واحد وهذا هو الحرف الذي يدور عليه الكلام فإن المعتبر عنده معنى العبادة في العدة لأنه كف عن الأزواج والخروج فتكون عبادة كالكف عن اقتضاء الشهوات في الصوم وأداء العبادتين في وقت واحد لا يتصور ولو جاز القول بالتداخل في العدة لكان الأولى إقراء عدة واحدة فينبغي أن يكتفي بقرء واحد لأن المقصود يحصل وهو العلم بفراغ الرحم وحجتنا في ذلك أن العدة مجرد أجل والآجال تنقضي بمدة واحدة في حق الواحد والجماعة كآجال الديون وبيانه أن الله سبحانه وتعالى سمى العدة أجلا فقال عز وجل: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وسماه تربصا والتربص هو الانتظار والانتظار يكون سبب الأجل كالانتظار في المطالبة بالدين إلى انقضاء الأجل ومن حيث المقصود في الأجل يحصل مقصود كل واحد من الغريمين بمدة واحدة وهنا مقصود كل واحد من صاحبي العدة يحصل بثلاث حيض وهو العلم بفراغ رحمها من مائة ثم معنى العبادة في العدة تبع لا مقصود وإنما ركن العدة حرمة الخروج والتزوج ألا ترى أن الله تعالى ذكر ركن العدة بعبارة النهي فقال تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ} وقال عز وجل: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] موجب النهي التحريم والحرمات تجتمع فإن الصيد حرام على المحرم في الحرم لحرمة الاحرام والحرم والخمر حرام على الصائم لصومه ولكونه خمرا وليمينه إذا حلف لا يشربها بخلاف ركن الصوم فإنه مذكور بعبارة الأمر قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فعرفنا أن الركن فيه الفعل ثم عدتها تنقضي وإن لم تعلم وتنقضي وإن لم تكف نفسها عن الخروج والبروز ولا يتصور أداء العبادة بدون ركنها ولأن بوطء الثاني قد لزمها العدة.
والشروع في العدة لا يتأخر عن حال تقرر عن سبب الوجوب وهذا لأنه لو امتنع شروعها فيه إنما يمتنع بسبب العدة الأولى والعدة الأولى أثر النكاح وأصل النكاح لا يمنع شروعها في العدة إذا تقرر سبب وجوبها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة فأثرها أولى أن لا يمنع ولأن هذه العدة لتبين فراغ الرحم وبمضي العدة الأولى يتيقن بفراغ الرحم فيستحيل أن يكون شروعها في العدة موقوفا على التيقن بفراغ الرحم ولا معنى لما ذكره من إقراء العدة الواحدة فإن الشهور في الأجل الواحد لا تتداخل والجلدات في الحد الواحد لا تتداخل

 

ج / 6 ص -36-         ويتداخل الحدان وهذا لأن الحيضة الواحدة لتعريف براءة الرحم والثانية لحرمة النكاح والثالثة لفضيلة الحرية فإذا قلنا بالتداخل في أقراء عدة واحدة يفوت هذا المقصود وفي الكتاب قال ألا ترى أنها لو كانت حاملا فوضعت حملها انقضت عدتها منهما أما إذا كانت حاملا من الأول فقد وجب عليها كل واحدة من العدتين وهي حامل وعدة الحامل تنقضي بوضع الحمل وإن حبلت من الثاني فلا بد من القول بسقوط الإقراء إذا حبلت والعدة بعد ما سقطت لا تعود فإن كانت حاضت من الأول حيضة ثم دخل بها الثاني فعليها ثلاث حيض حيضتان تمام العدة من الأول وابتداء العدة من الثاني والحيضة الثالثة لاكمال عدة الثاني حق لو تزوجها الثاني في هذه الحيضة جاز لأن عدتها منه لا تمنع نكاحها ولا يجوز أن يتزوجها غيره حتى تمضي هذه الحيضة وإن كان الأول طلقها تطليقة رجعية فله أن يراجعها في الحيضتين الأوليين لأن الرجعة استدامة النكاح وعدة الغير لا تمنعه من استدامة النكاح ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من الآخر وليس له أن يراجعها في الحيضة الثالثة لأنها بانت منه بانقضاء عدتها في حقه وليس له أن يتزوجها لأنها معتدة من غيره وكذلك إن طلقها تطليقة بائنة فليس له أن يتزوجها حتى تنقضي عدتها من الآخر كما ليس للآخر أن يتزوجها حتى تنقضي عدتها من الأول وعلى هذا لو كانت العدتان بالشهور.
قال: ولو تزوجت في عدة الوفاة ودخل الثاني بها ثم فرق بينهما فعليها بقية عدتها من الميت تمام أربعة أشهر وعشرا وعليها ثلاث حيض من الآخر ثم تحتسب بما حاضت بعد التفريق في الأربعة الأشهر وعشر من عدة الآخر ولا منافاة بين الشهور والحيض فتكون شارعة في العدتين تحتسب بالمدة من العدة الأولى وبما يوجد فيها من الحيض من العدة الثانية.
قال: وإذا مات الرجل وله امرأتان وقد طلق احداهما طلاقا بائنا ولا يعلم أيتهما هي فعلى كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا فيها ثلاث حيض احتياطا لأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون مطلقة وعليها العدة بالحيض ويحتمل أن تكون منكوحة وعليها عدة الوفاة وهذا بخلاف ما إذا قال لامرأته إن لم أدخل الدار اليوم فأنت طالق ثلاثا ثم مات بعد مضي اليوم ولا يدري أدخل أم لم يدخل فعليها عدة الوفاة وليس عليها العدة بالحيض لأن سبب وجوب العدة بالحيض الطلاق ووقوع الطلاق بوجود الشرط غير معلوم ولا معنى للاحتياط قبل ظهور السبب وهنا وقوع الطلاق معلوم إنما الجهالة في محله فلهذا ألزمنا كل واحدة منهما العدة بالحيض احتياطا.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته في مرضه ثلاثا أو واحدة بائنة ثم مات قبل انقضاء العدة ورثته بالفرار على ما تبين في بابه إن شاء الله تعالى وعليها من العدة أربعة أشهر وعشرا تستكمل فيها ثلاث حيض في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رضي الله عنه ليس عليها عدة الوفاة لأنا حكمنا بانقطاع النكاح بينهما بالطلاق وسبب وجوب عدة الوفاة انتهاء النكاح بالموت فإذا لم يوجد لا يلزمها عدة الوفاة كما لو كان الطلاق في صحته وإنما أخذت الميراث بحكم الفرار وذلك لا يلزمها عدة الوفاة ألا ترى أن المرتد

 

ج / 6 ص -37-         إذا مات أو قتل على ردته ترثه زوجته المسلمة وليس عليها عدة الوفاة لأن زوال النكاح كان بردته لا بموته وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا أخذت ميراث الزوجات بالوفاة فيلزمها عدة الوفاة كما لو طلقها تطليقة رجعية وهذا لأنا إنما أعطيناها الميراث باعتبار أن النكاح بمنزلة القائم بينهما حكما إلى وقت موته أو باعتبار إقامة العدة مقام أصل النكاح حكما إذ لا بد من قيام السبب عند الموت لاستحقاق الميراث والميراث لا يثبت بالشك والعدة تجب بالشك فإذا جعل في حكم الميراث النكاح كالمنتهي بالموت حكما ففي حكم العدة أولى وسبب وجوب العدة عليها بالحيض متقرر حكما فألزمناها الجمع بينهما وأما امرأة المرتد فقد أشار الكرخي في كتابه إلى أنه لا يلزمها عدة الوفاة ولئن سلمنا فنقول هناك ما استحقت الميراث بالوفاة لأن عند الوفاة هي مسلمة والمسلمة لا ترث من الكافر ولكن يستند استحقاق الميراث إلى وقت الردة وبذلك السبب لزمها العدة بالحيض ولا يلزمها عدة الوفاة وهنا استحقاق الميراث عند الموت لا عند الطلاق فعرفنا أن النكاح قائم بينهما إلى وقت الوفاة.
قال: وإذا ولدت المرأة في طلاق بائن لأكثر من سنتين من يوم طلقها لم يكن الولد للزوج إذا أنكره وهذه المسألة تنبني على معرفة أقل مدة الحبل وأكثرها فأقل مدة الحبل ستة أشهر لما روي أن رجلا تزوج امرأة فولدت ولدا لستة أشهر فهم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن يرجمها فقال ابن عباس رضي الله عنه أما إنها لو خاصمتكم بكتاب الله تعالى لخصمتكم قال الله تعالى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] وقال عز وجل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فإذا ذهب للفصال عامان لم يبق للحبل إلا ستة أشهر فدرأ عثمان رضي الله عنه الحد وأثبت النسب من الزوج وهكذا روي عن علي رضي الله عنه ولأنه ثبت بالنص أن الولد تنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر كما ذكره في حديث ابن مسعود رضي الله عنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه الحديث الخ وبعد ما تنفخ فيه الروح يتم خلقه بشهرين فيتحقق الفصال لستة أشهر مستوى الخلق فأما أكثر مدة الحبل سنتان عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى أربع سنين لما روي أن رجلا غاب عن امرأته سنتين ثم قدم وهي حامل فهم عمر رضي الله عنه برجمها فقال معاذ رضي الله عنه إن يك لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فتركها حتى ولدت ولدا قد نبتت ثنيتاه يشبه أباه فلما رآه الرجل قال ابني ورب الكعبة فقال عمر رضي الله عنه أتعجز النساء أن يلدن مثل معاذ لولا معاذ لهلك عمر رضي الله عنه فقد وضعت هذا الولد لأكثر من سنتين ثم أثبت نسبه من الزوج وقيل إن الضحاك ولدته أمه لأربع سنين وولدته بعد ما نبتت ثنيتاه وهو يضحك فسمي ضحاكا وعبد العزيز الماجشوني رضي الله عنه ولدته أمه لأربع سنين وهذه عادة معروفة في نساء ماجشون رضي الله عنهم أنهن يلدن لأربع سنين
ولنا حديث عائشة رضي الله عنها قالت لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين ولو بفلكة مغزل ومثل هذا لا يعرف بالرأي فإنما قالته سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الأحكام تنبني على العادة الظاهرة وبقاء الولد

 

ج / 6 ص -38-         في بطن أمه أكثر من سنتين في غاية الندرة فلا يجوز بناء الحكم عليه مع أنه لا أصل لما يحكى في هذا الباب فإن الضحاك وعبد العزيز ما كانا يعرفان ذلك من أنفسهما وكذلك غيرهما كان لا يعرف ذلك لأن ما في الرحم لا يعلمه إلا الله تعالى ولا حجة في حديث عمر رضي الله تعالى عنه لأنه إنما أثبت النسب بالفراش القائم بينهما في الحال أو بإقرار الزوج وبه نقول ويحتمل أن معنى قوله أنه غاب عن امرأته سنتين أي قريبا من سنتين إذا عرفنا هذا فنقول متى كان الحل قائما بين الزوجين يستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهو ستة أشهر إلا أن يكون فيه إثبات الرجعة بالشك أو إيقاع الطلاق بالشك فحينئذ يستند العلوق إلى أبعد الأوقات فإن الطلاق والرجعة لا يحكم بهما بالشك ومتى لم يكن الحل قائما بينهما يستند العلوق إلى أبعد الأوقات للحاجة إلى إثبات النسب وهو مبني على الاحتياط.
قال: وإذا تزوج الرجل امرأة فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت النكاح يثبت نسبه من الزوج لأنها ولدته على فراشه لمدة حبل تام من وقت النكاح.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته بعد ما دخل بها ثم جاءت بولد فإن كان الطلاق رجعيا فجاءت بولد لاقل من سنتين من وقت الطلاق يثبت النسب منه ولا يصير مراجعا لها بل يحكم بانقضاء عدتها لأنا نسند العلوق إلى أبعد الأوقات وهو ما قبل الطلاق فإنا لو أسندناه إلى أقرب الأوقات صار مراجعا لها والرجعة لا تثبت بالشك وإن جاءت به لأكثر من سنتين ولم تقر بانقضاء العدة ثبت النسب منه ويصير مراجعا لها لأن حمل أمرها على الصلاح واجب ما أمكن فلو جعلنا كأن الزوج وطئها في العدة فحبلت كان فيه حمل أمرها على الصلاح ولو جعلنا كان غيره وطئها كان فيه حمل أمرها على الفساد فأما إذا كان الطلاق بائنا فإن جاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الطلاق ثبت نسبه منه باعتبار اسناد العلوق إلى ما قبل الطلاق لأن ذلك ممكن وفيه حمل أمرها على الصلاح وإن جاءت به لأكثر من سنتين لا يثبت النسب من الزوج لأنا تيقنا أن العلوق كان بعد الطلاق وسواء جعلناه من الزوج أو من غيره ففيه حمل أمرها على الفساد فيجعل من غيره لأنا إذا جعلناه من الزوج كان فيه حمل أمر الزوج على الفساد وهو أنه أقدم على الوطء الحرام وذلك لا يجوز من غير دليل وثبوت فراشه القائم بسبب العدة لا يثبت نسب الولد كفراش الصبي على امرأته ثم يلزمها أن ترد نفقة ستة أشهر في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو رواية بشر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى والظاهر من قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يلزمها رد شيء من النفقة وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لم يظهر انقضاء عدتها قبل الولادة فلا يلزمها رد شيء من النفقة كما لو ولدت لأقل من سنتين وهذا لأنها ما دامت معتدة فهي مستحقة للنفقة وما لم يظهر سبب الانقضاء فهي معتدة ولم يظهر للانقضاء هنا سبب سوى الولادة ولو جعلناها كأنها وطئت بشبهة في العدة لم تسقط نفقتها وإن جعلناها كأنها تزوجت بعد انقضاء العدة بزوج آخر كان فيه حمل أمرها على الفساد من وجه وهو أنها أخذت مالا بغير

 

ج / 6 ص -39-         حق من زوجها مع أن فيه حكما بنكاح لم يعرف سببه وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا حمل أمرها على الصلاح واجب ما أمكن فلو جعلنا هذا الولد من علوق في العدة كان فيه حمل أمرها على الزنى ولو جعلنا كأن عدتها قد انقضت وتزوجت بزوج آخر وعلقت منه كان فيه حمل أمرها على الصلاح فتعين هذا الجانب ثم تزويجها نفسها بمنزلة إقرارها بانقضاء عدتها أو أقوى فتبين أنها أخذت النفقة بعد انقضاء عدتها فعليها ردها وهذا اليقين في مقدار ستة أشهر أدنى مدة الحمل ولا يلزمها الرد إلا باليقين ولا معنى لما قال أن في ذلك حمل أمرها على الفساد وهو أخذ المال بغير حق لأن حرمة المال دون الزنى فإن المال بذله يباح بالإذن ولا يسقط إحصانها بالأخذ بغير حق وبالزنا يسقط إحصانها ومن ابتلي ببليتين يختار أهونهما ولئن جعلناها كأنها وطئت بالشبهة في العدة فكذلك تسقط نفقتها أيضا لأنه بمعنى النشوز منها حين جعلت رحمها مشغولا بماء غير الزوج ومقصود الزوج من العدة صيانة رحمها فإذا فوتت ذلك كان أعظم من نشوزها وهروبها من بيت العدة فإذا سقطت نفقتها تبين أنها أخذت بغير حق فلزمها الرد.
قال: رجل قال لامرأته كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدين في بطن واحد كانت طالقا بالولد الأول لوجود شرط الطلاق وهو ولادة الولد ثم تصير معتدة فلما وضعت الولد الثاني حكمنا بانقضاء عدتها لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها والولد الذي تنقضي به العدة لا يقع به طلاق لأن أوان وقوع الطلاق ما بعد وجود الشرط وبعد وضع الولد الثاني هي ليست في نكاحه ولا في عدته ولو ولدت ثلاثة أولاد في بطن واحد وقعت عليها تطليقتان لأن كلمة كلما تقتضي تكرر نزول الجزء بتكرر الشرط وبولادة الولد الثاني تكرر الشرط ولا تنقضي به العدة لأن في بطنها ولدا آخر فيقع عليها تطليقة أخرى ثم بوضع الولد الثالث تنقضي عدتها ولا يقع شيء ولو كان كل ولد في بطن على حدة فإن كان بين كل ولدين ستة أشهر حتى يعلم أنهما ليسا بتوأمين تطلق ثلاثا وعليها ثلاث حيض لأن بولادة الولد الأول وقعت عليها تطليقة فلما ولدت الولد الثاني لستة أشهر فصاعدا عرفنا أنه من علوق حادث ويجعل ذلك من الزوج حملا لأمرها على الصلاح فصار مراجعا لها ثم وقع عليها تطليقة ثانية لوجود الشرط وهو ولادة الولد الثاني وكذلك حين وضعت الولد الثالث وقعت عليها تطليقة ثالثة لوجود الشرط بعد ما صار مراجعا لها فصارت مطلقة ثلاثا وعليها العدة بثلاث حيض.
قال: ولو أن رجلا مات عن امرأته فجاءت بولد لأقل من سنتين فإن كانت أقرت بانقضاء عدتها بمضي أربعة أشهر وعشرا ثم جاءت بولد بعد ذلك لستة أشهر فصاعدا لم يثبت نسبه من الزوج لأنه من علوق حادث بعد اقرارها بانقضاء العدة وحمل كلامها على الصحة واجب ما أمكن وإن كانت ادعت حبلا وولدت لأقل من سنتين يثبت النسب من الزوج لأن إسناد العلوق إلى حالة حياته ممكن وفيه حمل أمرها على الصلاح والصحة ولو لم تدع حبلا ولم تقر بانقضاء العدة حتى جاءت بالولد لأقل من سنتين عندنا يثبت النسب منه

 

ج / 6 ص -40-         وعلى قول زفر إذا جاءت به لتمام عشرة أشهر وعشرة أيام من حين مات الزوج لم يثبت النسب منه لأنه لما لم يكن الحبل ظاهرا فقد حكمنا بانقضاء عدتها بمضي أربعة أشهر وعشرا بالنص وذلك أقوى من اقرارها بانقضاء العدة ولو أقرت بذلك ثم جاءت بولد لمدة حبل تام لم يثبت النسب منه فكذلك هنا ولكنا نقول انقضاء عدتها بمضي أربعة أشهر وعشرا معلق بشرط وهو أن لا تكون حاملا فإن آية الحبل قاضية على آية التربص على ما بينا وهذا الشرط لا يوقف عليه إلا من جهتها فما لم تقر بانقضاء العدة لا يحكم بانقضائها وإنما جاءت بالولد لمدة يتوهم أن يكون العلوق قبل موت الزوج فيثبت نسبه منه كما لو ادعت حبلا ثم إنما يثبت النسب منه إذا كانت ولادتها معاينة أو أقر بها الورثة فأما إذا جحدوا ذلك لم يثبت النسب منه إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يثبت النسب بشهادة امرأة واحدة وهي القابلة وحجتهما في ذلك أن الولادة مما لا يطلع عليها الرجال وشهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة تامة فكانت شهادة القابلة فيه حجة تامة ألا ترى أنه لو كان هناك حبل ظاهر أو فراش قائم أو إقرار من الزوج بالحبل تثبت الولادة بشهادة امرأة واحدة فكذلك هنا وهذا لأن النسب والميراث لا يثبت بهذه الشهادة وإنما تثبت ولادتها هذا الولد ثم ثبوت النسب والميراث باعتبار أن العلوق به كان في حال قيام النكاح
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان:
أحدهما: ما أشار إليه في الكتاب فقال من قبل أنه يرث ومعنى هذا الكلام أن ثبوت الميراث معلق بالنسب والموت والحكم المعلق بعلة ذات وصفين يحال به على آخر الوصفين وجودا ولهذا لو رجع شهود النسب وقد شهدوا به بعد الموت ضمنوا الميراث وآخر الوصفين هنا النسب فكانت هذه الشهادة قائمة على تمام علة الإرث والميراث لا يثبت بشهادة امرأة واحدة ولأنها أجنبية للحال لأنا نتيقن بانقضاء عدتها ونسب ولد الأجنبية لا يثبت من الأجنبي بشهادة امرأة واحدة كما لو لم يكن النكاح بينهما ظاهرا بخلاف ما إذا كان الفراش قائما فإن ثبوت النسب هناك باعتبار الفراش وإنما تظهر الولادة بالشهادة وكذلك إن أقر الزوج بالحبل فثبوت النسب هناك باقراره وكذلك إن كان هناك حبل ظاهر فثبوت النسب بظهور الحبل في حال قيام الفراش وإنما تظهر الولادة بالشهادة فقط ولذلك إذا أقر الزوج بالحبل فثبوت النسب هناك باقراره وهنا لا سبب للنسب سوى الشهادة ولا يثبت النسب بشهادة امرأة واحدة توضيحه إن شهادة المرأة الواحدة حجة ضعيفة لأن شهادة المرأة الواحدة ليست بشهادة أصلا ولهذا لو شهد رجلان وامرأة واحدة بالمال ثم رجعوا لم تضمن المرأة شيئا وإنما جعلت حجة في الولادة للضرورة فكانت ضعيفة في نفسها والضعيف ما لم يتأيد بمؤيد لا يجوز فصل الحكم به كشهادة النساء في المال والمؤيد الفراش أو الحبل الظاهر أو إقرار الزوج بالحبل فإن تأيدت شهادتها ببعض هذه الأسباب وجب الحكم بها وإلا فلا ولو أقرت بانقضاء العدة ثم ولدت لأقل من ستة أشهر ثبت النسب منه لأنا تيقنا أنها أبطلت فيما قالت

 

ج / 6 ص -41-         فإنها أقرت بانقضاء العدة بالشهور وقد تبين أنها كانت حاملا يومئذ فكان إقرارها باطلا.
قال: ولو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا أو تطليقة بائنة ثم جاءت بالولد بعد الطلاق لسنتين أو أقل وشهدت امرأة على الولادة والزوج ينكر الولادة والحبل لم يلزمه النسب في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان ويلزمه النسب في قولهما بشهادة امرأة واحدة وهذا والأول سواء لأنها للحال أجنبية منه في الوجهين ويستوي إن كانت هذه المعتدة مسلمة أو كافرة أو أمة في هذا الحكم لأن بقاء الولد في البطن لا يختلف بهذه الأوصاف.
قال: ولو كانت المرأة عند زوجها لم يطلقها فجاءت بولد وأنكر الزوج الحبل قبلت شهادة امرأة واحدة حرة مسلمة على الولادة ويثبت النسب عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقبل إلا شهادة أربع نسوة لأن الأصل في الشهادة أن الحجة لا تتم إلا بشهادة رجلين والمرأتان تقومان مقام رجل واحد في باب الشهادة بالنص حتى أن المال لا يثبت إلا شهادة رجل وامرأتين وقد تعذر اعتبار صفة الذكورة فيما لا يطلع عليه الرجال فسقط للضرورة وبقي ما سواه على الأصل فيشترط شهادة الأربع ليكون ذلك في معنى شهادة رجلين ودليل كونه شهادة اعتبار الحرية ولفظ الشهادة فيها ولا معنى لقول من يقول إباحة النظر لأجل الضرورة فإذا ارتفعت الضرورة بالمرأة الواحدة لا يحل للثانية النظر لأنكم وإن قلتم أنه يكتفي بالواحدة تقولون المثنى أحوط وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا بد من شهادة امرأتين لأن المعتبر في الشهادة العدد والذكورة وقد سقط اعتبار صفة الذكورة للتعذر هنا فيبقى العدد على ظاهره
وأصحابنا رحمهم الله تعالى استدلوا بحديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة على الولادة وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه" والنساء اسم جنس يتناول الواحدة وما زاد والمعنى فيه أن هذا خبر لا يعتبر فيه صفة الذكورة فلا يعتبر فيه العدد كرواية الأخبار وهذا لأن النظر إلى الفرج حرام فلا يحل إلا عند تحقق الضرورة وعند الضرورة نظر الجنس أهون من نظر الذكور ولما سقطت صفة الذكورة لهذا المعنى سقط أيضا اعتبار العدد لأن نظر الواحد أهون من نظر الجماعة ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية لأن نظر الأمة والحرة سواء والذي يقول أن المثنى أحوط فذلك لا يوجب حل نظر الثانية ولكن إن اتفق ذلك كان أحوط فأما من يشترط العدد يوجب نظر الجماعة ونظر الواحدة أهون ثم هذا خبر من وجه شهادة من وجه لاختصاصها بمجلس الحكم وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما فلاعتباره بالشهادة تعتبر فيه الحرية ولفظة الشهادة ولاعتباره بالخبر لا يعتبر فيه الذكورة والعدد فإذا ثبت ما قلنا فإنما يثبت بشهادتها الولادة وما هو من ضرورة الولادة وهو عين الولد ثم النسب إنما يثبت باعتبار الفراش القائم بمنزلة ما لو أقر الزوج بولادتها وقال ليس الولد مني يثبت النسب بالفراش القائم ولا ينتفي إلا باللعان.
قال: وإذا أقرت المطلقة بانقضاء عدتها بالحيض في مدة يحيض فيه مثلها ثلاث حيض ثم جاءت بالولد فإذا جاءت به لأقل من ستة أشهر ثبت النسب لتيقننا بكذبها فيما قالت وإن

 

ج / 6 ص -42-         جاءت به لأكثر من ستة أشهر من وقت اقرارها لم يثبت النسب عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يثبت النسب منه ما لم تتزوج ثم تأتي به لستة أشهر لأن ثبوت النسب لحق الولد وقولها في إبطال حقه غير مقبول فكان وجود إقرارها كعدمه بخلاف ما إذا تزوجت لأن الحق في النسب هناك ثبت للزوج الثاني فينتفي من الأول ضرورة وحجتنا في ذلك أنها أمينة في الإخبار بما في رحمها فإذا أخبرت بانقضاء عدتها وهو ممكن وجب قبول خبرها ثم إذا جاءت بالولد بعد ظهور انقضاء عدتها بمدة حبل تام فلا يثبت النسب منه كما لو تزوجت وهذا لأن حمل كلامها على الصحة واجب ما أمكن.
قال: ولو طلق امرأته ولم يدخل بها ولم يخل بها ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر لزمه لأنا تيقنا أن العلوق به كان قبل الطلاق وحمل أمرها على الصحة واجب ما أمكن فيجعل هذا العلوق من الزوج ويتبين لنا أنه طلقها بعد الدخول وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لم يلزمه لأن النكاح بالطلاق ارتفع لا إلى عدة وإنما جاءت بالولد لمدة حبل تام بعده وإن كان الطلاق بعد الخلوة لزمه الولد إلى سنتين لأن النكاح بالطلاق قد ارتفع إلى عدة ولما جعلنا الخلوة بمنزلة الدخول في إيجاب العدة فكذلك فيما ينبني عليه وهو ثبوت نسب الولد.
قال: وإذا طلقها وعدتها بالشهور لإياسها من الحيض فاعتدت بثلاثة أشهر ثم جاءت بولد لسنتين أو أقل من وقت الطلاق فإن النسب يثبت من الزوج سواء أقرت بانقضاء العدة أو لم تقر لأنها إنما أقرت بانقضاء العدة بالشهور ولما ولدت فقد تبين أنها غلطت فيما قالت لأن الآيسة لا تلد وإنما كانت هي ممتدة طهرها لا آيسة فلا تكون عدتها منقضية بالشهور فلهذا ثبت النسب منه.
قال: وإن كانت صغيرة فطلقها زوجها بعد ما دخل بها فإن ادعت حبلا فذلك إقرار منها بأنها بالغة وقولها في ذلك مقبول فكانت هي كالكبيرة في نسب ولدها وإن أقرت بانقضاء العدة بعد ثلاثة أشهر ثم جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر لم يثبت النسب منه لأنا حكمنا بانقضاء عدتها فإنها إن كانت صغيرة تنقضي عدتها بثلاثة أشهر بالنص وإن كانت كبيرة تنقضي عدتها بإقرارها وإن جاءت بالولد لمدة حبل تام بعده فأما إذا لم تقر بانقضاء العدة ولم تدع حبلا ففي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إن جاءت به لأقل من تسعة أشهر منذ طلقها يثبت النسب وإلا فلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن جاءت به لأقل من سنتين منذ طلقها ثبت النسب منه في الطلاق البائن وفي الطلاق الرجعي إن جاءت به لأقل من سبعة وعشرين شهرا ثبت النسب منه وإن كانت جاءت به لأكثر من ذلك لا يثبت النسب وحجته في ذلك أن الحبل في المراهقة موهوم والحكم بانقضاء عدتها بالشهور شرطه أن لا تكون حاملا وذلك لا يعلم إلا بقولها كما قررناه في عدة الوفاة في حق الكبيرة وإذا جاءت بالولد لأقل من سنتين ولم تقر بانقضاء العدة فيحتمل أن يكون هذا من علوق قبل الطلاق وهذا الاحتمال يكفي للنسب وفي الطلاق الرجعي إذا جاءت به لأقل من سبعة وعشرين شهرا فيحتمل أن يكون هذا من علوق كان في العدة وهو مثبت للنسب من الزوج وموجب للحكم

 

ج / 6 ص -43-         بأنه كان مراجعا لها وهما يقولان عرفناها صغيرة وما عرف ثبوته بيقين لا يحكم بزواله بالاحتمال وصفة الصغر منافية للحبل فإذا بقي فيها صفة الصغر حكم بانقضاء عدتها بثلاثة أشهر بالنص فكان ذلك أقوى من إقرارها بانقضاء العدة فإذا جاءت بالولد لمدة حبل تام بعده لا يثبت النسب بخلاف المرأة الكبيرة فإنه ليس فيها ما ينافي الحبل فلا يحكم بانقضاء عدتها بمضي المدة إلا إذا لم تكن حاملا ولا يقال الأصل عدم الحبل لأن هذا في غير المنكوحة فأما النكاح لا يعقد إلا للأحبال وعلى هذا الصغيرة إذا توفي عنها زوجها فإن أقرت بانقضاء العدة بعد أربعة أشهر وعشر ثم جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا لم يثبت النسب منه فإن ادعت حبلا ثم جاءت بالولد لأقل من سنتين يثبت النسب فإن لم تقر بانقضاء العدة ولم تدع حبلا فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إذا جاءت بالولد لأقل من عشرة أشهر وعشرة أيام يثبت النسب منه وإلا فلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن جاءت بولد لأقل من سنتين منذ مات الزوج يثبت النسب منه وهذا والأول سواء.
قال: وإذا تزوجت المرأة في عدتها من طلاق بائن ودخل بها الزوج فجاءت بولد لأقل من سنتين من يوم طلقها الأول ولستة أشهر أو أكثر منذ تزوجها الثاني فالولد للأول لأن نكاح الثاني فاسد والفاسد من الفراش لا يعارض الصحيح في حكم النسب فكان الولد لصاحب الفراش الصحيح فإذا جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول ولأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الآخر لم نلزمه الأول ولا الآخر لأنا تيقنا أن العلوق به كان بعد الطلاق من الأول فلا يثبت النسب منه وتيقنا أنه كان قبل عقد الثاني لأن أدنى مدة الحبل ستة أشهر وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول ولستة أشهر منذ تزوجها الآخر ودخل بها فهو للآخر فإنه لا مزاحمة للأول هنا في النسب لأنا تيقنا أن العلوق به كان بعد طلاقه فبقي الحكم للآخر وقد جاءت به لمدة حبل تام بعد ما دخل بها الثاني بالعقد الفاسد فثبت النسب منه.
قال: وإذا مات الصبي عن امرأته فظهر بها حبل بعد موته فإن عدتها أربعة أشهر وعشر ولا ينظر إلى الحبل لأنه من زنا حادث بعد موته فلا يغير حكم العدة الواجبة وقد وجب عليها التربص بأربعة أشهر وعشر عند الموت وزعم بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أن في امرأة الكبير إذا حدث الولد بعد الموت يكون انقضاء العدة بالوضع وليس كذلك بل الجواب في الفصلين واحد ومتى كان الحبل حادثا بعد الموت كان من زنا فلا يتغير به حكم العدة وإنما الفرق في امرأة الكبير إذا جاءت بالولد لأقل من سنتين تنقضي عدتها به لأنه يستند العلوق إلى ما قبل الموت حتى يحكم بثبوت النسب فيتبين به أن الحبل ليس بحادث بعد الموت وفي امرأة الصغير لا يستند العلوق إلى ما قبل الموت وإنما يستند إلى أقرب الأوقات لأن النسب لا يثبت منه وإذا لم يكن الحبل ظاهرا وقت الموت وإنما ظهر بعد الموت يجعل هذا حبلا حادثا
فأما إذا كانت حبلى عند موت الصبي فعدتها أن تضع حملها استحسانا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى

 

ج / 6 ص -44-         أن عدتها بالشهور وهو القياس وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى ووجهه أنا نتيقن أن هذا الحبل من زنا فلا يتقدر انقضاء العدة به كما لو ظهر بعد موته وهذا لأن اعتبار وضع الحمل في العدة لحرمة الماء وصيانته ولا حرمة لماء الزاني ولأنا نتيقن بفراغ رحمها من ماء الزوج عند موته فعليها العدة بالشهور حقا لنكاحه كما لو لم يكن بها حبل ولكنا استحسنا لظاهر قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ} [الطلاق: 4] وقد ذكرنا أنها قاضية على آية التربص لأنها نزلت بعدها وعموم هذه الآية يوجب أن لا تجب العدة على الحامل إلا بوضع الحمل وهو المعنى أنه قد لزمتها العدة وهي حامل فيتقدر انقضاء العدة بالوضع كامرأة الكبير وهذا لأن العدة في الأصل مشروعة لتعرف براءة الرحم وحقيقة ذلك بوضع الحمل وذلك موجود في جانبها هنا وإنما انعدم اشتغال رحمها بماء الزوج وليس الشرط فيما تنقضي به العدة أن يكون من الزوج كالشهور والحيض وكما لو نفى حبل امرأته وفرق القاضي بينهما باللعان وحكم أن الولد ليس منه تنقضي عدتها بوضعه والدليل الحكمي كالدليل المتيقن به بخلاف ما إذا لم يكن الحبل ظاهرا عند الموت لأنا حكمنا بفراغ رحمها عند ذلك حملا لأمرها على الصلاح وألزمناها العدة بالشهور حقا للنكاح فلا يتغير ذلك بحدوث الحبل من زنا بعده.
قال: والخصي كالصحيح في الولد والعدة لأن فراشه كفراش الصحيح وهو يصلح أن يكون والدا والوطء منه يتأتى مع أنه لا معتبر بالوطء في حكم النسب حتى لا يشترط التمكن من الوطء لإثبات النسب بخلاف الصبي فإنه لا يصلح أن يكون والدا وبدون الصلاحية لا تعمل العلة.
قال: وكذلك المجبوب إذا كان ينزل لأنه يصلح أن يكون والدا والإعلاق بالسحق منهم متوهم وزاد في رواية أبي حفص رحمه الله تعالى وإن كان لا ينزل لم يلزمه الولد لأنه إذا جف ماؤه فهو بمنزلة الصبي أو دونه لأن في حق الصبي ينعدم الماء في الحال إلى توهم ظهوره في الثاني عادة وفي حق هذا ينعدم الماء لا إلى توهم الظهور في الثاني فإذا كان هناك تنعدم الصلاحية فهنا أولى.
قال: ولا يكون طلاق الصبي طلاقا حتى يبلغ لقول علي وابن مسعود وابن عمر رضوان الله تعالى عليهم كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه وقد روي ذلك مرفوعا ثم بلوغه إما أن يكون بالعلامة أو بالسن والعلامة في ذلك الإنزال بالاحتلام والإحبال وفي حق الجارية بالاحتلام والحبل والحيض قالوا وأدنى المدة في حق الغلام اثنا عشر سنة وفي حق الجارية تسع سنين وقد بينا هذا في كتاب الحيض وأما بلوغهما بالسن فقدر أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الجارية بسبع عشرة سنة وفي الغلام بتسع عشرة سنة وفي كتاب الوكالة ذكر في الغلام ثمان عشرة سنة في موضع وفي موضع تسع عشرة سنة من أصحابنا من وفق فقال المراد أن يتم له ثمان عشرة سنة ويطعن في التاسع عشرة ولكن ذكر في نسخ أبي سليمان في كتاب الوكالة حتى يستكمل تسع عشرة سنة ففيه روايتان إذن وعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى في الغلام والجارية يتقدر بخمس عشرة سنة لحديث

 

ج / 6 ص -45-         ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا بن خمس عشرة سنة فأجازني ولما سمع عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه هذا الحديث قال هذا هو الفصل بين البالغ وغير البالغ وكتب به إلى أمراء الأجناد والمعنى فيه أن العادة الظاهرة أن البلوغ لا يتأخر عن هذه المدة وقد بينا أن الحكم يبني على الظاهر دون النادر وأبو حنيفة يقول صفة الصغر فيهما معلومة بيقين فلا يحكم بزوالها إلا بيقين مثله ولا يقين في موضع الاختلاف ثم أدنى المدة لبلوغ الغلام اثنا عشر سنة وقد وجب زيادة المدة على ذلك فإنما يزاد سبع سنين اعتبارا بأول أمره كما أشار إليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم: "مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا" وبين أهل التفسير اختلاف في تفسير الأشد ولم يقل أحد بأقل من ثمان عشرة سنة في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: 22] فوجب تقدير مدة البلوغ به ولكن الأنثى أسرع نشوا اعادة فينقص في حقها سنة فتكون التقدير بسبع عشرة سنة ولا حجة في حديث ابن عمر رضي الله عنه لأنه ما أجازه باعتبار أنه حكم ببلوغه بل لأنه رآه قويا صالحا للقتال وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيز من الصبيان من كان صالحا للقتال على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم عرض عليه صبي فرده فقيل إنه رام فأجازه وعرض عليه صبيان فأجاز أحدهما ورد الآخر فقال المردود يا رسول الله أجزته ورددتني ولو صارعته لصرعته فصارعه فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ولا يجوز طلاق المجنون وإن مات عن امرأته كان في حكم العدة والولد بمنزلة الصحيح لأن المجنون يجامع ويحبل وقد ثبت الفراش له بحكم النكاح وهو يصلح أن يكون والدا.
قال: وإذا مات عن أم ولده أو أعتقها فعدتها ثلاث حيض فإن كانت لا تحيض من إياس فعدتها ثلاثة أشهر وقد بينا هذا في كتاب النكاح وكذلك لو كانت حرمت عليه قبل موته بوجه من الوجوه فعليها منه العدة لأنها فراشه بعد ما حرمت عليه حتى لو ادعى نسب ولدها ثبت منه وإنما لا يثبت بدون الدعوة لما فيه من اساءة الظن به والحكم باقدامه على الوطء الحرام فيتحقق زوال الفراش إليها بالعتق وهذا بخلاف ما إذا زوجها من غيره ثم مات المولى أو أعتقها لأن هناك قد اعترض على فراشه فراش الزوج وفراش النكاح أقوى من فراش الملك فينعدم الضعيف بالقوي وإذا انعدم لم يتقرر بالعتق سبب وجوب العدة وهو زوال فراشه إليها وكذلك لو كانت في عدة من زوج ألا ترى أن النسب لا يثبت من المولى وإن ادعاه فعرفنا أنها لم تبق فراشا له أصلا.
قال: ولو مات عن أم ولده أو أعتقها فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه لتوهم أن يكون العلوق به قبل الموت وهذا لأن الفراش زال بالعتق إلى عدة وهو نظير فراش النكاح في أنه يستند العلوق إلى أبعد الأوقات ولكن لو نفاه المولى لا ينتفي بخلاف ما قبل العتق لأن الفراش بالعتق يتقوى حتى لا يملك نقله إلى غيره بالتزويج فيلزمه نسب الولد على وجه لا يملك نفيه وقبل العتق كان يملك نقل فراشها إلى غيره بالتزويج فكذلك يملك نفي نسب

 

ج / 6 ص -46-         الولد لأن ثبوت الحكم بحسب السبب فإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ أعتقها لم يلزمه إلا أن يدعيه لأنا تيقنا أن العلوق كان بعد العتق فإن ادعاه ثبت النسب منه لأنهما تصادقا على أن الولد منه والحق لهما وما تصادقا عليه محتمل لجواز أن تكون زوجت نفسها منه في عدتها.
قال: رجل توفي عن امرأته وهي مملوكة فأقرت بانقضاء عدتها بعد شهرين وخمسة أيام ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ يوم أقرت لم يلزم الزوج لأن الشهرين وخمسة أيام في حقها كأربعة أشهر وعشر في حق الحرة وإقرارها بانقضاء العدة بعد ذلك معتبر ما لم يتبين كذبها فكذلك هنا وإن لم تقر بانقضاء العدة لزمه الولد إلى سنتين لأنا نسند العلوق إلى أبعد أوقات الإمكان في حقها لإثبات نسب ولدها من الزوج كما في الحرة.
قال: وإن أعتق أم ولده وهي حامل أو مات عنها فعدتها بوضع الحمل لما بينا أن العدة لزمتها وهي حامل فيتقدر انقضاؤها بوضع الحمل كما في عدة النكاح بل أولى لأن معنى تبين فراغ الرحم هو المعتبر هنا لا غير.
قال: ولو مات عن أمة كان يطأها أو عن مدبرة كان يطأها فلا عدة عليها وكذلك إن أعتقها لأن الفراش لا يثبت إلا بالوطء في ملك اليمين وهو معروف في كتاب الدعوى وبدون الفراش لا تجب العدة وفي الكتاب يقول ألا ترى أنه لو باعها بعد ما وطئها لم تلزمها العدة والاستبراء الواجب على المشتري ليس بعدة لأن العدة تجب عليها والاستبراء يجب على المشتري.
قال: ولو زوجها المشتري قبل أن يستبرئها جاز ووجوب الاستبراء عليه هناك كوجوبه إذا اشتراها من صبي أو امرأة أو اشتراها وهي بكر.
قال: ولو دخل بامرأة على وجه شبهة أو نكاح فاسد فعليه المهر وعليها العدة ثلاث حيض إن كانت حرة وحيضتان إن كانت أمة وقد بينا هذا في كتاب النكاح أن الفراش يثبت بالدخول عند فساد العقد فتجب العدة بزواله بالتفريق ويستوي إن مات عنها أو فرق بينهما وهو حي لأن هذه العدة لا تجب إلا لتعرف براءة الرحم فلا تختلف بالحياة والممات كعدة أم الولد وهذا لأن التربص بالأشهر في عدة الوفاة لقضاء حق النكاح ولهذا يجب من غير توهم الدخول وهذا لا يوجد في الوطء بالشبهة ولا في النكاح الفاسد وإن كانت لا تحيض من صغر أو كبر فعدة الحرة ثلاثة أشهر وعدة الأمة شهر ونصف اعتبارا للفراش الفاسد بالفراش الصحيح إذا وجبت العدة بالفرقة في حالة الحياة.
قال: وإذا تزوج المكاتب بنت مولاه بإذنه ثم مات المولى ثم مات المكاتب وترك وفاء فعدتها أربعة أشهر وعشر ولها عليه الصداق وترثه لأنها لم تملك شيئا من رقبته بموت المولى لقيام عقد الكتابة وموت المكاتب عن وفاء لا يوجب فسخ الكتابة عندنا بل يؤدي كتابته ويحكم بحريته في حياته فيكون النكاح منتهيا بينهما بموت الزوج فعليها عدة الوفاة ولها جميع الصداق وإن لم يدخل بها وترثه بالزوجية لانتهاء النكاح بالموت بعد الحكم بحرية الزوج فإن لم يترك وفاء وقد دخل بها فلها الصداق دينا في عنقه ومعنى هذا أنه كان دينا في عنقه ويبطل عنه

 

ج / 6 ص -47-         مقدار نصيبها في رقبته لأن بموته عاجزا انفسخت الكتابة قبل الموت لتحقق العجز حين أشرف على الهلاك فملكت جزءا من رقبة زوجها إرثا من أبيها وذلك مفسد للنكاح بينهما إلا أن الصداق كله قد تأكد بالدخول ولكن بقدر نصيبها يسقط لأنها لا تستوجب دينا على عبدها كصاحب الدين إذا وهب له العبد المديون وبقدر نصيب سائر الورثة يبقى فتستوفي ذلك مما ترك من كسبه وعليها ثلاث حيض لوقوع الفرقة بينهما بعد الدخول قبل الموت حين ملكت جزءا منه فلا يتغير ذلك بموته وإن كان لم يدخل بها فلا صداق لها ولا عدة عليها لأن الفرقة وقعت قبل الدخول بسبب مضاف إليها وهو ملكها جزءا من رقبته وذلك مسقط لجميع الصداق.
قال: وإذا اشترى المكاتب امرأته وقد ولدت منه لم يبطل النكاح لأن الثابت له في كسبه حق الملك وقد بينا في كتاب النكاح أن حق الملك لا يمنع بقاء النكاح فإن مات وترك وفاء تؤدي كتابته ويحكم بحريته قبل موته إما إسنادا للعتق إلى ما قبل الموت أو ابقاء له حيا حكما إلى وقت أداء الكتابة ولما حكم بحريته ثم ملك رقبتها صارت أم ولد له فارتفع النكاح وعتقت وأم الولد إذا عتقت بموت مولاها اعتدت بثلاث حيض وإن لم يترك وفاء فعدتها شهران وخمسة أيام لأنه مات عاجزا فكان النكاح منتهيا بالموت وعلى الأمة عند زوجها من العدة شهران وخمسة أيام وإن لم تكن ولدت منه وقد ترك وفاء فإن كان دخل بها فعدتها حيضتان كالحر إذا اشترى امرأته بعد ما دخل بها فعليها من العدة حيضتان حتى لا يملك تزويجها إلا بعد مضي المدة وإن لم تظهر هذه الفرقة في حقه حتى كان له أن يطأها وإن لم يدخل بها فلا عدة عليها لأن هذه الفرقة وقعت في حالة الحياة قبل الدخول وإن كان لم يترك وفاء ولم يدخل بها أو دخل بها غير أنها لم تلد منه فعدتها شهران وخمسة أيام وكذلك إن كانت قد ولدت منه لأنه مات عاجزا فلم يملك شيئا من رقبتها وإنما كان النكاح بينهما منتهيا بالموت فعليها العدة شهران وخمسة أيام وهي أمة لمولى المكاتب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الرد على من قال إذا طلق لغير السنة لا يقع
قال: وهذه المسألة مختلف فيها بيننا وبين الشيعة على فصلين:
أحدهما: أنه إذا طلقها في حالة الحيض أو في طهر قد جامعها فيه يقع الطلاق عند جمهور الفقهاء وعندهم لا يقع.
والثاني: أنه إذا طلقها ثلاثا جملة يقع ثلاثا عندنا والزيدية من الشيعة يقولون تقع واحدة والأمامية يقولون لا يقع شيء ويزعمون أنه قول علي كرم الله وجهه وهو افتراء منهم على على رضي الله تعالى عنه فقد ذكر بعد هذا في كتاب الطلاق عن علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أن الثلاث جملة تقع بإيقاع الزوج والمشهور من قول علي رضي الله تعالى عنه كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه وشبهتهم فيه أن الزوج مأمور شرعا بإيقاع الطلاق للسنة والمأمور من جهة الزوج بإيقاع الطلاق للسنة وهو الوكيل إذا أوقع لغير السنة لا

 

ج / 6 ص -48-         يقع فكذلك المأمور شرعا بل أولى لأن أمر الشرع ألزم ولأن نفوذ تصرفه بالإذن شرعا والمنهي عنه غير مأذون فيه فلا يكون نافذا كطلاق الصبي والمعتوه وحجتنا في ذلك حرفان:
أحدهما: أن النهي دليل ظاهر على تحقق المنهي عنه لأن النهي عما لا يتحقق لا يكون فإن موجب النهي الإنتهاء على وجه يكون المنهي فيه مختارا حتى يستحق الثواب إذا انتهى ويستوجب العقاب إذا أقدم وما لم يكن المنهي عنه متحققا في نفسه لا يتصور كونه مختارا في الانتهاء وقد قررنا هذا في النهي عن صوم يوم العيد.
والثاني: أن النهي إذا كان لمعنى في غير المنهي عنه لا يعدم المنهي عنه ولا يمنع نفوذه شرعا كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة والنهي عن البيع عند النداء يوم الجمعة وهنا النهي لمعني في غير الطلاق من تطويل العدة واشتباه أمر العدة عليها أو سد باب التلافي عند الندم فلا يمنع النفاذ واستكثر من الشواهد في الكتاب وكل ذلك يرجع إلى هذين الحرفين وهذا بخلاف الوكيل فإن نفوذ تصرفه بأمر الموكل فإذا خالف المأمور به لا ينفذ وهنا تصرف الزوج بحكم ملكه وهو بعقد النكاح صار مالكا للتطليقات الثلاث والملك علة تامة لنفوذ التصرف ممن هو أهل للتصرف وإن لم يكن مأمورا ولا مأذونا فيه وهذا بخلاف الصبي والمعتوه لأن الأهلية لإيقاع الطلاق غير متحققة فيهما ألا ترى أنه لا يصح منهما التعليق بالشرط ولا الإضافة إلى ما بعد البلوغ ولا تمليك الأمر منهما وكل ذلك صحيح من الرجل في حيض المرأة وبهذا ونظائره استشهد في الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب اللبس والتطيب
قال: رضي الله عنه الأصل أن المتوفى عنها زوجها يلزمها الحداد في عدتها وفيه لغتان حداد وإحداد يقال أحدت المرأة تحد وحدت تحد وكلاهما لغة صحيحة وهذا لما روى أن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها لما أتاها خبر موت أبي سفيان رضي الله تعالى عنه دعت بطيب بعد ثلاثة أيام فأمسته عارضيها وقالت ما بي حاجة إلى الطيب ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا يحل لامرأة تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا"، وقال صلى الله عليه وسلم للمرأة التي استأذنته في الاكتحال: "قد كانت أحداكن في الجاهلية ... " الحديث على ما روينا فأما المبتوتة وهي المختلعة والمطلقة ثلاثا أو تطليقة بائنة فعليها الحداد في عدتها عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه لا حداد عليها لأن هذه العدة واجبة لتعرف براءة الرحم فلا حداد عليها كالمعتدة عن وطء بشبهة أو نكاح فاسد وهذا لأن الحداد على المتوفى عنها زوجها لإظهار التأسف على موت الزوج الذي وفى لها حتى فرق الموت بينهما وذلك غير موجود في حق المطلقة لأن الزوج جفاها وآثر غيرها عليها فإنما تظهر السرور بالتخلص منه دون التأسف.
ولنا: في ذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب

 

ج / 6 ص -49-         بالحناء فإن الحناء طيب وهذا عام في كل معتدة ولأنها معتدة من نكاح صحيح فهي كالمتوفى عنها زوجها وتأثيره أن الحداد إظهار التأسف على فوت نعمة النكاح والوطء الحلال بسببه وذلك موجود في المبتوتة كوجوده في المتوفى عنها زوجها وعين الزوج ما كان مقصودا لها حتى يكون التحزن بفواته بل كان مقصودها ما ذكرنا من النعمة وذلك يفوتها في الطلاق والوفاة بصفة واحدة بخلاف العدة من نكاح فاسد والوطء بشبهة لأنه ما فاتها نعمة بل تخلصت من الحرام بالتفريق بينهما.
وصفة الحداد أن لا تتطيب ولا تدهن ولا تلبس الحلي ولا الثوب المصبوغ بالعصفر أو الزعفران لأن المقصود من هذا كله التزين وهو ضد إظهار التحزن ولأنه من أسباب رغبة الرجال فيها وهي ممنوعة من الرجال ما دامت معتدة ولا ثوب عصب ولا خز لتتزين به قيل هو البرد اليماني والأصح أنه القصب وفي النوادر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لا بأس بأن تلبس القصب والخز الأحمر وتأويل ذلك إذا لبست ذلك لا على قصد التزين به فأما على قصد التزين به فهو مكروه كما قال في الكتاب ولا تدهن رأسها لزينة فإن الدهن أصل الطيب ألا ترى أن الروائح تلقى فيه فيصير غالية وإن استعملت الدهن على وجه التداوي بأن أشتكت رأسها فصبت عليه الدهن جاز لأن العدة لا تمنع التداوي وإنما تمنع من التزين ولا تكتحل للزينة أيضا فإن أشتكت عينها فلا بأس بأن تكتحل بالكحل الأسود لما روي أن المتوفى عنها زوجها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاكتحال في الابتداء فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغت الباب دعاها فقال:
"قد كانت إحداكن في الجاهلية..." الحديث وتأويله أنه وقع عنده صلى الله عليه وسلم أنها لا تقصد الزينة بالاكتحال في الابتداء فأذن لها ثم علم أن قصدها الزينة فمنعها وإن لم يكن لها إلا ثوب مصبوغ فلا بأس بأن تلبسه من غير أن تريد الزينة بذلك لأنها لا تجد بدا من ستر عورتها وإذا لم تجد سوى هذا الثوب فمقصودها الستر لا الزينة والأعمال بالنيات وأما المطلقة طلاقا رجعيا فلا بأس بأن تتطيب وتتزين بما أحبت من الثياب لأن نعمة النكاح والحل ما فاتت بعد لأن الزوج مندوب إلى أن يراجعها والتزين مما يبعثه على مراجعتها فتكون مندوبة إليه أيضا فأما الكتابية تحت مسلم إذا فارقها أو توفي عنها فليس عليها أن تتقي في عدتها شيئا من الطيب والزينة لأن الحداد في العدة لحق الشرع وهي لا تخاطب بالشرائع وفي الكتاب قال لأن الذي فيها من الشرك والذي تترك من فرائض الله تعالى أعظم من هذا.
قال: وتتقي المملوكة المسلمة في عدتها ما تتقي منه الحرة إلا الخروج لأنها مخاطبة بحق الشرع كالحرة وإنما لا تمنع من الخروج لحق مولاها في خدمته ولا حق للمولى في تطيبها وتزينها في العدة لأنها محرمة عليه ما لم تنقض عدتها.
قال: وليس على الصبية أن تتقي شيئا من ذلك عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه هي كالبالغة وعلى الولي أن يمنعها من التطيب والتزين كما يمنعها من شرب الخمر وحرمتها لحق الشرع وكما يجب عليها أصل العدة لحق الشرع لأنا نعلم يقينا فراغ رحمها من ماء الزوج، فكذلك

 

ج / 6 ص -50-         الحداد في العدة يجب عليها إذا توفي عنها زوجها ولكنا نقول هي لا تخاطب بحق الشرع بما هو أعظم من الحداد من الصوم والصلاة والحداد في معنى شكر النعمة لأنه اظهار التحزن على فوت نعمة الزوجية وليس عليها ذلك شرعا بخلاف أصل العدة فقد قال بعض مشايخنا هي لا تخاطب بالاعتداد ولكن الولي يخاطب بأن لا يزوجها حتى تنقضي مدة العدة مع أن العدة مجرد مضي المدة فثبوتها في حقها لا يؤدي إلى توجه خطاب الشرع عليها بخلاف الحداد فيها.
قال: وليس على أم الولد في عدتها اتقاء شيء من ذلك لأن عدتها من السيد إنما تجب عند العتق وفيه تخلصها من الرق ووصولها إلى نعمة الحرية فلا يفوتها بها شيء من النعمة لتأسف على ذلك وما كان من حال الوطء بينها وبين المولى فقد كان بسبب هو عقوبة في حقها وهو الرق فلا يعد نعمة وكرامة ولهذا لا يثبت به الإحصان فعدتها بمنزلة العدة من نكاح فاسد وقد بينا فيما سبق أنهما لا يمنعان من الخروج في عدتهما فكذلك لا يمنعان من التزين ألا ترى أن امرأة رجل لو تزوجت ثم دخل بها الزوج ثم فرق بينهما ثم ردت إلى الزوج الأول كان لها أن تتزين وتتشوف إلى زوجها الأول وعليها عدة الآخر ثلاث حيض.
قال: رجل اشترى امرأته وهي أمة قد ولدت منه فسد النكاح وقد كانت حلالا له بالملك فلا بأس بأن تتزين له وتتطيب لأنها غير معتدة في حقه لأن العدة أثر النكاح وكما أن الملك ينافي أصل النكاح ينافي أثره ولأنه يحل له وطؤها بسبب الملك فلا بأس بأن تتطيب له وتتزين ليزداد رغبة فيها ولو أراد أن يزوجها رجلا لم يجز حتى تحيض حيضتين لأنها معتدة في حق غيره فإن الفرقة وقعت بينها وبين زوجها بعد الدخول بسبب الملك وذلك لا ينفك عن عدة فجعلناها في حق غيره كالمعتدة وإن لم يكن في حقه فإن أعتقها فعليها ثلاث حيض لأنها صارت أم ولد له حين اشتراها بعد ما ولدت منه بالنكاح وعلى أم الولد ثلاث حيض بعد العتق ثم تتقي الطيب والزينة في الحيضتين الأوليين اللتين كانتا عليها من قبل النكاح استحسانا وفي القياس ليس عليها ذلك لأن الحداد لا يلزمها عند وقوع الفرقة فكيف يلزمها بعد ذلك وبالعتق إنما يفوتها الحل الذي كان قائما قبله وقد بينا أن ذلك ليس بنعمة وجه الاستحسان أن العدة وجبت عليها بالفرقة ولكن لم يظهر ذلك لحق المولى لكونها حلالا له بالملك وقد زال ذلك بالعتق فظهرت تلك العدة في حق المولى والعدة بعد الفرقة من نكاح صحيح يجب فيها الحداد وإنما كانت تتطيب تقديما لحق المولى على حق الشرع حين كانت حلالا له وقد زال ذلك بالعتق فأما الحيضة الثالثة فلا حداد عليها لأن ذلك لم يلزمها بسبب النكاح بل بسبب العتق لكونها أم ولد ولا حداد على أم الولد في عدتها من سيدها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب المتعة والمهر
اعلم بأن العلماء مختلفون في المتعة في فصول:
أحدها: أن المتعة واجبة عندنا وقال مالك رضي الله تعالى عنه هي مستحبة لظاهر

 

ج / 6 ص -51-         قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] وفي موضع آخر {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وفي هذا إشارة إلى أنها مستحبة فإن الواجب يكون حتما على المتقين وغير المتقين ولما أمر شريح رضي الله تعالى عنه المطلق بأن يمتعها قال ليس عندي ما أمتعها به فقال إن كنت من المحسنين أو من المتقين فمتعها ولم يجبره ولأن المتعة غير واجبة قبل الطلاق فلا تجب بالطلاق لأنه مسقط لا موجب ولو وجبت إنما تجب باعتبار ملك النكاح وبالطلاق قبل الدخول أزال الملك لا إلى أثر فكيف تجب المتعة باعتبار الملك.
 ولنا: في ذلك قوله تعالى:
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] فإن الله سبحانه وتعالى أضاف المتعة إليهن بلام التمليك ثم قال {حَقّاً} [البقرة: 241] وذلك دليل وجوبه وقال: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وكلمة على تفيد الوجوب والمراد بالمتقين والمحسنين المؤمنون والمؤمن هو الذي ينقاد لحكم الشرع وقال الله تعالى {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أمر به والأمر للوجوب وقال الله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] ولأن الفرقة وقعت بالطلاق بعد صحة النكاح فلا تنفك عن الواجب لها كما إذا كان في النكاح مسمى ثم عندنا لا تجب المتعة إلا لمطلقة واحدة وهي المطلقة قبل المسيس والفرض وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تجب المتعة إلا لمطلقة واحدة وهي المطلقة بعد المسيس إذا كان مهرها مسمى فإنما يتحقق الاختلاف في المطلقة بعد الدخول عندنا لها المهر المسمى أو مهر المثل إذا لم يكن في النكاح تسمية وليس لها متعة واجبة ولكنها مستحبة وعند الشافعي رحمه الله تعالى لها متعة واجبة لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] إلا أنا خصصنا المطلقة قبل المسيس بعد الفرض من هذا العموم بالنص وهو قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فجعل كل الواجب نصف المسمى ولأن وجوب المتعة لمراعاة حق النكاح فأما المسمى أو مهر المثل فإنما يسلم لها بالدخول فتبقى المتعة لها بحق النكاح بخلاف المطلقة قبل المسيس بعد الفرض لأن نصف المفروض لها بحق النكاح إذا لم يكن بينهما سبب سوى النكاح وهنا بينهما سبب سوي النكاح وهو الدخول فلا حاجة إلى إيجاب المتعة هنا.
ولنا أنها إنما استحقت جميع المهر على زوجها فلا تستحق المتعة مع ذلك كالمتوفى عنها زوجها وهذا لأن النكاح حق معاوضة وبعد تقرر الفرض لا حاجة إلى شيء آخر توضيحه أن المتعة لا تجامع نصف المسمى وهو ما إذا طلقها قبل المسيس بعد الفرض فلأن لا تجامع جميع المسمى أولى وتحقيق هذا أن المتعة تجب خلفا عن مهر المثل فإن أوان وجوبها بعد الطلاق ولا يمكن ايجابها أصلا بسبب الملك لأن ما يجب بالملك أصلا لا يتوقف وجوبه على زوال الملك فعرفنا أنها وجبت خلفا لأن بالخلف يبقى ما كان ثابتا من الحكم ولا يجمع بين الخلف والأصل بحال وإذا وجب لها المهر الذي هو الأصل كله أو بعضه لا تجب المتعة فأما المطلقة قبل المسيس والفرض فهي لا تستوجب شيئا من الأصل

 

ج / 6 ص -52-         فتجب لها المتعة وإنما قلنا إنها مستحبة لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] وقد كان دخل بهن فدل أن المتعة مستحبة في هذه الحالة وهو مروي عن ابن عباس وشريح رضي الله تعالى عنهما وكذلك كل فرقة جاءت من قبل الزوج بأي سبب كانت وكل فرقة جاءت من قبل المرأة فلا شيء لها من المهر ولا من المتعة لأن المتعة بمنزلة نصف المسمى فكما أن في النكاح الذي فيه التسمية لا يجب من المسمى شيء إذا جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول بها فكذلك في النكاح الذي لا تسمية فيه لا تجب المتعة إذا جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول بها.
قال: وأدنى ما تكون المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وللشافعي رحمه الله تعالى قولان:
أحدهما: أنه شيء نفيس يعطيها الزوج تذكرة له وقد بينا هذا في كتاب النكاح.
والثاني: أن المتعة ثلاثون درهما وهذا ليس بصحيح قال الله تعالى:
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] واسم المتاع لا يتناول الدراهم وتقدير المتعة بالثياب مروي عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي رحمهم الله تعالى وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول أرفع المتعة الخادم وأوسط المتعة الكسوة وأدناها النفقة ثم المعتبر في المتعة حالة الرجل لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وكان الكرخي رضي الله عنه يقول هذا في المستحبة فأما في المتعة الواجبة يعتبر حالها لأنها خلف عن مهر المثل وفي مهر المثل يعتبر حالها فكذلك في المتعة وهذا الذي قاله ليس بقوي لأن الاعتبار بحاله أو بحالها فيما يكون واجبا ويدخل تحت الحكم وفي المستحب هذا لا يكون ولأن الله تعالى قال على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وكلمة على للوجوب فإذا طلقها قبل الدخول وقد سمى لها مهرا فلها نصف المسمى بالنص والقياس فيه أحد الشيئين إما وجوب جميع المسمى لأن الزوج هو الذي فوت الملك على نفسه باختياره فلا يسقط حقها في البدل كالمشتري إذا أتلف المبيع قبل القبض أو أن لا يجب شيء لأن المعقود عليه عاد إليها كما خرج عن ملكها وذلك مسقط للبدل كما إذا انفسخ البيع بخيار أو بإقالة ولكنا تركنا القياس بالنص وفيه طريقان لمشايخنا رحمهم الله:
أحدهما: أن الطلاق يسقط جميع المسمى كما يسقط جميع مهر المثل وإنما لها نصف المسمى بطريق المتعة.
والثاني: أن بالطلاق هنا لا يسقط إلا نصف المسمى لأنه متأكد بالعقد والتسمية جميعا بخلاف مهر المثل وهذا أصح فإنه لو تزوجها على ابل سائمة وحال الحول عليها ثم طلقها قبل الدخول بها فعليها نصف الزكاة ولو سقط جميع المسمى ثم وجب النصف بطريق المتعة لما لزمها شيء من الزكاة ثم المسمى وإن تنصف بالطلاق فكل واحد منهما مندوب إلى العفو قال الله تعالى:
{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] والذي بيده عقدة

 

ج / 6 ص -53-         النكاح عندنا هو الزوج وهو قول ابن عباس وشريح رضي الله تعالى عنهما وقال مالك رحمه الله الذي بيده عقدة النكاح وليها حتى أن على مذهبه إذا أبت المرأة أن تسقط نصيبها يندب الولي إلى إسقاط ذلك ويصح ذلك منه وهذا فاسد لأنه دين واجب لها أو عين مملوكة لها فلا يملك الولي إسقاط حقها عنه
ولكن المراد أنها تندب إلى العفو بأن تقول لم يتمتع بي شيئا فلا آخذ من ماله شيئا،
{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وهو الزوج بأن يقول اخترت فراقها فلا أمنعها شيئا من صداقها فيعطيها جميع المهر وظاهر الآية يدل على ذلك لأن الذي بيده عقدة النكاح من يتصرف بعقد النكاح وهو الزوج دون الولي وإن طلقها قبل أن يدخل بها وقد تزوجها على مهر فاسد كالخمر والخنزير فلها المتعة عندنا ونصف مهر المثل عند الشافعي عنه رضي الله عنه لأن مهر المثل وجب بنفس العقد هنا بالاتفاق فيتنصف بالطلاق قبل الدخول كالمسمى ولكنا نقول تنصف المسمى ثبت بالنص بخلاف القياس والمخصوص من القياس بالنص لا يقاس عليه غيره وقد بينا أن مهر المثل ليس في معنى المسمى من كل وجه فإنما لها المتعة بالنص وفي النكاح الفاسد إذا فرق بينهما قبل الدخول والخلوة أو بعد الخلوة والزوج منكر للدخول فلا شيء عليه لها لأن وجوب المتعة إما لمراعاة حق النكاح أو ليكون خلفا عن مهر المثل وما هو الأصل لا يجب في النكاح الفاسد قبل الدخول فكذلك ما هو خلفه والعبد بمنزلة الحر في وجوب المهر والمتعة عليه إذا كان النكاح بإذن المولى لأنه مساو للحر في سبب وجوبهما وهو النكاح فكذلك في الواجب بالسبب.
قال: وإذا طلق الرجل إحدى امرأتيه ثم مات وقد فرض لاحداهما مهرا ولم يفرض للأخرى والتي سمى لها مهرا لا تعرف بعينها ومهر مثلهما سواء فلهما مهر وربع مهر بينهما سواء لأن أكثر ما يكون لهما مهر ونصف مهر وهو أن يكون الطلاق وقع على التي سمى لها المهر فيكون لها نصف المهر بالطلاق قبل الدخول وللأخرى مهر كامل لتقرر نكاحها بالموت وأقل ما يكون لهما مهر واحد وهو أن يكون الطلاق وقع على التي لم يفرض لها مهرا فيسقط جميع مهرها فمهر واحد لهما بيقين ونصف مهر يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان الواجب مهرا وربع مهر وليست إحداهما بأولى من الأخرى فيكون بينهما نصفين ولا شيء لهما من المتعة لأن المتعة لا تجامع شيئا من المهر.
قال: فإن كانت التي سمي لها المهر معروفة فلها ثلاثة أرباع المهر لأن الطلاق إن كان وقع عليها فلها نصف المهر وإن كان وقع على صاحبتها فلها كل المهر فأعطيناها ثلاثة أرباع المهر باعتبار الأحوال وللأخرى نصف مهر مثلها لأن الطلاق إن وقع عليها لم يكن لها شيء وإن لم يقع عليها كان لها جميع مهر مثلها فأعطيناها نصف المهر باعتبار الأحوال وفي القياس لها نصف المتعة لأن الطلاق إن وقع عليها فلها جميع المتعة وإن لم يقع عليها فلا متعة لها فيكون لها نصف المتعة باعتبار الأحوال إلا أن في الاستحسان لا شيء لها من المتعة لما بينا أن المتعة لا تجامع مهر المثل لأنها خلف عنه وقد استحقت نصف مهر مثلها فلا يكون لها

 

ج / 6 ص -54-         شيء من المتعة ولأن مهر المثل قيمة بضعها فلا يجامعها بدل آخر كقيمة المبيع إذا وجبت في البيع الفاسد لا يجب معه بدل آخر كذا هنا.
قال: وإذا وهبت المرأة لزوجها مهرها ثم طلقها قبل الدخول بها ولم تكن قبضت منه شيئا لم يكن لواحد منهما على صاحبه شيء وفي القياس يرجع عليها زوجها بنصفه وهو قول زفر رحمه الله تعالى ووجه القياس أنها بالهبة استهلكت الصداق فكأنها قبضته ثم استهلكته فللزوج أن يرجع عليها بنصفه وجه الاستحسان أن مقصود الزوج سلامة نصف الصداق له عند الطلاق من غير عوض وقد حصل له هذا المقصود قبل الطلاق فلا يستوجب شيئا آخر عند الطلاق كمن عليه الدين المؤجل إذا عجله لم يجب لصاحب الدين عند حلول الأجل شيء وهذا لأن الأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لمقاصدها فإذا كان ما هو المقصود واجبا حاصلا فلا عبرة باختلاف السبب وعلى هذا لو كان الصداق عينا فقبضته ثم وهبته من الزوج القياس أن هذا وهبتها من الأجنبي سواء فعند الطلاق يرجع الزوج عليها بنصفه وفي الاستحسان مقصود الزوج قد حصل بعود الصداق إليه بعينه من غير عوض.
قال: ولو كان الصداق دينا فقبضته ثم وهبته من الزوج رجع الزوج عليها بنصفه عند الطلاق لأن حق الزوج عند الطلاق هنا ليس في عين المقبوض ولكن الخيار إليها تعطيه من أي موضع شاءت فهبتها هذا المقبوض منه كهبتها مالا آخر وفي الأول حق الزوج عند الطلاق في نصف المقبوض بعينه وقد عادت إليه بالهبة وحكي عن زفر رحمه الله تعالى أنه قال إذا تزوجها على ألف درهم بعينها فقبضتها ثم وهبتها منه ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع عليها بشيء بناء على أصله أن النفوذ في العقود يتعين ولكن هذا لا يستقيم إلا أن يكون في المسألة روايتان عن زفر إحداهما مثل جواب الاستحسان فيخرج هذا على تلك الرواية.
قال: ولو قبضت منه النصف ووهبت له النصف ثم طلقها لم يرجع واحد منهما على صاحبه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يرجع عليها بنصف المقبوض وجه قولهما أن هبة نصف الصداق قبل القبض حط منه والحط يلتحق بأصل العقد ويخرج به المحطوط من أن يكون عوضا فكأنه تزوجها على ما بقي وقبضت منه ثم طلقها والجزء معتبر بالكل فيما وهبت وفيما قبضت وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لو قبضت النصف ولم تهب منه الباقي حتى طلقها لم يرجع عليها بشيء فلو رجع عليها بعد الهبة إنما يرجع بسبب الهبة والهبة تبرع فلا توجب الضمان على المتبرع فيما تبرع به ولأن ملكها في نصف الصداق قبل الدخول قوي وفي النصف ضعيف يسقط بالطلاق فيجعل المقبوض مما قوي ملكها فيه لأن القبض مقرر للملك وإنما يتقرر ملكها في المقبوض إذا تعين فيه النصف الذي سلم لها بعد الطلاق فتبين أنها وهبت النصف الذي كان للزوج بالطلاق وقد سلم له قبل الطلاق مجانا وعلى هذا لو قبضت ستمائة ووهبت له أربعمائة ثم طلقها قبل الدخول عند أبي حنيفة رحمه الله يرجع عليها بمائة لأن الموهوب من النصف الذي كان يسلم للزوج

 

ج / 6 ص -55-         بالطلاق وقد سلم له قبل الطلاق مجانا لأن الموهوب من النصف الذي هو حق الزوج بعد الطلاق فإنما بقي إلى تمام حقه مائة درهم وعندهما يرجع عليها بثلثمائة درهم لأن المحطوط صار كأن لم يكن وإنما يرجع عليها بنصف المقبوض.
قال: ولو قبضت الصداق كله ووهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي من الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصفه العين والدين سواء في ذلك لأن مقصود الزوج سلامة نصف الصداق له من جهتها عند الطلاق ولم يسلم له ذلك وإنما سلم له مال من أجنبي آخر بالهبة وتبدل المالك بمنزلة تبدل العين فكانت مستهلكة للصداق وكذلك لو كانت باعت الصداق من زوجها ثم طلقها رجع عليها بنصفه فإن مقصوده لم يحصل فإن العين إنما وصلت إليه ببدل عقد ضمان.
قال: ولو وهبت الصداق لأجنبي قبل القبض فقبض الأجنبي ثم طلقها الزوج قبل الدخول رجع عليها بنصفه لأن قبض الأجنبي بتسليطها كقبضها بنفسها.
قال: ولو تزوجها على عبد ودفعه إليها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فقضي للزوج بنصفه عليها فلم يقبضه حتى أعور أخذ نصفه وضمنها نصف العور لأن بقضاء القاضي عاد الملك في النصف إليه وهو ملك مضمون له في يدها فكان كالمغصوب وإن كان العبد في يد الزوج فطلقها فلم تقبض نصفه حتى حدث به عيب فاحش فهي بالخيار إن شاءت أخذت نصفه ناقصا وإن شاءت ضمنت الزوج نصف قيمته صحيحا لأن ملكها بعد الطلاق في نصف العبد كملكها في جميعه قبل الطلاق ولو لم يطلقها حتى تعيب في يد الزوج كان لها الخيار إن شاءت أخذت الكل ناقصا وإن شاءت ضمنته قيمته صحيحا فكذلك في النصف بعد الطلاق وإن أعتقه الزوج بعد الطلاق جاز عتقه في نصفه لأن بنفس الطلاق عاد الملك في نصفه إلى الزوج إذا لم تكن قبضته فهو كعبد بين اثنين يعتقه أحدهما.
قال: وإذا تزوج الرجل ثلاث نسوة في عقدة واثنتين في عقدة وواحدة في عقدة ثم طلق إحدى نسائه قبل أن يدخل منهن بواحدة ثم مات فلهن ثلاثة مهور لأن أكثر مالهن ثلاثة مهور ونصف بأن يصح نكاح الواحدة مع الثلاث فيجب أربعة مهور ثم يسقط بالطلاق قبل الدخول نصف مهر وأقل مالهن مهران ونصف بأن صح نكاح الواحدة مع الثنتين فيجب ثلاثة مهور ثم يسقط نصف مهر بالطلاق فقدر مهرين ونصف لهن بيقين ومهر واحد يثبت في حال دون حال فيتنصف فيكون لهن ثلاثة مهور للواحدة من ذلك سبعة أثمان مهر إلا سدس ثمن مهر لأن نكاح الواحدة صحيح بيقين فإن صح مع الثلاث فلها سبعة أثمان مهر لأن الساقط بالطلاق نصف مهر حصتها ربع ذلك وهو ثمن المهر وإن صح نكاحها مع الثنتين فلها خمسة أسداس المهر لأن الساقط بالطلاق نصف مهر حصتها من ذلك ثلث ذلك النصف وهو سدس مهر انكسر المهر بالأسداس والأثمان فالسبيل أن تضرب الستة في ثمانية فتكون ثمانية وأربعين لها في الحالة الأولى سبعة أثمان وهو اثنان وأربعون وفي الحالة الثانية خمسة أسداس وهو أربعون فمقدار أربعين لها بيقين والسهمان تثبت في حال دون حال فتتنصف فيكون لها واحد

