المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 26 ص -3-
بسم الله الرحمن الرحيم
باب البيع على أنه إن لم ينقد الثمن فلا بيع
بينهما
قال رحمه
الله: وإذا اشترى المأذون جارية بألف درهم على أنه إن لم ينقد الثمن إلى
ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهو جائز منه
بمنزلة اشتراط الخيار ثلاثة أيام كما يجوز من
الحر وقد بيناه في كتاب البيوع وبينا أنه لو
كان الشرط إن لم ينقد الثمن إلى أربعة أيام
فلا بيع بينهما كان البيع فاسدا في قول أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وفي قول محمد
رحمه الله هو جائز على ما اشترطا ووقع في بعض
النسخ وقال أبو يوسف هو جائز على ما اشترطا
وهو غلط والصحيح أن أبا يوسف فرق بين هذا وبين
اشتراط الخيار أربعة أيام وبينا ذلك في البيوع
وكذلك لو اشتراها وقبضها ونقد الثمن علي أن
البائع إن رد الثمن على المشتري ما بينه وبين
ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهو جائز على ما
اشترطا وهو بمنزلة اشتراط الخيار للبائع.
ولو اشتراها علي أنه إن لم ينقد الثمن إلى
ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فقبضها وباعها نفذ
بيعه لأن خيار المشتري لا يمنعه من التصرف
فيها والبيع تام لازم من جانب البائع فإن مضت
الأيام الثلاثة قبل أن ينقده الثمن فلا سبيل
للبائع على الجارية ولكنه يتبع المشتري بالثمن
لأن من ضرورة نفوذ بيعه فيها سقوط خياره ولأن
امتناعه من إيفاء الثمن في آخر جزء من الأيام
الثلاثة بمنزلة فسخ البيع منه وفسخه للبيع
فيها بعد ما باعها باطل فإذا جاز البيع
والجارية ملك المشتري الثاني علمنا أنه لا
سبيل للبائع عليها ولكنه يتبع المشتري منه
بالثمن.
وكذلك لو قتلها المشتري أو ماتت في يده أو
قتلها أجنبي آخر حتى غرم قيمتها في الأيام
الثلاثة لأن حدوث هذه المعاني في يد المشتري
في مدة خياره يكون مسقطا خياره لما فيه من
فوات محل الفسخ وهذا في الموت ظاهر وكذلك في
قتل الأجنبي لأن القيمة الواجبة على القاتل
لأجل ملك المشتري والعقد فيها فلا ينتهي
بالقبض فلا يتحول العقد إلى ملك القيمة.
ألا ترى أنه يجوز الفسخ بالتحالف والرد بالعيب
باعتبار القيمة الواجبة على القاتل بعد قبض
المشتري فكذلك الفسخ بخيار الشرط فإن كان
المشتري وطئها وهي بكر أو ثيب في الأيام
الثلاثة أو جنى عليها جناية أو أصابها عيب من
غير فعل أحد ثم مضت الأيام الثلاثة قبل أن
ينقد الثمن فالبائع بالخيار إن شاء أخذها ولا
شيء له غيرها وإن شاء سلمها للمشتري لأن
امتناع المشتري من نقض الثمن حتى مضت الأيام
الثلاثة فسخ منه للبيع ولو فسخ البيع
ج / 26 ص -4-
قصدا
تخير البائع لحدوث ما حدث فيها عند المشتري
فكذلك إذا لم ينقد الثمن حتى مضت الأيام.
ولو كان الواطئ أو الجاني أجنبيا فوجب العقر
أو الأرش لم يكن للبائع على الجارية سبيل
لحدوث الزيادة المنفصلة المتولدة في يد
المشتري فإن ذلك يمنع الفسخ بعد تمام البيع في
جانب البائع حق للشرع وإنما له الثمن على
المشتري ولو كان حدث فيها عيب من فعل الجاني
الأجنبي بعد مضي الأيام الثلاثة فالبائع
بالخيار إن شاء أخذ الجارية واتبع الجاني
بموجب ما أحدثه فيها من وطء أو جناية وإن شاء
سلمها للمشتري بالثمن فإن سلمها للمشتري
بالثمن كان للمشتري أن يتبع الأجنبي بذلك لأن
بمضي الأيام الثلاثة قبل نقد الثمن انفسخ
البيع فبقيت الجارية في يد المشتري مضمونة بعد
الفسخ فيكون بمنزلة الجارية التي في يد البائع
قبل التسليم إذا حدث فيها بفعل الأجنبي شيء من
ذلك وهناك يتخير المشتري بين أن يأخذها
بالزيادة وبين أن ينقض البيع فيها فكذلك بعد
الفسخ يتخير البائع وهذا إذا كان الأجنبي
وطئها وهي بكر حتى تمكن نقصان في ماليتها
بالوطء فإن كانت ثيبا لم ينقصها الوطء أخذها
البائع وأخذ عقرها من الأجنبي ولا خيار له في
تركها لأن ثبوت الخيار باعتبار النقصان في
المالية في ضمان المشتري ولم يوجد وقد طعن
عيسى رحمه الله في هذا الجواب وقال للبائع أن
لا يقبلها لأن الوطء كالجناية والمستوفى
بالوطء في حكم جزء من العين وقيل في تخريجه أن
قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أن
المشتري لو كان هو الواطئ بعد مضي الأيام لم
يلزمه شيء ولم يتخير البائع فإذا كان الواطئ
أجنبيا فوجب العقر وتمكن البائع من أخذها مع
العقد أولى أن لا يثبت له الخيار وأصل المسألة
في المبيعة إذا وطئها البائع قبل التسليم وهي
ثيب لم يتخير المشتري عند أبي حنيفة وكذلك إن
وطئها أجنبي أخذها المشتري مع عقرها ولم يتخير
فكذلك البائع في هذا الفصل.
ولو كان المشتري هو الذي قطع يد الجارية أو
افتضها وهي بكر بعد مضي الأيام الثلاثة
فالبائع بالخيار إن شاء سلمها للمشتري بالثمن
وإن شاء أخذها ونصف ثمنها في القطع لتغير
الجارية في ضمان المشتري بعد الفسخ والأوصاف
تضمن بالتناول مقصودة فيتقرر على المشتري حصة
اليد من الثمن وكذلك كل جناية جنى عليها أخذ
نقصانها من الثمن إذا اختار البائع أخذها وإن
كان اقتضها لم ينظر إلى عقرها ولكن ينظر إلى
ما نقصها الوطء من قيمتها فيكون على المشتري
حصة ذلك من ثمنها في قول أبي حنيفة وعندهما
ينظر إلى الأكثر من عقرها ومما نقص الوطء من
قيمتها فيكون على المشتري حصة ذلك من ثمنها
وإن كان لم ينقصها الوطء شيئا أخذها البائع
ولا شيء على المشتري في الوطء في قول أبي
حنيفة وعندهما يقسم الثمن على قيمتها وعلى
عقرها فيأخذها البائع وحصة العقر من ثمنها
وأصل المسألة في البائع إذا وطى ء الجارية
المبيعة قبل القبض وقد بينا ذلك في البيوع
فحال المشتري ها هنا بعد الفسخ كحال البائع
قبل التسليم هناك لأنها في ضمان ملكه حتى لو
هلكت
ج / 26 ص -5-
قبل
الرد كان هلاكها على ملكه كما في المبيعة قبل
القبض فيستوي تخريج الفصلين على الاختلاف الذي
بينا.
ولو كانت ولدت ولدا في الأيام الثلاثة ثم مضت
الأيام وهما حيان ولم ينقد الثمن فالجارية
وولدها للمشتري بالثمن ولا خيار للبائع في ذلك
لأجل الزيادة المنفصلة المتولدة في يده قبل
الفسخ ولو لم تلد ولكنها قد ازدادت في يده كان
للبائع أن يأخذها بزيادتها لأن الزيادة
المتصلة لا معتبر بها في البيع ولا يمنع الفسخ
لأجلها كما في الفسخ بسبب العيب
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة الزيادة المتصلة
هنا كالزيادة المنفصلة وهو نظير ما بينا من
اعتبار الزيادة المتصلة في المنع من الفسخ
بسبب التحالف وفي المنع من التصرف في الصداق
بالطلاق.
ولو كانت ولدت بعد مضي الأيام ونقصتها الولادة
فالبائع بالخيار للنقصان الحادث فيها من يد
المشتري كما لو تعيبت بعيب آخر وهذا لأن
الزيادة المنفصلة بعد الفسخ لا تمنع من
استردادها وتأثير نقصان الولادة في إثبات
الخيار للبائع لا في تعذر الرد به ولو ماتت
بعد مضي الأيام الثلاثة ولم تلد فعلى المشتري
الثمن لأن العقد وإن انفسخ فقد تعيب في ضمان
المشتري فإذا هلكت بطل ذلك الفسخ كما إذا هلكت
المبيعة قبل القبض بطل البيع.
ولو كانت ولدت بعد مضي الأيام الثلاثة ثم ماتت
وبقي ولدها فالبائع بالخيار إن شاء سلم الولد
للمشتري وأخذ منه جميع الثمن وإن شاء أخذ
الولد ورجع على المشتري بحصة الأم من الثمن
وهو لأن الولد لما صار مقصودا بالاسترداد كان
له حصة من الثمن وهو بمنزلة المبيعة إذا ولدت
قبل القبض ثم ماتت الأم وبقي الولد فكما يتخير
المشتري هناك يتخير البائع هنا ولو كان اشترى
الجارية بعرض بعينه على أنه إن لم يعط البائع
ذلك إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهو جائز
بمنزلة شرط الخيار فإن حدث بالجارية عيب في يد
المشتري أو فقأ عينها أو وطئها وهي بكر أو ثيب
أو فعل ذلك أجنبي ثم مضت الأيام قبل أن يعطيه
البائع فهذا وما وصفنا من الدراهم سواء
لاستوائهما في المعنى.
ولو مضت الأيام قبل أن يعطي المشتري البائع ما
شرطه ثم هلكت الجارية في يد المشتري أو قتلها
كان للبائع على المشتري قيمتها ولا سبيل له
على ثمنها لأن بمضي الأيام الثلاثة انفسخ
البيع وهلاك أحد العوضين في المقابضة بعد
الفسخ لا يمنع بقاء الفسخ لبقاء العرض الآخر
وإذا بقي الفسخ تعذر على المشتري رد عينها
فيرد قيمتها بخلاف البيع بالدراهم. ولو ذهبت
عينها أو فقأها المشتري أخذ البائع الجارية
ونصف قيمتها ولا سبيل له على الثمن لأن العين
من الآدمي نصفه ففوات نصفها بعد الفسخ معتبر
بفوات كلها ولو كان أجنبي فقأ عينها أو قتلها
كان البائع بالخيار إن شاء أخذ قيمتها في
القتل من مال المشتري حالا وإن شاء رجع بها
على عاقلة القاتل في ثلاث سنين فإن أخذها من
المشتري رجع بها على عاقلة القاتل لأنها بعد
الفسخ مملوكة للبائع مضمونة في يد المشتري
بنفسها كالمغصوبة.
ج / 26 ص -6-
وأما
في فقء العين فإن البائع يأخذ الجارية ويتبع
بإرش العين المشتري أو الجاني أيهما شاء حالا
كما في المغصوبة إذا فقأ إنسان عينها في يد
الغاصب فإن أخذه من المشتري رجع به المشتري
على الجاني ولا سبيل للبائع في شيء من هذه
الوجوه على الثمن لأنه لا يتمكن من أخذ ذلك
إلا بفسخ ذلك العقد وبقاء أحد العوضين يمنعه
من ذلك بخلاف ما إذا كان حدوث هذه المعاني قبل
مضي الثلاثة لأن هناك العقد قائم بينهما حين
حدث ما حدث ومضي الأيام الثلاثة بمنزلة الفسخ
من المشتري قصدا وفسخه بعد ما تعيب في يده لا
يكون ملزما للبائع فمن هذا الوجه وقع الفرق.
ولو باع المأذون أو الحر جارية بألف درهم
فتقابضا على أن البائع إن رد الثمن على
المشتري إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما ثم أن
المشتري وطى ء الجارية أو فقأ عينها في الأيام
الثلاثة فإن رد البائع الثمن على المشتري كان
له أن يأخذ جاريته ويضمن المشتري بالوطء عقرها
وفي الفقء نصف قيمتها لأن هذا الشرط بمنزلة
خيار البائع والمبيعة قائمة على ملك البائع في
يده على خياره فإذا تقرر ملكه بفسخ البيع ظهر
أن جناية المشتري ووطأه حصلا في ملك الغير
فعليه العقر والأرش وإن مضت الأيام الثلاثة
قبل أن يرد الثمن تم البيع ولا شيء على
المشتري من العقر والأرش لأن خيار البائع إذا
سقط ملكها المشتري من وقت العقد بزيادتها فلا
يلزمه العقر والأرش لأن فعله حصل في ملكه
حكما.
ولو كان أجنبي فعل ذلك ثم رد البائع الثمن في
الأيام الثلاثة أخذ جاريته ونصف قيمتها ففي
فقء العين إن شاء من المشتري ويرجع به المشتري
على الفاقئ وإن شاء من الفاقئ لأنها كانت
مملوكة للبائع مضمونة بنفسها في يد المشتري
كالمغصوبة وفي الوطء إن كانت بكرا فكذلك
الجواب لأن الوطء ينقص ماليتها وهي مضمونة في
يد المشتري بنفسها
وإن كانت ثيبا لم ينقصها الوطء أخذها البائع
واتبع الواطئ بعقرها ولا سبيل له على المشتري
لأن المضمون على المشتري ماليتها ولم يتمكن
نقصان في ماليتها بهذا الوطء وهي كالمغصوبة
إذا وطئها أجنبي في يد الغاصب وهي ثيب ولو لم
يرد البائع الثمن حتى مضت الأيام الثلاثة تم
البيع واتبع المشتري الفاقئ أو الواطئ بالأرش
والعقر لأنه عند سقوط الخيار للبائع ملكها من
وقت العقد بزوائدها المنفصلة.
ولو كان البائع هو الذي وطئها وفقأ عينها فقد
انتقض البيع رد الثمن بعد ذلك أو لم يرد ويأخذ
جاريته لأن فعله ذلك تقرير لملكه حين عجز نفسه
عن تسليمها كما باعها ولو فعل ذلك بعد مضي
الثلاث ولم يرد الثمن فعليه الأرش والعقر
للمشتري لأن بمضي الثلاث تم البيع وتأكد ملك
المشتري بكونها في يده ففعل البائع فيها كفعل
أجنبي آخر فيلزمه عقرها وأرشها للمشتري والله
أعلم.
باب الشفعة في بيع المأذون وشرائه
قال رحمه الله: ولا شفعة
للمولى فيما باع عبده المأذون أو اشتراه إذا
لم يكن عليه دين لأنه يبيع ملك المولي له ولا
شفعة في البيع لمن وقع البيع له ولا فائدة في
أخذ ما اشتراه
ج / 26 ص -7-
بالشفعة لأنه متمكن من أخذه لا بطريق الشفعة
فإنه مالك لكسبه إذا لم يكن عليه دين والأخذ
بالشفعة بمنزلة الشراء وشراؤه كسب عبده إذا لم
يكن عليه دين باطل وكذلك لا شفعة للعبد فيما
باع مولاه أو اشتراه لأنه إذا لم يكن عليه دين
فإنما يأخذ ما باعه المولى بالشفعة له ولا
شفعة للبائع ولا يفيد أخذه بما اشتراه المولى
بالشفعة لأن المولى متمكن من استرداد ما في
يده منه فيكون متمكنا من منعه من إثبات اليد
عليه أيضا فإن كان على العبد دين فالشفعة
واجبة لكل واحد منهما في جميع هذه الوجوه لأن
كسبه حق غرمائه والمولى كالأجنبي منه فيكون
أخذ كل واحد منهما من صاحبه في هذه الحالة
مفيدا بمنزلة شرائه ابتداءا لا في وجه واحد
وهو ما إذا باع العبد دارا بأقل من قيمتها بما
يتغابن الناس أو بغير ذلك لم يكن للمولى فيها
الشفعة لأنه لو وجبت له الشفعة أخذها من العبد
قبل التسليم إلى المشتري فيكون متملكا عليه
الدار بأقل من قيمتها.
ولو باع العبد منه بالغبن لم يجز لحق غرمائه
ويستوي في حقهم الغبن اليسير والفاحش كما في
تصرف المريض في حق غرمائه ولا يمكن الأخذ بمثل
القيمة لأن ما لم يكن ثمنا في حق المشتري لا
يثبت ثمنا في حق الشفيع ولو باع العبد من
مولاه دارا ولا دين عليه والأجنبي شفيعها فلا
شفعة له لأن ما جرى بينهما ليس ببيع حقيقة
فالبيع والثمن كلاهما خالص ملك المولى ومبادلة
ملكه بملكه لا تجوز وقد كان متمكنا من أخذها
بدون هذا البيع فلا يكون هذا البيع مفيدا
والأسباب الشرعية تلغو إذا كانت خالية عن
فائدة فإذا كان عليه دين وكان البيع بمثل
القيمة أو أكثر فله الشفعة لأن هذا بيع صحيح
بينهما فالدار كانت حقا لغرمائه وكان المولى
ممنوعا من أخذه قبل الشراء وبالشراء يصير هو
أحق بها وباعتبار البيع الصحيح تجب الشفعة
للشفيع وإن باعها بأقل من قيمتها فلا شفعة
للشفيع فيها في قول أبي حنيفة لأن عنده بيع
المأذون من مولاه بأقل من قيمته باطل كبيع
المريض من وارثه وهذا لأن المولي يخلفه في
كسبه خلافة الوارث المورث فتتمكن التهمة
بينهما في حق الغرماء والشفعة لا تستحق بالبيع
الباطل وعندهما للشفيع أن يأخذها بقيمتها أو
يتركها لأن من أصلهما أن المحاباة لا تسلم
للمولى ولكن لا يبطل أصل البيع بسبب المحاباة
بل يتخير المولى بين أن يزيل المحاباة فيأخذها
بقيمتها وبين أن يتركها فكذلك الشفيع يتخير في
ذلك وهذا لأن الاستحقاق بحكم هذا البيع ثابت
للمولى بمثل القيمة إذا رضي به فيثبت ذلك
للشفيع لأن الشرع قدم الشفيع على المشتري في
الاستحقاق الثابت بالبيع فإن تركها الشفيع
أخذها المولى بتمام القيمة إن شاء.
وإن كان المولى هو البائع من غيره بمثل قيمته
ولا دين عليه فلا شفعة فيها لأن ما جرى بينهما
ليس ببيع مفيد وإن كان عليه دين كان البيع
صحيحا لكونه مفيدا والشفعة واجبة للشفيع وإن
باعها منه بأكثر من قيمتها فعند أبي حنيفة
البيع باطل لأجل الزيادة وكون العبد متهما في
حق مولاه.
ج / 26 ص -8-
ألا
ترى أن إقراره لمولاه لا يجوز بشيء إذا كان
عليه دين فكذلك المحاباة والزيادة منه لمولاه
وإذا بطل البيع لم تجب الشفعة للشفيع وعندهما
المولى بالخيار إن شاء سلم الدار للعبد بقدر
القيمة وإن شاء استردها لأن التزام العبد
الزيادة لمولاه لم تصح.
وأما أصل البيع بمثل القيمة فصحيح فثبوت
الخيار للمولى لانعدام الرضا منه بذلك فإن
سلمها له بالقيمة أخذها الشفيع بذلك لأن
الاستحقاق ثابت بالقيمة عند رضاه بها وإن أبى
كان للشفيع أن يأخذها من المولى بجميع الثمن
إن شاء لأن رهنا المولى قد تم بالبيع بجميع
الثمن وذلك يكفي لوجوب الشفعة كما لو أقر
ببيعها وأنكر المشتري ثم عهدة الشفيع على
المولى لأنه تملكها عليه بالأخذ من يده فهو
بمنزلة ما لو اشتراها منه ابتداء.
وإذا سلم المأذون شفعته وجبت له وعليه دين أو
لا دين عليه فتسليمه جائز لأنه يملك الأخذ
بالشفعة فيملك تسليمها لأن كل واحد منهما من
صنيع التجار كما أن الأخذ بالشفعة بمنزلة
الشراء فتسليمها بمنزلة ترك الشراء والإقالة
بعد ذلك والمأذون مالك كذلك
وإن سلمها مولاه جاز تسليمها إن لم يكن عليه
دين بمنزلة الإقالة فيما اشتراه العبد لأنه لو
باعها ابتداء من هذا الرجل أو من غيره بعد ما
أخذها العبد جاز فكذلك إذا سلم شفيعها له.
وإن كان على العبد دين فتسليم المولى باطل
بمنزلة إقالته وبيعه ابتداء وهذا لأن كسبه حق
غرمائه والمولى جعل كالأجنبي بالتصرف فيه
فكذلك في إسقاط حقه فإن لم يأخذه العبد حتى
استوفى الغرماء دينهم أو أبرأوا العبد من
دينهم سلمت الدار للمشتري بتسليم المولى
الشفعة لأن تسليم المولى الشفعة بمنزلة سائر
تصرفاته في كسب العبد المديون وذلك كله ينفذ
بسقوط حق الغرماء التبرعات والمعاوضات فيه
سواء ولو حجر المولى عليه بعد وجوب الشفعة له
وفي يده مال وعليه دين أو لا دين عليه لم يكن
له أن يأخذها بالشفعة كما لا يكون له أن
يشتريها ابتداء بما في يده من المال بعد الحجر
عليه وإن لم يحجر عليه وأراد المولى الأخذ
بالشفعة فله ذلك إذا لم يكن على العبد دين لأن
العبد إنما يأخذ للمولى ولأن الأخذ بالشفعة
بمنزلة الشراء وللمولى أن يشتري بكسب عبده إذا
لم يكن عليه دين كما يكون ذلك للعبد فكذلك حكم
الأخذ بالشفعة.