 

ج / 6 ص -56-         وأربعون من ثمانية وأربعين وذلك سبعة أثمان مهر إلا سدس ثمن مهر وللثلاث مهر وثمنا مهر ونصف ثمن مهر لأن نكاحهن إن صح فلهن ثلاثة مهور أصابهن بالطلاق من الحرمان بقدر ثلاثة أرباع النصف وهو ثلاثة أثمان فيبقى لهن مهران وخمسة أثمان وإن لم يصح نكاحهن فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر وثمنا مهر ونصف ثمن مهر وللثنتين خمسة أسداس مهر لأنه إن صح نكاحهما فقد كان لهما مهران وأصابهما حرمان ثلثي النصف بالطلاق فيبقى لهما مهر وثلثان وإن لم يصح نكاحهما فلا شيء لهما فكان لهما خمسة أسداس مهر بينهما نصفان وحكم الميراث قد بيناه في كتاب النكاح أن للواحدة سبعة أسهم من أربعة وعشرين سهما من ميراث النساء والباقي بين الفريقين الآخرين نصفان في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما للثلاث من الباقي تسعة أسهم وللثنتين ثمانية أسهم وعلى كل واحدة منهن عدة المتوفى عنها زوجها احتياطا.
قال: وإذا تزوج ثلاثا في عقدة واثنتين في عقدة وأربعا في عقدة ثم طلق إحدى نسائه قبل الدخول ثم مات فلهن مهران ونصف مهر لأن أكثر مالهن ثلاثة مهور ونصف بأن كان السابق نكاح الأربع فوجب أربعة مهور ثم سقط بالطلاق نصف مهر وأقل مالهن مهر ونصف بأن كان السابق نكاح الثنتين فوجب مهران ثم سقط بالطلاق نصف مهر فمهر ونصف لهن بيقين وما زاد على ذلك إلى تمام ثلاثة مهور ونصف وذلك مهران يجب في حال دون حال فيتنصف فلهن مهران ونصف فأما مهر من ذلك لا دعوى فيه للثنتين والفريقان الآخران يدعيانه فيكون بين الفريقين نصفين وقد استوت منازعة الفرق الثلاثة في مهر ونصف فكان بينهن أثلاثا فيسلم للثنتين نصف مهر وللثلاث مهر وللأربع مهر وهذا قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولم يذكر قول محمد رحمه الله تعالى وتخريجه على الأصل الذي بيناه في كتاب
النكاح أنه يعتبر حال كل فريق على حدة فإن صح نكاح الأربع فلهن ثلاثة مهور ونصف وإن لم يصح فلا شيء لهن ونكاحهن يصح في حال دون حالين فلهن ثلث ذلك وهو مهر وسدس مهر والثلاث إن صح نكاحهن فلهن مهران ونصف ونكاحهن يصح في حال دون حالين فلهن ثلث ذلك وهو خمسة أسداس مهر والثنتان إن صح نكاحهما فلهما مهر ونصف ونكاحهما صحيح في حال دون حالين فلهما ثلث ذلك وهو نصف مهر والميراث بين الفرق الثلاث أثلاثا لكل فريق ثلثه ربعا كان أو ثمنا لأن حالهن في استحقاق الميراث سواء وعلى كل واحدة منهن عدة الوفاة.
قال: ولو كان دخل بامرأتين لا يعرفان بأعيانهما ثم طلق إحدى نسائه واحدة وطلق الأخرى منهن ثلاثا ثم تزوج واحدة بعد انقضاء العدة معناه بعد انقضاء مدة العدة فإن ابتداء العدة في الطلاق المبهم من وقت البيان ثم مات كان للمرأة الأخيرة التي تزوجها المهر كاملا لأن نكاحها صحيح وإقدامه على النكاح يكون إقرارا منه بفساد نكاح الأربع لأن المسلم إنما يباشر العقد الصحيح وبعد ما صح نكاح الأربع لا يصح نكاح هذه الواحدة فكان هذا بيانا منه أن نكاح الأربع فاسد والبيان يكون تارة بالنص وتارة يكون بالدليل فلا مهر

 

ج / 6 ص -57-         للأربع ولا ميراث ولا عدة عليهن وللواحدة جميع مهرها لأنه ما أنشأ طلاقها بعد صحة نكاحها وعليها عدة المتوفى عنها زوجها ولها من الميراث خمسة أسهم من اثني عشر سهما لأنه إن صح نكاحها مع الثلاث كان لها أربعة وإن صح نكاحها مع الثنتين كان لها ستة فلهذا أعطيناها خمسة من اثني عشر وللثلاث أربعة من اثني عشر لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلثا المهر ثمانية وإن لم يصح فلا شيء لهن وللثنتين ثلاثة أسهم من اثني عشر لأنه إن صح نكاحهما فلهما ستة من اثني عشر نصف الميراث وإن لم يصح فلا شيء لهما وللثلاث مهر ونصف لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن وللثنتين مهر ونصف وعلى الثلاث والثنتين عدة النساء أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض لتوهم الدخول والطلاق بعده في حق كل واحدة منهن وهذا الجواب كله غلط غير صحيح أما في حق الواحدة فجوابه في الميراث غلط لأن نكاحها إن صح مع الثنتين فقد وقع الطلاقان على الثنتين وهما متعينتان وقد انقضت عدتهما فالميراث كله للواحدة وإن كان الصحيح نكاح الثلاث فلها ثلث الميراث فمقدار الثلاث لها بيقين والثلثان ثابتان في حال دون حال فيتنصفان فينبغي أن يكون لها ثلثا الميراث وفي الثلاث جوابه كذلك في الميراث صحيح وفي المهر غلط لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلثا الميراث وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن ثلث الميراث أربعة من اثني عشر وأما في حق المهر فإن صح نكاحهن فقد تقرر مهران بالدخول لاثنتين منهن والثالثة إن وقع الطلاق عليها فلها نصف وإن لم يقع فلها مهر كامل فيكون لها ثلاثة أرباع مهر فجملة ما لهن إن صح نكاحهن مهران وثلاثة أرباع مهر وإن لم يصح فيكون لهن مهر وثلاثة أثمان مهر لا مهر ونصف وفي حق الثنتين جوابه في الميراث والمهر جميعا غلط لأنا نتيقن أنه لا ميراث لهما فإنه إن صح نكاحهما فقد وقع الطلاق عليهما وانقضت عدتهما وإن لم يصح نكاحهما فلا شيء لهما وفي المهر إن صح نكاحهما فلهما مهران وإن لم يصح فلا شيء فينبغي أن يكون لهما مهر واحد لا مهر ونصف فعرفنا أن جواب الكتاب غير سديد.
قال: ولو لم يدخل بشيء منهن ولم يتزوج شيئا وكانت إحدى الثلاث أم إحدى الأربع والحال على ما وصفت لك فإن الأم والبنت لا ينقصان من مهر ولا ميراث من قبل أن الفريق الذي معها نكاحهن ونكاحها جائز أو فاسد إذ لا تصور لجواز نكاح الفريقين فلا يتحقق الجمع بين الأم والبنت فلهذا كان هذا والفصل الأول سواء.
قال: ولو طلق إحدى الثلاث كان ذلك إقرارا منه بأن الثلاث هن الأول لأن تصرفه بإيقاع الطلاق محمول على الصحة ما أمكن وذلك لا يكون إلا بعد صحة النكاح وكذلك لو ظاهر من إحداهن أو دخل باحداهن كان ذلك بيانا منه أن نكاحهن صحيح فهذا والتصريح بالبيان سواء ثم تخريج المسألة في المهر والميراث قد بيناه في كتاب النكاح.
قال: ولو كانت إحدى الأربع أمة لم يكن لها من الميراث ولا من المهر شيء لأنا تيقنا

 

ج / 6 ص -58-         بفساد نكاحها إما بتأخر العقد أو بالضم إلى الحرائر فإذا فسد نكاحها بقي ثلاث وثلاث واثنتان فإن طلق إحدى نسائه ثم مات فلهن مهران لأن أكثر مالهن مهران ونصف بأن صح نكاح الثلاث ووجب ثلاثة مهور ثم سقط نصف مهر بالطلاق وأقل مالهن مهر ونصف بأن صح نكاح الثنتين فقدر مهر ونصف يقين ومهر واحد يثبت في حال دون حال فيتنصف فلهن مهران فأما نصف مهر من ذلك لا منازعة للثنتين فيه ليكون بين الفريقين الآخرين نصفين وقد استوت منازعة الفرق الثلاث في مهر ونصف فيكون بينهن أثلاثا وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فأما تخريج محمد رحمه الله تعالى على ما أشرنا إليه في اعتبار حال كل فريق على حدة ويتضح عند التأمل والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب ما تقع به الفرقة مما يشبه الطلاق
قال: رضي الله عنه وإذا قال الرجل لامرأته أنت علي حرام فإنه يسأل عن نيته لأنه تكلم بكلام مبهم محتمل لمعان وكلام المتكلم محمول على مراده ومراده إنما يعرف من جهته فيسأل عن نيته فإن نوى الطلاق فهو طلاق لأنه نوى ما يحتمله كلامه فإنه وصفها بالحرمة عليه وحرمتها عليه من موجبات الطلاق ثم إن نوى ثلاثا فهو ثلاث لأن حرمتها عليه عند وقوع الثلاث فقد نوى نوعا من أنواع الحرمة وإن نوى واحدة بائنة فهي واحدة بائنة لأنه نوى الحرمة بزوال الملك ولا يحصل ذلك إلا بالتطليقة البائنة
ومن أصلنا أن الزوج يملك الإبانة وإزالة الملك من غير بدل ولا عدد على ما نبينه إن شاء الله تعالى وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى يقع اثنتان لقوله صلى الله عليه وسلم:
"وإنما لكل امرئ ما نوى" ولأن الثنتين بعض الثلاث فإذا كانت نية الثلاث تسع في هذا اللفظ فنية الثنتين أولى ألا ترى أنها لو كانت أمة كان يصح نية الثنتين في حقها بهذا اللفظ فكذلك في حق الحرة ولكنا نقول نية الثنتين فيه عدد وهذا اللفظ لا يحتمل العدد لأنها كلمة واحدة وليس فيها احتمال التعدد والنية إذا لم تكن من محتملات اللفظ لا تعمل فأما صحة نية الثلاث ليس باعتبار العدد بل باعتبار أنه نوى حرمة وهي الحرمة الغليظة فإنها لا تثبت بما دون الثلاث فأما الثنتان فلا يتعلق بهما في حق الحرة حرمة لا تثبت تلك الحرمة بالواحدة فبقي مجرد نية العدد بخلاف الأمة فإن الثنتين في حقها يوجب الحرمة الغليظة كالثلاث في حق الحرة وهذا بخلاف ما إذا طلق الحرة واحدة ثم قال لها أنت علي حرام ونوى اثنتين حيث لا تعمل نيته لأن الحرمة الغليظة لا تحصل بهما بل بهما.
وبما تقدم فكان هذا مجرد نية العدد وإن نوى الطلاق ولم ينو عددا فهذه واحدة بائنة لأن نية الطلاق قد صحت فيقع القدر المتيقن وهو الواحدة وإن لم ينو الطلاق ولكن نوى اليمين كان يمينا فإن تحريم الحلال يمين قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] جاء في التفسير أنه كان حرم مارية القبطية على نفسه وفي بعض الروايات حرم العسل على نفسه وروى الضحاك عن

 

ج / 6 ص -59-         أبي بكر وعمر واابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهم في هذا اللفظ أنه لو نوى الطلاق فهو طلاق وإن نوى اليمين فهو يمين وعن ابن عمر رضي الله عنه قريبا منه وعن زيد رضي الله عنه قال يمين يكفرها والشافعي رحمه الله تعالى يقول تحريم الحلال لا يكون يمينا ولكن تجب به الكفارة في الزوجة والأمة خاصة وكذلك إن لم يكن له نية فهو يمين لأن الحرمة الثابتة باليمين دون الحرمة التي تثبت بالطلاق وعند الاحتمال لا يثبت إلا القدر المتيقن فكان يمينا إن قربها كفر عن يمينه للحنث وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء وكذلك لو نوى الإيلاء فهو ونية اليمين سواء وإن نوى الكذب فهو كذب لا حكم له لأن كلامه من حيث الظاهر كذب فإنه وصفها بالحرمة وهي حلال له قالوا هذا فيما بينه وبين الله تعالى فأما في القضاء فلا يدين لأن كلام العاقل محمول على الصحة والعمل به شرعا فلا يلغي مع إمكان الأعمال وفي حمله على الكذب إلغاؤه ولم يذكر في الكتاب ما لو قال نويت به الظهار وذكر في النوادر أنه يكون ظهارا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأنها تحرم عليه بالظهار كما تحرم عليه بالطلاق فكان ما نوى من محتملات لفظه وعند محمد رحمه الله تعالى لا يكون ظهارا لأن الظهار تشبيه المحللة بالحرمة فبدون حرف التشبيه وهو الكاف لا يثبت الظهار وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى في هذا ونظائره من الكنايات وهي ثلاث لا يدين في شيء لأنه وصفها بكونها محرمة عليه والحرمة لا تثبت صفة للمحل إلا بزوال صفة الحل لاستحالة اجتماع الضدين في محل واحد وصفة الحل لا تزول إلا بالتطليقات الثلاث فكان وقوع الطلاق موجبا لهذا اللفظ حقيقة فلا يدين في شيء آخر ولكنا نقول وصفها بالحرمة والحرمة أنواع ولها أسباب فإذا نوى نوعا أو سببا كان المنوي من محتملات كلامه فتصح نيته.
قال:
ولو قال كل حل علي حرام يسأل عن نيته فإذا نوى يمينا فهو يمين ولا تدخل امرأته فيه إلا أن ينويها فإذا لم ينو حمل ذلك على الطعام والشراب خاصة وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله تعالى كما يفرغ من يمينه يحنث وتلزمه الكفارة فإن فتح العينين والقعود والقيام حل داخل في هذا التحريم فكان شرط الحنث عقيب التحريم موجودا ولكنا نقول علمنا يقينا أنه لم يرد به العموم لأن البر مقصود الحالف ولا تصور للبر إذا حمل على العموم فإذا لم يكن اعتبار معنى العموم فيه حمل على المتعارف وهو الطعام والشراب الذي به قوام النفس ولا تدخل المرأة فيه إلا أن ينويها لأن ادخالها بدون النية لمراعاة العموم وقد تعذر ذلك والعادة أن المرأة إذا قصدت بالتحريم تخص بالذكر فإن نواها دخلت فيه لأن المنوي من محتملات لفظه ولكن لا يخرج الطعام والشراب حتى إذا أكل أو شرب أو قرب امرأته حنث لأن ظاهر لفظه للطعام والشراب ولا يدين في صرف اللفظ عن ظاهره فإذا حنث سقط عنه الإيلاء لأن الكفارة لزمته وارتفعت اليمين وإن لم يكن له نية فهو يمين يكفرها لأن الحرمة باليمين أدنى الحرمات وإن نوى الطلاق فالقول فيه كالقول في المسألة الأولى وعند نية

 

ج / 6 ص -60-         الطلاق لا يكون يمينا لأنه لفظ واحد فلا يسع فيه معنيان مختلفان والطلاق غير اليمين فإذا عملت نيته في الطلاق سقط اعتبار معنى اليمين وعلى هذا روى عيسى بن أبان عن أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى أنه لو قال لامرأتين أنتما علي حرام ينوي في إحداهما الطلاق وفي الأخرى اليمين أنه يكون طلاقا فيهما جميعا وكذلك لو نوى في إحداهما الطلاق ثلاثا وفي الأخرى واحدة يكون ثلاثا فيهما جميعا لأنه كلام واحد فلا يحتمل معنيين مختلفين وإن نوى الكذب فهو كذب كما بينا في الفصل الأول.
قال: وإذا قال لامرأته قد حرمتك علي أو قد حرمتك أو أنت علي حرام أو أنا عليك حرام أو حرمت نفسي عليك أو أنا عليك محرم أو أنت علي محرمة فالقول في ذلك كالقول في الحرام لأن الحرمة تثبت من الجانبين فيصح اضافتها إلى نفسه كما يصح اضافتها إليها وذكر الفعل وهو قوله حرمتك بمنزلة ذكر الوصف لأنها لا تصير محرمة عليه إلا بفعله ولو قال أنت علي كمتاع فلان ينوي به الطلاق أو الإيلاء فهذا ليس بشيء لأنه ما وصفها بالحرمة بهذا اللفظ فإن متاع فلان ليس عينه بحرام ألا ترى أنه يحل له تناوله بإذن المالك وعند عدم الإذن لا يحل لحق المالك لا لحرمة المحل حتى إذا لم يكن المالك محترما بأن كان حربيا كان تناوله مباحا.
قال: وإذا قال أنت علي كالدم أو كالميتة أو كلحم الخنزير أو الخمر يسأل عن نيته لأنه شبهها بمحرم العين فإن هذه الأعيان محرمة العين شرعا قال الله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] الآية فكان هذا بمنزلة تحريمها على نفسه بقوله أنت علي حرام وقد بينا أنه يسأل عن نيته والدليل على الفرق فصل الظهار فإنه لو شبه امرأته بأجنبية لا يكون مظاهرا ولو شبهها بأمه يكون مظاهرا لأن الأم تكون محرمة عليه فهذا مثله.
قال: ولو قال أنت مني بائن أو بتة أو خلية أو برية فإن لم ينو الطلاق لا يقع الطلاق لأنه تكلم بكلام محتمل فالبينونة تارة تكون من المنزل وتارة تكون في الصحبة والعشرة وتارة من النكاح واللفظ المحتمل لا يتعين فيه بعض الجهات بدون النية أو غلبة الاستعمال ولأن بدون النية معنى الطلاق مشكوك في هذا اللفظ والطلاق بالشك لا ينزل وإن نوى الطلاق فهو كما نوى إن نوى ثلاثا فثلاث لأنه نوى أتم أنواع البينونة فإن البينونة تارة تكون مع احتمال الوصل عقيبه وتارة تكون على وجه لا يحتمل الوصل عقيبه وهو الثلاث ما لم تتزوج بزوج آخر فعملت نيته وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة عندنا خلافا لزفر رحمه الله وقد بينا في الفصل الأول الكلام في هذا فإن قوله بائن كلمة واحدة فلا تحتمل العدد وإن نوى واحدة أو نوى الطلاق فقط فهي واحدة بائنة عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه هي واحدة رجعية وكذلك كل لفظ يشبه الفرقة إذا أريد به الطلاق كقوله حبلك على غاربك وقد خليت سبيلك ولا ملك لي عليك والحقي بأهلك وأخرجي واستتري وتقنعي وقد وهبتك لأهلك إن قبلوها أو لم يقبلوها وقد أبنت نفسك مني أو أبنت نفسي منك فالجواب في هذا كله كما ذكرنا في قوله أنت مني بائن.

 

ج / 6 ص -61-         وقد نقل عن عمر رضي الله تعالى عنه في قوله حبلك على غاربك أنه طلاق إذا نوى ولأن في هذه الألفاظ احتمال معنى زوال الملك فإن من سيب ناقته يجعل حبلها على غاربها ويخلي سبيلها وفي قوله لا ملك لي عليك تصريح بنفي الملك وفي قوله الحقي بأهلك إلزامها الالتحاق بأهلها وذلك بعد انقطاع النكاح بينهما وفي قوله أخرجي واستتري وتقنعي إلزامها ما صرح به وإنما يلزمها ذلك في حقه بعد زوال الملك وكذلك هبتها لأهلها تكون أمرا بالالتحاق بهم بإزالة ملك نفسه عنها فإذا ثبت هذا كانت هذه الألفاظ كلها كلفظة البينونة وبعض المتأخرين من مشايخنا يسمون هذه الألفاظ كنايات وهو مجاز لا حقيقة لأن عندنا هذه الألفاظ تعمل في حقائق موجباتها ولهذا يقع به التطليقة البائنة والكناية ما يستعار لشيء آخر فإنما يستقيم هذا الأصل على أصل الشافعي رحمه الله تعالى فإنه يجعل هذه الألفاظ كناية عن لفظ الطلاق ولهذا كان الواقع به رجعيا وكان محمد رحمه الله تعالى أشار إلى هذا المعنى في قوله وكذلك كل كلام تقع به الفرقة مما يشبه الطلاق ثم الكلام بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى ينبني على أصل وهو أن عنده إزالة الملك بعد الدخول غير مملوك للزوج إلا باشتراط البدل أو باستيفاء العدد وعندنا هو مملوك له كإيقاع أصل الطلاق حتى لو قال لامرأته أنت طالق بائن عندنا تقع تطليقة بائنة وعنده تقع تطليقة رجعية واستدل فقال إن خيار الرجعة بعد أيقاع الطلاق ثابت شرعا في العدة لا بإيجاب من الزوج فلا تصرف له في اسقاطه شرعا وفي وصف التطليقة بالبينونة اسقاط خيار الرجعة ولو صرح به فقال أنت طالق ولا رجعة لي عليك لم يسقط حق الرجعة فهنا أولى ولأن إزالة ملك النكاح معتبر بإزالة ملك اليمين تارة يكون بالمعاوضة فيثبت بنفسه وتارة يكون بجهة التبرع فيتأخر إلى ما بعد القبض ولو أراد تغييره لا يملك ذلك حتى لو قال وهبت منك هبة توجب الملك بنفسه كان باطلا فكذلك إزالة ملك النكاح تارة يكون بعوض وهو الخلع فيثبت بنفسه وتارة يكون بغير عوض فيتأخر إلى ما بعد انقضاء العدة أو استيفاء العدد فلا يملك تغييره بتنصيصه لأن هذا التنصيص تصرف منه في حكم الشرع لا في ملك نفسه ولأن هذه الألفاظ دون لفظ الصريح حتى أنها لا تعمل إلا بالنية فإذا كان الصريح الذي هو أقوى لا يزيل الملك بنفسه فهذا أولى وهذه الألفاظ كناية عن الطلاق غير عاملة بحقائق موجباتها فإن حقيقة حرمتها عليه أن تكون مؤبدة كحرمة الأمهات ولا يثبت ذلك بشيء من هذه الألفاظ فإن ما يثبت بهذه الألفاظ الحرمة التي تثبت بالطلاق فعرفنا أنها كناية عن الطلاق وحجتنا في ذلك أن إيقاع صفة البينونة تصرف من الزوج في ملكه فيكون صحيحا كإيقاع أصل الطلاق وبيانه أن الطلاق بالنكاح مملوك للزوج وما صار مملوكا له إلا لحاجته إلى التقصي عن عهدة النكاح وذلك بإزالة ملك النكاح وكذلك قبل الدخول إزالة الملك مملوك للزوج وبالدخول يتأكد له ملكه فلا يبطل ما كان ثابتا له بالملك من ولاية الإزالة وكذلك يملك الاعتياض عن إزالة الملك وإنما يملك الاعتياض عما هو مملوك له فثبت أن الإبانة مملوكة له فكان وصفه الطلاق الذي أوقع بالبينونة تصرفا منه في

 

ج / 6 ص -62-         ملك نفسه فيجب إعماله ما أمكن وكان ينبغي على هذا الأصل أن يزول الملك بنفس الطلاق إلا أن حكم الرجعة بعد صريح الطلاق ثبت شرعا بخلاف القياس وما ثبت شرعا بخلاف القياس لا يلحق به ما ليس في معناه وهذا ليس في معنى صريح لفظ الطلاق لأنه يجامع النكاح ألا ترى أنها بعد الرجعة توصف بأنها مطلقة ومنكوحة ولا توصف بأنها مبانة ومنكوحة فإذا لم يكن في معنى المنصوص يؤخذ فيه بأصل القياس ولأن في قوله أنت طالق يحتمل الطلاق المبين وغير المبين فكان قوله بائنا لتعيين أحد المحتملين كما نقول الناس يكون محتملا للعموم والخصوص وإذا قال الناس كلهم يزول به هذا الاحتمال وكذلك إذا قال بعت يحتمل البيع بالخيار والبيع البات فإذا قال بيعا باتا يزول هذا الاحتمال وهذا بخلاف الهبة فإنها لا توجب الملك لضعفها في نفسها حتى تتأيد بما يقويها وهو القبض وبشرطها لا تتقوى وهنا قوله أنت طالق لا يزيل الملك بنفسه لا لضعفه لأنه قوي لازم بل لأنه غير مناف للنكاح فإذا قال تطليقة بائنة فقد زال ذلك المعنى حين صرح بما هو مناف للنكاح.
وهذه الألفاظ تعمل في حقائق موجباتها فإن حرمتها عليه تثبت بهذا اللفظ مؤبدة عند نية الثلاث ولكن الزوج الثاني رافع للحرمة كما أن زوال الملك بالطلاق يثبت مؤبدا وإن كان العقد بعده يوجب الملك إلا أنه لا يمكن إثبات حقيقة موجب هذا اللفظ من جهة الزوج إلا بالطلاق فلهذا وجب إعمال نيته في الطلاق وعلى هذا لو قال لها أنت حرة لأن فيه معنى إزالة الملك فإن النكاح رق وحريتها عنه تكون بإزالته فأما إذا قال لها اعتدي فهذا اللفظ كناية لأنه محتمل يحتمل أن يكون مراده اعتدي نعم الله أو نعمي عليك أو اعتدي من النكاح فإذا نوى به الطلاق وقعت تطليقة رجعية لأن وقوع الطلاق ليس بحقيقة اللفظ فإن حقيقته في الحساب فلا تأثير له في إزالة الملك والعدة تجامع النكاح ابتداء وبقاء ولكن من ضرورة عدتها من النكاح تقدم الطلاق فكان وقوع الطلاق بطريق الاضمار في كلامه فكأنه قال طلقتك فاعتدي ولهذا قلنا إنه وإن تكلم بهذا اللفظ قبل الدخول تعمل نيته في الطلاق ولا عدة عليها قبل الدخول فعرفنا أن اللفظ غير عامل في حقيقته ولكن الطلاق فيه مضمر يظهر عند نيته عرفنا ذلك بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسودة حين أراد أن يطلقها
"اعتدي" وكذلك قوله "استبرئي رحمك" بمنزلة التفسير لقوله: "اعتدي" لأنه تصريح بما هو المقصود من العدة وكذلك لو قال لها أنت واحدة لأنه كلام محتمل يجوز أن يكون قوله واحدة نعتا لها أي واحدة عند قومك أو منفردة عندي ليس معك غيرك أو واحدة نساء العالم في الجمال ويحتمل أن يكون نعتا لتطليقة أي أنت طالق واحدة فلا يقع الطلاق به إلا بالنية فإذا نوى يقع به تطليقة رجعية لأن الوقوع بطريق الإضمار فكأنه صرح بما هو المضمر وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقع بهذا اللفظ شيء وإن نوى لأن قوله واحدة نعت لها وليس فيه احتمال معنى الطلاق أصلا ولكنا نقول كلام العاقل متى أمكن حمله على ما هو مفيد يحمل عليه فأما إذا قال لها أنت طالق يقع به تطليقة رجعية نوى أو لم ينو لأن هذا اللفظ صريح في الطلاق عند النكاح لغلبة الاستعمال فلا حاجة

 

ج / 6 ص -63-         إلى النية فيه ولأنه يختص بالنساء ولا يذكر لفظ الطلاق إلا مضافا إلى النساء وإنما يذكر في غيرهن الإطلاق والمعنى المختص بالنساء النكاح فتعين الطلاق عن النكاح عند الإضافة إليها وكذلك ما يكون مشتقا من لفظ الطلاق كقوله قد طلقتك أو أنت مطلقة إلا أنه روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا قال أنت مطلقة بإسكان الطاء وتخفيف اللام لا يكون طلاقا إلا بالنية لأن هذا اللفظ غير مختص بالنساء
ولو نوى بقوله أنت طالق ثلاثا أو اثنتين لا تعمل نيته عندنا ولا يقع عليها إلا واحدة رجعية وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى يقع ما نوى وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول لأن الصريح أقوى من الكناية فإذا صح نية الثلاث في قوله أنت بائن فلأن يصح في قوله أنت طالق أولى وهذا لأن لفظ الطلاق محتمل للعدد حتى يفسر به فتقول أنت طالق ثلاثا وهو نصب على التفسير وإذ قيل أن فلانا طلق امرأته يصح الاستفسار عن العدد فيقال كم طلقها ولأن قوله أنت طالق أي طالق طلاقا فإنها لا تكون طالقا إلا بالطلاق ولو صرح بهذا ونوى الثلاث يصح ولأنه لو قال لها طلقي نفسك ونوى به الثلاث صحت نيته فكذلك إذا قال طلقتك لأن كل واحد منهما ذكر بلفظ الفعل وحجتنا في ذلك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه طلق امرأته فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ولم يستفسره إنك أردت الثلاث أم لا ولم يحلفه على ذلك ولو كانت نية الثلاث تسع في هذا اللفظ لحلفه كما حلف بن ركانة رضي الله تعالى عنه في لفظ البتة والمعنى فيه أنه نوى ما لا يحتمله لفظه فلا تعمل نيته كما لو قال لها حجي أو زوري أباك أو اسقيني ماء من خارج ونوى به الطلاق وهذا لأن المنوي إذا لم يكن من محتملات اللفظ فقد تجردت النية عن اللفظ وبمجرد النية لا يقع شيء وإنما قلنا ذلك لأن قوله أنت طالق نعت فرد فلا يحتمل العدد ألا ترى أنه يقال للمثنى طالقان وللثلاث طوالق فيكون نعتا للنساء لا للطلاق وقوله طلقتك فعل وهو لا يحتمل العدد كقوله قمت وقعدت وأحد لا يخالف في هذا وإنما تعمل النية عنده بما قال إنها لا تكون طالقا إلا الطلاق ولكن هذا ثابت بمقتضى كلامه ولا عموم للمقتضي عندنا لأن ثبوته لتصحيح الكلام حتى لو صح بدون المقتضى لا يثبت المقتضى ويصح بدون صفة العموم في المقتضي ولأن ذكر النعت يقتضي وصفا ثابتا للموصوف لغة فأما الوصف الثابت للواصف لتصحيح كلامه يكون ثابتا شرعا لا لغة والطلاق بهذه الصفة لأن تقديم الإيقاع لتصحيح كلامه شرعا وكذلك في قوله قد طلقتك فإنه حكاية قوله ولا احتمال فيه لمعنى العدد ولا لمعنى العموم بخلاف قوله طلقي نفسك فإن نية العدد لا تعمل هناك عندنا حتى لو نوي الثنتين لا يصح ونية الثلاث إنما تصح باعتبار معنى العموم لأنه تفويض والتفويض قد يكون عاما وقد يكون خاصا والمفوض إليها بهذا اللفظ طلاق وذلك ثابت في هذا اللفظ لغة والطلاق بمنزلة أسماء الأجناس يحتمل العموم والخصوص فتعمل نيته في العموم
ولسنا نقول في قوله ثلاثا أنه نصب على التفسير بل هو منصوب بنزع حرف الخافض عنه معناه بثلاث كقوله:
{مَا هَذَا بَشَراً} [يوسف: 31] أو هو منصوب على طريق البدل

 

ج / 6 ص -64-         عن مصدر محذوف ومعناه طلاقا ثلاثا وبأن صح الاستفسار عن العدد في الحكاية فذلك لا يدل على أنه من محتملات اللفظ كما يصح الاستفسار عن الشرط والبدل وأما إذا قال أنت طالق طلاقا فقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا تعمل نية الثلاث فيه لأن المصدر يذكر لتأكيد الكلام يقال أكلت أكلا وقمت قياما فلا تسع فيه نية الثلاث ثم ولئن صحت نية الثلاث فلا تصح باعتبار العدد بل باعتبار معنى العموم لأن المصدر يحتمل الكثرة قال الله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] ولأن المصدر يضارع الاسم فكان هذا وقوله أنت طالق الطلاق سواء وتصح نية الثلاث في قوله الطلاق لأنه من أسماء الأجناس محتمل للعموم والخصوص ولأن الألف واللام لاستغراق الجنس فيما لا معهود فيه
وكذلك قوله أنت الطلاق فمعناه أنت طالق الطلاق حتى تسع فيه نية الثلاث وقد يذكر المصدر ويراد به الفعل يقال إنما هو اقبال وإدبار على سبيل النعت للمقبل والمدبر وعلى هذا لو قال أنت الطلاق يقع به الطلاق بمنزلة قوله أنت طالق وذكر بن سماعة رحمه الله تعالى أن الكسائي رحمه الله تعالى بعث إلى محمد رحمه الله تعالى بفتوى فدفعها إلي فقرأتها عليه ما قول القاضي الإمام فيمن يقول لامرأته:

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن               وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطلاق عزيمة                    ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم

كم يقع عليها فكتب في جوابه إن قال ثلاث مرفوعا تقع واحدة وإن قال ثلاث منصوبا يقع ثلاث لأنه إذا ذكره مرفوعا كان ابتداء فيبقى قوله أنت طالق فتقع واحدة وإن قال ثلاثا منصوب على معنى البدل أو على التفسير يقع به ثلاث.
قال: ولو قال لامرأته سرحتك أو فارقتك ولم ينو الطلاق لم يقع شيء عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه يقع الطلاق وهما صريح عنده لأن كتاب الله تعالى ورد بهما في قوله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب:49] ولكنا نقول الصريح ما يكون مختصا بالإضافة إلى النساء فلا يستعمل في غير النكاح وهذا لا يوجد في هذين اللفظين فإن الرجل يقول سرحت إبلي وفارقت غريمي أو صديقي فهما كسائر الألفاظ المبهمة لا يقع بهما الطلاق إلا بالنية.
قال: ولو قال أذهبي ونوى به الطلاق كان طلاقا موجبا للبينونة لأنه لا يلزمها الذهاب إلا بعد زوال الملك فإن قال أذهبي وبيعي ثوبك ونوى به الطلاق لم يكن طلاقا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وكان طلاقا في قول زفر رحمه الله تعالى ذكره في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى لأن نية الطلاق عاملة في قوله أذهبي وقوله بيعي ثوبك مشورة فلا يتغير به حكم اللفظ الأول وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول معنى كلامه أذهبي لتبيعي ثوبك فكان مصرحا بخلاف المنوي فلهذا لا تعمل نيته.
قال: ولو قال أنا منك طالق فليس هذا بشيء وإن نوى الطلاق عندنا وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه يقع به الطلاق إذا نوى الوقوع عليها لأنه لو قال أنا منك بائن أو أنا عليك

 

ج / 6 ص -65-         حرام ونوى به وقوع الطلاق يقع ولفظ الصريح أقوى من لفظ الكناية وهذا لأن ملك النكاح مشترك بين الزوجين حتى سميا متناكحين ويبتدأ في النكاح بذكر كل واحد منهما وينتهي النكاح بموت كل واحد منهما حتى يرث كل واحد منهما من صاحبه فيصح إضافة الطلاق إلى كل واحد منهما إلا أن إضافة الطلاق إلى الزوج غير متعارف فيحتاج فيه إلى النية ومحل وقوع الطلاق المرأة فلا بد من نية الوقوع عليها كما في ألفاظ الكنايات وحجتنا في ذلك ما روي أن امرأة قالت لزوجها لو كان إلي ما إليك لرأيت ماذا أصنع فقال جعلت إليك ما إلي فقالت طلقتك فرفع ذلك إلى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه فقال فض الله فاها هلا قالت طلقت نفسي منك وفي الكتاب علل فقال لأن الزوج لا يكون طالقا من امرأته ومعنى الطلاق هو الإطلاق والإرسال وقيد الملك في جانبها لا في جانبه ألا ترى أنها لا تتزوج بغيره والزوج يتزوج بغيرها فلا يتحقق الإرسال في جانبه ولهذا يكون الوقوع عليها لا عليه فإنما هو مطلق لها كما يكون المولى معتقا لعبده ولو قال للعبد أنا حر منك لم يعتق العبد فكذلك الطلاق وبه فارق لفظ البينونة والحرمة لأن البينونة قطع الوصلة والوصلة مشتركة بينهما ألا ترى أنه يقال بانت عنه وبان عنها وكذلك لفظ الحرمة يقال حرم عليها وحرمت عليه وقد بينا أن هذه الألفاظ لم تعمل بحقائق موجباتها والذي يقول الملك مشترك كلام لا معنى له بل الملك للزوج عليها خاصة حتى يتزوج المسلم الكتابية ولا يتزوج الكتابي المسلمة وفيه كلام طويل لأصحابنا رحمهم الله تعالى والأولى أن نقول ما ثبت لها بالنكاح ملك المهر والنفقة وذلك لا يقبل الطلاق وما ثبت له عليها ملك الحل وهو الملك الأصلي الذي يقابله البدل والطلاق مشروع لرفعه وإنما يرفع الشيء عن المحل الوارد عليه دون غيره ثم الملك الذي يثبت في جانبها تبع للملك الثابت للزوج وما يكون تبعا في النكاح لا يكون محلا لإضافة الطلاق إليه عندنا كيدها ورجلها على ما نقرره في قوله يدك طالق ورجلك طالق.
قال: ولو قال أنت طالق البتة سئل عن نيته فإذا نوى تطليقة واحدة فهي واحدة بائنة لأن قوله ألبتة نعت للطلاق أي قاطع للنكاح كقوله بائن ولو نوى ثلاثا فثلاث وإن لم يكن له نية فهي واحدة بائنة كما في قوله أنت بائن فإن قال عنيت بقولي طالق واحدة وبقولي ألبتة أخرى تطلق اثنتين بائنتين لأن الرجل لو قال لامرأته أنت بتة ونوى به الطلاق تعمل نيته فكذلك إذا نوى بلفظة ألبتة تطليقة أخرى ولو قال عنيت بقولي طالق واحدة وبقولي البتة اثنتين طلقت اثنتين لأن نية العدد لا تسع في لفظ إلبتة وكذلك كل كلام يشبه الطلاق ضمه إلى الطلاق إلا قوله اعتدي فإنه رجعي لا تسع فيه نية الثلاث لأن وقوع الطلاق به بإضمار لفظ الطلاق فيه فلا يكون أقوى مما لو صرح به ولو قال لها اعتدي وقال لم أنو الطلاق فهي امرأته بعد أن يحلف وكذلك في جميع الألفاظ المتقدمة إذا قال لم أنو الطلاق فعليه اليمين لأنه أمين فيما يخبر عن ضميره والقول قول الأمين مع اليمين واليمين لنفي التهمة عنه ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف ابن ركانة رضي الله تعالى عنه في لفظ ألبتة لما كان الثلاث من

 

ج / 6 ص -66-         محتملات لفظه، ولو قال اعتدي فاعتدي أو قال اعتدي واعتدي أو قال اعتدي اعتدي وقال نويت الطلاق فهي تطليقتان في القضاء ولو قال عنيت واحدة دين فيما بينه وبين الله تعالى وعن زفر رحمه الله تعالى أنه تعمل نيته في القضاء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في قوله فاعتدي كذلك وفي قوله واعتدي أو اعتدي تطليقتان كما هو ظاهر الرواية وزفر رحمه الله تعالى يقول كرر اللفظ الأول والتكرار للتأكيد لا للزيادة وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الفاء للوصل فيكون معناه فاعتدي بذلك الإيقاع لا إيقاعا آخر والواو للعطف وموجب العطف الاشتراك فيكون الثاني إيقاعا كالأول وجه ظاهر الرواية أن هذا اللفظ عند نية الإيقاع كالصريح ولو قال أنت طالق وطالق أو طالق فطالق أو طالق طالق كان تطليقتين فكذلك هنا في القضاء ولو قال اعتدي اعتدي اعتدي وهو ينوي تطليقة واحدة بهن جميعا فهو كذلك فيما بينه وبين الله تعالى فأما في القضاء فهو ثلاث لما بينا أن كل كلام إيقاع مبتدأ في الظاهر والقاضي مأمور باتباع الظاهر ولكن يحتمل تكرار الأول والله تعالى مطلع على ضميره فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يسع المرأة إذا سمعت ذلك أن تقيم معه لأنها مأمورة باتباع الظاهر كالقاضي ولو قال نويت بالأولى الطلاق وبالآخرتين العدة فهو مصدق في القضاء لأن ظاهر كلامه أمر بالاعتداد والأمر بالاعتداد يستقيم بعد وقوع التطليقة فكان مصدقا في القضاء وفي الحاصل هذه المسألة على اثني عشر وجها وقد بينا ذلك في شرح الجامع الصغير وإن قال لها أنت طالق فاعتدي وأراد بقوله فاعتدي العدة فهو مصدق في القضاء لأن الأمر بالاعتداد مستقيم بعد وقوع التطليقة الواحدة وإن أراد تطليقة أخرى أو لم ينو شيئا فهي أخرى لأنها ذكرت بعد مذاكرة الطلاق وإن أراد به ثنتين فهي واحدة رجعية لأن نية العدد لا تسع في هذا اللفظ وكذلك قوله أنت طالق واعتدي.
قال: وإذا قالت المرأة لزوجها طلقني فقال اعتدي ثم قال لم أنو به الطلاق لم يصدق في القضاء عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يصدق لأنه لو ذكر هذا اللفظ قبل سؤالها الطلاق لم يعمل إلا بنية الطلاق فكذلك بعد سؤالها لأن العامل لفظ الزوج ولفظه لا يختلف بسؤالها وعدم سؤالها ويجوز أن يكون مراده اعتدي نعمتي عليك ولا تشتغلي بسؤال الطلاق فإنه كفران النعمة ولكنا نقول هذا الكلام بعد سؤال الطلاق لا يراد به إلا الطلاق عادة والقاضي مأمور باتباع الظاهر وما هو المعتاد ثم الكلام الواحد قد يكون مدحا وقد يكون ذما وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بالمقدمة ودلالة الحال فإن لم تعتبر دلالة الحال لا يتميز المدح من الذم إذا عرفنا هذا فنقول الأحوال ثلاثة حال مذاكرة الطلاق وحال الغضب وحال الرضا فأما في حال مذاكرة الطلاق لا يدين في القضاء في شيء من الألفاظ التي ذكرناها بل يحمل على الجواب لما تقدم في سؤالها ويكون ما تقدم في السؤال كالمعاد في الجواب وفي حالة الغضب لا يدين في ثلاثة ألفاظ اعتدي واختاري وأمرك بيدك لأن هذه الألفاظ لا تحتمل معنى السب والإيعاد وعند الغضب إما أن يكون مراده السب أو الطلاق فإذا لم يكن في اللفظ احتمال معنى السب تعين الطلاق مرادا به وفي خمسة ألفاظ يدين في القضاء وهي قوله أنت بائن حرام بتة

 

ج / 6 ص -67-         خلية برية لأن هذه الألفاظ تحتمل معنى السب أي أنت بائن من الدين برية من الإسلام خلية من الخير حرام الصحبة والعشرة بتة عن الأخلاق الحسنة فلا يتعين الطلاق مرادا به فإذا قال أردت السب كان مدينا في القضاء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه ألحق بهذه الألفاظ أربعة ألفاظ أخر خليت سبيلك فارقتك لا سبيل لي عليك لا ملك لي عليك لأنها تحتمل معنى السب أي لا ملك لي عليك لأنك أدون من أن تملكي لا سبيل لي عليك لشرك وسوء خلقك وفارقتك اتقاء لشرك وخليت سبيلك لهوانك علي وأما في حالة الرضا فهو مدين في هذه الألفاظ ولا يقع الطلاق بها إلا بالنية وكذلك فيما سواها من الألفاظ.
قال: وإذا قال لها اعتدي ثلاثا وقال نويت تطليقة واحدة تعتد لها ثلاث حيض فالقول قوله في القضاء لأن الثلاث عدد الطلاق وعدد لأقراء العدة أيضا والعدة في لفظه والطلاق في ضميره فإذا صلح قوله ثلاثا بيانا لما في ضميره فلأن يصلح بيانا لما تلفظ به أولى فلهذا قبل قوله في القضاء.
قال: وإن قال لامرأته لست لي بامرأة ينوي الطلاق فهو كما وصفت لك في الخلية والبرية في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا تطلق وهذا ليس بشيء لحديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال إذا سئل الرجل ألك امرأة فقال لا فإنما هي كذبة وهذا المعنى أنه نفى نكاحها ونفي الزوجية لا يكون طلاقا بل يكون كذبا منه لما كانت الزوجية بينهما معلومة كما لو قال لامرأته والله ما أنت لي بامرأة أو على حجة إن كانت لي امرأة أو ما لي امرأة أو قال لم أتزوجك لم يقع الطلاق بهذه الألفاظ وإن نوى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول قوله لست لي بامرأة كلام محتمل أي لست لي بامرأة لأني فارقتك أو لست لي بامرأة لأنك لم تكوني في نكاحي وموجب الكلام المحتمل يتبين بنيته فلا تكون هذه الألفاظ طلاقا بغير النية ونية الطلاق تعمل فيه لأنه من محتملاته كما في قوله خلية برية فأما في قوله والله ما أنت لي بامرأة فيمينه لا يكون إلا على النفي في الماضي وذلك يمنع احتمال معنى الطلاق فيه وكذلك إذا قال لم أتزوجك فهو جحود للنكاح من الأصل والطلاق تصرف في النكاح وجحود أصل الشيء لا يحتمل معنى التصرف فيه وإذا قيل ألك امرأة فقال لا فالسائل إنما سأله عن نكاح ماض وكلامه جواب فيكون نفيا للنكاح في الماضي وهو كذب كما قال عمر رضي الله تعالى عنه فأما قوله لست نفي للنكاح في الحال وفي المستقبل لا في الماضي فيكون محتملا للطلاق وفي قوله ما لي امرأة فحرف ما للنفي فيما مضى فهو كحرف إذ للماضي وإذا للمستقبل حتى لو قال طلقتك إذ دخلت الدار تطلق في الحال ولو قال إذا دخلت الدار لا تطلق حتى تدخل فأما إذا قال لا نكاح بيني وبينك ولا سبيل لي عليك فهو نفي في الحال وفي المستقبل لا في الماضي فتسع فيه نية الطلاق بالاتفاق وهذا دليل لأبي حنيفة رحمه الله تعالى وإذا قال أنت طالق ثم قال عنيت طالقا من الوثاق أو طالقا من الإبل لم يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر ولكن يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه محتمل فإن الطلاق من الإطلاق والإطلاق مستعمل في الإبل

 

ج / 6 ص -68-         والوثاق فيحتمل أن يكون الطلاق عبارة عنه مجازا فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولو قال أنت طالق من وثاق لم يقع عليها شيء لأنه بين بكلامه موصولا مراده من قوله طالق والبيان المغير صحيحا موصولا وقد بيناه في الإقرار وإن قال عنيت بقولي طالقا من عمل من الأعمال ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هذا والأول سواء وفي ظاهر الرواية هناك لا يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأن لفظ الطلاق لا يستعمل في العمل حقيقة ولا مجازا إلا أن يذكره موصولا فيقول أنت طالق من عمل كذا فحينئذ هي امرأته فيما بينه وبين الله تعالى ويقع الطلاق في القضاء لأنه ليس ببيان من حيث الظاهر لما لم يكن ذلك اللفظ مستعملا فيه وكل ما لا يدينه القاضي فيه فكذلك المرأة إذا سمعت منه أو شهد به شاهدا عدل لا يسعها أن تدين الزوج فيه لأنها لا تعرف منه إلا الظاهر كالقاضي.
قال: وإذا طلق امرأته تطليقة بائنة ثم قال لها في عدتها أنت علي حرام أو ما أشبه ذلك وهو يريد بذلك الطلاق لم يقع عليها شيء لأنه صادق في قوله هي علي حرام وهي منه بائن ومعنى هذا أن صيغة كلامه في قوله طالق أو بائن وصف ولكن يجعل إيقاعا ليتحقق ذلك الوصف بما يقع والوصف هنا متحقق من غير أن يجعل كلامه إيقاعا والأوجه أن يقول إن هذه الألفاظ تعمل بحقائقها من ثبوت الحرمة والبينونة بها والثابت لا يمكن إثباته وإنما تعمل هذه الألفاظ بإرادة الفرقة أو رفع النكاح بها وذلك لا يتحقق بعد وقوع الفرقة فأما إذا قال لها إن دخلت الدار فأنت بائن ثم طلقها تطليقة بائنة ثم دخلت الدار في عدتها وقع عليها تطليقة أخرى بذلك اللفظ عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يقع عليها شيء لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولو نجز قوله أنت بائن في هذه الحالة لم يقع به شيء فكذلك إذا وجد الشرط كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ثم أبانها ثم دخلت الدار لم يكن مظاهرا منها كما لو نجز الظهار في الحال وكذلك إذا قال لها إذا جاء غد فاختاري ثم أبانها ثم جاء غد فاختارت نفسها لم يقع شيء عليها كما لو نجز التخيير بعد البينونة وعلماؤنا رحمهم الله تعالى قالوا التعليق بالشرط قد صح ووجد الشرط وهي محل لوقوع الطلاق عليها فينزل ما تعلق كما لو وجد الشرط بعد الطلاق الرجعي وكما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق وهذا لأن هذه الألفاظ إنما تخالف الصريح في الحاجة إلى نية الفرقة أو رفع النكاح بها والحاجة إلى هذه النية عند التلفظ بها فإذا كان التلفظ بعد البينونة لم تصح هذه النية وإذا كان قبل البينونة صحت النية وتعلق الطلاق بالشرط ثم لا حاجة إلى النية عند وجود الشرط فكانت هذه الألفاظ عند وجود الشرط في وقوع الطلاق بها كلفظ الصريح وإنما الحاجة في وجود الشرط إلى وجود المحل وباعتبار العدة هي محل لوقوع الطلاق عليها وبه فارق الظهار فإنها لم تبق محلا للظهار باعتبار العدة لأن الظهار تشبيه المحللة بالمحرمة وموجبه حرمة مؤقتة إلى التكفير وبعد ثبوت الحرمة بزوال الملك على الإطلاق لا تكون محلا للحرمة المؤقتة وهذا بخلاف التخيير لأن الوقوع هناك باختيارها نفسها لا بتخيير الزوج ولهذا كان

 

ج / 6 ص -69-         الضمان على شاهدي الاختيار دون التخيير واختيارها نفسها بعد الفرقة باطل لأنها صارت أحق بنفسها فأما هنا الوقوع عند وجود الشرط باليمين السابق ولهذا كان الضمان على شاهدي اليمين دون شاهدي الشرط واليمين قد صحت كما قررنا.
قال: في الكتاب ألا ترى أنه لو آلى من امرأته ثم طلقها واحدة بائنة ثم مضت مدة الإيلاء وهي في العدة وقعت عليها تطليقة الإيلاء وزفر رحمه الله تعالى يخالف في هذا أيضا ولكن من عادته الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام وإذا قال لامرأته أنا بائن يعني منك ولم يقل منك فليس هذا بشيء وإن عنى به الطلاق وكذلك لو قال أنا حرام ولم يقل عليك بخلاف ما إذا قال أنت بائن أو أنت حرام والفرق أن البينونة قطع الوصلة المشتركة ولا وصلة في حقها إلا التي بينه وبينها إذ لا يتصور على المرأة نكاحان فعند إضافة البينونة إليها تتعين الوصلة التي بينه وبينها وإن لم يضف إلى نفسه وإما في جانبه فالوصلة تتحقق بينه وبين غيرها مع قيام الوصلة بينه وبينها فإذا قال أنا بائن لا يتعين بهذا اللفظ الوصلة التي بينهما ما لم يقل منك وكذلك في لفظ الحرمة فإنها لا تحل إلا له خاصة فإذا قال أنت حرام يتعين الحل الذي بينهما للرفع بهذا اللفظ وإذا قال أنا حرام لا يتعين الحل الذي بينهما لجواز الحل الذي بينه وبين غيرها فما لم يقل عليك لا يتم كلامه إيجابا.
قال: ولو قال بعد الخلع أو التطليقة البائنة لها في عدتها أنت طالق عندنا يقع الطلاق عليها وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يلحق البائن الصريح كما لا يلحقه بائن حتى لو قال لها بعد الخلع أنت بائن لا يقع الطلاق وإن نوى فكذلك إذا قال أنت طالق لأن قوله أنت بائن مع نية الطلاق بمنزلة الصريح أو أقوى منه وهذا لأن الطلاق مشروع لإزالة ملك النكاح وقد زال الملك بالخلع فلا يقع الطلاق بعده كما بعد انقضاء العدة ولا يجوز أن تكون محلا للطلاق باعتبار العدة لأن وجوب العدة هنا لحرمة الماء حتى لا تجب قبل الدخول فتكون كالعدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة ولو كانت هذه العدة أثر النكاح فهو أثر يبقى بعد فساد الملك وهو بعد التطليقات الثلاث وبمثل هذا الأثر لا تكون محلا للطلاق كالنسب فإنه أثر النكاح ولكن لما كان يبقى بعد نفاذ ملك الطلاق لا تصير به محلا للطلاق وحجتنا في ذلك قوله تعالى:
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] يعني الخلع ثم قال بعده {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون هذا تنصيصا على وقوع الطلقة الثالثة بالإيقاع بعد الخلع وفي المشاهير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة" رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني حلفت بثلاث تطليقات أن لا أكلم أخي فقال صلى الله عليه وسلم: "طلقها واحدة واتركها حتى تنقضي عدتها ثم كلم أخاك ثم تزوجها"، ولو كان الطلاق لا يقع بعد الخلع لأرشده إلى الخلع ليرتفع الهجران بينه وبين أخيه في الحال، والمعنى فيه أنها معتدة من طلاق فتلحقها التطليقات المملوكة للزوج بايقاعه كالمعتدة من قوله أنت

 

ج / 6 ص -70-         طالق أو بائن وهذا لأن موجبه ليس هو زوال الملك ألا ترى أن بعد الطلاق الرجعي الملك يبقى مع لزوم الطلاق فإن المطلقة تطلق ثانيا ولو كان موجبه زوال الملك لم يتصور الإيقاع بعد الإيقاع لأن الأول إن كان مزيلا فلا موجب للثاني وإن لم يكن الأول مزيلا فكذلك الثاني وكذلك بعد الرجعة يبقى الطلاق واقعا ولا يزول به الملك في الحال ولا في الثاني والأسباب الشرعية إذا خلت عن موجباتها كانت لغوا فإذا ثبت أن موجب الطلاق ليس هو زوال الملك لا يشترط قيام الملك لصحته كما لا يشترط قيام ملك اليمين لصحته ولكن موجبه الأصلي رفع الحل الذي صارت المرأة به محلا للنكاح وذلك المحل باق بعد الخلع فكان الإيقاع في هذه الحالة مفيد الموجبة فإن قيل هذا موجود بعد انقضاء العدة قلنا نعم ولكن الإيقاع منه تصرف على المحل بإثبات صفة الحرمة ورفع الحل فلا بد من نوع ملك له على المحل لينفذ تصرفه وذلك إما ملك النكاح أو ملك اليد ببقاء العدة لأنها في سكناه وفي نفقته عندنا وعنده إذا كانت حاملا وملك اليد في التصرف كملك العين ألا ترى أن المكاتب يتصرف بملك اليد له في كسبه والمضارب بعد ما صار المال عروضا يتصرف وإن نهاه رب المال لملك اليد له فإما بعد انقضاء العدة فليس له عليها ملك اليد وبهذا الحرف فارق العدة النسب لأن باعتبار نسب الولد لا يبقى ملك اليد عليها والفرق بين قوله أنت طالق وبين قوله بائن ما ذكر محمد رحمه الله تعالى في الكتاب وقد طوله وحاصل ما قال أن قوله بائن لا يعمل إلا بارادة الفرقة أو رفع النكاح وبعد البينونة لا يتحقق هذا فأما قوله طالق عامل بنفسه من غير إرادة فرقة أو رفع نكاح فيشترط لصحته قيام المحل توضيح الفرق أن قوله بائن عامل في حقيقة موجبه وهو قطع الوصلة ووصلة النكاح بينهما منقطعة ولا أثر لهذا اللفظ في قطع وصلة العدة فخلى عن موجبه فأما موجب الطلاق فهو رفع الحل كما بينا والإيقاع بعد البينونة عامل في موجبه لأنها تحرم به إذا تم العدد ثلاثا وهذا بخلاف العدة من نكاح فاسد لأن بتلك العدة لا يثبت له عليها ملك اليد حتى لا تستحق عليه النفقة والسكنى ولو قال لها بعد الخلع اعتدي ونوى به الطلاق وقع عليها تطليقة أخرى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يقع عليها شيء بهذا لأن هذا اللفظ لا يعمل بنفسه بل بنية الطلاق فيكون بمنزلة قوله بائن وفي ظاهر الرواية قال هذا اللفظ عامل من غير إرادة الفرقة أو فساد النكاح فإن الواقع به رجعي كالصريح وهذا لأن عمل هذا اللفظ لا بحقيقة موجبه بل بإضمار الطلاق فيه ولهذا صح قبل الدخول فكان المضمر كالمصرح به وقد بينا أنه لو قال لامرأته أنت بائن ينوي الثنتين لا يقع إلا واحدة وفي الكتاب فرق بينه وبين نية الثلاث لما ذكرنا أن نية الثلاث تعمل لأنه نوى بها نوعا من أنواع البينونة وذلك لا يوجد في الثنتين إلا في حق الأمة فأما الحرة إذا كان قد طلقها واحدة ثم قال لها أنت بائن فإن نوى ثنتين لم يقع إلا واحدة بهذا اللفظ لأنه نوى العدد واللفظ لا يحتمله وإن نوى ثلاثا وقع عليها بهذا اللفظ اثنتان لأن نيته قد صحت باعتبار أنه نوى نوعا من البينونة فيقع ما تثبت به تلك البينونة وذلك بالتطليقتين الباقيتين والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

 

ج / 6 ص -71-         باب طلاق أهل الحرب
قال: وإذا سبي أحد الزوجين الحربيين وأخرج إلى دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما بغير طلاق لأن ارتفاع النكاح كان حكما لتباين الدارين وهو مناف لعصمة النكاح والفرقة الواقعة بسبب المنافي للنكاح لا تكون طلاقا كالفرقة بالمحرمية ولأن هذا السبب يشترك فيه الزوجان وتقع الفرقة بنفسه فلا يكون طلاقا كالفرقة بسبب ملك أحد الزوجين صاحبه وفقهه أنه ليس إليها من الطلاق شيء فكل سبب يتم بها لا يكون طلاقا فإن طلقها بعد هذا لا يقع أيضا لأنها بانت لا إلى عدة فإنه إن سبي الزوج أولا فلا عدة على الحربية وإن سبيت المرأة فلا عدة على المسبية لأنها تحل للسابي بعد الاستبراء بالنص فإن سبي الآخر بعده لم يعد النكاح بينهما لارتفاعه بالسبب المنافي ولا يقع طلاقه أيضا لأنها ليست في عدته ولا يجب على الزوج شيء من المهر إن كان دخل بها أو لم يدخل بها سبيا أو سبي أحدهما لأنها إن سبيت فقد خرجت من أن تكون أهلا لمالكية المال وإن سبي الزوج فالدين على الحر لا يبقى بعد السبي كسائر الديون لأن الدين على المملوك لا يجب إلا شاغلا لمالية رقبته وحين وجب الدين عليه لم يكن مالا فلا تشتغل ماليته بعد ذلك بالدين فلهذا سقط وإن لم يسبيا ولكن أسلم أحدهما وخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق لتباين الدارين فإن طلقها بعد هذا لم يقع طلاقه عليها أما إذا كان الزوج هو الذي أسلم فلأنه لا عدة على الحربية وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا عدة على المهاجرة أيضا وعندهما وإن كان يلزمها العدة فهذه العدة لا توجب ملك اليد للحربي عليها فكان بمنزلة العدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة فلا يقع الطلاق عليها باعتبارها وإن أسلم الزوج بعدها وخرج لم يقع طلاقه عليها أيضا وقيل هذا على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى فأما قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر يقع طلاقه عليها وهو نظير ما لو اشترى امرأته بعد ما دخل بها ثم أعتقها وطلقها في العدة لا يقع طلاقه في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف رضي الله عنه الآخر يقع وكذلك إذا اشترت المرأة زوجها ثم أعتقته
وعلى هذا لو ارتد الزوج ولحق بدار الحرب لا يقع طلاقه عليها فإن عاد مسلما ثم طلقها فهو على هذا الخلاف وجه قوله أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول أنها صارت بحال لا يقع طلاقه حين لحق بدار الحرب أو بقي في دار الحرب أو ملكها بالشراء فدل ذلك على زوال ملك اليد الذي كانت به محلا للطلاق وبعد ما زال الملك لا يعود إلا بالتجديد وجه قوله الآخر أن المانع من وقوع الطلاق تباين الدارين حقيقة وحكما أو عدم ظهور العدة في حقه حين اشتراها وقد زال ذلك حين أعتقها وحين خرج إلى دارنا مسلما وهي في عدته بعد فيقع عليها طلاقه كما لو أسلم أحد الزوجين في دار الإسلام وفرق بينهما بالإباء من الآخر ثم طلقها الزوج وهي في العدة فإنه يقع الطلاق ثم إن كان دخل بها فلها أن تؤاخذه بمهرها إذا خرج إلى دار الإسلام لأن المهر قد تقرر عليه بالدخول فيبقى بعد إسلامها

 

ج / 6 ص -72-         وإن لم يدخل بها وكانت هي التي خرجت أولا مسلمة فلها على الزوج نصف المهر لأنه إنما يحال بالفرقة على جانب الزوج حين أصر على شركه في دار الحرب بعد إسلامها وإن كان الزوج هو الذي خرج أولا مسلما فلا مهر لها عليه لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول وإذا سبيا معا فهما على النكاح لعدم تباين الدارين وقد بيناه في كتاب النكاح.
قال: وإذا تزوج المسلم كتابية في دار الحرب فتمجست انتقض النكاح بينهما لأن تمجسها إذا كانت تحت مسلم بمنزلة ردتها وطلاقه يقع عليها ما دامت في العدة كما لو ارتدت المرأة في دار الإسلام وهذا لأنه لم تتباين بهما الدار وهو المنافي للعصمة والحرمة بسبب الردة على شرف الزوال بالإسلام فلا تمنع ثبوت الحرمة بالتطليقات الثلاث فإن خرج الزوج إلى دار الإسلام وبقيت في دار الحرب لم يقع طلاقه عليها لتباين الدارين حقيقة وحكما وإن خرج الزوجان إلى دارنا مستأمنين ثم أسلم أحدهما فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض وقد بينا في كتاب النكاح اختلاف الروايات في عرض الإسلام على الآخر منهما فإذا حاضت ثلاث حيض وقعت الفرقة بغير طلاق بينهما وانقطعت العصمة فلا يقع عليها طلاقه لأن المصر منهما على شركه من أهل دار الحرب ألا ترى أنه يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب فهو بمنزلة ما لو كان في دار الحرب حقيقة في المنع من وقوع طلاقه عليها وكذلك إذا صار أحدهما ذميا وأبى الآخر فالحكم فيما وصفنا من الفرقة في دار الإسلام وفي دار الحرب سواء لأن الذمي صار من أهل دارنا والآخر من أهل دار الحرب وما سوى هذا من مسائل الباب قد بينا شرحها في كتاب النكاح والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب ما لا يقع فيه الطلاق على المرأة
قال: وإذا اشترت الحرة زوجها وهو عبد أو ملكته كله أو بعضه بميراث أو غيره فقد وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق لأن ملك اليمين مناف لملك النكاح ويتحقق هذا المنافي من كل واحد منهما فتكون الفرقة بغير طلاق وكذلك الحر يملك امرأته أو بعضها وهذا لأن ملك رقبتها مناف لملك النكاح شرعا لأن ملك النكاح مشروع لإثبات الحل به وهي تحل له بملك اليمين فينتفي بتقرره ملك النكاح ثم لا يقع طلاقه عليها لأن ملكه رقبتها كما ينافي أصل ملك النكاح ينافي ملك اليد بسبب النكاح وبه كانت محلا لوقوع الطلاق فلهذا لا يقع طلاقه عليها بعد هذا وكذلك المرأة يجامعها أبو زوجها أو ابنه أو جامع الزوج أمها أو ابنتها فقد وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق لأن المحرمية بالمصاهرة تنافي النكاح ابتداء وبقاء كالمحرمية بالرضاع والنسب وعليها العدة إن كان قد دخل بها ولا يقع طلاقه عليها في هذه العدة لأن موجب الطلاق حرمة ترتفع باصابة الزوج الثاني وقد ثبتت بينهما حرمة مؤبدة لا ترتفع بوجه من الوجوه فلا يتصور مع هذا ثبوت الحرمة التي ترتفع بالزوج الثاني ومتى خلا السبب عن موجبه كان لغوا.
قال: وأهل الذمة وأهل الإسلام فيما ذكرنا من الحرمة سواء إلا أن يكون ملة من ملل الكفر يستحل ذلك أهلها في دينهم فيخلى عنهم وما استحلوا من ذلك لمكان عقد الذمة وهو

 

ج / 6 ص -73-         بمنزلة المجوسي يتزوج أمه وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر لا يتركون على شيء من الحرام في النكاح والحكم يجري عليهم في ذلك كما يجرى على أهل الإسلام سواء اختصموا أو لم يختصموا وهذا القول لأبي يوسف رحمه الله تعالى ذكره في هذا الكتاب خاصة وقد بينا وجهه في كتاب النكاح مع سائر ما في الباب من المسائل والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب من الطلاق
قال: رضي الله عنه رجل قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق ثلاثا تطلق ثلاثا عندنا وهو قول عمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وقال الحسن البصري تقع واحدة بقوله طالق فتبين لا إلى عدة وقوله ثلاثا يصادفها وهي أجنبية فلا يقع بها شيء كما لو قال لها أنت طالق وطالق وطالق ولكنا نقول الطلاق متى قرن بالعدد فالوقوع بذكر العدد لأن الموقع هو العدد فإذا صرح بذكر العدد كان هو العامل دون ذكر الوصف ولهذا لو ماتت المرأة بعد قوله طالق قبل قوله ثلاثا لا يقع شيء وهذا لأن الكل كلمة واحدة في الحكم فإن إيقاع الثلاث لا يتأتى بعبارة أوجز من هذا والكلمة الواحدة لا يفصل بعضها من بعض بخلاف قوله أنت طالق وطالق وطالق لأنها كلمات متفرقة فأما إذا قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق بانت بالأولى وكانت الثنتان فيما لا يملك وهو قول علي واابن مسعود وزيد وإبراهيم رضي الله عنهم وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى إذا كان في مجلس واحد يقع ثلاث تطليقات لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة ويجعلها ككلام واحد ولكنا نقول كل كلمة إيقاع على حدة فلا تعمل إلا في محل قابل له فإذا بانت لا إلى عدة لم تبق محلا للوقوع عليها ثم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تبين بالأولى قبل أن يفرغ من الكلام الثاني وعند محمد رحمه الله تعالى بعد فراغه من الكلام الثاني لجواز أن يلحق بآخر كلامه شرطا أو استثناء ولكن هذا إنما يتحقق عند ذكر حرف العطف وهو الواو فأما بدونه لا يتحقق الخلاف لأنه لا يلتحق به الشرط والاستثناء.
قال: ولو قال لها رأسك طالق كانت طالقا لا بإضافة الطلاق إلى الرأس بعينه فإنه لو قال الرأس منك طالق أو وضع يده على رأسها وقال هذا العضو منك طالق لا يقع شيء ولكن باعتبار أن الرأس يعبر به عن جميع البدن يقال هؤلاء رؤوس القوم ومع الإضافة إلى الشخص أيضا يعبر به عن جميع البدن يقول الرجل أمري حسن ما دام رأسك أي ما دمت باقيا وكذلك الوجه يعبر به عن جميع البدن يقول الرجل لغيره يا وجه العرب وكذلك الجسد والبدن والرقبة والعنق يعبر بها عن جميع البدن قال الله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقال الله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] وكذلك الفرج قال صلى الله عليه وسلم "لعن الله الفروج على السروج" وكذلك الروح يعبر بها عن جميع البدن وهو مذكور في كتاب الكفالة فصار هو بهذا اللفظ مضيفا الطلاق إلى جميعها فكأنه قال أنت طالق وأما إذا قال يدك طالق أو رجلك طالق أو

 

ج / 6 ص -74-         أصبعك طالق لا يقع شيء عندنا وقال زفر والشافعي رحمهما الله تعالى تطلق لأنه أضاف الطلاق إلى جزء مستمع به منها بعقد النكاح فيقع الطلاق كالوجه والرأس وهذا لأن مبني الطلاق على الغلبة والسراية فإذا أوقعه على جزء منها يسري إلى جميعها كالجزء الشائع وبه فارق النكاح فإنه غير مبني على السراية ولهذا لا تصح إضافته عندي إلى جزء شائع وهذا لأن الحل والحرمة إذا اجتمعا في المحل يترجح جانب الحرمة في الابتداء والانتهاء والدليل عليه أنه لو قال لها أنت طالق شهرا يقع مؤبدا ولو قال تزوجتك شهرا لم يصح النكاح فيجعل ذكر جزء منها كذكر جزء من الزمان في الفصلين وحجتنا في ذلك أن الإصبع ليس بمحل لإضافة النكاح إليه فكذلك الطلاق لمعنى وهو أنه تبع في حكم النكاح والطلاق ولهذا صح النكاح والطلاق وإن لم يكن لها أصبع ويبقى بعد فوات الأصبع وهذا لأن النكاح والطلاق يرد عليها فتكون الأطراف فيه تبعا كما في ملك الرقبة شراء وملك القصاص وإذا ثبت أنه تبع فبذكر الأصل يصير التبع مذكورا فأما بذكر التبع لا يصير الأصل مذكورا وإذا كان تبعا لا يكون محلا لإضافة التصرف إليه مقصودا والسراية إنما تتحقق بعد صحة الإضافة إلى محله وقد ذكرنا في الوجه والرأس أن الوقوع ليس بطريق السراية بل باعتبار أن ما ذكر عبارة عن جميع البدن حتى لو كان عرفا ظاهر القوم أنهم يذكرون اليد عبارة عن جميع البدن نقول يقع الطلاق في حقهم ولا يمكن تصحيح الكلام هنا بطريق الإضمار وهو أن يقدم الإيقاع على البدن لتصحيح كلامه لأنه لو كان هذا كلاما مستقيما لصح إضافة النكاح إلى اليد بهذا الطريق وهذا لأن المقتضى تبع للمقتضي وجعل الأصل تبعا للأصبع متعذر فلهذا لا يصح بطريق الاقتضاء وهذا بخلاف ما لو أضاف إلى جزء شائع كالنصف والثلث والربع لأن الجزء الشائع ليس بتبع وهو محل لإضافة سائر التصرفات إليه فإذا صحت الإضافة إلى محلها ثبت الحكم في الكل بطريق السراية أو بطريق أنها لا تحتمل التجزي في حكم الطلاق وذكر جزء ما لا يتجزى كذكر الكل ولهذا صحت إضافة النكاح إلى جزء شائع عندنا وهذا بخلاف ما لو قال أنت طالق شهرا لأن الإضافة صحت إلى محلها والطلاق بعد الوقوع لا يحتمل الرفع فلا ينعدم بذكر التوقيت فيما وراء المدة بخلاف النكاح فإنه يحتمل الرفع فبالتوقيت ينعدم فيما وراء الوقت ولا يمكن تصحيحه مؤقتا وقع في بعض النسخ لو قال بضعك طالق يقع وهذا تصحيف إنما هو بعضك طالق أو نصفك طالق فأما البضع لا يعبر به عن جميع البدن ولم يذكر ما لو قال ظهرك طالق أو بطنك طالق وقد قال بعض مشايخنا أنه يقع الطلاق لأن الظهر والبطن في معنى الأصل إذ لا يتصور النكاح بدونهما والأصح أنه لا يقع على ما ذكر بعد هذا في باب الظهار أنه إذا قال ظهرك أو بطنك علي كظهر أمي لا يكون مظاهرا لأن الظهر والبطن لا يعبر بهما عن جميع البدن.
قال: ولو قال لامرأته ولأجنبية إحداكما طالق فإن قال عنيت امرأتي وقع الطلاق عليها وإلا لم يقع لأن اللفظ المذكور يصلح عبارة عن امرأته وعن المرأة الأخرى فكان هذا كناية

 