وإن كان عليه دين لم يكن له ذلك إلا أن يقضي
الغرماء دينهم فإن قضاهم ديونهم كان له أن
يأخذ بالشفعة لزوال المانع وإن كان عليه دين
فأراد الغرماء أن يأخذوا بالشفعة لم يكن لهم
ذلك لأن حق الأخذ بالشفعة باعتبار الجواز وذلك
ينبني على ملك العين والغرماء من ملك عين
الدار التي هي كسب العبد كالأجانب حتى لا يكون
للغرماء استخلاصها لهم وأما حقهم في ماليتها
فبمنزلة حق المرتهن ولا يستحقون الشفعة بخلاف
المولى فإنه مالك للعين إذا لم يكن على العبد
دين فيكون له أن يأخذها بالشفعة لتقرر السبب
في حقهم.
ولو حجر عليه بعد وجوب الشفعة ثم أراد المولى
أن يأخذها بالشفعة ولا دين على العبد فله أن
يأخذها إن سلم العبد بعد الحجر أو لم يسلم لأن
التسليم إنما يصح ممن يملك
ج / 26 ص -9-
الأخذ
والعبد بعد الأخذ لا يملك الأخذ بالشفعة إلا
أن يقضي الغرماء دينهم فإن فعل ذلك كان له أن
يأخذها بالشفعة لزوال المانع سواء سلم العبد
الشفعة بعد الحجر أو لم يسلم وهذا على أصل أبي
حنيفة ومحمد ظاهر لأن عندهما المولى مالك
لكسبه مع قيام الدين عليه وإن كان هو ممنوعا
منه وعند أبي حنيفة وإن لم يكن مالكا فهو أحق
بكسبه إذا قضى الدين والشفعة تستحق عليه
كالتركة المستغرقة بالدين إذا بيعت دار بجنب
منها كان للوارث أن يأخذها بالشفعة بعد ما قضي
الدين.
وإذا اشترى المأذون دارا ولها شفيع يريد أخذها
فوكل الشفيع مولى العبد يأخذها له وبالخصومة
فيها وعلى العبد دين أو لا دين عليه فالوكالة
باطلة لأنه لو صح التوكيل ملك الوكيل التسليم
في مجلس الحكم وفي ذلك منفعة للمولى وهذا لا
يصلح أن يكون وكيلا في استيفاء حق الغير من
عبده فلهذا النوع من المنفعة له في ذلك كما لو
وكله غريم العبد باستيفاء دينه من العبد فإن
كان عليه دين فسلمها العبد للمولى بالشفعة
صارت الدار للشفيع ولا يجوز قبض المولى الدار
من العبد على الشفيع حتى يقبضها الشفيع من
المولى والعهدة فيما بين العبد والشفيع ولا
عهدة فيما بين المولى وعبده لأن الوكالة لما
لم تصح صار المولى بمنزلة الرسول للشفيع فإذا
سلمها العبد إليه ملكها الشفيع بمنزلة ما لو
أخذها الشفيع بنفسه وهو نظير ما لو وكله بقبض
دين له على العبد فإنه لا يبرأ العبد بقبض
المولى حتى يدفع ذلك إلى الغريم فإذا دفعها
إليه بريء العبد بمنزلة ما لو قبضها الغريم
بنفسه وكذلك لو كان الوكيل بعض غرمائه لأن
منفعة الغريم في ذلك أظهر من منفعة المولى فإن
حقه في كسب العبد مقدم على حق المولى.
ولو كان العبد هو الشفيع فوكل مولاه أن يأخذه
بالشفعة له أو بعض غرمائه جازت الوكالة كان
عليه دين أو لم يكن بمنزلة ما لو وكله العبد
بقبض دين له على أجنبي وهذا لأن في تسليمه
وإقراره إضرارا بالمولى والغريم ولا منفعة
لهما فيه فإن سلم المولى الشفعة للمشتري عند
القاضي جاز تسليمه وإن سلمها عند غير القاضي
جاز إن لم يكن على العبد دين وإن كان على
العبد دين فتسليمه باطل في قول أبي حنيفة رحمه
الله وليس له أن يأخذ بالشفعة ولكن العبد هو
الذي يأخذها وفي قول أبي يوسف الآخر تسليمه
جائز عند القاضي وعند غير القاضي وعند محمد
تسليمه باطل عند القاضي وعند غير القاضي إذا
كان على العبد دين وأصل المسألة ما بينا في
الشفعة أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف من ملك
الأخذ بالشفعة ملك تسليمها وإن كان نائبا
كالأب والوصي وعند محمد لا يملك ثم عند أبي
حنيفة رحمه الله إقرار الوكيل على موكله يجوز
في مجلس القاضي ولا يجوز في غير مجلسه فكذلك
تسليمه وفي قول أبي يوسف الآخر كما يجوز
إقراره عليه في غير مجلس القاضي فكذلك يجوز
تسليمه.
فإذا عرفنا هذا فنقول: عند
أبي حنيفة إذا سلمها في مجلس القاضي جاز لأنه
مالك
ج / 26 ص -10-
للأخذ
وإذا سلمها في غير مجلس القاضي فإن لم يكن
عليه دين جاز باعتبار أن الحق واجب له لا
باعتبار الوكالة وإن كان عليه دين لا يجوز
تسليمه في حق العبد والغرماء ولكن يخرج من
الخصومة بمنزلة ما لو أقر على موكله في غير
مجلس القاضي وإذا خرج من الخصومة كان العبد
على حقه يأخذها بالشفعة إن شاء وفي قول أبي
يوسف الآخر يصح تسليمه على كل حال لأنه بنفس
التوكيل قام مقام الموكل في الأخذ فكذلك
التسليم
وعند محمد هو قائم مقام الموكل في الأخذ
بالشفعة والتسليم إسقاط وهو ضد ما وكله به فلا
يصح منه إلا إذا لم يكن عليه دين فحينئذ يصح
باعتبار ملكه.
ولو كان وكيل العبد بالأخذ بعض غرمائه فتسليمه
في مجلس القاضي جائز في قول أبي حنيفة وكذلك
في غير مجلس القاضي عند أبي يوسف وفي قول محمد
هو باطل وإن أقر عند القاضي أن العبد قد سلمها
قبل أن يتقدم إليه فإقراره في مجلس القاضي
جائز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند
أبي يوسف رحمه الله إقراره بذلك جائز في مجلس
القاضي وفي غير مجلس القاضي بمنزلة إقرار وكيل
المدعى عليه بوجوب الدين وإقرار وكيل المدعي
بأنه مبطل في دعواه وأنه قد أبرأه عن الدين.
رجل مات وعليه دين فباع الوصي دارا للميت لها
شفيع فوكل الشفيع بعض غرماء الميت أن يأخذ له
لم يكن وكيلا في ذلك لأن الدار إنما بيعت له
وكما أن من بيعت له لا يأخذها لنفسه فكذلك لا
يأخذها لغيره بوكالته وبهذا الطريق قلنا: فيما
باعه العبد أن المولى أو الغريم لا يكون وكيلا
للشفيع في الأخذ لأن تصرفه لغرمائه من وجه
ولمولاه من وجه.
ولو كان الميت اشترى في حياته دارا وقبضها ثم
مات وعليه دين وطلب الشفيع شفعته ووكل في
الخصومة فيها بعض غرماء الميت لم يكن وكيلا
لأنه لو صح التوكيل ملك التسليم والإقرار على
موكله بالتسليم في مجلس الحاكم وفيه منفعة له
فإن سلمها الوصي بغير خصومة كانت للشفيع ولم
يكن للغريم أن يقبضها ولكن الشفيع هو الذي
يقبضها وتكون العهدة فيما بينه وبين الوصي لأن
الوكالة لما بطلت صار هو بمنزلة الرسول للشفيع
وكذلك لو وكل وارثا بذلك فإن في التسليم أو
الإقرار به على الموكل منفعة الوارث بعد سقوط
حق الغريم.
ولو باع المأذون دارا وسلمها ولها شفيع فوكل
الشفيع بخصومة المشتري مولى العبد وعليه دين
أو لا دين عليه أو وكل بعض غرماء العبد
فالوكالة باطلة لأن العبد بائع للدار لغرمائه
من وجه فإن ماليتها حقهم وللمولى من وجه فإن
كسبه ملك مولاه إذا فرغ من الدين ومن بيع له
لا يأخذ بالشفعة لغيره كما لا يأخذ لنفسه.
ألا ترى أن الوكيل إذا باع دار الرجل بأمره
فوكل الشفيع الآمر بخصومة المشتري في ذلك لم
يكن وكيلا لأنها بيعت له وكذلك المضارب إذا
باع دارا من المضاربة فوكل شفيعها رب المال
بالخصومة والأخذ بالشفعة لم يكن وكيلا في ذلك
فإن سلمها المشتري له بغير خصومة جاز والشفيع
هو الذي قبضها والعهدة بينه وبين المشتري لأن
رب المال بمنزلة
ج / 26 ص -11-
الرسول
له حين يطلب الوكالة وعبارة الرسول كعبارة
المرسل فكان للشفيع أخذها بنفسه والله أعلم.
باب بيع المأذون المكيل أو الموزون من صنفين
قال رحمه الله: وإذا باع
المأذون من رجل عشرة أقفزة حنطة وعشرة أقفزة
شعير فقال أبيعك هذه العشرة الأقفزة حنطة وهذه
العشرة الأقفزة شعير كل قفيز بدرهم فالبيع
جائز لأن جملة المبيع معلوم والثمن معلوم وكل
متى أضيفت إلى ما يعلم منتهاه تتناول الجميع
فإن تقابضا ثم وجد بالحنطة عيبا ردها بنصف
الثمن على حساب كل قفيز بدرهم لأنه كذلك اشترى
وعند الرد بالعيب إنما يرد المعيب بالثمن
المسمى بمقابلته فإذا كان المسمى بمقابلة كل
قفيز من الحنطة درهما ردها بذلك أيضا وكذلك لو
قال القفيز بدرهم لأن الألف واللام للجنس إذا
لم يكن هناك معهود فيتناول كل قفيز من الحنطة
وكل قفيز من الشعير بمنزلة قوله كل قفيز ولو
قال كل قفيز منهما بدرهم وتقابضا ثم وجد
بالحنطة عيبا فإنه يردها على حساب كل قفيز
منهما النصف من الحنطة والنصف من الشعير بدرهم
وذلك بأن يقسم جميع الثمن عشرين درهما على
قيمة الحنطة وقيمة الشعير فإن كانت قيمة
الحنطة عشرين درهما وقيمة الشعير عشرة رد
الحنطة بثلثي الثمن لأنه أضاف القفيز الذي جعل
الدرهم بمقابلته إليهما بقوله منهما ومطلق هذه
الإضافة يقتضي التسوية بينهما فيكون نصف كل
قفيز بمقابلة الدرهم من الحنطة ونصف من الشعير
فلهذا يقسم جملة الثمن على قيمتهما بخلاف
الأول فهناك ذكر القفيز مطلقا وإطلاقه يقتضي
أن يكون بمقابلة كل قفيز من الحنطة درهم
وبمقابلة كل قفيز من الشعير درهم وكذلك لو قال
القفيز منهما بدرهم فهذا وقوله كل قفيز منهما
بدرهم سواء كما بينا.