ج / 6 ص -75-         من حيث المحل وكما أن ألفاظ الكناية لا تعمل إلا بالنية فكذلك الكناية من حيث المحل لا يتعين فيه امرأته إلا بالنية ويحلف بالله ما عنى امرأته كما بينا في الكنايات.
قال: ولو قال لأربع نسوة بينكن تطليقة تطلق كل واحدة واحدة لأنه أوقع على كل واحدة منهن ربع تطليقة وربع التطليقة كما لها فإن التطليقة الواحدة لا يتجزأ وقوعها ولو قال بينكن تطليقتان فكذلك الجواب لأن كل واحدة منهن يصيبها نصف تطليقة إلا أن يقول عنيت أن كل تطليقة بينهن فحينئذ يقع على كل واحدة منهن تطليقتان لأنه صار موقعا على كل واحدة ربع تطليقة وربع تطليقة أخرى ولكن ما لم ينو لا يحمل على هذا لأن الجنس واحد والقسمة في الجنس الواحد بين الأشخاص تكون جملة واحدة ولكن إذا عنى قسمة كل تطليقة فقد شدد الأمر على نفسه واللفظ محتمل لذلك وكذلك لو قال بينكن ثلاث تطليقات أو أربع تطليقات تطلق كل واحدة منهن واحدة إلا أن يقول عنيت أن كل تطليقة بينهن فحينئذ تطلق كل واحدة ثلاثا ولو قال بينكن خمس تطليقات تطلق كل واحدة منهن ثنتين لأن كل واحدة منهن يصيبها تطليقة وربع وكذلك إن قال ست أو سبع أو ثمان وإن قال بينكن تسع تطليقات تطلق كل واحدة ثلاثا لأن كل واحدة منهن يصيبها بالقسمة تطليقتان وربع تطليقة وكذلك لو قال أشركتكن في ثلاث تطليقات فلفظ الإشراك ولفظ البين سواء بخلاف ما لو طلق امرأتين له ثم قال لثالثة أشركتك فيما أوقعت عليهما يقع عليها تطليقتان لأنه صار مشركا لها في كل تطليقة.
قال: رجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا واحدة فهي طالق ثنتين لأن الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى قال الله تعالى:
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] معناه تسعمائة وخمسين عاما وما وراء المستثنى هنا اثنتان ولو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين فهي واحدة إلا على قول الفراء رحمه الله تعالى فإنه يقول استثناء الأكثر لا يصح لأنه لم تتكلم به العرب ولكنا نقول طريق الاستثناء ما قلنا وهو أن يكون عبارة عما وراء المستثنى فشرط صحته أن يبقي وراء المستثنى شيء حتى يجعل كلامه عبارة عنه وفي هذا لا فرق بين الأقل والأكثر وعلى قول بعض أهل النحو رحمهم الله تعالى الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لكان الكلام متناولا له فيكون بمنزلة دليل الخصوص في العموم وفي ذلك لا فرق بين الأقل والأكثر وبأن لم تتكلم به العرب لا يمنع صحته إذا كان موافقا لمذهبهم كاستثناء الكسور ولم يذكر في الكتاب ما إذا قال أنت طالق ثلاثا إلا نصف تطليقة كم يقع وقيل على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى تطلق اثنتين لأن التطليقة كما لا تتجزأ في الإيقاع لا تتجزأ في الاستثناء فكأنه قال إلا واحدة وعند محمد رحمه الله تعالى تطلق ثلاثا لأن في الإيقاع إنما لا يتجزأ لمعنى في الموقع وذلك لا يوجد في الاستثناء فيتجزأ فيه وإذا كان المستثنى نصف تطليقة صار كلامه عبارة عن تطليقتين ونصف فيكون ثلاثا.
قال: وإذا قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا تطلق ثلاثا لأنه استثنى جميع ما تكلم به وهذا

 

ج / 6 ص -76-         الاستثناء باطل فإنه إن جعل عبارة عما وراء المستثنى لا يبقى بعد استثناء الكل شيء ليكون كلامه عبارة عنه وإن جعل بمنزلة دليل الخصوص فذلك لا يعم الكل لأنه حينئذ يكون نسخا لا تخصيصا وظن بعض أصحابنا ومشايخنا رحمهم الله تعالى أن استثناء الكل رجوع والرجوع عن الكل باطل وهذا وهم فقد بطل استثناء الكل في الوصية أيضا وهو يحتمل الرجوع فدل أن الطريق ما قلنا.
قال: وإن قال لها وقد دخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق إلا واحدة تطلق ثلاثا من قبل أنه فرق الكلام فيكون هو مستثنيا جميع ما تكلم به في آخر كلماته وهو باطل وكذلك لو ذكره مع حرف العطف ولو قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة وواحدة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى تطلق ثلاثا لأنه عطف بعض الكلمات على البعض والعطف للاشتراك وعند ذلك صار مستثنيا للكل فكأنه قال إلا ثلاثا وهو الظاهر من قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقد روي عنه أنه يقع واحدة وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه لو قال إلا واحدة وواحدة صار مستثنيا للاثنتين فكان صحيحا فإنما بطل استثناء الثالثة فقط.
قال: ولو قال أنت طالق تطليقة إلا نصفها فهي طالق واحدة لأن ما بقي منها تطليقة تامة وهو إشارة إلى مذهب محمد رحمه الله تعالى في أن التطليقة تتجزى في الاستثناء وعلى قول من يقول لا تتجزى هذا استثناء لجميع ما تكلم به وهذا لا يصح وذكر في النوادر إذا قال أنت طالق ثنتين وثنتين الاثنتين أن الاستثناء صحيح عندنا وتطلق ثنتين وعند زفر رحمه الله تعالى تطلق ثلاثا لأنه استثنى أحد الكلامين وهو باطل ولكنا نقول لتصحيح هذا الاستثناء وجه وهو أن يجعل مستثنيا من كل كلام تطليقة وكلام العاقل يجب تصحيحه ما أمكن وفي نوادر هشام لو قال ثنتين وثنتين إلا ثلاثا تطلق ثلاثا عند محمد رحمه الله تعالى لأنه استثنى أحد الكلامين وبعض الآخر وذلك باطل ولا وجه لتصحيح بعض الاستثناء فيه دون البعض وفيه إشكال على أصل محمد رحمه الله تعالى لأنه يمكن أن يجعل مستثنيا من كل كلام تطليقة ونصفا فالتطليقة عنده تتجزى في الاستثناء فينبغي أن يقع اثنتان بهذا الطريق.
قال: وإذا طلقها تطليقة رجعية فطلاقه يقع عليها ما دامت في العدة وكذلك الظهار والإيلاء وإن قذفها لاعنها وإن مات أحدهما توارثا لبقاء ملك النكاح بعد الطلاق الرجعي وإن كان الطلاق بائنا لم يقع عليها ظهار ولا إيلاء لأن الظهار منكر من القول وزور لما فيه من تشبيه المحللة بالمحرمة وهذا تشبيه المحرمة بالمحللة والمولى مضار متعنت من حيث أنه يمنع حقها في الجماع وبعد البينونة لا حق لها في الجماع وكذلك لو قذفها لم يلاعنها وكان عليه الحد لأن اللعان مشروع لقطع النكاح وقد انقطع النكاح بالبينونة.
قال: رجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار ثم طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج آخر فدخلت الدار لم تطلق عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى تطلق ثلاثا لأن التعليق في الملك قد صح والشرط وجد في الملك فينزل الجزاء كما لو قال لعبده: إن

 

ج / 6 ص -77-         دخلت الدار فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار وهذا لأن المعلق بالشرط ليس بطلاق على ما نبينه إن شاء الله تعالى والذي أوقعه طلاق فكان غير المعلق بالشرط والمعلق بالشرط غير واصل إلى المحل فلا يعتبر لبقائه متعلقا قيام المحل وإنما يشترط كون المحل محلا عند وجود الشرط لأنه عند ذلك يصل إليه وهو موجود والدليل عليه أنه لو قال لها إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ثم طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج آخر يكون مظاهرا منها إذا دخلت الدار ولو طلقها اثنتين في مسألة اليمين بالطلاق ثم عادت إليه بعد إصابة زوج آخر فدخلت الدار تطلق ثلاثا فإذا كان وقوع بعض الطلقات لا يمنع بقاء التعليق في الثلاث فكذلك في وقوع الكل وحجتنا ما علل به في الكتاب فقال من قبل أنه لما طلقها ثلاثا فقد ذهب تطليقات ذلك الملك كله ومعنى هذا أن انعقاد هذه اليمين باعتبار التطليقات المملوكة فإن اليمين بالطلاق لا ينعقد إلا في الملك أو مضافا إلى الملك ولم توجد الإضافة هنا فكان انعقادها باعتبار التطليقات المملوكة وهي محصورة بالثلاث وقد أوقع ذلك كله والكل من كل شيء لا يتصور تعدده فعرفنا أنه لم يبق شيء من الجزاء المعلق بالشرط طلاقا كان أو غيره وكما لا ينعقد اليمين بدون الجزاء لا يبقى بدون الجزاء ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق كل يوم ثلاثا فوقع عليها ثلاث تطليقات ثم تزوجها بعد زوج آخر لم يقع شيء وكذلك لو قال لها أنت طالق تسعا كل سنة ثلاثا ثم تزوجها بعد زوج لم يقع في السنة الثانية شيء ولكن زفر رحمه الله تعالى يخالف في جميع هذا ويقول ما يملك على امرأته من التطليقات غير محصور بعدد وإنما لا يقع إلا الثلاث لأن المحل لا يسع إلا ذلك حتى أن باعتبار تجدد العقد يقع عليها أكثر من ثلاث ولو قال لها أنت طالق ألفا يقع عليها ثلاث ولو كان المملوك هو الثلاث لم يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما لو قال لها طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء والمعتمد أن نقول بوقوع الثلاث عليها خرجت من أن تكون محلا للطلاق لأن الطلاق مشروع لرفع الحل وقد ارتفع الحل بالتطليقات الثلاث وفوت محل الجزاء يبطل اليمين كفوت محل الشرط بأن قال إن دخلت هذه الدار ثم جعل الدار حماما أو بستانا لا يبقى اليمين فهذا مثله بخلاف ما بعد بيع العبد لأنه بصفة الرق كان محلا للعتق وبالبيع لم تفت تلك الصفة حتى لو فات العتق لم يبق اليمين وبخلاف ما لو طلقها اثنتين لأن المحل باق بعد اثنتين فإن المحلية باعتبار صفة الحل وهي قائمة بعد الثنتين فيبقى اليمين ثم قد استفاد من جنس ما كان انعقدت عليه اليمين فيسري إليه حكم اليمين كما لو هلك مال المضاربة إلا درهما منه يبقى عقد المضاربة على الكل حتى لو تصرف وربح يحصل جميع رأس المال بخلاف ما لو هلك الكل وهذا بخلاف اليمين في الظهار فإن المحلية هناك لا تنعدم بالتطليقات الثلاث لأن الحرمة بالظهار غير الحرمة بالطلاق فإن تلك حرمة إلى وجود التكفير وهذه حرمة إلى وجود ما يرفعها وهو الزوج إلا أنها لو دخلت الدار بعد الطلقات الثلاث إنما لا يصير مظاهرا لأنه لا حل بينهما في الحال والظهار تشبيه المحللة بالمحرمة وذلك لا يوجد إلا

 

ج / 6 ص -78-         إذا دخلت الدار بعد التزوج بها وما قال أن المحل لا يعتبر في المعلق بالشرط ضعيف لأنه إيجاب وإن لم يكن واصلا إلى المحل ولا يكون كلامه إيجابا إلا باعتبار المحل فلا بد لبقائه معلقا بالشرط من بقاء المحل ولم يبق بعد التطليقات الثلاث وعلى هذا لو قال أنت طالق كلما حضت فبانت بثلاث ثم عادت إليه بعد زوج آخر لم يقع عليها إن حاضت شيء إلا على قول زفر رحمه الله تعالى وكذلك إن آلى منها فبانت بالإيلاء ثم تزوجها فبانت أيضا حتى بانت بثلاث ثم تزوجها بعد زوج لم يقع عليها بهذا الإيلاء طلاق إلا على قول زفر رحمه الله تعالى ولكن إن قربها كفر عن يمينه لأن اليمين باقية فإن انعقادها وبقاءها لا يختص بمحل الحل فإذا قربها تحقق حنثه في اليمين فتلزمه الكفارة.
قال: وإن طلق امرأته واحدة أو اثنتين ثم تزوجها بعد زوج قد دخل بها فهي عنده على ثلاث تطليقات مستقبلات في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وهو قول ابن عباس وابن عمر وإبراهيم وأصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وعند محمد وزفر والشافعي رحمهم الله تعالى هي عنده بما بقي من طلاقها وهو قول عمر وعلي وأبي بن كعب وعمران بن الحصين وأبي هريرة رضي الله عنهم فأخذ الشبان من الفقهاء بقول المشايخ من الصحابة رضوان الله عليهم والمشايخ من الفقهاء بقول الشبان من الصحابة رضوان الله عليهم وحجة محمد رحمه الله تعالى في ذلك أن الزوج الثاني غاية للحرمة الحاصلة بالثلاث قال الله تعالى:
{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وكلمة حتى للغاية حقيقة وبالتطليقة والتطليقتين لم يثبت شيء من تلك الحرمة لأنها متعلقة بوقوع الثلاث وببعض أركان العلة لا يثبت شيء من الحكم فلا يكون الزوج الثاني غاية لأن غاية الحرمة قبل وجودها لا يتحقق كما لو قال إذا جاء رأس الشهر فوالله لا أكلم فلانا حتى أستشير فلانا ثم استشاره قبل مجيء رأس الشهر لا يعتبر هذا لأن الاستشارة غاية للحرمة الثابتة باليمين فلا تعتبر قبل اليمين وإذا لم تعتبر كان وجودها كعدمها ولو تزوجها قبل التزوج أو قبل إصابة الزوج الثاني كانت عنده بما بقي من التطليقات فكذلك هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا إصابة الزوج الثاني بنكاح صحيح يلحق المطلقة بالأجنبية في الحكم المختص بالطلاق كما بعد التطليقات الثلاث وبيان هذا أن بالتطليقات الثلاث تصير محرمة ومطلقة ثم بإصابة الزوج الثاني يرتفع الوصفان جميعا وتلتحق بالأجنبية التي لم يتزوجها قط فبالتطليقة الواحدة تصير موصوفة بانها مطلقة فيرتفع ذلك بإصابة الزوج الثاني ثم الدليل على أن الزوج الثاني رافع للحرمة لا منه أن المنهي يكون متقررا في نفسه ولا حرمة بعد إصابة الزوج الثاني فدل أنه رافع للحرمة ولأنه موجب للحل فإن صاحب الشرع سماه محللا فقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلل والمحلل له" وإنما كان محللا لكونه موجبا للحل ومن ضرورته أنه يكون رافعا للحرمة وبهذا تبين أن جعله غاية مجاز وهو نظير قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] والإغتسال موجب للطهارة رافع للحدث لا أن يكون غاية للجنابة

 

ج / 6 ص -79-         والدليل عليه أن أحكام الطلاق تثبت متأبدة لا إلى غاية ولكن ترتفع بوجود ما يرفعها كحكم زوال الملك لا يثبت مؤقتا ولكن يرتفع بوجود ما يرفعه وهو النكاح وإذا ثبت أن الزوج الثاني موجب للحل فإنما يوجب حلالا يرتفع إلا بثلاث تطليقات وذلك غير موجود بعد التطليقة والتطليقتين فيثبت به ولما كان رافعا للحرمة إذا اعترض بعد ثبوت الحرمة فلأن يرفعها وهو بعرض الثبوت أولى ولأن يمنع ثبوتها إذا اقترن بأركانها أولى ومحمد رحمه الله تعالى يقول ثبوت الحرمة بسبب إيقاع الطلاق وذلك لا يرتفع بالزوج الثاني حتى لا تعود منكوحة له وبقاء الحكم ببقاء سببه فعرفنا أنه ليس برافع للحرمة ولا هو موجب للحل لأن تأثير النكاح الثاني في حرمتها على غيره فكيف يكون موجبا للحل لغيره وسماه محللا لأنه شرط للحل لا لأنه موجب للحل ألا ترى أنه سماه ملعونا باشتراط ما لا يحل له شرعا فعرفنا أنه غير موجب للحل ولكن الحرمة تحتمل التوقيت كحرمة المعتدة وحرمة الاصطياد على المحرم فجعلنا الزوج الثاني غاية للحرمة عملا بحقيقة كلمة حتى المذكورة في الكتاب والسنة حيث قال صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي من عسيلته" ومسئلة يختلف فيها كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لغور فقهها يصعب الخروج منها.
قال: ولو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها واحدة أو اثنتين وعادت إليه بعد زوج آخر فدخلت الدار عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى تطلق بالدخول ثلاثا لأنها عادت إليه بثلاث تطليقات
وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يقع عليها ما بقي لأن عندهما إنما عادت إليه بما بقي من الطلقات قال: ولو قال لامرأة كلما تزوجتك فأنت طالق ثلاثا فهو كما قال يقع عليها ثلاث كما تزوج بها لأن كلمة كلما تقتضي نزول الجزاء بتكرار الشرط وانعقاد هذه اليمين باعتبار التطليقات التي يملكها عليها بالتزوج وتلك غير محصورة بعدد فلهذا بقيت اليمين بعد وقوع ثلاث تطليقات بخلاف قوله لامرأته كلما دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا فإن انعقاد تلك اليمين باعتبار التطليقات المملوكة عليها لأنه لم توجد الإضافة إلى الملك فلا تبقى اليمين بعد وقوع التطليقات المملوكة عليها وهذه المسألة تنبني على أصلنا أن ما يحتمل التعليق بالشرط كالطلاق والعتاق والظهار يجوز إضافته إلى الملك عم أو خص وهو قول عمر رضي الله عنه روي عنه ذلك في الظهار وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يصح ذلك وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما فإنه سئل عمن يقول لامرأة إن تزوجتك فأنت طالق فتلي عليه قوله تعالى:
{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وقال شرع الله تعالى الطلاق بعد النكاح فلا طلاق قبله وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى إن خص امرأة أو قبيلة انعقدت اليمين وإن عم فقال كل امرأة لا تنعقد وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه لما فيه من سد باب نعمة النكاح على نفسه فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل النكاح" وروي أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما خطب امرأة فأبى

 

ج / 6 ص -80-         أولياؤها أن يزوجوها منه فقال إن نكحتها فهي طالق ثلاثا فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صلوات الله عليه وسلامه: "لا طلاق قبل النكاح" والمعنى فيه أنه غير مالك لتنجيز الطلاق فلا يملك تعليقه بالشرط كما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم تزوجها فدخلت لم تطلق وهذا لأن تأثير الشرط في تأخير الوقوع إلى وجوده ومنع ما لولاه لكان طلاقا وهذا الكلام لولا الشرط لكان لغوا لا طلاقا ولأن الطلاق يستدعي أهلية في الموقع وملكا في المحل ثم قبل الأهلية لا يصح التعليق مضافا إلى حالة الأهلية كالصبي يقول لامرأته إذا بلغت فأنت طالق فكذلك قبل ملك المحل لا يصح مضافا وبهذا تبين أنه تصرف يختص بالملك فإيجابه قبل الملك يكون لغوا كما لو باع الطير في الهواء ثم أخذه قبل قبول المشتري وحجتنا في ذلك أن التعليق بالشرط يمين فلا تتوقف صحته على ملك المحل كاليمين بالله تعالى وهذا لأن اليمين تصرف من الحالف في ذمة نفسه لأنه يوجب على نفسه البر والمحلوف به ليس بطلاق لأنه لا يكون طلاقا إلا بالوصول إلى المرأة وما دامت يمينا لا يكون واصلا إليها وإنما الوصول بعد ارتفاع اليمين بوجود الشرط فعرفنا أن المحلوف به ليس بطلاق وقيام الملك في المحل لأجل الطلاق ولكن المحلوف به ما سيصير طلاقا عند وجود الشرط بوصوله إليها ونظيره من المسائل الرمي عينه ليس بقتل والترس لا يكون مانعا عما هو قتل ولا مؤخرا له بل يكون مانعا عما سيصير قتلا إذا وصل إلى المحل ولما كان التعليق مانعا من الوصول إلى المحل والتصرف لا يكون إلا بركنه ومحله فكما أنه بدون ركنه لا يكون طلاقا فكذلك بدون محله لا يكون طلاقا وبه فارق ما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق فإن المحلوف به هناك غير موجود وهو ما يصير طلاقا عند وجود الشرط لأن دخول الدار ليس بسبب لملك الطلاق ولا هو مالك لطلاقها في الحال حتى يستدل به على بقاء الملك عند وجود الشرط أما هنا نتيقن بوجود المحلوف به موجودا بطريق الظاهر بأن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين وإن كان من الجائز أن يكون دخولها بعد زوال الملك فإذا كان المحلوف به متيقن الوجود عند وجود الشرط أولى أن ينعقد اليمين وبأن كان لا يملك التنجيز لا يدل على أنه لا يملك التعليق كمن يقول لجاريته إذا ولدت ولدا فهو حر صح وإن كان لا يملك تنجيز العتق في الولد المعدوم وإذا قال لامرأته الحائض إذا طهرت فأنت طالق كان هذا طلاقا للسنة وإن كان لا يملك تنجيزه في الحال وهذا بخلاف التصرف لأنه لا بد منه في تصرف اليمين كما لا بد منه في تصرف الطلاق فأما الملك في المحل معتبر بالطلاق دون اليمين وهذا بخلاف البيع فإن الإيجاب أحد شطري البيع وتصرف البيع قبل الملك لغو فأما الإيجاب هنا تصرف آخر سوى الطلاق وهي اليمين وتأويل الحديث ما روي عن مكحول والزهري وسالم والشعبي رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا كانوا يطلقون في الجاهلية قبل التزوج تنجيزا ويعدون ذلك طلاقا فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله لا طلاق قبل النكاح وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه غير مشهور وإن ثبت فمعنى قوله إن نكحتها أي وطئتها لأن النكاح حقيقة للوطء

 

ج / 6 ص -81-         وبهذا لا يحصل إضافة الطلاق إلى الملك عندنا إذا عرفنا هذا فنقول إذا قال لامرأته إذا تزوجتك أو إذا ما تزوجتك أو إن تزوجتك أو متى ما تزوجتك فهذا كله للمرة الواحدة لأنه ليس في لفظه ما يدل على التكرار فإن كلمة إن للشرط وإذا ومتى للوقت بخلاف ما لو قال كلما تزوجتك لأن كلمة كلما تقتضي التكرار فلا يرتفع اليمين بالتزوج مرة ولكن كلما تزوجها يصير عند التزوج كالمنجز للطلاق وكذلك لو قال كلما دخلت الدار فهذا على كل مرة حتى تطلق ثلاثا بخلاف إن وإذا ومتى فإن ذلك على المرة الواحدة.
قال: ولو قال لامرأة لا يملكها أنت طالق يوم أكلمك أو يوم تدخلين الدار أو يوم أطؤك فهذا باطل بخلاف ما لو قال يوم أتزوجك فإنه بهذا اللفظ يصير مضيفا الطلاق إلى التزوج وهو سبب لملك الطلاق فيصير المحلوف به موجودا بخلاف ما سبق فإن دخول الدار ليس بسبب لملك الطلاق فإن تزوج بها ثم فعل ذلك لم يقع عليها شيء عندنا وقال بن أبي ليلى يقع لأن المعتبر لوقوع الطلاق وقت وجود الشرط فإن طلقها حينئذ يصل إلى المحل والملك موجود عند وجود الشرط فيقع الطلاق ولكنا نقول هذا بعد انعقاد اليمين ولا ينعقد اليمين بدون المحلوف به فإذا لم يكن هو مالكا للطلاق في الحال ولا في الوقت المضاف إليه لا ينعقد اليمين فبدون ذلك وإن صار مالكا للطلاق في الوقت المضاف إليه لا يقع شيء لأن اليمين ما كانت منعقدة وكذلك لو قال لها أنت طالق غدا ثم تزوجها اليوم لم يقع عليها شيء إذا جاء غد وإذا قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق أنت طالق وقال عنيت الأولى صدق فيما بينه وبين الله تعالى وأما في القضاء فهما تطليقتان لأن كل واحد من الكلامين إيقاع من حيث الظاهر فإن صيغة الكلام الثاني كصيغة الكلام الأول والقاضي مأمور باتباع الظاهر وما قاله من قصد تكرار الكلام الأول محتمل لأن الكلام الواحد يكرر للتأكيد والله تعالى مطلع على ضميره وكذلك قوله قد طلقتك قد طلقتك أو أنت طالق قد طلقتك أو أنت طالق أو طالق وأنت طالق فأما إذا قال لها أنت طالق فقال له إنسان ماذا قلت فقال قد طلقتها أو قال قلت هي طالق فهي طالق واحدة لأن كلامه الثاني جواب لسؤال السائل والسائل إنما يسأله عن الكلام الأول لا عن إيقاع آخر فيكون جوابه بيانا لذلك الكلام.
قال: وإذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق ثم طلقها واحدة وقد دخل بها فهي طالق اثنتين في القضاء إحداهما بالإيقاع والأخرى بوجود الشرط لأن قوله إذا طلقتك شرط وقوله فأنت طالق جزاء له وأما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان نوى بقوله إذا طلقتك فأنت طالق تلك التطليقة فهي واحدة لأن ما نواه محتمل على أن يكون قوله فأنت طالق بيانا لحكم الإيقاع لا جزاء لشرطه والله تعالى مطلع على ضميره وكذلك إذا قال متى ما طلقتك أو إن طلقتك فأنت طالق ولو قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم طلقها واحدة تطلق ثلاثا لأن بوقوع الواحدة يوجد الشرط فوقع عليها تطليقه اليمين ثم بوقوع هذه التطليقة وجد الشرط مرة أخرى واليمين معقودة بكلمة كلما فتقع عليها الثالثة وهذا بخلاف ما لو قال كلما طلقتك

 

ج / 6 ص -82-         فأنت طالق ثم طلقها واحدة تقع عليها أخرى فقط لأن وقوع الثانية عليها ليس بإيقاع مستقبل منه بعد يمينه فلا يصلح شرطا للحنث فلهذا لا يقع عليها إلا واحدة فأما في الأول الشرط الوقوع لا الإيقاع والوقوع يحصل بالثانية بعد اليمين وعلى هذا لو قال كلما قلت أنت طالق فأنت طالق أو كلما تكلمت بطلاق يقع عليك فأنت طالق وطلقها واحدة فهي طالق أخرى باليمين ولا يقع بالثانية طلاق لما بينا أن ما جعله شرطا لا يصير موجودا بعد اليمين بما وقع باليمين والأصل فيما نذكره بعد هذا أن اليمين إنما يعرف بالجزاء حتى لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق كان يمينا بالطلاق ولو قال فعبدي حر كان يمينا بالعتق والشرط واحد وهو دخول الدار ثم اختلفت اليمين باختلاف الجزاء وأصل آخر أن الشرط يعتبر وجوده بعد اليمين وأما ما سبق اليمين لا يكون شرطا لأنه يقصد باليمين منع نفسه عن إيجاد الشرط وإنما يمكنه أن يمنع نفسه عن شيء في المستقبل لا فيما مضى فعرفنا أن الماضي لم يكن مقصودا له واليمين يتقيد بمقصود الحالف إذا عرفنا هذا فنقول رجل له امرأتان عمرة وزينب فقال لزينب أنت طالق إذا طلقت عمرة أو كلما طلقت عمرة ثم قال لعمرة أنت طالق إذا طلقت زينب ثم قال لزينب أنت طالق فإنه يقع على زينب بالإيقاع تطليقة ويقع على عمرة أيضا تطليقة لأن كلامه الأول كان يمينا بطلاق زينب وكلامه الثاني كان يمينا بطلاق عمرة فإن الجزاء فيه طلاق عمرة والشرط طلاق زينب وقد وجد الشرط بإيقاعه على زينب فلهذا يقع على عمرة تطليقة باليمين ويعود إلى زينب لأن عمرة طلقت بيمين بعد يمينه بطلاق زينب فيكون وقوع الطلاق عليها شرطا للحنث في اليمين بطلاق زينب فلهذا يقع عليها تطليقة أخرى هكذا في نسخ أبي سليمان رضي الله تعالى عنه وهو الصحيح وفي نسخ أبي حفص رضي الله تعالى عنه قال ولا يعود على زينب وهو غلط ثم قال ولو لم يطلق زينب ولكنه طلق عمرة وقعت عليها تطليقة بالإيقاع وعلى زينب تطليقة باليمين ثم وقعت أخرى على عمرة باليمين هكذا ذكر في نسخ أبي حفص رضي الله تعالى عنه وهو غلط والصحيح ما ذكره في نسخ أبي سليمان رضي الله تعالى عنه أنه لا يقع على عمرة باليمين لأن زينب إنما طلقت باليمين السابقة على اليمين بطلاق عمرة فلا يكون ذلك شرطا للحنث في اليمين بطلاق عمرة قال ألا ترى أنه لو قال لزينب إذا طلقت عمرة فأنت طالق ثم قال لعمرة إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت عمرة الدار تطلق بالدخول وتطلق زينب أيضا لأن عمرة إنما طلقت بكلام بعد اليمين بطلاق زينب ولو كان قال لعمرة أولا إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال لزينب إن طلقت عمرة فأنت طالق ثم دخلت عمرة الدار طلقت ولم يقع الطلاق على زينب لأن عمرة إنما طلقت بيمين قبل اليمين بطلاق زينب فلا يصلح أن يكون ذلك شرطا للحنث في اليمين بطلاق زينب وبهذا الاستشهاد يتبين أن الصواب ما ذكره في نسخ أبي سليمان وأن جوابه في نسخ أبي حفص وقع على القلب.
قال: وإذا حلف بطلاق عمرة لا يحلف بطلاق زينب ثم حلف بطلاق زينب لا يحلف

 

ج / 6 ص -83-         بطلاق عمرة كانت عمرة طالقا لأنه بالكلام الأول حلف بطلاق عمرة وشرط حنثه الحلف بطلاق زينب وبالكلام الثاني صار حالفا بطلاق زينب لأن الجزاء فيه طلاق زينب فوجد فيه شرط الحنث في اليمين الأولى ألا ترى أنه لو قال لزينب بعد الكلام الأول إن دخلت الدار فأنت طالق كانت عمرة طالقا لأنه قد حلف بطلاق زينب فإن الشرط والجزاء يمين عند أهل الفقه وقد وجد فصار به حانثا في اليمين الأولى.
قال: ولو قال لزينب أنت طالق إن شئت لم تطلق عمرة لأن هذا ليس بيمين بل هو تفويض المشيئة إليها بمنزلة قوله اختاري أو أمرك بيدك وذلك لا يكون حلفا بالطلاق ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه مع نهيه عن الحلف بالطلاق والدليل على أنه بمنزلة التخيير أنه يبطل بقيامها عن المجلس قبل المشيئة والشرط المطلق لا يتوقت بالمجلس وحقيقة المعنى فيه أن الشرط منفي فإن الحالف يقصد منع الشرط بيمينه وفي قوله أنت طالق إن شئت لا يقصد منعها عن المشيئة فعرفنا أنه ليس بيمين وكذلك لو قال لزينب أنت طالق إذا حضت حيضة فهذا ليس بيمين عندنا ولا يحنث به في اليمين بطلاق عمرة لأن هذا تفسير لطلاق السنة فإن بهذا اللفظ لا يقع الطلاق عليها ما لم تطهر لأن الحيضة اسم للحيضة الكاملة وطلاق السنة يتأخر إلى حالة الطهر فكأنه قال لها أنت طالق للسنة وعن زفر رحمه الله تعالى أن هذا يمين لوجود الشرط والجزاء وليس بتفسير لطلاق السنة ألا ترى أنه لو جامعها في هذه الحيضة ثم طهرت طلقت ولو قال لها أنت طالق للسنة ثم جامعها في الحيض فطهرت لم تطلق وكذلك لو قال لها إذا حضت حيضتين أو إذا حضت ثلاث حيض لم يكن شيء من ذلك حلفا بطلاقها بخلاف ما لو قال لها إذا حضت فهذا حلف بطلاقها حتى تطلق عمرة لأن بهذا اللفظ يقع الطلاق في الحيض قبل الطهر فلا يكون تفسيرا لطلاق السنة فإن قيل هذا تفسير لطلاق البدعة ولو قال أنت طالق للبدعة لم يكن حالفا بطلاقها.
قلنا ليس كذلك فطلاق البدعة لا يختص بالحيض وهذا الطلاق لا يقع إلا في حالة الحيض فعرفنا أنه شرط وجزاء.
قال: وإذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا للسنة ولا نية له فكلما حاضت وطهرت طلقت واحدة حتى تستكمل الثلاث لأن قوله للسنة أي لوقت السنة فإن اللام للوقت قال الله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] وكل طهر محل لوقوع تطليقة واحدة للسنة فلهذا طلقت في كل طهر واحدة ولا يحتسب بالحيضة الأولى من عدتها لأنها سبقت وقوع الطلاق عليها وإن نوى أن تطلق ثلاثا في الحال فهو كما نوى عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى لا تعمل نيته لأن وقوع الثلاث جملة خلاف السنة ووقوع الطلاق في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه خلاف السنة والنية إنما تعمل إذا كانت من محتملات اللفظ لا فيما كان من ضده ولأن معنى قوله أنت طالق للسنة إذا حضت وطهرت فكأنه صرح بذلك ونوى الوقوع في الحال فلا تعمل نيته ولكنا نقول المنوي من محتملات لفظه على معنى أن وقوع الثلاث

 

ج / 6 ص -84-         جملة من مذهب أهل السنة ووقوع الطلاق في الحيض كذلك إذ كون الطلاق ثلاثا عرف بالسنة فقد كانوا في الجاهلية يطلقون أكثر من ذلك فعرفنا أن المنوي من محتملات لفظه وفيه تغليظ عليه فتعمل نيته ولو قال أنت طالق للسنة ولم يسم ثلاثا ولم يكن له نية فهي طالق واحدة إذا طهرت من الحيضة لما بينا أن اللام للوقت وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث كلما طهرت من حيضة طلقت واحدة لأن أوقات السنة غير محصورة فهو إنما نوى التعميم في أوقات السنة حتى يقع في كل طهر تطليقة واحدة وقد بينا أن نية التعميم صحيحة في كلامه فلهذا طلقت في كل طهر واحدة وإن كانت لا تحيض من صغر أو كبر طلقت ساعة تكلم به واحدة وبعد شهر أخرى وبعد شهر أخرى لأن الثلاث للسنة هكذا تقع عليها والشهر في حقها كالحيض في حق ذات القروء وإن نوى أن يقعن جميعا في ذلك المجلس فهو كما نوى لما بينا.
قال: رجل قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق كلما حضت حيضتين فهو كما قال إذا حاضت حيضتين طلقت لوجود الشرط ثم إذا حاضت أخراوين طلقت أخرى لوجود الشرط لأن اليمين معقودة بكلمة كلما ويحتسب بهاتين الحيضتين من عدتها فإذا حاضت أخرى انقضت عدتها.
قال: وإن قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق وقال لها أيضا كلما حضت فأنت طالق فرأت الدم فهي طالق واحدة باليمين الثانية لأن الشرط فيها وجود الحيض لا الخروج منه فإذا طهرت من الحيض فهي طالق أخرى باليمين الأولى لأن الشرط فيها الحيضة الكاملة وقد وجدت بعدها ولا يحتسب بهذه الحيضة من عدتها لأن وقوع الطلاق كان بعد مضي جزء منها وإذا حاضت الثانية فهي طالق أخرى باليمين الثانية لأنها عقدت بكلمة كلما وكلمة كلما توجب تكرار الشرط وقد وجد الشرط فيها مرة أخرى.
قال: ولو قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق وقال أيضا إذا حضت حيضتين فأنت طالق فحاضت حيضة وطهرت فهي طالق واحدة باليمين الأولى لأن شرط الحنث فيها حيضة واحدة وقد وجدت فإذا حاضت حيضة أخرى طلقت أخرى لوجود الشرط في اليمين الثانية وهو مضي الحيضتين بعدها فإن الحيضة الأولى كمال الشرط في اليمين الأولى ونصف الشرط في اليمين الثانية والشيء الواحد يصلح شرطا للحنث في أيمان كثيرة ويحتسب بالحيضة الثانية من عدتها لأنها حاضتها بعد وقوع الطلاق عليها
ولو كان قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق ثم إذا حضت حيضتين فأنت طالق فإذا حاضت حيضة واحدة طلقت واحدة ثم لا تطلق أخرى ما لم تحض حيضتين سواها لأنه جعل الشرط في اليمين الثانية حيضتين سوى الحيضة الأولى فإن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي وعلى هذا لو قال إذا دخلت الدار دخلة فأنت طالق ثم إذا دخلتها دخلتين فأنت طالق بخلاف ما لو قال إذا دخلت فأنت طالق وإذا دخلت فأنت طالق فدخلت دخلة واحدة وقعت عليها تطليقتان لأن الشرط في اليمين الدخول مطلقا وقد وجد ذلك بدخلة واحدة وفي الأول الشرط دخلتان بعد

 

ج / 6 ص -85-         الدخلة الأولى في اليمين الثانية ولو قال إذا حضت حيضة فأنت طالق وإذا حضت حيضتين فأنت طالق فحاضت حيضتين تطلق اثنتين إحداهما حين حاضت الأولى لوجود الشرط في اليمين الأولى والثانية حين حاضت الأخرى لتمام الشرط بها في اليمين الثانية
قال: ولو قال كلما حضت حيضة فأنت طالق فحاضت أربع حيض طلقت ثلاثا كل حيضة واحدة لتكرر الشرط في اليمين المعقودة بكلمة كلما وانقضت العدة بالحيضة الرابعة لأن الحيضة الأولى لا تكون محسوبة من عدتها فإنها سبقت وقوع الطلاق عليها.
قال: وإذا قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق فإنما يقع عليها بعد ما ينقطع عنها الدم وتغتسل لأن الشرط مضي حيضة كاملة ولا يتيقن به إلا بعد الحكم بطهرها فإن كانت أيامها عشرة فبنفس الانقطاع يتيقن بطهرها وإن كانت أيامها دون العشرة فإنما يحكم بطهرها إذا اغتسلت أو ذهب وقت صلاة بعد انقطاع الدم فلهذا توقف الوقوع عليه، ولو قال إذا حضت حيضة فأنت طالق فقالت قد حضت حيضة لم تصدق في القياس إذا كذبها الزوج لأنها تدعي وجود شرط الطلاق ومجرد قولها في ذلك ليس بحجة في حق الزوج كما لو كان الشرط دخولها الدار وهذا لأن دعواها شرط الطلاق كدعواها نفس الطلاق وفي الاستحسان القول قولها لأن حيضها لا يعلمه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه كما لو قال لها إن كنت تحبينني أو تبغضينني وجب قبول قولها في ذلك ما دامت في المجلس وكذلك لو قال لها إن شئت إلا أن هناك تقدر على الاختيار في المجلس فبالتأخير عنه تصير مفرطة وهنا لا تقدر على الإخبار بالحيض ما لم تر الدم فوجب قبول قولها متى أخبرت به.
قال: ويدخل في هذا الاستحسان بعض القياس معناه أن الزوج لما علق وقوع الطلاق بالحيض صار ذلك من أحكام الحيض بجعله وقولها حجة تامة في أحكام الحيض كحرمة وطئها إذا أخبرت برؤية الدم وحل الوطء إذا أخبرت بانقطاع الدم وكذلك في حكم انقضاء العدة بالحيض يقبل قولها لأن الشرع سلطها على الإخبار فكذلك الزوج بتعليق الطلاق به يصير مسلطا لها على الإخبار وإذا قال إذا حضت فأنت طالق وفلانة معك فقالت حضت فقياس الاستحسان الأول أن يقع الطلاق على فلانة كما يقع عليها لأن قولها حجة تامة فيما لا يعلمه غيرها فيكون ثبوت هذا الشرط بقولها كثبوت شرط آخر بالبينة أو بتصديق الزوج ولكنا ندع القياس فيه ونقول لا يقع على الأخرى شيء حتى يعلم أنها قد حاضت لأن في ذلك حق الضرة وهي ما سلطتها ولا رضيت بخبرها في حق نفسها ثم قبول قولها فيما ما لا يعلمه غيرها لأجل الضرورة وذلك في حق نفسها خاصة كما في حل الوطء وانقضاء العدة والحكم يثبت بحسب الحاجة ألا ترى أن الملك للمستحق إذا ثبت بإقرار المشتري لم يرجع على البائع بالثمن وإن شهادة امرأتين ورجل بالسرقة حجة في حق المال دون القطع فهذا مثله ولو قال لها إذا ولدت غلاما فأنت طالق واحدة وإذا ولدت جارية فأنت طالق ثنتين فولدت غلاما وجارية فإن علم أنها ولدت الجارية أولا طلقت اثنتين بولادتها الجارية ثم انقضت

 

ج / 6 ص -86-         عدتها بولادة الغلام وإن علم أنها ولدت الغلام أولا طلقت واحدة بولادتها الغلام وانقضت عدتها بولادة الجارية فإن لم يعلم أيهما أولا لم يقع في القضاء إلا تطليقة واحدة لأن التيقن فيها وفي الثانية شك والطلاق بالشك لا يقع وفيما بينه وبين الله تعالى ينبغي أن يأخذ بتطليقتين حتى إذا كان طلقها قبل هذا واحدة فلا ينبغي أن يتزوجها حتى تنكح زوجا غيره لاحتمال أنها مطلقة ثلاثا ولأن يترك امرأة يحل له وطؤها خير من أن يطأ امرأة محرمة عليه وإن ولدت غلاما وجاريتين في بطن واحد فإن علم أنها ولدت الجاريتين أولا فهي طالق ثنتين بولادة الأولى منهما وقد انقضت عدتها بولادة الغلام وإن ولدت الغلام أولا طلقت واحدة بولادة الغلام وتطليقتين بولادة الجارية الأولى وقد انقضت عدتها بولادة الأخرى وإن ولدت إحدى الجاريتين أولا ثم الغلام ثم الجارية طلقت تطليقتين بولادة الجارية الأولى والثالثة بولادة الغلام وانقضت عدتها بولادة الأخرى وإن لم يعلم كيف كانت الولادة فنقول في وجه هي طالق اثنتين
وفي وجهين هي طالق ثلاثا ففي القضاء لا تطلق إلا ثنتين لأن اليقين فيها وفي التنزه ينبغي أن يأخذ بثلاث تطليقات احتياطا وقد انقضت عدتها بيقين بولادة الآخر منهم وإذا قال لها كلما ولدت ولدا فأنت طالق وقال إذا ولدت غلاما فأنت طالق فولدت جارية فهي طالق واحدة لأن الجارية ولد فيقع بها تطليقة بحكم الكلام الأول فإن ولدت بعدها غلاما في ذلك البطن انقضت عدتها بولادة الغلام لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها ولا يقع عليها بولادة الغلام شيء لأن أوان الوقوع بعد وجود الشرط وهي ليست في عدته بعد ولادة الغلام فهو بمنزلة ما لو قال لها إذا انقضت عدتك فأنت طالق وإن ولدت الغلام أولا وقع به تطليقتان أحدهما بالغلام الأول لأن الغلام ولد والثانية بالكلام الثاني لأنه غلام وكذلك لو قال لها إذا ولدت غلاما فأنت طالق ثم قال إذا ولدت ولدا فأنت طالق فولدت غلاما طلقت اثنتين لأنه ولد وغلام وكذلك لو قال إذا كلمت فلانا فأنت طالق ثم قال إذا كلمت إنسانا فأنت طالق فكلمت فلانا تطلق اثنتين لأنه إنسان وفلان وكذلك إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ثم قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج فلانة تطلق اثنتين لأنها فلانة وامرأة والشيء الواحد يصلح شرطا للحنث في أيمان كثيرة ولو قال لامرأته كلما ولدت غلاما فأنت طالق فولدت غلاما وجارية في بطن واحد فإن علم أنها ولدت الغلام أولا وقع عليها تطليقة بولادة الغلام وانقضت عدتها بولادة الجارية وإن علم أنها ولدت الجارية أولا وقعت عليها تطليقة بولادة الغلام وعليها العدة بثلاث حيض وله أن يراجعها في العدة إذا علم أن الغلام ولد آخرا وإذا لم يعلم أيهما أول فعليهما الأخذ بالاحتياط في كل حكم فيلزمها العدة بثلاث حيض لجواز أن تكون ولدت الجارية أولا وليس للزوج أن يراجعها في هذه العدة لجواز أن تكون ولدت الغلام أولا ولو مات أحدهما لم يتوارثا لجواز أن تكون ولدت الغلام أولا ثم انقضت عدتها بولادة الجارية والميراث لا يثبت بالشك.
قال: وإن قال إذا ولدت ولدا فأنت طالق فأسقطت سقطا مستبين الخلق أو بعض الخلق

 

ج / 6 ص -87-         طلقت لأن مثل هذا السقط ولد ألا ترى أن العدة تنقضي به وتصير الجارية أم ولد له ولو لم يستبن شيء من خلقه لم يقع به طلاق لأنه ليس بولد في حكم العدة وثبوت أمية الولد فكذلك في حكم الطلاق.
قال: ولو قال لها إذا ولدت فأنت طالق فقالت قد ولدت وكذبها الزوج لم يقع الطلاق بقولها بخلاف الحيض لأن الولادة مما يقف عليها غيرها فإن قول القابلة يقبل في الولد فلا يحكم بوقوع الطلاق ما لم تشهد القابلة به والحيض لا يقف عليه غيرها فإن شهدت القابلة بالولادة ثبت نسب الولد بشهادتها ولا يقع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع الطلاق عليها بشهادة القابلة لأن شرط وقوع الطلاق عليها ولادتها وقد صار محكوما به بشهادة القابلة بدليل ثبوت نسب الولد وشهادة القابلة في حال قيام الفراش حجة تامة في حق النسب وغيره ألا ترى أنه لو قال لجاريته إن كان بها حبل فهو مني فشهدت القابلة على ولادتها صارت هي أم ولد له وكذلك إن ولدت امرأته ولدا ثم قال الزوج هو ليس مني ولا أدري ولدته أم لا فشهدت القابلة حكم باللعان بينهما ولو كان الزوج عبدا أو حرا محدودا في قذف وجب عليه الحد فإذا جعلت شهادة القابلة حجة في حكم اللعان والحد فلأن تجعل حجة في حكم الطلاق أولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول شرط الطلاق إذا كان لا يثبت إلا بالشهادة فلا بد فيه من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين كسائر الشروط وهذا لأن شرط الطلاق كنفس الطلاق وتأثيره أن شهادة المرأة الواحدة ليست بحجة أصلية وإنما يكتفي بها فيما لا يطلع عليه الرجال لأجل الضرورة والثابت بالضرورة لا يعدو مواضعها والضرورة في نفس الولادة وما هو من الأحكام المختصة بالولادة لأن ثبوت الحكم بثبوت نسبه والولادة لا يطلع عليها الرجال والحكم المختص بالولادة أمية الولد للأم واللعان عند نفي الولد فأما وقوع الطلاق والعتاق ليس من الحكم المختص بالولادة ولا أثر للولادة فيه بل إنما يقع بإيقاعه عند وجود الشرط ونسب الولد من الأحكام المختصة بالولادة مع أن النسب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يثبت بشهادة القابلة وإنما يثبت بعين الولد فإن ثبوت النسب بالفراش القائم وبأن يجعل شهادة القابلة حجة في ثبوت النسب فذلك لا يدل على أنها تكون حجة في وقوع الطلاق كما بينا في قوله إذا حضت فأنت طالق وفلانة معك ولو كان الزوج أقر بأنها حبلى ثم قال لها إذا ولدت فأنت طالق فقالت قد ولدت عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقع الطلاق بمجرد قولها وعندهما لا يقع إلا أن تشهد القابلة لأن شرط الطلاق ولادتها وذلك ما يقف عليه غيرها فلا يقبل فيه مجرد قولها كما في الفصل الأول ألا ترى أن نسب الولادة لا يثبت إلا بشهادة القابلة وإن أقر الزوج بالحبل فكذلك الطلاق وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول علق الطلاق ببروز موجود في باطنها فيقع الطلاق بمجرد خبرها كما لو قال إذا حضت فأنت طالق وهذا لأن وجود الحبل بها يثبت بإقرار الزوج فلما جاءت الآن وهي فارغة وتقول قد ولدت فالظاهر يشهد لها أو يتيقن بولادتها وهذا بخلاف

 

ج / 6 ص -88-         النسب لأن بقولها يثبت مجرد الولادة وليس من ضرورته تعين هذا الولد لجواز أن تكون ولدت غير هذا من والد ميت ثم تريد حمل نسب هذا الولد عليه فلهذا لا يقبل قولها في تعيين الولد إلا بشهادة الوالد فأما وقوع الطلاق يتعلق بنفس الولادة أي ولد كان من حي أو ميت وبعد إقرار الزوج بالحبل يتيقن بالولادة إذا جاءت وهي فارغة.
قال: وإذا قال الرجل لامرأته إذا ولدت ولدين فأنت طالق فولدت ثلاثة أولاد في بطن واحد ثم ولدت بعد ذلك لستة أشهر ولدا آخر فقد وقعت عليها تطليقة بولادة الولدين الأولين لتمام الشرط بهما وانقضت عدتها بالولد الثالث لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها فإن الولد الرابع من حبل حادث بيقين لأن التوأم لا يكون بينهما مدة حبل تام ولهذا لا يثبت نسب الولد الرابع من الزوج لأنها علقت به بعد انقضاء عدتها.
قال: ولو قال أول ولد تلدينه غلاما فأنت طالق فولدت غلاما وجارية في بطن واحد لا يعلم أيهما أول لم يقع عليها شيء في الحكم لجواز أن تكون ولدت الجارية أولا ثم الغلام وفي النزهة قد وقعت عليها تطليقة لجواز أن تكون ولدت الغلام أولا فوقع عليها تطليقة ثم انقضت عدتها بولادة الجارية في هذا الوجه غير أنها لا تحل للأزواج حتى يوقع عليها طلاقا مستقبلا وتعتد بعدة مستقبلة لأنها في الحكم امرأته فإن الطلاق بالشك لا يقع في الحكم فلهذا يحتاج في حلها للأزواج إلى إيقاع مستقبل وعدة مستقبلة.
قال: وإذا قال لها كلما ولدت ولدين فأنت طالق فولدتهما في بطن واحد أو في بطنين فهو سواء ويقع عليها الطلاق بالولد الآخر لأن تمام الشرط به ولا فرق في الشرط بين أن يوجدا معا أو متفرقا ولو ولدت الثاني وهي ليست في نكاحه ولا في عدته لم يقع عليها شيء عندنا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقع لأن المعتبر عنده أن الطلاق يقع عند وجود الشرط بالتعليق السابق وقد صح في ملكه ألا ترى أن الصحيح إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم جن ثم دخل الدار تطلق باعتبار وقت التعليق لا وقت وجود الشرط ولكنا نقول أوان وقوع الطلاق عليها عند وجود الشرط وعند ذلك ليست بمحل لوقوع طلاقه عليها لأنها ليست في نكاحه ولا في عدته وبدون المحل لا يثبت الحكم بخلاف جنون الزوج فإنه لا يعدم المحلية إنما يعدم الأهلية للإيقاع والإيقاع بكلام الزوج وذلك عند التعليق لا عند وجود الشرط فلهذا لا يعتبر قيام الأهلية عند وجود الشرط ولو أبانها فولدت الأول في غير نكاحه وعدته ثم تزوجها فولدت عندنا يقع الطلاق عليها وعند زفر رحمه الله تعالى لا يقع لأن ولادة الولد الأول شرط للطلاق لولادة الولد الثاني فكما لا يعتبر قيام الملك للوقوع عند ولادة الولد الثاني فكذلك عند ولادة الولد الأول وعلمائنا رحمهم الله تعالى يقولون المحل إنما يعتبر عند التعليق لصحة التعليق بوجود المحلوف به وعند تمام الشرط لنزول الجزاء فأما في حال ولادة الولد الأول ليس بحال التعليق ولا حال نزول الجزاء إنما هو حال بقاء اليمين وملك المحل ليس بشرط لبقاء اليمين كما لو قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه

 

ج / 6 ص -89-         ثم اشتراه ودخل الدار عتق وهذا لأن بوجود بعض الشرط لا ينزل شيء من الجزاء ألا ترى أنه لو قال لامرأته في رجب ولم يدخل بها إذا جاء يوم الأضحى فأنت طالق ثم أبانها ثم تزوجها يوم عرفة فجاء يوم الأضحى طلقت وما لم يمض الشهر لا يتحقق وجود الشرط بمجيء يوم الأضحى ثم لا يعتبر قيام المحل في تلك الشهور وعلى هذا الخلاف لو قال إذا حضت حيضتين فحاضت الأولى في غير ملك والثانية في ملك وكذلك إن تزوجها قبل أن تطهر من الحيضة الثانية بساعة أو بعد ما انقطع عنها الدم قبل أن تطهر من الحيضة الثانية بساعة أو بعد ما انقطع عنها الدم قبل أن تغتسل وأيامها دون العشرة فإذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة طلقت لأن الشرط قد تم وهي في نكاحه وكذلك لو قال إن أكلت هذا الرغيف فأنت طالق فأكلت عامة الرغيف في غير ملكه ثم تزوجها فأكلت ما بقي منه طلقت لأن الشرط شرط في ملكه والحنث به يحصل وقد قال في الأصل إذا قال كلما حضت حيضتين فأنت طالق فحاضت الأخيرة منهما في غير ملكه ثم تزوجها فحاضت الثانية في ملكه لم يقع عليها شيء قال الحاكم وهذا الجواب غير سديد في قوله كلما حضت وإنما يصح إذا كان السؤال بقوله إذا حضت لأن كلمة كلما تقتضي التكرار.
قال: الشيخ الإمام والأصح عندي أن في المسألة روايتين في رواية هذا الكتاب لا تطلق وفي رواية الجامع تطلق وأصل الاختلاف في كيفية التكرار بكلمة كلما في هذه الرواية يتكرر انعقاد اليمين فكلما وجد الشرط مرة ارتفعت اليمين الأولى وانعقدت يمين أخرى فإذا لم يكن عند تمام الشرط في نكاحه ولا في عدته لا تنعقد اليمين الأخرى لأن ملك المحل شرط عند انعقاد اليمين فلهذا لا يقع عليها شيء وإن حاضت حيضتين في ملكه وعلى رواية الجامع إنما يتكرر بكلمة كلما نزول الجزاء بتكرر الشرط ولا يتكرر انعقاد اليمين فكلما وجد الشرط في ملكه طلقت والأصح رواية الجامع وقد بينا تمام هذا الكلام فيما أمليناه من شرح الجامع.
قال: وإن قال إذا حضت فأنت طالق فولدت لم تطلق لأن شرط الطلاق حيضها والنفاس ليس بحيض ألا ترى أنه لا يحتسب به من اقراء العدة وإن قال إذا حبلت فأنت طالق ثلاثا فوطئها مرة فالأفضل له أن لا يقربها ثانية حتى يستبرئها بحيضة لجواز أن تكون قد حبلت فطلقت ثلاثا وإذا حاضت وطهرت عرفنا أنها لم تحبل فإن تبين فراغ رحمها يحصل بحيضة واحدة بدليل الاستبراء فله أن يطأها مرة أخرى وهذا حاله وحالها ما دامت عنده وهو جواب النزهة فأما في الحكم لا يمنع من وطئها ما لم يظهر بها حبل لأن قيام النكاح فيما بينهما يقين وفي وقوع الطلاق شك وإذا ولدت بعد هذا القول لأقل من ستة أشهر لم تطلق لأنا تيقنا أن هذا الحبل كان قبل اليمين وشرط الحنث حبل حادث بعد اليمين
وإن جاءت به لأكثر من سنتين وقع الطلاق وانقضت العدة بالولد لأنا تيقنا أن هذا الولد من حبل حادث بعد اليمين وإنما وقع الطلاق عند وجود الشرط وهو ما إذا لو حبلت فتنقضي عدتها بالولد وجاءت به لستة أشهر أو أكثر ولكن لأقل من سنتين لم تطلق أيضا لجواز أن يكون هذا الولد من حبل قبل اليمين فإن الولد

 

ج / 6 ص -90-         يبقى في البطن إلى سنتين وما لم يتيقن بوجود الشرط بعد اليمين لا ينزل الجزاء والحل وإن كان قائما بينهما يسند العلوق إلى أبعد الأوقات تحرزا عن إيقاع الطلاق بالشك.
قال: وإذا قال لها إذا وضعت ما في بطنك فأنت طالق فولدت ولدين في بطن واحد وقع الطلاق بآخرهما وعليها العدة لأن حرف ما يوجب التعميم فشرط وقوع الطلاق أن تضع جميع ما في بطنها وذلك لا يحصل إلا بالولد الثاني وعلى هذا لو قال إن كان حملك هذا جارية فأنت طالق واحدة وإن كان غلاما فأنت طالق اثنتين فولدت غلاما وجارية لم يقع عليها شيء لأن الحمل اسم لجميع ما في بطنها قال الله تعالى:
{أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولا تنقضي عدتها إلا بوضع جميع ما في بطنها فالشرط أن يكون جميع حملها غلاما أو جارية ولم يوجد ذلك حين ولدت غلاما وجارية في بطن واحد ألا ترى أنه لو كان قال إن كان ما في هذا الجوالق حنطة فامرأته طالق وإن كان ما فيه شعيرا فعبده حر فإذا فيه شعير وحنطة لم يلزمه طلاق ولا عتق ونظير هذه المسألة امتحن أبو حنيفة رحمه الله تعالى فطنة الحسن بن زياد رضي الله عنه فقال ما تقول في عنز ولدت ولدين لا ذكرين ولا أنثيين ولا أسودين ولا أبيضين كيف يكون هذا فتأمل ساعة ثم قال أحدهما ذكر والآخر أنثى وأحدهما أسود والآخر أبيض فتعجب من فطنته وإن قال لها كلما حبلت فأنت طالق فولدت بعد هذا القول من حبل حادث فقد وقعت عليها تطليقة كما حبلت لوجود الشرط وانقضت عدتها بالولادة ولو كان جامعها بعد الحبل قبل أن تلد منه كان ذلك منه رجعة لأن الواقع بهذا اللفظ كان رجعيا والوطء في العدة من طلاق رجعي يكون رجعة فإن حبلت مرة أخرى طلقت لأنه عقد يمينه بكلمة كلما وكذلك في الحكم الثالث وإن قال أنت طالق ما لم تلدي فهي طالق حين سكت لأنه جعلها طالقا في وقت لا تلد فيه بعد اليمين وكما سكت فقد وجد ذلك الوقت وكذلك في قوله ما لم تحبلي وفي قوله ما لم تحيضي إلا أن يكون ذلك منها مع سكوته فحينئذ لا يقع وهذا لأن وقوع الطلاق بحيض بزمان وهو ما بعد كلامه وقد جعلها طالقا إلى غاية وهو أن تحيض أو تحبل أو تلد فإذا وجدت الغاية متصلا بسكوته فقد انعدم الزمان الذي أوقع فيه الطلاق لأن الشيء لا يكون غاية لنفسه فلا تطلق فإذا لم يوجد ذلك مع سكوته فقد وجد الزمان الذي أوقع فيه الطلاق فتطلق ولو قال أنت طالق ما لم تحبلي وهي حبلى أو ما لم تحيضي وهي حائض فهي طالق كما سكت لأن صيغة كلامه لحبل وحيض حادث يقال حبلت المرأة وحاضت عند ابتداء ذلك ولم يوجد ذلك متصلا بسكوته فلهذا تطلق فإن كان يعني ما فيه من الحبل والحيض دين فيما بينه وبين الله تعالى لأن استدامة الحيض بخروج الدم منها ساعة فساعة وما يبرز منها حادث من وجه فيجوز أن يطلق عليه اسم ابتداء الحيض مجازا ولكنه خلاف الظاهر فلا يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وأما في الحبل فلا يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأنه لا يتجدد الحبل في مدته ساعة فساعة فلا يكون لاستدامته اسم الابتداء لا حقيقة ولا مجازا ألا ترى أنه

 

ج / 6 ص -91-         يقال حاضت عشرة أيام ولا يقال حبلت تسعة أشهر إنما يقال حبلت ووضعت لتسعة أشهر وإن قال لامرأته قد طلقتك قبل أن أتزوجك فهذا باطل لأن ما ثبت باقراره كالثابت بالمعاينة ولأنه أضاف الطلاق إلى وقت لم يكن مالكا للإيقاع عليها في ذلك الوقت فكان نافيا للوقوع عليها لا مثبتا كما لو قال أنت طالق قبل أن تولدي أو تخلقي أو قبل أن أولد أو أن أخلق وكذلك لو قال قد طلقتك أمس وإنما تزوجها اليوم لأنه أضاف الطلاق إلى وقت لم يكن مالكا للإيقاع في ذلك الوقت وإن كان تزوجها قبل أمس طلقت للحال لأنه أضاف إلى وقت كان مالكا للإيقاع في ذلك الوقت فكان كلامه معتبرا في الإيقاع ثم أنه وصفها بالطلاق في الحال مستندا إلى أمس وهو يملك الإيقاع عليها في الحال ولكن لا يملك الإسناد فلهذا تطلق في الحال.
قال: ولو قال قد طلقتك وأنا صغير أو قال وأنا نائم لم يقع بهذا شيء لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي صحة الإيقاع فكان منكرا للإيقاع لا مقرى به ولو قال وأنا مجنون فإن عرف بالجنون قبل هذا لم تطلق لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي صحة الإيقاع وإن لم يعرف بالجنون طلقت لأنه أقر بطلاقها وأضافه إلى حالة لم تعرف تلك الحالة منه فلا يعتبر قوله في الإضافة فلهذا تطلق في الحال وإن قال قلت لك أنت طالق إن كلمت فلانا وقالت هي طلقتني فالقول قول الزوج لأن تعليق الطلاق بالشرط يمين واليمين غير الطلاق ألا ترى أنه لا يقع الطلاق بها ما لم يوجد الحنث فهي تدعي عليه إيقاع الطلاق والزوج منكر لذلك فالقول قوله وإن قال أنت طالق ثلاثا إن لم أطلقك لم تطلق حتى يموت أحدهما قبل أن يطلقها لأن كلمة إن للشرط فقد جعل عدم إيقاع الطلاق عليها شرطا ولا يتيقن بوجود هذا الشرط ما بقيا حيين فهو كقوله إن لم آت البصرة فأنت طالق ثم إن مات الزوج وقع عليها قبل موته بقليل وليس لذلك القليل حد معروف ولكن قبيل موته يتحقق عجزه عن إيقاع الطلاق عليها فيتحقق شرط الحنث فإن كان لم يدخل بها فلا ميراث لها وإن كان قد دخل بها فلها الميراث بحكم الفرار حين وقع الثلاث بإيقاعه قبيل موته بلا فصل وإن ماتت المرأة وقع الطلاق أيضا قبل موتها وفي النوادر يقول لا يقع لأنه قادر على أنه يطلقها ما لم تمت وإنما عجز بموتها فلو وقع الطلاق لوقع بعد الموت وهو نظير قوله إن لم آت البصرة
وجه ظاهر الرواية أن الإيقاع من حكمة الوقوع بعد الموت وهو قد تحقق العجز عن إيقاعه قبيل موتها لأنه يعقبه الوقوع كما لو قال لها أنت طالق مع موتك فيقع الطلاق قبيل موتها بلا فصل ولا ميراث للزوج لأن الفرقة وقعت بينهما قبل موتها بإيقاع الطلاق عليها وإن قال أنت طالق متى لم أطلقك طلقت كما سكت لأن كلمة متى تستعمل للوقت فقد أضاف الطلاق إلى وقت بعد يمينه لا يطلقها فيه وقد وجد ذلك الوقت كما سكت وكذلك إن قال متى ما لم أطلقك فأما إذا قال إذا لم أطلقك أو إذا ما لم أطلقك فإن قال عنيت بإذاء الشرط فهو بمنزلة أن لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما وإن قال عنيت به متى وقع الطلاق كما سكت لأن إذا تستعمل لكل واحدة منهما وإن لم تكن له نية فعلى قول أبي

 

ج / 6 ص -92-         حنيفة رحمه الله تعالى: لا تطلق حتى يموت أحدهما وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كما سكت يقع وأصل الخلاف بين أهل اللغة والنحو فالكوفيون منهم يقولون إذا قد تستعمل للوقت وقد تستعمل للشرط على السواء فيجازي به مرة ولا يجازي به أخرى وإذا كان بمعنى الشرط سقط فيه معنى الوقت أصلا كحرف إن وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى والبصريون رحمهم الله تعالى يقولون إذا للوقت ولكن قد تستعمل للشرط مجازا ولا يسقط به معنى الوقت إذا أريد به الشرط بمنزلة متى وهو مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فهما يقولان إذا تستعمل فيما هو كائن لا محالة وليس فيه معنى الخطر قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] ويقال الرطب إذا اشتدت الحر والبرد إذا جاء الشتاء والشرط ما هو على خطر الوجود فعرفنا أنه للوقت حقيقة فعند عدم النية يحمل اللفظ على حقيقته ألا ترى أنه لو قال لامرأته إذا شئت فأنت طالق لم يخرج الأمر من يدها بقيامها عن المجلس بمنزلة قوله متى شئت بخلاف قوله إن شئت وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إذا قد تكون للشرط حقيقة يقول الرجل إذا زرتني زرتك وإذا أكرمتني أكرمتك والمراد الشرط دل عليه قول القائل شعر: 

استغن ما أغناك ربك بالغنى                      وإذا تصبك حصاصة فتحمل

معناه وإن تصبك فعند عدم النية هنا إن حمل على معنى الشرط لم يقع الطلاق حتى يموت أحدهما وإن جعل بمعنى متى طلقت في الحال وقد عرفنا أن الطلاق غير واقع فلا نوقعه بالشك ولهذا قلنا في مسألة المشيئة لا يخرج الأمر من يدها بقيامها عن المجلس لأنا إن جعلنا إذا بمعنى الشرط خرج الأمر من يدها وإن جعلناها بمعنى متى لم يخرج الأمر من يدها وقد عرفنا كون الأمر في يدها بيقين فلا نخرجه من يدها بالشك وفي الكتاب قال ألا ترى أنه لو قال إذا سكت عن طلاقك فأنت طالق تطلق كما سكت وهذا لا حجة فيه لأنه لو قال إن سكت وإن قال كلما لم أطلقك فأنت طالق وقد دخل بها ثم سكت فهي طالق ثلاثا يتبع بعضها بعضا لأنه أضاف الطلاق إلى وقت لا يطلقها فيه بكلمة كلما وعقيب سكوته يوجد ثلاثة أوقات بهذه الصفة بعضها على أثر البعض فتطلق ثلاثا بطريق الاتباع ولا يقعن معا حتى إذا لم يكن دخل بها لا يقع إلا واحدة وإن قال متى ما لم أطلقك واحدة فأنت طالق ثلاثا ثم قال موصلا بكلامه أنت طالق واحدة فقد بر في يمينه استحسانا ولا يقع عليها إلا واحدة وفي القياس تطلق ثلاثا وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه آلى أن يفرغمن قوله أنت طالق واحدة يوجد وقت موصوف بأنه لم يطلقها فيه وإن لطف وذلك يكفي شرطا للحنث ولكنه استحسن فقال البر مراد الحالف ولا يتأتى له البر إلا بعد أن يجعل هذا القدر مستثنى وما لا يستطاع الامتناع عنه يجعل عفوا وأصل المسألة فيما إذا قال إن ركبت هذه الدابة وهو راكبها فأخذ في النزول في الحال ولو سكت ساعة ثم قال أنت طالق واحدة فقد طلقت ثلاثا قبل قوله واحدة وهذا لأن السكوت فيما بين الكلامين يستطاع

 

ج / 6 ص -93-         الامتناع عنه، وعلى هذا لو قال ما لم أقم من مقعدي هذا فأنت طالق إن قام كما سكت لم تطلق استحسانا وإن سكت هنيهة طلقت ولو قال أنت طالق حين لم أطلقك ولا نية له فهي طالق كما سكت لأن حرف لم عبارة عن الماضي وقد مضى حين لم يطلقها فيه فكان الوقت المضاف إليه الطلاق موجودا كما سكت وكذلك لو قال زمان لم أطلقك أو يوم لم أطلقك أو حيث لم أطلقك لأن حرف حيث عبارة عن المكان وكم من مكان لم يطلقها فيه ولو قال حين لا أطلقك لا تطلق في الحال لأن حرف لا للاستقبال وإن نوى بحين وقتا يسيرا أو طويلا تعمل نيته وإن لم يكن له نية فهو على ستة أشهر فما لم تمض ستة أشهر بعد يمينه لا تطلق لأن حين تستعمل بمعنى ساعة قال الله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] أي وقت الصباح والمساء وتستعمل بمعنى قيام الساعة قال الله تعالى: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذريات: 43] وتستعمل بمعنى أربعين سنة قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الانسان: 1] وتستعمل بمعنى ستة أشهر قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [ابراهيم: 25] فإذا نوى شيئا كان المنوي من محتملات لفظه وإن لم ينو شيئا كان على ستة أشهر هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما حين سئل عمن حلف لا يكلم فلانا حينا قال هو على ستة أشهر فإن النخلة يدرك ثمرها في ستة أشهر وقال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} ولأنه متى أراد به ساعة لا يستعمل فيه لفظ الحين عادة ومتى أراد به أربعين سنة أو قيام الساعة استعمل فيه لفظ الأبد فتعين ستة أشهر مرادا به وكذلك لو قال زمان لا أطلقك فإن لفظة حين وزمان يستعملان استعمالا واحدا يقول الرجل لغيره لم ألقك منذ حين ولم ألقك منذ زمان ولو قال يوم لا أطلقك فإذا مضى بعد يمينه يوم لم يطلقها فيه طلقت حتى إذا قال هذا قبل طلوع الفجر فكما غربت الشمس تطلق لأن اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حتى يقدر الصوم بالإمساك فيه.
قال: وإذا قال يوم أدخل دار فلان فامرأته طالق ولا نية له فدخلها ليلا أو نهارا طلقت لأن اليوم يستعمل بمعنى الوقت قال الله تعالى:
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} [الأنفال: 16] ومن فر من الزحف ليلا أو نهارا يلحقه هذا الوعيد والرجل يقول انتظر يوم فلان أي وقت اقباله أو إدباره فإذا قرن بما لا يختص بأحد الوقتين ولا يكون ممتدا كان بمعنى الوقت كالطلاق وإذا قرن بما يختص بأحد الوقتين كالصوم كان بمعنى بياض النهار وكذلك إذا قرن بما يكون ممتدا كقوله لامرأته أمرك بيدك يوم يقدم فلان على ما نبينه إن شاء الله تعالى وإذا قال في الطلاق نويت النهار دون الليل فهو مصدق في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه وهي حقيقة مستعملة فيجب تصديقه في ذلك وإن قال ليلة أدخلها فأنت طالق فدخل نهارا لم تطلق لأن الليل اسم خاص لسواد الليل وهو ضد النهار ولا يصح أن ينوي بالشيء ضده وإن قال أنت طالق إلى حين أو زمان أو إلى قريب فإن نوى فيه شيئا فهو على ما نوى من الأجل لأن الدنيا كلها قريب فالمنوي من محتملات لفظه وإن لم يكن له نية ففي الحين والزمان هي إلى ستة أشهر

 

ج / 6 ص -94-         وفي القريب إلى مضي ما دون الشهر حتى إذا مضى من وقت يمينه شهر إلا يوم طلقت لأن القريب عاجل والشهر فما فوقه آجل وما دون الشهر عاجل حتى إذا حلف ليقضين حقه عاجلا فقضاه فيما دون الشهر بر في يمينه والعاجل ما يكون قريبا ولو قال أنت طالق إلى شهر فإن نوى وقوع الطلاق عليها في الحال طلقت ولغى قوله إلى شهر لأن الواقع من الطلاق لا يحتمل الأجل وإن لم ينو ذلك لم تطلق إلا بعد مضي شهر عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى تطلق في الحال وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن قوله إلى شهر لبيان الأجل والأجل في الشيء لا ينفي ثبوت أصله بل لا يكون إلا بعد أصله كالأجل في الدين لا يكون إلا بعد وجوب الدين فكذلك ذكر الأجل هنا فيما أوقعه لا ينفي الوقوع في الحال ولكن يلغو الأجل لأن الواقع من الطلاق لا يحتمل ذلك وأصحابنا رحمهم الله تعالى يقولون الواقع لا يحتمل الأجل ولكن الإيقاع يحتمل ذلك لأن عمله في التأخير والإيقاع يحتمل التأخير ولو جعلنا حرف إلى داخلا على أصل الإيقاع كان عاملا في تأخير الوقوع ولو جعلناه داخلا على الحكم كان لغوا وكلام العاقل محمول على الصحة مهما أمكن تصحيحه لا يجوز الغاؤه فجعلناه داخلا على أصل الإيقاع وقلنا بتأخير الوقوع إلى ما بعد الشهر كأنه قال أنت طالق بعد مضي شهر وإن قال أنت طالق غدا تطلق كما طلع الفجر من الغد لوجود الوقت المضاف إليه الطلاق وإن قال عنيت به آخر النهار لم يدين به في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص في لفظ العموم فإنه وصفها بالطلاق في جميع الغد وإنما يكون ذلك إذا وقعت في أول جزء منه فإذا نوى الوقوع في آخر جزء من الغد فنيته التخصيص في العموم صحيحة فيما بينه وبين الله تعالى كما لو قال لا آكل الطعام ونوى طعاما دون طعام وإن قال أنت طالق في غد طلقت كما طلع الفجر أيضا فإن قال عنيت به آخر النهار صدق في القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولم يصدق عندهما ذكر الخلاف في الجامع الصغير فهما سويا بين قوله غد وبين قوله في غد لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد فإذا عنى جزءا خاصا منه كان هذا كنية التخصيص في لفظ العموم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول حرف في للظرف والظرف قد يشغل جميع المظروف وقد يشغل جزءا منه لأنه إذا قيل في الجوالق حنطة لا يفهم منه أن يكون مملوء من الحنطة فإذا ذكر بين الوصف والوقت حرف الظرف كان كلامه محتملا بين أن تكون موصوفة بالطلاق في جميع الغد أو في جزء منه والنية في الكلام المحتمل صحيحة في القضاء والوقت إنما يكون ظرفا للطلاق على أن يكون واقعا فيه لا أن يكون شاغلا له والوقوع يكون في جزء من الوقت فكان هذا أقرب إلى حقيقة معنى الظرف وإذا قال غدا فلم يدخل بين الوصف والوقت حرف الظرف فكان حقيقته الوصف لها بالطلاق في جميع الغد فلهذا لا تعمل نيته في التخصيص في القضاء ولو قال أنت طالق في رمضان ولا نية له فهي طالق حين تغيب الشمس من آخر يوم من شعبان لأنه كما رأى الهلال فقد وجد جزء من رمضان وذلك يكفي للوقوع

 

ج / 6 ص -95-         وإن قال نويت آخر رمضان فهو على الخلاف الذي بينا وإن قال أنت طالق اليوم غدا فهي طالق اليوم لأنه ذكر وقتين غير معطوف أحدهما على الآخر وفي مثله الوقوع في أول الوقتين ذكرا وهو اليوم ولو قال غدا اليوم طلقت غدا وهذا لأن قوله أنت طالق اليوم تنجيز وقوله غدا إضافة إلى وقت منتظر والمنجز لا يحتمل الإضافة فكان قوله غدا لغوا وإذا قال أولا غدا كان هذا إضافة الطلاق إلى وقت منتظر فلو نجز بذكره اليوم لم يبق مضافا وقوله اليوم ليس بناسخ لحكم أول كلامه فكان لغوا وإن قال اليوم وغدا طلقت للحال واحدة لا تطلق غيرها لأن العطف للاشتراك فقد وصفها بالطلاق في الوقتين وهي بالتطليقة الواحدة تتصف بالطلاق في الوقتين جميعا وإن قال غدا واليوم تطلق واحدة اليوم عندنا والأخرى غدا لأنه عطف الجملة الناقصة على الجملة الكاملة فالخبر المذكور في الجملة الكاملة يصير معادا في الجملة الناقصة فإن العطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر فكأنه قال وأنت طالق اليوم وعن زفر رحمه الله تعالى أنها لا تطلق إلا واحدة لأن صيغة كلامه وصف وهي بالتطليقة الواحدة تتصف بأنها طالق في الوقتين جميعا.
وإن قال أنت طالق الساعة غدا طلقت للحال وكان قوله غدا حشوا لما قلنا فإن قال عنيت تلك الساعة من الغد لم يصدق في القضاء لأن ظاهر كلامه تنجيز وهو يريد بنيته صرف الكلام عن ظاهره فلا يدين في القضاء وهو يدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال كلامه المنوي وإن كان خلاف الظاهر والله تعالى مطلع على ضميره وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد فهي طالق حين يطلع الفجر لأن قوله إذا جاء غد تعليق بالشرط وبذكر الشرط موصولا بكلامه يخرج كلامه من أن يكون تنجيزا كما لو قال أنت طالق اليوم إذا كلمت فلانا أو إن كلمت فلانا لم تطلق قبل الكلام ويتبين بذكر الشرط أن قوله اليوم لبيان وقت التعليق لا لبيان وقت الوقوع بخلاف قوله اليوم غدا فإن هذا ليس بذكر الشرط فبقي قوله اليوم بيانا لوقت الوقوع وإن قال أنت طالق رمضان وشوال كانت طالقا أول ليلة من رمضان لأنه أضاف الطلاق إلى وقتين فيقع عند أول الوقتين ذكرا وإن قال أنت طالق في رمضان فهو على أول رمضان يجيء هو الظاهر المعلوم بالعادة من كلامه كما لو ذكر الأجل في اليمين إلى رمضان أو أجر داره إلى رمضان فإن قال عنيت الثاني لم يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر ولأنه في معنى تخصيص العموم لأن موجب كلامه أن تكون موصوفة بالطلاق في كل رمضان يجيء بعد يمينه فإذا عين البعض دون البعض كان هذا تخصيصا للعموم وتخصيص العموم بالنية صحيح فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء وكذلك قوله أنت طالق يوم السبت فهو على أول سبت فإن قال عنيت الثاني لم يصدق في القضاء وإن قال طالق بمكة أو في مكة طلقت في الحال لأنه وصفها بالطلاق في مكان موجود والطلاق لا يختص بمكان دون مكان ولكن إذا وقع عليها في مكان تتصف به في الأمكنة كلها فإن قال عنيت به إذا أتيت مكة لم يصدق في القضاء ويصدق فيما بينه وبين الله

 

ج / 6 ص -96-         تعالى لأنه ذكر المكان وعبر به عن الفعل الموجود فيه وذلك نوع من المجاز مخالف للحقيقة والظاهر فلا يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك قوله أنت طالق في ثوب كذا وعليها غيره طلقت
لأن وصفه إياها بالطلاق لا يختص بثوب دون ثوب فإن قال عنيت به إذا لبست ذلك الثوب دين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه جعل ذكر الثوب كناية عن فعل اللبس فيه وهو نوع من المجاز وكذلك قوله في الدار أو في البيت أو في الظل أو في الشمس وإن قال في ذهابك إلى مكة أو في دخول الدار أو في لبسك ثوب كذا لم تطلق حتى تفعل ذلك لأن حرف في للظرف والفعل لا يصلح ظرفا للطلاق على أن يكون شاغلا له فيحمل على معنى الشرط لأن المظروف يسبق الظرف كما أن الشرط يسبق الجزاء ويجعل حرف في بمعنى مع قال الله تعالى:
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي مع عبادي ويقال دخل الأمير البلدة في جنده أي معهم ولو قال أنت طالق مع دخولك الدار لم تطلق حتى تدخل فهذا مثله بخلاف قوله في الدار لأنه لو قال مع الدار طلقت لأنه قرن الطلاق بما هو موجود وإن قال أنت طالق وأنت تصلين طلقت للحال لأن قوله وأنت تصلين ابتداء فإن قال عنيت إذا صليت لم يصدق في القضاء لأن الشرط لا يعطف على الجزاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأن هذا اللفظ يذكر بمعنى الحال تقول دخلت الدار على فلان وهو يفعل كذا أي في تلك الحالة فيكون معنى هذا أنت طالق في حال اشتغالك بالصلاة فيدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال لفظه ما نوى وكذلك لو قال أنت طالق مصلية في القضاء تطلق في الحال وإن قال عنيت إذا صليت دين فيما بينه وبين الله تعالى بمعنى الحال وأهل النحو يقولون إن قال مصلية بالرفع لا يدين فيما بينه وبين الله تعالى وإن قال مصلية بالنصب حينئذ يدين في القضاء أيضا وهو نصب على الحال وهذا ظاهر عند أهل النحو وهو نصب على الحال وعند الفقهاء يدين فيما بينه وبين الله تعالى وإن قال أنت طالق في مرضك أو في وجعك لم تطلق حتى يكون منها ذلك الفعل إما لأن حرف في معنى مع أو لأن المرض والوجع لما لم يصلح ظرفا حمل على معنى الشرط مجازا لتصحيح كلام العاقل وإن قال أنت طالق قبل قدوم فلان بشهر فقدم فلان قبل تمام الشهر لم تطلق لأنه أضاف الطلاق إلى وقت منتظر وهو أول شهر يتصل بآخره قدوم فلان فيراعي وجود هذا الوقت بعد اليمين ولم يوجد وكذلك لو قال أنت طالق قبل موت فلان بشهر فمات فلان قبل تمام الشهر لم تطلق بخلاف ما لو قال لها في النصف من شعبان أنت طالق قبل رمضان بشهر تطلق في الحال لأنه أضاف الطلاق إلى وقت قد تيقن مضيه فيكون ذلك تنجيزا منه كقوله أنت طالق أمس فأما إذا قدم فلان
أو مات لتمام الشهر فعلى قول زفر رحمه الله تعالى في الفصلين جميعا يقع الطلاق من أول الشهر حتى تعتبر العدة من ذلك الوقت
ولو كان وطئها في الشهر صار مراجعا في الطلاق الرجعي وفي البائن يلزمه مهر بالوطء.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع الطلاق مقصورا على حالة القدوم

 

ج / 6 ص -97-         والموت حتى تعتبر العدة في الحال ولا يصير مراجعا بالوطء في الشهر ولا يلزمه به مهر وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى في القدوم الجواب كما قالا وفي الموت الجواب كما قال زفر رحمه الله تعالى وجه قول زفر رحمه الله تعالى أن وقوع الطلاق بإيقاعه إنما يقع في الوقت الذي أوقعه وإنما أوقعه في أول شهر يتصل بآخره قدوم فلان أو موته فيقع في ذلك الوقت وقد وجد ذلك الوقت بعد اليمين ولكن لم يكن معلوما لنا ما لم يوجد القدوم والموت فإذا صار معلوما لنا تبين أنه كان واقعا كما لو قال لها إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم لا يحكم بوقوع الطلاق حتى يستمر بها ثلاثة أيام ثم يتبين أنه كان واقعا عند رؤية الدم وكذلك إذا قال إن كان في بطنك غلام فأنت طالق لا يحكم بالوقوع حتى تلد فإذا ولدت غلاما تبين أن الطلاق كان واقعا والدليل عليه أنه لو أوقع عند مضي شهر بعد القدوم أو الموت لا يقع إلا في ذلك الوقت فكذلك إذا أوقع قبله بشهر ولو قال لأجنبية أنت طالق قبل أن أتزوجك بشهر ثم تزوجها بعد شهر لم تطلق ولو انتصب التزوج شرطا وكان أوان الوقوع بعده لطلقت وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا وقوع الطلاق توقف بكلامه على وجود القدوم والموت وإنما يتوقف على وجود الشرط فعرفنا أنه شرط معنى والجزاء يتأخر عن الشرط ثم هذا في القدوم واضح لأنه على خطر الوجود وفي الشرط معنى الخطر والموت وإن كان كائنا لا محالة ولكن مضي الشهر بعد كلامه قبل الموت لم يكن كائنا عند يمينه لا محالة ولهذا قال لو مات قبل تمام الشهر لم تطلق ولأن الموت قد يتقدم وقد يتأخر فكل شهر يمضي بعد يمينه لا يعلم أنه الوقت المضاف إليه الطلاق ما لم يتصل الموت بآخره لجواز أن يتأخر عنه كما في القدوم لا يعلم ذلك لجواز أن لا يقدم أصلا فكان هذا في معنى الشرط أيضا بخلاف قوله أنت طالق قبل أن أتزوجك بشهر فإن الإضافة هنا لغو أصلا لأنه غير مالك للطلاق في الوقت الذي أضاف إليه واعتبار معنى الشرط بعد صحة الإضافة وفي مسألة الحيض الشرط يوجد برؤية قطرة من الدم ولكن لا يحكم بالطلاق لجواز أن ينقطع قبل تمام الثلاث فلم يكن وقوع الطلاق هناك موقوفا على وجود أمر منتظر وكذلك في مسألة الحبل كلامه تنجيز للطلاق لأن التعليق بما هو موجود يكون تنجيزا فلم يكن الوقوع موقوفا على أمر منتظر ولكنا لا نحكم به قبل الولادة لعدم علمنا به فلم يكن في معنى الشرط والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى ما أشار إليه في الكتاب فقال إن موت فلان حق كائن وقدومه لا يدري أيكون أولا يكون وتقريره من وجهين:
أحدهما: أن الشيء إنما يتصف بكونه شرطا بذكر حرف الشرط فيه أو وجود معنى الشرط ولم يذكر حرف الشرط في الفصلين ولكن وجد معنى الشرط في مسألة القدوم لأن وجوده على خطر وهو مما يصح الأمر به والنهي عنه وهذا معنى الشرط فإن الحالف يقصد بيمينه منع الشرط فإذا توقف وقوع الطلاق على وجوده وفيه معنى الشرط انتصب شرطا فأما الموت فلا خطر في وجوده بل هو كائن لا محالة ولا يصح الأمر به والنهي عنه فلم يكن

 

ج / 6 ص -98-         قصده بهذا الكلام منع الموت وإذا لم يكن فيه معنى الشرط كان معرفا للوقت المضاف إليه فإنما يقع الطلاق من أول ذلك الوقت كما في قوله أنت طالق قبل رمضان بشهر يقع الطلاق في أول شعبان إلا أن هناك الوقت يصير معلوما قبل دخول رمضان وهنا لا يصير معلوما ما لم يمت فإذا صار معلوما لنا تبين أن الطلاق كان واقعا من أوله.
والثاني: أنه أوقع الطلاق في أول شهر يتصل بآخره قدوم فلان أو موته وفي مسألة القدوم هذا الاتصال لا يقع أصلا إلا بعد القدوم لجواز أن يكون لا يقدم أصلا وبدون هذا الاتصال لا يقع الطلاق أصلا أما في مسألة الموت هذا الاتصال ثابت قبل الموت لأن الموت كائن فيعلم يقينا أن في الشهور التي تأتي شهرا موصوفا بهذه الصفة ولكن لا يدري أي شهر ذاك فلا يحكم بالطلاق ما لم يصر معلوما لنا فإذا صار معلوما تبين أنه كان واقعا من أول ذلك الوقت يقرره أن في مسألة الموت الوقت المضاف إليه يصير معلوما قبل حقيقة الموت لأنه لما أشرف على الهلاك صار الوقت المضاف إليه معلوما فلهذا لا يتأخر الطلاق عن الموت وفي مسألة القدوم لا يصير الوقت معلوما ما لم يوجد حقيقة القدوم لجواز أن لا يقدم فلهذا تأخر الطلاق عنه وإن قال أنت طالق ثلاثا قبل موتك بشهر فماتت قبل مضي الشهر لم تطلق لأنه لم يوجد الوقت المضاف إليه بعد اليمين فإن ماتت بعد تمام الشهر فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يقع الطلاق لأنه لو وقع وقع بعد موتها والطلاق لا يقع عليها بعد الموت وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقع من أول الشهر فلا ميراث له منها وإن كان جامعها في الشهر فعليه مهر آخر لها لأنه تبين أنه جامعها بعد وقوع التطليقات الثلاث عليها وكذلك لو قتلت أو غرقت فهذا موت وإن كان بسبب مخصوص وكذلك لو قال أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر ثم مات لتمام الشهر عندهما لا تطلق لأنه لو وقع وقع بعد موته وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتبين وقوع الطلاق من أول الشهر حتى إذا كان صحيحا في ذلك الوقت فلا ميراث لها منه وعليها العدة بثلاث حيض وإن قال أنت طالق قبل الأضحى بتسعة أيام فهي طالق حين ينسلخ ذو القعدة لعلمنا بوجود الوقت المضاف إليه الطلاق وإن قال أنت طالق قبل موت فلان وفلان بشهر فمات أحدهما قبل تمام الشهر لم تطلق لأن الوقت المضاف إليه بعد يمينه لم يوجد فإن مات أحدهما بعد تمام الشهر طلقت عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا مستندا إلى أول الشهر وعندهما طلقت في الحال بخلاف لو قال لها أنت طالق قبل قدوم فلان وفلان بشهر فقدم أحدهما بعد تمام الشهر لم تطلق حتى يقدم الآخر وبهذا يتضح فرق أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن القدوم ينتصب شرطا والموت لا ينتصب ووجه الفرق أنه أوقع الطلاق في وقت موصوف بأنه قبل قدومهما بشهر وذلك لا يصير معلوما بقدوم أحدهما لجواز أن لا يقدم الآخر أصلا فأما في الموت يصير ذلك الوقت معلوما بموت أحدهما لأن موت الآخر كائن لا محالة وقد طعن بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى في هذا وقالوا ينبغي أن لا يقع الطلاق بموت أحدهما فإن الوقت

 

ج / 6 ص -99-         إنما يصير موصوفا بأنه قبل موتهما بشهر إذا ماتا معا فأما إذا مات أحدهما وبقي الآخر زمانا فأول هذا الشهر موصوف بأنه قبل موت أحدهما بشهر وقبل موت الآخر بسنة ولكنا نقول موتهما معا نادر والظاهر أن المتكلم لا يقصد ذلك وإذا مات أحدهما بعد تمام الشهر فأول هذا الشهر موصوف بأنه قبل موتهما بشهر في عرف اللسان كما يقال رمضان قبل الفطر والأضحى بشهر وإن كان قبل الأضحى بثلاثة أشهر وأكثر.
قال: ولو قال أنت طالق الساعة إن كان في علم الله تعالى أن فلانا يقدم إلى شهر فقدم فلان لتمام الشهر طلقت بعد القدوم وهو دليل لهما على أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن علم الله تعالى محيط بالأشياء كلها كما أن الموت كائن لا محالة ولكنا نقول معنى هذا الكلام أن قدم فلان إلى شهر لأن علم الله تعالى لا طريق للحالف إلى معرفته وإنما تنبني الأحكام على ما يكون لنا طريق إلى معرفته فكأنه قال إن قدم فلان إلى شهر فلهذا تأخر الوقوع إلى القدوم ولو قال لامرأتيه أطولكما حياة طالق الساعة لم يقع الطلاق حتى تموت إحداهما لأن المراد طول الحياة في المستقبل لا في الماضي حتى إذا كانت إحداهما بنت عشر سنين والأخرى بنت ستين سنة لم تطلق العجوز فعرفنا أن طول الحياة في المستقبل مراد وذلك غير معلوم لجواز أن يموتا معا فإن ماتت إحداهما طلقت الأخرى في الحال عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى طلقت من حين تكلم الزوج لأنه تبين أنها كانت أطولهما حياة وإن الزوج علق الطلاق بشرط موجود ولكنا نقول معنى كلام الزوج التي تبقى منكما بعد موت الأخرى طالق وذلك غير معلوم قبل موت إحداهما بل هو على خطر الوجود لجواز أن يموتا معا فلهذا انتصب شرطا.
قال: ولو قال يا زينب فأجابته عمرة فقال أنت طالق ثلاثا طلقت التي أجابته لأنه اتبع الإيقاع الجواب فيصير مخاطبا للمجيبة وإن قال أردت زينب قلنا تطلق زينب بقصده ولكنه لا يصدق في صرف الكلام عن ظاهره فتطلق عمرة أيضا بالظاهر كما لو قال زينب طالق وله امرأة معروفة بهذا الأسم تطلق فإن قال لي امرأة أخرى بهذا الاسم تزوجتها سرا وإياها عنيت قلنا تطلق تلك بنيته والمعروفة بالظاهر ولو قال يا زينب أنت طالق ولم يجبه أحد طلقت زينب لأنه اتبع الإيقاع النداء فيكون خطابا للمنادى وهي زينب وإن قال لامرأته يشير إليها يا زينب أنت طالق فإذا هي عمرة طلقت عمرة إن كانت امرأته وإن لم تكن امرأته لم تطلق زينب لأن التعريف بالإشارة أبلغ من التعريف بالاسم فإن التعريف بالإشارة يقطع الشركة من كل وجه وبالاسم لا فكان هذا أقوى ولا يظهر الضعيف في مقابلة القوي فكان هو مخاطبا بالإيقاع لمن أشار إليها خاصة وإن قال يا زينب أنت طالق ولم يشر إلى شيء غير أنه رأى شخصا فظنها زينب وهي غيرها طلقت زينب في القضاء لأنه بنى الإيقاع على التعريف بالاسم هنا فإنما يقع على المسماة ولا معتبر بظنه لأن التعريف لا يحصل به في الظاهر والقاضي مأمور باتباع الظاهر فأما فيما بينه وبين الله تعالى لا تطلق هي ولا الأخرى لأنه عناها بقلبه والله تعالى مطلع على ما في ضميره فيمنع ذلك الإيقاع على زينب التي لم

 

ج / 6 ص -100-       يعنها بقلبه وعلى التي عناها بقلبه لأنه لم يخاطبها بلسانه حين اتبع الخطاب النداء وإن قال أنت طالق هكذا وأشار بأصبع واحدة فهي طالق واحدة وإن أشار بأصبعين فهي طالق اثنتين وإن أشار بثلاثة أصابع فهي طالق ثلاثا لأن الإشارة بالأصابع بمنزلة التصريح بالعدد بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وخنس إبهامه في الثالثة فيكون ذلك بيانا أن الشهر تسعة وعشرون يوما ثم الأصل في هذه الإشارة أنها تقع بالأصابع المنشورة لا بالأصابع المعقودة والعرف دليل على هذا وكذلك الشرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خنس إبهامه في الثالثة كان الاعتبار بما نشر من الأصابع دون ما عقد حتى لو قال عنيت الإشارة بالإصبعين اللتين عقدت لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لكون ما قال محتملا وكذلك إذا قال عنيت الإشارة بالكف دون الأصابع دين فيما بينه وبين الله تعالى لكونه محتملا ولا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر فتطلق ثلاثا وبعض المتأخرين يقولون إن جعل ظهر الكف إليها والأصابع المنشورة إلى نفسه دين في القضاء وإن جعل الأصابع المنشورة إليها لم يدين في القضاء وإذا أشار بأصابعه فقال أنت طالق ولم يقل هكذا فهي واحدة لأن كلامه لا يتصل باشارته إلا بقوله هكذا فإذا لم يقل كان وجود الإشارة كعدمها فتطلق واحدة بقوله أنت طالق وإن قال أنت طالق وهو يريد أن يقول ثلاثا فأمسك رجل على فيه فلم يقل شيئا بعد ذكر الطلاق فهي طالق واحدة لأن الوقوع بلفظه لا بقصده وهو ما تلفظ إلا بقوله أنت طالق وكذلك لو مات الرجل بعد قوله أنت طالق قبل قوله ثلاثا فهي طالق واحدة بخلاف ما إذا ماتت المرأة بعد قوله أنت طالق قبل قوله ثلاثا فإنها لا تطلق شيئا لأن الزوج وصل لفظ الطلاق بذكر العدد فيكون العامل هو العدد ألا ترى أنه لو قال لها قبل الدخول أنت طالق ثلاثا تطلق ثلاثا لأن ذكر العدد حصل بعد موتها فأما إذا مات الرجل فلفظ الطلاق هنا لم يتصل بذكر العدد فبقى قوله أنت طالق ولو قال أنت طالق أنت طالق فماتت المرأة قبل ذكر الثانية طلقت واحدة لما قلنا أن كلامه هنا إيقاع عامل في الوقوع فإنما يقع ما صادفها وهي حية دون ما صادفها بعد الموت وإن قال لها أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق إن دخلت الدار فماتت قبل فراغه من الكلام لم يقع عليها شيء لأن الكلام المعطوف بعضه على بعض إذا اتصل الشرط بآخره يخرج من أن يكون إيقاعا كما إذا اتصل الاستثناء به وقد تحقق اتصال الشرط بالكلام بعد موتها وإن قال إحدى امرأتي طالق ثلاثا ولا نية له فذلك إليه يوقعها على أيتهما شاء فإن إيجاب الطلاق في المجهول صحيح بخلاف ما يقوله نفاة القياس وحجتنا عليهم الحديث كل طلاق جائز ثم الأصل أن الإيجاب في المجهول يصح فيما يحتمل التعليق بالشرط لأنه كالمعلق بخطر البيان في حق العين ولأن ما هو مبنى على الضيق وهو البيع يصح إيجابه في المجهول إذا كان لا يؤدي إلى المنازعة وهو ما إذا باع قفيزا من صبرة ففيما يكون مبنيا على السعة لأن يصح إيجابه في المجهول كان أولى وهذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة هنا لأن الزوج ينفرد بالبيان كما ينفرد بالإيقاع فإن قال أردت هذه حين تكلمت

 

 

ج / 6 ص -101-       فالقول قوله لأنه مالك للإيقاع عليها فيصح بيانه أيضا وما في ضميره لا يوقف عليه إلا من جهته فيقبل قوله فيه وإن قال ما نويت واحدة بعينها يقال له أوقع الآن على أيتهما شئت لأن الإيقاع الأول كان على منكر وأحكام الطلاق تتقرر في المنكر فلا بد من تعيينه فلهذا يقال له أوقع على أيتهما شئت وإن ماتت إحداهما قبل أن يبين طلقت الباقية لأنه إنما كان لا يتبين قبل الموت في إحداهما لمزاحمة الأخرى معها وقد زالت بالموت فإن التي ماتت خرجت من أن تكون محلا للطلاق وتعيين الطلاق المبهم في حق العين كابتداء الإيقاع فإذا خرجت إحداهما من أن تكون محلا للطلاق تعينت الأخرى وإن قال عنيت الميتة حين تكلمت صدق في حق نفسه حتى يبطل ميراثه عنها ولا يصدق على إبطال الطلاق عن الحية لأن الطلاق تعين فيها شرعا فلا يملك صرف الطلاق عنها بقوله.
قال: وإن كان له أربع نسوة فاطلعت إحداهن فقال الزوج التي اطلعت طالق ثلاثا ثم لم يعلم أيتهن هي وقد علم الزوج أنها كانت إحداهن فليس له أن يقرب واحدة منهن حتى يعلم المطلقة منهن لأن الوقوع هنا على المعينة ابتداء فنثبت به الحرمة ولا طريق إلى التحري في هذا الباب لأن التحري إنما يجوز فيما يحل تناوله بالضرورة وذلك لا يوجد في الفرج وليس له البيان بالإيقاع ابتداء لأن الإيقاع على المعينة هنا وقد تم بخلاف الأولى ولأن الإبهام ليس من جهته بل باختلاط المطلقة بغيرها بخلاف الأولى فالإبهام هناك منه فكان البيان إليه ولكن ينبغي له فيما بينه وبين الله تعالى أن يطلق كل واحدة منهن واحدة ويتركهن حتى يبن ولا يتزوج شيئا منهن حتى يعلم أيتهن صاحبة الثلاث لأن الأخذ بالاحتياط في باب الفرج واجب شرعا والاحتياط في هذا.
قال: فإن تزوج واحدة منهن قبل أن تعلم فخاصمته في الطلاق يحلف لها لأنها تزعم أنها المطلقة ثلاثا والزوج منكر لذلك ولو كانت الخصومة منها قبل أن يطلقها كان يحلف لها فكذلك بعده فإن حلف أمسكها لأنا عرفناها في الأصل غير مطلقة ثلاثا فحين حلف بقي الأمر في الحكم على ما كان معلوما لنا قبل هذا وكذلك إن تزوج اثنتين أو ثلاثا فإن لم تعلم وتزوجن بأزواج غيره ودخل بهن أزواجهن ثم فارقوهن نكح أيتهن شاء لأنا تيقنا أن المطلقة ثلاثا منهن قد حلت له بإصابة الزوج الثاني فكان له أن ينكح من شاء منهن وإن ادعت كل واحدة منهن أنها المطلقة ولا بينة لها وجحد الزوج يحلف لكل واحدة منهن بالله تعالى ما هي المطلقة ثلاثا لأن كل واحدة تدعي عليه ما لو أقر به لزمه فإن حلف لهن جميعا بقي الأمر على ما كان لأنا تيقنا مجازفته في هذه الإيمان فإن المطلقة فيهن واليمين الكاذبة لا ترفع الحرمة وعن محمد أنه قال إذا حلف لثلاث منهن تعينت للطلاق الرابعة ولا يحلف لها وأن أبى أن يحلف لهن فرق بينه وبينهن بثلاث تطليقات لأن نكوله في حق كل واحدة منهن بمنزلة إقراره أنها المطلقة ثلاثا.
قال: وإذا قال لنسوة له أيتكن أكلت من هذا الطعام فهي طالق فاكلنه طلقن جميعا لأن كلمة أي تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد قال الله تعالى:
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ

 

ج / 6 ص -102-       عَمَلاً} [هود: 7] وقال تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وحرف من للتبعيض فصار معلقا طلاق كل واحدة منهن بتناولها شيئا من الطعام وقد وجد في حقهن جميعا وكذلك لو قال أيتكن دخلت هذه الدار فدخلنها طلقن لوجود الشرط من كل واحدة منهن وكذلك لو قال أيتكن شاءت فهي طالق فشئن جميعا ولو قال أيتكن بشرتني بكذا فهي طالق فبشرنه جميعا معا طلقن لوجود الشرط من كل واحدة منهن وإن بشرته واحدة بعد أخرى طلقت الأولى وحدها لأنها هي البشيرة فإن البشارة اسم لخبر سار صدق غاب عن المخبر علمه وفي الحقيقة كل خبر غاب عن المخبر به علمه إذا كان صدقا فهو بشارة قال الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وإنما سمي هذا الخبر بشارة لتغير بشرة الوجه عند سماعه إلا أنه إذا كان محزنا يتغير إلى الصفرة وإن كان سارا إلى الحمرة ولكن في العرف إنما يطلق هذا الاسم على الخبر السار وإنما وجد هذا في الأولى لأنها أخبرته بما غاب عنه علمه فأما الثانية أخبرته بما كان معلوما له فكانت مخبرة لا بشيرة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأ على قراءة بن أم عبد" فاستبق أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أن يخبراه فسبق أبو بكر رضي الله عنه فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول بعد ذلك بشرني به أبو بكر رضي الله عنه وأخبرني به عمر رضي الله عنه.
قال: قال رجل لامرأته أنت طالق ملء الدار أو ملء الحب فإن نوى ثلاثا فثلاث وإلا فهي واحدة بائنة لأن الشيء يملأ الوعاء العظيمة في نفسه تارة ولكثرة عدده أخرى فإذا نوى الثلاث علمنا أنه أراد به كثرة العدد فكأنه قال أنت طالق أكثر العدد وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة لأنه إنما أراد به الوصف بعظم التطليقة وذلك بأن يشتد حكمها وكذلك إن لم تكن له نية لأن في وقوع الواحدة يقينا وفيما زاد عليه شكا وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة لأنه نوى مجرد العدد وذلك لا يسع في هذا اللفظ وإن قال واحدة تملأ الدار فهي واحدة بائنة ولا تسع نية الثلاث هنا لأنه صرح بالواحدة فيبقى معنى الوصف بالعظم فتكون بائنة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها تكون رجعية لأنه وصف الطلاق بما لا يوصف به فكان لاغيا في وصفه كما لو قال تطليقة تصيح أو تطير كان هذا الوصف لغوا ثم المذهب عند أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه متى صرح بلفظ العظم يكون الواقع بائنا سواء شبهها بعظيم أو صغير حتى إذا قال عظم الجبل أو عظم رأس الإبرة أو الخردلة تكون بائنة وإن لم توصف بالعظم ولكن قال مثل الجبل أو مثل رأس الإبرة تكون رجعية وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى تكون بائنا وقال زفر رحمه الله تعالى إذا شبه التطليقة بما يكون عظيما عند الناس كالجبل تقع بائنة وإذا شبهها بما يكون حقيرا كالخردلة تكون رجعية وإذا قال أنت طالق واحدة عظيمة أو كبيرة أو شديدة أو طويلة أو عريضة فوصفها بشيء يشددها به فهي بائنة في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لما بينا أن مراده معنى الشدة عليها في حكمها وذلك في البائن لأنه لا ينفرد بالتدارك بخلاف الرجعي وإن قال أنت طالق إلى الصين فهي واحدة رجعية لأنه لم

 

ج / 6 ص -103-       يصفها بعظم ولا كبر إنما مدها إلى مكان والطلاق لا يحتمل ذلك نفسه ولا حكمه ولأنه بهذا اللفظ قصر حكم الطلاق لأنها إذا وقعت تكون واقعة من المشرق إلى المغرب فلا يثبت بهذا اللفظ زيادة شدة ولو قال أنت طالق إلى الشتاء فهي طالق واحدة رجعية بعد الأجل كما في قوله إلى شهر وكذلك لو قال إلى الصيف ومعرفة دخول الشتاء بلبس أكثر الناس الفرو والثوب المحشو في ذلك الموضع ودخول الصيف بإلقاء أكثر الناس ذلك حتى يتعجب ممن يرى عليه بعد ذلك والربيع في آخر الشتاء قبل دخول الصيف إذا كان الناس بين لابس للمحشو وغير لابس لا يعيب بعضهم على بعض وكذلك الخريف في آخر الصيف قبل دخول الشتاء بهذه الصفة وقيل الربيع إذا نبت العشب والصيف إذا احترق العشب وجف والخريف إذا أخذ الناس في التأهب للشتاء والشتاء إذا اشتد البرد في كل موضع.
قال: ولو قال أنت طالق واحدة لا بل اثنتين فهي طالق ثلاثا إن كان دخل بها لأن كلمة لا بل لاستدراك الغلط بإقامة الثاني مقام الأول والرجوع عن الأول وهو لا يملك الرجوع عما أوقعه ولكنه يتمكن من إيقاع أخريين إذا كان قد دخل بها فتطلق ثلاثا لهذا وإن لم يكن دخل بها فهي واحدة لأنها بانت بالأولى لا إلى عدة فلا يقدر على الرجوع عنها ولا على إقامة الثنتين مقامها بإيقاعه لأنها ليست بمحل فلغي آخر كلامه وإن قال في المدخول بها نويت بالاثنتين تلك الواحدة وأخرى معها لم يدين في القضاء لأن الثنتين غير الواحدة من حيث الظاهر ولأن كلامه إيقاع مبتدأ فيما نص عليه ولكن فيما بينه وبين الله تعالى هو مدين لأن ما قاله محتمل.
قال: وإذا قال قد كنت طلقتك أمس واحدة لا بل اثنتين فهي طالق اثنتين استحسانا وفي القياس تطلق ثلاثا وهو قول زفر رحمه الله كما في الإيقاع لأن اثنتين غير واحدة فرجوعه عن الإقرار بالواحدة باطل وإقراره بالثنتين صحيح وفي الاستحسان يقول الإقرار إخبار وهو مما يتكرر بخلاف الإيقاع والعادة الظاهرة أن في الإخبار بهذا اللفظ يراد تدارك الغلط بإثبات الزيادة على العدد الأول مع اعادتها فإن الرجل يقول حججت حجة لا بل حجتين يفهم من هذا الإخبار حجتين وإذا قال سني ستون سنة لا بل سبعون يفهم من هذا الأخبار سبعين لا غير ومطلق الكلام محمول على المتعارف فلهذا تطلق اثنتين وإن قال فلانة طالق لا بل فلانة طلقتا لأنه ذكر الثانية ولم يذكر لها خبرا فيكون خبر الأولى خبرا لها فكأنه قال لا بل فلانة طالق وكذلك لو قال فلانة طالق ثلاثا لا بل فلانة أو قال بل فلانة تطلق كل واحدة ثلاثا وإن قال فلانة طالق ثلاثا لا بل فلانة طالق طلقت الأولى ثلاثا والثانية واحدة لأنه ذكر للثانية خبرا فوقع الاستغناء بذلك عن جعل الخبر الأول خبرا لها وإن قال فلانة طالق أو فلانة طلقت إحداهما لأن موجب كلمة أو إذا دخلت بين اثنين إثبات احد المذكورين بيانه في آية الكفارة فكأنه قال إحداهما طالق ومن يقول إن حرف أو للتشكيك فهو مخطى ء في ذلك لأن التشكيك لا يكون مقصودا ليوضع له حرف ولكن حقيقته ما بينا أن موجبه إثبات أحد المذكورين وكذلك لو قال أنت طالق واحدة أو اثنتين فالخيار إليه لأنه أدخل حرف أو بين عددين فيكون المراد أحدهما والبيان إليه ولو قال لها كلما حبلت فأنت طالق

 

ج / 6 ص -104-       وكلما ولدت فأنت طالق فحبلت بعد هذا القول وولدت لأكثر من سنتين فقد وقع الطلاق عليها حين حبلت بالكلام الأول وانقضت العدة بالولادة فلا يقع به عليها شيء فإن كان وطئها وهي حبلى فذلك منه رجعة ثم تطلق بالولادة تطليقة أخرى بالكلام الثاني وعليها العدة وهو أملك برجعتها فإن حبلت وقعت الثالثة عليها بالكلام الأول لأن كلمة كلما تقتضي التكرار ثم تنقضي عدتها بالولادة لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها.
قال: رجل قال لامرأة لا يملكها يوم أتزوجك فأنت طالق وأنت طالق وأنت طالق أو قال إن تزوجتك أو إذا تزوجتك أو متى تزوجتك فأنت طالق وطالق وطالق ثم تزوجها تطلق واحدة في قول أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تطلق ثلاثا حجتهما في ذلك أنه علق ثلاث تطليقات مجتمعات بشرط التزوج فيقعن عند وجود الشرط معا كما لو أخر الشرط فقال أنت طالق وطالق وطالق إذا تزوجتك وإنما قلنا ذلك لأن الواو للجمع دون الترتيب بيانه في آية الوضوء فإنه ثبتت به فرضية الطهارة في الأعضاء الأربعة من غير ترتيب والرجل يقول جاءني زيد وعمرو فيكون مخبرا بمجيئهما من غير ترتيب بينهما في المجيء ولأن قوله وطالق جملة ناقصة معطوفة على الجملة التامة فالمذكور في الجملة التامة يصير معادا في الجملة الناقصة كما في قوله تعالى {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} معناه فعدتهن ثلاثة أشهر فهنا يصير كأنه قال وأنت طالق إذا تزوجتك وأنت طالق إذا تزوجتك ولو صرح بهذا ثم تزوجها طلقت ثلاثا جملة فهذا مثله وبأن كان لو نجز الطلاق بهذا اللفظ يتفرق الوقوع لا يدل على أنه إذا علق يتفرق كما لو قال لامرأته ولم يدخل بها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل اثنتين فدخلت الدار تطلق ثلاثا ولو نجز بهذا اللفظ الطلاق قبل الدخول لم يقع إلا واحدة وهذا لأن المنجز طلاق فتبين بالأولى قبل ذكر الثانية والمعلق بالشرط ليس بطلاق وإنما يصير طلاقا عند وجود الشرط فما صح تعليقه بالشرط ينزل عند وجود الشرط جملة إذا لم يكن في لفظه ما يدل على الترتيب وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول تعلق بالشرط ثلاث تطليقات متفرقات فيقعن عند وجود الشرط كذلك كما لو قال إن تزوجتك فأنت طالق وبعدها أخرى وبعدها أخرى فإذا وقعن متفرقات بأنت بالأولى فلا تقع الثانية والثالثة كما لو نجز وإنما قلنا ذلك لأن الواو في اللغة لعطف مطلق من غير أن يقتضي جمعا ولا ترتيبا كما في قوله جاءني زيد وعمرو لا يقتضي جمعا حتى يستقيم أن يقول وعمرو بعده كما يستقيم أن يقول وعمرو معه فإذا كان للعطف فالتطليقة الأولى تعلقت بالشرط بلا واسطة والثانية بواسطة الأولى لأنها معطوفة عليها كالقنديل إذا علق بحبل بحلق يتعلق بالحلقة الأولى بلا واسطة وبالحلقة الثانية بواسطة الأولى وكعقد لؤلؤ وإنما ينزل عند وجود الشرط كما تعلق وهب أنه لم يكن طلاقا يومئذ فإنما يصير طلاقا كما تعلق وهذا بخلاف ما لو أعاد الشرط عند ذكر كل تطليقة لأن تعلق كل تطليقة هناك بالشرط بلا واسطة وإنما التفرق في أزمنة التعليق وذلك لا يوجب تفرقا في المعلق بالشرط وبخلاف قوله إن دخلت الدار فأنت

 

ج / 6 ص -105-       طالق واحدة لا بل اثنتين لأن لا بل لاستدراك الغلط بإقامة الثاني مقام الأول وقد صح ذلك لبقاء المحل بعد ما تعلق الأول بالشرط فتعلق الثنتان بالشرط بلا واسطة كالأولى وهنا حرف الواو للعطف وبخلاف ما لو نجز بقوله لا بل لأنها بانت بالأولى فلم يصح منه التكلم بالثنتين لعدم المحل وأما إذا أخر الشرط فنقول أول الكلام يتوقف على آخره إذا كان في آخره ما يغير موجب أوله وهنا في آخره ما يغير موجب أوله لأن أوله إيقاع وبآخره تبين أنه تعليق فإذا توقف عليه تعلق الكل بالشرط جملة وأما إذا قدم الشرط فليس في آخر الكلام ما يغير موجب أوله فلا يتوقف أوله على آخره فإذا لم يتوقف كان هذا والتنجيز سواء ونظيره ما لو تزوج أمتين نكاحا موقوفا فقال المولى أعتقت هذه وهذه بطل نكاح الثانية لأنه ليس في آخره ما يغير موجب أوله فلم يجعل كعتقهما معا ولو زوج أختين من رجل بغير أمره في عقدتين فقال الزوج أجزت نكاح هذه وهذه بطل نكاحهما كما لو قال أجزتهما لأن في آخره ما يغير موجب أوله وإن قال إذا تزوجتك فأنت طالق طالق طالق ثم تزوجها طلقت واحدة لأنه ما عطف الثانية والثالثة على الأولى فتتعلق الأولى بالشرط وتلغو الثانية والثالثة ولو قال إذا تزوجتك فأنت طالق وأنت علي كظهر أمي ووالله لا أقربك ثم تزوجها طلقت وسقط عنه الظهار والإيلاء عند أبي حنيفة لأن تعلقهما بالشرط بواسطة الطلاق فبسبق وقوع الطلاق تبين لا إلى عدة فلا يكون مظاهرا موليا بعد ما خرجت من ملكه وعند أبي يوسف ومحمد رحمه الله هو مطلق مظاهر مول لأن الكل تعلق بالتزويج عندهما جملة ولو قال إذا تزوجتك فوالله لا أقربك وأنت علي كظهر أمي وأنت طالق ثم تزوجها وقع هذا كله عليها أما عندهما لا إشكال وعند أبي حنيفة لأنه سبق الإيلاء وتكون بعده محلا للظهار فيصير مظاهرا ثم تكون بعدهما محلا للطلاق فيقع الطلاق أيضا وعلى هذا لو قال لامرأته ولم يدخل بها إن كلمت فلانا فأنت طالق وطالق وطالق فكلمته فهي طالق واحدة في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تقع ثلاثا نص على قولهما في رواية أبي سليمان ولو قال أنت طالق فطالق إذا كلمت فلانا فكلم فلانا تطلق ثلاثا بالاتفاق والفرق لأبي حنيفة ما ذكرنا ولو قال إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق ذكر الطحاوي رحمه الله أن هذا على الخلاف أيضا وحرف الفاء للعطف كحرف الواو فتطلق ثلاثا عندهما والأصح أنها تطلق واحدة عند وجود الشرط لأن الفاء للتعقيب في أصل الوضع لا لعطف مطلق فإن كل حرف موضوع لمعنى خاص وإذا كان للتعقيب ففي كلامه تنصيص على أن الثانية تعقب الأولى فتبين بالأولى لا إلى عدة بخلاف الواو وإن قال لها أنت طالق طالق طالق إن كلمت فلانا فإن كان دخل بها تطلق اثنتين في الحال والثالثة تعلقت بالكلام وإن لم يكن دخل بها طلقت واحدة في الحال ويلغو ما سواها لأنه ما عطف التطليقات بعضها على بعض ولو قال إن كلمت فلانا فأنت طالق طالق طالق فإن كان دخل بها تعلقت الأولى بالكلام ووقعت الثانية والثالثة في الحال وإن لم يدخل بها تعلقت الأولى بالكلام وتقع الثانية في الحال والثالثة لغو ولو قال أنت طالق ثم طالق ثم

 

ج / 6 ص -106-       طالق إن كلمت فلانا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كانت مدخولا بها يقع في الحال اثنتان والثالثة تتعلق بالكلام وإن لم يكن دخل بها تقع واحدة في الحال ويلغو ما سوى ذلك وإذا قدم الشرط فقال إن كلمت فلانا فأنت طالق ثم طالق ثم طالق فإن كان قد دخل بها تعلقت الأولى بالشرط ووقعت الثانية والثالثة في الحال وإن لم يكن دخل بها تعلقت الأولى بالشرط ووقعت الثانية في الحال والثالثة لغو عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى سواء قدم الشرط أو أخر تتعلق الثلاث بالشرط إلا أن عند وجود الشرط إن كانت مدخولا بها تطلق ثلاثا وإن كانت غير مدخول بها تطلق واحدة فأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كلمة ثم للتعقيب مع التراخي فإذا أدخله بين الطلاقين كان بمنزلة سكثة بينهما وهما يقولان حرف ثم للعطف ولكن بقيد التراخي فلوجود معنى العطف يتعلق الكل بالشرط ولمعنى التراخي يقع مرتبا عند وجود الشرط ولو قال كلما تزوجت امرأة فهي طالق فتزوجها ثلاث مرات ودخل بها في كل مرة لم يذكر هذا في الأصل قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي تطلق اثنتين وعليه لها مهران ونصف وقال محمد رحمه الله تعالى تطلق ثلاثا وعليه لها أربعة مهور ونصف ذكره في الرقيات وجه تخريج أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لما تزوجها وقعت تطليقة قبل الدخول ولزمه نصف مهر فلما دخل بها لزمه مهر بالدخول ثم لما تزوجها وقعت تطليقة أخرى بكلمة كلما ولكنها تكون رجعية عنده لأنه تزوجها قبل انقضاء عدتها منه وبنفس التزوج وجب مهر آخر وذلك مهران ونصف ثم بالدخول يصير مراجعا والتزوج في المرة الثالثة لغو فهي عنده بتطليقة وعليه لها مهران ونصف وتخريج قول محمد رحمه الله تعالى أن بالتزوج الأول وقعت تطليقة ووجب نصف مهر بالطلاق ومهر بالدخول وكذلك بالتزوج الثاني والثالث لأن عنده وإن حصل التزوج في العدة لا يخرج به الطلاق من أن يكون واقعا قبل الدخول فتطلق ثلاثا وعليه أربعة مهور ونصف ولو قال كلما تزوجتك فأنت طالق بائن والمسئلة بحالها فعند محمد رحمه الله تعالى هذا والأول سواء وعند أبي يوسف تطلق ثلاثا بكل تزوج تطليقة بائنة وعليه خمسة مهور ونصف لأن بالعقد الثاني والثالث في العدة كما وقع طلاق بائن ويجب مهر تام وكذلك يجب بكل دخول مهر تام فإذا جمعت ذلك كان خمسة مهور ونصفا وإذا قال كل امرأة أتزوجها أبدا فهي طالق فتزوج امرأة فطلقت ثم تزوجها ثانية لم تطلق لأن كلمة كل تقتضي جميع الأسماء لا تكرار الأفعال فإنما يتجدد وقوع الطلاق بتجدد الاسم ولا يوجد ذلك بعقدين على امرأة واحدة بخلاف كلمة كلما فإنها تقتضي تكرار الأفعال وإنما قلنا ذلك لأن مقتضى كلمة كل الجمع فيما يتعقبها والذي يتعقب الكل الاسم دون الفعل يقال كل رجل وكل امرأة ولا يستقيم أن يقال كل ضرب وكل دخل والذي يتعقبه كلمة كلما الفعل دون الاسم يقال كلما ضرب وكلما دخل ولا يقال كلما زيد وكلما عمرو.
قال: وإذا قال أول امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثا فتزوج امرأتين في عقدة ثم واحدة في

 

ج / 6 ص -107-       عقدة لم تطلق واحدة منهن لأن الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه فيه غيره ولم توجد صفة الفردية في الأوليين لأن كل واحدة منهما مزاحمة للأخرى في العقد ولم توجد صفة السبق في الثالثة لأنه تقدمها امرأتان فلم تثبت صفة الأولية لواحدة منهن ولو كان قال مع هذا وآخر امرأة أتزوجها فهي طالق لم تطلق الثالثة أيضا لأن الآخر اسم لفرد متأخر لا يعقبه غيره ونحن لا ندري أن الثالثة هل هي آخر أم لا لجواز أن يتزوج بعدها غيرها فإن مات قبل أن يتزوج أخرى طلقت الثالثة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى من حين تزوجها حتى لا يلزمها العدة إن لم يدخل بها ولا ميراث لها وإن كان دخل بها فلها عليه مهر ونصف نصف مهر بالطلاق قبل الدخول ومهر بالدخول وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إنما تطلق الثالثة قبيل الموت حتى يكون لها الميراث إذا كان دخل بها ولا مهر عليه بالدخول سوى مهر النكاح وعليها عدة الوفاة والطلاق جميعا عند محمد وعند أبي يوسف رحمهما الله تعالى ليس عليها عدة الوفاة وجه قولهما أن الثالثة إنما استحقت صفة الآخرية حين أشرف على الموت وعجز عن التزوج بغيرها فتطلق في الحال كما لو تزوج امرأة ثم قال لها إن لم أتزوج عليك أخرى فأنت طالق فإنما تطلق قبيل موته بلا فصل وهما في المعنى سواء لأنها إنما تكون آخرا بشرط أن لا يتزوج بعدها غيرها إلا أن عند محمد لما أخذت الميراث بحكم الفرار لزمها عدة الوفاة مع عدة الطلاق وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا تلزمها عدة الوفاة وإن ورثته بالفرار وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لما تزوجها بعد الأوليين فقد اتصفت بصفة الآخرية ولكن هذه الصفة بعرض أن تزول عنها بأن يتزوج غيرها فلا يحكم بالطلاق لهذا فإذا لم يتزوج غيرها حتى مات تقررت صفة الآخرية فيها من حين تزوجها فتطلق من ذلك الوقت كما لو قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم لا يحكم بوقوع الطلاق لجواز أن ينقطع فيما دون الثلاث وإن استمر تبين أن الطلاق كان واقعا مع أول قطرة من الدم وهذا بخلاف ما لو قال إن لم أتزوج عليك لأنه جعل عدم التزوج شرطا مفصحا به للطلاق ولا يتحقق هذا الشرط إلا عند موته وما لم يتحقق الشرط لا ينزل الجزاء ويجوز أن يفترق الفصلان لاختلاف اللفظ مع التقارب في المعنى كما لو قال لامرأته إن لم أشأ طلاقك فأنت طالق ثم قال لا أشاء لا تطلق ما دام حيا ولو قال إن أبيت طلاقك فأنت طالق ثم قال قد أبيت طلاقك تطلق وهما في المعنى سواء ثم اختلف الجواب لاختلاف لفظ الشرط من الوجه الذي قلنا.
قال: ولو قال آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج واحدة لم يتزوج قبلها ولا بعدها حتى مات لم تطلق لأنها أول امرأة تزوجها فلا تكون آخر امرأة فإن صفة الأولية والآخرية لا يجتمع في مخلوق واحد لما بينهما من التضاد في المعنى في المخلوقين فإن أحدهما لمعنى السبق والآخر لمعنى التأخر في الزمان ولو قال أول امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأتين في عقدة وإحداهما معتدة وقع الطلاق على التي صح نكاحها لأن شرط التزوج في المستقبل يتناول العقد الصحيح دون الفاسد ونكاح المعتدة باطل وإنما صح نكاح الأخرى فهي فرد سابق

 

ج / 6 ص -108-       في نكاحه فكانت أولا وكذلك لو تزوج امرأة نكاحا فاسدا ثم تزوج امرأة بعدها بنكاح صحيح طلقت هذه لأن الأولى لما لم يصح نكاحها لم تكن داخلة في كلامه وإنما دخلت في كلامه الثانية التي صح نكاحها فهي أول امرأة تزوجها وكذلك لو قال لامرأته إن لم أتزوج عليك اليوم فأنت طالق فتزوج امرأة نكاحا فاسدا لم يبر في يمينه بهذا لأن ذكر التزوج في المستقبل ينصرف إلى العقد الصحيح سواء ذكره في موضع النفي أو في موضع الإثبات فإن المقصود بالتزوج الحل والعفة وذلك يحصل بالعقد الصحيح دون الفاسد.
قال: وإن قال أول امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة طلقت حين تزوجها إن مات أو لم يمت لأنها بنفس العقد استحقت اسم الأولية بصفة التفردية فإن دخل بها فلها مهر ونصف مهر نصف مهر بالطلاق الواقع قبل الدخول ومهر بالدخول بها لأن الحد قد سقط عنه بشبهة اختلاف العلماء والوطء في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر فإذا سقط الحد لشبهة وجب المهر وإن قال إذا تزوجت امرأة فهي طالق فتزوج امرأتين في عقدة فإحداهما طالق والخيار إليه لأنا تيقنا بوجود الشرط وهو تزوج امرأة فإن في المرأتين امرأة فلهذا طلقت إحداهما بغير عينها لأن كل واحدة منهما تزاحم الأخرى في الاسم الذي أوقع الطلاق به ولا وجه للإيقاع عليهما لأنه علق بالتزوج طلاق امرأة واحدة لا طلاق امرأتين فلهذا تطلق احداهما والخيار إليه وإن كان نوى امرأة وحدها لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه ذكر التزوج بامرأة مطلقا ثم قيدها بنيته وهو أن تكون وحدها وتقييد المطلق كتخصيص العام وقد بينا أن نية التخصيص في العام صحيحة فيما بينه وبين الله تعالى غير صحيحة في القضاء فكذلك التقييد وإن كان قال إن تزوجت امرأة وحدها ثم تزوج امرأتين في عقدة لم تطلق واحدة منهما لأن التقييد هنا بنص كلامه وواحدة منهما لم تتصف بتلك الصفة التي نص عليها في الشرط لانضمام الأخرى إليها في العقد وإن تزوج أخرى بعدهما طلقت لأنها موصوفة بالصفة التي نص عليها في الشرط فإنها امرأة تزوجها وحدها وهو كما لو قال إذا تزوجت امرأة سوداء فهي طالق فتزوج بيضاوين ثم تزوج سوداء تطلق الثالثة بخلاف قوله أول امرأة أتزوجها لأن هناك نص في الشرط على وصفين الفردية والسبق وقد انعدم في الثالثة صفة السبق وهنا الشرط صفة واحدة وهي الفردية وقد وجد ذلك في الثالثة فلهذا تطلق وإن قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق فأمر رجلا فزوجها إياه فهي طالق لأنه تزوجها بعبارة الوكيل فكأنه تزوجها بعبارة نفسه وهذا لأن الوكيل في النكاح معبر حتى لا يتعلق به شيء من العهدة ولا يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل وبه فارق البيع والشراء إذا حلف لا يفعله فأمر غيره حتى باشره لم يحنث في يمينه لأن العاقد لغيره في البيع والشراء كالعاقد لنفسه حتى تتعلق به العهدة ويستغني عن إضافة العقد إلى الموكل ولا يصير الموكل عاقدا بمباشرة الوكيل وإن عنى في النكاح ما ولي عقده بنفسه لا يدين في القضاء وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه في معنى نية التخصيص في العام فإن مطلق اللفظ يتناول مباشرته بنفسه ومباشرة الغير له

 

ج / 6 ص -109-       بأمره وكذلك إن حلف أن لا يطلقها فأمر غيره فطلقها حنث لأن الزوج هو المطلق بعبارة الوكيل فإن الوكيل بالطلاق معبر ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق إن شئت فشاءت أو قال اختاري فاختارت نفسها كان الزوج هو المطلق لها فكذلك هنا وإن قال نويت أن أطلقها بلساني لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وإذا قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق أو قال أنت طالق وطالق وطالق بانت بالأولى عندنا وعند مالك رحمه الله تطلق ثلاثا لأن الواو للجمع فجمعه بين التطليقات بحرف الجمع كجمعه بلفظ الجمع بأن يقول لها أنت طالق ثلاثا ولكنا نقول الواو للعطف فلا يقتضي جمعا وليس في آخر كلامه ما يغير موجب أوله لأن موجب أول الكلام وقوع الطلاق وهو واقع أوقع الثانية والثالثة أو لم يوقع فتبين بالأولى كما تكلم بها ثم قد تكلم بالثانية وهي ليست في عدته وهذا بخلاف ما لو ذكر شرطا أو استثناء في آخر كلامه لأن في آخر كلامه ما يغير موجب أوله فتوقف أوله على آخره.
قال: وإن قال لها أنت طالق واحدة بعدها أخرى أو قبل أخرى فهي طالق واحدة وهذا الجنس من المسائل ينبني على أصلين:
أحدهما: أنه متى ذكر النعت بين اسمين فإن ألحق به حرف الكناية وهو حرف الهاء كان نعتا للمذكور آخرا وإن لم يلحق كان نعتا للمذكور أولا تقول جاءني زيد قبل عمرو فيكون قبل نعتا لمجيء زيد وإذا قلت قبله عمرو كان نعتا لمجيء عمرو.
والثاني أن من أقر بطلاق سابق يكون ذلك إيقاعا منه في الحال لأن من ضرورة الإستناد الوقوع في الحال وهو مالك للإيقاع غير مالك للإسناد إذا عرفنا هذا فنقول إذا قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق واحدة قبل أخرى تطلق واحدة لأن قبل نعت للأولى ومعناه قبل أخرى تقع عليك فتبين بالأولى ولو قال قبلها أخرى تطلق اثنتين لأن قبل نعت للمذكور آخرا فكأنه قال قبلها أخرى وقعت عليك وهذا منه إسناد للثانية إلى وقت ماض فيكون موقعا لها في الحال مع الأولى ولو قال بعد أخرى تطلق اثنتين لأن بعد نعت للأولى فيكون معناه بعد أخرى وقعت عليك ولو قال بعدها أخرى تطلق واحدة لأن بعدها هنا نعت للثانية ومعناه بعدها أخرى تقع عليك فتبين بالأولى.
قال: ولو قال مع أخرى أو معها أخرى تطلق اثنتين لأن كلمة مع للقرآن فقد قرن إحدى التطليقتين بالأخرى وأوقعهما جميعا وكذلك إن قال اثنتين مع واحدة أو معها واحدة أو قبلها واحدة فهي طالق ثلاثا لما قلنا.
قال: ولو قال أنت طالق واحدة ونصفا قبل الدخول كانت طالقا اثنتين عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى واحدة لأن نصف التطليقة كما لها فكأنه قال أنت طالق واحدة وواحدة ولكنا نقول هذا كله ككلام واحد معنى لأنه لا يمكنه أن يعبر عن واحدة ونصف بعبارة أوجز من هذه فإن لواحدة ونصف عبارتين أما هذه وأما اثنتان إلا نصف وذلك لا يصير

 

ج / 6 ص -110-       معلوما إلا بالاستثناء وهذا معلوم في نفسه فهو أولى العبارتين وإذا كان كلاما واحدا معنى لا يفصل بعضه عن بعض بخلاف قوله واحدة وواحدة فكأنهما عبارتان لأن للاثنتين عبارة أوجز من هذه وهو أن يقول اثنتين وكذلك لو قال أنت طالق إحدى وعشرين عندنا تطلق ثلاثا لأنه ليس لهذا العدد عبارة أوجز من هذه فكان الكلام واحدا معنى وعند زفر رحمه الله تعالى تطلق واحدة لأنهما كلامان أحدهما معطوف على الآخر فتبين بالأولى وإن قال إحدى عشرة تطلق ثلاثا بالاتفاق لأنه ليس بينهما حرف العطف فكان الكل واحدا ولو قال إحدى وعشرة عندنا تطلق ثلاثا وعند زفر رحمه الله تعالى واحدة لأنه لما ذكر حرف العطف كان كلامين وكذلك لو قال واحدة ومائة عندنا تطلق ثلاثا وقال زفر رحمه الله تعالى واحدة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن هنا تطلق واحدة لأن العبارة المعروفة لهذا العدد مائة وواحدة فإذا غير ذلك تفرق كلامه فتبين بالأولى.
قال: ولو قال أنت طالق البتة أو قال البائن ينوي ثلاثا فهي ثلاث لأن ألبتة عبارة عن القطع وقد بينا أن القطع نوعان فهو بنية الثلاث ينوي أحد نوعي القطع فيعمل بنيته وكذلك لو قال أنت طالق حراما ينوي ثلاثا فهو كما نوى لأنه نوى أحد نوعي الحرمة وكذلك لو قال طالق الحرام فهذا وقوله حرام سواء ويستوي إن كان دخل بها أو لم يدخل بها لأن الكلمة واحدة فإن ما ذكر بعد قوله طالق تفسير لهذه الكلمة فهذا وقوله أنت طالق ثلاثا سواء وإن قال أنت طالق الطلاق أو طلاقا فإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة رجعية وإن عنى بطالق تطليقة وبالطلاق أخرى فهي اثنتان رجعيتان إن كان قد دخل بها لأن هذه الألفاظ مشتقة من لفظ صريح الطلاق وإن لم يدخل بها فواحدة بائنة فإنه لما نوى بكل كلمة تطليقة كان هذا بمنزلة قوله أنت طالق أنت طالق فتبين بالأولى فإن قال أنت طالق الطلاق كله فهي طالق ثلاثا كانت له نية أو لم تكن لأنه صرح بإيقاع كل الطلاق وهو ثلاث ومع التصريح لا حاجة إلى النية وإن قال أنت طالق أخبث الطلاق أو أشد الطلاق أو أعظم الطلاق أو أكبر الطلاق فهذا كله باب واحد فإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة أو لم يكن له نية فهي واحدة بائنة لما بينا أن معنى العظم والكبر والشدة يظهر في الحكم فهذا وقوله طالق بائن سواء وإن قال أنت طالق أكبر الطلاق فهي ثلاث لا يدين فيها إذا قال نويت واحدة لأن الكثرة والقلة في العدد فقد صرح بإيقاع أكثر ما يملك عليها من الطلاق ومع التصريح لا حاجة إلى النية ولو قال أسوأ الطلاق أو شره أو أفحشه فهو وقوله اخبث الطلاق سواء على ما بينا وإن قال أكمل الطلاق أو أتم الطلاق فهي واحدة رجعية لأنه ليس في لفظه ما ينبئ عن العظم والشدة ولو قال أنت طالق طول كذا أو عرض كذا فهي واحدة بائنة لأن الطول والعرض فيه إشارة إلى معنى الشدة فإن الأمر إذا اشتد على إنسان يقول كان لهذا الأمر طول وعرض فتكون واحدة بائنة ولا تكون ثلاثا وإن نواها لأن الطول والعرض للشيء الواحد فكأنه قال أنت طالق واحدة طولها وعرضها كذا وهذا لا تسع فيه نية الثلاث ولو قال أنت

 

ج / 6 ص -111-       طالق خير الطلاق أو أعدل الطلاق أو أحسن الطلاق فهذا بمنزلة قوله أنت طالق للسنة لأن الأعدل والأحسن ما يوافق السنة وإنما يوصف بالخيرية ما يوافق السنة حتى يقع بهذا تطليقة رجعية في وقت السنة وإن نوى ثلاثا فثلاث بمنزلة قوله أنت طالق للسنة.
قال: ولو قال لها أنت طالق إن ركبت وهي راكبة فمكثت كذلك ساعة طلقت لأن الركوب مستدام حتى تضرب له المدة يقال ركبت يوما والاستدامة على ما يستدام إنشاء قال الله تعالى:
{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: 68] أي لا تمكث قاعدا وكذلك لو قال أنت طالق إن قعدت وهي قاعدة أو إن قمت وهي قائمة أو إن مشيت وهي ماشية أو إن اتكأت وهي متكئة فمكثت كذلك ساعة يحنث بخلاف ما لو قال أنت طالق إن دخلت الدار وهي في الدار فمكثت كذلك لم تطلق حتى تخرج وتدخل لأن الدخول ليس بمستدام فإنه انفصال من الخارج إلى الداخل ألا ترى أنه لا تضرب له المدة فلا يقال دخل يوما وإنما يقال دخل وسكن يوما والخروج نظير الدخول لأنه انفصال من الداخل إلى الخارج فلا يكون لاستدامته حكم إنشائه ولو قال أنت طالق ما بين تطليقة إلى ثلاث أو من تطليقة إلى ثلاث ففي القياس تطلق واحدة وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه جعل الأولى والثالثة غاية والغاية حد فلا تدخل في المحدود كقوله بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط فيكون الواقع ما بين الغايتين وهي الواحدة وفي الاستحسان وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تطلق ثلاثا لأن الحد إنما يكون في ذوي المساحات فأما في عرف اللسان إنما يراد بمثل هذا الكلام دخول الكل فإن الرجل يقول خذ من مالي من درهم إلى عشرة فيكون له أخذ العشرة ويقول كل من الملح إلى الحلو فيكون المراد تعميم الإذن ومطلق الكلام محمول على عرف أهل اللسان وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول القياس ما قاله زفر أن الحد غير المحدود ولكن في إدخال الأولى ضرورة لأنه أوقع الثانية ولا ثانية قبل الأولى ولا بد للكلام من ابتداء فإذا لم يوقع الأولى تصير الثانية ابتداء فلا يمكن إيقاعها أيضا فلأجل الضرورة أدخلت الغاية الأولى ولا ضرورة في الغاية الثانية فأخذت فيها بالقياس وقلت تطلق اثنتين وهذا لأن الغاية التي ينتهي الكلام إليها قد لا تدخل كالليل في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وقد تدخل كالمرافق والكعبين في الوضوء والطلاق بالشك لا يقع فإن قال أردت واحدة لا يدين في القضاء وهو يدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال الكلام ما نوى وإن قال أنت طالق ما بين واحدة إلى أخرى ففي قياس قول زفر لا يقع شيء وفي قول أبي حنيفة تطلق واحدة وعندهما تطلق اثنتين وإن قال من واحدة إلى واحدة قيل هو على الخلاف وقيل تقع واحدة عندهم جميعا لأن الشيء لا يكون غاية نفسه فكان قوله إلى واحدة لغوا وإن قال أنت طالق واحدة أو لا شيء فهي طالق تطليقة رجعية في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى ثم رجع أبو يوسف رحمه الله تعالى وقال لا يقع شيء وكذلك لو قال أنت طالق ثلاثا أو لا شيء فهو على هذا الخلاف وجه قوله الأول أن حرف أو لإثبات

 

ج / 6 ص -112-       أحد المذكورين فيما يتخللهما وأنما يتخلل هنا قوله واحدة أو لا شيء وقوله ثلاثا أو لا شيء فيسقط اعتبار هذا اللفظ ويبقى قوله أنت طالق فيقع به تطليقة رجعية وجه قوله الآخر أن حرف أو للتخيير لأن موجبه إثبات أحد المذكورين فقد خير نفسه بين أن يقع عليها واحدة أو لا يقع عليها شيء وأحدهما موجود فلا يثبت بهذا الكلام شيء كما لو جمع بين امرأته وأجنبية وقال هذه طالق أو هذه لم يقع شيء وهذا لأن الكلام إذا اقترن به ذكر العدد كان العامل هو العدد لا قوله أنت طالق وقد خرج ذكر العدد من أن يكون عزيمة بحرف أو فلا يقع عليها شيء وإن قال أنت طالق أو غير طالق أو قال أنت طالق أو لا أو قال أنت طالق أو لا شيء لم يقع عليها شيء لأنه إنما أدخل حرف الواو بين طلاق وغير طلاق فتخرج به كلمة الإيقاع من أن تكون عزيمة فلا يقع شيء كما لو قال لعبده أنت حر أو عبد وإن قال أنت طالق واحدة في اثنتين فهو ثلاث لأن حرف في قد يكون بمعنى الواو لأن حروف الصلات يقوم بعضها مقام بعض وإن نوى واحدة مع اثنتين يقع ثلاث أيضا سواء دخل بها أو لم يدخل بها لأن حرف في يذكر بمعنى مع قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي مع عبادي ويقال دخل الأمير البلدة في جنده أي مع جنده وإن نوى حساب الضرب فهي واحدة عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى اثنتان لأن هذا شيء معروف عند أهل الحساب إن واحدا إذا ضرب في اثنين يكون اثنين فيحمل كلامه عليهما إذا نوى ولكنا نقول الضرب إنما يكون في الممسوحات لا في الطلاق وتأثير الضرب في تكثير الأجزاء لا في زيادة المال والتطليقة الواحدة وإن كثرت أجزاؤها لا تصير أكثر من واحدة كما لو قال أنت طالق نصف تطليقة وسدسها وثلثها لم يقع إلا واحدة فهذا مثله وعلى هذا لو قال اثنتين في اثنتين ونوى الضرب عندنا تطلق اثنتين وعند زفر رحمه الله تعالى ثلاثا لأن اثنين في اثنين يكون أربعة ولكن الطلاق لا يكون أكثر من ثلاث وعلى هذا مسائل الإقرار إذا قال لفلان علي عشرة دراهم في عشرة دراهم ونوى حساب الضرب فعليه عشرة عندنا ومائة عند زفر رحمه الله تعالى وإن نوى عشرة وعشرة فعليه عشرون وكذلك لو قال درهم في دينار أو كر حنطة في كر شعير لم يكن عليه إلا المذكور أولا عندنا إلا أن يقول نويت الواو أو حرف مع فيلزمه جميع ذلك حينئذ ويحلفه القاضي بالله ما أردت الإقرار بذلك كله يعني إذا كان الخصم مدعيا بجميع ذلك.
قال: وإن كان له ثلاث نسوة فقال فلانة طالق ثلاثا وفلانة أو فلانة فالأولى طالق والخيار إليه في الاخريين يوقع على أيتهما شاء لأن حرف التخيير إنما ذكر بين الاخريين فكان كلامه عزيمة في الأولى فيقع الطلاق عليها ويخير في الاخريين بمنزلة قوله هذه طالق وإحدى هاتين وكذلك الجواب في العتق وقد بينا الفرق بين هذين الفصلين وبين قوله والله لا أكلم فلانا وفلانا أو فلانا فيما أمليناه من شرح الجامع واستوضح في الكتاب هذه المسألة بما إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا وقد استقرضت ألف درهم من فلان أو فلان كان الطلاق واقعا عليها وهو مخير في الألف يقر بها لأحدهما ويحلف للآخر ما استقرض منه شيئا وهذا غير مشكل

 

ج / 6 ص -113-       لأن حرف التخيير إنما ذكر في الإقرار لا في الإيقاع فيبقى موقعا للطلاق على امرأته عزما ولو قال فلانة طالق ثلاثا أو فلانة وفلانة طلقت الثالثة والخيار إليه في الأوليين لأنه إنما أدخل حرف التخيير بين الأوليين وبن سماعة رحمه الله تعالى يروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه يخير بين الإيقاع على الأولى والأخريين بمنزلة قوله هذا طالق أو هاتان وجعل على تلك الرواية هذه المسألة كمسألة اليمين والفرق بينهما على ظاهر الرواية قد استقصينا شرحه في الجامع وإن قال فلانة طالق ثلاثا وفلانة معها يقع على كل واحدة منهما ثلاث تطليقات لأنه عطف الثانية على الأولى ولم يذكر لها خبرا فيكون الخبر الأول خبرا للثاني كما هو موجب العطف ولأنه ضم الثانية إلى الأولى بقوله معها وإنما يتحقق هذا الضم إذا وقع عليها مثل ما وقع على الأولى فإن قال عنيت أن فلانة معها شاهدة لم يصدق في القضاء وهو مصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه اضمر للثانية خبرا آخر وهو محتمل ولكنه خلاف الظاهر فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء وإن قال فلانة طالق ثلاثا ثم قال اشركت فلانة معها في الطلاق وقع على الأخرى ثلاث لأن لفظ الاشراك يقتضي التسوية قال الله تعالى في ميراث أولاد الأم: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فيستوي فيه الذكور والإناث ولأنه قد اشركها في كل واحدة مما وقعت على الأولى وهذا بخلاف ما لو قال لامرأتين له بينكما ثلاث تطليقات حيث تطلق كل واحدة اثنتين لأن هناك لم يسبق وقوع شيء على واحدة منهما فتنقسم الثلاث بينهما نصفين قسمة واحدة وهنا قد وقع الثلاث على الأولى فلا يمكنه أن يرفع شيئا مما أوقع عليها باشراك الثانية وإنما يمكنه أن يسوي الثانية بها بإيقاع الثلاث عليها حتى لو قال لامرأتين أشركتكما في ثلاث تطليقات لم يقع على كل واحدة إلا اثنتان ولأنه لما أوقع الثلاث على الأولى فكلامه في حق الثانية اشراك في حق كل واحدة من الثلاث فكأنه قال بينكما ثلاث تطليقات وهو ينوي أن كل تطليقة بينهما فلهذا تطلق كل واحدة منهما ثلاثا وإن قال لامرأتين له أنتما طالقان ثلاثا ينوي أن الثلاث بينهما فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى لكون المنوي من محتملات لفظه ولكنه خلاف الظاهر فلا يدين في القضاء وتطلق كل واحدة ثلاثا وكذلك لو قال لأربع نسوة له أنتن طوالق ثلاثا ينوي أن الثلاث بينهن كان مدينا فيما بينه وبين الله تعالى فتطلق كل واحدة واحدة ألا ترى أنه قد يقال أكلن أربعة أرغفة على معنى أن كل واحدة أكلت رغيفا ولكنه خلاف الظاهر في الوصف فلا يدين في القضاء وتطلق كل واحدة منهن ثلاثا وإن قال لامرأته أنت طالق نصف تطليقة فهي تطليقة كاملة عندنا وعند نفاة القياس لا يقع عليها شيء لأن نصف التطليقة غير مشروع وإيقاع ما ليس بمشروع من الزوج باطل ولكنا نقول ما لا يحتمل الوصف بالتجزي فذكر بعضه كذكر كله فكان هو موقعا تطليقة كاملة بهذا اللفظ وإيقاع التطليقة مشروع وكذلك كل جزء سماه من نصف أو ثلث أو ربع فهو كذلك وإن قال أنت طالق نصفي تطليقة فهي طالق واحدة لأنه إنما أوقع أجزاء تطليقة واحدة.