ولو قال: أبيعك هذه الحنطة
وهذا الشعير ولم يسم كيلهما كل قفيز بدرهم
فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن
من أصله أنه إذا لم تكن الجملة معلومة فإن ما
يتناول هذا اللفظ قفيزا واحدا وقد بينا له هذا
الأصل في البيوع ولا يعلم إن ذلك القفيز من
الحنطة أو من الشعير ففسد البيع في ذلك أيضا
للجهالة حتى يعلم الكيل كله فإن علمه فهو
بالخيار إن شاء أخذ كل قفيز حنطة بدرهم وكل
قفيز شعير بدرهم وإن شاء ترك وهكذا يكشف الحال
عنده إذا صارت جملة الثمن معلومة له الآن
فيتخير بين الأخذ والترك وعندهما البيع جائز
كل قفيز من الحنطة بدرهم وكل قفيز من الشعير
بدرهم لأن جهالة الجملة لا تفضي إلى تمكن
المنازعة.
ولو قال: كل قفيز منهما بدرهم
كان البيع واقعا في قول أبي حنيفة رحمه الله
على قفيز واحد نصفه من الحنطة ونصفه من الشعير
بدرهم لأن هذا معلوم وثمنه معلوم وفيما زاد
على القفيز الواحد إذا علم بكيل ذلك فهو
بالخيار إن شاء أخذ كل قفيز منهما بدرهم وإن
شاء ترك وفي قول أبي يوسف ومحمد البيع لازم له
في جميع ذلك كل قفيز منهما بدرهم نصفه من
الحنطة ونصفه من الشعير.
ج / 26 ص -12-
ولو قال: أبيعك هذه الحنطة على أنها أقل من كر فاشتراها على ذلك فوجدها أقل
من كر فالبيع جائز لأن المعقود عليه صار
معلوما بالإشارة إليه ووجده على شرطه الذي
سماه في العقد والثمن معلوم بالتسمية فيجوز
العقد.
وإن وجدها كرا أو أكثر من كر فالبيع فاسد لأن
العقد إنما يتناول بعض الموجود وهو أقل من كر
كما سمى وذلك مجهول لأنه لا يدري أن المشترى
أقل من الكر بقفيز وقفيزين وهذه الجهالة تقتضي
المنازعة.
وكذلك لو قال على أنها أكثر من كر فإن وجدها
أكثر من كر بقليل أو كثير فالبيع جائز لأنه
وجدها على شرطه والبيع يتناول جميعها وإن
وجدها أقل من كر أو كرا فالبيع فاسد لأنه لا
يدري ما حصة ما نقص منها مما شرط له فإنه لا
بد من إسقاط حصة النقصان من الثمن وذلك مجهول
جهالة تفضي إلى المنازعة ولو قال على أنها كرا
وأقل منه فإن وجدها كرا أو أقل منه فهو جائز
لأنه وجدها على شرطه وإن وجدها أكثر من كر لزم
المشتري من ذلك كرا وليس للبائع أن ينقصه من
ذلك شيئا لأنه لو وجدها كرا كان الكل مستحقا
للمشتري فإن وجدها أكثر أولى أن يكون مقدار
الكر مستحقا للمشتري والزيادة على الكر للبائع
لأن البيع لا يتناولها.
ولو قال: على أنها كر أو أكثر
فوجدها كذلك جاز البيع وإن وجدها أقل فالمشتري
بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن
إذا قسم على كر وإن شاء ترك لأن استحقاقه إنما
يثبت في مقدار الكر بدليل أنه لو وجدها كرا
لزمه جميع الثمن ولا خيار له فإذا كان أنقص من
كر فقدر النقصان معلوم وحصته من الثمن معلومة
فيسقط ذلك عن المشتري ويتخير لتفرق الصفقة
عليه.
والحاصل أن حرف أو للتخيير فإنما يثبت
الاستحقاق عند ذكر حرف أو في المقدار المعلوم
في نفسه سواء ردد الكلام بين ما هو معلوم في
نفسه والزيادة عليه أو النقصان عنه إلا أن في
ذكر النقصان للبائع فائدة وهو أن لا يخاصمه إن
وجده أقل فهو بمنزلة البراءة من العيب وفي ذكر
الزيادة للمشتري فائدة وهو أن لا يلزمه رد شيء
إذا وجده أكثر.
ولو قال: أبيعك هذه الدار على
أنها أقل من ألف ذراع فوجدها أقل من ذلك أو
ألفا أو أكثر فالبيع جائز لأن الذرعان في
الدار صفة والثمن بمقابلة العين لا بمقابلة
الوصف فإن وجدها أزيد مما قال وصفا لا يتغير
حكم البيع ولو قال على أنها أكثر من ألف ذراع
فإن وجدها أكثر من ألف بقليل أو كثير فالبيع
لازم لأنه وجدها على شرطه وإن وجدها ألف ذراع
أو أقل كان المشتري بالخيار إن شاء أخذها
بجميع الثمن وإن شاء ترك لأنه وجدها أنقص مما
سمى البائع له من الوصف فيتخير لذلك فإذا
اختار الأخذ لزمه جميع الثمن لأن الثمن
بمقابلة العين دون الوصف.
ولو اشترى ثوبا من رجل بعشرة دراهم على أنه
عشرة أذرع فوجده ثمانية فقال البائع:
ج / 26 ص -13-
بعتك
على أنه ثمانية فالقول قول البائع مع يمينه
لأن المشتري يدعي زيادة وصف شرطه ليثبت له
الخيار لنفسه عند فوته فإن الذرعان في الثوب
صفة والبائع منكر لذلك والقول قوله مع يمينه
وعلى المشتري البينة على ما ادعاه من الشرط
كما لو قال اشتريت العبد على أنه كاتب أو
خباز.
ولو قال المشتري: اشتريته
بعشرة على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فوجده
ثمانية أذرع فقال البائع بعتك على أنه ثمانية
أذرع بعشرة دراهم ولم أشترط كل ذراع بدرهم
تحالفا وترادا لأن الاختلاف ها هنا بينهما في
مقدار الثمن فإنه إذا لم يقل كل ذراع بدرهم
كان الثمن عشرة دراهم سواء كان ذرعان الثوب
عشرة أو ثمانية فإذا كان كل ذراع بدرهم فالثمن
ثمانية إذا كان ذرعان الثوب ثمانية فعرفنا أن
الاختلاف بينهما في مقدار الثمن والحكم فيه
التحالف والتراد فأما في الأول فلم يختلفا في
مقدار الثمن وإنما ادعى المشتري إثبات الخيار
لنفسه لفوت وصف شرطه فهو بمنزلة ما لو ادعى
أنه شرطه كاتبا أو ادعى شرط الخيار لنفسه ولا
تحالف في ذلك بل يكون القول قول المنكر للشرط
والله أعلم.
باب عتق المولى عبده المأذون ورقيقه
قال رحمه الله: وإذا أعتق
المولى عبده المأذون وعليه دين أكثر من قيمته
وهو يعلم أو لا يعلم فعتقه نافذ لبقاء ملكه في
رقبته بعد ما لحقه الدين والمولى ضامن لقيمته
بالغة ما بلغت وإن كانت قيمته عشرين ألفا أو
أكثر لأنه أتلف المالية بالإعتاق وهذه المالية
حق الغرماء فيضمنها لهم بالغة ما بلغت كالراهن
إذا أعتق المرهون والدين مؤجل ولم يكن عليه
دين ولكنه قتل حرا أو عبدا خطأ فأعتقه المولى
فإن كان يعلم بالجناية فهو مختار للفداء
والفداء الدية إن كان المقتول حرا وقيمة
المقتول إن كان عبدا إلا أن يزيد على عشرة
آلاف درهم فينقص منها عشرة لأن بدل نفس
المملوك بالقتل لا يزيد على عشرة آلاف إلا
عشرة وإن لم يعلم بالجناية غرم قيمة عبده إلا
أن تبلغ قيمته عشرة آلاف فينقص منها عشرة لأن
المستحق بالجناية نفس العبد بطريق الجزاء
والمولى مخير بين الدفع والفداء فإذا أعتقه مع
العلم بالجناية صار مختارا للفداء بمنع الدفع
وإن كان لا يعلم بالجناية فهو غير مختار
للفداء ولكنه مستهلك للعبد الذي استحقه جزاء
على الجناية فيغرم قيمته ولا يزاد قيمته على
عشرة آلاف إلا عشرة لأن هذه قيمة لزمته
باعتبار الجناية من المملوك فيقاس بقيمة تلزمه
بالجناية على المملوك فإذا كان لا يزاد على
عشرة آلاف إلا عشرة فكذلك القيمة التي تلزمه
بالجناية من المملوك وهذا يخالف فضل الدين من
وجهين:
أحدهما: أن هناك علم المولى
وعدم علمه سواء لأن المستحق مالية الرقبة تبعا
في الدين وإعتاق المولى إتلاف لذلك فيلزمه
قيمته سواء كان عالما به أو غير عالم به
بمنزلة إتلاف مال الغير وفي الجناية المستحق
في حق المولى أحد شيئين وهو مخير بينهما وفي
حكم الاختيار يختلف العلم وعدم العلم.
ج / 26 ص -14-
والثاني: أن هناك يغرم قيمته بالغة ما بلغت لأن استحقاق تلك القيمة عليه
باعتبار سبب يستحق به المالية من غصب وشراء
فيتقدر بقدر القيمة وها هنا وجوب القيمة
باعتبار الجناية وقيمة العبد بالجناية لا تزيد
على عشرة آلاف إلا عشرة.
وإن كان المقتول عبد أغرم المولى الأقل من
قيمة عبده ومن قيمة المقتول إلا أن يبلغ عشرة
آلاف فينقص منها عشره لأن الأقل هو المتيقن به
فلا يلزم المولى أكثر منه ولا يزاد الواجب على
عشرة آلاف إلا عشرة لأن الواجب باعتبار
الجناية على المملوك فإن أعتقه وعليه دين
وجنايات أكثر من قيمته وهو لا يعلم بالجناية
غرم لأصحاب الدين قيمته بالغة ما بلغت لإتلاف
المالية التي هي حقهم.
ألا ترى أن قبل العتق كان يدفع بالجنايات ثم
يباع بالدين فيسلم المالية للغرماء بكمالها
ويغرم لأصحاب الجنايات الأقل من قيمته ومن
عشرة آلاف إلا عشرة لأن المستحق نفسه
بالجنايات حر ألا ترى أن قبل العتق كان يتخلص
المولى من جناياته بدفعه فإذا تعذر الدفع
بإعتاقه لم يصر مختارا كان عليه قيمته وقيمته
بسبب الجناية لا تزيد على عشرة آلاف إلا عشرة
ولا شركة بين الغرماء ولا بين أصحاب الجنايات
لانعدام المشاركة بينهما في سبب وجوب حقهما
وفي المحل الذي ثبت فيه حق كل واحد منهما.