 

ج / 6 ص -114-       قال: وإن قال أنت طالق نصف تطليقة من التطليقات الثلاث وثلث تطليقة وربع تطليقة وقد دخل بها فهي طالق ثلاثا لأنه أوقع من كل تطليقة من التطليقات الثلاث جزء فإنه نكر التطليقة في كل كلمة والمنكر إذا أعيد منكرا فالثاني غير الأول ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] لن يغلب عسر يسرين وإن قال أنت طالق نصف تطليقة وثلثها وسدسها لم تطلق إلا واحدة لأنه أضاف الأجزاء المذكورة إلى تطليقة واحدة بحرف الكناية ولم يذكر ما لو قال أنت طالق نصف تطليقة وثلثها وربعها فمن أصحابنا من يقول هنا تطلق اثنتين لأنك إذا جمعت هذه الأجزاء المذكورة تكون أكثر من واحدة والأصح أنها لا تطلق إلا واحدة لأنه أضاف الأجزاء المذكورة إلى تطليقة واحدة بحرف الكناية فلا يقع إلا واحدة.
قال: ولو قال أنت طالق إن لم تصنعي كذا وكذا لعمل يعلم أنها لا تصنعه أبدا نحو أن يقول إن لم تمسي السماء بيدك أو إن لم تحولي هذا الحجر ذهبا فهي طالق ساعة تكلم به بخلاف ما لو قال إن لم تدخلي الدار فإن هناك لا تطلق حتى تموت لأن الشرط فوات الدخول ولا يتحقق ذلك إلا عند موتها فإن الدخول منها يتأتى ما دامت حية فأما هنا الشرط عدم مس السماء منها أو تحويل الحجر ذهبا وذلك متحقق في الحال من حيث الظاهر ولأنه لا فائدة في الانتظار هنا لأنه لا يحصل به عجز لم يكن ثابتا قبله بخلاف مسألة الدخول على ما بينا ولو وقت وقتا فقال أنت طالق إن لم تمسي السماء اليوم لم تطلق إلا بعد مضي اليوم عندنا وقال بعض العلماء تطلق في الحال لأن فوت الشرط متحقق في الحال ولأن الوقت في اليمين المؤقت كالعمر في المطلق فكما لا ينتظر هناك موتها فكذلك هنا لا ينتظر مضي المدة ولكنا نقول عند ذكر الوقت الشرط عدم الفعل في آخر جزء من أجزاء النهار وذلك لا يتحقق قبل مجيء ذلك الوقت ولأنه بذكر الوقت قصد الترفيه على نفسه فكان هذا بمنزلة قوله أنت طالق إذا ذهب هذا اليوم فما لم يذهب لا يقع الطلاق.
قال: رجل قال لامرأته يا مطلقة فهي طالق واحدة لأنه وصفها بالطلاق حين ناداها به فكان هذا وقوله أنت طالق سواء ألا ترى أنه لو قال لها يا زانية كان قاذفا لها بمنزلة قوله أنت زانية فإن قال عنيت أنها مطلقة من زوج لها قبلي فإن لم يكن لها زوج لا يلتفت إلى كلامه لأنه نوى المحال وإن كان لها زوج قبله فهو مدين في القضاء ولا يقع عليها شيء لأنه نوى حقيقة كلامه فإن النداء في الحقيقة بوصف موجود وذلك من طلاق زوج كان قبله ولأن حقيقة كلامه الوصف وهو غير الإيقاع.
قال: وإن قال لها طلقتك أمس وهو كاذب كانت طالقا في القضاء فأما فيما بينه وبين الله تعالى فهي امرأته لأن الإقرار إخبار محتمل للصدق والكذب إلا أن دينه وعقله يحمله على الصدق ويمنعه عن الكذب فحملنا كلامه في الظاهر على الصدق فأما فيما بينه وبين الله

 

ج / 6 ص -115-       تعالى فالمخبر عنه إذا كان كذبا لا يصير بالإخبار عنه صدقا فلهذا لا يقع شيء.
قال: ولو قال لها يا بائن أو يا حرام أو ما أشبه ذلك من الكلام الذي يشبه الفرقة وهو يريد بذلك أن يسميها تسمية ولا ينوي الطلاق لم تطلق لأنا قد بينا في قوله أنت بائن أنه لا يقع الطلاق إلا إذا نوى لأن اللفظ مبهم محتمل فكذلك في قوله يا بائن فإذا قال لم أنو الطلاق كان مدينا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى وإن قال يا مطلقة يريد أن يسميها بذلك ولا يريد الطلاق وسعه فيما بينه وبين الله تعالى ولم يصدق في القضاء لأن اللفظ صريح فوقوع الطلاق به يكون بعينه لا بنيته بخلاف ما سبق إلا أن ما نواه محتمل فيدين فيما بينه وبين الله تعالى بمنزلة قوله عنيت الطلاق عن الوثاق وكذلك لو قال لعبده يا حر يريد أن يسميه بذلك فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى ولكن يعتق به في القضاء.
قال: ولو قال لامرأته هذه أختي فهو صادق في ذلك ولا يقع عليها شيء لأن هذا الكلام محتمل للأخوة في الدين قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وفي القبيلة قال الله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] وبالمحتمل لا تثبت الحرمة وعلى هذا لو قال لمملوكه هذا أخي كان صادقا ولم يعتق وإن قال هذه أمي أو ابنتي من نسب أو رضاع أو قال هي عمتي أو خالتي من نسب أو رضاع فإنه يسأل عن ذلك فإن ثبت عليه فرق بينهما وإن قال كذبت أو توهمت فهي امرأته وقد بينا هذا في كتاب النكاح وذكرنا الفرق بينما إذا قال لمملوكه ولزوجته وكذلك إذا قال يا أماه أو يا بنتاه أو يا عمتاه أو يا خالتاه أو يا أختاه أو يا جدتاه كان هذا باطلا ولا تقع به الفرقة لأن في موضع النداء المراد احضارها لا تحقيق ذلك الوصف فيها ألا ترى أنه قد يناديها بما لا يتحقق فيها في موضع الإهانة كالكلب والحمار وفي موضع الإكرام كحور العين ونحوه فعرفنا أنه ليس مراده التحقيق وبدون قصد التحقيق لا عمل لهذا الكلام في قطع الزوجية فلهذا لا يقع شيء.
قال: قال رجل لامرأته قد وهبت لك طلاقك ولا نية له فهي طالق في القضاء لأن معنى كلامه هذا طلقتك بغير عوض فإن هبة الشيء من غيره جعله له مجانا ولو قال بعتك طلاقك بكذا فقالت قبلت طلقت فكذلك إذا قال وهبت لك طلاقك تطلق وإن لم تقبل لأن اشتراط قبولها لأجل البدل وإن كان ينوي بذلك أن يكون الطلاق في يدها لم يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر فإن الهبة تزيل ملك الواهب عن الموهوب وبجعل الطلاق في يدها لا يزول ملكه عن الطلاق ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يدين في القضاء لأن هبة الشيء من غيره تمليك لذلك الشيء منه في الظاهر فيكون هذا تمليكا للأمر منها فإن طلقت نفسها في ذلك المجلس طلقت وإلا فهي امرأته.
قال: وإذا قال لآخر أخبر امرأتي بطلاقها فهي طالق سواء أخبرها به أو لم يخبرها لأن حرف الباء للإلصاق فيكون معناه أخبرها بما أوقعت عليها من الطلاق موصولا بالإيقاع وذلك

 

ج / 6 ص -116-       يقتضي إيقاعا سابقا لا محالة وكذلك لو قال احمل إليها طلاقها أو بشرها بطلاقها فهي طالق بلغها أو لم يبلغها لأن معناه بشرها بما أوقعت عليها أو أحمل إليها ما أوقعت عليها وكذلك لو قال أخبرها أنها طالق أو قل لها أنها طالق لأن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب فالأصل فيه الصدق وذلك لا يكون إلا بعد إيقاعه الطلاق عليها وكذلك لو قال لعبده وهبت لك عتقك أو تصدقت عليك بعتقك أو قال لغيره أخبره أنه حر أو بشره بأنه حر أو قل له أنه حر كان حرا لما بينا.
قال: وإذا أراد أن يطلق امرأته فقالت لا تطلقني هب لي طلاقي فقال قد وهبت لك طلاقك يريد بذلك لا أطلقك فهي امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لأن كلامه جواب لسؤالها وهي إنما سألته الإعراض عن الإيقاع وقد أظهر بكلامه أنه أجابها إلى ما سألته فلا يكون ذلك إيقاعا منه ولو قال لامرأته قد أعرضت عن طلاقك أو صفحت عن طلاقك يريد بذلك الطلاق لم تطلق لأنه نوى ضد كلامه فإن الإعراض عن الشيء بترك الخوض فيه وهو ضد الإيقاع ولو قال قد تركت طلاقك أو قد خليت طلاقك أو قد خليت سبيل طلاقك وهو يريد بذلك الطلاق فهي طالق لأن هذا الكلام محتمل يجوز أن يكون مراده تركها بطريق الإعراض عن التصرف فيها ويجوز أن يكون المراد تركتها بأن أخرجتها من يدي بالإيقاع فينوي فيه فإن لم ينو الطلاق فليس بشيء وإن نوى الطلاق فهو طلاق بمنزلة الكنايات.
قال: ولو قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق كل يوم فإن لم يكن له نية لم تطلق إلا واحدة عندنا وعند زفر تطلق ثلاثا في ثلاثة أيام لأن قوله أنت طالق إيقاع وكلمة كل تجمع الأسماء فقد جعل نفسه موقعا للطلاق عليها في كل يوم وذلك بتجدد الوقوع حتى تطلق ثلاثا ألا ترى أنه لو قال أنت طالق في كل يوم طلقت ثلاثا في كل يوم واحدة ولكنا نقول كلامه صفة وقد وصفها بالطلاق في كل يوم وهي بالتطليقة الواحدة تتصف به في الأيام كلها وإنما جعلنا كلامه إيقاعا لضرورة تحقيق الوصف وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة ألا ترى أنه لو قال أنت طالق أبدا لم تطلق إلا واحدة بخلاف قوله في كل يوم لأن حرف في للظرف والزمان ظرف للطلاق من حيث الوقوع فيه فما يكون اليوم ظرفا له لا يصلح الغد ظرفا له فيتجدد الإيقاع لتحقيق ما اقتضاه حرف في وفي قوله كل يوم إن قال أردت أنها طالق كل يوم تطليقة أخرى فهو كما نوى وتطلق ثلاثا في ثلاثة أيام إما لأنه أضمر حرف في أو لأنه أضمر التطليقة فكأنه قال أنت طالق كل يوم تطليقة.
قال: وكذلك لو قال أنت طالق اليوم وغدا وبعد غد فإن لم يكن له نية فهي واحدة لأن بوقوع الواحدة عليها تتصف بالطلاق في هذه الأيام وإن نوى ثلاثا فهو كما نوى وهي طالق كل يوم واحدة حتى تستكمل ثلاثا في اليوم الثالث إما لإضمار حرف في أو لإضمار التطليقة.
قال: وإن قال أنت طالق ما لا يجوز عليك من الطلاق أو ما لا يقع عليك من الطلاق

 

ج / 6 ص -117-       فهي طالق واحدة رجعية لأن آخر كلامه لغو فإنه ليس فيما يملكه الزوج عليها طلاق موصوف بما ذكر وكذلك إن قال أنت طالق ثلاثا لا يقعن عليك أو ثلاثا لا يجزن عليك فهي طالق ثلاثا لما بينا وفي النوادر قال أنت طالق أقبح الطلاق قال عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تطلق تطليقة رجعية وعند محمد رحمه الله تعالى تطلق تطليقة بائنة لأنه جعل القبح صفة للطلاق وذلك هو الطلاق المزيل للملك وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول قد يكون القبح بالإيقاع في غير وقت السنة فلا تثبت صفة البينونة بالشك.
قال: ولو قال أنت طالق ثلاثا وأنا بالخيار ثلاثة أيام فالخيار باطل والطلاق واقع لأن اشتراط الخيار للفسخ بعد الوقوع لا للمنع عن الوقوع والطلاق لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه فيلغو شرط الخيار فيه والعتق كذلك.
قال: ولو قال لامرأته اذهبي فتزوجي فإن كان نوى طلاقا فهو طلاق وإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن لم يكن له نية فليس بشيء لأن كلامه محتمل فلا يتعين معنى الطلاق فيه إلا بالنية وهو محتمل للطلاق لأنه ألزمها الذهاب من بيته وروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه لو قال لها افلحي أو استفلحي ينوي به الطلاق فهو بمنزلة قوله اذهبي لأن العرب تقول افلح بخير أي اذهب بخير وكذلك لو قال استفلحي لأن معناه اطلبي فحلا فكان هذا وقوله تزوجي سواء والله أعلم.

باب طلاق الأخرس
قال: وإذا طلق الأخرس امرأته في كتاب وهو يكتب جاز عليه من ذلك ما يجوز على الصحيح في كتابه لأن الأخرس عاجز عن الكلام وهو قادر على الكتاب فهو الصحيح في الكتاب سواء والأصل أن البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان لأن المكتوب حروف منظومة تدل على معنى مفهوم كالكلام ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة وقد بلغ تارة بالكتاب وتارة باللسان ثم الكتاب على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكتب طلاقا أو عتاقا على ما لا يتبين فيه الخط كالهواء والماء والصخرة الصماء فلا يقع به شيء نوى أو لم ينو لأن مثل هذه الكتابة كصوت لا يتبين منه حروف ولو وقع الطلاق لوقع بمجرد نيته وذلك لا يجوز.
والثاني: أن يكتب طلاق امرأته على ما يتبين فيه الخط ولكن لا على رسم كتب الرسالة فهذا ينوي فيه لأن مثل هذه الكتابة قد تكون للإيقاع وقد تكون لتجربة الخط والقلم والبياض وفيه ينوي كما في الألفاظ التي تشبه الطلاق فإن كان صحيحا تبين نيته بلسانه وإن كان أخرس تبين نيته بكتابه.
والثالث: أن يكتب على رسم كتب الرسالة طلاق امرأته أو عتاق عبده فيقع الطلاق والعتاق بهذا في القضاء وإن قال عنيت به تجربة الخط لا يدين في القضاء لأنه خلاف

 

ج / 6 ص -118-       الظاهر وهو نظير ما لو قال أنت طالق ثم قال عنيت الطلاق من وثاق ثم ينظر إلى المكتوب فإن كان كتب امرأته طالق فهي طالق سواء بعث الكتاب إليها أو لم يبعث وإن كان المكتوب إذا وصل إليك كتابي هذا فأنت طالق فما لم يصل إليها لا يقع الطلاق كما لو تكلم بما كتب فإن ندم على ذلك فمحى ذكر الطلاق من كتابه وترك ما سوى ذلك وبعث بالكتاب إليها فهي طالق إذا وصل إليها الكتاب لوجود الشرط ومحوه كرجوعه عن التعليق فإن محى الخطوط كلها وبعث بالبياض إليها لم تطلق لأن الشرط لم يوجد فإن ما وصل إليها ليس بكتاب ولو جحد الزوج الكتاب وأقامت عليه البينة أنه كتبه بيده فرق بينهما في القضاء لأن الثابت بالبينة عليه كالثابت بإقراره وإن كان الأخرس لا يكتب وكانت له إشارة تعرف في طلاقه ونكاحه وشرائه وبيعه فهو جائز استحسانا وفي القياس لا يقع شيء من ذلك بإشارته لأنه لا يتبين بإشارته حروف منظومة فبقي مجرد قصده الإيقاع وبهذا لا يقع شيء ألا ترى أن الصحيح لو أشار لا يقع شيء من التصرفات بإشارته ولكنه استحسن فقال الإشارة من الأخرس كالعبارة من الناطق ألا ترى أن في العبادات جعل هكذا حتى إذا حرك شفتيه بالتكبير والقرآن جعل ذلك بمنزلة القراءة من الناطق فكذلك في المعاملات وهذا لأجل الضرورة لأنه محتاج إلى ما يحتاج إليه الناطق فلو لم تجعل إشارته كعبارة الناطق أدى إلى أن يموت جوعا وهذه الضرورة لا تتأتى في حق الناطق ولهذا قلنا المريض وإن اعتقل لسانه لا ينفذ تصرفه بإشارته لأنه لم يقع اليأس عن نطقه وإقامة الإشارة مقام العبارة عند وقوع اليأس عن النطق لأجل الضرورة وإن لم تكن له إشارة معروفة يعرف ذلك منه أو يشك فيه فهو باطل لأنه لا يوقف على مراده بمثل هذه الإشارة فلا يجوز الحكم بها ولم يذكر في الكتاب حكم الطلاق بالفارسية وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الفارسي إذا قال لامرأته هسته أو قال اززني هسته ينوي في ذلك فإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة رجعية ويستوي إن كان في حال مذاكرة الطلاق أو لم يكن وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن قال هسته ينوي فيه ولو قال اززني هسته فهي تطليقة رجعية إلا أن ينوي ثلاثا وعند محمد رحمه الله تعالى في قوله بهستمت أو اززني بهستمت أنه طلاق وكأنهم جعلوا هذا اللفظ تفسيرا للتخلية ولهذا قال زفر رحمه الله تعالى يكون الواقع به بائنا ولكن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا يحتمل أن يكون هذا في معنى التخلية فيكون الواقع به بائنا ويحتمل أن يكون هذا معنى لفظ آخر فلا تثبت البينونة بالشك ولكنا نقول نحن أعرف بلغتنا منهم والواقع بهذا اللفظ عندنا تطليقة رجعية سواء نوى الطلاق أو لم ينو أو نوى الثلاث أو لم ينو لأن هذا اللفظ في لساننا صريح بمنزلة الطلاق في لسان العرب وإنما معنى تفسير التخلية بله كردم فينوي في ذلك والحاصل أن كل لفظ لا يستعمل إلا مضافا إلى النساء فهو صريح وكل ما يستعمل في النساء وغير النساء فهو بمنزلة الكناية ينوي فيه فقوله بله كردم يستعمل في غير النساء كما يستعمل في

 

ج / 6 ص -119-       النساء فأما قوله هسته أو بهستمت لا يستعمل إلا في النساء فيكون صريحا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الشهادة في الطلاق
قال: رضي الله عنه وإذا شهد شاهدان أنه طلق إحدى امرأتيه بعينها وقالا قد سماها لنا لكنا نسيناها فشهادتهما باطلة عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى تقبل شهادتهما ويحال بينه وبينهما إذا شهدا بالثلاث حتى يبين المطلقة منهما لأن الثابت بشهادتهما كالثابت بإقرار الزوج ولو أقر أنه طلق إحداهما بعينها وقال قد نسيتها أمر أن لا يقرب واحدة منهما حتى يتذكر وهذا لأن الشهادة على الطلاق مقبولة من غير دعوى وإنما تنعدم الدعوى إذا لم يعرفا المطلقة منهما فوجب قبول شهادتهما بقدر ما حفظا من كلام الزوج ولكنا نقول قد أقرا على أنفسهما بالغفلة وبأنهما ضيعا شهادتهما ولأن القاضي إما أن يقضي بطلاق إحداهما بغير عينها فيكون هذا قضاء بغير ما شهدا أو يقضي بطلاق إحداهما بعينها ولا يتمكن من ذلك بهذه الشهادة لأنهما لم يعينا وليست إحداهما بأولى من الأخرى فإذا تعذر القضاء بها بطلت الشهادة لأنها لا تكون موجبة بدون القضاء بخلاف إقرار الزوج فإنه موجب بنفسه قبل أن يتصل به القضاء فكان ملزما إياه البيان وإن شهدا أنه طلق إحداهما بغير عينها ففي القياس لا تقبل هذه الشهادة أيضا لأن المشهود له مجهول وجهالة المشهود له تمنع صحة الشهادة ولكنه استحسن فقال تقبل الشهادة ويجبر على أن يوقع الطلاق على إحداهما لأن الجهالة في المشهود له لا تمنع صحة الشهادة لعينها بل لانعدام الدعوى فإن الدعوى من المجهول لا تتحقق وهذا لا يوجد في الطلاق فإن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعوى وهما أثبتا بشهادتهما قول الزوج إحداهما طالق فكأن القاضي سمع ذلك من الزوج فيجبره على أن يوقع على إحداهما.
قال: وإذا قال الرجل فلانة بنت فلان طالق وسمى امرأته ونسيها ثم قال عنيت بذلك امرأة أجنبية على ذلك الاسم والنسب لم يصدق والطلاق واقع على امرأته في القضاء لأن كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن وله ولاية الإيقاع على امرأته دون الأجنبية فلا يصدق فيما يدعي من إلغاء كلامه في القضاء ولكن يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن ما قاله محتمل ويجوز أن يكون مراده أن فلانة طالق من زوجها على سبيل الحكاية أو على سبيل الإيقاع فيكون موقوفا على إجازة الزوج ولا يسع امرأته أن تقيم معه لأنها مأمورة باتباع الظاهر كالقاضي فإن قال هذه المرأة التي عنيتها امرأتي وصدقته في ذلك وقع الطلاق عليها لإقرار الزوج بأنها هي المطلقة ولم يصدق على إبطال الطلاق عن المرأة المعروفة بذلك لأنها تعينت للطلاق في الحكم وهو متهم في صرف الطلاق عنها فلا يصدق إلا أن يشهد الشهود على نكاحها قبل أن يتكلم بطلاقها أو على إقرارهما قبل ذلك فحينئذ يقع الطلاق عليها دون المعروفة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو كان تحته معروفتان على اسم ونسب واحد

 

ج / 6 ص -120-       فطلق بذلك الاسم والنسب كان البيان إليه يوقع الطلاق على أيتهما شاء فكذلك هنا وكذلك إن صدقته المرأة المعروفة بذلك وفي هذا نوع إشكال فإن المعروفة متهمة في هذا التصديق كما أن الزوج متهم في الإقرار ولكنه لم يعتبر هذا الجانب لأن الحق لهما وقد تصادقا على قيام النكاح بينهما باعتبار أمر محتمل ولو تصادقا على النكاح ابتداء ثبت في الحكم بتصادقهما فكذلك إذا تصادقا على بقاء النكاح بينهما.
قال: وإن قال فلانة طالق وذلك اسم امرأته طلقت امرأته ولم يصدق على صرف الطلاق عنها لأن كلامه إيقاع وله ولاية الإيقاع على زوجته وقد بينا أن كلام العاقل محمول على الصحة فتعينت زوجته لهذا والعتاق في هذا قياس الطلاق وهذا بخلاف الإقرار إذا قال لفلان علي ألف درهم فجاء رجل على ذلك الاسم وادعى المال لم يلزمه المال إلا أن يشهد الشهود على إقراره أنه عناه لأن الإقرار من المقر تصرف في ذمته من حيث الإلتزام فلا يتعين المقر له إلا بدليل موجب للتعين وذلك إشارته إليه وإقراره أنه عناه فأما الطلاق والعتاق تصرف على المحل بالإيقاع وزوجته ومملوكته متعينة لذلك توضيحه أن جهالة المقر له تمنع صحة الإقرار وبمجرد ذكر الاسم لا ترتفع الجهالة وجهالة المطلقة والمعتقة لا تمنع صحة الإيقاع ولأن المال بالشك لا يستوجب والطلاق والعتاق يؤخذ فيهما بالاحتياط وكذلك في الإقرار ولو قال لفلان بن فلان علي ألف درهم فالمقر له بهذا القدر لا يصير معلوما كما في الدعوى والشهادة بذكر اسمه واسم أبيه لا يصير معلوما إلا بذكر اسم جده أو بنسبه إلى فخذ أو يشير إليه فحينئذ يصير معلوما ويلزمه المال له بالإقرار.
قال: وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا وجحد الزوج والمرأة ذلك فرق بينهما لأن المشهود به حرمتها عليه والحل والحرمة حق الله تعالى فتقبل الشهادة عليه من غير دعوى كما لو شهدوا بحرمتها عليه والحل والحرمة حق الله تعالى فتقبل الشهادة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة وهذا لأنهم يشهدون أن وطأه إياها بعد هذا زنا والشهادة على الزنى تقبل من غير دعوى فكذلك على ما يتضمن معنى الزنى وعلى هذا الشهادة على عتق الأمة تقبل من غير دعوى وفي الشهادة على عتق العبد اختلاف عند أبي حنيفة لا تقبل من غير دعوى وعندهما تقبل على ما نبينه في كتاب العتاق إن شاء الله تعالى.
قال: وإذا كان له امرأتان إحداهما نكاحها صحيح والأخرى نكاحها فاسد واسمهما واحد وقال فلانة طالق ثم قال عنيت التي نكاحها فاسد لم يصدق في القضاء لأنها بالنكاح الفاسد لم تصر محلا لوقوع طلاقه عليها فهي كالأجنبية والتي نكاحها صحيح محل لوقوع طلاقه عليها فمطلق الاسم يتناولها ولا يصدق في صرفه عنها في القضاء وإن كان يصدق فيما بينه وبين الله تعالى كما لو قال نويت أجنبية وكذلك لو قال إحدى امرأتي طالق لأنه أوقع الطلاق بهذا اللفظ على امرأته وهي التي صح نكاحها دون الأخرى لأن بالنكاح الفاسد لا تصير هي امرأته فكأنه ليس في نكاحه إلا امرأة واحدة فقال إحدى امرأتي طالق ولو قال إحداكما طالق لم تطلق امرأته إلا أن

 

ج / 6 ص -121-       يعينها لأنه أوقع الطلاق على إحدى اللتين خاطبهما وأشار إليهما وإحداهما ليست بمحل لطلاقه فلا تتعين امرأته إلا بالنية كما لو جمع بين امرأته وأجنبية وقال إحداكما طالق ولو كان في يده عبدان فاشترى أحدهما شراء صحيحا واشترى الآخر شراء فاسدا فقال أحدكما حر أو أحد عبدي حر فهو سواء والقول قوله في البيان لأن المشتري شراء فاسدا صار مملوكا له بالقبض وصار محلا لعتقه كالمشتري شراء صحيحا فكان كلامه إيقاعا سواء قال أحد عبدي أو قال أحدكما فكان البيان إليه بخلاف الأولى فإن التي نكاحها فاسد ليست بمحل لطلاقه.
قال: وإن قال فلانة بنت فلان طالق فسمى امرأته ونسبها إلى غير أبيها لم تطلق امرأته لأنه ما أوقع الطلاق عليها فإنه ما أضافها إلى نفسه بالنكاح وما أشار إليها ولا عرفها بذكر نسبها إنما ذكر امرأة أخرى وأوقع الطلاق عليها بما ذكر من الاسم والنسب فلا يتناول ذلك امرأته كما لو أشار إلى أجنبية وقال أنت طالق لم تطلق امرأته وكذلك لو قال فلانة الهمدانية طالق وامرأته تميمية لم تطلق وكذلك لو قال فلانة العمياء طالق وامرأته صحيحة العينين فإن نوى امرأته بهذا كله طلقت لأنه قصد الايقاع عليها بذكر اسمها وما زاد على ذلك فضل من الكلام وفي هذا تشديد عليه فتعمل نيته وإن كان اسم امرأته زينب فقال فلانة طالق يعني امرأته وإنما قال فلانة ولم يسمها فالطلاق واقع عليها وإن لم يعنها لم تطلق لأنه أوقع الطلاق بذكر مطلق الاسم ومطلق الاسم كما يتناولها يتناول غيرها فكان هذا بمنزلة الإيقاع بلفظ الكناية فينوي في ذلك لكون اللفظ مبهما محتملا وإذا شهد شاهد على تطليقتين وشاهد على ثلاث والزوج يجحد ذلك أو شهد شاهد بتطليقة والآخر بتطليقتين أو شاهد بتطليقة والآخر بثلاث لم تقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما وبن أبي ليلى تقبل على الأقل لأن المعتبر اتفاق الشاهدين في المعنى دون اللفظ حتى لو شهد أحدهما بالهبة والآخر بالتخلي تقبل وقد اتفق الشاهدان على الأقل لأن الأقل موجود في الأكثر فصار كما لو شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة والمدعي يدعي الأكثر تقبل شهادتهما على الأقل وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال لها أنت طالق والآخر أنه قال لها أنت طالق وطالق أو شهد أحدهما أنه طلقها والآخر أنه طلقها وضرتها تقبل شهادتهما على طلاقها لاتفاق الشاهدين عليه ولأن الموافقة كما تراعى بين الشاهدين تراعى بين الدعوى والشهادة ثم لو ادعى ألفين وشهد شاهدان بألف تقبل الشهادة بالإتفاق فكذلك إذا شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألفين ينبغي أن تقبل على الأقل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول اختلف الشاهدان في المشهود به لفظا ومعنى فلا تقبل الشهادة كما لو قال أحدهما أنه قال لها أنت خلية والآخر أنه قال لها أنت برية وإنما قلنا ذلك لأن أحدهما شهد بالواحدة والآخر بثنتين أو بثلاث والواحدة أصل العدد لا تركب فيها والاثنان والثلاث اسم لعدد مركب فكانت المغايرة بينهما على سبيل المضادة ومن حيث أن اللفظ الواحد غير التثنية والجمع والدليل عليه أن

 

ج / 6 ص -122-       مدعي الاثنين أو الثلاثة لا يكون مقرى بالواحد إذ لو كان مقرى بالواحد لكان مرتدا بالشرك بعد ذلك فينبغي أن تقبل ولأن التطليقتين اسم واحد والتطليقة كذلك وبزيادة حرف يتغير الاسم كما يقال زيد وزياد ونصر وناصر وكذلك في الألف والألفين وإذا ثبتت المغايرة كان على كل واحد من الأمرين شاهد واحد فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء بخلاف الألف مع الألف وخمسمائة فإنهما اسمان أحدهما معطوف على الآخر فيحصل الاتفاق بينهما على الألف لفظا ومعنى وكذلك في قوله طالق وطالق وفي قوله فلانة وفلانة وهذا بخلاف الدعوى مع الشهادة فإن الاتفاق هناك في اللفظ ليس بشرط فإما بين الشهادتين الموافقة في اللفظ شرط ألا ترى أنه لو ادعى الغصب أو القتل وشهد شاهدان بالإقرار به تقبل ولو شهد أحد الشاهدين بالغصب والآخر بالإقرار به لا تقبل وهذا لأن الشهادة تعتمد اللفظ ألا ترى أنها لا تقبل ما لم يقل اشهد والذي يبطل مذهبهما ما ذكر في كتاب الرجوع لو شهد شاهدان بتطليقة وشاهدان بثلاث تطليقات وفرق القاضي بينهما قبل الدخول ثم رجعوا كان ضمان نصف الصداق على شاهدي الثلاث دون شاهدي الواحدة ولو اعتبر ما قالا أن الواحدة توجد في الثلاث لكان الضمان عليهم جميعا وإن شهد أحدهما أنه طلقها إن دخلت الدار وأنها قد دخلت وشهد الآخر أنه طلقها إن كلمت فلانا وأنها قد كلمت فلانا فشهادتهما باطلة لأن كل واحد منهما أوقع الطلاق بغير ما أوقع به صاحبه وإنما شهد كل واحد منهما بتعليق آخر من الزوج وليس على واحد من الآمرين شهادة شاهدين فإن شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثا وشهد الآخر أنه قال لها أنت علي حرام ينوي الثلاث فشهادتهما باطلة لاختلافهما في المشهود به لفظا وكذلك إن اختلفا في ألفاظ الكنايات كالخلية والبرية لأن هذه الألفاظ عندنا تعمل بحقائق موجباتها فيكون أحدهما شاهدا بالتخلية والآخر بالبراءة وكذلك الاختلاف في مقادير الشروط التي علق بها الطلاق وفي التعليق والإرسال وفي مقادير الجعل وصفاتها وفي اشتراطها وحذفها كل ذلك اختلاف في المشهود به لفظا ومعنى فيمتنع القضاء بهذه الشهادة لأنه ليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يتمكن القاضي من القضاء وإذا شهد أحدهما أنه قال إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وفلانة معها وشهد الآخر أنه قال إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وحدها وقد دخلت فلانة فهي طالق وحدها لأنهما اتفقا على أن الشرط دخولها واتفقا أن الجزاء طلاقها إنما تفرد أحدهما بزيادة جزاء معطوف على طلاقها فيثبت ما اتفقا عليه ولا يثبت ما تفرد به أحدهما.
قال: وتجوز شهادة رجل وامرأتين على طلاق المرأة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد بينا هذا في النكاح وفي الكتاب قال روي عن عمر رضي الله عنه أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في النكاح.
قال: والطلاق عندنا بمنزلته ولا يجوز أقل من ذلك حتى إذا شهد بالطلاق رجل وامرأة أو شهد به أربع نسوة ليس معهن رجل لا تقبل لأن الطلاق مما يطلع عليه الرجال.

 

ج / 6 ص -123-       قال: ولا يجوز شهادة الولد على أبيه ولا على غيره بطلاق أمه إذا ادعت ذلك أمه لأنه شاهد لها والولد متهم في حق أمه فإن قيل لا معتبر بدعواها في الشهادة على الطلاق  قلنا نعم ولكن إذا وجدت الدعوى منها ففي شهادته أظهار صدق دعواها وفيه منفعة لها حتى لو كانت هي تجحد ذلك مع الأب كانت شهادته مقبولة عليهما وعلى هذا لو شهد الأب على طلاق ابنته لا تقبل إذا ادعته ويجوز شهادة الأب مع رجل آخر على ابنه بطلاق امرأته وكذلك شهادة الابن على أبيه إذا لم تكن لأمه والحاصل أن الشهادة على الطلاق بمنزلة الشهادة على سائر الحقوق تقبل من الولد على الوالدين ولا تقبل لهما وتقبل من المسلمين على أهل الذمة ولا تقبل من أهل الذمة على المسلمين.
قال: وإذا زوج رجل أخته ثم شهد هو وآخر على الزوج بطلاقها تقبل لأن شهادة الأخ للأخت بسائر الحقوق مقبولة فكذلك الطلاق وهذا لأن الطلاق حادث بعد النكاح لا صنع للأخ فيه فلا يمتنع شهادته عليه بسبب مباشرته للنكاح بخلاف ما لو شهد على أصل النكاح أن المرأة قد أجازته فإن شهادته لا تقبل لأنه هو المزوج وقد قصد بشهادته تتميم فعله فلا تقبل شهادته لهذا.
قال: وإذا شهد شاهدان على رجل بالطلاق قبل الدخول فقضى لها بنصف المهر ثم رجعا ضمنا للزوج ذلك إما لأنهما قررا عليه ما كان على شرف السقوط بمجيء الفرقة من جانبها والمقرر كالموجب أو لأن وقوع الفرقة قبل الدخول مسقط لجميع الصداق إلا أن يكون مضافا إلى الزوج فهما بإضافة السبب إلى الزوج وهو الطلاق منعا العلة المسقطة من أن تعمل عملها في النصف فكان ذلك كالإيجاب منهما فيضمنان إذا رجعا وإن رجع أحدهما ضمن الربع وإن كان الشاهد رجلا وامرأتين ثم رجعت امرأة فعليها ثمن المهر وإن رجعوا جميعا فعلى الرجل ربع المهر وعلى كل امرأة ثمن المهر لأن الثابت بشهادة الرجل ضعف ما يثبت بشهادة المرأة فإن عند الاختلاط كل امرأتين تقومان مقام رجل ثم المعتبر في الرجوع بقاء من بقي على الشهادة لا رجوع من رجع حتى لو شهد ثلاثة نفر بحق ثم رجع أحدهم لم يضمن شيئا لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت جميع الحق بشهادته فإن كان الشاهد بالطلاق رجلين وامرأتين ثم رجع رجل وامرأة كان عليهما ثمن المهر أثلاثا ثلثاه على الرجل وثلثه على المرأة لأنه قد بقي على الشهادة من يقوم ثلاثة أرباع الحق به فإنما انعدمت الحجة في قدر الربع فلهذا ضمنا ذلك القدر أثلاثا فإن رجعت المرأة الأخرى أيضا لزمها مع الراجعين الأولين ربع المهر لأنه قد بقي على الشهادة رجل وهو يقوم بنصف الحق ثم نصف هذا الربع على الرجل الراجع ونصفه على المرأتين وإن رجعوا جميعا كان على المرأتين سدس المهر وعلى الرجلين الثلث لأن الثابت بشهادة كل رجل مثل الثابت بشهادة المرأتين.
قال: وإن شهد رجلان بالدخول ورجلان بالطلاق فألزم القاضي الزوج كمال المهر ثم رجع شاهدا الطلاق فلا شيء عليهما عندنا وعلى قول الشافعي عليهما ضمان مهر المثل لأن

 

ج / 6 ص -124-       شاهدي الدخول ثابتان على الشهادة فصار كأن الدخول ثابت بإقرار الزوج فبقيت شهادة الآخرين بالطلاق بعد الدخول وذلك غير موجب للضمان عليهما إذا رجعا عندنا لأن البضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم وإتلاف ما ليس بمتقوم لا يوجب الضمان عليهما وعنده البضع متقوم عند خروجه من ملك الزوج بمهر المثل كما أنه متقوم عند دخوله في ملك الزوج وقد بينا الفرق بينهما في كتاب النكاح ثم نقول لما كان جميع المهر يثبت بشهادة شاهدي الدخول وهما ثابتان على الشهادة لم يضمن الراجعان شيئا وإن رجع شاهدا الدخول ولم يرجع شاهدا الطلاق فعليهما نصف المهر لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته نصف المهر ألا ترى أنه لو لم يوجد شاهدا الدخول كان القاضي يقضي بنصف المهر بشهادة شاهدي الطلاق فإنما انعدمت الحجة برجوعهما في نصف المهر فيضمنان ذلك وإن رجع أحد شاهدي الدخول وأحد شاهدي الطلاق لم يكن على شاهد الطلاق شيء لأن الثابت بشهادته وشهادة صاحبه نصف المهر وقد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته ثلاثة أرباع المهر وهو أحد شاهدي الدخول وأحد شاهدي الطلاق فلهذا لا يضمن شاهد الطلاق شيئا ويضمن شاهد الدخول ربع المهر لأن الحجة قد انعدمت في قدر الربع وحقيقة المعنى فيه أن نصف المهر ثابت بشهادة شاهدي الدخول خاصة والنصف الآخر ثابت بشهادة الأربعة فالنصف الذي هو ثابت بشهادتهم قد بقي كمال الحجة فيه ببقاء اثنين على الشهادة والنصف الذي قد ثبت بشهادة شاهدي الدخول بقي نصفه ببقاء أحدهما على الشهادة وانعدمت الحجة في نصفه فلهذا ضمن شاهد الدخول ربع المهر وإن رجع شاهدا الطلاق مع إحدى شاهدي الدخول كان عليهم ضمان نصف المهر لأنه قد بقي من يثبت بشهادته نصف المهر وهو أحد شاهدي الدخول فإنما انعدمت الحجة في النصف نصف هذا النصف على شاهد الدخول والنصف الآخر عليهم أثلاثا لأن نصف المهر ثبت بشهادة شاهدي الدخول وقد بقي نصفه ببقاء أحدهما فيجب نصفه على الآخر والنصف الآخر يثبت بشهادة الأربعة وقد بقي واحد على الشهادة فيبقي نصف ذلك النصف ببقائه وتنعدم الحجة في نصفه فيكون عليهم أثلاثا وإن رجعوا جميعا كان على شاهدي الدخول ثلاثة أرباع المهر وعلى شاهدي الطلاق ربع المهر لأن النصف يثبت بشهادة شاهدي الدخول خاصة فضمان ذلك عليهما إذا رجعا والنصف الآخر يثبت بشهادة الأربعة فيكون عليهم أرباعا نصفه على شاهدي الدخول ونصفه على شاهدي الطلاق.
قال: وإذا شهد شاهد واحد على الطلاق فسألت المرأة القاضي أن يضعها على يدي عدل حتى تأتي بشاهد آخر لم يفعل ذلك ودفعها إلى زوجها حتى تأتي ببقية شهودها لأن قيام النكاح والحل بينهما معلوم وبشهادة الواحد لم يثبت سبب الحرمة لأنها شطر العلة وبشطر العلة لا يثبت شيء من الحكم فيتمسك القاضي بما كان معلوما له حتى يثبت عنده العارض فإن كان الطلاق ثلاثا أو بائنا وادعت أن بقية شهودها في المصر وشاهدها هذا عدل حال بينها وبين

 

ج / 6 ص -125-       الزوج وأجلها ثلاثة أيام حتى ينظر ما تصنع في شاهدها الآخر وهذا استحسان وفي القياس لا يحول بينه وبينها لأن الحجة لم تتم ولكنه استحسن فقال للشهادة طرفان العدد والعدالة ولو وجد تمام العدد تثبت به الحيلولة قبل ظهور العدالة بأن شهد رجلان مستوران فكذلك إذا وجدت العدالة وهذا لأن الذي يسبق إلى وهم كل أحد أن العدل صادق في شهادته وباب الفرج مبني على الاحتياط وليس في هذه الحيلولة كثير ضرر على الزوج ولكن مع هذا لا تكون هذه الحيلولة واجبة على القاضي بل إن فعل فحسن وإن لم يفعل ودفعها إلى الزوج فلا بأس لأن حجة القضاء به لم تتم ألا ترى أنه لو قضى بشهادة الواحد لم ينفذ قضاؤه.
قال: وإذا شهد شاهد على تطليقة بائنة وشهد آخر على تطليقة رجعية فشهادتهما جائزة على تطليقة رجعية لأنهما اتفقا على أصل الطلاق وإنما تفرد أحدهما بزيادة صفة البينونة فلا يثبت ما تفرد به أحدهما والدليل لهما على أبي حنيفة رحمه الله في الثلاث مع الواحدة يقولان تفرد أحدهما بالبينونة الغليظة كتفرد أحدهما بالبينونة الخفيفة وعند أبي حنيفة الطلاق إذا قرن بالعدد كان العامل هو العدد وكل واحد منهما شاهد بالوقوع بلفظ آخر هناك فأما هنا وإن الحق صفة البينونة بالطلاق فوقوع الطلاق يكون بلفظ الطلاق وقد اتفق الشاهدان عليه لفظا توضيحه أن بصفة البينونة لا يتغير أصل الطلاق ألا ترى أن بمضي العدة ينقلب الرجعي بائنا فأما بانضمام الثاني والثالث يتغير حكم أصل الطلاق ولو شهد أحدهما على تطليقة والآخر على واحدة وواحدة جازت شهادتهما في الواحدة لاتفاق الشاهدين عليها لفظا ومعنى ولو شهد أحدهما على أنه طلقها واحدة وشهد الآخر أنه طلقها واحدة وعشرين أو واحدة ونصفا فقد اتفقا على الواحدة في لفظهما وتكلما بها إنما تفرد أحدهما بزيادة لفظ آخر معطوف على لفظ الواحد فيثبت ما اتفقا عليه وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بواحدة والآخر بأحد عشر قال هناك أحد عشر اسم واحد لانعدام حرف العطف فالشاهد بها لا يكون شاهدا بالواحدة لفظا فأما واحدة وعشرون اسمان بينهما حرف العطف فالشاهد بها شاهد بالواحدة لفظا.
قال: وإن شهد أحدهما أنه طلقها واحدة وشهد الآخر أنه طلقها نصف واحدة أو شهد أحدهما على نصف واحدة والآخر على ثلث واحدة لم تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله وتقبل عندهما لأن المعتبر عندهما الاتفاق في المعنى وقد وجد فإن نصف التطليقة وثلثها كما لها وعند أبي حنيفة يعتبر اتفاق الشاهدين لفظا ومعنى وبين النصف والكل مغايرة على سبيل المضادة وكذلك النصف غير الثلث فلم يوجد اتفاق الشاهدين لفظا فلهذا قال لا تقبل الشهادة وإن شهد أحدهما أنه قال فلانة طالق لا بل فلانة وشهد الآخر أنه قال فلانة طالق يسمي الأولى فقد جازت الشهادة على طلاق الأولى لاتفاق الشاهدين على ذلك لفظا ومعنى وما تفرد أحدهما من الزيادة لم يثبت وإن شهد أحدهما أنه قال أنت

 

ج / 6 ص -126-       طالق الطلاق كله وشهد الآخر أنه قال أنت طالق بعض الطلاق فعندهما يقضي بتطليقة واحدة لاتفاق الشاهدين عليها معنى وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل هذه الشهادة لاختلافهما لفظا والمغايرة بين الكل والبعض على سبيل المضادة.
قال: وإن شهد أحدهما أنه قال لها أنت طالق وشهد الآخر أنه أقر أنه طلقها فالشهادة جائزة لأن الطلاق قول وصيغة الإقرار والإنشاء فيه واحدة فاختلاف الشهود في الإنشاء والإقرار لا يكون اختلافا في المشهود به وكذلك إن اختلفا في المكان والزمان لأن القول مما يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول فباختلافهما في المكان والزمان لا يختلف المشهود به لفظا بخلاف الأفعال كالغصب والقتل.
قال: وإن شهد أحدهما أنه طلقها بمكة يوم النحر وشهد الآخر أنه طلقها في ذلك اليوم بالكوفة كانت شهادتهما باطلة لا لأن المشهود به مختلف ولكن لأنا تيقنا بكذب أحدهما فإن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون بمكة والكوفة وإذا كانت تهمة الكذب تمنع العمل بالشهادة فالتيقن بالكذب أولى ولا يقال هذا يتحقق في كرامات الأولياء لأن مثل ذلك الولي لا يجحد ما أوقع من الطلاق حتى يحتاج إلى إثباته عليه بالبينة ولأنا نبني الأحكام على الظاهر.
قال: ولو شهدا بذلك على يومين متفرقين بينهما من الأيام قدر ما يسير الراكب من الكوفة إلى مكة تقبل شهادتهما لأن تهمة الكذب هنا منتفية لظهور عدالتهما وإنما تعدد مكان ما شهدا به وباختلاف المكان لا يختلف المشهود به وهو الطلاق.
قال: ولو شهد شاهدان أنه طلق عمرة يوم النحر بالكوفة وشهد شاهدان أنه طلق زينب يوم النحر بمكة أو أعتق عبده فشهادتهم جميعا باطلة لأن القاضي يتيقن بكذب أحد الفريقين ولا يعرف الصادق من الكاذب فتعذر عليه العمل بشهادتهما.
قال: فإن جاءت إحدى البينتين قبل صاحبتها فحكم بها ثم جاءت الأخرى لم يلتفت إليها لأن الأولى تأكدت بقضاء القاضي فتعين الكذب في الأخرى إذ لا يجوز نقض القضاء بالشك وهو نظير ما لو ادعى رجلان نكاح امرأة وأقام كل واحد منهما البينة واستويا لم يقض القاضي لواحد منهما ولو سبق أحدهما بإقامة البينة وقضى له ثم أقام الآخر البينة لم تقبل بينته لهذا المعنى.
قال: ولو قال لامرأتين له أيتكما أكلت هذا الطعام فهي طالق فجاءت كل واحدة منهما بالبينة أنها أكلته فشهادتهم جميعا باطلة لتيقننا بكذب أحد الفريقين فالشرط أكل جميع الطعام من واحدة ولا يتصور أن تأكل كل واحدة منهما جميع الطعام فإن جاءت إحدى البينتين قبل الأخرى فحكم بها ثم جاءت الأخرى لم يلتفت إليها لأن بقضائه تعين معنى الصدق في شهادة الفريق الأول فيتعين معنى الكذب في شهادة الفريق الثاني وإن كانتا أكلتاه لم تطلق واحدة منهما لأن الشرط أكل الواحدة جميع الطعام فإن كلمة أي تتناول كل واحدة من المخاطبتين على الانفراد وقد بينا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.

 

ج / 6 ص -127-       باب طلاق المريض
قال:
رضي الله عنه وإذا طلق المريض امرأته ثلاثا أو واحدة بائنة ثم مات وهي في العدة فلا ميراث لها منه في القياس وهو أحد أقاويل الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي الاستحسان ترث منه وهو قولنا وقال بن أبي ليلى وإن مات بعد انقضاء عدتها ترث منه ما لم تتزوج بزوج آخر وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال مالك رحمه الله وإن مات بعد ما تزوجت بزوج آخر فلها الميراث منه وجه القياس أن سبب الإرث انتهاء النكاح بالموت ولم يوجد لارتفاعه بالتطليقات والحكم لا يثبت بدون السبب كما لو كان طلقها قبل الدخول ولأن الميراث يستحق بالنسب تارة وبالزوجية أخرى ولو انقطع النسب لا يبقى استحقاق الميراث به سواء كان في صحته أو في مرضه فكذلك إذا انقطعت الزوجية ولكنا استحسنا لاتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد روى إبراهيم رحمه الله تعالى قال جاء عروة البارقي إلى شريح من عند عمر رضي الله تعالى عنه بخمس خصال منهن إذا طلق المريض امرأته ثلاثا ورثته إذا مات وهي في العدة وعن الشعبي أن أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري كانت تحت عثمان بن عفان رضي الله عنه ففارقها بعد ما حوصر فجاءت إلى علي رضي الله عنه بعد ما قتل وأخبرته بذلك فقال تركها حتى إذا أشرف على الموت فارقها وورثها منه وأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته تماضر آخر التطليقات الثلاث في مرضه فورثها عثمان رضي الله عنه وقال ما اتهمته ولكني أردت السنة وعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة الفار ترث ما دامت في العدة وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنها ترث ما لم تتزوج وقال بن سيرين كانوا يقولون من فر من كتاب الله تعالى رد إليه يعني هذا الحكم والقياس يترك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن قيل لا إجماع هنا فقد قال بن الزبير رضي الله عنه في حديث تماضر لو كان الأمر إلى لما ورثتها وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما طلقتها ضرارا ولا فرارا قلنا معنى قول بن الزبير رضي الله عنه ما ورثتها أي لجهلي بوجه الاستحسان فتبين أنه كان يخفى عليه ما لم يخف على عثمان رضي الله عنه وفي بعض الروايات أنها سألته الطلاق فمعنى قولها ما ورثها لأنها سألته الطلاق وبه نقول ولكن توريث عثمان رضي الله عنه إياها بعد سؤالها الطلاق دليل على أنه كان يورثها قبله وقد قيل ما سألته الطلاق ولكنه قال لها إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته وبهذا لا يسقط ميراثها وبن عوف رضي الله عنه لم ينكر التوريث إنما نفى عن نفسه تهمة الفرار حتى روي أن عثمان رضي الله عنه عاده فقال لو مت ورثتها منك فقال أنا أعلم ذلك ما طلقتها ضرارا ولا فرارا والمعنى فيه أنه قصد إبطال حقها عن الميراث بقوله فيرد عليه قصده كما لو وهب جميع ماله من إنسان وإنما قلنا ذلك لأن بمرض الموت تعلق حق الورثة بماله ولهذا يمنع عن التبرع بما زاد على الثلث ثم استحقاق الميراث

 

ج / 6 ص -128-       بالسبب والمحل فإذا كان تصرفه في المحل يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما إبقاء لحق الوارث فتصرفه بالسبب بالرفع يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما بل أولى لأن الحكم يضاف إلى السبب دون المحل وإذا صار كالمضاف كان النكاح بينهما قائما عند الموت حكما ولهذا قال بن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه أن عدتها في حق الميراث لا تنقضي حتى أن لها الميراث ما لم تتزوج فإذا تزوجت فهي التي رضيت بسقوط حقها ولها ذلك كما لو سألته الطلاق في الابتداء ولكنا نقول لما انقضت عدتها حل لها أن تتزوج وذلك دليل حكمي مناف للنكاح الأول فلا يبقى معه النكاح حكما كما لو تزوجت وهو نظير وجوب الصلاة على التي انقطع دمها فيما دون العشرة بمضي الوقت يجعل كأداء الصلاة في الحكم بانقضاء العدة وما قاله مالك من بقاء الميراث بعد التزوج بعيد لأن المرأة الواحدة لا ترث من زوجين بحكم النكاح وما قاله يؤدي إلى هذا ثم بعد انقضاء العدة يكون مسقطا حقها بعوض فإنها تقدر على أن تتزوج بزوج آخر فتستحق ميراثه وذلك صحيح من المريض كما لو باع ماله بمثل قيمته فأما قبل انقضاء العدة يكون هذا إبطالا لحقها بغير عوض لأنها لا تقدر على التزوج وهذا بخلاف النسب فإنه لا ينقطع بمجرد قوله إنما ينقطع بقضاء القاضي باللعان وذلك أمر حكمي ثم النسب بعد ثبوته لا ينقطع ولكن يتبين بنفيه أنه لم يكن ثابتا في ولد أم الولد فيتبين أنه لم يكن له حق في ماله ولكن الكلام من حيث المعنى ليس بقوي فإن بعد ثبوت حرمة المحل إما بالطلقات الثلاث أو بالمصاهرة يتعذر إبقاء النكاح حكما ولكن يجعل بقاء العدة التي هي حق من حقوق النكاح كبقاء النكاح في حكم التوريث باتفاق الصحابة رضوان الله عليهم ولهذا لو كان الطلاق قبل الدخول لا ترث لأنه لا عدة عليها ولكن هذا في إبقاء ما كان ثابتا لا في إثبات ما لم يكن ثابتا حتى لو كان صحيحا حين طلقها لم ترث منه وإنما أقمنا العدة مقام النكاح لدفع الضرر عنها فإذا كان الطلاق بسؤالها فقد رضيت هي بسقوط حقها فلا ميراث لها منه وإن مات وهي في العدة.
قال: وإن كانت المرأة أمة أو كتابية حين أبانها في مرضه ثم أعتقت الأمة وأسلمت الكتابية فلا ميراث لها منه وإن مات وهي في العدة لأنه لم يكن فارا من ميراثها يوم طلق إذ لم يتعلق حقها بماله في المرض فلو ورثت كان فيه إقامة العدة مقام النكاح في ابتداء الاستحقاق بعد العتق والإسلام وذلك غير ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم فلا يمكن إثباته بالرأي.
قال: ولو طلق المريض امرأته تطليقة رجعية ثم مات بعد انقضاء العدة فلا ميراث لها منه لانعدام السبب عند الموت حقيقة وحكما وأيهما مات قبل انقضاء العدة ورثه الآخر لانتهاء النكاح بينهما بالموت وإذا طلقها في مرضه تطليقة بائنة ثم صح من مرضه ثم مات من غير ذلك المرض وهي في العدة فلا ميراث لها منه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى:

 

ج / 6 ص -129-       ترث منه لأنه صار متهما بالفرار حين طلقها في مرضه ولأن حقها كان متعلقا بماله عند الطلاق وعند الموت فلا يعتبر ما تخلى بينهما فكأنه لم يصح حتى مات في مرضه ولكنا نقول حقها إنما يتعلق بماله بمرض الموت ومرض الموت ما يتصل به الموت ولم يوجد ذلك وكل مرض يعقبه برء فهو بمنزلة حالة الصحة فكأنه طلقها وهو صحيح ثم مرض ومات وإن كانت المرأة هي التي ماتت في جميع هذه الوجوه لم يرثها الزوج لأنه رفع السبب باختياره ولم يكن له حق في مالها في حال قيام الزوجية ليبقى ذلك ببقاء العدة ثم جمع بين فصول أربعة أحدها أن يعلق طلاقها بفعل نفسه والثاني أن يعلق بفعل أجنبي والثالث بمجيء الوقت والرابع بفعلها وكل فصل من ذلك على وجهين إما أن يكون التعليق والوقوع في المرض أو التعليق في الصحة والوقوع في المرض أما الفصل الأول وهو ما إذا علق بفعل نفسه وقال إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم دخل الدار فلها الميراث إذا مات وهي في العدة أما إذا كان التعليق والوقوع في المرض فلأنه متهم بالفرار والقصد إلى إبطال حقها عن ماله وإن كان التعليق في الصحة والوقوع في المرض فكذلك لأنه لما أقدم على الشرط في المرض مع علمه أن التطليقات عنده تقع فقد صار قاصدا إلى إبطال حقها فيجعل ذلك كتنجيز الطلاق في هذه الحالة ويستوي إن كان الشرط فعلا له منه بد أو لا بد له منه كالأكل والشرب والصلاة لأنه إن لم يكن له من الفعل بد فقد كان له من التعليق ألف بد فأما إذا علق بفعل أجنبي فإن كان التعليق في المرض فلها الميراث لأنه قاصد إبطال حقها عن ماله فهذا والتنجيز في حقه سواء وإن كان التعليق في الصحة ففعل ذلك الفعل الأجنبي في مرضه فلا ميراث لها منه إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز من المعلق فيصير عند فعل الأجنبي كأن الزوج طلقها ثلاثا وهو مريض ولكنا نقول لم يوجد من الزوج قصد الفرار لأنه حين علق لم يكن لها حق في ماله ولم يوجد من جهته صنع بعد ذلك في وجود الشرط ولا كان متمكنا من المنع لأنه ما كان يقدر على إبطال التعليق ولا على منع الأجنبي من إيجاد الشرط فأما إذا كان التعليق بمضي الوقت بأن قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق فإن كان التعليق في المرض فلها الميراث منه لوجود قصده إلى إبطال حقها بعد ما تعلق بماله وإن كان التعليق في الصحة ثم جاء رأس الشهر وهو مريض لم ترثه عندنا لما بينا وقال زفر رحمه الله تعالى ترثه وهذا والأول سواء وكذلك لو قال أنت طالق ثلاثا غدا ثم مرض قبل مجيء الغد فأما إذا علق بفعلها فإن كان التعليق في المرض والفعل فعل لها منه بد كدخول الدار وكلام أجنبي ففعلت فلا ميراث لها لأنها لما أقدمت على إيجاد الشرط مع استغنائها عنه فقد صارت راضية بسقوط حقها عن ماله فيكون هذا بمنزلة ما لو سألته الطلاق وإن كان الفعل فعلا لا بد لها منه كالأكل والشرب والصلاة المكتوبة وكلام الأبوين أو أحد من ذوي الرحم المحرم منها فلها الميراث إذا مات وهي

 

ج / 6 ص -130-       في العدة لأنها مضطرة إلى ايجاد هذا الشرط فلا تصير بالإقدام عليه راضية بسقوط حقها من ماله وتقاضي دينها من الفعل الذي لا بد لها منه إذا كانت تخاف فوت حقها بترك التقاضي فأما إذا كان التعليق في الصحة ففعلت في المرض فإن كان لها من الفعل بد فلا اشكال أنها لا ترث وإن لم يكن لها من الفعل بد فلها الميراث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولا ميراث لها في قول محمد رحمه الله تعالى لأنه حين علق الزوج الطلاق لم يكن لها في ماله حق فلا يتهم بقصده الفرار ولم يوجد بعد ذلك منه صنع وأكثر ما في الباب أن ينعدم رضاها أو فعلها باعتبار أنها لا تجد منه بدا فيكون هذا كالتعليق بفعل أجنبي أو بمجيء رأس الشهر وقد بينا أن هناك لا ترث إذا كان التعليق في الصحة فكذلك هنا وهما يقولان هي مضطرة إلى الاقدام على هذا الفعل فإنها إن لم تقدم تخاف على نفسها أو تخاف العقوبة وإن أقدمت سقط حقها فكانت مضطرة ملجأة وهو الذي ألجأها إلى ذلك والأصل أن الملجأ يصير آلة للملجى ء والفعل في الحكم كالموجود من الملجى ء كالمكره على اتلاف المال فبهذا المعنى تصير كان الفعل وجد من الزوج حكما فلها الميراث.
قال: وإذا بانت بالإيلاء في مرضه فإن كان الإيلاء منه في مرضه فلها الميراث إذا مات وهي في العدة وإن كان أصل الإيلاء في صحته فلا ميراث لها لأن المولى في المعنى يصير كأنه قال إن مضت أربعة أشهر ولم أقربك فيها فأنت طالق تطليقة بائنة وقد بينا في التعليق بمجيء الوقت أنه إن كان التعليق في المرض فلها الميراث وإن كان التعليق في الصحة فلا ميراث لها فكذلك في الإيلاء ولو قال المريض لامرأته إن شئت فأنت طالق ثلاثا فشاءت أو خيرها فاختارت نفسها لم ترث منه لأنها رضيت بسقوط حقها فكأنها سألته الطلاق أو اختلعت منه.
قال: ولو قال لها وهو مريض إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا فجاء رأس الشهر وهو صحيح فلا ميراث لها وكذلك لو آلى منها وهو مريض وتمت المدة وهو صحيح لأنه حين وقعت الفرقة بينهما لم يكن لها حق في ماله فكأنه نجز طلاقها في هذه الحالة ولو قال لها وهو صحيح إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا ثم مرض ومات ورثته لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولما جعل الشرط مرضه مع علمه أن بمرضه يتعلق حقها بماله فقد قصد الفرار وكان أبو القاسم الصفار يقول لا ترثه لأن الطلاق يقع عليها عند ابتداء مرضه وعند ذلك هو لا يكون صاحب فراش والمريض الذي يتعلق حق الوارث بماله ما يضنيه ويجعله صاحب فراش وإن قال في مرضه قد كنت طلقتك ثلاثا في صحتي وقع الطلاق عليها ساعة أقر ولها الميراث منه لأنه متهم بالفرار بهذا الإقرار كما يكون متهما بإنشاء الطلاق وهذا لأنه في الإسناد إلى حالة الصحة متهم في حقها لأنه لو أنشأ الطلاق في هذه الحالة لم يسقط ميراثها فلهذا لا يقبل قوله في الإسناد في حقها.
قال: وإن أقر في مرضه أنه قد جامع أم امرأته في الصحة أو أن بينهما رضاعا أو أنه

 

ج / 6 ص -131-       تزوجها بغير شهود أو في عدة من زوج كان لها قبله لم يصدق في إبطال ميراثها لكونه متهما في ذلك ويجعل هذا كإنشاء سبب الفرقة منه.
قال: وإذا قال لامرأته في مرضه إذا صححت فأنت طالق ثم صح من مرضه وقع الطلاق عليها لوجود الشرط ولا ميراث لها أن مرض بعد ذلك ومات لأنه حين وقع الطلاق عليها لم يكن لها حق في ماله فلا يكون هو قاصدا الفرار.
قال: ولو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا قبل أن أقتل أو قبل أن أموت من مرض كذا وكذا بشهر فمات مما قال أو من غيره قبل مضي شهر أو بعده لم تطلق لأن ما عرف الوقت به ليس بكائن لا محالة فصار في معنى الشرط بمنزلة قدوم فلان على ما تقدم ولو وقع الطلاق لوقع بعده ولا نكاح بينهما بعد ما قتل فلهذا لا تطلق ولها الميراث فإن قال أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر ونصف أو بأقل من شهرين فمات بعد مضي ذلك الوقت الذي قاله فجأة أو مرض ثم مات وقع الطلاق عليها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى قبل موته كما قال ولها الميراث وعندهما لا تطلق لما بينا أن عندهما الموت يصير في معنى الشرط وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو معرف للوقت فإنما يقع الطلاق من أوله ولكن عدتها لا تنقضي بما دون الشهرين فكان لها الميراث ويصير الزوج فارا لأن الطلاق لا يقع ما لم يشرف على الموت ويتعلق حقها بماله وإن كان قال قبل موتي بشهرين أو بأكثر من ذلك ثم مات قبل مضي الشهرين لم يقع الطلاق ولها الميراث لأن الوقت الذي أضاف إليه الطلاق يوجد بعد كلامه وإن عاش مثل ما سمى أو أكثر ثم مات وقع عليها الطلاق قبل موته بما سمى ولا ميراث لها منه لأن العدة قد تنقضي في شهرين بثلاث حيض وكذلك لو كان وقت وقوع الطلاق مريضا إذا كان الكلام في الصحة وإن كانت صغيرة أو آيسة فعدتها ثلاثة أشهر ولها الميراث إلا أن يسمى من الوقت ثلاثة أشهر أو أكثر وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عندهما لا يقع الطلاق في شيء من ذلك وإن وقت سنة ولها الميراث لأن عندهما الموت في معنى الشرط فلو وقع الطلاق لوقع بعده.
قال: وإذا قال لها وهو صحيح أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر ثم مات فجأة بغير مرض فلها الميراث لأنه ذكر الموت فيما وقع عليها من الطلاق فيصير به فارا من ميراثها وإن استند الوقوع إلى حالة الصحة إذا مات قبل انقضاء العدة.
قال: وإذا طلق المريض امرأته واحدة بائنة ثم تزوجها في عدتها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فعليها عدة مستقبلة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى باعتبار أن الدخول السابق على العقد الثاني يجعل كالموجود بعده وقد بينا هذا في كتاب النكاح فلها المهر كاملا والميراث وله عليها الرجعة ما دامت في العدة وكذلك لو كان الطلاق الأول في الصحة وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله تعالى لا رجعة له عليها ولها

 

ج / 6 ص -132-       نصف المهر وتتم بقية عدتها من الطلاق الأول لأن الطلاق في النكاح الثاني حصل قبل الدخول ولم يبين حكم الميراث ولا ميراث لها منه عند محمد رحمه الله تعالى لأنه لم يلزمها العدة بالطلاق الثاني لأنه طلاق قبل الدخول وحكم الفرار لا يثبت بالطلاق قبل الدخول.
قال: وإذا اختلعت نفسها من زوجها في مرضه أو جعل أمرها بيدها فطلقت نفسها فلا ميراث لها منه لأن وقوع الفرقة بفعلها إما بقبولها البدل أو بإيقاعها الطلاق على نفسها وهذا أبين في إسقاط حقها من سؤال الطلاق.
قال: وإذا قال المريض لامرأته وهي أمة أنت طالق غدا ثلاثا وقال المولى لها أنت حرة غدا فجاء الغد وقع الطلاق والعتاق معا ولا ميراث لها منه لأن الزوج حين تكلم بالطلاق لم يقصد الفرار إذ لم يكن لها حق في ماله يومئذ ولأن الطلاق والعتاق يقعان معا لأن كل واحد منهما مضاف إلى الغد ثم العتق يصادفها وهي رقيقة فكذلك الطلاق يصادفها وهي رقيقة فلا ميراث لها وكذلك لو كان المولى تكلم بالعتق قبل كلام الزوج لأن العتق لم يلزمه بقول المولى ألا ترى أنه يمكنه أن يبيعها ولا تعتق غدا فلا يصير الزوج فارا ولأن الوقوع يصادفها وهي رقيقة فلو ثبت حقها في ماله إنما يثبت بعد العتق ولا نكاح بينهما بعد العتق.
قال: وإذا قال إذا أعتقت فأنت طالق ثلاثا كان فارا لأن الطلاق هنا إنما يقع بعد العتق وبعد ما يتعلق حقها بماله فقد قصد إسقاط حقها فيرد عليه قصده.
قال: وإن قال لها المولى أنت حرة غدا وقال الزوج أنت طالق ثلاثا بعد الغد فإن كان يعلم بمقالة المولى فهو فار وإن لم يعلم بذلك فليس بفار لأنه لا حق لها في ماله حين علق الزوج لكونها رقيقة ولكنه إذا أضاف إلى وقت يعلم أنها تكون حرة في ذلك الوقت وإن حقها يكون متعلقا بماله فقد قصد ابطال حقها وإن لم يعلم بذلك لم يكن قاصدا إسقاط حقها فلهذا لا ترثه وإن أعتقها المولى ثم طلقها الزوج ثلاثا وهو لا يعلم بالعتق فلها الميراث منه لأنها حين عتقت والزوج مريض فقد تعلق حقها في ماله فلو سقط إنما يسقط بإيقاعه الثلاث وذلك غير مسقط لميراثها ما دامت في العدة وجهل الزوج بالعتق لا يكون معتبرا في إسقاط حقها وهذا بخلاف ما سبق من قول الزوج لها أنت طالق ثلاثا بعد غد لأن هناك لا حق لها في ماله حين تكلم الزوج بالطلاق ألا ترى أنه لو نجز طلاقها في ذلك الوقت لم ترث فلم يكن الزوج مسقطا حقا ثابتا لها ولكن إذا كان عالما بمقالة المولى فقد أضاف الطلاق إلى وقت يعلم حريتها فيه فكان ذلك قصدا منه الإضرار بها فيرد عليه قصده وإن لم يكن عالما بمقالة المولى فلم يوجد منه القصد إلى اضرارها فلا يكون فارا لهذا.
قال: وإذا كانت المرأة حرة كتابية فقال لها أنت طالق ثلاثا غدا ثم أسلمت قبل الغد أو بعده فلا ميراث لها منه لأنه حين تكلم الزوج بالطلاق لم يكن لها حق في ماله حتى لو

 

ج / 6 ص -133-       نجز الثلاث لم ترث ولم يقصد الإضرار بها بإضافة الطلاق إلى الغد لأنه ما كان يعلم أنها تسلم قبل مجيء الغد فلم يكن فارا.
قال: وإذا قال لها إذا أسلمت فأنت طالق ثلاثا كان فارا لأنه قصد الإضرار بها حين أضاف الطلاق إلى وقت تعلق حقها بماله وهو ما بعد الإسلام وهذا نظير ما سبق إذا قال الصحيح لامرأته إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثم مرض قبل مجيء رأس الشهر لم يكن فارا ولو قال إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا كان فارا وإن أسلمت فطلقها ثلاثا وهو لا يعلم بإسلامها فلها الميراث منه لأن إيقاع الثلاث كان بعد تعلق حقها بماله وجهل الزوج غير معتبر في إسقاط حقها بعد ما تعلق بماله.
قال: وإذا أسلمت امرأة الكافر ثم طلقها ثلاثا وهو مريض ثم أسلم ومات وهي في العدة فلا ميراث لها منه لأنه حين أوقع الثلاث قبل إسلامه فهو غير فار إذ لم يكن لها ميراث منه فإن اختلاف الدين يمنع توريث المسلم من الكافر بخلاف ما لو كان أسلم قبل الطلاق وهو يعلم بإسلامها أو لا يعلم فإن هناك إنما أوقع الطلاق بعد ما تعلق حقها بماله وكذلك العبد إذا طلق امرأته في مرضه ثم عتق وأصاب مالا فلا ميراث لها لأنه لم يكن فارا حين طلق لأنه ما كان يعلم أنه يعتق وإذا قال إذا أعتقت فأنت طالق ثلاثا فهو فار لأنه بالإضافة إلى ما بعد عتقه قاصد الإضرار بها.
قال: ولو كانت امرأته أمة فقال لها في مرضه إذا عتقت أنا وأنت فأنت طالق ثلاثا ثم أعتقا جميعا فلها الميراث لإضافته الطلاق إلا ما بعد تعلق حقها بماله ولو قال أنت طالق غدا ثلاثا ثم أعتقا اليوم لم يكن لها ميراث لأنه حين تكلم بالطلاق لم يكن لها حق في ميراثه وما كان يدري أنهما يعتقان قبل مجيء الغد فلا يكون بهذه الإضافة قاصدا الإضرار وكذلك لو قال لها المولى أنتما حران غدا وقال الزوج أنت طالق ثلاثا غدا لم يكن بينهما ميراث لأن وقوع الثلاث بهذا اللفظ قبل أن يثبت حكم التوريث بينهما فإن حكم التوريث بعد العتق والطلاق يقترن بالعتق قبل مجيء الغد.
قال: وإن قال لها أنت طالق ثلاثا بعد الغد في القياس لا ميراث لها منه لأنه حين تكلم بالطلاق لم يكن لها حق في ماله ألا ترى أنه لو نجز لم يكن بينهما توارث ولأنه لا يتيقن بعتقهما بعد الغد لجواز أن يبيعهما قبل مجيء الغد ولكنه استحسن فقال إذا كان يعلم بمقالة المولى فلها الميراث وإن لم يعلم فلا ميراث لها منه لأن الظاهر بعد مقالة المولى أنهما يعتقان بمجيء الغد فإن الأصل بقاؤهما في ملكه والبناء على الظاهر واجب حتى يظهر خلافه فهو بإضافة الثلاث إلى ما بعد الغد بعد العلم بمقالة المولى يكون قاصدا الإضرار بها فيكون فارا وإذا لم يكن عالما بمقالة المولى لم يكن قاصدا الإضرار بها.
قال: وإن قال زوج أم الولد أو المرتدة وهو حر مريض أنت طالق ثلاثا إذا مضى

 

ج / 6 ص -134-       شهر ثم مات المولى قبل ذلك فعتقت ثم وقع الطلاق عليها لم يكن لها ميراث منه لأنه بهذه الإضافة لم يقصد الإضرار لأنه ما كان يعلم أن المولى يموت قبل مضي الشهر بخلاف ما لو قال إذا مات مولاك فعتقت فأنت طالق ثلاثا لأن هناك يتحقق أن قصده الإضرار بها.
قال: وإذا طلق المكاتب في مرضه امرأته الحرة ثلاثا ثم مات وهي في العدة وترك وفاء فأديت كتابته أو أعتق قبل أن يموت فلا ميراث لها منه لأنه حين أوقع الثلاث لم يكن لها حق في كسبه فإن المكاتب عبد وما كان يدري أنه يعتق قبل موته أو يترك وفاء فلم يكن فارا وإن كان مكاتبين كتابة واحدة إن أديا عتقا وإن عجزا ردا رقيقين فطلقها في مرضه ثلاثا ثم مات وترك وفاء فلا ميراث لها منه لأنه لم يكن لها في ماله حق حين طلقها ثلاثا وعليها العدة حيضتان لأن الطلاق وقع عليها وهي أمة ويرجعون عليها بما أدى من تركة المكاتب عنها كما لو كان أدى بنفسه في حياته.
قال: وإذا خرجت الأمة إلينا مسلمة ثم خرج زوجها بعدها مسلما وهو مريض فطلقها أو لم يطلقها ثم مات فلا ميراث لها منه لأن العصمة قد انقطعت بينهما بتباين الدارين ولا توارث بينهما يومئذ ثم لا يقع طلاقه عليها بعد ذلك وقد بينا هذا.
قال: وإذا ارتد المسلم نعوذ بالله ثم قتل أو مات أو لحق بدار الحرب وله امرأة مسلمة لم تنقض عدتها بعد فلها الميراث منه من يوم ارتد لأنه بالردة قد أشرف على الهلاك والتوريث يستند إلى ذلك الوقت فلا يعتبر فعله في إسقاط حقها عن ميراثه ولأن الردة من الرجل كالموت لأنه يستحق قتله بها والنكاح كان قائما بينهما يومئذ فكان لها الميراث وعدتها ثلاث حيض لأنه حي حقيقة بعد الردة ما لم يقتل والفرقة متى وقعت في حالة الحياة فإنها تعتد بالحيض فإن حاضت قبل ذلك ثلاث حيض أو لم يكن دخل بها فلا ميراث لها منه لأن حكم التوريث إنما يتقرر بالموت وإن كان يستند إلى أول الردة لأنه بعد الردة حي حقيقة وإنما يرث الحي من الميت لا من الحي فلهذا يعتبر بقاء الوارث وقت موته حتى لو مات ولده قبل موته لم يرثه فكذلك يعتبر قيام عدتها وقت موته فإذا انعدم لم يكن لها ميراث.
قال: وإن كانت المرأة هي التي ارتدت ثم ماتت وهي في العدة فلا ميراث للزوج منها لأنه لا تأثير لردتها في زوال ملكها ولهذا نفذ تصرفها في مالها بعد الردة وهذا لأن نفسها لم تصر مستحقة بسبب الردة بخلاف الرجل فإذن قد وقعت الفرقة بردتها ولا حق له في مالها.
قال: وإذا ارتدت وهي مريضة ثم ماتت أو لحقت بدار الحرب وهي في العدة في القياس لا ميراث للزوج منها وهي رواية عن أبي يوسف رضي الله تعالى عنه لأنه لا عدة في جانب الزوج وتوريث الباقي من الميت بشرط بقاء العدة ألا ترى أنه لو طلقها قبل الدخول في مرضه لم يكن لها الميراث لأنها ليست في عدته ولكنه استحسن فقال له الميراث لأن حقه قد تعلق بمالها بمرضها فكانت بالردة قاصدة إبطال حقه فارة عن ميراثه فيرد عليها قصدها كما في جانب الزوج بخلاف ما

 

ج / 6 ص -135-       إذا كانت صحيحة حين ارتدت وإنما يعتبر قيام العدة وقت الموت وهي كانت في عدته يوم ماتت ولو كانت في نكاحه يوم ماتت كان له الميراث فكذلك إذا كانت في عدته.
قال: وإذا طلق المريض امرأته ثلاثا ثم ارتدت عن الإسلام والعياذ بالله ثم أسلمت ومات وهي في العدة فلا ميراث لها لأنها بالردة صارت مبطلة حقها لأنها تخرج بها من أن تكون أهلا للميراث فلا يعود حقها بالإسلام بعد ذلك لأنه في معنى ابتداء ثبوت الحق وليس بينهما نكاح قائم في هذه الحالة بخلاف ما لو طاوعت بن زوجها في العدة فجامعها فإنه لا يبطل ميراثها لأنها بهذه الطواعية لم تبطل حقها فإنه ليس لفعلها تأثير في الفرقة لأن الفرقة قد وقعت بإيقاع الثلاث ولم تخرج بهذا الفعل من أن تكون أهلا للإرث فبقاء ميراثها ببقاء العدة ولا تأثير لهذا الفعل في إسقاط العدة وهذا بخلاف ما لو طاوعت بن زوجها قبل أن يطلقها الزوج لأن الفرقة هناك وقعت بفعلها وذلك مسقط لميراثها ولأن تعلق حقها بماله يومئذ كان بسبب النكاح وفعلها مؤثر في رفع النكاح فلهذا سقط به ميراثها وكذلك إن أكرهها الابن على ذلك وغلب على نفسها فلا ميراث لها لأن الفعل ينعدم من جانبها بهذا السبب وإنما تقع الفرقة حكما لثبوت الحرمة من غير أن يصير مضافا إلى الزوج فلا ميراث لها منه لأن بقاء الميراث بعد الفرقة بسبب الفرار وذلك عند إضافة الفعل إلى الزوج فإن كان الزوج أمر ابنه بذلك كان لها الميراث لأنه قاصد إلى إبطال حقها حين أمر ابنه أن يكرهها على ذلك الفعل فكان فارا وإن كان الزوج هو المرتد بعد ما طلقها ثلاثا لم يبطل ميراثها لأنه لم يوجد منها ما يسقط حقها وإنما تكرر سبب الفرار من الزوج وبهذا يتقرر حقها فلا يسقط.
قال: وإذا أسلم أحد الزوجين وأبى الآخر أن يسلم ففرق بينهما في مرض الزوج ثم مات لم ترثه لأنه لو لم يفرق بينهما حتى مات لم ترثه لاختلاف الدين إذ لا توارث بين المسلم والكافر فبعد التفريق أولى.
قال: وإذا قذف المريض امرأته ولاعنها وفرق بينهما ثم مات فلها الميراث منه لأن سبب الفرقة من الزوج وهو قذفه إياها بعد تعلق حقها بماله وهي لا تجد بدا من الخصومة لدفع عار الزنى عن نفسها فلا تصير بذلك راضية بسقوط حقها بمنزلة ما لو علق الطلاق بفعلها في مرضه ولا بد لها من ذلك الفعل.
قال: ولو كان قذفها في صحته ثم مرض فلاعنها ثم فرق بينهما فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لها الميراث أيضا وعند محمد رحمه الله لا ميراث لها منه وهو نظير ما سبق إذا علق الطلاق في صحته بفعل لا بد لها منه ففعلت ذلك الفعل في مرضه.
قال: وإذا فرق بين العنين وامرأته في مرضه ثم مات وهي في العدة فلا ميراث لها منه لأنها صارت راضية بسقوط حقها حين اختارت الفرقة وكانت تجد بدا من هذا الاختيار بأن

 

ج / 6 ص -136-       تصبر حتى يموت الزوج فتتخلص منه وكذلك المعتقة إذا اختارت الفرقة وهذا أولى لأن الفرقة هنا إنما تقع بمجرد اختيارها نفسها وهي غير مضطرة إلى ذلك.
قال: وإذا ارتد الزوجان معا والعياذ بالله ثم أسلم أحدهما ومات الآخر فلا ميراث للباقي منه لأنه مرتد والمرتد لا يرث أحدا فإن أسلما معا ثم مات أحدهما كان للآخر الميراث لأن وقوع الفرقة بينهما بالموت وإن أسلمت المرأة ثم مات الزوج مرتدا ورثته لأن إصراره على الردة بعد إسلامها كإنشاء الردة حتى تجعل هذه الفرقة مضافة إلى فعل الزوج فكان لها الميراث إذا مات الزوج وهي في العدة فإن طلقها ثلاثا وهما مرتدان وهو مريض ثم أسلما فلا ميراث لها منه لأنه حين طلقها لم يكن حقها متعلقا بماله لردتها فلا يصير هو فارا فلو ثبت حقها إنما يثبت بعد إسلامها ابتداء ولا نكاح بينهما بعد إسلامهما.
قال: وإذا قال المريض لامرأته قد طلقتك ثلاثا في صحتي وانقضت عدتك وصدقته بذلك فلا ميراث لها لأن ما تصادقا عليه كالمعاين أو كالثابت بالبينة في حقهما ولأن الحق في الميراث لها وقد أقرت بما يسقط حقها فإن أقر لها بدين أو أوصى لها بوصية فهو جائز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كما يجوز لأجنبية أخرى الإقرار من جميع المال والوصية من الثلث وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لها الأقل من ميراثها ومما أقر أو أوصى به هما يقولان قد صارت أجنبية منه حتى أنها لا ترثه ولها أن تتزوج في الحال فإقراره لها كإقراره لأجنبية أخرى ولو اعتبرت التهمة لاعتبرت في حق التزويج لأن الحل والحرمة يؤخذ فيهما بالإحتياط فإذا كان يجوز له أن يتزوج بأختها وأربع سواها ويجوز لها أن تتزوج بزوج آخر عرفنا أنه لا تهمة ولأن المانع من صحة الإقرار والوصية لها كونها وارثة له وذلك ينعدم بالحكم بانقضاء عدتها بيقين وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لما مرض والنكاح قائم بينهما في الظاهر فقد صار ممنوعا عن الإقرار والوصية لها فيحتمل أنه واضعها على أن تقر بالطلاق في صحته وبانقضاء عدتها وتصدقه على ذلك لتصحيح إقراره ووصيته لها ولكن هذه التهمة في الزيادة على قدر الميراث فأما في مقدار الميراث لا تهمة فلهذا جعلنا لها الأقل وأبطلنا الزيادة على ذلك للتهمة كما لو سألته في مرضه أن يطلقها ثلاثا ففعل ثم أقر لها بدين أو أوصى لها بوصية لا تصح إلا في الأقل لتمكن تهمة المواضعة في الزيادة على ذلك وهذه التهمة فيما بينهما وبين سائر الورثة لا في حق الشرع وحل التزوج حق الشرع فلهذا صدقا على ذلك.
قال: وإذا مات الرجل وقالت امرأته قد كان طلقني ثلاثا في مرضه ومات وأنا في العدة وقال الورثة بل طلقك في صحته فالقول قول المرأة لأن الورثة يدعون عليها سبب الحرمان وهي جاحدة لذلك فإن الطلاق في مرضه لا يحرمها فلا تكون هي مقرة بالحرمان كما لو قالت طلقني في حالة نومه ولأن الورثة يدعون الطلاق بتاريخ سابق وهي تنكر ذلك التاريخ ولو أنكرت أصل الطلاق كان القول قولها فكذا إذا أنكرت التاريخ.

 

ج / 6 ص -137-       قال: ولو كانت أمة فقالت أعتقت قبل موت زوجي وصدقها المولى وقالت الورثة أعتقت بعد موته فالقول قول الورثة لأن سبب الحرمان وهو الرق كان ظاهرا فيها فإذا ادعت زواله قبل الموت وأنكره الورثة كان القول قول الورثة ولأنها تدعي تاريخا سابقا لعتقها فلا تصدق إلا بحجة ولا معتبر بتصديق المولى لأنه للحال لا يملك اسناد عتقها إلى حال حياة الزوج فلا يعتبر قوله في ذلك وكذلك إن كانت كافرة وادعت الإسلام قبل موت الزوج لم يقبل قولها إلا بحجة لأنها تدعي زوال سبب الحرمان بعد ما عرف ثبوته وإن لم يعرف كفرها ولا رقها فادعت الورثة أنها كافرة أو رقيقة يوم موته وقالت ما زلت على حالتي هذه حرة مسلمة فالقول قولها لأن سبب الميراث وهو النكاح ظاهر والورثة يدعون عليها سبب الحرمان وهي تنكر ولأن من في دار الإسلام فالظاهر أنه حر مسلم ولا يقال هذا إثبات الاستحقاق بالظاهر لأن الاستحقاق بالنكاح معلوم وإنما هذا دفع المانع بالظاهر.
قال: وإذا مات الزوج كافرا فجاءت المرأة مسلمة تدعي ميراثها فقالت أسلمت بعد موته وقالت الورثة أسلمت قبل موته فالقول قول الورثة لأنها جاءت تدعي الميراث وما يحرمها قائم فيها لأنها مسلمة والمسلمة لا ترث الكافر فمع ظهور سبب الحرمان لا ميراث لها إلا أن يثبت سبب الاستحقاق بالبينة ولأن الأصل أن الاشتباه إذا وقع فيما سبق يحكم الحال كما إذا اختلف صاحب الرحا مع المستأجر في جريان الماء في المدة فإن كان الماء جاريا في الحال يجعل جاريا فيما مضى فإذا كانت هي مسلمة في الحال تجعل مسلمة فيما مضى أيضا والمسلمة لا ترث الكافر.
قال: وإذا طلق المريض امرأته ثلاثا ثم قال بعد شهرين قد أخبرتني أن عدتها قد انقضت وكذبته ثم تزوج أختها أو أربعا سواها ثم مات فالقول قولها والميراث لها دون الأربع والأخت لأن الميراث من حقها وهو لا يصدق في إبطال حقها كما في نفقتها وسكناها ومن ضرورة بقاء الميراث لها بالنكاح أن لا ترث أختها أو أربع سواها بهذا السبب وقد بينا في كتاب النكاح اختلاف الروايتين في هذه المسألة.
قال: وإذا تزوج ثلاثا سواها إحداهن أختها فلا ميراث لأختها وللاثنتين معها الميراث لأن إخباره غير معتبر في ميراثها ولو لم يخبر حتى تزوج اثنتين كانتا وارثتين معها بخلاف أختها وإذا طلقها ثلاثا في مرضه ثم مات بعد تطاول ذلك وهي تقول لم تنقض عدتي فالقول قولها ولها الميراث لأنها أمينة ومدة العدة قد تطول وتقصر ولكن عليها اليمين بالله ما انقضت عدتها إذا طلبت الورثة لأنهم يدعون عليها ما لو أقرت به لزمها فإذا أنكرت حلفت على ذلك ولو أقام عليها الورثة البينة بإقرارها بانقضاء العدة قبل موته فلا ميراث لها لأن الثابت بإقرارها كالثابت بالمعاينة وإن كانت تزوجت قبل موته في قدر ما تنقضي في مثله العدة ثم قالت لم تنقض عدتي من الأول لم تصدق على ذلك لأن تزويجها نفسها إقرار منها بانقضاء عدتها دلالة فإن المسلمة تباشر العقد الصحيح دون الباطل ولو لم تتزوج وقالت قد أيست من

 

ج / 6 ص -138-       الحيض ثم اعتدت بثلاثة أشهر ثم مات الزوج وحرمت الميراث ثم ولدت بعد ذلك من زوج غيره فنكاح الآخر فاسد ولها الميراث من الأول لأنا تيقنا بكذبها فإن الآيسة لا تلد فتبين أنها كانت ممتدا طهرها لا آيسة وإنما تزوجت في العدة فالنكاح فاسد ولها الميراث من الأول لأنه مات وهي في العدة وكذلك إن حاضت لأن الآيسة لا تحيض إلا أنها إن ادعت الحيض لم تصدق على زوجها الآخر إلا أن يصدقها لأن النكاح بينهما صحيح في الظاهر فلا تصدق في دعواها البطلان وإن صدقها فرق بينهما ولم يصدقا على ورثة الأول ما لم يقروا بذلك لأنها تستحق الميراث عليهم فلا بد من تصديقهم إياها بما تقول.
قال: وإذا كانت المطلقة في المرض مستحاضة وكان حيضها مختلفا فقد بينا فيما سبق أنها تأخذ بالاحتياط ففي الصلاة والرجعة تأخذ بالأقل وفي الحل للأزواج تأخذ بالأكثر وفي الميراث تأخذ بالأقل لأن المال بالشك لا يستوجب وبقاء العدة عند موت الزوج شرط لميراثها فما لم يتيقن بهذا الشرط لم ترث وإن كان حيضها معلوما وانقطع الدم عنها في آخر الحيضة الثالثة ثم مات الزوج فإن كانت أيامها عشرة فلا ميراث لها لأنا تيقنا بانقضاء عدتها قبل موته وإن كانت أيامها دون العشرة فإن مات قبل أن تغتسل أو قبل أن يذهب وقت الصلاة فلها الميراث لأن عدتها باقية ما لم تغتسل وكذلك إن اغتسلت وبقي عضو لأن عدتها لا تنقضي مع بقاء عضو لم يصبه الماء وقد بينا هذا في باب الرجعة.
قال: وإذا بقي الزوج في مرضه بعد ما طلقها أكثر من سنتين ثم ولدت المرأة بعد موته بشهر فلا ميراث لها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولها الميراث في قول أبي يوسف رحمه الله وهو نظير الاختلاف المذكور في النفقة أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ترد نفقة ستة أشهر لأنهما يجعلان هذا من حبل حادث من زوج بعد انقضاء عدتها حملا لأمرها على الصلاح وكذلك في حكم الميراث يتبين بها انقضاء عدتها قبل موته فلا ميراث لها وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى تجعل معتدة إلى أن ولدت فلهذا لا ترد شيئا من النفقة فكان لها الميراث.
قال: وإذا طلقها في مرضه ثم قتل أو مات من غير ذلك المرض غير أنه لم يصح فلها الميراث وكان عيسى بن إبان يقول لا ميراث لها لأن مرض الموت ما يكون سببا للموت ولما مات بسبب آخر فقد علمنا أن مرضه لم يكن مرض الموت وإن حقها لم يكن متعلقا بماله يومئذ فهو كما لو طلقها في صحته ولكنا نقول قد اتصل الموت بمرضه حين لم يصح حتى مات وقد يكون للموت سببان فلا يتبين بهذا أن مرضه لم يكن مرض الموت وإن حقها لم يكن ثابتا في ماله وقد بينا أن إرثها منه بحكم الفرار وهو متحقق هنا.
قال: وإذا قرب الرجل ليقتل فهو بمنزلة المريض إذا طلق امرأته ثلاثا في تلك الحالة فلها الميراث والحاصل أن المريض مشرف على الهلاك فكل سبب يعترض مما يكون الغالب

 

ج / 6 ص -139-       فيه الهلاك فهو بمنزلة المرض وما يكون الغالب فيه السلامة وقد يخاف منه الهلاك أيضا فلا يجعل بمنزلة المرض فالذي قرب ليقتل في قصاص أو رجم فالظاهر فيه هو الهلاك والسلامة بعد هذا نادر فأما المحبوس قبل أن يخرج ليقتل فالغالب فيه السلامة فإنه يتخلص بنوع من أنواع الحيلة فإذا طلقها في تلك الحالة لم يكن فارا وكذلك إن كان مواقفا للعدو فما دام في الصف فهو بمنزلة الصحيح فإذا خرج بين الصفين يبارز قرنه من المشركين فهو بمنزلة المريض لأنه صار مشرفا على الهلاك والمحصور بمنزلة الصحيح لأن غالب حاله السلامة فإن خرج يقاتل فهو كالمريض وراكب السفينة بمنزلة الصحيح فإن تلاطمت الأمواج وخيف الغرق فهو بمنزلة المريض في هذه الحالة والمرأة الحامل كالصحيحة فإن أخذها الطلق فهي بمنزلة المريضة فإذا قتلته المرأة بعد ما طلقها ثلاثا في مرضه فلا ميراث لها منه لأن بقاء ميراثها ببقاء العدة كبقاء الميراث ببقاء النكاح وإن قتلته قبل الطلاق لم ترثه للإثر وهو قوله لا ميراث للقاتل بعد صاحب البقرة والمقعد والمريض والمفلوج ما دام يزداد ما به فهو كالمريض وإن صار قديما لا يزداد كان بمنزلة الصحيح في الطلاق وغيره لأنه ما دام يزداد علته فالغالب أن آخره الموت وإذا صار بحيث لا يزداد فلا يخاف منه الموت فكان بمنزلة الصحيح وصاحب جرح أو قرحة أو وجع لم يصيره على الفراش بمنزلة الصحيح في الطلاق وغيره وحد المرض الذي يكون به فارا أن يكون صاحب فراش قد أضناه المرض فأما الذي يجيء ويذهب في حوائجه فلا يكون فارا وإن كان يشتكي ويحم لأن الإنسان في العادة قل ما يخلو عن نوع مرض في باطنه ولا يجعل بذلك في حكم المريض بل المريض إنما يفارق الصحيح في أن الصحيح يكون في السوق ويقوم بحوائجه والمريض يكون صاحب فراش في بيته وهذا لأن ما لا يمكن الوقوف على حقيقته يعتبر فيه السبب الظاهر ويقام ذلك مقام المعنى الخفي تيسيرا وقد تكلف بعض المتأخرين فقال إذا كان بحال يخطو ثلاث خطوات من غير أن يستعين بأحد فهو في حكم الصحيح في التصرفات وهذا ضعيف فالمريض جدا لا يعجز عن هذا القدر إذا تكلف فكان المعتبر ما قلنا وهو أن يكون صاحب فراش ومن قرب ليقتل فطلق امرأته ثلاثا ثم خلى سبيله أو حبس ثم قتل بعد ذلك فلا ميراث لها منه بمنزلة المريض إذا صح بعد ما طلق امرأته ثلاثا وقد بينا هذا كله فكذلك في هذا الفصل والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الولد عند من يكون في الفرقة
قال: رضي الله تعالى عنه وإذا اختلعت المرأة من زوجها على أن تترك ولدها عند الزوج فالخلع جائز والشرط باطل لأن الأم إنما تكون أحق بالولد لحق الولد فإن كون الولد عندها أنفع له ولهذا لو تزوجت أو كانت أمة والولد حر لم تكن أحق بالحضانة لأنها مشغولة بخدمة زوجها أو مولاها فلا منفعة للولد في كونه عندها وإذا ثبت أن هذا من حق الولد فليس لها أن تبطله بالشرط.

 

ج / 6 ص -140-       قال: وإذا أرادت المرأة أن تخرج بولدها من مصر إلى مصر فإن كان النكاح بينهما قائما فليس لها أن تخرج إلا بإذنه مع الولد وبغير الولد فإن وقعت الفرقة بينهما وانقضت عدتها فإن كان أصل النكاح في المصر الذي هي فيه فليس لها أن تخرج بولدها إلى مصر آخر لما فيه من الأضرار بالزوج بقطع ولده عنه إلا أن يكون بين المصرين قرب بحيث لو خرج الزوج لمطالعة الولد أمكنه الرجوع إلى منزلة قبل الليل فحينئذ هذا بمنزلة محال مختلفة في مصر ولها أن تتحول من محلة إلى محلة وإن كان تزوجها في ذلك المصر الذي يريد الرجوع إليه ونقلها إلى هذا المصر فإن كانت من أهل هذا المصر فلها أن تخرج بولدها إليه لأن الإنسان إنما يتزوج المرأة في مصر ليقيم معها فيه وإنما ساعدته على الخروج لأجل النكاح فإذا ارتفع كان لها أن تعود إلى مصرها لأن في المقام في الغربة نوع ذل ولها أن تخرج بولدها لأنها بأصل النكاح استحقت المقام بولدها في ذلك المصر فإنما تستوفي ما استحقت لا أن تقصد الإضرار بالزوج وإن لم تكن من أهل ذلك المصر الذي تزوجها فيه فإن أرادت أن تخرج بولدها إلى مصرها لم يكن لها ذلك لأن أصل العقد ما كان في مصرها واختيارها الغربة لم يكن بسبب النكاح فلا يكون لها أن ترجع بولدها إلى مصرها ولكن يقال لها اتركي الولد واذهبي حيث شئت وكذلك إن أرادت الخروج إلى مصر آخر لأنها في ذلك المصر غريبة كما هنا فلا تقصد بالخروج إليه دفع وحشة الغربة إنما تقصد قطع الولد عن أبيه وإن أرادت أن تخرج به إلى المصر الذي كان تزوجها فيه فليس لها ذلك أيضا لأنها غريبة في ذلك المصر كما هنا وفي الجامع الصغير يقول انظر إلى عقدة النكاح أين وقع وهذه إشارة إلى أن لها أن تخرج بالولد إلى موضع العقد كما لو كان تزوجها في مصرها والأصح أنه ليس لها ذلك لأنها تقصد الإضرار بالزوج لا دفع الوحشة عن نفسها بالخروج إلى ذلك الموضع ولأن الزوج ما أخرجها إلى دار الغربة بخلاف ما إذا تزوجها في مصرها وإن كان أصل النكاح في رستاق له قرى متفرقة فأرادت أن تخرج بولدها من قرية إلى قرية فلها ذلك إن كانت القرى قريبة بعضها من بعض على الوجه الذي بينا لأنه ليس فيه قطع الولد عن أبيه وإن كانت بعيدة فليس لها ذلك إلا أن تعود إلى قريتها وقد كان أصل النكاح فيها وكذلك إن أرادت أن تعود من القرية إلى المصر وإن أرادت أن تخرج بولدها من مصر جامع إلى قرية قريبة منه فليس لها ذلك إلا أن يكون النكاح وقع في تلك القرية فتخرج إليها لأنها بأصل العقد استحقت المقام في قريتها بولدها وإن لم يكن أصل النكاح فيها فإنها تمنع من الخروج بولدها لأن في أخلاق أهل الرستاق بعض الجفاء قال صلى الله عليه وسلم: "أهل الكفور من أهل القبور" ففي خروجها بولدها إلى القرية من المصر إضرار بالولد لأنه يتخلق بأخلاقهم وهي ممنوعة من الإضرار بالولد وليس لها أن تخرج بولدها إلى دار الحرب وإن كان النكاح وقع هناك لما فيه من الإضرار بالولد فإنه يتخلق بأخلاق أهل الشرك ولا يأمن على نفسه هناك فإن دار الحرب دار نهبة وغارة وكذلك إن

 

ج / 6 ص -141-       كانت هي من أهل الحرب بعد أن يكون زوجها مسلما أو ذميا لأنها صارت ذمية تبعا لزوجها فتمنع من الرجوع إلى دار الحرب.
قال: وليس للمرأة وإن كانت أحق بولدها أن تشتري له وتبيع لأن الثابت لها حق الحضانة فأما ولاية التصرف للأب أو لمن يقوم مقامه بعده فإن كانت هي وصية أبيه فلها أن تتصرف بسبب الوصاية لا بسبب الأمومة.
قال: وكل فرقة وقعت بين الزوجين فالأم أحق بالولد ما لم تتزوج وقد بينا تمام هذا في النكاح إلا أن ترتد فحينئذ إن لحقت بدار الحرب فهي ممنوعة من أن تخرج بولدها ولا حق لها في الحضانة وإن كانت في دار الإسلام فإنها تحبس وتجبر على الإسلام فلا يكون لها حق الحضانة إلا أن تتوب فإن تابت فهي أحق بالولد.
قال: وإذا احتلم الغلام فلا سبيل لأبيه عليه إن كان قد عقل وكان مأمونا عليه لأنه صار من أهل أن يلي على غيره فلا يولي عليه إلا أن يكون مخوفا عليه فحينئذ يضمه الأب إلى نفسه لدفع الفتنة ولا نفقة له على أبيه إلا أن يتطوع وقد بينا تمام فصول النفقة في النكاح والله أعلم بالصواب.

باب الخلع
قال: وإذا اختلعت المرأة من زوجها فالخلع جائز والخلع تطليقة بائنة عندنا وفي قول الشافعي رحمه الله هو فسخ وهو مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روى رجوعه إلى قول عامة الصحابة رضي الله عنهم استدل الشافعي بقوله تعالى:
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلى أن قال {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فلو جعلنا الخلع طلاقا صارت التطليقات أربعا في سياق هذه الآية ولا يكون الطلاق أكثر من ثلاث ولأن النكاح عقد محتمل للفسخ حتى يفسخ بخيار عدم الكفاءة وخيار العتق وخيار البلوغ عندكم فيحتمل الفسخ بالتراضي أيضا وذلك بالخلع واعتبر هذه المعاوضة المحتملة للفسخ بالبيع والشراء في جواز فسخها بالتراضي.
ولنا: ما روي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم موقوفا عليهم ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلع تطليقة بائنة والمعنى فيه أن النكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه ألا ترى أنه لا يفسخ بالهلاك قبل التسليم فإن الملك الثابت به ضروري لا يظهر إلا في حق الاستيفاء وقد قررنا هذا في النكاح وبينا أن الفسخ بسبب عدم الكفاءة فسخ قبل التمام فكان في معنى الامتناع من الإتمام وكذلك في خيار البلوغ والعتق فأما الخلع يكون بعد تمام العقد والنكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه ولكن يحتمل القطع في الحال فيجعل لفظ الخلع عبارة عن رفع العقد في الحال مجازا وذلك إنما يكون بالطلاق ألا ترى أن الرجل يقول خلعت الخف من رجلي يريد به الفصل في الحال فأما الآية فقد ذكر الله تعالى التطليقة الثالثة بعوض وبغير عوض وبهذا لا يصير الطلاق أربعا وفائدة هذا الاختلاف أنه لو خالعها بعد تطليقتين عندنا

 

ج / 6 ص -142-       لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وعنده له أن يتزوجها وإن نوى بالخلع ثلاث تطليقات فهي ثلاث لأنه بمنزلة ألفاظ الكناية وقد بينا أن نية الثلاث تسع هناك فكذلك في الخلع وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة وعلى قول زفر رحمه الله تعالى اثنتان كما في لفظ الحرمة والبينونة وكذلك كل طلاق بجعل فهو بائن لأن الزوج ملك البدل عليها فتصير هي بمقابلته أملك لنفسها ولأن غرضها من التزام البدل أن تتخلص من الزوج ولا يحصل ذلك إلا بوقوع البينونة فإن قال الزوج لم أعن بالخلع طلاقا وقد أخذ عليه جعلا لم يصدق في الحكم لأنه أخذ الجعل على سبيل التملك ولا يتملك ذلك إلا بوقوع الطلاق عليها فكان ذلك أدل على قصده الطلاق من حال مذاكرة الطلاق ولكن فيما بينه وبين الله تعالى يسعه أن يقيم معها لأن الله تعالى عالم بما في سره إلا أنه لا يسع المرأة أن تقيم معه لأنها لا تعرف منه إلا الظاهر كالقاضي.
قال: والمبارأة بمنزلة الخلع في جميع ذلك لأنه مشتق من البراءة وهو أدل على قطع الوصلة من الخلع وإذا جعل الخلع تطليقة بائنة فالمبارأة أولى وللمختلعة والمبارأة النفقة والسكنى ما دامت في العدة هكذا نقل عن علي رضي الله عنه وهذا لأن النفقة لم تجب قبل مجيء وقتها فلا يتناولها الخلع والبراءة العامة وإنما ينصرف مطلق اللفظ إلى ما هو واجب.
قال: فإن كان الزوج اشترط عليها البراءة من النفقة والسكنى فهو بريء من النفقة لأنها أسقطت حقها ووجوب النفقة لها في العدة باعتبار حالة الفرقة حتى إذا كانت ممن لا تستحق النفقة عند ذلك لا تستحقه من بعد فيصح إسقاطها ولكن في ضمن الخلع تبعا له حتى لو أسقطت نفقتها بعد الخلع بإبراء الزوج عنها لا يصح ذلك لأنها مقصودة بالإسقاط فلا يكون إلا بعد وجوبها وهي تجب شيئا فشيئا بحسب المدة ولا يصح ابراؤها عن السكنى في الخلع لأن خروجها من بيت الزوج معصية قالوا ولو أبرأته عن مؤنة السكنى بأن سكنت في بيت نفسها أو التزمت مؤنة السكنى من مالها صح ذلك مشروطا في الخلع لأنه خالص حقها.
قال: والخلع جائز عند السلطان وغيره لأنه عقد يعتمد التراضي كسائر العقود وهو بمنزلة الطلاق بعوض وللزوج ولاية إيقاع الطلاق ولها ولاية التزام العوض فلا معنى لاشتراط حضرة السلطان في هذا العقد.
قال: وإن قال لامرأته قد خالعتك أو بارأتك أو طلقتك بألف درهم فالقبول إليها في مجلسها والحاصل أن إيجاب الخلع من الزوج في المعنى تعليق الطلاق بشرط قبولها لأن العوض الذي من جانبه في هذا العقد طلاق وهو محتمل للتعليق بالشرط ولهذا لا يبطل بقيامه عن المجلس ويصح منه وإن كانت غائبة حتى إذا بلغها فقبلت في مجلسها ثم وإن قامت من مجلسها قبل أن تقبل بطل ذلك بمنزلة تعليق الطلاق بمشيئتها وتمليك الأمر منها لأنها تقدر على المشيئة في مجلسها فيبطل بقيامها فكذلك تقدر على القبول قبل ذلك والذي من جانبها في الخلع التزام المال فيكون بمنزلة البيع والشراء لا يحتمل التعليق بالشرط حتى إذا بدأت

 

ج / 6 ص -143-       فقالت: اخلعني أو بارئني أو طلقني بألف درهم فإنه يبطل بقيامها عن المجلس قبل قبول الزوج وكذلك بقيام الزوج عن المجلس قبل القبول كما يبطل ايجاب البيع بقيام أحدهما عن المجلس قبل قبول الآخر وكذلك إن كان الزوج غائبا حين قالت هذه المقالة لا تتوقف على قبوله إذا بلغه كما لا يتوقف إيجاب البيع على قبول المشتري إذا كان غائبا.
قال: فإن قالت طلقني ثلاثا بألف درهم فطلقها واحدة فله ثلث الألف لأن حرف الباء يصحب الأبدال والأعواض والعوض ينقسم على المعوض فهي لما التمست الثلث بألف فقد جعلت بإزاء كل تطليقة ثلث الألف ثم فيما صنع الزوج منفعة لها لأنها رضيت بوجوب جميع الألف عليها بمقابلة التخلص من زوجها فتكون أرضى بوجوب ثلث الألف عليها إذا تخلصت من زوجها وبالواحدة تتخلص منه وهذا بخلاف ما لو كان الزوج قال لها أنت طالق ثلاثا بألف فقبلت واحدة لم يقع شيء لأنه لو وقعت الواحدة لوقعت بثلث الألف والزوج ما رضي بزوال ملكه عنها ما لم يجب عليها جميع الألف وبخلاف ما لو قال هذه طالق وهذه بألف فقبلت إحداهما وقع الطلاق عليها بنصف الألف لأن الزوج هناك راض بوقوع الفرقة بينه وبين إحداهما إذا وجبت عليها حصتها من المال فإن نكاح إحداهما لا يتصل بنكاح الأخرى.
قال: ولو طلقها ثلاثا في كلام متفرق في مجلس واحد في القياس يلزمها ثلث الألف لأنها بانت بالأولى فلزمها ثلث الألف فهو بإيقاع الثانية والثالثة بعد ذلك لا يستوجب عليها عوضا آخر وفي الاستحسان يقع عليها ثلاث تطليقات بجميع الألف لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة ويجعلها ككلام واحد فكأنه أوقع الثلاث عليها بكلام واحد فيلزمها جميع الألف.
قال: ولو كانت قالت له طلقني ثلاثا على ألف درهم أو على أن لك علي ألف درهم فطلقها واحدة قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى تقع تطليقة رجعية وليس عليها شيء من الألف وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع عليها تطليقة بائنة بثلث الألف وحجتهما في ذلك أن الخلع من عقود المعاوضات وحرف على في المعاوضات كحرف الباء ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول بعت منك هذا المتاع بدرهم أو على درهم وكذلك لا فرق بين أن يقول احمل هذا المتاع إلى موضع كذا بدرهم أو على درهم فإذا كان عند حرف الباء تتوزع الألف على التطليقات الثلاث فكذلك عند ذكر حرف على يدل عليه أنها لو قالت طلقني وفلانة على ألف درهم فطلقها وحدها كان عليها حصتها من المال بمنزلة ما لو التمست بحرف الباء فكذلك هنا وهذا بخلاف ما قال في السير الكبير إذا صالح الإمام أهل حصن على أن يؤمنهم ثلاث سنين على ألف درهم ثم بدا له بعد مضي السنة أن ينبذ إليهم يلزمه رد جميع المال ولو كان الصلح بحرف الباء يلزمه رد ثلثي المال لأن اعطاء الأمان ليس بعقد معاوضة وحرف على للشرط فجعله بمنزلة الباء مجاز يصار إليه لدلالة المعاوضة ولأن غرضهم لا يحصل هناك فمقصودهم أن يتحصنوا في هذه المدة ولا يتمكنوا من ذلك في بعض المدة فلهذا حملنا حرف على على الشرط وهنا مقصودها يحصل بإيقاع الواحدة فكان

 

ج / 6 ص -144-       محمولا على المعاوضة بمنزلة حرف الباء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول حرف على للشرط حقيقة لأنه حرف الالتزام ولا مقابلة بين الواقع وبين ما التزم بل بينهما معاقبة كما يكون بين الشرط والجزاء فكان معنى الشرط فيه حقيقة والتمسك بالحقيقة واجب حتى يقوم دليل المجاز والطلاق مما يحتمل التعليق بالشرط فلا حاجة إلى العدول من الحقيقة إلى المجاز فإذا كان محمولا على الحقيقة والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزء فجزء فإنما شرطت لوجوب المال عليها إيقاع الثلاث فإذا لم يوقع لا يجب شيء من المال ولأن لها في ذلك غرضا صحيحا وهو حصول البينونة الغليظة حتى لا تصير في وثاق نكاحه وإن أكرهها على ذلك فاعتبرنا معنى الشرط في ذلك ليحصل مقصودها كما في مسألة الأمان وكما أن المال في الأمان نادر فكذلك في الطلاق الغالب فيه الإيقاع بغير بدل وبهذا فارق البيع والإجارة لأن معنى الشرط هناك تعذر اعتباره فإنه لا يحتمل التعليق بالشرط فلهذا جعلنا حرف على بمعنى حرف الباء والدليل على أن حرف على للشرط قوله تعالى: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ . حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 104- 105]  أي بشرط أن لا أقول وقال الله تعالى: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة: 12] أي بشرط أن لا يشركن وهذا بخلاف قوله طلقني وفلانة على كذا لأنه لا غرض لها في طلاق فلانة لتجعل ذلك كالشرط منها ولها في اشتراط إيقاع الثلاث غرض صحيح كما بينا وإن طلقها ثلاثا في هذه المسألة متفرقات في مجلس واحد فالألف لازمة عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى قياسا واستحسانا لأن شيئا من البدل لم يجب بإيقاع الأولى والثانية والمجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة وعندهما على القياس والاستحسان الذي بينا في حرف الباء.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته وهي في العدة بعد الخلع على جعل وقع الطلاق ولم يثبت الجعل وكذلك البائنة بعد الخلع يعني إذا قال لها أنت بائن ثم طلقها على جعل في العدة لأنها باعتبار قيام العدة محل للطلاق والطلاق يجعل تعليقا من الزوج بشرط القبول وقد قبلت ولا يجب عليها الجعل لأن وجوب الجعل عليها باعتبار زوال ملك الزوج عنها وذلك لا يحصل بعد البينونة ولكن امتناع وجوب المقبول لا يمنع صحة القبول في حكم وقوع الطلاق كما لو خالعها ببدل فاسد كالخمر والخنزير.
قال: وإن قال لها بعد البينونة خلعتك ينوي به الطلاق لم يقع لأن هذا اللفظ بمنزلة لفظ البينونة والحرمة وقد بينا أن ذلك لا يعمل في العدة بعد الفرقة فكذلك لفظ الخلع ألا ترى أن الواقع بلفظ الخلع يكون بائنا وإن لم يذكر البدل بمقابلته بخلاف الواقع بلفظ الطلاق ولو قال كل امرأة لي طالق لم تطلق هذه المبانة إلا أن يعنيها فإن عناها طلقت لأنه أوقع بهذا اللفظ على كل امرأة هي مضافة إليه مطلقا وهي المنكوحة فإنها تضاف إليه ملكا ويدا فأما المبانة تضاف إليه يدا لا ملكا فكانت مقيدة فلا تدخل تحت المطلق إلا أن يعنيها كما لو قال كل مملوك لي فهو حر لا يدخل المكاتب فيه إلا أن يعنيه ولا يقع شيء من الطلاق بعد انقضاء

 

ج / 6 ص -145-       العدة لأنه ليس له عليها ملك ولا يد وبدونهما لا تكون محلا لإضافة الطلاق إليها لأن الإيقاع تصرف منه على المحل فيستدعي ولايته على المحل.
قال: وإن طلقها على جعل بعد الطلاق الرجعي جاز ولزمها الجعل لأن زوال الملك لا يحصل بهذا الطلاق لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح فإنه يعتاض عن ملك قائم له فيصح كما قبل الطلاق الرجعي.
قال: وخلع السكران وطلاقه وعتاقه واقع عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى لا يقع وهو اختيار الكرخي والطحاوي وقد نقل ذلك عن عثمان وهذا لأنه ليس للسكران قصد صحيح والإيقاع يعتمد القصد الصحيح ولهذا لا يصح من الصبي والمجنون ألا ترى أنه لو سكر من شرب البنج لم يقع طلاقه فكذلك إذا سكر من النبيذ ولأن غفلته عن نفسه فوق غفلة النائم فإن النائم ينتبه إذا نبه والسكران لا ينتبه ثم طلاق النائم لا يقع فطلاق السكران أولى ولا معنى لقول من يقول غفلته هنا بسبب المعصية وذلك سبب للتشديد عليه لا للتخفيف فإن السكران لو ارتد لم تصح ردته بالإتفاق ولا تقع الفرقة بينه وبين امرأته ولو اعتبر هذا المعنى لحكم بصحة ردته وحجتنا ما روينا كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه ولأن السكران مخاطب فإذا صادف تصرفه محله نفذ كالصاحي ودليل الوصف قوله تعالى:
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فإن كان خطابا له في حال سكره فهو نص وإن كان خطابا له قبل سكره فهو دليل على أنه مخاطب في حال سكره لأنه لا يقال إذا جننت فلا تفعل كذا وهذا لأن الخطاب إنما يتوجه باعتدال الحال ولكنه أمر باطن لا يوقف على حقيقته فيقام السبب الظاهر الدال عليه وهو البلوغ عن عقل مقامه تيسيرا وبالسكر لا ينعدم هذا المعنى فإذا ثبت أنه مخاطب قلنا غفلته عن نفسه لما كانت بسبب هو معصية ولا يستحق به التخفيف لم يكن ذلك عذرا في المنع من نفوذ شيء من تصرفاته بعد ما تقرر سببه لأن بالسكر لا يزول عقله إنما يعجز عن استعماله لغلبة السرور عليه بخلاف البنج فإن غفلته ليست بسبب هو معصية وما يعتريه نوع مرض لا أن يكون سكرا حقيقة فيكون بمنزلة الإغماء وبخلاف النائم لأن النوم يمنعه من العمل فلانعدام الإيقاع نقول إنه لا يقع والسكر لا يمنعه من العمل مع أن الغفلة بسبب النوم لم تكن عن معصية وهذا بخلاف الردة فإن الركن فيها الاعتقاد والسكران غير معتقد لما يقول فلا يحكم بردته لانعدام ركنها لا للتخفيف عليه بعد تقرر السبب.
قال: وخلع المكره وطلاقه وعتاقه جائز عندنا وهو باطل عند الشافعي رحمه الله تعالى فتأثير الإكراه عنده في إلغاء عبارة المكره كتأثير الصبي والجنون وعندنا تأثير الإكراه في انعدام الرضا لا في اهدار القول حتى تنعقد تصرفات المكره ولكن ما يعتمد لزومه تمام الرضا كالبيع والشراء لا يلزم منه وما لا يعتمد تمام الرضا كالنكاح والطلاق والعتاق يلزم منه وحجته في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فهذا يقتضي أن عين ما

 

ج / 6 ص -146-       أكره عليه فحكمه وإثمه يكون مرفوعا عنه والمعنى فيه أن هذه فرقة يعتمد سببها القول فلا تصح من المكره كالردة وتأثيره أن القول إنما يعتبر شرعا إذا صدر عن قصد صحيح وبسبب الاكراه ينعدم ذلك القصد لأن المكره يقصد دفع الشر عن نفسه لا عين ما تكلم به وهو مضطر إلى هذا القصد والاختيار أيضا فيفسد قصده شرعا ألا ترى أنه لو أكره على الاقرار بالطلاق كان اقراره لغوا لهذا يقرره أن تأثير الاكراه المبيح للاقدام في جعل المكره آلة للمكره وإعدام الفعل من المكره كما في الإكراه على إتلاف المال فيجعل المكره آلة ويصير كأن المكره هو الذي تكلم بالإيقاع فيكون لغوا ألا ترى أن حق إبقاء قدر الملك على المكره جعل كالآلة حتى يكون المكره ضامنا قيمة عبده عندكم إذا أكرهه على أن يعتقه ويكون ضامنا نصف الصداق إذا أكرهه على الطلاق قبل الدخول فكذلك في إبقاء عين الملك عليه يجعل آلة له وحجتنا في ذلك ما روي أن امرأة كانت تبغض زوجها فوجدته نائما فأخذت شفرة وجلست على صدره ثم حركته فقالت لتطلقني ثلاثا أو لأذبحنك فناشدها الله تعالى فأبت فطلقها ثلاثا ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم "لا قيلولة في الطلاق" واستكثر محمد من الاستدلال بالآثار في أول كتاب الإكراه حتى روي عن عمر رضي الله عنه قال أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رديد النكاح والطلاق والعتاق والصدقة والمعنى فيه أنه مكلف أوقع الطلاق في محله فيقع كالطائع وتفسير الوصف أن الإكراه لا يزيل الخطاب أما في غير ما أكره عليه فلا إشكال وفيما أكره عليه كذلك حتى تنوع عليه أفعاله فتارة يباح له الإقدام وتارة يفترض عليه كشرب الخمر وتارة يحرم عليه كالقتل والزنا وذلك لا يكون إلا باعتبار الخطاب وتأثيره أن انعقاد التصرف بوجود ركنه ومحله ولا ينعدم بسبب الإكراه ذلك إنما ينعدم الرضا به والرضا ليس بشرط لوقوع الطلاق ألا ترى أن الرضا باشتراط الخيار ينعدم ولا يمنع لزوم الطلاق فكذلك الإكراه وبسبب الإكراه لا ينعدم القصد الصحيح فإن المكره يقصد ما باشره ولكن لغيره وهو دفع الشر عن نفسه لا لعينه فهو كالهازل يكون قاصدا التكلم بالطلاق ولكن للعبث لا لعينه ثم الهزل لا يمنع وقوع الطلاق فكذلك الإكراه وللمكره اختيار صحيح لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما وهذا دليل صحة اختياره إلا أنه لا يحكم بصحة ردته لأنها تنبني على الاعتقاد وهو غير معتقد وفيما يخبر به عن اعتقاده مكره فذلك دليل ظاهر على أنه غير معتقد بخلاف الهازل فإنه مستخف بالدين والاستخفاف بالدين كفر وبخلاف الإقرار بالطلاق فإنه خبر متمثل بين الصدق والكذب وقيام السبب على رأسه دليل على أنه كاذب والمخبر به إذا كان كذبا فالإخبار عنه لا يصير صدقا ولا معنى لجعل المكره آلة للمكره هنا لأنه إنما يجعل بالإكراه آلة فيما يصلح أن يكون فيه آلة لغيره دون ما لا يصلح أن يكون كذلك وفي التكلم لا يصلح أن يكون آلة لغيره إذ لا يتحقق تكلم المرء بلسان غيره فبقي مقصورا عليه ولكن في حكم الإتلاف يصلح أن يكون آلة لغيره فلهذا كان الضمان على المكره مع

 

ج / 6 ص -147-       أن الخلاف ثابت في الإكراه بالحبس وهذا النوع من الإكراه لا يجعل المكره آلة للمكره والمراد بالحديث رفع الإثم عن المكره لا رفع العين والحكم ألا ترى أنه لو أكره أن يجامع أم امرأته وجب عليه الغسل وحرمت عليه امرأته بذلك.
قال: وخلع الصبي وطلاقه باطل لأنه ليس له قصد معتبر شرعا خصوصا فيما يضره وهذا لما بينا أن اعتبار القصد ينبني على الخطاب والخطاب ينبني على اعتدال الحال وكذلك فعل أبيه عليه في الطلاق باطل لأن الولاية إنما تثبت على الصبي لمعنى النظر له ولتحقق الحاجة إليه وذلك لا يتحقق في الطلاق والعتاق.
قال: والمعتوه والمغمى عليه من مرض بمنزلة الصبي في ذلك لانعدام القصد الصحيح منهما.
قال: وإذا اختلعت الصبية من زوجها الكبير فالطلاق واقع عليها لأن الزوج من أهل الإيقاع وإيجاب الخلع تعليق الطلاق بشرط قبولها وقد تحقق القبول منها فيقع كما لو قال لها إن تكلمت فأنت طالق فتكلمت ولكن لا يلزمها المال لأن التزام المال من الصبية لا يصح خصوصا فيما لا منفعة لها فيه كالإلتزام بالإقرار والكفالة وقد بينا أن وقوع الطلاق يعتمد القبول لا وجود المقبول وكذلك الأمة إذا اختلعت من زوجها بغير إذن المولى فالطلاق واقع عليها ولا تؤاخذ بالمال إلا بعد العتق لأنها مخاطبة يصح التزامها في حق نفسها دون المولى فتؤاخذ به بعد العتق كما لو التزمت بالإقرار والكفالة وإن فعلته بإذن المولى سعت فيه لأن التزامها المال بإذن المولى صحيح في حق المولى فتؤاخذ به في الحال والمدبرة وأم الولد في ذلك سواء كالأمة إلا أنها لا تحتمل البيع فتؤدي البدل من كسبها إذا التزمت بإذن المولى فأما المكاتبة لا تؤاخذ ببدل الخلع إلا بعد العتق سواء اختلعت بإذن المولى أو بغير إذنه لأن إذن المولى غير معتبر في إلزام المال إياها ألا ترى أن المولى لا يملك أن يلزمها المال ولا تأثير للكتابة في فك الحجر عن التزام المال بسبب الخلع فلهذا تؤاخذ به بعد العتق.
قال: وإذا وكل أحد الزوجين صبيا أو معتوها أو مملوكا بالقيام مقامه بالخلع والاختلاع جاز ذلك لأن الوكيل بهذا العقد سفير معبر عن الموكل ولهؤلاء عبارة معتبرة حتى ينفذ تصرفهم بإذن المولى فينفذ العقد بعبارتهم أيضا.
قال: وإذا خلع الرجل ابنته الصغيرة من زوجها على صداقها ولم يدخل بها فإن لم يضمن الأب فهو باطل لأنه ليس له ولاية الزام المال إياها بهذا السبب إذ لا منفعة لها فيه ولا يدخل في ملكها بمقابلته شيء بخلاف ما لو زوج ابنه الصغير بماله فإن ذلك العقد من مصالحه ويدخل في ملكه شيء متقوم بإزاء ما يلزمه من المال فإن ضمن الأب المال جاز الخلع لأن الزوج ينفرد بالإيقاع واشتراط القبول في الخلع لأجل المال فإذا كان الأب هو الملتزم للمال بضمانه يتم الخلع كما لو خالع امرأته مع أجنبي على مال وضمن الأجنبي من أصحابنا من يقول تأويل هذه المسألة إذا خالعها على مال مثل الصداق فأما إذا خالعها على

 

ج / 6 ص -148-       الصداق ينبغي أن لا يصح لأنه عين ملكها وليس للأب ولاية اخراج عين عن ملكها بغير عوض ولا معتبر بضمانة في ذلك ولكنا نقول وإن سمى الصداق في الخلع فإنما يتناول العقد مثله فضمان الأب إياه صحيح وإسقاطه حقها في نصف الصداق باطل فيغرم الزوج لها نصف الصداق كما لو طلقها قبل الدخول ويرجع الزوج على الأب بما يضمن من ذلك لأنه قد ضمن للزوج وإن كان قد دخل بها فلها أن ترجع بجميع مهرها على الزوج لأن حقها في جميع المهر تأكد بالدخول فلا يملك الأب إبطال حقها عن شيء منه ولكنها ترجع بالصداق على الزوج والزوج على الأب بحكم الضمان أو ترجع على الأب بجميع الصداق هنا وبنصف الصداق في الأول لأن الأب يصير كالمعاوض مع الزوج بما ضمنه للزوج مما لها عليه.
قال: ولو كانت كبيرة فإن كان خلع الأب بإذن البنت جاز ذلك عليها وإن كان بغير إذنها وقد ضمن الأب للزوج فالخلع جائز وترجع هي بالصداق على زوجها ثم الزوج على الأب بحكم ضمانه لأنه ليس له ولاية المعاوضة في مالها.
قال: وكل خلع كان بجعل فامتنع وجوب الجعل أما لفساده كالخمر أو لأن الملتزم لم يكن من أهله كالصغيرة فالواقع به طلاق بائن لأن لفظ الخلع ليس بصريح في الطلاق ولكنه يشبه الفرقة كالبينونة والحرمة وكل تطليقة أو تطليقتين بجعل أبطلت الجعل وأمضيت فيه الطلاق فالطلاق رجعي إذا كان قد دخل بها لأن الوقوع بصريح لفظ الطلاق فلا يوجب البينونة إلا بعوض ولم يجب العوض.
قال: ولو خلع ابنته الكبيرة بصداقها وضمنه للزوج فبلغها فأجازت لم يضمن الأب شيئا لأن إجازتها في الانتهاء كإذنها في الابتداء وكذلك لو خلعها بالنفقة وضمنها له بغير أمرها فإن أجازت فلا شيء على الأب وإن أبت فلها أن تتبع الزوج بالنفقة لأنها حقها كالصداق فلا يعمل إسقاط الأب لحقها ويرجع الزوج على الأب بما ضمن له من ذلك وكذلك لو فعل هذا غير الأب من الأقارب والأجانب لأنه لا ولاية للأب عليها في هذا التصرف فهو والأجنبي فيه سواء.
قال: وإذا اختلعت بمال ودفعته إليه ثم أقامت البينة أنه طلقها ثلاثا قبل الخلع كان لها أن ترجع عليه بالمال لأنه تبين بهذا أن البينونة لم تحصل بما التزمت من المال فلا يكون التزامها صحيحا وإقدامها على الخلع لا يمنعها من إقامة هذه البينة لأن دعواها في قبول البينة على الطلاق ليس بشرط فالتناقض منها لا يمنع قبول البينة وكذلك لو أقامت البينة على حرمة بنسب أو رضاع أو مصاهرة.
قال: وإذا قالت المرأة اخلعني ولك ألف درهم أو قالت طلقني ولك ألف درهم ففعل وقع الطلاق ولم يجب المال عليها عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجب المال لوجهين أحدهما أن الواو وإن كان للعطف حقيقة فقد يستعمل بمعنى الباء مجازا كما في القسم فإن قوله والله كقوله بالله فقولها ولك ألف بمنزلة قولها طلقني

 

ج / 6 ص -149-       بألف أو بعني طلاقي بألف وإنما حملناه على هذا المجاز لمعنى المعاوضة لأن الخلع معاوضة وفي المعاوضات لا يعطف أحد العوضين على الآخر إنما يلصق أحدهما بالآخر ألا ترى أنه لو قال احمل هذا المتاع إلى بيتي ولك درهم كان هذا وقوله احمله بدرهم سواء حتى يجب المال إذا حمله ولأن هذا الواو بمعنى واو الحال كقول المولى لعبده اد إلي ألفا وأنت حر وقول الغازي للمحصور افتح الباب وأنت آمن وقد بينا فيما سبق أن الواو قد تكون للحال كما في قوله أنت طالق وأنت مريضة وإذا كانت للحال كانت هي ملتزمة المال له حال إيقاع الطلاق عليها وذلك لا يكون إلا عوضا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الواو للعطف حقيقة والحمل على الحقيقة واجب حتى يقوم الدليل على المجاز وباعتبار العطف تبين أن الألف ليس بعوض عن الطلاق ولا وجه لحملها على الباء أو واو الحال لمعنى المعاوضة لأن المال في الطلاق نادر والمعتاد فيه الإيقاع بغير عوض بخلاف الإجارة فالعوض فيه أصل لا تصح الإجارة بدونه وبخلاف قوله أد إلي ألفا وأنت حر لأن أول كلامه هناك غير مفيد شرعا إلا بآخره فإنه يصير به تعليقا للعتق بأداء المال وهنا أول الكلام إن صدر من الزوج بأن قال أنت طالق وعليك ألف درهم كان ايقاعا مفيدا بدون آخره فلا حاجة إلى أن يحمله على الحال وإن صدر منها فهو التماس مفيد أيضا فلهذا لا يحمل على واو الحال بل هو بمعنى العطف فمعناه ولك ألف درهم في بيتك أو بمعنى الابتداء فيكون وعدا منها إياه بالمال والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم ولأن أدنى ما يكون في الباب أن يكون حرف الواو محتملا لجميع ما ذكرنا فالمال بالشك لا يجب.
قال: وإذا قالت طلقني ولك ألف درهم فقال أنت طالق على هذه الألف التي سميت فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الطلاق واقع والمال عليها قبلت أو لم تقبل لأنها بالكلام الأول ملتزمة للمال عندهما فبقي وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بالكلام الأول لم تكن ملتزمة للمال فبقي إيقاع الزوج عليها بمال ابتداء فإن قبلت وقع الطلاق ولزمها المال وإن لم تقبل لا يقع عليها شيء ولو قالت طلقني ثلاثا على أن لك علي ألف درهم فطلقها ثلاثا لزمها المال لأنها صرحت بحرف على وهو لالتزام المال ولو كان طلقها اثنتين قبل هذا فقالت طلقني ثلاثا على أن لك ألفا فطلقها واحدة لزمها الألف لأن الألف بإزاء ما يصح فيه التماسها من الزوج وذلك إيقاع ما ليس بواقع وهي التطليقة الثالثة فأما إيقاع ما هو واقع لا يتحقق فكان تكلمها به لغوا غير معتد به ولأنها التزمت المال لحصول البينونة الغليظة لها وقد تم ذلك بإيقاع الثالثة.
قال: وإذا قال الرجل طلقتك أمس بألف درهم أو على ألف درهم فلم تقبلي وقالت قد قبلت فالقول قول الزوج مع يمينه لأن إيجاب الطلاق بمال تعليق بقبولها فالزوج أقر بالتعليق وأنكر وجود الشرط فكان القول قوله كما لو علق بدخولها فقالت قد دخلت وأنكر الزوج ذلك وهذا بخلاف البيع إذ قال قد بعت منك هذا العبد أمس بألف درهم فلم

 

ج / 6 ص -150-       تقبل وقال المشتري قد قبلت فالقول قول المشتري لأن البيع عقد معاوضة لا ينعقد إلا بإيجاب وقبول فاقراره بالبيع يكون إقرارا بقبول المشتري فلا يعمل رجوعه عن الإقرار بعد ذلك فأما ايجاب الطلاق بمال يكون تصرفا عند الايقاع وهو التعليق بمنزلة اليمين ولهذا لا يبطل بقيامه قبل قبولها فلم يكن هو مقرى بالإيقاع أصلا فجعلنا القول قوله مع يمينه لهذا.
قال: وإذا قال لها قد طلقتك واحدة بألف درهم وقبلت وقالت هي إنما سألتك أن تطلقني ثلاثا بألف درهم وإنما طلقتني واحدة فإنما لك ثلث الألف فالقول قولها مع يمينها لأنهما اتفقا على وقوع الواحدة عليها وإنما تنازعا في المال فهو يدعي الزيادة عليها وهي تنكر فالقول قولها وكذلك لو قالت سألتك أن تطلقني بمائة درهم وقال الزوج بل بألف فالقول قولها لما بينا أن الاختلاف في مقدار المال الواجب عليها فإن أقاما البينة فالبينة بينة الزوج لأنه يثبت الزيادة ببينته في حقه والبينة للإثبات فتترجح بالزيادة فيه وكذلك لو قالت خلعتني بغير شيء وقال الزوج بل بألف فالقول قولها والبينة بينة الزوج لما قلنا.
قال: وإذا اتفقا على أنها سألت أن يطلقها ثلاثا بألف درهم فقالت طلقتني واحدة وقال الزوج طلقتك ثلاثا فالقول قول الزوج إن كان في ذلك المجلس لأنه أخبر بما يملك إنشاءه وقد بينا أنه لو طلقها ثلاثا متفرقات في المجلس يلزمها الألف فلا تتمكن التهمة في خبره.
قال: ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق حصلت له جميع الألف فإن كانا قد افترقا من ذلك المجلس لزمها الطلاق إن كانت في العدة لإقرار الزوج بوقوع الطلاق عليها وهو مالك للإيقاع ولا يكون عليها إلا ثلث الألف لأنه في حق المال متهم في خبره فإنه يخبر بما يملك إنشاءه فكان القول قولها مع يمينها وعليه إثبات الزيادة بالبينة.
قال: وإذا قالت المرأة سألتك أن تطلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقتني واحدة ولا شيء لك وقال هو بل سألتني واحدة على ألف وقد طلقتكها فالقول في ذلك قول المرأة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا شيء عليها لأنها تنكر وجوب المال بناء على ما تقدم إذا قالت طلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقها واحدة لا يجب عليها شيء عند أبي حنيفة رحمه الله وإن قالت سألتك أن تطلقني ثلاثا بألف درهم فلم تطلقني في ذلك المجلس وقال الزوج قد طلقتك ثلاثا في ذلك المجلس فالثلاث واقعات عليها لإقرار الزوج بها والقول في المال قولها مع يمينها إما لإنكارها وجوب المال أو لإنكارها الزيادة على الثلاث إن أقرت أنه طلقها واحدة في ذلك المجلس وإن قالت سألتك أن تطلقني أنا وصاحبتي فلانة على ألف درهم فطلقتني وحدي وقال الزوج طلقتها معك وقد افترقا من ذلك المجلس فالقول قول المرأة وعليها حصتها من الألف لأن الاختلاف بينهما في مقدار ما عليها من المال والزوج مخبر بما لا يملك إنشاءه في حق المال ولكن الطلاق واقع على الأخرى بإقرار الزوج لأنه ينفرد بالإيقاع عليها

 

ج / 6 ص -151-       وكذلك إن قالت لم تطلقني ولا صاحبتي في ذلك المجلس فالقول قولها مع يمينها لإنكارها أصل المال وعلى الزوج أن يثبت المال بالبينة ولكن الطلاق واقع عليها بإقرار الزوج.
قال: وإذا خلع الرجل امرأتيه على ألف درهم فإن الألف تنقسم على مهريهما الذي تزوجهما عليهما لأنه سمى الألف بمقابلة شيئين ومقتضى هذه التسمية الإنقسام باعتبار القيمة كما لو اشترى عبدين بألف درهم إلا أن البضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم فوجب المصير إلى أقرب الأشياء إليه وذلك المهر الذي تزوجها عليه ألا ترى أن في الكتابة الفاسدة على العبد قيمة نفسه بعد ما يعتق لأن ما هو المعقود عليه هو ملك اليد والمكاسب ليست بمتقومة فيصار إلى قيمة أقرب الأشياء إليه وهو الرقبة ثم الأصل في الخلع إن النشوز إذا كان من الزوج فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا بإزاء الطلاق لقوله تعالى
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] إلى أن قال {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] وإن كان النشوز من قبلها فله أن يأخذ منها بالخلع مقدار ما ساق إليها من الصداق لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولو أراد أن يأخذ منها زيادة على ما ساق إليها فذلك مكروه في رواية الطلاق وفي الجامع الصغير يقول لا بأس بذلك وجه هذه الرواية ما روي أن جميلة بنت سلول رحمها الله تعالى كانت تحت ثابت بن قيس رحمه الله تعالى فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا أعيب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق ولكني أخشى الكفر في الإسلام لشدة بغضي إياه فقال صلى الله عليه وسلم "أتردين عليه حديقته" فقالت نعم وزيادة فقال صلى الله عليه وسلم "أما الزيادة فلا" وروي أنه قال لثابت: "أخلعها بالحديقة ولا تزدد" ولأنه لا يملكها شيئا إنما يرفع العقد فيحل له أن يأخذ منها قدر ما ساق إليها بالعقد ولا يحل له الزيادة على ذلك ووجه رواية الجامع الصغير ما روي أن امرأة ناشزة أتى بها عمر رضي الله عنه فحبسها في مزبلة ثلاثة أيام ثم دعاها وقال كيف وجدت مبيتك فقالت ما مضت علي ليال هن أقر لعيني من هذه الليالي لأني لم أره فقال عمر رضي الله عنه وهل يكون النشوز إلا هكذا إخلعها ولو بقرطها وعن ابن عمر رضي الله عنه أن مولاة اختلعت بكل شيء لها فلم يعب ذلك عليها وعن ابن عباس رضي الله عنه لو اختلعت بكل شيء لأجزت ذلك وهذا لأن جواز أخذ المال هنا بطريق الزجر لها عن النشوز ولهذا لا يحل إذا كان النشوز من الزوج وهذا لا يختص بما ساق إليها من المهر دون غيره فأما في الحكم الخلع صحيح والمال واجب في جميع الفصول عندنا وعند نفاة القياس لا يجب المال إذا كان النشوز من الزوج ولا تجب الزيادة إذا كان النشوز منها لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229] إلى أن قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وقال بن جريج يعني في الزيادة والاعتداء يكون ظلما والمال لا يجب بالظلم ولكنا نستدل بما روينا من الآثار وتأويل الآية في الحل والحرمة لا في منع وجوب أصل المال.
قال: وإذا قالت المرأة لزوجها إن طلقتني ثلاثا فلك علي ألف درهم فقال نعم سأطلقك

 

ج / 6 ص -152-       فلا شيء له حتى يفعل لأنها التزمت المال بمقابلة الإيقاع دون الوعد فإن فعل ذلك في المجلس فله الألف وإن لم يفعل في المجلس فلا شيء له والطلاق واقع لأن الذي من جهتها التزام المال بمنزلة إيجاب البيع لا يتوقف على ما وراء المجلس ولكن يبطل بالقيام عن المجلس قبل الإيقاع فإذا أوقع الطلاق بعد ذلك مطلقا وقع الطلاق لأن الزوج ينفرد به وكلامها وإن كان شرطا في الصورة ففي المعنى التزام العوض لأن التزام المال لا يحتمل التعليق بالشرط فهو نظير قوله إن عملت لي هذا العمل فلك علي ألف درهم يكون التزاما للعوض بطريق الإجارة.
قال: ولو قال لها أنت طالق ثلاثا إذا أعطيتني ألفا أو متى أعطيتني ألفا فهي امرأته على حالها حتى تعطيه ذلك لأنه علق الطلاق بشرط إعطاء المال فلا يقع بدونه ومتى أعطته في المجلس أو بعده فالطلاق واقع عليها لأن إذا ومتى للوقت فمعنى قوله إذا أعطيتني في الوقت الذي تعطينني وليس للزوج أن يمتنع منه إذا أتته به لا أنه يجبر على القبول ولكن إذا وضعته بين يديه طلقت وهو استحسان وفي القياس لا تطلق حتى يقبله الزوج وهو قول زفر رحمه الله تعالى وأصله في العتاق إذا قال لعبده إذا أديت إلي ألفا فأنت حر وجه القياس أن الحالف لا يجبر على إيجاد الشرط ووجه الإستحسان أن كلامه تعليق بالشرط صورة وإيجاب للطلاق بعوض معنى حتى إذا قبل المال كان الواقع بائنا ولو وجده زيوفا كان له أن يرد ويستبدل وهذا حكم المعاوضة والملتزم للعوض إذا خلى بين صاحبه وبين المال يصير قابضا فباعتبار الشرط قلنا لا حاجة إلى قبولها في المجلس وباعتبار المعاوضة قلنا إذا وضعت المال بين يديه طلقت وليس لها أن ترجع بشيء منه لأنها أدت المال عوضا عن الطلاق وقد سلم لها.
قال: ولو كان قال لها إن جئتني بألف درهم فأنت طالق فإن جاءت به في ذلك المجلس وقع الطلاق وإن تفرقا قبل أن تأتيه به بطل هذا القول لأن كلام الزوج تعليق بالشرط فيتم به من غير حاجة إلى قبولها ولكنها تتمكن من أداء المال في المجلس فقيامها قبل الأداء يكون مبطلا بمنزلة قوله إن شئت فأنت طالق وهما سواء في المعنى إلا أن ذلك تمليك الأمر منها بغير عوض وهذا تمليك الأمر منها بعوض فكما يبطل هناك بقيامها عن المجلس قبل المشيئة يبطل هنا بقيامها قبل الأداء.
قال: وإن قال لها أنت طالق على أن تعطيني ألف درهم أو على ألف درهم فهو سواء فإن قبلت في ذلك المجلس وقع الطلاق عليها والمال دين عليها تؤخذ به لأن كلام الزوج إيجاب للطلاق بجعل وليس بتعليق بشرط الإعطاء بمنزلة من يقول لغيره بعت منك هذا العبد على ألف درهم أو على أن تعطيني ألف درهم يكون إيجابا لا تعليقا فإذا وجد القبول في المجلس وقع الطلاق ووجب المال عليها بخلاف قوله إن جئتني أو إذا أعطيتني فإن هناك قد صرح بالتعليق بالشرط فما لم يوجد الشرط لا يقع الطلاق والدليل على الفرق أن هناك لو كان لها على الزوج ألف فاتفقا على جعل الألف قصاصا بما عليه لا يقع الطلاق وهنا يصير قصاصا بالدين الذي لها عليه وقد يجوز أن يثبت الحكم بالقبول مع التصريح بالإعطاء قال الله

 

ج / 6 ص -153-       تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} وبالقبول يثبت حكم الذمة فإذا ثبت أن الحكم هنا يتعلق بقبول المال يشترط القبول منها في المجلس فإذا لم تقبل حتى قامت فهو باطل وفيما تقدم لما كان الإعطاء شرطا فبجعله قصاصا بما عليه لا يصير الشرط موجودا قبل الإعطاء والمقاصة بين دينين واجبين ففي قوله إذا أعطيتني المال المال غير واجب عليها فلا يصير قصاصا وفي قوله أنت طالق على أن تعطيني المال يجب عليها بالقبول فيصير قصاصا فإذا لم يصر قصاصا في قوله إذا أعطيتني فرضي الزوج أن يوقع عليها طلاقا مستقبلا بالألف التي لها عليه فذلك جائز إذا قبلت وكان هذا منه لها ايجابا مبتدأ.
قال: وإن كان للرجل امرأتان فسألتاه أن يطلقهما على ألف أو بألف فطلق إحداهما لزم المطلقة حصتها من الألف أما في حرف الباء فلأنهما جعلتا الألف بدلا عن طلاقها فإذا طلق إحداهما فعليها حصتها وكذلك في حرف على لأنه لا منفعة لها في طلاق الضرة حتى يجعل شرطا ولأن أكثر ما في الباب إن كل واحدة منهما التزمت حصتها من الألف بشرط أن يطلق صاحبتها وإذا أبى كان هذا شرطا فاسدا إلا أن الخلع لا يبطل بالشرط الفاسد كالنكاح فإن طلق الأخرى في ذلك المجلس أيضا لزمتها حصتها من المال فإن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة فكان هذا وما لو طلقها بكلام واحد سواء وإن افترقوا قبل أن يطلق واحدة منهما بطل إيجابهما بالافتراق فإذا طلقهما بعد ذلك كان الطلاق واقعا بغير بدل.
قال: وإذا ادعت المرأة الخلع وأنكره الزوج فأقامت شاهدين شهد أحدهما بالخلع بألف والآخر بألف وخمسمائة فالشهادة باطلة لأنها تدعي أحد الأمرين لا محالة فتكون مكذبة للشاهد الآخر ولأن الخلع في جانبها قياس البيع وشهود البيع إذا اختلفوا في جنس الثمن أو في مقداره بطلت الشهادة فكذلك هنا إذا اختلفا في جنس الجعل كالعرض والعبد أو كالعرض والدراهم فالشهادة باطلة لأن كل واحد منهما شهد بالطلاق لعوض آخر ولا يمكن إيجاب واحد من العوضين عليها فلو حكم بالطلاق لحكم بالطلاق بغير عوض وقد اتفقا أن الزوج ما أوقع الطلاق بغير عوض.
قال: ولو كان الزوج هو المدعي للخلع والمرأة منكرة فشهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألف وخمسمائة فإن كان الزوج يدعي ألفا وخمسمائة جازت شهادتهما على الألف لأن الطلاق قد وقع بإقرار الزوج بقي منه دعوى المال ومن ادعى على غيره ألفا وخمسمائة فشهد له شاهدان شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة تقبل شهادتهما على الألف لاتفاق الشاهدين عليها لفظا ومعنى فإن ادعى الزوج الألف لم تجز شهادتهما لأن الزوج قد كذب أحد شاهديه وهو الذي شهد بألف وخمسمائة والمدعي إذا أكذب شاهده بطلت شهادته له والطلاق واقع بإقراره وكذلك إذا اختلفا في جنس الجعل لأن الزوج مكذب لأحدهما لا محالة فلا بد أن يدعي أحد الجنسين فإن شهد أحدهما بألف والآخر بخمسمائة فعند أبي حنيفة لا تقبل شهادتهما لاختلافهما لفظا وعندهما تقبل على الخمسمائة إذا ادعى الزوج الألف لاتفاقهما على مقدار الخمسمائة

 

ج / 6 ص -154-       معنى وقد بينا هذا فيما سبق ثم الأصل بعد هذا في باب الخلع أن البدل في الخلع بمنزلة الصداق في النكاح فإنه مال يلتزمه لا بمقابلة مال وقد بينا حكم الصداق في النكاح فالخلع قياسه إلا في فصول يذكر الفرق بينهما فيها حتى إذا اختلعت على دار فلا شفعة للشفيع فيها وإن اشترط أن يرد عليها ألفا مع ذلك ففي وجوب الشفعة في حصة الألف خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه كما في الصداق وليس في جعل الخلع خيار الرؤية ولا رد بعيب يسير كما في الصداق.
قال: وإذا اختلعت بما في بيتها من شيء فهو جائز وكلما يكون في بيتها في تلك الساعة فهو له لأن بالإشارة إلى المحل تنقطع المنازعة بينهما بسبب الجهالة وإن لم يكن فيه شيء فلا شيء له عليها لأنها لم تغر الزوج بتسمية الشيء فإنه ينطلق على ما لا قيمة له فلهذا لا يلزمها شيء وفي هذا الفصل في النكاح يجب مهر المثل ولكن باعتبار أن تسمية الشيء لغو من الزوج فكأنه تزوجها على غير مهر فلها مهر مثلها وهنا يصير كأنه خلعها بغير شيء فلا شيء عليها وهذا لأن البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم بمهر المثل ولا قيمة للبضع عند خروجه عن ملكه.
قال: وإذا اختلعت على ما في بيتها من متاع فله ما فيه فإن لم يكن فيه شيء رجع عليها بالمهر الذي أخذت منه لأنها غرته بتسمية المتاع فإنه اسم لما يكون متقوما منتفعا به فإذا لم يوجد في البيت شيء كان مغرورا من جهتها وللمغرور دفع الضرر عن نفسه بالرجوع على الغار ولا يمكن إثبات الرجوع بقيمة المتاع لكونه مجهول الجنس والقدر ولا بقيمة البضع لأنه عند الخروج من ملك الزوج غير متقوم فإنه لا يملكها شيئا إنما يسقط حقه عنها فكان أولى الأشياء ما ساق إليها من الصداق فإن الغرر يندفع عنه بالرجوع بذلك.
قال: وإن قالت اخلعني على ما في يدي من دراهم فإن كانت في يدها ثلاثة دراهم أو أكثر فله ذلك وإن لم يكن في يدها شيء فله ثلاثة دراهم لأنها سمت جميع الدراهم وأدنى الجمع المتفق عليه ثلاثة وليس لأقصاه نهاية فأوجبنا الأدنى وفي الصداق في هذا الفصل لها مهر مثلها لأن هناك الزوج يملك عليها ما هو متقوم فلها أن لا ترضى بالأدنى وفي معاوضة المتقوم بالمتقوم يجب النظر من الجانبين وفي تعيين الأدنى ترك النظر لها فلهذا أوجبنا مهر المثل وهنا الزوج لا يملكها شيئا متقوما فيتعين أدنى الجمع لكونه متيقنا ولأنها لما كانت تلتزم لا بعوض متقوم كان هذا في حقها قياس الإقرار والوصية ومن أقر لغيره بدراهم أو أوصي له بدراهم يلزمه ثلاثة وإن كان في يدها درهمان تؤمر بإتمام ثلاثة دراهم له لأنها فيما التزمت ذكرت لفظ الجمع وفي المثنى معنى الجمع وليس بجمع مطلق فإن التثنية غير الجمع.
فإن قيل قد ذكرت في كلامها حرف من وهو للتبعيض والدرهمان بعض الجمع فينبغي أن لا يلزمها إلا ما في يدها كما قال في الجامع إذا قال إن كان ما في يدي من الدراهم إلا ثلاثة فعبده حر وفي يده أربعة دراهم كان حانثا.