ألا ترى أن قبل العتق لم يكن بينهما شركة
ولكنه كان يدفع بالجنايات كلها أو لا ثم يباع
للغرماء في ديونهم وإن أعتقه وهو يعلم
بالجنايات صار مختارا للفداء في الجنايات
فيضمنها كلها وصار ضامنا القيمة للغرماء
بإتلاف المالية ولا شركة لبعضهم مع البعض في
ذلك ولو كان المأذون مدبرا أو أم ولد فأعتقه
المولى وعليه دين كبير لم يغرم للمولى شيئا
لأن حق الغرماء ها هنا ما تعلق بمالية الرقبة
بل بالكسب وبالإعتاق لم يثبت شيء من كل حقهم
فلا يغرم المولى لهم شيئا لأنه ما أفسد عليهم
شيئا بخلاف القن.
وإن كان على المأذون دين كثير أو قليل فأعتق
المولى أمة من رقيقه فعتقه باطل في قول أبي
حنيفة الأول وفي قوله الآخر نافذ إلا أن يكون
الدين محيطا برقبته وبجميع ما في يده فحينئذ
عتقه باطل ما لم يسقط الدين وفي قولهما عتقه
نافذ على كل حال كما ينفذ في رقبته وهذا بناء
على اختلافهم في ملك المولى كسب عبده المديون
وقد بيناه فيما سبق فإن كان في رقبته وكسبه
فضل على دينه حتى جاز عتق المولى لأمته
فالمولي ضامن قيمة الأمة للغرماء لأن الدين
يشغل كل جزء من أجزاء الكسب والمولى يفسد
عليهم مالية المعتقة فيضمن قيمتها لهم فإن كان
معسرا كانت القيمة دينا على الجارية المعتقة
لأن المالية التي هي حق الغرماء سلمت لها
واحتبست عندها بالعتق فعليها السعاية في
قيمتها ويرجع بذلك على المولى لأن
ج / 26 ص -15-
السبب
الموجب للضمان وجد من المولي وكان الضمان دينا
في ذمة المولى وإنما أخرت هي على قضاء دين
المولى ويرجع عليه بذلك كما لو أعتق الراهن
المرهون وهو معسر والتدبير في ذلك بمنزلة
الإعتاق.
وذكر في المأذون الصغير أن المولى إذا أعتق
جارية العبد المأذون بعد موت المأذون فهو
كإعتاقه إياها في حياته وهذا ظاهر في قول أبي
حنيفة وعلى قول أبي يوسف ومحمد عتقه وتدبيره
جائز وإن كان الدين محيطا والمولى ضامن قيمة
الأمة بإتلاف ماليتها على الغرماء فإن كان
معسرا فللغرماء أن يضمنوها القيمة ويرجع بذلك
على المولى كما هو مذهب أبي حنيفة إذا لم يكن
الدين محيطا وكذلك الوارث إذا أعتق جارية من
التركة وفيها دين غير مستغرق لها فإن الوارث
مالك للتركة ها هنا فينفذ عتقه ويكون التحريج
في حكم الضمان على نحو ما بينا في إعتاق
المولى كسب عبده المأذون.
ولو وطىء المولى أمة المأذون فجاءت بولد فادعى
نسبه ثبت نسبه منه عندهم جميعا وصارت الأمة أم
ولد له ويضمن قيمتها ولا يضمن عقرها لأن حق
المولى في كسب عبده المديون أقوى من الأب في
جارية ابنه.
ألا ترى أن المولى يملك استخلاصها لنفسه بقضاء
الدين من موضع آخر والأب لا يملك ذلك في جارية
ابنه ثم هناك استيلاده صحيح ويجب عليه ضمان
قيمتها دون العقر فكذلك ها هنا وبهذا فرق أبو
حنيفة بين الاستيلاد والإعتاق والتدبير.
وذكر في المأذون الصغير أن صحة دعوته استحسان
يعني على قول أبي حنيفة وفي القياس لا يصح
لأنه لا يملك كسب عبده المديون إذا كان الدين
محيطا كما لا يملك كسب مكاتبه ثم دعواه ولد
أمة مكاتبه لا تصح إلا بتصديق المكاتب فكذلك
دعواه ولد أمة عبده المديون ولكنه استحسن فقال
هناك لا يملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من
موضع آخر فيعتبر بالاستيلاد كأنه استخلصها
لنفسه بالتزام قيمتها.
ولا إشكال على قول أبي حنيفة في انتفاء العقر
عنه لأنه ما كان يملكها ما دامت مشغولة بحق
الغرماء فيقدم تمليكها منه بضمان القيمة
وإسقاط حق الغرماء عنها على الاستيلاد ليصح
الاستيلاد كما يفعل ذلك في استيلاد جارية
الابن وعلى قولهما إنما لا يجب العقر لأنه
يملكها حقيقة والوطء في ملك نفسه لا يلزمه
العقر وإنما يكون ضامنا لحق الغرماء وحق
الغرماء في المالية وقد ضمن لهم جميع قيمة
المالية والمستوفى بالوطء ليس بمال ولا حق
للغرماء فيه فلهذا لا يغرم عقرها.
وكذلك لو كان الوطء بعد موت المأذون وإن أعتق
المولي جارية المأذون وعليه دين يحيط بقيمته
وما في يده ثم قضى الغرماء الدين أو أبرأه
الغرماء أو بعضهم حتى صار في قيمته وفيما في
يده فضل على الدين جاز عتق المولى الجارية
لأنه حين أعتقها كان سبب الملك له
ج / 26 ص -16-
فيها
تاما وحق الغرماء كان مانعا فإذا زال المانع
بعد العتق كالوارث إذا أعتق عبدا من التركة
المستغرقة بالدين ثم سقط الدين نفذ العتق لهذا
المعنى.
ولو أعتق المولى جارية المأذون وعليه دين محيط
فبطل العتق في قول أبي حنيفة ثم وطئها المولى
بعد ذلك فجاءت بولد فادعاه فدعواه جائزة وهو
ضامن قيمتها للغرماء لما بينا في الاستيلاد
لأمته إذا كان قبل الإعتاق ثم الجارية حرة
لسقوط حق الغرماء عنها والاستيلاد. ألا ترى
أنه لو سقط حقهم عنها بالإبراء من الدين كانت
حرة بإعتاق المولى إياها فكذلك ها هنا وعلى
المولى العقر للجارية لأن الإعتاق من المولى
كان سابقا على الوطء إلا أن قيام الدين كان
مانعا من نفوذ ذلك العتق فإذا سقط حق الغرماء
عنها زال المانع عنها بعد العتق من ذلك الوقت
فتبين أنه وطئها بالشبهة وهي حرة فيلزمه العقر
لها لأن الوطء في غير الملك لا يخلو عن حد أو
عقر وقد سقط الحد للشبهة فيجب العقر.
فإذا ادعى المولى بعض رقيق المأذون أنه ولده
ولم يكن ولد في ملك المأذون فدعواه باطلة في
قول أبي حنيفة وهي جائزة في قول صاحبيه ويضمن
قيمته للغرماء فإن كان معسرا ضمن الولد ورجع
به على أبيه لأن دعوته دعوة التحرير فإن أصل
العلوق لم يكن في ملكه ودعوة التحرير كالإعتاق
وقد بينا هذا الحكم في الإعتاق وقال بن زياد
إذا أعتق المولى أمة من كسب عبده المديون ثم
سقط الدين لم ينفذ ذلك العتق وكذلك الوارث في
التركة المستغرقة بالدين لأن ملكه حدث بعد
الإعتاق وهو بمنزلة المضارب إذا أعتق عبد
المضاربة ولا فضل فيه على رأس المال ثم ظهر
الفضل فيه لا ينفذ ذلك العتق وكذلك المولى إذا
أعتق كسب مكاتبه ثم عجز المكاتب لا ينفذ ذلك
العتق ولكنا نقول هناك إنما أعتق قبل تمام
السبب وهو الملك لأن مال المضاربة مملوك لرب
المال وإنما بملك المضارب حصة من الربح
والمكاتب بمنزلة الحر من وجه فيمنع ذلك تمام
سبب الملك للمولى في كسبه فأما سبب الملك فتام
للوارث في التركة بعد موت المورث وللمولى في
كسب العبد فيتوقف عتقه على أن يتم بتمام
الملك.
ألا ترى أنه لو مات نصراني وترك ابنين
نصرانيين وعليه دين مستغرق فأسلم أحد الابنين
ثم سقط الدين كان الميراث للابنين جميعا ولو
كان تمام سبب الملك عند سقوط الدين كان
الميراث كله للابن النصراني لأن المسلم لا يرث
الكافر فبهذا الحرف يظهر الفرق والله أعلم.
باب جناية المأذون على عبده والجناية عليه
قال رحمه الله: وإذا جنى
المأذون على حر أو عبد جناية خطأ وعليه دين
قيل لمولاه ادفعه بالجناية أو افده لأنه على
ملك مولاه بعد ما لحقه الدين وفي البداءة
بالدفع بالجناية مراعاة الحقين وفي البداءة
بالبيع بالدين إبطال حق الجناية فيجب المصير
إلى ما فيه مراعاة الحقين وإذا اختار الفداء
فقد طهر العبد من الجناية فيبقي حق الغرماء
فيه فيباع في دينهم وإن دفعه بالجناية اتبعه
الغرماء في أيدي أصحاب الجناية فباعوه في
دينهم إلا أن يفديه أولياء الجناية لأن أولياء
الجناية إنما يستحقون ملك المولى فيه بطريق
الجزاء إلا أن يثبت لهم فيه
ج / 26 ص -17-
سبب
متجدد فهم بمنزلة الوارث يخلفونه في ملكه
والعبد المديون إذا مات مولاه اتبعه الغرماء
في ملك الوارث فباعوه في دينهم إلا أن يقضي
الوارث دينهم فكذلك يتبعونه في يد صاحب
الجناية فيباع في دينهم إلا أن يقضي صاحب
الجناية ديونهم.
وإن كان للمأذون جارية من تجارته فقتل قتيلا
خطأ فإن شاء المأذون دفعها وإن شاء فداها إن
كان عليه دين أو لم يكن لأن التدبير في كسبه
إليه وهو في التصرف بمنزلة الحر في التصرف في
ملكه فيخاطب بالدفع أو الفداء بخلاف جنايته
بنفسه فالتدبير في رقبته ليس إليه.
ألا ترى أنه لا يملك بيع رقبته ويملك بيع كسبه
فإن كانت الجناية نفسا وقيمة الجارية ألف درهم
ففداه المأذون بعشرة آلاف فهو جائز في قياس
قول أبي حنيفة ولا يجوز في قولهما لأن من
أصلهما أن المأذون لا يملك الشراء بما لا
يتغابن الناس في مثله وعند أبي حنيفة يملك ذلك
فيطهرها من الجناية باختيار الفداء بمنزلة
شرائها بما يفديها به على القولين أو بمنزلة
ما لو دفعها إلى أولياء الجناية ثم اشتراها
منهم بمقدار الفداء وإن كانت الجناية عمدا
فوجب القصاص عليها فصالح المأذون عنها جاز وإن
كان المأذون هو القاتل فصالح عن نفسه وعليه
دين أو ليس عليه دين لم يجز الصلح لما بينا
أنه في التدبير في كسبه بمنزلة الحر في ملكه
وفي التدبير في نفسه هو بمنزلة المحجور عليه
فلا يجوز صلحه في حق المولى لأنه يلتزم المال
بما ليس بمال وهو غير منفك الحجر عنه في ذلك
ولكن التزامه في حق نفسه صحيح فيسقط القود
بهذا الصلح ويجب المال في ذمته ويؤاخذ به بعد
العتق بمنزلة مال التزمه بالكفالة أو بالنكاح.
ولو كان للمأذون دار من تجارته فوجد فيها قتيل
وعليه دين أو لا دين عليه فالدية على عاقلة
المولى في قول أبي يوسف ومحمد لأنه مالك لهذه
الدار وإن كان على عبده دين ودية المقتول
الموجود في الملك على عاقلة صاحب الملك
باعتبار أنه بمنزلة القاتل له بيده وعند أبي
حنيفة رحمه الله إن لم يكن على العبد دين محيط
فكذلك وإن كان على العبد دين محيط ففي القياس
لا شيء على عاقلة المولى لأنه غير مالك للدار
عنده ولكن يخاطب بدفع العبد أو الفداء لأن حق
العبد في كسبه في حكم الجناية كملك المالك في
ملكه فبهذا الطريق يجعل كأن العبد قتله بيده
ولكنه استحسن وجعل الدية على عاقلة المولى لأن
العبد ليس من أهل الملك والمولى أحق الناس
بملك هذه الدار على معنى أنه يملكها إذا سقط
الدين ويملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من
موضع آخر فيكون بمنزلة القاتل بيده باعتبار
إقامة سبب الملك التام له فيها مقام الملك
ونظيره التركة المستغرقة بالدين إذا وجد في
دار منها قتيل كانت الدية على عاقلة الوارث
وهذا لأن المانع من الملك بعد تمام السبب حق
الغرماء وفي حكم الجناية الغرماء كالأجانب
ويجعل في القتيل الموجود فيها كأن المولى مالك
لها لما تعذر اعتبار جانب الغرماء في ذلك.
وعلى هذا لو شهد على المأذون في حائط من هذه
الدار مائل فلم ينقضه حتى وقع على
ج / 26 ص -18-
إنسان
فقتله فالدية على عاقلة المولى وقالا هذا
بمنزلة القتيل يوجد في هذه الدار ولم يذكر فيه
قول أبي حنيفة وقيل هو كذلك على جواب
الاستحسان عند أبي حنيفة لما قلنا: وهو بخلاف
ما إذا وقع على دابة فقتلها فإن قيمتها في عنق
العبد يباع فيها أو يفديه لأن حق صاحب الدين
يتعلق بالمالية والمولى من ماليته أجنبي لحق
غرمائه فلهذا كان ذلك في عنق العبد بمنزلة
جنايته على المال بيده وأما حق أولياء الجناية
فلا يثبت في المالية التي هي حق الغرماء ولهذا
كان موجب جنايته بيده على مولاه يخاطب بالدفع
أو الفداء ففي جناية يترك هدم الحائط المائل
أو يترك صيانة داره حتى وجد فيها قتيل يستحق
موجبه على المولى أيضا وإذا كان موجب الجناية
على المولى صار المولى فيه كالمالك للدار وكان
الإشهاد وجد عليه بطريق أن جناية مملوكه
كجنايته فتكون الدية على عاقلة المولى.
ولو كان على المأذون دين فجنى جناية فباعه
المولى من أصحاب الدين بدينهم ولا يعلم
بالجناية فعليه قيمته لأصحاب الجناية لأن حق
أولياء الجناية لا يمنع المولى من بيع الجاني
فإذا نفذ بيعه كان مفوتا على أولياء الجناية
حقهم فإن كان عالما بالجناية فعليه الأرش وإن
لم يكن عالما فعليه قيمته كما لو أعتقه.
ولو لم يبعه من الغرماء ولم يحضروا ولكن حضر
أصحاب الجناية فدفعه إليهم بغير قضاء قاض
فالقياس فيه أن يضمن قيمته للغرماء لأنه صار
متلفا على الغرماء محل حقهم بإخراجه عن ملكه
باختياره فيكون بمنزلة ما لو أعتقه وفي
الاستحسان لا ضمان عليه لأن حق أولياء الجناية
ثابت في عنقه والمولى فعل بدون قضاء القاضي
غير ما يأمر به القاضي أن لو رفع الأمر إليه
فيستوى فيه القضاء وغير القضاء بمنزلة الرجوع
في الهبة ثم هو ما فوت على الغرماء محل حقهم
فإن العبد محل للبيع في الدين في ملك أولياء
الجناية كما لو كان الدفع إليهم بقضاء قاض
وإنما يضمن القيمة باعتبار تفويت محل حقهم.
فإن جعلنا هذا تسليما لما هو المستحق بالجناية
لا يفوت به محل حقهم وإن جعلناه تمليكا مبتدأ
لا يفوت به محل حقهم أيضا لأنهم يتمكنون من
بيعه كما لو باعه أو وهبه ثم لا فائدة في هذا
القبض لأن بعد القبض يجب دفعه إليهم بالجناية
ثم بيعه في الدين فلهذا لم يضمن المولى شيئا
بخلاف ما سبق من بيعه إياه في الدين ففيه
تفويت محل حق أولياء الجناية على معنى أن
البيع تمليك مبتدأ ولا سبيل لأولياء الجناية
على نقض ذلك.
ولو لم يدفع بالجناية حتى طالبه الغرماء
بدينهم ولم يحضر صاحب الجناية وقد أقر به
المولى والغرماء عند القاضي لم يبعه في الدين
حتى يحضر صاحب الجناية فيدفعه إليه المولى أو
يفديه ثم يبيعه الغرماء لأن في بيعه في الدين
من القاضي إبطال حق أولياء الجناية أصلا فإنه
يفوت به محل حقهم ولا يكون المولى ضامنا شيئا
إذا كان القاضي هو الذي يبيعه وفي التأخير إلى
أن يحضر صاحب الجناية إضرار بالغرماء من حيث
تأخر حقهم للانتظار وضرر التأخير دون ضرر
الانتظار فلهذا يصير إلى الانتظار.
ج / 26 ص -19-
وإن
قضى القاضي أن يباع لهم وصاحب الجناية غائب
فالبيع جائز لأن حق الغريم ثابت في ماليته وهو
طالب بحقه ولا يدري أن صاحب الجناية هل يحضر
فيطلب حقه أو لا يحضر فلا يمتنع نفوذ قضاء
القاضي ببيعه لهذا ثم لا شيء لأصحاب الجناية
أيضا أما على المولى فلان القاضي هو الذي باعه
وببيع القاضي لا يصير المولى مفوتا محل حق
صاحب الجناية والقاضي فيما يقضي مجتهد فلا
يكون ضامنا شيئا والعبد بعد العتق ليس عليه من
موجب جنايته شيء فإن باعه القاضي من أصحاب
الدين أو من غيرهم بأكثر من الدين كان الفضل
عن الدين لصاحب الجناية لأن الثمن بدل العبد
وكان حقهم ثابتا في العبد فيثبت في بدله.
ألا ترى أن العبد الجاني إذا قتل ثبت حق
أولياء الجناية في قيمته فكذلك يثبت حقهم في
الثمن إلا أنه لا فائدة في استرداد مقدار
الدين من الغرماء لحقهم فيجعل الفضل على ذلك
لهم وإن كان ذلك الفضل أكثر من قيمة العبد إلا
أن يكون أكثر من أرش الجناية فحينئذ حق أولياء
الجناية في مقدار الأرش وما فضل عن أرش
الجناية فهو للمولى لأنه بدل ملكه وقد فرغ عن
حق الغير.
وكذلك إن باعه المولى بأمر القاضي فهذا وبيع
القاضي سواء وإن باعه بغير أمر القاضي بخمسة
آلاف درهم وهو لا يعلم بالجناية وقيمته ألف
درهم ودينه ألف وجنايته قتل رجل خطأ فإنه يدفع
من الثمن إلى صاحب الدين مقدار دينه وهو ألف
وإلى صاحب الجناية مقدار قيمته وهو ألف درهم
والباقي للمولى لأنه قد أوفى صاحب الدين كمال
حقه ولم يلتزم لصاحب الجناية إلا قيمة العبد
ليفوت محل حقه ببيعه بنفسه اختيارا فإذا دفع
إليه مقدار قيمته كان الباقي للمولى فإذا قتل
المأذون عمدا وعليه دين أو لا دين عليه فعلى
قاتله القصاص للمولى لأنه باق على ملكه بعد ما
لحقه الدين ووجوب القصاص له باعتبار ملكه ولا
شيء للغرماء لأن حقهم في ماليته وقد فات ولم
يخلف بدلا فالقصاص ليس ببدل عن المالية وحقهم
في محل تمكن إيفاء الدين منه وإيفاء الدين من
القصاص غير ممكن.
فإن صالح المولى القاتل من دمه على مال قليل
أو كثير جاز وأخذه الغرماء بدينهم إن كان من
جنسه وإن كان من غير جنسه بيع لهم لأن القصاص
بدل العبد وقد كانوا أحق به وذلك يوجب كونهم
أحق ببدله إلا أنه لم يكن البدل محلا صالحا
لإيفاء حقهم منه فإذا وقع الصلح عنه على مال
صار محلا صالحا لذلك فيثبت حقهم فيه بمنزلة
الموصى له بالثلث والغريم لا يثبت حقه في
القصاص فإن وقع الصلح عنه على مال ثبت حقه فيه
ونفذ الصلح من المولى على أي قدر من البدل كان
لأنه لا ضرر فيه على الغرماء بل فيه توفير
المنفعة عليهم بتحصيل محل هو صالح لإيفاء حقهم
منه.
ولو لم يقتل المأذون ولكن قتل عبدا له ولا دين
على المأذون فعلى القاتل القصاص للمولى دون
المأذون لأن كسبه خالص ملك المولى وولاية
استيفاء القصاص باعتبار الملك،
ج / 26 ص -20-
ولأنه
خرج بالقتل من أن يكون كسبا للعبد لأن كسبه
مما يتمكن هو من التجارة فيه وذلك لا يتحقق في
العبد المقتول ولا في القصاص الواجب فكان
المولى أخذه منه فيكون القصاص للمولى.