 

ج / 6 ص -155-       قلنا: نعم حرف من قد يكون للتبعيض وقد يكون صلة كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} وقال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] ففي كل موضع يصح الكلام بدون حرف من كان حرف من فيه صلة لتصحيح الكلام كما في مسألة الخلع فإنها لو قالت اخلعني على ما في يدي دراهم كان الكلام مختلا وحرف من صلة لتصحيح الكلام ويبقى منها لفظ الجمع فلهذا يلزمها ثلاثة دراهم والدنانير والفلوس في هذا قياس الدراهم.
قال: وإن اختلعت منه بما في نخلها من ثمرة وليس فيها شيء فله المهر الذي أعطاها لأنها غرته بتسمية الثمرة وهو اسم لمال متقوم وإن اختلعت منه بما يثمر نخلها العام فهو جائز فإن أثمرت فله ذلك وإن لم تثمر شيئا فلا شيء له في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ثم رجع فقال يرجع عليها بما أعطاها من المهر أثمرت أو لم تثمر ولا شيء له من الثمرة وهو قول محمد رحمه الله تعالى وجه قوله الأول أنها لم تغره بشيء ولكنها أوجبت له ما يثمر نخلها العام فكان هذا بمنزلة الإيجاب بطريق الوصية ومن أوصى بما تثمر نخيله العام فإن أثمرت فهي للموصى له وإن لم تثمر فلا شيء له فهذا مثله وجه قوله الآخر أنها تلتزم بدل الخلع عوضا وإن لم يكن بمقابلته ما هو متقوم والثمار المعدومة لا تصلح عوضا في شيء من العقود فيبقى مجرد تسمية ما هو متقوم منتفع به وذلك بمنزلة الغرور منها وذلك يثبت حق الرجوع بما أعطاها وهذا لأن الغرور ثابت هنا معنى لما تعذر تسليم المسمى له شرعا فهو بمنزلة ما لو وجد الغرور منها صورة بأن سمت المتاع الذي في يدها وليس في يدها متاع فيرجع عليها بما أعطاها.
قال: وإن اختلعت منه بما في بطن جاريتها أو على ما في بطون غنمها فهو جائز وله ما في بطونها بخلاف الصداق فإن في مسئلته يجب مهر المثل لها لأن ما في البطن ليس بمال متقوم في الحال ولكن باعتبار المآل هو مال بعد الانفصال إلا أن أحد العوضين في باب النكاح لا يحتمل التعليق بالشرط فكذلك العوض الآخر ولا يمكن تصحيح التسمية في الحال لأن المسمى ليس بمال ولا باعتبار المآل لأنه في معنى الإضافة أو التعليق بالانفصال فكان لها مهر مثلها وأما في الخلع أحد العوضين وهو الطلاق يحتمل الإضافة والتعليق بالشرط فكذلك العوض الآخر وأمكن تصحيح تسمية ما في البطن باعتبار المآل وهو ما بعد الانفصال وإذا صحت التسمية فله المسمى وإن لم يكن في بطونها شيء فلا شيء له لأنها ما غرته فما في البطن قد يكون مالا متقوما وقد يكون غير ذلك من ريح أو ولد ميت والرجوع عليها بما أعطي بحكم الغرور وما وجد في بطونها بعد الخلع فهو للمرأة لأنها سمت الموجود في البطن عند الخلع فلا يتناول ما يحدث بعد ذلك بل الحادث نماء ملكها فيكون لها.
قال: وإن اختلعت منه بحكمه أو بحكمها أو بحكم أجنبي فهو جائز كما في الصداق إلا أن هناك المعيار مهر المثل وهنا المعيار ما أعطاها فإن اختلعت بحكمه فحكم الزوج عليها بمقدار ما أعطاها أو بأقل فذلك صحيح لأنه مسقط بعض حقه وإن حكم بأكثر من ذلك لم يلزمها الزيادة إلا أن ترضى به وإن كان بحكمها فإن حكمت بما أعطاها الزوج أو أكثر جاز لأن

 

ج / 6 ص -156-       تصرفها على نفسها بالتزام الزيادة صحيح وإن حكمت بأقل من ذلك لم يثبت النقصان إلا أن يرضى الزوج بذلك لأن حكمها بذلك على الزوج وإن كان بحكم أجنبي فله ما أعطاها لأن الأجنبي إن حكم بأقل من ذلك فهو متصرف على الزوج بإسقاط بعض حقه وإن حكم بأكثر من ذلك فهو متصرف عليها بإلزام الزيادة فلا ينفذ بدون رضاها.
قال: وإن اختلعت منه على خادم بغير عينها فهو جائز وله خادم وسط أو قيمته أيهما أتت به أجبر على القبول كما في الصداق.
قال: وإن اختلعت منه بما تكتسب العام من مال أو بما ترثه أو بما تتزوج عليه أو بما تحمل جاريتها أو غنمها فيما يستقبل كان له المهر الذي أعطاها في جميع ذلك لأن المسمى لا يصلح عوضا في شيء من النقود إما لأنه على خطر الوجود لا يدري أيكون أم لا أو لأنه مجهول الجنس والصفة والقدر فلا يصح التزامه في الخلع أيضا ولكنها غرته بتسمية المال فيلزمها رد ما ساق إليها بسبب الغرور وكذلك ما تحمل جاريتها أو نعمها من ولد لا يصح تمليكه من الغير بشيء من أسباب التمليك الوصية وغيرها فيه سواء فيلزمها رد المقبوض بسبب الغرور.
قال: وكذلك إن اختلعت على أن تزوجه امرأة وتمهر عنه فالخلع جائز والشرط باطل للجهالة المستتمة في المسمى ولكن الغرور يتمكن لتسمية الأمهار فعليها رد العوض وإن اختلعت منه على موصوف من المكيل أو الموزون أو النبات فهو جائز كما في الصداق وإن اختلعت منه على ثوب أو على دار فالتسمية فاسدة للجهالة المستتمة كما في الصداق وله المهر الذي أعطاها بسبب الغرور وكذلك إن اختلعت منه بدابة للجهالة المستتمة فإن اسم الدابة يتناول أجناسا مختلفة فله المهر الذي أعطاها وإن اختلعت منه بشيء معروف مسمى ولها عليه مهر وقد دخل بها أو لم يدخل بها لزمها ما سمت له ولا شيء لها مما سمى على الزوج من المهر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لها أن ترجع عليه بالمهر إن كان قد دخل بها وينصف المهر إن لم يدخل بها وكذلك لو كانت أخذت المهر ثم خلعها قبل الدخول على شيء مسمى فليس للزوج أن يرجع عليها بشيء من المهر في قول أبي حنيفة وفي قول محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يرجع عليها بنصف المهر وإن كان العقد بينهما بلفظة المبارأة فكذلك الجواب في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى في المبارأة الجواب كما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى والحاصل أن الخلع والمبارأة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى توجبان براءة كل واحد منهما عن صاحبه من الحقوق الواجبة بالنكاح حتى لا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء بعد ذلك وعند محمد لا يوجبان إلا المسمى في العقد وفيما سوى ذلك من حقوق النكاح يجعل كالفرقة بغير جعل بالطلاق وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الخلع الجواب كما قال محمد رحمه الله تعالى وفي المبارأة الجواب كما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى وجه قول

 

ج / 6 ص -157-       محمد رضي الله عنه أن هذا طلاق بعوض فيجب به العوض المسمى ولا يسقط شيء من الحقوق الواجبة كما لو كان بلفظ الطلاق وهذا لأنه لا تأثير لعقد المعاوضة إلا في استحقاق العوض المسمى به والدليل عليه أنه لو كان لأحدهما على الآخر دين واجب بسبب آخر أو عين في يده لا يسقط شيء من ذلك بالخلع والمبارأة فكذلك الحقوق الواجبة عليه بالنكاح والدليل عليه أن نفقة عدتها لا تسقط وهي من الحقوق الواجبة بالنكاح فكذلك المهر بل أولى لأن النفقة أضعف وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المقصود بهذا العقد لا يتم إلا باسقاط الحقوق الواجبة بالنكاح فلا تمام هذا المقصود يتعدى حكم هذا العقد إلى الحقوق الواجبة بالنكاح لكل واحد منهما وهذا لأن الخلع إنما يكون عند النشوز وسبب النشوز الوصلة التي بينهما بسبب النكاح فتمام انقطاع المنازعة والنشوز إنما يكون بإسقاط ما وجب باعتبار تلك الوصلة وفي لفظهما ما يدل عليه فإن المبارأة مشتقة من البراءة والخلع من الخلع وهو الانتزاع يقول الرجل خلعت الخف من الرجل إذا قطعت ما بينهما من الوصل من كل وجه فأما إذا كان العقد بلفظ الطلاق فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يسقط الحقوق الواجبة أيضا بالنكاح لإتمام المقصود وفي ظاهر الرواية ليس في لفظ الطلاق ما يدل على إسقاط الحقوق الواجبة بالنكاح فلهذا لا تسقط فأما سائر الديون فوجوبها ما كان بسبب وصلة النكاح والنشوز والمنازعة لم يتحقق فيه فلهذا لا يسقط وأما نفقة العدة فهي غير واجبة عند الخلع إنما تجب شيئا فشيئا والخلع والمبارأة سقاط ما هو واجب بحكم النكاح في الحال وأبو يوسف رحمه الله تعالى أخذ في المبارأة بقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لتحقيق معنى البراءة وفي الخلع أخذ بقول محمد رحمه الله تعالى لأنه ليس فيه معنى البراءة عن الحقوق الواجبة فجعل لفظ الخلع بمنزلة لفظ الطلاق وعلى هذا الأصل لو كان مهرها ألف درهم فاختلعت منه قبل الدخول على مائة درهم من مهرها فليس لها أن ترجع على الزوج بشيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما ترجع عليه بأربعمائة ولو كانت قبضت الألف ثم اختلعت بمائة درهم منها لم يكن للزوج غير المائة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يرجع عليها إلى تمام النصف وكذلك لو كان المهر عبدا بعينه في يدها فاختلعت منه بمائة درهم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يرجع عليها بشيء من العبد وعندهما يرجع عليها بنصف العبد ولو تزوجها على ألف درهم فوهبت له النصف وقبضت النصف ثم اختلعت منه بشيء مجهول كالثوب ونحوه فإنه يرجع عليها بما دفع إليها من المهر لا بالألف التي كان أصل العقد بها لأن ثبوت حق الرجوع عند الغرور لدفع الضرر عن الزوج وذلك يتم إذا رجع بما ساق إليها ولو كانت وهبت جميع المهر لزوجها لم يرجع الزوج عليها بشيء لأن الرجوع بحكم قبضها ولم يقبض شيئا والرجوع لدفع الضرر عن الزوج والضرر مندفع هنا حين سلم له جميع المهر بالهبة.

 

ج / 6 ص -158-       قال: وإذا اختلعت من زوجها بعبد بعينه فمات قبل أن يسلمه فعليها قيمته له كما في الصداق لأن السبب الموجب للتسليم لم ينفسخ بهلاكه فإن تبين أن العبد كان مات قبل الخلع فإنما يرجع عليها بالمهر الذي أخذت منه لأنها غرته بتسمية العبد وإن كان حيا فاستحق فعليها قيمته لأنه تعذر تسليمه مع بقاء السبب الموجب للتسليم له وإن ظهر أنه كان حرا فعليها المهر الذي أخذت منه في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما وفي قول أبي يوسف رضي الله عنه عليها قيمته أن لو كان عبدا وهذا والصداق سواء.
قال: وإن اختلعت منه بما لا يحل كالخمر والخنزير والميتة لم يكن له عليها شيء لأن المسمى ليس بمال متقوم في حق المسلمين فلا يتمكن الغرور منها بهذه التسمية فصارت هذه التسمية وجودها كعدمها وبهذا فارق الصداق فإن تسمية الخمر هناك وجودها كعدمها ولكن بدون التسمية يجب مهر المثل هناك ولا يجب هنا شيء وإن غرته فقالت اختلع منك بهذا الخل فإذا هو خمر فعليها أن ترد المهر المأخوذ في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليها مثل ذلك الكيل من خل وسط وهذا والصداق سواء.
قال: وإذا تزوجها على ألف درهم ثم اختلعت منه بمال مؤجل فهو جائز إذا كان الأجل معلوما لأن الخلع عقد معاوضة فيصح اشتراط الأجل المعلوم في بدله كسائر المعوضات وإن كان الأجل مجهولا جهالة مستتمة مثل الميسرة أو موت فلان أو قدوم فلان فالمال عليها حال لأن الأجل اسم لزمان منتظر ولم يصر مذكورا بذكر هذه الألفاظ لجواز أن يتصل موت فلان أو قدومه والميسرة بالعقد فبقي هذا شرطا فاسدا والخلع لا يبطل به فكان المال حالا عليها وإن كان إلى الإعطاء أو إلى الدياس أو النيروز أو المهرجان فالمال إلى ذلك الأجل لأنهما ذكرا في العقد ما هو أجل وهو الزمان الذي هو منتظر فإن وقت الشتاء ليس بزمان الحصاد والدياس بيقين ولكن في آخره بعض الجهالة من حيث أنه قد يتقدم إذا تعجل الحر ويتأخر إذا تطاول البرد ولكن هذا القدر لا يمنع صحة الأجل خصوصا في العقد المبني على التوسع كالكفالة والخلع مبني على التوسع فتثبت فيه هذه الآجال فإن ذهبت الغلة في ذلك العام فلم يكن حصاد ولا جزاز فالأجل إلى مثل ذلك الوقت الذي يكون فيه في مثل ذلك البلد وكذلك العطاء لأن ذكر العطاء كان على سبيل الكناية عن وقته فلا معتبر بوجود حقيقته ووقته معروف عند الناس في كل موضع فإذا جاء ذلك الوقت وجب تسليم المال وبدل الخلع إذا كان دينا فهو في حكم أخذ الرهن والكفيل به بمنزلة الصداق حتى إذا هلك هلك بما فيه وكان هو أمينا في الفضل.
قال: وإن خلعها على وصيف بغير عينه فإن جاءت بقيمته أجبر على قبوله كما في الصداق وإن صالحها من الوصيف على دراهم مما يكال أو يوزن أو العروض أو الحيوان من غير صفته فهو جائز بعد أن يكون يدا بيد كما في الصداق وهذا لأنه إذا لم يكن مقبوضا كان دينا بدين وذلك حرام.

 

ج / 6 ص -159-       قال: وإذا اختلعت في مرضها بمهرها الذي كان لها على زوجها ثم ماتت في العدة فله الأقل من ميراثه ومن المهر إن كان يخرج من ثلث مالها مهر وإن لم يكن لها مال سوى ذلك فله الأقل من ميراثه منها ومن الثلث وإن ماتت بعد انقضاء العدة فله المهر من ثلث مالها والحاصل أنه إذا اختلعت في مرضها فبدل الخلع معتبر من ثلث مالها عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى من جميع المال واعتبر الخلع بالنكاح فإن المريض لو تزوج امرأة بصداق مثلها اعتبر من جميع ماله لأن ذلك من حوائجه وكذلك المريضة إذا اختلعت لأن ذلك من حوائجها لتتخلص به من أذى الزوج ولكنا نقول البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم وعند الخروج لا يتقوم حتى أن للأب أن يزوج ابنه امرأة بماله وليس له أن يخالع ابنته من زوجها بمالها والخلع ليس من أصول حوائجها فكان بدل الخلع بمنزلة الوصية منها للزوج فيعتبر من الثلث ومن عليه القصاص إذا صالح في مرضه على الدية عندنا يعتبر من جميع ماله لأنه يحتاج إليه لاحياء نفسه فكان ذلك من أصول حوائجه بخلاف بدل الخلع وعند زفر رحمه الله تعالى يعتبر هنا من الثلث بخلاف الخلع لأن القصاص عقوبة فلا يعتاض عنه بالمال حقيقة فيكون التزام المال بمعنى الصلة المبتدأة والمملوك بالنكاح مما يعتاض عنه بالمال باعتبار الأصل وما يسلم للزوج هنا يصلح أن يكون عوضا يعتبر من جميع مالها إذا عرفنا هذا فنقول إذا ماتت قبل انقضاء العدة فسبب ميراثه باق ببقاء العدة ويجوز أن يكون قصدها بهذا الخلع إيصال المنفعة المالية إلى الزوج ولكن هذه التهمة في الزيادة على قدر ميراثه فأما في الأقل فلا تهمة فلهذا كان له الأقل من ميراثه ومما سمت له وإذا ماتت بعد انقضاء العدة فليس بينهما سبب التوارث عند موتها فيكون له جميع المسمى من الثلث بمنزلة ما لو أوصت له أو أقرت له بشيء بعد ما طلقها ثلاثا وإن كان لم يدخل بها فاختلعت منه في مرضها بمهرها فنقول أما نصف المهر فقد سقط عن الزوج بالطلاق قبل الدخول لا من جهتها والنصف الباقي له من ثلث مالها لأن ذلك القدر بمنزلة الوصية منها له وليس بينهما سبب التوارث إذا كان الطلاق قبل الدخول فلا معنى لاعتبار الأقل وكذلك إن كانت اختلعت منه بأكثر من مهرها فنصف المهر سقط بالطلاق قبل الدخول والنصف الباقي مع الزيادة للزوج من ثلث مالها فإن برئت من مرضها فله جميع المسمى بمنزلة ما لو خالعها في صحتها.
قال: وإن اختلعت وهي صحيحة والزوج مريض فالخلع جائز بالمسمى قل أو كثر لأنه لو طلقها بغير عوض كان صحيحا فبالعوض القليل أولى ولا ميراث لها منه لأن الفرقة إنما وقعت بقبولها فكأنه طلقها بسؤالها.
قال: وإن تبرع أجنبي في مرضه باختلاعها من الزوج بمال ضمنه للزوج فهو جائز من ثلثه إذا مات من ذلك المرض لأن الأجنبي التزم المال في مرضه من غير عوض حصل له فكان معتبرا من ثلثه وإن كان الزوج مريضا حين فعل الأجنبي هذا بغير رضاها فلها الميراث

 

ج / 6 ص -160-       إذا مات الزوج قبل انقضاء عدتها لأن الفرقة وقعت بغير رضاها فيكون الزوج فارا في حقها.
قال: وإذا وكل رجل رجلا أن يخلع امرأته فقام الوكيل من مجلسه قبل أن يخلعها فهو على وكالته لأن مطلق التوكيل لا يتوقت بالمجلس كما في سائر العقود وهذا لأن المطلوب من الوكيل تحصيل مقصود الموكل والمجلس وما بعده في هذا سواء وهذا بخلاف ما لو قال لها أمرك بيدك لأن ذلك تمليك الأمر منها وجواب التمليك يقتصر على المجلس وهذا إنابة له مناب نفسه في عقد الخلع فيصير نائبا عنه ما لم يعزله كما لو قال له طلقها.
قال: وإذا وكل رجلين بالخلع فخلع أحدهما لم يجز لأن الخلع عقد معاوضة يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير وهو إنما رضي برأي المثنى ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى فلا يحصل مقصوده إذا انفرد أحدهما به كما في البيع بخلاف ما لو قال طلقاها فطلقها أحدهما جاز لأن إيقاع الطلاق مجرد عبارة لا يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير وعبارة الواحد وعبارة المثنى سواء وما هو مقصود الزوج يحصل بإيقاع أحدهما.
قال: وإذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا على عبدي هذا إن شئت فقامت من مجلسها قبل أن تشاء فهي امرأته ولا يقع الطلاق في هذا إلا بقبولها لأن العبد المسمى ملك الزوج فكان ذكره والسكوت عنه سواء فيبقى قوله أنت طالق ثلاثا إن شئت فإذا قامت قبل أن تشاء خرج الأمر من يدها فلا يقع عليها شيء لأن المشيئة منها لم توجد ولأنه أوقع الطلاق بعوض فلا يقع إلا بوجود القبول وإن لم يجب العوض ولا منفعة فيه لأحدهما كما لو طلقها على خمر أو ميتة لا يقع الطلاق إلا بقبولها وإن كان لا يجب عليها شيء بعد القبول وإن قبلت في المجلس وقع الطلاق عليها لوجود القبول ولأنها لما قبلت فقد شاءت والعبد عبد الزوج على حاله لأن ملكه لا يكون عوضا عن ملكه ولا شيء له عليها لأنها لم تغره وإن قال أنت طالق إن شئت على عبدك الذي في يدي فإن قبلت وقع الطلاق عليها وله العبد لأن ملكها يصلح عوضا عن الطلاق سواء كان في يدها أو في يد الزوج فإن استحق العبد فله قيمته لأن التسليم بالعقد صار مستحقا عليها وقد بطل فيبقى الزوج بالاستحقاق من الأصل والسبب الموجب تسليم قائم فعليها قيمته له.
قال: وإن طلقها على ما في يده فقبلت فإذا في يده جوهرة لها فهي له وإن لم تكن علمت بذلك لأنها هي التي أضرت بنفسها حين قبلت الخلع قبل أن تعلم ما في يده ولو اشترى منها بهذه الصفة كان جائزا ولا خيار لها فالخلع أولى وإن لم يكن في يده شيء فالطلاق رجعي ولا شيء له عليها لأنها لم تغره وصريح الطلاق لا يوجب البينونة إلا بعوض.
قال: وإن اختلعت منه بعبد حلال الدم فقتل عنده بقصاص رجع عليها بقيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذا بمنزلة الاستحقاق عنده على ما نبينه في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى وكذلك لو كان وجب قطع يده فقطع عند الزوج رده وأخذ قيمته في قول أبي حنيفة

 

ج / 6 ص -161-       رحمه الله تعالى وهذا بمنزلة العيب الفاحش يكون في يدها بالعبد وعندهما عيب القطع في حكم الحادث عند الزوج فيمنعه من رد العبد عليها وموضع بيان هذه المسألة في كتاب البيوع.
قال: ولو خلعها على عبد نصراني أو أمة لها زوج أو عبد له امرأة ولم تعلمه ذلك لم يرجع عليها بشيء فإن هذا بمنزلة العيب اليسير لأن نقصان المالية يقل بهذه الأسباب وبدل الخلع لا يرد بالعيب اليسير كالصداق.
قال: وإن اختلعت ومهرها ألف درهم على عبد على إن زادها ألف درهم فاستحق العبد من يده رجع عليها بالألف وبنصف قيمة العبد لأن المرأة بذلت العبد بإزاء شيئين الألف التي قبضت والخلع وهما سواء فانقسم العبد نصفين نصفه بيع من الزوج بالألف فعند الاستحقاق يرجع بثمنه المدفوع ونصفه بدل الخلع فعند الاستحقاق يرجع بقيمته فلهذا رجع عليها بالألف وبنصف قيمة العبد وكذلك لو كان أعطاها مكان الألف خادما قيمته ألف أخذ الخادم ونصف قيمة العبد لأن نصف العبد كان بيعا له بالخادم والاستحقاق يبطل البيع فيرجع بالخادم والنصف الآخر من العبد كان جعلا فيرجع بقيمته عند الاستحقاق.
قال: وإن خلعها على إن أعطته درهما قد نظر إليه في يدها فإذا هو زيف أو ستوق فله أن يأخذ منها جيدا لأن مطلق تسمية الدراهم يتناول الجياد فكان له أن يرد الزيف والستوق ويطالبها بما استحق من العقد.
قال: وليس هذا بمنزلة العيب في العبد يريد به أن العبد لا يرد بالعيب اليسير في الخلع والدراهم ترد بعيب الزيافة وإن كان ذلك عيبا يسيرا لأن الخلع ما تعلق بتلك الدراهم بعينها وإنما تعلق بدراهم جياد في ذمتها حتى أن لها أن تمنع ذلك الدرهم وتعطيه آخر فكان له أن يطالبها بما استحق بالعقد ولأنه بالرد هنا يستفيد شيئا وهو الرجوع بالجيد بخلاف العبد فإن العبد تعلق بعينه فلا يستفيد شيئا برده بعيب يسير لأنه يرجع بقيمته ولا فرق بين قيمته صحيحا وبين عينه مع العيب اليسير.
قال: ولو اختلعت منه على ثوب في يدها أصفر فقالت هو هروي فإذا هو مصبوغ كان له ثوب هروي وسط لأن المسمى إذا لم يكن من جنس المشار إليه فالعقد يتعلق بالمسمى ولهذا لا يجوز البيع في مثله لأنه يتعلق بالمسمى وهو معدوم فكذلك بالخلع يتعلق بالمسمى وهو ثوب هروي والخلع على مثله صحيح وينصرف إلى الوسط كما في الصداق.
قال: وإذا تزوج المريض امرأة مريضة على ألف درهم ودفعها إليها ولا مال له غيرها ومهر مثلها مائة درهم فاختلعت بها منه قبل أن يدخل بها ثم ماتت من ذلك المرض ولا مال لها غيرها ثم مات الزوج بعدها من ذلك المرض فلورثة المرأة من هذه الألف مائتا درهم وخمسة وسبعون درهما ولورثة الزوج سبعمائة وخمسة وعشرون درهما وهذه المسألة تنبني على أصول أحدها أن المريض إذا تزوج امرأة على أكثر من صداق مثلها فالزيادة على صداق

 

ج / 6 ص -162-       المثل بمنزلة الوصية في الاعتبار من الثلث ومقدار صداق مثلها لا يعتبر من الثلث والثاني أن المريضة إذا اختلعت من زوجها بمال يكون معتبرا من ثلث مالها والثالث أن الطلاق قبل الدخول يسقط نصف الصداق عن الزوج شرعا ثم وجه تخريج المسألة أن في مقدار مهر مثلها وهو المائة لا وصية من الزوج لها وقد عاد بالطلاق قبل الدخول نصفه إليه بقي لها خمسون وقد أوصت بذلك للزوج حين اختلعت منه به فإنما يسلم للزوج ثلث ذلك وهو ستة عشر وثلثان فيكون حاصل مال الزوج تسعمائة وستة وستين وثلثين وقد حاباها بأربعمائة وخمسين في أصل النكاح لأن المحاباة كانت تسعمائة ولكن بالطلاق قبل الدخول عاد إلى الزوج نصفها فبقيت المحاباة بأربعمائة وخمسين وذلك أكثر من ثلث ماله فتعتبر محاباته من الثلث فكان ينبغي أن يسلم لها ثلث هذا المقدار إلا أنه قال أنه تنفذ وصيته في ثلاثة أثمان هذا المقدار لأنا لو نفذنا في ثلثها رجع ثلث ذلك إلى ورثة الزوج بالخلع فيزداد ما لهم وتجب الزيادة في تنفيذ الوصية لها بحسبه فلا يزال يدور هكذا فلقطع الدور قال تنفذ وصيته في ثلاثة أثمانه وطريق معرفة ذلك بالسهام أنك تحتاج إلى مال ينقسم ثلثه أثلاثا وأقل ذلك تسعة فكان ينبغي أن يجعل مال الزوج على تسعة أسهم وتنفذ وصيته في ثلثه إلا أن سهما من هذه الثلاثة يعود إلى الورثة بالخلع وصية منها له فيصير في يد ورثة الزوج سبعة أسهم وحاجتهم إلى ستة وهذا السهم الزائد هو الدائر الذي يسعى إلى الفساد فالسبيل طرح هذا السهم من قبل من خرج الدور من قبله وهو معنى قول أبي حنيفة سهم الدور ساقط وإنما ظهر هذا الدور من جانب الورثة بزيادة حقهم فنطرح من أصل حقهم سهما فيبقى حقهم في خمسة وحق المرأة في ثلاثة فيكون ثمانية فلهذا جعلنا مال الزوج على ثمانية ثم نفذنا وصيته لها في ثلاثة ويعود سهم من هذه الثلاثة إلى ورثته بالخلع فيصل للورثة ستة وقد نفذنا الوصية في ثلثه فيستقيم الثلث والثلثان ثم وجه التخريج من حيث الدراهم أن مال الزوج تسعمائة وستة وستون وثلثان فإذا قسمت ذلك أثمانا فكل ثمن من ذلك مائة وعشرون وخمسة أسداس فثلاثة أثمانه تكون ثلاثمائة واثنين وستين ونصفا تنفذ الوصية في الابتداء في هذا المقدار يبقى للورثة ستمائة وأربعة وسدس ثم يعود إليهم من جهتها مائة وعشرون وخمسة أسداس فيكون جملة ذلك سبعمائة وخمسة وعشرين وقد نفذنا الوصية في ثلاثمائة واثنين وستين ونصف فيستقيم الثلث والثلثان وحصل لورثة المرأة في الابتداء ثلاثة وثلاثون وثلث وبالوصية مائتان وأحد وأربعون وثلثان فيكون جملة ذلك مائتين وخمسة وسبعين فاستقام التخريج وهذه المسألة بأخواتها تعود في كتاب العتق في المرض فيؤخر تخريج سائر الطرق إلى ذلك الموضع والله أعلم بالصواب.

باب المشيئة في الطلاق
قال: رجل قال لامرأته إن شئت فأنت طالق فذلك إليها ما دامت في مجلسها لأنه علق الوقوع بمشيئتها وذلك من عمل قلبها بمنزلة اختيارها وقد اتفقت الصحابة رضوان الله

 

ج / 6 ص -163-       عليهم إن للمخيرة الخيار ما دامت في مجلسها فكذلك يثبت هذا الحكم فيما هو في معناه وهو المشيئة وهذا لأن الرأي الذي يوجبه الزوج لها معتبر بما يثبت لها من الخيار شرعا وهو خيار المعتقة وذلك يتوقت بمجلسها غير أنها إن شاءت هنا فهي طالق تطليقة رجعية لأن الوقوع بلفظ الزوج وقد أتى بصريح الطلاق وإن قامت قبل أن تشاء فهي امرأته ولا مشيئة لها بعد ذلك لانقطاع مجلسها بالقيام أو لوجود دليل الإعراض عما فوض إليها من المشيئة وكذلك إن أخذت في عمل آخر يعرف أنه قطع لما كانا فيه من ذكر الطلاق لأن الاعراض عن المشيئة يتحقق باشتغالها بعمل آخر كما يتحقق بقيامها وقيام الزوج من ذلك المجلس لا يبطل مشيئتها لأن قيامه دليل الرجوع فيكون كصريح الرجوع ولو رجع عما قال كان رجوعه باطلا بخلاف قيامها فإنه دليل الرد ولو ردت المشيئة صح منها وبه فارق البيع فإن الموجب لو قام عن المجلس قبل قبول الآخر يبطل إيجابه فكذلك يبطل بقيامه وكذلك لو قال إن أحببت أو هويت أو رضيت أو أردت فأنت طالق لأن هذه الألفاظ في المعنى تتقارب فإنه تعليق للوقوع باختيارها ولأن هذه المعاني لا تفارقها كمشيئتها فيتحقق منها في المجلس ولو قال طلقي نفسك إن شئت أو أحببت أو هويت أو رضيت أو أردت فهو كذلك إلا أن هنا ما لم تقل طلقت نفسي لا يقع لأن قوله طلقي نفسك تمليك الأمر منها وقد علقه بالمشيئة فإذا قالت شئت صار الأمر في يدها لوجود الشرط فلا يقع ما لم توقع وهناك قوله أنت طالق إيقاع وقد علقه بالمشيئة فإذا قالت شئت يتنجز وإن قال إن كنت تحبينني أو تبغضينني فأنت طالق أو ما أشبه هذا من الكلام الذي لا يطلع على ما في قلبها غيرها فذلك إليها في المجلس والقول فيه قولها استحسانا وفي القياس لا يقبل قولها إذا أنكره الزوج لأنها تدعي شرط الطلاق وذلك منها كدعوى نفس الطلاق ولكنه استحسن فقال لا طريق لنا إلى معرفة هذا الشرط إلا من جهتها فلا بد من قبول قولها فيه لأن الحجة بحسب الممكن في كل فضل ولما علق الزوج الطلاق بما في قلبها مع علمه أنه لا يعرف ذلك إلا بقولها صار الطلاق معلقا بإخبارها فكأنه قال إن أخبرتني أنك تحبينني وقد أخبرت بذلك فإنما أقمنا نفس الخبر مقام حقيقة ما في قلبها للتيسير استحسانا لهذا وإنما توقت بالمجلس لأن إخبارها يتحقق في المجلس كمشيئتها واختيارها ولو قال لها طلقي نفسك ولم يذكر فيه مشيئة فذلك بمنزلة المشيئة لها ذلك ما دامت في المجلس لأنه تمليك للإيقاع منها وجواب التمليك يقتصر على المجلس بخلاف ما لو قال لأجنبي طلق امرأتي فإن ذلك توكيل والتوكيل لا يتوقت بالمجلس وفي جانبها ليس بتوكيل فإنها لا تكون وكيلا ولا رسولا في الإيقاع على نفسها فبقي تمليكا للأمر منها فإن طلقت نفسها ثلاثا وقال الزوج أردت ثلاثا فهي طالق ثلاثا لأن قوله طلقي نفسك تفويض ولهذا جعلناه تمليكا للأمر منها على معنى أنه فوض إليها ما كان إليه والتفويض يحتمل معنى العموم والخصوص فنية الثلاث فيه نية العموم وبعد ما صارت الثلاث مفوضة إليها يكون إيقاعها الثلاث كإيقاع الزوج

 

ج / 6 ص -164-       ولو قال أردت واحدة لم يقع عليها شيء في قول أبي حنيفة وعندهما يقع عليها واحدة وكذلك لو قال طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يقع عليها واحدة وإن قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة أو اثنتين وقع ذلك بالإتفاق هما يقولان أوقعت ما فوض إليها وزادت على ذلك لأن الواحدة موجودة في الثلاث فهو كما لو قالت طلقت نفسي واحدة وواحدة وواحدة وكما لو قال لها طلقي نفسك فطلقت نفسها وضرتها وكما لو قال لعبده أعتق نفسك فأعتق نفسه وصاحبه أو قال لأجنبي بع عبدي هذا فباعه مع عبد آخر والدليل على وجود الواحدة في الثلاث أن الثلاث آحاد مجتمعة ألا ترى أنه لو قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة يقع وإنما يصح إيقاعها إذا كان ما أوقعت موجودا فيما فوض إليها توضيحه أنه لو قال لها طلقي نفسك فقالت أبنت نفسي يقع عليها تطليقة رجعية وبما زادت من صفة البينونة لا تنعدم الموافقة في أصل الطلاق فكذلك إذا أوقعت الثلاث لأن موجب الثلاث البينونة الغليظة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أتت بغير ما فوض إليها فكانت مبتدئة فيتوقف إيقاعها على إجازة الزوج كما لو قال لها طلقي نفسك فطلقت ضرتها وبيان الوصف أن الثلاث غير الواحدة وقد قررنا هذا في مسألة الشهادة فيما سبق بخلاف ما لو قالت واحدة وواحدة وواحدة لأنها بالكلام الأول تكون ممتثلة لما فوض وفي الكلام بالثانية والثالثة تكون مبتدئة وكذلك إن أوقعت على نفسها وضرتها.
فإن قيل فكذلك هنا بقولها طلقت نفسي تكون ممتثلة لو اقتصرت عليه فإنما تكون مبتدئة في قولها ثلاثا فتلغو هذه الزيادة.
قلنا: الطلاق متى قرن بالعدد فالوقوع بالعدد لا بلفظ الطلاق ولهذا لو قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا تطلق ثلاثا ولو مات بعد قوله طالق قبل قوله ثلاثا لم يقع شيء فإذا كانت مبتدئة في كلمة الإيقاع لم يقع عليها شيء بدون إجازته وبه فارق صفة البينونة لأن قولها أبنت نفسي أي طلقت نفسي تطليقة بائنة وأصل الطلاق إنما يقع بقولها طلقت نفسي لا بذكر صفة البينونة وهي في ذلك ممتثلة أمره وهذا بخلاف ما لو قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة لأن الثلاث غير الواحدة ولكن من ضرورة صيرورة الأمر في يدها في الثلاث وقوع الواحدة بإيقاعها فإنها بعض ما صار مملوكا لها فإنما ينفذ باعتبار أنها تصرفت فيما ملكت وهنا إنما صارت الواحدة في يدها وليس من ضرورته صيرورة الثلاث في يدها فهي في إيقاع الثلاث غير متصرفة فيما تملك ولا ممتثلة أمره توضيحه أن المخاطب متى زاد على حرف الجواب كان مبتدئا كما لو قال تعال تغد معي فقال إن تغديت اليوم فعبده كذا كان مبتدئا حتى لو رجع إلى بيته فتغدى حنث لأنه زاد على حرف الجواب ومتى نقص لا يكون مبتدئا والمخاطبة بالواحدة إذا أوقعت الثلاث فقد زادت على حرف الجواب والمخاطبة بالثلاث إذا أوقعت الواحدة لم تزد على حرف الجواب فلهذا افترقا يقرره أنه إذا فوض الثلاث إليها فأوقعت واحدة فهي تقدر على

 

ج / 6 ص -165-       إيقاع الثانية والثالثة في المجلس ولو فعلت كانت ممتثلة لا محالة فبتركها إيقاع الثانية والثالثة لا تخرج من أن تكون ممتثلة في الأولى بخلاف ما إذا أوقعت الثلاث وقد أمرها بالواحدة لأن هناك لا تقدر على الامتثال بعد هذا لاشتغالها بغير ما أمرها به.
قال: ولو قال لها أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت قد شئت واحدة أو اثنتين فهذا باطل لأن قوله إن شئت أي إن شئت الثلاث فإن هذا اللفظ غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من أن يجعل بناء على ما سبق وإذا جعلناه بناء يتبين أنه جعل الشرط مشيئتها الثلاث فلا يتم الشرط بمشيئتها الواحدة ولو قال لها أنت طالق واحدة إن شئت فقالت شئت اثنتين أو ثلاثا لم يقع شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لم توجد مشيئتها الواحدة فإن الثلاثة غير الواحدة وعندهما تقع واحدة لأنها قد شاءت الواحدة وزيادة وهذا بناء على الفصل الأول.
قال: ولو قال لها أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت قد شئت واحدة وواحدة وواحدة وقع عليها ثلاث تطليقات دخل بها أو لم يدخل بها لأن تمام الشرط بآخر كلامها فما لم يتم الشرط لا ينزل الجزاء فلهذا وقع الثلاث عند تمام الشرط جملة سواء دخل بها أو لم يدخل بها ولأن الكلام المعطوف بعضه على بعض يتوقف أوله على آخره وبآخره تتحقق منها مشيئة الثلاث فكأنها قالت شئت ثلاثا ولو قالت شئت واحدة وسكتت ثم قالت شئت واحدة وواحدة لم يقع عليها شيء لأن كلامها تفرق بسكوتها وهي في الكلام الأول شاءت غير ما جعله الزوج شرطا لأن الشرط مشيئتها الثلاث وقد شاءت الواحدة واشتغالها بمشيئة أخرى يكون ردا للمشيئة التي جعلها الزوج شرطا فكان هذا بمنزلة قولها لا أشاء ولو قالت ذلك لم يكن لها مشيئة بعده فكذلك هنا بخلاف الأول فإن كلامها موصول هناك وبتأخره يبين أنه إيجاد للشرط لا رد للمشيئة ولو قالت قد شئت إن شاء أبي كان هذا باطلا لأن الشرط مشيئتها وما أتت به إنما علقت مشيئتها بمشيئة أبيها والتعليق غير التنجيز ألا ترى أن المفوض إليها تنجيز الطلاق لا تمليك التعليق ثم اشتغالها بالتعليق بمنزلة قيامها في خروج الأمر من يدها فلا مشيئة لها بعد ذلك وإن كانت في المجلس ولو قال لها إذا شئت فأنت طالق أو متى شئت كان لها أن تشاء في المجلس وبعد القيام من المجلس متى شاءت مرة واحدة لأن كلمة إذا ومتى للوقت فكأنه قال أي وقت شئت فيكون موجب هذا الحرف تعدى المشيئة إلى ما بعد المجلس من الأوقات لا التكرار فكان لها المشيئة مرة واحدة في أي وقت شاءت وكذلك قوله إذا ما شئت أو متى ما شئت ولو قال لها أنت طالق كلما شئت كان لها ذلك أبدا كلما شاءت مرة بعد أخرى حتى يقع عليها ثلاث تطليقات لأن كلمة كلما تقتضي التكرار وإن شاءت مرة واحدة وصارت طالقا واحدة وانقضت عدتها ثم تزوجها كان لها المشيئة أيضا لبقاء بعض التطليقات المملوكة له ولو شاءت ثلاث مرات ثم تزوجها بعد زوج فلا مشيئة لها لأن كلامه إنما يتناول التطليقات المملوكة ولم يبق منها شيء بعد وقوع الثلاث وفي هذا خلاف زفر وقد بيناه ولو أنها شاءت

 

ج / 6 ص -166-       مرتين ووقع عليها تطليقتان وانقضت عدتها فتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم عادت إليه تعود بثلاث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولها المشيئة في ذلك كله مرة بعد مرة لبقاء شيء من التطليقات المملوكة له وقد قررنا هذا الفرق فيما سبق أنه إذا بقي شيء مما تناوله عقده واستفاد من جنسه يتعدى حكم ذلك العقد إليه بخلاف ما إذا لم يبق شيء منه وكذلك لو لم تشأ حتى طلقها الزوج ثلاثا فلا مشيئة لها بعد ذلك وإن عادت إليه بعد الزوج بخلاف ما لو طلقها واحدة أو اثنتين ولو لم تشأ شيئا وردت المشيئة كان ردها باطلا لأن ردها إعراض بمنزلة قيامها عن المجلس وفي لفظ كلما لا تبطل مشيئتها بقيامها فكذلك بردها وهذا لأن شرط المشيئة في حكم الرد كسائر الشروط ولو علق الطلاق بدخولها الدار فردت كان ردها باطلا ألا ترى أن في جانب الزوج جعل هذا في اللزوم والتعليق بشرط آخر سواء .
قال: ولو قال لها كلما شئت فأنت طالق ثلاثا فقالت شئت واحدة فهذا باطل لأن معنى كلامه كلما شئت الثلاث ولو قال كلما شئت فأنت طالق واحدة أو قال فأنت طالق ولم يقل واحدة فشاءت الثلاث لم يقع عليها شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما تقع واحدة وقد بينا هذا ولو قالت قد شئت أمس تطليقة وكذبها الزوج فالقول قول الزوج لأنها أخبرت بما لا تملك إنشاءه فإنها أخبرت بمشيئة كانت منها أمس ولا يبقى لها ذلك بعد مضي أمس.
فإن قيل أليس أنها لو شاءت في الحال يصح منها فقد أخبرت بما تملك إنشاءه.
قلنا: لا كذلك فالمشيئة في الحال غير المشيئة في الأمس وكل مشيئة شرط تطليقة فهي لا تملك إنشاء ما أخبرت به إنما تملك إنشاء شيء آخر وهو بمنزلة قوله لها أنت طالق إن دخلت الدار اليوم أو إن كلمت فلانا غدا فقالت في الغد قد كنت دخلت الدار أمس لا يقبل قولها وإن كانت تملك الإيقاع في الحال بأن تكلم فلانا ولو قالت قد شئت أن أكون طالقا غدا كان ذلك باطلا لأنه فوض إليها التنجيز فلا تملك الإضافة إلى وقت منتظر كما لا تملك التعليق بالشرط.
قال: وإذا قال لامرأتيه إن شئتما فأنتما طالقان فشاءت إحداهما دون الأخرى كان باطلا عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى تطلق التي شاءت لأنه لو خاطبها بالطلاق مطلقا كان كلامه متناولا كل واحدة منهما فكذلك إذا خاطبهما بطلاق معلق بالمشيئة يصير كأنه قال لكل واحدة منهما أنت طالق إن شئت ولكنا نقول معنى قوله إذا شئتما أي شئتما طلاقكما فبمشيئة إحداهما وجد بعض الشرط وبوجود بعض الشرط لا ينزل شيء من الجزاء كما إذا قال إذا دخلتما هذه الدار أو كلمتما فلانا ففعلت إحداهما دون الأخرى وعلى هذا لو شاءتا إيقاع الطلاق على إحداهما دون الأخرى لم تطلق لأن الشرط مشيئتهما طلاقهما فبمشيئتهما طلاق إحداهما يوجد بعض الشرط وكذلك لو ماتت إحداهما ثم شاءت الأخرى الطلاق كان ذلك باطلا لأنه تحقق فوات بعض الشرط بموت إحداهما وكذلك هذا في الأجنبيتين وكذلك في المحبة إذا قال إن أحببتما أن أطلقكما فأحبتا طلاق إحداهما لم يقع شيء.

 

ج / 6 ص -167-       قال: قال رجل لامرأته شائي طلاقك ينوي الطلاق فقالت قد شئت فهي طالق فإن لم يكن له نية فليس بطلاق لما بينا أن مشيئتها من عمل قلبها كاختيارها وهذا بمنزلة قوله اختاري الطلاق فقالت قد اخترت وهناك إن نوى الزوج الإيقاع يقع فكذلك هنا لأنه يحتمل أن يكون مراده اختاري الطلاق لأطلقك أو اختاري فتكوني طالقا فاعتبر نية الإيقاع فيه فكذلك في المشيئة وإن قال أحبي الطلاق أو أريدي الطلاق أو اهوي الطلاق فقالت قد فعلت كان باطلا وإن نوى به الطلاق لأن الإرادة والمحبة والهوى من العباد نوع تمن فكأنه قال لها تمني الطلاق فقالت قد تمنيت لا يقع به شيء وفي الكتاب أشار إلى الفرق بين هذا وبين قوله شائي لأن قوله شائي الطلاق واجبة فيكون مملكا منها وأحبي وأريدي واهوي لم يملكها فيه شيئا ومعنى هذا أن المشيئة في صفات المخلوقين الزم في اللغة من الإرادة والهوى والمحبة ألا ترى أن المشيئة لا تذكر مضافة إلى غير العقلاء وقد تذكر الإرادة قال الله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] وليس إلى الجدار من الإرادة شيء توضيح الفرق أن الزوج هو الموقع ولهذا شرط نية الإيقاع منه ولفظ المشيئة يملك الزوج الإيقاع به فإنه لو قال لها شئت طلاقك بنية الإيقاع يقع فكذلك إذا فوض إليها يكون مملكا منها ما كان له فأما لفظ الإرادة والمحبة والهوى لا يملك الزوج الإيقاع به لأنه لو قال أحببت طلاقك أو هويت طلاقك أو أردت طلاقك لا يقع به شيء وإن نوى فكذلك لا يصير مملكا منها بهذا اللفظ شيئا وكذلك لو قال أنت طالق إن أحببت فقالت قد شئت الطلاق وقع عليها لأنها أتت بما جعله شرطا بل بأقوى على ما بينا أن المشيئة منها أقوى من المحبة بخلاف ما لو قال أنت طالق إن شئت فقالت قد أحببت أو هويت أو أردت لم يقع شيء لأنها أتت بدون ما جعله شرطا في حكم الطلاق وما لم يتم الشرط لا ينزل الجزاء.
قال: ولو قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت فقالت قد طلقت نفسي واحدة فهي طالق لأن ايقاعها على نفسها مشيئة منها وزيادة فيتم به شرط المشيئة.
قال: ولو قال أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت قد شئت إن كان كذا لشيء ماض كانت طالقا لأن التعليق بشرط موجود يكون تنجيزا ألا ترى أن الوكيل بالتنجيز يملك هذا النوع من التعليق بخلاف التعليق بما يكون في المستقبل ألا ترى أنها لو قالت قد شئت إن كنت زوجي كان ذلك مشيئة منها ولو قالت قد شئت إن شئت فقال الزوج قد شئت كان باطلا لأنها علقت مشيئتها بمشيئة منتظرة وهي مشيئة الزوج فكان ذلك باطلا منها كما لو علقت بمشيئة رجل آخر.
فإن قيل ينبغي أن يقع بقول الزوج شئت لأنه يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ.
قلنا إنما يملك الإيقاع بمشيئة الطلاق وهو بهذا اللفظ شاء مشيئتها لأنه قصد جوابها حتى لو قال شئت الطلاق نقول يقع إذا نوى الطلاق وإذا قال لغيره طلق امرأتي فهو رسول معناه أن الوكيل في الطلاق والرسول سواء لأنه سفير ومعبر والرسالة لا تختص بالمجلس فكان

 

ج / 6 ص -168-       له أن يطلقها بعد المجلس ولو قال طلقها إن شئت كان ذلك على المجلس عندنا حتى لا يملك الإيقاع بعد قيامه من المجلس وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يملك لأن قوله إن شئت فضل من الكلام فإنا نعلم أنه إنما يطلقها إذا شاء فتلغو هذه الزيادة ويبقى قوله طلقها ولكنا نقول بآخر كلامه يتبين أن مراده تمليك أمرها منه لا الرسالة وجواب التمليك يقتصر على المجلس كما لو خاطبها به وحاصل هذا أن في حقها لا تتحقق الرسالة فإنها لا تكون رسولا إلى نفسها فيكون تمليكا سواء قال لها طلقي نفسك أو قال إن شئت وفي حق الأجنبي تتحقق الرسالة والتمليك جميعا فإذا قال طلق كان رسالة وإذا قال إن شئت كان تمليكا لأمرها منه وعلى هذا نقول إذا قال طلقها فله أن يعزله قبل الإيقاع ولو قال طلقها إن شئت لم يكن له أن يعزله كما لو ملك الأمر منها وكذلك لو جعل ذلك إلى صبي أو معتوه لأن مجرد العبارة يتحقق من هؤلاء.
قال: وإن قال هي طالق إذا شئت فقال قد شئت فهي طالق لوجود الشرط وإن قال طلقها إن شئت فقال قد شئت كان باطلا حتى يقول هي طالق لأن هذا اللفظ تمليك فلا يقع الطلاق به ما لم يأت بكلمة الإيقاع وقد بينا هذا الفرق في التمليك منها فكذلك من الأجنبي وإن قال طلقها ثلاثا فقال قد فعلت فهي طالق ثلاثا لأن هذا جواب الكلام وهذا لأن قوله قد فعلت غير مفهوم المعنى بنفسه فيصير ما تقدم معادا فيه فكأنه قال قد فعلت ما قلت من إيقاع الثلاث عليها.
قال: وإن قال لرجلين طلقاها فطلقها أحدهما جاز لأن الإيقاع مجرد عبارة لا يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير فينفرد به كل واحد منهما وهذا بخلاف ما لو قال لغيره طلق امرأتي فوكل الوكيل غيره بذلك لأن الموكل رضي بعبارته لا بعبارة غيره وإنما جعله رسولا في الإيقاع لا في الإرسال وإن قال طلقاها ثلاثا فطلقها أحدهما واحدة والآخر اثنتين فهي طالق ثلاثا لأن فعل كل واحد منهما كفعلهما ولو أوقع الواحدة ثم الاثنتين كانت طالقا ثلاثا ولو قال طلقاها جميعا ولا يطلق واحد منكما دون صاحبه فطلق أحدهما لم يقع لأن آخر كلامه عزلهما عن الإيقاع إلا أن يجتمعا عليه ولو عزلهما عن الإيقاع أصلا صح عزله فكذلك إذا عزلهما عن الإيقاع إلا أن يجتمعا.
قال: وإذا قال لرجل طلق امرأتي ثم نهاه بعد ذلك فإن علم بالنهي فليس له أن يوقع بعد ذلك وإن لم يعلم به فهو على وكالته لأنه خاطبه بالنهي عن الإيقاع وحكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم به كخطاب الشرع لأنه لا تمكن له من الامتثال ما لم يعلم والتكليف بحسب الوسع وعلى هذا قال في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى إذا جعل طلاق امرأته إلى رجل غائب فطلقها ذلك الرجل قبل أن يعلم بالتفويض إليه لم يقع في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن حكم ذلك الخطاب لا يثبت في حقه ما لم يعلم به ألا ترى أنه لو كان قال له طلقها إن شئت كان له مجلس علمه فما لم يعلم لا يبطل بقيامه ولكن زفر

 

ج / 6 ص -169-       رحمه الله تعالى يقول الموقع للطلاق معبر لا يلحقه في ذلك عهدة وإنما يتوقف حكم الطلاق في حقه على علمه لدفع الضرر عنه ولا ضرر عليه هنا فيقع الطلاق بايقاعه.
قال: ولو قال لامرأته طلقي نفسك ثم نهاها فطلقت نفسها قبل أن تقوم من مجلسها وقع الطلاق لأن ذلك في حقها تمليك لا إرسال وتوكيل وكما يتم إيقاع الطلاق بالزوج إذا أوقع على وجه لا يملك الرجوع عنه فكذلك يتم التمليك به على وجه لا يملك الرجوع عنه أو هذا في معنى التعليق بمشيئتها أو تخييره لها فلا يملك الرجوع عنه بعد تمامه.
قال: ولو قال لها إن شئت فأنت طالق فقالت نعم كان هذا باطلا لأن الشرط مشيئتها وقولها نعم ليس بمشيئة منها للطلاق فما لم يوجد الشرط بقولها شئت لا يقع عليها شيء وكذلك لو قالت قد قبلت لأن قبولها ليس بمشيئة للطلاق.
قال: ولو قال لرجلين إذا شئتما ففلانة طالق ثلاثا فشاء أحدهما واحدة والآخر اثنتين لم يقع عليها شيء لأن الشرط مشيئتهما الثلاث ولم يشأ أحد منهما الثلاث وبدون تمام الشرط لا ينزل الجزاء.
قال: ولو قال لها أنت طالق إذا شئت وشاء فلان فقالت قد شئت إن شاء فلان وقال فلان قد شئت كان هذا باطلا لأن الشرط مشيئتها ولم يوجد لأنها علقت مشيئتها بمشيئة فلان وقد بينا أن مثل هذا التعليق لا يكون مشيئة منها وبمشيئة فلان إنما وجد بعض الشرط وإن قال لها إن شئت فأنت طالق ثلاثا ثم قال لأخرى طلاقك مع طلاق هذه ثم شاءت تلك الطلاق طلقت وطلقت هذه معها ثلاثا إن كان أراد بقوله الطلاق لأنه علق طلاق الأولى بمشيئتها فقوله للأخرى طلاقك مع طلاق هذه كلام محتمل يجوز أن يكون المراد طلاقك مع طلاق هذه في ملكي ويجوز أن يكون المراد طلاقك مع طلاق هذه متعلق بذلك الشرط فينوي في ذلك فإن نوى الطلاق وقع عليهما بمشيئة الأولى وإن قال لم أنو الطلاق كان مدينا في القضاء لكون كلامه محتملا وإن قال إذا شئت فأنت طالق ثم قال لامرأة له أخرى أنت طالق إذا طلقت فلانة ثم شاءت فلانة الطلاق طلقت لوجود الشرط ولم تطلق الأخرى لأن الوقوع على الأولى عند مشيئتها بإيقاع الزوج وإيقاعه سبق يمينه في حق الثانية وشرط الحنث يراعي وجوده بعد اليمين ولو قال أولا إن طلقت فلانة فأنت طالق ثم قال لفلانة أنت طالق إذا شئت فشاءت الطلاق وقع عليهما على فلانة بوجود المشيئة وعلى الأخرى بوجود شرط الحنث لأنه صار مطلقا فلأنه بإيقاع منه بعد اليمين بطلاقها وذلك شرط الحنث في حقها.
قال: ولو قال لها إن تزوجت فلانة فهي طالق إن شاءت فتزوجها فلها المشيئة حين تعلم بذلك في مجلسها لأن قوله إن تزوجت فلانة شرط وقوله فهي طالق إن شاءت جزاء والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فكأنه بعد ما تزوجها قال هي طالق إن شاءت

 

ج / 6 ص -170-       فلهذا توقف على مجلس علمها وإن شاءت قبل أن يتزوجها فتلك المشيئة باطلة لأن المعلق بالشرط معدوم قبله فقبل التزوج لم يصر في يدها شيء فلهذا تلغو مشيئتها قبل التزوج وفي كل فصل تتوقف مشيئتها بالمجلس إن كانت قائمة فقعدت لم تبطل مشيئتها وإن كانت قاعدة فقامت بطلت مشيئتها لأن حالة القعود أجمع على الرأي مما قبل القعود لأن القعود يفرغ الرأي والقيام يفرقه فإنما انتقلت إلى القعود للتروي والنظر في أمرها فلا يكون ذلك إعراضا منها فإذا قامت فذلك دليل الإعراض منها.
قال: ولو قال لها أنت طالق غدا إن شئت فقالت الساعة قد شئت كان باطلا وإنما لها المشيئة في الغد بخلاف ما لو قال لها إن شئت فأنت طالق غدا ونوى الساعة بذلك أو قال إن شئت الساعة فأنت طالق غدا فإن لها المشيئة في مجلسها لأن قوله إن شئت شرط وقوله فأنت طالق غدا جزاء فقد علق بالشرط طلاقا مضافا إلى الغد ولو علق بالمشيئة طلاقا منجزا يعتبر وجود المشيئة في الحال حتى إذا قامت بطلت مشيئتها فكذلك إذا علق بها طلاقا مضافا وفي الفصل الأول بدأ بإضافة الطلاق إلى الغد ثم جعل ذلك الطلاق معلقا بمشيئتها فيراعي وجود المشيئة في ذلك الوقت وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن في الفصلين جميعا يراعي وجود المشيئة في الغد لأن التعليق بمشيئتها في المعنى كالتنجيز فإنما يعتبر وجوده وقت وقوع الطلاق وفي الفصلين الوقوع في الغد فلذلك يعتبر وجود المشيئة في الغد وعن زفر رحمه الله تعالى أن في الفصلين يعتبر وجود المشيئة في الحال لأن قوله إن شئت شرط والشرط وإن تأخر ذكره كان متقدما معنى لأنه ما لم يوجد الشرط لا ينزل الجزاء فكأنه بدأ بذكر المشيئة ألا ترى أنه لا فرق بين قوله إن دخلت الدار فأنت طالق غدا وبين قوله أنت طالق غدا إن دخلت الدار ثم إنما يقع في قوله إن شئت الساعة فأنت طالق غدا إذا قالت شئت أن أكون غدا طالقا وإن قالت شئت أن يقع الطلاق اليوم كانت هذه المشيئة باطلة ولم يقع عليها الطلاق اليوم ولا غدا لأنها شاءت غير ما جعله الزوج مفوضا إلى مشيئتها فإنه جعل الطلاق في الغد مفوضا إلى مشيئتها فإذا شاءت أن يقع اليوم فقد اشتغلت بشيء آخر فكان ذلك كقيامها عن المجلس.
قال: ولو قال إن شئت فأنت طالق إذا شئت فهما مشيئتان إحداهما على المجلس بقوله إن شئت والأخرى مطلقة بقوله إذا شئت ولكن المشيئة المطلقة معلقة بالمشيئة المؤقتة فإذا قالت في المجلس شئت أن أكون طالقا إذا شئت فقد وجد الشرط وصارت المشيئة المطلقة منجزة فكأنه قال لها أنت طالق إذا شئت فمتى شاءت بعد هذا طلقت وإن لم تقل شيئا حتى قامت من المجلس فلا مشيئة لها لأن شرط المشيئة المطلقة لم يوجد والمشيئة المقيدة بطلت بالقيام عن المجلس ويستوي إن صرح بذكر الساعة فقال إن شئت الساعة فأنت طالق إذا شئت أو لم يتكلم بالساعة ونواها قال لأن هذا كلام له وجهان في القضاء،

 

ج / 6 ص -171-       وفيما بينه وبين الله تعالى فإن نوى ما دامت في المجلس فهو كما نوى وإن نوى بعده فهو كما نوى ومراده أن كلمة إذا قد تكون بمعنى أن وقد تكون بمعنى متى فإن جعلت بمعنى إن كان آخر كلامه تكرارا وإن جعلت بمعنى متى كان تصريحا بالمشيئة المطلقة فينوي في ذلك ولم يذكر في الكتاب ما إذا قال إذا شئت فأنت طالق إن شئت وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن عند زفر رحمه الله تعالى التقديم والتأخير سواء فهذا كالأول وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى المعتبر هنا المشيئة المطلقة فسواء شاءت في المجلس أو بعده طلقت فإن المشيئة المطلقة أعم فلا تظهر بعدها المشيئة المؤقتة.
قال: وإن قال أنت طالق كيف شئت فهي طالق تطليقة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا مشيئة لها إن لم يكن دخل بها وإن كان دخل بها وقعت تطليقة رجعية والمشيئة إليها في المجلس بعد ذلك فإن شاءت البائنة وقد نوى الزوج ذلك كانت بائنة وإن شاءت ثلاثا وقد نوى الزوج ذلك كانت طالقا ثلاثا وإن شاءت واحدة بائنة وقد نوى الزوج ثلاثا فهي واحدة رجعية وإن شاءت ثلاثا وقد نوى الزوج واحدة بائنة فهي واحدة رجعية وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يقع عليها شيء ما لم تشأ فإذا شاءت فالتفريع كما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى وعلى هذا لو قال لعبده أنت حر كيف شئت عتق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا مشيئة له ولا يعتق عندهما ما لم يشأ هما يقولان الزوج تكلم بطلاق المشيئة فلا يقع بدون مشيئتها كقوله أنت طالق كم شئت أو أنت طالق حيث شئت أو أين شئت لا يقع ما لم تشأ وهذا لأن حرف كيف وإن كان استخبارا عن الوصف والحال ولكن ذلك إنما يتحقق فيما كان أصله موجودا قبل الاستخبار دون ما لم يكن أصله موجودا فيقام الأصل مقام الصفة فيما لم يكن موجودا قبل كلامه فلهذا تعلق أصل الطلاق بمشيئتها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنما يتأخر إلى مشيئتها ما علق الزوج بمشيئتها دون ما لم يعلق وكيف لا يرجع إلى أصل الطلاق فيكون منجزا أصل الطلاق ومفوضا للصفة إلى مشيئتها بقوله كيف شئت إلا أن في غير المدخول بها وفي العتق لا مشيئة لها في الصفة بعد إيقاع الأصل فيلغو تفويضه المشيئة في الصفة إليها أيضا وفي المدخول بها لها المشيئة في الصفة بعد وقوع الأصل أن تجعلها بائنا أو ثلاثة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى على ما أمليناه في كتاب الدعوى فيصح تفويضه إليها فإن شاءت في مجلسها أن تكون بائنة أو ثلاثا جاز ذلك إذا نوى الزوج ما شاءت وإن نوى الزوج الواحدة البائنة فشاءت الثلاثة فقد شاءت غير ما نوى فلهذا كان الواقع عليها تطليقة رجعية توضيحه أن الاستخبار عن وصف الشيء وحاله لما كان من ضرورته وجود أصله تقدم وقوع أصل الطلاق في ضمن تفويضه المشيئة في الصفة إليها فإن الاستخبار عن وصف الشيء قبل وجود أصله محال كما قال القائل:

يقول خليلي كيف صبرك بعدنا               فقلت وهل صبر فيسأل عن كيف

 

ج / 6 ص -172-       بخلاف قوله كم شئت لأن الكمية استخبار عن العدد فيقتضي تفويض العدد إلى مشيئتها وأصل العدد في المعدودات الواحد وبخلاف قوله حيث شئت وأين شئت لأنه عبارة عن المكان والطلاق إذا وقع في مكان يكون واقعا في الأمكنة كلها فكان ذلك تعليق أصل الطلاق بمشيئتها وهذه الألفاظ كلها على المجلس لأنها لا تنبئ عن الوقت فيتوقت بالمجلس كقوله إن شئت ولو قال أنت طالق زمان شئت أو حين شئت فقامت من ذلك المجلس لم تبطل المشيئة لأن زمان وحين عبارة عن الوقت فكأنه قال أنت طالق إذا شئت أو متى شئت.
قال: وإذا قال أنت طالق أمس إن شئت فلها المشيئة في ذلك المجلس لأنه لو لم يقل إن شئت كان يقع الطلاق عليها في الحال وكان قوله أمس لغوا فكذلك إذا قال إن شئت يكون كلامه تعليقا للطلاق في الحال بمشيئتها فلها المشيئة ما دامت في المجلس وإن قال أنت طالق على ألف درهم إذا شئت أو متى شئت أو كلما شئت فذلك إليها متى شاءت اعتبارا للطلاق بالجعل بالطلاق بغير جعل وهذا لأن في الطلاق بجعل يعتبر قبولها وهي بالمشيئة تكون قابلة ولما كان حرف إذا ومتى للوقت فقد علق الطلاق بجعل بقبولها في أي وقت يكون فسواء قبلت في المجلس أو بعده بمشيئتها وقع الطلاق ولزمها المال وإن قال إن شئت فهذا على المجلس كما لو كان الطلاق بغير جعل فإن قالت في المجلس قد شئت وقع الطلاق ولزمها المال وإن قامت قبل أن تشاء فهي امرأته.
قال: وإذا قال لها إذا شاء فلان فأنت طالق وفلان ميت أو كان حيا فمات ساعتئذ والزوج يعلم بذلك أو لا يعلم لم يقع عليها الطلاق أما إذا كان حيا فمات فلأن الشرط مشيئته وقد فات بموته وبفوات الشرط يمتنع نزول الجزاء وأما إذا كان ميتا فلأنه علق الطلاق بشرط لا كون له فيكون تحقيقا للنفي كما لو قال أنت طالق إن شاء هذا الجدار أو إن تكلمت الموتى أو إن تكلمت هذه الحصاة يكون تحقيقا للنفي لا إيقاعا وكذلك إذا قال إذا شاء الجن أو ما أشبه هذا من خلق لا يرى ولا يظهر ولا تعلم مشيئته هذا تحقيق للنفي وتأثيره في إخراج الكلام من أن يكون عزيمة ولو قال إذا شاء فلان وفلان غائب فمات ولا يعلم أنه شاء أو لم يشأ لم تطلق كما لو قال أنت طالق إن تكلم فلان بطلاقك فمات فلان قبل أن يعلم ذلك منه لم تطلق لأن المتعلق بالشرط لا ينزل إلا بعد العلم بوجود الشرط.
قال: ولو قال أنت طالق إن كنت تحبين كذا لشيء يعلم أنها تحبه أو لا تحبه مثل الموت والعذاب فقالت أنا أحب ذلك فهي طالق إذا قالت ذلك في مجلسها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى فيما يعلم أنها لا تحبه لا يقبل قولها ولا تطلق لأنا نتيقن بكذبها فإن أحدا لا يحب العذاب في النار ولا الموت في الدنيا والمخبر عن الشيء إذا كان متهما بالكذب لا يقبل خبره فعند التيقن بالكذب أولى وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا محبتها تكون بقلبها وذلك مما لا يوقف عليه فيقام

 

ج / 6 ص -173-       خبرها بذلك مقام حقيقته تيسيرا وصار كأنه قال لها إن أخبرتني أنك تحبين الموت والعذاب وقد أخبرت بذلك مع أن في خبرها احتمال الصدق وقد يبلغ ضيق الصدر بالمرء وسوء الحال درجة يحب فيها الموت وقد تحملها شدة بغضها للزوج على أن تؤثر العذاب والموت على صحبته وذلك محسوس وقد تحملها شدة البغض أو الغيرة على أن تقتل نفسها وهل في ذلك إلا إيثار العذاب والموت على صحبته وكذلك لو قال لها إن كنت تبغضين كذا لشيء يعلم أنها تحبه مثل الجنة والغنى فقالت أنا أبغضه فهو كالأول على ما بينا وإن قال أنت طالق إن كنت تحبين كذا فقالت لست أحبه وهي كاذبة لم يقع الطلاق عليها لأن السبب الظاهر وهو الإخبار قام مقام المعنى الخفي فيدور الحكم مع السبب الظاهر وجودا وعدما ويسقط اعتبار المعنى الخفي وكذلك إن قال أنت طالق ثلاثا إن كنت أنا أحب ذلك ثم قال لست أحب ذلك وهو كاذب فهي امرأته ويسعه أن يطأها فيما بينه وبين الله تعالى ويسعها المقام معه وهذا مشكل لأنه إن كان لا يعرف ما في قلبها حقيقة يعرف ما في قلبه ولكن الطريق ما قلنا أن ما في قلبه وما في قلبها لا يمكن الوقوف على حقيقته فإنما يتعلق بالسبب وهو الإخبار فإذا أخبر بخلاف ما جعله شرطا لم يقع عليها شيء المحبة والبغض في ذلك سواء وإن قال لها إن كنت أحب طلاقك فأنت طالق ثم قال لست أحب ذلك أو لم يقل شيئا فهي امرأته لأن شرط وقوع طلاقها إخباره بمحبة طلاقها فإذا لم يقل شيئا لم يوجد الشرط وإن قال لست أحبه فقد أخبر بضد ما جعله شرطا فلا يقع الطلاق وإن كان يحب ذلك حقيقة وكذلك لو قال لها إن كنت تحبين طلاقك فأنت طالق ثلاثا فشرط الوقوع إخبارها بمحبة الطلاق ما دامت في المجلس حتى إذا قامت قبل أن تقول شيئا لم تطلق وإن كانت تحب ذلك بقلبها لانعدام الشرط وهو الخبر وكذلك إن قالت لا أحبه وهي كاذبة لم تطلق لأنها أخبرت بضد ما هو شرط الطلاق وكذلك لو قال إن كنت تحبين الطلاق بقلبك أو تهوينه أو تريدينه أو تشتهينه بقلبك دون لسانك فأنت طالق ثلاثا فقالت لا أشاء ولا أحب ولا أهوى ولا أريد ولا أشتهي فهي امرأته لأنها أخبرت بضد ما هو شرط الطلاق ولا تصدق بعد ذلك على خلاف هذا القول إما للتناقض أو لأن بالخبر الأول قد تم شرط بره وبعد تمام شرط البر في اليمين لا يتصور الحنث وإن سكتت ولم تقل شيئا حتى قامت فهي امرأته لأن الشرط لم يوجد وهو إخبارها في المجلس وإن كان في قلبها خلاف ما أخبرت به فإنه يسعها أن تقيم معه فيما بينها وبين الله تعالى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولا يسعها ذلك في قول محمد رحمه الله تعالى لأنه جعل الشرط محبتها بقلبها حين صرح به فلا معتبر بخبرها بخلافه ولكنا نقول إنما يعتبر من كلامه ما يمكن الوقوف على معرفته فإما أن يقوم خبرها مقام حقيقة ما في قلبها لأنه إنما يعبر عما في قلبها لسانها أو لما جعل الشرط ما لا طريق لنا إلى معرفته حقيقة كان ذلك تحقيقا للنفي كما بينا من نظائره فيما سبق.

 

ج / 6 ص -174-       قال: وإن قال لامرأتيه أيتكما شاءت فهي طالق ثلاثا فشاءتا جميعا فهما طالقان وإن شاءت إحداهما وسكتت الأخرى فالتي شاءت طالق لأن كلمة أي تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] ولم يقل يأتوني ويقال أيكم فعل كذا ولا يقال فعلوا ولا فعلتم وإذا ثبت أنه يتناول كل واحدة على الانفراد صارت مشيئة كل واحدة شرطا لوقوع الطلاق عليها على الانفراد بخلاف قوله إن شئتما على ما تقدم فإن شاءتا وقال الزوج إنما عنيت أحدا كما لم يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى على معنى أنه نوى التخصيص في لفظ العموم فإن كان عنى واحدة منهما بعينها فارق تلك الواحدة وإن عنى بغير عينها يمسك أيتهما شاء وفارق الأخرى ولا يسع امرأتيه أن تقيما معه لأنهما يتبعان الظاهر فكما لا يصدقه القاضي في ذلك فكذلك لا يسعهما أن يصدقاه وإن قال أشدكما حبا لي أو للطلاق طالق أو قال أشدكما بغضا لي أو للطلاق طالق فادعت كل واحدة منهما أنها أشد حبا أو بغضا في ذلك وكذبهما الزوج لم تطلق واحدة منهما لأن كل واحدة منهما تدعي شرط الطلاق والزوج ينكر ذلك وقد يكونان في ذلك سواء لا يحبان ولا يبغضان  فإن قيل لماذا لا يقام هنا إخبار كل واحدة منهما مقام حقيقة كونها أشد حبا أو بغضا.
قلنا: لا طريق لواحدة منهما إلى معرفة ما في قلب صاحبتها وبدون ذلك لا يعرف أنها أشد حبا أو بغضا فتكون في الإخبار مجازفة فلهذا لا يقام الخبر مقام حقيقة الشرط توضيحه أنا لما أقمنا هنا الخبر مقام حقيقة الشرط جعلناهما طالقين ونحن نتيقن أنه ما طلقهما إنما طلق أشدهما حبا له أو بغضا له ولا يتصور ذلك في حقهما جميعا ولهذا لا تطلق واحدة منهما والله أعلم.