وإن كان على المأذون دين كثير أو قليل فلا
قصاص على القاتل وإن اجتمع على ذلك المولى
والغرماء لأن المولى ممنوع من استيفاء شيء من
كسبه ما بقي الدين عليه قل الدين أو كثر فلا
يتمكن هو من استيفاء القصاص بدلا عن كسبه
والغرماء لا يتمكنون من ذلك لأن حقهم في
المالية والقصاص ليس بمال فلانعدام المستوفى
لا يجب القصاص.
وإذا لم يجب القصاص بأصل القتل لا يجب وإن
اجتمعا على استيفائه وهو نظير عبد المضاربة
إذا قتل وفي قيمته فضل على رأس المال لا يجب
القصاص وإن اجتمع المضارب ورب المال على
استيفائه لهذا المعنى وعلى القاتل قيمة
المقتول في ماله في ثلاث سنين لأن القصاص لما
لم يجب لاشتباه المستوفى وجب المال ووجوبه
بنفس القتل فيكون مؤجلا في ثلاث سنين ولكنه في
مال الجاني لأنه وجب بعمد محض فلا تعقله
العاقلة إلا أن تبلغ القيمة عشرة آلاف فحينئذ
ينقص منها عشرة لأن بدل نفس المملوك بالجناية
لا يزيد على عشرة آلاف إلا عشرة ويكون ذلك
لغرماء العبد لأنه بدل المقتول وهو محل صالح
لإيفاء حقهم منه.
وإذا جنى عبد لرجل جناية خطأ فأذن له في
التجارة وهو يعلم بالجناية أو لا يعلم فلحقه
دين لم يصر المولى مختارا ويقال له ادفعه أو
افده لأن بالإذن له في التجارة ولحوق الدين
إياه لا يمنع دفعه بالجناية.
ألا ترى أنه لو أقر أن ذلك بالجناية لم يمنع
دفعه بها فكذلك إذا اعترض وإنما يصير المولى
مختارا للفداء باكتساب سبب يعجزه عن الدفع
بالجناية بعد العلم بها ولم يوجد فإن دفعه
بالجناية اتبعه الغرماء فبيع لهم إلا أن يفديه
صاحب الجناية بالدين لأن ماليته صارت حقا
للغرماء فإن فداه صاحب الجناية بالدين أو بيع
في الدين رجع صاحب الجناية على المولى بقيمة
العبد فسلمت له لأنهم استحقوا بجنايتهم عبدا
فارغا وإنما دفع إليهم عبدا هو مستحق المالية
بالدين.
فإذا استحق من دينهم بذلك السبب كان لهم حق
الرجوع على المولى بقيمته بخلاف ما إذا كانت
الجناية من العبد بعد ما لحقه الدين فإن هناك
ما استحقوا العبد إلا وهو مشغول بالدين مستحق
المالية وقد دفعه إليهم كذلك وهو نظير من
اغتصب عبدا مديونا ثم رده على المولى فبيع في
الدين لم يرجع على الغاصب ولو غصبه فارغا
فلحقه دين عند الغاصب بأن أفسد متاعا ثم رده
فبيع في الدين رجع المولى على الغاصب بقيمته.
يوضحه: أن استحقاق المالية
بالدين كان بسبب باشره المولى بعد تعلق حق
أولياء الجناية به وهو الإذن له في التجارة
فصار كأنه أتلف عليهم ذلك ولا يقال حق أولياء
الجناية في نفس العقد لا في ماليته فكيف يغرم
المولى لهم باعتبار اكتساب سبب استحقاق
المالية وهذا لأن استحقاق نفس العبد بالجناية
لا يكون إلا باعتبار ماليته.
ج / 26 ص -21-
ألا
ترى أن الجاني الذي ليس بمال لا يستحق نفسه
باعتبار المالية وكذلك إذا كان مدبرا أو أم
ولد وإنما يستحق نفس القن الذي هو محتمل
للتمليك باعتبار المالية وكذلك إن كان المولى
أذن له في التجارة فلم يلحقه دين حتى جنى
جناية ثم لحقه الدين لأن استدامة الإذن بعد
الجناية من المولى بمنزلة إنشائه وكذلك لو رآه
يشتري ويبيع بعد الجناية فلم ينهه فسكوته عن
النهي بمنزلة التصريح بالإذن له في التجارة.
وكذلك لو كان الدين لحقه قبل الجناية لم يرجع
ولى الجناية على المولى بالقيمة لأنه ما
استحقه بالجناية إلا وهو مشغول بالدين وإن كان
لحقه ألف درهم قبل الجناية على المولى بالقيمة
لأنه ما استحقه بالجناية إلا وهو مشغول بالدين
وإن كان لحقه ألف درهم قبل الجناية وألف درهم
بعد الجناية وقيمته ألف درهم ثم دفع العبد
بالجناية بيع في الدينين جميعا فإن بيع أو
فداه أصحاب الجناية بالدينين فإنهم يرجعون على
المولى بنصف القيمة وهو حصة أصحاب الدين على
الآخر اعتبارا لكل واحد من الدينين بما لو كان
هو وحده وهذا لأن نصف الثمن الذي أخذه صاحب
الدين الآخر إنما أخذه باستدامة الإذن من
المولى بعد الجناية لأنه كان متمكنا من الحجر
عليه ولو حجر عليه لم يلحقه الدين الآخر في
حال رقه فلهذا صار المولى ضامنا لما وصل إلى
صاحب الدين الآخر من مالية العبد.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا ولو
لم يلحقه الدين الآخر لم يسلم لأولياء الجناية
شيء من ماليته أيضا لأن الدين الأول محيط
بماليته فينبغي أن لا يضمن المولى لهم شيئا
قلنا: نعم ولكن ما أخذه أصحاب الدين الآخر لا
يسلم لهم إلا بعد سقوط حق صاحب الدين الأول عن
ذلك وباعتبار سقوط حقه عنه هو سالم لصاحب
الجناية لولا استدامة المولي الإذن له حتى
لحقه الدين الآخر فلهذا ضمن المولى ذلك لصاحب
الجناية.
وإذا قتل العبد المأذون أو المحجور رجلا خطأ
ثم أقر عليه المولى بدين يستغرق رقبته فليس
هذا باختيار منه لأن إقرار المولى عليه لا
يمنعه من الدفع بالجناية فإن هذا الدين لا
يكون أقوى من الدين الذي يلحقه بتصرفه فإن
دفعه بيع في الدين إلا أن يفديه ولي الجناية
لأن الدين ثبت عليه بإقرار المولى فاشتغلت
ماليته بالدين كما لو رهن عبده الجاني ثم يرجع
ولي الجناية على المولى بقيمته لما بينا أنه
أتلف عليه ماليته باكتسابه سبب اشتغاله بحق
المقر له بعد ما ثبت فيه حق ولي الجناية.
ولو كان المولى أقر عليه بقتل رجل خطأ ثم أقر
عليه بقتل رجل خطأ وكذبه في ذلك أولياء
الجناية الأولى فإنه يدفعه بالجنايتين أو
يفديه لأن إقراره عليه بالجناية بمنزلة التصرف
منه فيه وحق ولي الجناية فيه لا يمنع نفوذ
تصرف المولى فما ثبت بإقراره من الجناية
بمنزلة الثابت بالبينة أو بالمعاينة في حقه
فيدفعه بالجنايتين.
فإن دفعه إليهما نصفين رجع أولياء الجناية
الأولى على المولى بنصف قيمته لأنهم كانوا
استحقوا جميع العبد بالجناية حين أقر لهم
المولى بذلك ثم صار المولى متلفا عليهم نصف
ج / 26 ص -22-
الرقبة
بإقراره بالجناية الأخرى وقد تم ذلك الإتلاف
بدفع النصف إلى المقر له فلهذا يغرم له نصف
قيمته ولا يغرم للمقر له الثاني شيئا لأنه ما
ثبت حقه إلا في النصف فإنه حين أقر له
بالجناية كانت الجناية الأولى ثابتة وهي
مزاحمة للأخرى فيمنع ثبوت حق المقر له الثاني
فيما زاد على النصف وقد سلم نصف العبد وإن كان
عليه دين يستغرق رقبته فأقر لمولى عليه بجناية
لم يجز إقراره لأن استغراق رقبته بالدين يمنع
المولى من التصرف فيه والإقرار عليه بالجناية
تصرف فلا يصح إلا أن يفديه من الدين فيزول
المانع به ويصير كالمحدود لإقراره بعد ما سقط
الدين فيؤمر بأن يدفعه بالجناية أو يفديه.
ولو قتل العبد رجلا عمدا وعليه دين فصالح
المولى صاحب الجناية منها على رقبة العبد فإن
صلحه لا ينفذ على صاحب الدين لأنه يملك رقبته
عوضا عما لا يتعلق به حق صاحب الدين ولو ملكه
عوضا عما يتعلق به حقهم لم ينفذ عليهم كالبيع
فهذا أولى ولكن ليس لصاحب الدم أن يقتله بعد
ذلك لأن صلحه كعفوه وأكثر ما فيه أن البدل
مستحق لصاحب الدين ولكن استحقاق البدل في
الصلح من دم العمد لا يمنع سقوط القود ثم يباع
العبد في دينه فإن بقي من ثمنه شيء بعد الدين
كان لأصحاب الجناية لأن حكم البدل حكم المبدل
وهم قد استحقوا نفس العبد بالصلح متى سقط صاحب
الدين عنه.
ألا ترى أنه لو أبرأه عن الدين كان العبد
سالما لأصحاب الجناية فلذلك لم يسلم لهم ما
يفرغ من بدله من حق صاحب الدين فإن لم يبق من
ثمنه شيء فلا شيء لصاحب الجناية على المولى
ولا على العبد في حال رقه ولا بعد العتق لأن
المولى ما التزم لصاحب الجناية شيئا في ذمته
بالصلح وإنما سلم للعبد القصاص بالعقد وهو لا
يضمن بالمال عند الإتلاف فكذلك لا يضمنه العبد
باحتباسه عنده أو سلامته له.
ولو لم يصالح ولكن عفا أحد أولياء الدم فإن
المولى يدفع نصفه إلى الآخر أو يفديه لأن حق
الذي أسقط لم يظهر في حق الذي لم يعف فهذا وما
لو كانت الجناية خطأ في الابتداء سواء فيدفع
المولى إليه نصيبه أو يفديه ثم يباع جميع
العبد في الدين لأن حق الغريم لا يسقط عن
مالية العبد بدفع جميعه بالجناية فكذلك بدفع
نصفه.
ولو أقر العبد أنه قتل رجلا عمدا وعليه دين
كان مصدقا في ذلك صدقه المولى أو كذبه لأن
موجب إقراره استحقاقه دمه ودمه خالص حقه فإن
العبد يبقى فيه على أصل الحرية ثم حق الغريم
في ماليته لا يكون أقوى من ملك مولاه وملك
المولى لا يمنع استحقاق دمه بإقراره على نفسه
بالقود فكذلك حق الغريم.