باب الخيار
قال: وإذا قال لامرأته اختاري فاختارت نفسها في القياس لا يقع عليها شيء وإن نوى الطلاق لأن التفويض إليها إنما يصح فيما يملك الزوج مباشرته بنفسه وهو لا يملك إيقاع الطلاق عليها بهذا اللفظ حتى لو قال اخترتك من نفسي أو اخترت نفسي منك لا يقع شيء فلا يملك التفويض إليها بهذا اللفظ أيضا ولكنا تركنا القياس لآثار الصحابة روي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وجابر وزيد وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين قالوا في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما دامت في مجلسها ذلك فإن قامت من مجلسها فلا خيار لها ولأن الزوج مخير بين أن يستديم نكاحها أو يفارقها فيملك أن يسويها بنفسه في حقه بأن يخيرها وقد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه حين نزل قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] ثم كان القياس أن لا يبطل خيارها بالقيام عن المجلس لأن التخيير من الزوج مطلق والمطلق فيما يحتمل التأبيد متأبد ولكنا تركنا هذا القياس لآثار الصحابة رضي الله عنهم ولأن الخيار الطارئ لها على النكاح من جهة الزوج

 

ج / 6 ص -175-       معتبر بالخيار الطارئ شرعا وهو خيار المعتقة وذلك يتوقت بالمجلس فكذلك هذا لها الخيار ما بقيت في المجلس وإن تطاول يوما أو أكثر لأن المجلس قد يطول وقد يقصر ألا ترى أن حكم قبض بدل الصرف ورأس مال السلم لما توقت بالمجلس لم يفترق الحال بين أن يطول أو يقصر فإذا قامت أو أخذت في عمل يعرف أنه قطع لما كانت فيه من ذلك بطل خيارها لأن اشتغالها بعمل آخر يقطع المجلس ألا ترى أن المجلس يكون مجلس مناظرة ثم ينقلب مجلس أكل إذا اشتغلوا به ثم مجلس القتال إذا اقتتلوا ولأن الذهاب عن المجلس إنما كان مبطلا لخيارها لوجود دليل الإعراض عما فوض إليها وذلك يحصل باشتغالها بعمل آخر وكذلك بقيامها وإن لم تذهب لأن القيام يفرق الرأي وبه فارق الصرف والسلم فإن بمجرد القيام قبل الذهاب هناك لا يبطل العقد لأنه لا معتبر بدليل الإعراض ثم وإنما المعتبر الافتراق قبل القبض وإن كانت قاعدة حين خيرها فاضطجعت بطل خيارها في قول زفر رحمه الله تعالى وهو رواية الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن الاضطجاع دليل الإعراض والتهاون بما خيرها وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يبطل خيارها لأن الإنسان قد يضطجع إذا أراد أن يروي النظر في أمر ولو كانت متكئة حين خيرها فاستوت قاعدة لا يبطل خيارها لأنه دليل الإقبال على ما حز بها من الأمر وإن كانت قاعدة فاتكأت ففي إحدى الروايتين لا يبطل خيارها لأن الاتكاء نوع جلسة فكأنها كانت متربعة فاحتبت وفي الرواية الأخرى يبطل خيارها لأن الاتكاء بمنزلة الاضطجاع لأنه إظهار للتهاون بما خيرها وإذا خيرها وقال لم أرد به الطلاق فالقول قوله مع يمينه لأن قوله اختاري كلام محتمل يجوز أن يكون مراده اختاري نفقة أو كسوة أو دارا للسكنى وفي الكلام المحتمل القول قول الزوج أنه لم يرد الطلاق مع يمينه لكونه متهما في ذلك وإن نوى الطلاق فإن كان قال لها اختاري فقالت اخترت لا يقع شيء أيضا لأنه ليس في كلامه ولا في كلامها ما يوجب التخصيص وإزالة الإبهام والطلاق لا يقع بمجرد القصد من غير لفظ يدل عليه بخلاف ما إذا قال لها اختاري نفسك فقالت اخترت أو قال اختاري فقالت اخترت نفسي لأن هناك في كلام أحدهما تنصيص على التخصيص فيقع به الطلاق عند النية ثم المخيرة إذا اختارت زوجها لم يقع عليها شيء إلا على قول علي رضي الله عنه فإنه يقول يقع تطليقة رجعية إذا اختارت زوجها فكأنه جعل عين هذا اللفظ طلاقا فقال إذا اختارت زوجها فالواقع به طلاق لا يرفع الزوجية ولسنا نأخذ بهذا بل نأخذ بقول عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنها إذا اختارت زوجها فلا شيء وهذا لحديث عائشة رضي الله عنها قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يكن ذلك طلاقا وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة عندنا وهو قول علي رضي الله عنه وعلى قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما واحدة رجعية وعلى قول زيد رضي الله عنه إذا اختارت نفسها فثلاث وكأنه حمل هذا اللفظ على أتم ما يكون من الاختيار وعمر وابن

 

ج / 6 ص -176-       مسعود رضي الله عنهما حملا على أدنى ما يكون منه وهو التطليقة الرجعية ولكنا نأخذ في هذا بقول علي رضي الله عنه لأن اختيارها نفسها إنما يتحقق إذا زال ملك الزوج عنها وصارت مالكة أمر نفسها وذلك بالواحدة البائنة وليس في هذا اللفظ ما يدل على الثلاث لأن حكم مالكيتها أمر نفسها لا يختلف بالثلاث والواحدة البائنة ولهذا قلنا وإن نوى الثلاث بهذا اللفظ لا تقع إلا واحدة بائنة لأن هذا مجرد نية العدد منه وقوله اختاري أمر بالفعل فلا يحتمل معنى العدد بخلاف قوله أنت بائن فنية الثلاث إنما تصح هناك باعتبار أنه نوى به نوعا من البينونة وهنا الاختيار لا يتنوع فبقي هذا مجرد نية العدد.
قال: والتخيير في السفينة كالتخيير في البيت لأن السفينة في حق راكبها كالبيت لا يجريها بل هي تجري به قال الله تعالى:
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود: 42] ألا ترى أنه لا يتمكن من إيقافها متى شاء فلها الخيار ما دامت في مجلسها بخلاف ما إذا خيرها وهي راكبة فسارت الدابة بعد الخيار شيئا يبطل خيارها لأن سير الدابة مضاف إلى راكبها حتى يتمكن من إيقافها متى شاء فكان ذلك كمشيئتها في حكم تبدل المجلس إلا أن تكون الدابة واقفة أو سائرة فاختارت نفسها متصلا بتخيير الزوج من غير سكوت بين الكلامين فحينئذ يصح اختيارها لأن دليل الإعراض إنما يتحقق بسكوتها بعد تخيير الزوج ولم يوجد وكذلك إن كان معها على تلك الدابة أو كانا في محمل واحد وهكذا الجواب في البيع إن اتصل قبول المشتري بإيجاب البائع من غير سكتة بينهما في هذا الفصل ينعقد البيع وإلا فلا وإن خيرها وهي في صلاة مكتوبة فاتمت صلاتها لم يبطل خيارها لأنها ممنوعة عن قطع الصلاة قبل إتمامها فلا تتمكن من الاختيار ما لم تفرغ ودليل الإعراض بترك الإختيار بعد التمكن منه والوتر في هذا كالمكتوبة لأنها ممنوعة من قطعها قبل الإتمام فأما في التطوع إذا كانت في الشفع الأول فأتمت ذلك الشفع لا يبطل خيارها لأنها ممنوعة من إبطال العمل والركعة الواحدة لا تكون صلاة معتبرة كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والله ما أجزت ركعة قط وإن تحولت إلى الشفع الثاني بطل خيارها لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة فاشتغالها بالشفع الثاني دليل الإعراض بمنزلة ما لو افتتحت الصلاة بعد ما خيرها الزوج وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى في الأربع قبل الظهر إذا كانت في الشفع الأول حين خيرها فأتمت أربعا لم يسقط خيارها لأن هذه الأربع تؤدى بتسليمة واحدة عادة وإن كانت قاعدة فدعت بطعام فطعمت يبطل خيارها لأن مجلسها تبدل حين دعت بطعام فقد صار مجلسها مجلس الأكل وهذا دليل الإعراض والتهاون منها بخلاف ما لو أكلت شيئا يسيرا من غير أن تدعو بالطعام فذلك القدر لقلته لا يبدل المجلس فلا يكون ذلك دليل الإعراض بل ذلك منها تفريغ نفسها لما حزبها وكذلك إن شربت ماء لأنها إنما شربت لتتمكن من الكلام ففي حالة المشاجرة قد يجف فم المرء فلا يقدر على الكلام ما لم يشرب فلا يكون ذلك دليل الإعراض بل ذلك منها تفريغ نفسها ولو نامت أو

 

ج / 6 ص -177-       امتشطت أو اغتسلت أو اختضبت في ذلك المجلس فهذا كله دليل الإعراض لاشتغالها بعمل آخر لا تحتاج إليه وليس ذلك من عمل الإختيار وكذلك إن جامعها فتمكينها من أدل الدلائل على إعراضها وكذلك إن أقامها من مجلسها إما لأنها طاوعته في القيام أو لأنها تركت الاختيار حتى أقامها فذلك دليل الإعراض منها وكذلك هذا كله في قوله أمرك بيدك وأنت طالق إن شئت لتوقتهما بالمجلس وإن لبست ثيابها من غير أن تقوم لم يبطل خيارها لأنها إنما تلبس لتكون مستترة منه إذا اختارت نفسها فلا يكون دليل الإعراض وكذلك إذا دعت شهودا لأنها تقصد بذلك إشهادهم على اختيار أمر نفسها وكذلك إذا قالت ادعوا إلي أبي أو أمي لأنها تقصد بذلك أن تستشيرهما فلا يكون ذلك دليل الإعراض منها والإستشارة في مثل هذا حسن على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: "إني أعرض عليك أمرا فلا تحدثي فيه شيئا حتى تستشيري أبويك" ثم تلا عليها آية التخيير وخيرها فقالت أفي هذا أستشير أبوي أنا أختار الله ورسوله وكذلك إن سبحت أو قرأت آية أو نحوها من القرآن فلا يكون دليل الإعراض منها وقد يفعل المرء ذلك للإستخارة فلا يبطل به ما صار في يدها من الخيار والأمر والمشيئة.
قال: وإذا خيرها أو جعل أمرها إليها فقالت قد طلقتك فهو باطل وقد بينا هذا فيما سبق أن الزوج ليس بمحل للطلاق وروينا فيه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
قال: وإذا قال اختاري ثم اختاري ثم اختاري ينوي الطلاق بهذا كله فاختارت نفسها فهي ثلاث تطليقات لأن الوقوع بهذه الألفاظ عند اختيارها نفسها يكون جملة واحدة فإن اختيارها نفسها جواب للكلمات الثلاث والترتيب بحرف ثم في كلام الزوج فلا يوجب ذلك ترتيبا في الوقوع لأن الوقوع باختيارها نفسها ولو اختارت نفسها بالأولى قبل أن يتكلم بالثانية والثالثة بانت بالأولى ولم يقع بالثانية والثالثة شيء لأن البائن لا يلحق البائن ولأنها ملكت أمر نفسها حين بانت بالأولى فلا يكون كلامه الثاني والثالث إيجابا بل إخبارا عن حالها أنها مالكة أمر نفسها وهو صادق في ذلك بخلاف الأول فإن هناك كلامه الثاني والثالث إيجاب لأنه تكلم به قبل أن تملك أمر نفسها.
قال: ولو قال لها اختاري اختاري اختاري فاختارت نفسها فقال الزوج نويت بالأولى الطلاق وبالآخريين أن أفهمها لم يصدق في القضاء وبانت بثلاث لأن الكلام الثاني والثالث إيجاب صحيح من حيث الظاهر والقاضي مأمور باتباع الظاهر ولكنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن الكلام الواحد قد يكرر للتأكيد وتفهيم المخاطب ولو قال لها اختاري فقالت قد اخترت فلما قامت عن المجلس قالت عنيت نفسي لم تصدق في ذلك لأن الأمر خرج من يدها بالقيام عن المجلس فإنما اخبرت بما لا تملك إنشاءه وهذا يدل على إنها لو قالت قبل أن تقوم أردت نفسي أن ذلك يصح منها لبقائها في المجلس كما لو سكتت حتى الآن ثم قالت

 

ج / 6 ص -178-       اخترت نفسي ولكنه قال في التعليل قد خرج الأمر من يدها حين تكلمت بذلك فهذا إشارة إلى أنها وإن قالت في المجلس أردت نفسي لا يقبل قولها وهذا هو الصحيح لأن اشتغالها بكلام مبهم دليل الإعراض والتهاون وإن قال لها اختاري نفسك فقالت قد اخترت فهذا جواب وهي طالق لأن جوابها بناء على خطاب الزوج فما تقدم في الخطاب يصير كالمعاد في الجواب فكأنها قالت اخترت نفسي وإذا خيرها بعد ذكر الطلاق فاختارت نفسها ثم قال لم أنو به الطلاق لم يصدق في القضاء وكذلك إن قال هذا في غضب وقد بينا هذا في فصول الكنايات وكما لا يصدقه القاضي فكذلك لا يسع المرأة أن تقيم معه إلا بنكاح مستقبل وإذا قال لها اختاري ثم طلقها واحدة بائنة بطل الخيار لأنها صارت مالكة أمر نفسها بما أوقع عليها وإنما كانت تختار أمر نفسها لهذا المقصود فلا يتحقق ذلك بعد ما ملكت أمر نفسها وكذلك لو قال أنت طالق واحدة بائنة إن شئت فقالت قد شئت سقط الخيار لأنها ملكت أمر نفسها ولو كان الطلاق رجعيا كان الخيار على حالة لأنها بهذا الطلاق لا تصير مالكة أمر نفسها وكذلك هذا في الأمر باليد وذكر في الأمالي أنه إذا قال لها اختاري إذا شئت أو امرك بيدك إذا شئت ثم طلقها واحدة بائنة ثم تزوجها فاختارت نفسها أنها لا تطلق في قول أبي يوسف رحمه الله لأن الزوج أوقع بنفسه ما فوض إليها فيكون ذلك إخراجا للأمر من يدها وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تطلق تطليقة بائنة لأن التفويض قد صح فلا يبطل بزوال الملك إلا أنها بعد زوال الملك كانت لا تتمكن من الاختيار لكونها مالكة أمر نفسها فإذا زال ذلك بالعقد فهي على خيارها وما قاله أبو يوسف رحمه الله ضعيف لأن الطلاق متعدد فلا يتعين ما أوقعه الزوج لما فوضه إليها كما لو قال لغيره بع قفيزا من هذه الصبرة ثم باع بنفسه قفيزا لا ينعزل الوكيل.
قال: وإذا قال لها اختاري الأزواج أو اختاري أهلك أو أبويك فقالت قد اخترت الأزواج أو أبي أو أهلي وقد عنى الزوج الطلاق في القياس لا تطلق لأنها ما اختارت نفسها وقد كان القياس في أصل هذا اللفظ أن لا يقع به شيء تركنا القياس لآثار الصحابة رضي الله عنهم وإنما ورد الأثر في اختيارها نفسها فما سوى ذلك يبقى على أصل القياس ولكنه استحسن فقال هي طالق لأن هذا في معنى اختيارها نفسها فإنها إنما تختار الأزواج إذا ملكت أمر نفسها وإنما تتمكن من الرجوع إلى بيت أبيها وأهلها إذا ملكت أمر نفسها فكان هذا في معنى اختيارها بخلاف ما لو قال اختاري أختك أو أخاك أو ذا رحم محرم منك فاختارت ذلك وهو ينوي الطلاق فإن هذا ليس في معنى اختيارها نفسها من كل وجه فيؤخذ فيه بالقياس ولا يقع عليها شيء ولو قال لها اختاري فقالت أختار نفسي في القياس لا تطلق لأن كلامها وعد وليس بإيجاب ألا ترى أنه لو قال لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي لم يقع شيء ولكن في الاستحسان تطلق لأن قولها أختار وعد صورة وإيجاب معنى والعادة الظاهرة في هذا اللفظ أنه يراد به الحال دون الاستقبال يقول الرجل فلان يختار كذا وأنا أختار كذا والشاهد يقول بين

 

ج / 6 ص -179-       يدي القاضي أشهد والمؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله والمراد به التحقيق دون الوعد ولم يوجد مثل هذه العادة في قولها أنا أطلق نفسي فلهذا يؤخذ هناك بالقياس ولو قال لها اختاري فقالت قد فعلت لم يقع شيء كما لو قالت اخترت لأن قولها قد فعلت في معنى الإبهام أزيد من قولها قد اخترت وإذا قال اختاري نفسك فقالت قد فعلت طلقت كما لو قالت اخترت لأنها أخرجت الكلام مخرج الجواب فيصير ما تقدم في الخطاب كالمعاد في الجواب وإن قال اختاري إن شئت فقالت قد اخترت نفسي وقع الطلاق عليها لأن في اختيارها نفسها مشيئة وزيادة وإن قال اختاري بألف درهم فاختارت زوجها لم يلزمها المال لأن وجوب المال عليها بإزاء البينونة ولا يحصل ذلك إذا اختارت زوجها بخلاف ما إذا اختارت نفسها فالبينونة قد حصلت هنا وقد أوجب الزوج ذلك لها بعوض وفي اختيارها نفسها قبول منها.
قال: وإن قال اختاري فقالت قد اخترت نفسي إن كنت زوجي أو إن كان كذا لشيء ماض وقع الطلاق لأن التعليق بالموجود تنجيز فهذا وقولها اخترت نفسي سواء فإن اشترطت شيئا لم يكن فقد بطل الخيار لأنها أتت بالتعليق وإنما فوض إليها التنجيز فاشتغالها بالتعليق يكون إعراضا عما فوض إليها فيبطل خيارها.
قال: وإن قال اختاري فقالت قد طلقت نفسي طلقت واحدة بائنة بخلاف ما لو قال لها طلقي نفسك فقالت قد اخترت نفسي كان هذا باطلا لأن لفظ الاختيار أضعف من لفظ الطلاق ألا ترى أن الزوج يملك الإيقاع بلفظ الطلاق دون لفظ الاختيار فالأضعف لا يصلح جوابا للأقوى والأقوى يصلح جوابا للأضعف توضيحه أن قولها طلقت نفسي لو كان قبل تخيير الزوج توقف على إجازة الزوج فإذا كان بعد تخيير الزوج يكون عاملا وقولها اخترت نفسي قبل تخيير الزوج يكون لغوا لا يتوقف على إجازة الزوج فكذلك بعد تفويض الزوج بقوله طلقي نفسك لأن التفويض غير التخيير يقرره أن بقوله اختاري نفسك يثبت لها الخيار ومن ضرورته أن تملك اكتساب سبب الفرقة وقولها طلقت نفسي من ذلك فيصح منها فأما قوله طلقي نفسك فإنه تفويض للطلاق إليها وليس من ضرورته أن يثبت الخيار لها في اكتساب سبب الفرقة وقولها اخترت نفسي من ذلك فلهذا كان باطلا منها.
قال: ولو قال الزوج لرجل خير امرأتي أو قل لها أمرك بيدك فما لم يخيرها ذلك الرجل لا يصير الأمر بيدها لأنه أناب ذلك الرجل مناب نفسه في تخييرها وما أوجب لها الخيار بنفسه بخلاف ما لو قال لذلك الرجل قل لها أن الخيار بيدها أو أن أمرها بيدها أو أنها طالق إن شاءت فذلك بيدها أخبرها الرجل أو لم يخبرها لأنه أوجب لها ذلك بنفسه وجعل المخاطب رسولا إليها في إعلامها ذلك فسواء أعلمها أو علمت بنفسها بسماعها من الزوج أو من غيره كان لها الخيار في مجلس علمها ولو لم تعلم به إلا بعد أيام فمتى علمت كان لها الخيار في مجلسها لأنها لا تتمكن من التصرف بمقتضى هذا التخيير ما لم تعلم به فيتوقف ثبوت الحكم

 

ج / 6 ص -180-       في حقها على علمها به في خطاب الشرع وكما في خيار المعتقة أنه يبقى إلى علمها به ومتى علمت كان لها الخيار في ذلك المجلس.
قال: وإن قال هي بالخيار اليوم فلها الخيار إلى غروب الشمس ولا يبطل خيارها بقيامها عن المجلس لأنه أوجب لها خيارا ممتدا فلا يبطل ذلك ما بقي وقته وإن لم تعلم حتى مضى اليوم بطل خيارها لأن الخيار كان مؤقتا بوقت فلا موجب له بعد مضي ذلك الوقت ولكن ينتهي بمضي الوقت سواء علمت أو لم تعلم وكذلك لو قال هي بالخيار هذا الشهر وذكر في النوادر أنها لو اختارت زوجها ثم أرادت أن تختار نفسها قبل مضي الشهر فليس لها ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لها ذلك وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله لها ذلك على عكس هذا وقال إذا قال لها الخيار إلى رأس الشهر فاختارت زوجها في يوم ثم أرادت أن تختار نفسها في يوم آخر فليس لها ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولها ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله فمن يقول لها ذلك قال لأن اختيارها زوجها بمنزلة قيامها عن المجلس فكما لا يبطل خيارها في الأمر المؤقت بالقيام عن المجلس واشتغالها بعمل آخر فكذلك باختيارها زوجها ومن يقول ليس لها أن تختار نفسها قال لأن الخيار واحد في جميع المدة وقد أبطلته حين اختارت زوجها فلا يبقى بعد إبطالها خيار حتى تختار به نفسها.
قال: وإن قال لامرأة يوم أتزوجك فاختاري أو متى أتزوجك فاختاري أو إن تزوجتك أو إذا تزوجتك أو كلما تزوجتك فلها الخيار في جميع ذلك في المجلس الذي يتزوجها فيه لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز إلا في كلما فإن لها الخيار كلما تزوجها في ذلك المجلس مرة بعد مرة لأن كلمة كلما تقتضي التكرار.
قال: وإن قال اختاري إذا أهل الشهر أو إذا كملت السنة أو إذا قدم فلان فإن لم تعلم بذلك فلها الخيار إذا علمت فالمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولو خيرها مطلقا عند وجود هذه الأمور يتوقف على المجلس الذي علمت به كذلك هنا.
قال: وإن قال اختاري يوم كذا أو رأس الشهر أو صلاة الأولى فلها الخيار في ذلك اليوم كله ووقت تلك الصلاة كله ورأس الشهر ليلته ويومه كله لأن الشهر يشتمل الليالي والأيام ورأسه الليلة الأولى ويومها ويسقط خيارها بمضي هذا الوقت إن علمت أو لم تعلم لأنه أوجب لها الخيار مؤقتا فلا يبقى بعد مضي الوقت.
قال: وإن قال اختاري يوم يقدم فلان فقدم فلان ليلا فلا خيار لها ولو قدم بالنهار فلها الخيار في ذلك اليوم إلى غروب الشمس لأن الخيار يتوقت فذكر اليوم فيه للتوقيت به فيتناول بياض النهار خاصة بخلاف قوله أنت طالق يوم يقدم فلان لأن الطلاق لا يحتمل التوقيت ولا يختص بأحد الوقتين فذكر اليوم فيه عبارة عن الوقت.

 

ج / 6 ص -181-       قال: وإن قال اختاري تطليقة فقالت قد اخترتها فهي واحدة رجعية لأن قوله تطليقة بمنزلة التفسير لأول كلامه والمبهم إذا تعقبه تفسير يكون الحكم لذلك التفسير فيصير مفوضا إليها الطلاق باللفظ الصريح وكذلك الأمر باليد لو قال لها أمرك بيدك في تطليقة كان هذا تفسير الأول كلامه ولو قال اختاري تطليقتين فقالت قد اخترت واحدة وقع عليها تطليقة رجعية لأنها ملكت إيقاع اثنتين ومن ضرورته أن تملك إيقاع الواحدة وهذا بخلاف ما لو قال لها اختاري تطليقتين إن شئتهما فاختارت واحدة لا يقع عليها شيء لأنه جعل الشرط مشيئتها تطليقتين ولم يوجد ذلك بإيقاع الواحدة.
قال: ولو قال لها اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي فهذا جواب منها تام للكلمات الثلاث فتطلق ثلاثا وكذلك لو قالت اخترت نفسي مرة واحدة أو بمرة أو اختياره فهذا جواب تام للكلمات الثلاث فتطلق ثلاثا وإن قالت اخترت التطليقة الأولى وقع عليها واحدة بالإتفاق.
قال: وإن قالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهي طالق ثلاثا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تطلق واحدة بائنة بمنزلة ما لو قالت اخترت التطليقة أو اخترت التطليقة الأولى لأن معنى قولها اخترت الأولى ما صار إليها بالكلمة الأولى والذي صار إليها بالكلمة الأولى تطليقة فكأنها صرحت بذلك توضيحه أن الأولى نعت لمؤنث فيجوز أن يكون المراد به التطليقة فلا يقع به إلا واحدة ويجوز أن يكون المراد به المرة أو الاختيار فيقع الثلاث ولكن الطلاق بالشك لا ينزل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الأولى نعت لمؤنث ولكن النعت ينصرف إلى منعوت مذكور ولا ينصرف إلى ما لم يذكر مع إمكان صرفه إلى المذكور والمذكور الاختيار دون الطلاق فكان هذا بمنزلة قولها اخترت الاختيارة الأولى أو المرة الأولى ولو صرحت بذلك طلقت ثلاثا وحرف آخر له أنها أتت بالترتيب فيما لا يليق به صفة الترتيب فيلغو ذكر الترتيب فيبقى قولها اخترت فيكون جوابا للكل وبيان هذا أن التطليقات الثلاث قد اجتمعت في ملكها حتى يقع الثلاث جملة باختيارها نفسها والمجتمع في زمان أو مكان لا يليق به صفة الترتيب فكذلك المجتمع في الملك لا يليق به صفة الترتيب وهذا بخلاف قولها اخترت التطليقة الأولى فإن هناك يلغو ذكر الترتيب أيضا فيبقى قولها اخترت التطليقة  فإن قيل كان ينبغي أن لا يقع هناك شيء لأنه لما لغي ذكر الترتيب بقي قولها اخترت وقد بينا أن بهذا اللفظ لا يقع الطلاق ما لم تقل اخترت نفسي.
قلنا: هذا إذا لم يكن في لفظ الزوج ما يدل على تخصيص الطلاق وهنا ما يدل على ذلك وهو قوله اختاري ثلاث مرات فإن الطلاق هو المحصور بعدد الثلاث ولو قال اختاري نفسك أو طلاقك فقالت اخترت كان جوابا فكذلك هنا.
قال: ولو قال إن قدم فلان فاختاري فقالت بعد قدومه بأيام لم أعلم إلا الساعة ولي

 

ج / 6 ص -182-       الخيار فالقول قولها مع يمينها إن نازعها الزوج لأنه يتمسك بالأصل وهو عدم العلم بالقدوم ولأن الزوج يدعي عليها ما يسقط خيارها بعد ما عرف ثبوته لها وهي تنكر ذلك فالقول قولها مع يمينها ولكن لو لم تختر نفسها في ذلك المجلس حتى خاصمت فيه الزوج وذهبت إلى القاضي فلا خيار لها لقيامها عن المجلس بعد ما علمت بالقدوم فهو كما لو أقامها الزوج.
قال: وإذا خيرها في مجلسها فقالت بعد القيام منه قد كنت اخترت نفسي فيه لم تصدق على ذلك إذا كذبها الزوج لأنها تخبر بما لا تملك إنشاءه فإذا أقامت البينة على ذلك كان الثابت بالبينة كالثابت بتصديق الخصم فيفرق بينهما وإن لم يكن لها بينة فالقول قول الزوج مع يمينه على علمه لأنه يستحلف على فعل غيره.
قال: وإن قال لها اختاري اليوم واختاري غدا فردت الخيار اليوم أو اختارت زوجها فليس لها الخيار في بقية ذلك اليوم ولها الخيار غدا لأن قوله واختاري غدا تخيير مضاف إلى وقت آت والمضاف غير المنجز فإنها إنما ردت الخيار المنجز في اليوم فيبقى خيارها في الغد على حاله بخلاف ما لو قال اختاري اليوم وغدا فردت اليوم أو اختارت زوجها فلا خيار لها في الغد لأنه عطف الغد على اليوم والعطف للإشراك فاقتضى ذلك امتداد الخيار إلى مضي الغد لا تجديد الخيار المضاف وإذا كان الخيار واحدا وقد بطل ذلك بردها فلا خيار لها بعد ذلك فأما إذا قال واختاري غدا فهو خيار آخر أوجبه لها في الغد لأنه ذكر للغد خبرا فلا يجعل الخبر الأول خبرا له وإن اختارت اليوم نفسها فبانت فلا خيار لها في الغد لأنها قد ملكت أمر نفسها باختيارها نفسها وذلك ينفي الخيار المضاف كما ينفي الخيار المنجز ولأن الخيار المضاف إلى الغد لا يتضمن تطليقة أخرى لأن التطليقة التي في ضمن الخيار المنجز تحتمل الإضافة إلى الغد ما لم تقع فإذا وقعت باختيارها نفسها في اليوم لم يبق حتى تختار نفسها في الغد بها.
قال: وإن قال اختاري غدا الطلاق فقالت اليوم اخترت غدا الطلاق أو قالت قد اخترت الزوج فاختيارها اليوم باطل ولها الاختيار غدا لأن الزوج أضاف التخيير إلى وقت منتظر فلا يثبت لها الخيار قبل مجيء ذلك الوقت واختيارها قبل أن يثبت لها الخيار لغو وإن قالت في الغد قد اخترت زوجي لا بل نفسي كانت امرأته ولا خيار لها لأن بقولها قد اخترت زوجي بطل خيارها فبقولها لا بل نفسي اختارت نفسها بعد ما بطل خيارها وإن قالت اخترت نفسي لا بل زوجي بانت بقولها اخترت نفسي فلا ترفع البينونة بقولها لا بل زوجي بعد ذلك.
قال: وإن قال إن شئت فأنت طالق واختاري فقالت قد اخترت نفسي وشئت الطلاق كانت طالقا اثنتين لأن قولها قد اخترت نفسي جواب التخيير وقولها شئت الطلاق إيجاد للشرط في طلاق المشيئة والصريح يلحق البائن ولا يكون قولها اخترت نفسي عملا هو ضد مشيئة الطلاق بل هذا من جنس مشيئة الطلاق فلا يخرج به طلاق المشيئة من يدها وكذلك

 

ج / 6 ص -183-       لو قال اختاري إن هويت أو أحببت أو أردت فقالت قد اخترت نفسي وقعت تطليقة بائنة لوجود الشرط باختيارها نفسها فقد هويت ذلك وأحبت وأرادت حين اختارت نفسها.
قال: ولو قال اختاري من ثلاث تطليقات ما شئت فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تملك أن تختار بهذا اللفظ إلا واحدة أو اثنتين وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تملك أن تختار الثلاث بهذا اللفظ لأن كلمة ما للتعميم ومن قد تكون للتبعيض وقد تكون للتمييز كما يقال سيف من حديد وهو معنى قوله تعالى:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] وقد تكون صلة كما في قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الاحقاف: 31]  وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] فكانت مراعاة جانب التعميم بكلمة ما أولى وإذا حمل على معنى التعميم صارت الثلاثة مفوضة إليها فكانت كلمة من لتمييز الطلاق من سائر الأشياء في التفويض إليها أو هو صلة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كلمة ما للتعميم كما قالا وكلمة من للتبعيض حقيقة والكلام محمول على حقيقته فإن الحقيقة لا تترك إلى المجاز إلا لقيام الدليل فيعمل بحقيقة الكلمتين ويقول يزاد على الواحدة لحرف التعميم وينقص عن الثلاث لحرف التبعيض فيصير بيدها اثنتان فإذا أوقعت واحدة أو اثنتين جاز ذلك وإن أوقعت ثلاثا لم يقع شيء عنده لأن المأمور باثنتين لا يملك إيقاع الثلاث عنده وعندهما تطلق ثلاثا لأن الثلاث صارت مفوضة إليها وفي الكتاب استشهد لقولهما بما لو قال كل من هذا الطعام ما شئت جاز له أن يأكل كله ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هناك قام دليل المجاز وهو العرف ولأنه إباحة لا يتعلق بها اللزوم فينبني الأمر فيه على التوسع بخلاف الطلاق فإنه يتعلق به اللزوم فيعتبر فيه حقيقة كل لفظ ولو لم تختر شيئا حتى قال الزوج لك ألف درهم على أن تختاريني فاختارته كانت قد أبطلت الخيار لأن اسقاط الخيار لا يتعلق بالجائز من الشرط الفاسد فإن الشرط الفاسد لا يمنع ثبوته ولا شيء لها من الألف لأنها لا تملك الزوج باسقاطها خيارها شيئا.
قال: ولو قال لها اختاري فقالت قد اخترت نفسي أو زوجي بطل الخيار ولم يقع شيء لأن حرف أو يقتضي إثبات أحد المذكورين بغير عينه فاشتغالها بالكلام المبهم يكون إبطالا منها للخيار ولا يقع عليها شيء لأنها لم تجعل اختيارها نفسها عزيمة في كلامها وإن قالت قد اخترت نفسي وزوجي طلقت بقولها قد اخترت نفسي فقولها بعد ذلك وزوجي لغو وإن قالت قد اخترت زوجي ونفسي فقد سقط اختيارها بقولها اخترت زوجي فقولها ونفسي بعد ذلك لغو وهي امرأته ولا خيار لها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

باب الأمر باليد
قال: وإذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها فالحكم فيه كالحكم في الخيار في سائر مسائل الباب المتقدم إلا أن هذا صحيح قياسا واستحسانا لأن الزوج مالك لأمرها فإنما يملكها بهذا اللفظ ما

 

ج / 6 ص -184-       هو مملوك له فيصح منه ويلزم حتى لا يملك الزوج الرجوع عنه اعتبارا بإيقاع الطلاق وإن نوى بالأمر ثلاثا كان كما نوى حتى إذا طلقت نفسها ثلاثا تطلق ثلاثا لأن هذا تفويض للأمر إليها وهو يحتمل العموم والخصوص بخلاف قوله اختاري فإنه أمر بالفعل فلا يحتمل معنى العموم وإن لم ينو الثلاث فهي واحدة بائنة وعن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى هي ثلاث ولا يصدق في القضاء إذا قال نويت واحدة لأنه فوض إليها بهذا الكلام جنس ما يملك عليها وذلك ثلاث ولكنا نقول التفويض قد يكون خاصا وقد يكون عاما فإذا نوى الواحدة فقد قصد تفويضا خاصا وهو غير مخالف للظاهر وكذلك إن نوى الطلاق فقط لأنه لا يثبت إلا القدر المتيقن عند الاحتمال وكذلك إن نوى اثنتين لأن هذا نية العدد وهي لا تسع في هذا اللفظ فتكون واحدة بائنة.
قال: وإذا قال لها أمرك بيدك ثم قال لها أمرك بيدك بألف درهم فقالت قد اخترت نفسي فهي بائن بتطليقتين والألف عليها لازمة لأن كلامها جواب للإيجابين جميعا وأحدهما ببدل والآخر بغير بدل وإنما يقعان معا عند اختيارها نفسها فيلزمها المال لأن الطلاق بجعل يصادفها وهي منكوحة كالتي هي بغير جعل.
قال: وإذا قال لها امرك في يدك ينوي ثلاثا ثم قال لها أمرك بيدك على ألف درهم ينوي ثلاثا فقبلت ذلك ثم قالت قد اخترت نفسي بالخيار الأول كان المال عليها لازما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الأمرين قد صارا امرا واحدا معناه أن الزوج لا يملك عليها إلا الثلاث والذي أوجبه بجعل هو الذي تضمنه الكلام الأول وقد قبلت ذلك وأوقعت فيلزمها المال توضيحه إن ذكرها الترتيب لغو على أصل أبي حنيفة فيبقى قولها اخترت نفسي فيكون جوابا للكلامين ويلزمها المال وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هي طالق ثلاثا ولا يلزمها المال لأنها بالاختيار أوقعت ما تضمنه الكلام الأول وقد كان ذلك بغير جعل.
قال: وإن قال لها أمرك بيدك اليوم أو قال في اليوم فإن اختارت زوجها فقد بطل خيارها وإن لم تختر شيئا فلها الخيار إلى غروب الشمس وذكر بشر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى فرقا بين قوله اليوم وبين قوله في اليوم فقال إذا قال في اليوم فلها الخيار في مجلسها لوجود حرف في فإن المظروف قد يشغل جزءا من الظرف فإنما جعل لها الخيار في جزء من اليوم بخلاف قوله اليوم فإن ذلك تصريح بالخيار في جميع اليوم ولكن هذا الفرق ضعيف والمقصود في الوجهين جميعا توقيت الخيار باليوم.
قال: وإذا قال الزوج جعلت أمرك بيدك أمس فلم تختاري شيئا وقالت هي بل قد اخترت فالقول قول الزوج مع يمينه على علمه لأنها أخبرت بما لا تملك إنشاءه وتدعي وقوع الطلاق عليها والزوج منكر لذلك فإنه أقر بالتخيير فقط ولا يقع به شيء ما لم تختر نفسها.
قال: وإن جعل أمرها بيد صبي أو مجنون فهو بيده في مجلسه لأن موجب هذا التفويض

 

ج / 6 ص -185-       صحة إيقاع الطلاق منهما وذلك يكون بعبارته والصبي من أهله فكان كالبالغ ليس للزوج أن يخرجه من يده ولا يبطل إلا بقيام المفوض إليه من مجلسه.
قال: وإن جعل أمرها بيد رجلين فطلقها أحدهما لم يقع لأنه ملك الأمر منهما فأحدهما لا يستبد بالتصرف فيما هو مملوك لهما ولأنه جعل الأمر في أيديهما ليرويا النظر في أمرها ونظر الواحد لا يقوم مقام نظر المثنى بخلاف قوله طلقاها لأنه أتم النظر بنفسه وإنما أنا بهما مناب نفسه في العبارة وعبارة الواحد والمثنى سواء.
قال: ولو قال لامرأته وهي أمة أمرك بيدك يريد اثنتين فاختارت نفسها طلقت اثنتين لأن هذا نية العموم في التفويض فالاثنتان في حق الأمة كالثلاث في حق الحرة بخلاف ما إذا كانت حرة فنية الاثنتين في حقها نية العدد وهذا اللفظ لا يحتمل نية العدد وكذلك إن كانت الحرة عنده في ثنتين فهذا في حقها نية العدد لأنه بأصل النكاح يملك عليها ثلاثا فلا يكون هذا في حقها إلا نية العدد فلا تقع إلا واحدة.
قال: وإن قال لها أمرك بيدك اليوم وغدا وبعد غد فهو أمر واحد إن ردته اليوم بطل كله وقد بينا هذا في التخيير فكذلك في الأمر باليد وروى أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي عن أبي حنيفة رحمه الله أنها إذا ردت اليوم فأمرها بيدها غدا فهو بمنزلة ما لو قال وأمرك بيدك غدا وقد بينا الفرق بينهما.
قال: وإذا قال أمرك بيدك اليوم وبعد غد فهما أمران حتى إذا ردت اليوم فلها الخيار بعد الغد وعلى قول زفر رحمه الله هذا أمر واحد وكذلك لو قال اليوم ورأس الشهر زفر يقول عطف أحد الوقتين على الآخر من غير تكرار لفظ الأمر فيكون أمرا واحدا كما في قوله اليوم وغدا ولكنا نقول أحد الوقتين المذكورين هنا غير متصل بالآخر بل بينهما وقت غير مذكور ولا يثبت فيه حكم الأمر فعرفنا أنه ليس المراد بذكر الوقت الثاني امتداد الأمر الأول فاقتضى ضرورة إيجاب أمر آخر فأما إذا قال وغدا فأحد الوقتين متصل بالوقت الآخر فكان ذكر الغد لامتداد حكم الأمر إليه فلا يثبت به أمر آخر إذ لا ضرورة فيه والله أعلم

باب الظهار
اعلم بأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فقرر الشرع أصله ونقل حكمه إلى تحريم مؤقت بالكفارة من غير أن يكون مزيلا للملك بيانه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الآية وسبب نزولها قصة خولة بنت ثعلبة فإنها قالت كنت تحت أوس بن الصامت رضي الله عنه وقد ساء خلقه لكبر سنه فراجعته في بعض ما أمرني به فقال أنت علي كظهر أمي ثم خرج فجلس في نادي قومه ثم رجع إلي وراودني عن نفسي فقلت والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يقضي الله ورسوله في ذلك فوقع علي فدفعته بما تدفع به المرأة الشيخ الكبير وقد خرجت إلى بعض جيراني فأخذت ثيابا ولبستها فأتيت رسول

 

ج / 6 ص -186-       الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فجعل يقول: "لي زوجك وبن عمك وقد كبر فاحسني إليه" فجعلت أشكو إلى الله ما أرى من سوء خلقه فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يغشاه عند نزول الوحي فلما سرى عنه قال: "قد أنزل الله تعالى فيك وفي زوجك بيانا". وتلا قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى آخر آيات الظهار ثم قال: "مريه فليعتق رقبة" فقلت لا يجد ذلك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "مريه أن يصوم شهرين متتابعين" فقلت هو شيخ كبير لا يطيق الصوم فقال صلى الله عليه وسلم: "مريه فليطعم ستين مسكينا" فقلت ما عنده شيء يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا سنعينه بفرق" وقلت أنا أعينه بفرق أيضا فقال صلى الله عليه وسلم: "افعلي واستوصي به خيرا" ثم اختلفت العلماء رحمهم الله تعالى في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا} [المجادلة:3و8 ] فقال علماؤنا رحمهم الله تعالى هو العزم على الجماع الذي هو امساك بالمعروف وقال الشافعي رحمه الله تعالى المراد هو السكوت عن طلاقها عقيب الظهار وقال داود المراد تكرار الظهار حتى إن على مذهبهم لا يلزمه الكفارة بالظهار مرة حتى يعيد مرة أخرى وهذا ضعيف لأنه لو كان المراد هذا لكان يقول ثم يعودون لما قالوا والدليل على فساده حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار إنما عزم على الجماع وقد ألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفارة وكذلك حديث سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه فإنه قال كنت لا أصبر عن الجماع فأدخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعتها وخرجت إلى قومي فأخبرتهم بذلك فشددوا الأمر علي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال صلى الله عليه وسلم "أنت بذاك" فقلت أنا بذاك وها أنا بين يديك فامض في حكم الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم "أعتق رقبة" الحديث كما روينا في كتاب الصوم وليس في هذا تكرار الظهار والشافعي رحمه الله تعالى يقول كما سكت عن طلاقها عقيب الظهار فقد صار ممسكا لها فيتقرر عليه الكفارة ولكنا نقول المراد بقوله تعالى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا} أن يأتي بضد موجب كلامه وموجب كلامه التحريم لا إزالة الملك فاستدامة الملك لا تكون ضده بل ضده العزم على الجماع الذي هو استحلال وبمجرد العزم عندنا لا تتقرر الكفارة أيضا حتى لو أبانها بعد هذا أو ماتت لم تلزمه الكفارة عندنا والحاصل أن عند الشافعي رحمه الله تعالى معنى العقوبة يترجح في الكفارة فتجب بنفس الظهار الذي هو محظور محض إلا أنه يتمكن من إسقاطها بأن يصل الطلاق بكلامه شرعا فإذا لم يفعل تتقرر عليه الكفارة وعندنا في الكفارة معنى العبادة والعقوبة والمحظور المحض لا يكون سببا لها وإنما سببها ما تردد بين الحظر والإباحة وذلك إنما يتحقق بالعزم على الجماع الذي هو إمساك بالمعروف حتى يصير السبب به مترددا وسنقرر هذا الأصل في كتاب الإيمان إن شاء الله سبحانه وتعالى ثم لا خلاف أن هذه الكفارة على الترتيب دون التخيير فإن من كانت كفارته بالاعتاق أو الصيام فليس له أن يقربها حتى يكفر لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] فإن جامع قبل أن يكفر

 

ج / 6 ص -187-       استغفر الله تعالى ولم يعد حتى يكفر لأنه ارتكب الحرام وليس عليه فيما صنع كفارة لما روي أن رجلا ظاهر من امرأته ثم وقع عليها من قبل أن يكفر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستغفر الله تعالى ولا يعود حتى يكفر ولو جامعها في صوم الكفارة بالنهار ناسيا أو بالليل عامدا فعليه استقبال الكفارة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقد بينا هذا في كتاب الصوم وكذلك لو أعتق نصف رقبة ثم جامعها ثم أعتق ما بقي لم يجزه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الشرط في الأعتاق تقديمه على المسيس وأخلاؤه عنه كما في الصوم والعتق عنده يتجزأ وهذا التفريع لا يجيء على قولهما لأن العتق عندهما لا يتجزأ ولما أعتق بعضه عتق كله وإن كانت كفارته بالإطعام فليس له أن يجامعها قبل التكفير عندنا وقال مالك رحمه الله له ذلك لأنه ليس في التكفير بالإطعام شرط التقديم على المسيس ولا مدخل للقياس في هذا الباب ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" من غير تفصيل ولأن من الجائز أن يقدر على الإعتاق أو الصيام فتصير كفارته بذلك فلو وطئها كان قد مسها قبل التكفير بالعتق وذلك حرام إلا أنه لو أطعم ثلاثين مسكينا ثم جامعها لا يلزمه استقبال الطعام بخلاف الإعتاق والصيام لأن شرط الإخلاء عن المسيس من ضرورة شرط التقديم على المسيس وذلك غير منصوص عليه في الإطعام وثبوته لمعنى في غير الإطعام على ما بينا فلهذا لا يلزمه الاستقبال بخلاف الإعتاق والصيام.
قال: وإذا ظاهر الرجل من أربع نسوة له فعليه أربع كفارات عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه إذا ظاهر منهن بكلمة واحدة لم يلزمه إلا كفارة واحدة لأن الظهار سبب موجب للكفارة فبالكلمة الواحدة لا ينعقد الإظهار واحد في حكم الكفارة كاليمين ولو قال لله علي أن لا أقربكن ثم قربهن لم يلزمه إلا كفارة واحدة ولكنا نقول الظهار يوجب تحريما مؤقتا بالكفارة فإذا أضاف إلى محال مختلفة يثبت في كل محل حرمة لا ترتفع إلا بالكفارة كالتطليقات الثلاث لما كانت توجب حرمة مؤقتة بزوج فإذا أوجبها في أربع نسوة بكلمة واحدة تثبت في حق كل واحدة منهن حرمة لا ترتفع إلا بزوج بخلاف اليمين فإن الكفارة تجب هناك بهتك حرمة اسم الله تعالى بالحنث وذلك لا يتعدد بتعدد النساء ومذهبنا مروى عن عمر رضي الله تعالى عنه وإبراهيم والحسن البصري رحمهما الله تعالى.
قال: وإذا ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثا في مجلس واحد أو مجالس متفرقة فعليه لكل ظهار كفارة هكذا نقل عن علي رضي الله تعالى عنه ولأن تكرار الظهار في امرأة واحدة كتكرار اليمين فكما يجب باعتبار كل يمين كفارة فكذلك باعتبار كل ظهار.
فإن قيل فإذا ثبتت الحرمة المؤقتة بالظهار الأول كيف تثبت بالظهار الثاني والثالث.
قلنا: بالظهار الأول تثبت الحرمة مع بقاء ملك المحل فيتحقق الظهار الثاني والثالث وأسباب الحرمة تجتمع في محل واحد فإن صيد الحرم حرام على المحرم لإحرامه ولكونه

 

ج / 6 ص -188-       في الحرم والخمر حرام على الصائم لعينها ولصومه وليمينه إذا حلف لا يشربها والكفارة الثانية غير الكفارة الأولى فالحرمة الثانية في الحكم غير الأولى أيضا وإن ظاهر منها ثلاث مرات ونوى بالثاني والثالث تكرار الكلام الأول فعليه كفارة واحدة لأن صفة الإخبار والأنشاء في الظهار واحدة والكلام الواحد يعاد ويكرر ولا يجب به إلا ما يجب بالأول.
قال: وإن قال لها أنت علي كظهر أمي أو كبطنها فهو مظاهر لأن بطن الأم عليه في الحرمة كظهرها والظهار منكر من القول وزور كما قال الله تعالى وذلك أن يشبه من هو في أقصى غايات الحل بمن هو في أقصى غايات الحرمة وذلك لا يختلف بالظهر والبطن وكذلك لو ذكر جزءا من امرأته شائعا أو عضوا جامعا يعبر به عن جميع البدن بخلاف ما إذا ذكر عضوا لا يعبر به عن جميع البدن كاليد والرجل وقد بينا هذا في باب الطلاق وكذلك إذا شبهها بظهر امرأة محرمة عليه على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة فهذا والتشبيه بظهر الأم سواء للمعنى الذي بينا كما قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي أنه إذا شبهها بظهر امرأة قد زنا بأمها أو بابنتها فحرمت عليه بذلك فهو مظاهر منها لأنه شبهها بمحرمة عليه على التأبيد قال لأن قضاء القاضي بحل المناكحة بينهما لا ينفذ عندي لكونه بخلاف النص فإن النكاح حقيقة للوطء وهذا بخلاف ما لو شبهها بظهر امرأة قد لاعنها لأن اللعان وإن كان يوجب الحرمة المؤبدة عندي فهو مما يسع فيه الاجتهاد وينفذ فيه قضاء القاضي بخلافه فلم يكن في معنى حرمة الأم وقال محمد رحمه الله تعالى في الكيسانيات إذا شبهها بظهر أم المزني بها لا يكون مظاهرا لأن العلماء مختلفون في حرمتها عليه ولو قضي القاضي بحل المناكحة بينهما نفذ قضاؤه لأن الناس تعارفوا اطلاق اسم النكاح على العقد ولو شبهها بظهر امرأة قد لمس أمها أو ابنتها من شهوة أو نظر إلى فرجها من شهوة لم يكن مظاهرا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن هذه الحرمة حرمة ضعيفة ليست في معنى حرمة الأم حتى ينفذ قضاء القاضي بخلافها وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يكون مظاهرا لأن ثبوت الحرمة بالنظر إلى الفرج منصوص عليه في قوله صلى الله عليه وسلم
"ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها" فيتحقق معنى الظهار إذا شبهها به وإن شبهها بظهر امرأة أجنبية أو ذات رحم منه غير محرم فليس بمظاهر لأنه شبه محللة بمحللة فإن الأخرى تحل له بالملك فلا يكون مظاهرا وكذلك لو شبهها بظهر رجل أجنبي أو قريب فهو ليس بمحرم عليه النظر إليه ومسه فلا يكون مظاهرا.
قال: وإن ظاهرت المرأة من زوجها فليس ذلك بشيء لأن موجبه التحريم وهو مختص بالنكاح كالطلاق وليس إلى المرأة من ذلك شيء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال عليها الكفارة للظهار لأن المعنى في جانب الرجل تشبيه المحللة بالمحرمة وذلك يتحقق في جانبها والحل مشترك بينهما وقال الحسن عليها كفارة اليمين لأن هذا بمنزلة التحريم منها زوجها على نفسها وتحريم الحلال يمين فتلزمها الكفارة كما لو حلفت أن لا تمكنه من نفسها ثم مكنته.

 

ج / 6 ص -189-       قال: ولا يكون الرجل مظاهرا من أمته ولا من أم ولده ولا من مدبرته عندنا وقال مالك يصح ظهاره منهن لأن ملك اليمين في محل ملك المتعة سبب لملك المتعة كملك النكاح فيتحقق معنى الظهار وهو تشبيه المحللة بالمحرمة ولكنا نستدل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وهذا يتناول الزوجة دون المملوكة وقد بينا أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية ونقل الشرع حكمه إلى التحريم المؤقت بالكفارة والمملوكة ليست بمحل للطلاق فلا تكون محلا للظهار أيضا ولهذا لا يصح إيلاؤه من الأمة لأن الإيلاء طلاق مؤجل والأمة ليس بمحل للطلاق وقال ابن عباس رضي الله عنه من شاء باهلته عند الحجر الأسود أنه لا كفارة في الظهار من الأمة وكذلك لو ظاهر من امرأة أجنبية فهو باطل كما لو طلقها وهذا لأن الأجنبية لا تحل له ما لم يتزوجها فإنما شبه محرمة بمحرمة.
قال: ولو قال لامرأته أنت علي كفرج أمي أو كفخذها كان مظاهرا لأن فرج الأم وفخذها محرم عليه كظهرها فيتحقق تشبيه المحللة بالمحرمة ولو قال كيدها أو رجلها لم يكن مظاهرا لأنه لا يحرم عليه النظر إلى يدها ورجلها ولا مسها فلم يتحقق بهذا اللفظ تشبيه المحللة بالمحرمة ولو قال جنبك أو ظهرك علي كظهر أمي لم يكن مظاهرا بمنزلة قوله يدك أو رجلك لأن هذا العضو لا يعبر به عن جميع البدن عادة وقع في بعض النسخ ظفرك مكان قوله ظهرك وهو غلط فالظهر مع الجنب اليق من الظفر.
قال: ولو قال أنت علي كأمي فهذا كلام يحتمل وجوها لأن الكاف للتشبيه وتشبيه الشيء بالشيء قد يكون من وجه وقد يكون من وجوه فإذا نوى به البر والكرامة لم يكن مظاهرا لأن ما نواه محتمل ومعناه أنت عندي في استحقاق البر والكرامة كأمي وإن نوى الظهار فظهار لأنه شبهها بجميع الأم ولو شبهها بظهر الأم كان ظهارا فإذا شبهها بجميع الأم كان أولى وإن لم يكن له نية فليس ذلك بشيء في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله تعالى وفي قول محمد رضي الله تعالى عنه هو ظهار ولم يذكر قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وعنه روايتان إحداهما كقول محمد رضي الله تعالى عنه لأنه قال في الأمالي إذا كان هذا في حالة الغضب وقال نويت به البر لم يصدق في القضاء وهو ظهار وعنه أنه قال إيلاء لأن الأم محرمة عليه بالنص قال الله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فكان قوله أنت علي كأمي بمنزلة قوله أنت علي حرام وقد بينا في هذا اللفظ أنه إذا لم ينو شيئا يثبت أقل الوجوه وهو الإيلاء وبنحو هذا يحتج محمد رضي الله تعالى عنه ولكنه يقول هو ظهار لكاف التشبيه في كلامه فإن الظهار يختص بهذا الحرف ومتى كان مراده البر يقول أنت عندي كأمي ولا يقول علي إلا أنه إذا نوى البر أقمنا حرف على مقام عند لتصحيح نيته فإذا لم ينو بقي محمولا على حقيقته فكان ظهارا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كلام العاقل محمول على الصحة مهما أمكن حمله على وجه صحيح يحل شرعا لا يحمل على ما يحرم شرعا والظهار منكر من القول وزور فلا يمكن حمله عليه

 

ج / 6 ص -190-       إذا أمكن حمله على معنى البر والكرامة توضيحه أنها كانت محللة له وهذا الكلام يحتمل معنى البر ويحتمل معنى الظهار ولكن الحرمة بالشك لا تثبت كما لا يثبت الطلاق بالشك.
قال: ولو قال لها أنت علي حرام كأمي فقد انتفى احتمال معنى البر هنا لتصريحه بالحرمة فبقي احتمال الطلاق والظهار فإن أراد الطلاق فهو طلاق لأن قوله أنت علي حرام يكون طلاقا بالنية فقوله كأمي لتأكيد تلك الحرمة فلا تخرج به من أن تكون طالقا بالنية وكذلك إن أراد التحريم دون الظهار فهو طلاق وبعض مشايخنا رحمهم الله يقولون ينبغي أن يكون إيلاء بمنزلة قوله أنت علي حرام إذا قصد به التحريم فقط ولكنا نقول إنما قصد التحريم هنا لزوال الملك لأنه شبهها بالأم وهي محرمة حرمة تنافي الملك وزوال الملك بالتحريم يكون بالطلاق وإن نوى به الظهار فهو ظهار لأنه شبهها في الحرمة بامه ولو شبهها بظهر الأم كان ظهارا فكذلك إذا شبهها بالأم وإن لم يكن له نية فهو ظهار لأن عند الاحتمال لا يثبت إلا القدر المتيقن والحرمة بالظهار دون الحرمة بالطلاق فالحرمة بالظهار لا تزيل الملك والحرمة بالطلاق تزيله.
قال: وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي فهو ظهار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى سواء نوى الظهار أو الطلاق أو لم يكن له نية بمنزلة قوله أنت علي كظهر أمي لأن ذلك اللفظ إنما كان ظهارا باعتبار التشبيه في الحرمة فالتصريح بما هو مقتضي كلامه يؤكد حكم الكلام ولا يغيره وهذا اللفظ صريح في الظهار فلا تعمل فيه نية شيء آخر كاللفظ الذي هو صريح في الطلاق لا تعمل فيه نية شيء آخر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن نوى الظهار أو لم يكن له نية فهو ظهار وإن نوى الطلاق فهو طلاق لأن المنوي من محتملات لفظه فإن قوله أنت علي حرام تسع فيه نية الطلاق لو اقتصر عليه فقوله كظهر أمي يحتمل معنى التأكيد لتلك الحرمة فلا يخرج به من أن يكون محتملا لنية الطلاق وروى أصحاب الأملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا قال نويت به الطلاق يقع الطلاق بنيته ويكون مظاهرا بالتصريح بالظهار ولا يصدق في القضاء في صرف الكلام عن ظاهره بمنزلة قوله زينب طالق وله امرأة معروفة بهذا الاسم فقال لي امرأة أخرى وإياها عنيت يقع الطلاق على تلك بنيته وعلى هذه المعروفة بالظاهر ولكن هذا ضعيف فإن الطلاق لو وقع بقوله أنت علي حرام كان متكلما بلفظ الظهار بعد ما بانت والظهار بعد البينونة لا يصح  فإن قيل الظهار مع الطلاق اثنتان بقوله أنت علي حرام.
قلنا: اللفظ الواحد لا يحتمل المعنيين المختلفين.
قال: وإن قال أنا منك مظاهر فهو ظهار لأن موجب الظهار هو التحريم وقد بينا أن لفظ التحريم يصح إضافته إلى كل واحد منهما باعتبار أن الحل مشترك بينهما فكذلك لفظ الظهار وكذلك لو قال قد ظاهرت منك فإن صيغة الإقرار والإنشاء في الظهار واحدة كما في الطلاق.

 

ج / 6 ص -191-       قال: وكذلك لو قال أنت مني كظهر أمي أو عندي ومعي فهو ظهار كقوله علي لأن تشبيه المحللة بالمحرمة يتحقق بهذه الكلمات.
قال: ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر لأنها محرمة عليه ما لم يكفر وعليها أن تمتنع من الحرام ولها إن تطالبه بالتكفير وتخاصمه في ذلك لأنها استحقت الإمساك بالمعروف وهو بالظهار فوت عليها ذلك فلها أن تطالبه بما صار مستحقا لها بالنكاح ويجبره القاضي على التكفير عند طلبها لأنه لا يتوصل إلى الإمساك بالمعروف إلا به ولا ينبغي له أن يباشرها ولا يقبلها حتى يكفر لقوله تعالى:
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ولأن هذه الحرمة في معنى الحرمة بالطلاق إلا في حكم زوال الملك والارتفاع بالكفارة والحرمة متى ثبتت بالطلاق توجب تحريم اللمس والتقبيل فكذلك بالظهار.
قال: وإذا قال لامرأة إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي أو قال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي فهو كما قال لأن الظهار يحتمل التعليق بالشرط كالطلاق فيصح اضافته إلى الملك والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
قال: وإذا قال إذا تزوجتك فأنت طالق وأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها طلقت وبطل الظهار عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الظهار معطوف على الطلاق فتبين بالطلاق قبل أن يصير مظاهرا وعندهما يقعان معا وقد بينا هذا في باب الطلاق.
قال: وإذا قال إذا تزوجتك فأنت طالق ثم قال إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها لزم الطلاق والظهار جميعا لأنه تعلق كل واحد منهما بالتزويج هنا من غير واسطة فعند التزويج يقعان معا.
قال: ولو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ثم أبانها فدخلت الدار في العدة أو بعد العدة لم يكن مظاهرا منها لأن موجب الظهار حرمة ترتفع بالكفارة وبالبينونة تثبت حرمة أقوى من ذلك فلا يظهر الضعيف مع القوي ولأن المرأة محل الظهار لأنها محللة له بأبلغ جهاته وقد زال ذلك بالبينونة والمعلق بالشرط عند وجود الشرط لا ينزل إلا عند بقاء المحل لأن الوصول إلى المحل عند ذلك يكون فإذا لم تبق محلا بعد البينونة لم يكن مظاهرا منها.
قال: وإذا ظاهر المسلم وهو حر أو عبد من زوجته وهي حرة أو أمة مسلمة أو صبية أو كتابية فهو مظاهر لقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ولأن العبد كالحر في كونه أهلا لموجب الظهار وهو الحرمة المؤقتة بالكفارة والأمة والصبية والكتابية كالحرة المسلمة في كونها محللة بأبلغ جهاته.
قال: وإن كان الزوج ذميا فظهاره باطل عندنا سواء كانت المرأة مسلمة أو ذمية وعند الشافعي رحمه الله تعالى ظهار الذمي صحيح لأن الذمي من أهل الطلاق وقد بينا أن الحرمة بالظهار في معنى الحرمة بالطلاق فكل من صح طلاقه صح ظهاره وكذلك هو من أهل الكفارة

 

ج / 6 ص -192-       لأنه من أهل الأعتاق والإطعام إلا أنه ليس من أهل الكفارة بالصوم وبهذا لا يمتنع صحة الظهار كالعبد فإنه ليس من أهل التكفير بالمال وكان ظهاره صحيحا وهذا على أصله مستقيم فإن معنى العقوبة عنده يترجح في الكفارة فيكون بمنزلة الحد وفي الحد معنى الكفارة قال صلى الله عليه وسلم: "الحدود كفارات" لأهلها ثم يقام على الذمي بطريق العقوبة ولئن لم يكن من أهل الكفارة فهو أهل للحرمة فيعتبر ظهاره في حق الحرمة كما اعتبر أبو حنيفة رحمه الله تعالى إيلاء الذمي في حق الطلاق وإن لم يعتبر في حق الكفارة وكلامنا في المجوسي يتضح فإنه يعتقد الحل في أمه وأخته فإنما شبه امرأته بمن يعتقد الحل فيها بالنكاح فلا يكون مظاهرا كالمسلم إذا شبه امرأته بأجنبية.
ولنا: أن الذمي ليس من أهل الكفارة فلا يصح ظهاره كالصبي وبيان الوصف أن المقصود بالكفارة التكفير والتطهير والكافر ليس بأهل له وما فيه من الشرك أعظم من الظهار بخلاف الحدود فالمقصود هناك الخزي والنكال وإنما الكفارة في حق من جاء تائبا مستسلما لحكم الشرع كما فعله ماعز رضي الله عنه والدليل عليه أن معنى العبادة يترجح في الكفارة حتى تتأدى بالصوم الذي هو محض عبادة ولا يتأدى إلا بنية العبادة ويفتى به ولا يقام عليه كرها والكافر ليس بأهل للعبادة وتأثير هذا الوصف بعد ثبوته أن موجب الظهار الحرمة المؤقتة بالكفارة ولا يمكن إثبات تلك الحرمة هنا لأنه ليس بأهل للكفارة فلو صح ظهاره لثبتت به حرمة مطلقة وهذا ليس بموجب الظهار وبه فارق حرمة الطلاق فإنه حرمة بزوال الملك أو بانعدام محل الحل والكافر من أهله وبه فارق العبد لأنه من أهل الكفارة إلا أنه عاجز عن التكفير بالمال لعدم الملك حتى لو عتق وأصاب مالا كانت كفارته بالمال وبه فارق الإيلاء لأنه طلاق مؤجل على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى والذمي من أهل الطلاق ولأن الحرمة الثابتة باليمين تكون مطلقة لا مؤقتة بالكفارة ولهذا لا يجوز التكفير قبل الحنث.
قال: وإذا ظاهر المسلم من امرأته ثم ارتد ثم أسلما فهو على ظهاره في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى يكفر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قد سقط الظهار عنه بالردة لأن الكافر ليس من أهل الظهار وهو بالردة قد التحق بالكافر الأصلي وكما لا ينعقد الظهار بدون الأهلية لا يبقى بعد انعدام الأهلية وهذا لأن الثابت بالظهار حرمة مؤقتة بالكفارة وبعد الردة لا يمكن إبقاء هذه الحرمة لأنه لم يبق أهلا للكفارة فلو بقي إنما يبقى حرمة مطلقة وهذا لم يكن موجب ظهاره وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ظهاره قد صح موجبا لحكمه فلا يرتفع حكمه إلا بالكفارة وهذا لأن الحرمة بالظهار في معنى الحرمة بالطلاق ثم المسلم لو طلق امرأته ثلاثا ثم ارتد ثم أسلم لا تحل له إلا بعد زوج فكذلك إذا ظاهر منها وهذا لأنه غير مقر على كفره بل هو مجبر على العود إلى الإسلام فيمكن إبقاء الحرمة المؤقتة بالكفارة باعتبار ما بعد إسلامه توضيحه أن اعتبار الأهلية عند انعقاد السبب ليتقرر موجبا وعند أداء الكفارة ليصح الأداء ففيما بين ذلك لا يعتبر بقاء الأهلية ألا ترى أنه لو جن بعد ما ظاهر من امرأته ثم

 

ج / 6 ص -193-       أفاق بقي ظهاره حتى يكفر مع أنه من أهل التكفير بالعتق حتى لو أعتق عبدا عن ظهاره في ردته ثم أسلم جاز عتقه عن الكفارة على ما نبينه.
قال: وإذا قال لامرأته إن شئت فأنت علي كظهر أمي فشاءت ذلك في مجلسها  لزمه الظهار وهذا والطلاق المعلق بمشيئتها سواء في أنه يعتبر وجود المشيئة في المجلس وإن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
قال: وإن قال أنت علي كظهر أمي اليوم فهو كما قال لا يقربها في ذلك اليوم حتى يكفر فإذا مضى اليوم بطل الظهار وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى هو مظاهر أبدا حتى يكفر وقاس هذا بالحرمة الثابتة بالطلاق في أنه لا يتوقت بالتوقيت ولكنا نقول موجب الظهار الحرمة وهو محتمل للتوقيت كالحرمة بسبب العدة وحرمة البيع إلى الفراغ من الجمعة وحرمة الصيد على المحرم إلى أن يحل والحرمة بسبب اليمين فإذا احتمل التوقيت صح توقيته ولا يبقى بعد مضي الوقت بخلاف الطلاق فالحرمة هناك باعتبار زوال الملك أو لانعدام محل الحل وذلك لا يحتمل التوقيت وعلى هذا لو قال أنت علي كظهر أمي شهرا أو حتى يقدم فلان فهو كما قال ويسقط بمضي الشهر أو قدوم فلان لانتهاء الحرمة بمضي وقتها.
قال: ولو ظاهر من امرأته ثم طلقها ثلاثا أو ارتدت عن الإسلام فبانت منه ثم أسلمت وتزوجته بعد زوج آخر كان الظهار على حاله لا يقربها حتى يكفر لأن ظهاره قد صح وتثبت به الحرمة إلى أن يكفر فثبوت الحرمة بسبب آخر لا يمنع بقاء تلك الحرمة لأن أسباب الحرمة تجتمع في محل واحد وإذا بقيت تلك الحرمة لا ترتفع إلا بالكفارة.
قال: ولو ظاهر من امرأته وهي أمة ثم اشتراها لم يكن له أن يقربها حتى يكفر لأن الحرمة تثبت بالظهار فهو بمنزلة الحرمة الثابتة بالطلاق ولو طلقها اثنتين لم تحل له بسبب الشراء بعد ذلك ما لم تتزوج بزوج آخر فكذلك إذا ثبتت الحرمة بالظهار أو هذه حرمة مع بقاء الملك فكانت كالحرمة الثابتة بسبب الحيض والحائض لا تحل له بملك اليمين كما لا تحل له بملك النكاح وكذلك إن أعتقها ثم تزوجها لأن النكاح الثاني كالأول ومع بقاء النكاح الأول ما كان يحل له أن يقربها حتى يكفر فكذلك في النكاح الثاني.
قال: وظهار الصبي والمعتوه باطل كطلاقهما لأن موجب الظهار الحرمة المؤقتة بالكفارة وليسا من أهل وجوب الكفارة عليهما ولا من أهل مباشرة سبب الحرمة بالقول.
قال: وظهار السكران والمكره لازم كطلاقهما لأن الإكراه والسكر لا يؤثر في اكتساب سبب الحرمة بالقول ولا في اكتساب وجوب الكفارة عندنا.
قال: وظهار الأخرس من امرأته في كتاب أو إشارة مفهومة صحيح كطلاقه لكونه أهلا لموجب الظهار ولا يدخل على المظاهر إيلاء وإن لم يجامعها أربعة أشهر أو أكثر وقال

 

ج / 6 ص -194-       مالك رحمه الله إذا لم يجامعها ولم يكفر حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء لأن المولى مضار متعنت بمنع حقها في الغشيان وقد تحقق ذلك في حقها بالظهار لأن في الموضعين لا يتمكن من قربانها شرعا إلا بالكفارة ولكنا نقول حكم كل واحد منهما منصوص عليه في القرآن ولا يقاس المنصوص على المنصوص فلو أثبتنا حكم الإيلاء في الظهار كان بطريق المقايسة وكما لا يجوز أن يثبت حكم الظهار في الإيلاء بطريق المقايسة فكذلك لا يثبت حكم الإيلاء في الظهار مع أن الظهار ليس في معنى الإيلاء فإن التكفير في الظهار قبل الجماع وفي الإيلاء بعده.
قال: ولو قال إن قربتك فأنت علي كظهر أمي كان موليا إن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء وإن قربها في الأربعة الأشهر لزمه الظهار بمنزلة قوله إن قربتك فأنت طالق وهذا لأنه منع نفسه من قربانها إلا بظهار يلزمه ومعنى الإضرار والتعنت بهذا يتحقق فكان موليا منها وإذا بانت بالإيلاء ثم تزوجها فقربها فهو مظاهر لأن اليمين باقية والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
قال: وإذا ظاهر من امرأته ثم قال لامرأة له أخرى أنت علي مثل هذه ينوي الظهار فهو مظاهر لأنه شبه الثانية بالأولى ولأن قصد التشبيه في حكم الظهار وهذا قصد صحيح لما بينا أن تشبيه الشيء بالشيء قد يكون في وجه خاص وكذلك إن قال رجل آخر لامرأته أنت علي مثل امرأة فلان عليه ينوي الظهار كان مظاهرا منها أيضا وإن لم ينو الظهار فهو باطل لأن الكلام محتمل يجوز أن يكون التشبيه في حكم الحل والملك أو البر والكرامة والمحتمل لا يكون ملزما شيئا بدون النية.
قال: وإن ظاهر من امرأته ثم قال لامرأة له أخرى قد أشركتك في ظهار فلانة كان مظاهرا أيضا منها كما في الطلاق وهذا لأن الإشراك يقتضي التسوية وقد صرح بالظهار فكان ذلك تنصيصا على التسوية بينهما في حكم الظهار وإن قال لامرأته أنت علي كظهر أمي إن شاء الله لم يلزمه شيء لأن الاستثناء إذا اتصل بالكلام يخرجه من أن يكون عزيمة كما في الطلاق والعتاق قال صلى الله عليه وسلم:
"من حلف بطلاق أو عتاق واستثنى فلا حنث عليه" وإن قال إن شاء فلان فالمشيئة إلى فلان في مجلس علمه كما في الطلاق ألا ترى أنه لو علق بمشيئتها ينجز إذا شاءت في مجلس علمها فكذلك إذا علق بمشيئة غيرها.
قال: وكفارة الظهار على العبد الصوم ما لم يعتق لأنه عاجز عن الإعتاق وعجزه أبين من عجز المعسر فإنه ليس بأهل للملك فيكفر بالصوم وليس لمولاه أن يمنعه من الصوم لما تعلق به من حق المرأة وقد بيناه في كتاب الصوم فإن عتق قبل أن يكفر وملك مالا فكفارته بالعتق لأن التكفير بالصوم كان لضرورة العجز عن التكفير بالمال فإذا زال ذلك لزمه التكفير بالمال كالمتيمم إذا وجد الماء وهذا بناء على أصلنا أن المعتبر في الكفارات حالة الأداء لا حالة الوجوب وفي أحد قولي الشافعي رضي الله عنه المعتبر حالة الوجوب بناء على أصله في

 

ج / 6 ص -195-       اعتبار معنى العقوبة فيها كما في الحدود حتى إذا وجب عليه الحد وهو عبد ثم عتق قبل الإقامة يقام عليه حد العبيد لأحد الأحرار بخلاف الكفارة وعندنا المعتبر حالة الأداء إلا أن الصوم بدل عن العتق ومع القدرة على الأصل لا يتأدى الواجب بالبدل وحد العبيد ليس ببدل عن حد الأحرار والمصير إليه ليس للعجز فبدن العبد يحتمل من الضرب فوق ما يحتمله بدن الحر وسنقرر هذا في كتاب الإيمان إن شاء الله تعالى.
قال: وإن أعتق عنه مولاه في رقه أو أطعم عنه بأمره لم يجزه لأن الرق مناف للملك فلا يملك المال بتمليك المولى مع قيام المنافي فيه فإن المتنافيين لا يجتمعان وبدون ملكه لا يتصور الإعتاق عنه والكفارة الواجبة عليه لا تسقط بملك الغير فلهذا لا يجوز إعتاقه عن كفارته ولا إطعامه المساكين سواء باشره المولى أو العبد بإذن المولى.
قال: حر ظاهر وهو معسر ثم أيسر فعليه العتق لأن جواز تكفيره بالصوم كان للعجز وقد زال قبل إسقاط الواجب فالتحق بما لو كان موسرا في الابتداء فإن أعسر قبل أن يكفر فعليه الصوم لأنه عاجز عن التكفير بالعتق فيكفر بالصوم لقوله تعالى:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4]  الآية والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.