وإن عفا أحد أولياء الجناية بطلت الجناية كلها
لأن نصيب العافي قد سقط بالعقر ولو بقي نصيب
الذي لم يعف لكان موجبة الدفع بمنزلة جناية
الخطأ وإقرار العبد بالجناية خطأ باطل إذا
كذبه المولى فيه فيباع في الدين إلا أن يفديه
المولى بجميع الدين فإن فداه وقد صدق العبد
بالجناية قيل له ادفع النصف إلى الذي لم يعف
وإن كان كذبه في ذلك كله
ج / 26 ص -23-
فالعبد
كله للمولى إذا فداه بالدين لأن حق الذي لم
يعف غير ثابت في حق المولى إذا كذب العبد فيه.
وإذا وجد المأذون في دار مولاه قتيلا ولا دين
عليه فدمه هدر وإن كان عليه دين كان على
المولى في ماله حالا الأقل من قيمته ومن دينه
بمنزلة ما لو قتل المولى القتيل بيده.
ألا ترى أنه لو وجد عند الغير قتيلا في داره
جعل كأنه قتله بيده فكذلك إذا وجد عنده قتيلا
فيه.
ولو قتله بيده عمدا أو خطأ كان عليه الأقل من
قيمته ومن الدين في ماله حالا لأن وجوب الضمان
عليه باعتبار حق الغريم في المالية ولو وجد
عبدا من عبيد المأذون قتيلا في دار المولى ولا
دين على المأذون فدمه هدر لأنه مملوك للمولى
بمنزلة رقبة المأذون ولأنه كالقاتل له بيده
وإن كان على المأذون دين محيط بقيمته وكسبه
فعلى المولى قيمته في ماله في ثلاث سنين في
قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما عليه
قيمته حالا وإن كان الدين لا يحيط بجميع ذلك
كانت القيمة حالة في قولهم جميعا بمنزلة ما لو
قتله المولى بيده وهذا بناء على ما تقدم أن
الدين إذا لم يكن محيطا فالمولى مالك لكسبه
كما هو مالك لرقبته فيكون الضمان عليه لحق
الغريم في ماليته.
وإن كان الدين محيطا فكذلك عندهما وعند أبي
حنيفة هو لا يملك كسبه في هذه الحالة فقتله
إياه بمنزلة قتله عند الأجنبي فتكون القيمة
مؤجلة في ثلاث سنين لأن وجوبها باعتبار القتل
ولكنها عليه في ماله لأنه من وجه كالمالك على
معنى أنه يتمكن من استخلاصه لنفسه بقضاء الدين
من موضع آخر فلا تعقله العاقلة لذلك وإن قتل
المولى مكاتبه أو عبد مكاتبه عمدا أو خطأ أو
وجد المكاتب قتيلا في دار مولاه يجب على
المولى قيمة القتيل في ماله في ثلاث سنين لأن
وجوب القيمة ها هنا باعتبار القتل فإن كسب
المكاتب غير مملوك للمولى رقبته من وجه
كالزائلة عن ملك المولى على ما عرف أن المكاتب
صار بمنزلة الحر يدا فتجب على المولى القيمة
بنفس القتل فتكون مؤجلة ولكنها تجب في ماله
لأن رقبته مملوكة له من وجه أن له في كسبه حق
الملك على معنى أنه يملكه حقيقة عند عجز
المكاتب فلا تعقله العاقلة كذلك وهذا إذا كان
في القيمة وفي تركته وفاء لمكاتبة لأنه حينئذ
يبقى عقد الكتابة ويؤدى البدل من كسبه وبدل
نفسه فيحكم بحريته فإن لم يكن وفاء فيهما فلا
شيء على المولى في قتل مكاتبه لأن الكتابة
انفسخت بموته عاجزا فتبين أنه قتل عبده ولا
دين عليه.
ولو وجد المولى قتيلا في دار العبد المأذون
كانت دية المولى على عاقلته في ثلاث سنين
لورثته في قياس قول أبي حنيفة وفي قولهما دمه
هدر لأن هذه الدار في حكم القتيل الموجود فيها
بمنزلة دار أخرى للمولى حتى لو وجد فيها أجنبي
قتيلا كانت ديته على عاقلة المولى فإذا وجد
المولى قتيلا فيها فهذا رجل وجد قتيلا في دار
نفسه وهذا الخلاف معروف فيما إذا وجد قتيلا في
دار نفسه وسنبينه في كتاب الديات.
ج / 26 ص -24-
ولو
وجد العبد قتيلا في دار نفسه ولا دين عليه
فدمه هدر لأن داره مملوكة للمولى فكأنه وجد
قتيلا في دار المولى وإن كان عليه دين فعلى
المولى الأقل من قيمته ومن ديته حالا في ماله
بمنزلة ما لو وجد قتيلا في دار أخرى للمولى
لأن دار العبد في حكم القتيل الموجود فيها
بمنزلة دار المولى فكذلك إذا وجد العبد فيها
قتيلا وذكر في المأذون الصغير أن هذا استحسان
سواء كان عليه دين أو لم يكن.
ولو وجد الغريم الذي له الدين قتيلا في دار
العبد المأذون كانت ديته على عاقلة مولاه في
ثلاث سنين لأنه في ملك داره كغيره من الأجانب
وإنما حقه في دين ذمته متعلق بمالية كسبه
وبذلك لا يختلف حكم جنايته عليه ثم لا يبطل
دينه على العبد بمنزلة ما لو وجد قتيلا في دار
أخرى للمولى وكذلك لو كان القتيل عبدا للغريم
كانت قيمته على عاقلة المولى في ثلاث سنين
عبده في ذلك كعبد غيره.
وإذا أذن المكاتب لعبده في التجارة فوجد في
دار المأذون قتيل وعليه دين أو لا دين عليه
فعلى المكاتب قيمة رقبته لأولياء القتيل في
ماله حالة بمنزلة ما لو وجد قتيلا في دار أخرى
من كسب المكاتب لأن المكاتب في كسبه بمنزلة
الحر في ملكه فيصير كالجاني بيده وجناية
المكاتب توجب الأقل من قيمته ومن أرش الجناية
فهذا مثله.
ولو كان الذي وجد قتيلا في دار العبد هو
المكاتب كان دمه هدرا كما لو وجد قتيلا في دار
أخرى له وهذا لأنه يصير كالجاني على نفسه وأبو
حنيفة رحمه الله يفرق بين المكاتب والحر في
ذلك لأن موجب جناية الحر على العاقلة وموجب
جناية المكاتب على نفسه فلا يستقيم أن يجب له
على نفسه وسنقرر هذا الفرق في كتاب الديات إن
شاء الله تعالى.
ولو كان المأذون هو الذي وجد قتيلا في داره
كان على المكاتب الأقل من قيمته ومن قيمة
المأذون في ماله حالا لغير المأذون لأن هذه
الدار في حكم القتيل الموجود فيها كدار أخرى
للمكاتب ولو وجد العبد قتيلا في دار أخرى
للمكاتب كان المكاتب كالجاني عليه بيده فيلزمه
أقل القيمتين في ماله حالا لغرمائه فكذلك إذا
وجد في هذه الدار قتيلا والله أعلم بالصواب.
باب ما يجوز للمأذون أن يفعله وما لا يجوز
قال رحمه الله: وليس للمأذون
أن يكاتب عبده لأنه منفك الحجر عنه في التجارة
والكتابة ليست بتجارة ولكنها عقد إرقاق يقصد
بها الإعتاق والمأذون فيما ليس بتجارة
كالمحجور كالتزويج ثم الفك بالكتابة فوق الفك
الثابت بالإذن ولا يستفاد بالشيء ما هو فوقه
في محل فيه حق الغير فإنه كاتبه وأجاز مولاه
الكتابة جاز إذا لم يكن عليه دين لأن هذا عقد
له منجز حال وقوعه فيتوقف على الإجازة فتكون
الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء
وبيانه أن كسب المأذون خالص ملك المولى يملك
فيه مباشرة الكتابة فيملك فيه الإجازة ثم لا
سبيل للعبد على قبض البدل بل كل ذلك إلى
المولى لأن العبد نائب عنه كالوكيل والكتابة
من العقود التي يكون العاقد فيها معتبرا فيكون
قبض البدل إلى من نفذ العقد من جهته.
ج / 26 ص -25-
وإن
دفعها المكاتب إلى العبد لم يبرأ إلا أن يوكله
المولى بقبضها لأن العبد في حكم قبض بدل
الكتابة كأجنبي آخر وكذلك إن لحقه دين بعد
إجازة المولى الكتابة لأن بإجازته صار المملوك
مكاتبا له وخرج من أن يكون كسبا لعبده فالدين
الذي يلحق العبد فيه ذلك لا يتعلق برقبته ولا
بكسبه كما لو أخذه المولى من يده وكاتبه أو لم
يكاتبه.
ولو كان عليه دين كثير أو قليل فمكاتبته باطلة
وإن أجازه المولى لأن المولى بالإجازة يخرج
المكاتب من أن يكون كسبا للعبد وقيام الدين
عليه يمنع المولى من ذلك قل الدين أو كثر كما
لو أخذه من يده وعليه دين فإن لم يرد الكتابة
حتى أداها فإن كان المولى لم يجزها لم يعتق
ورد رقيقا للمأذون فبيع في دينه وصرف ما أخذه
منه من المكاتبة في دينه لأن الكتابة بدون
إجازة المولى لغو وهو موقوف على إجازته فأداء
بدل الكتابة في حال توقف العتق لا يوجب العتق
له والعبد حين قبض البدل منه يصير كالمعتق له
وإعتاقه لغو والمقبوض من إكسابه يصرف إلى دين
المأذون مع رقبته بطريق البيع فيه.
وإن كان المولى أجاز المكاتبة وأمر العبد
بقبضها وعلى العبد دين يحيط برقبته وبما في
يده فأدى المكاتب المكاتبة فهذا والأول سواء
في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لأن المولى
لا يملك كسبه حتى لا ينفذ منه مباشرة الكتابة
والإعتاق فيه فلا يعمل إجازته أيضا ولا يعتق
بقبض البدل منه كما لو أعتقه قصدا وفي قولهما
هو حر لأن المولي يملك كسبه.
وإن كان دينه محيطا حتى لو أعتقه ينفذ عتقه
فكذلك إذا أجاز مكاتبته وقبض البدل هو أو
العبد بأمره يجعل كالمعتق له فيكون حرا
والمولى ضامن لقيمته للغرماء لأن ماليته كانت
حقا لهم وقد أتلفها المولى عليهم وكذلك
المكاتبة التي قبضها المولى تؤخذ منه فتصرف
إلى الغرماء لأنه أدى المكاتبة من كسبه
والغرماء أحق بكسبه من المولى فلا يسلم ذلك
للمولى ما بقي من دينهم.
ولو كان دين المأذون لا يحيط به وبما له عتق
عندهم جميعا لأن إجازة المولى الكتابة
كمباشرته ولو كاتبه وقبض البدل عتق فإن الدين
إذا لم يكن محيطا لا يمنع ملكه ولا إعتاقه ثم
يضمن قيمته للغرماء ويأخذ الغرماء المكاتبة
التي قبضها المولى أو المأذون من دينهم لأن
حقهم في كسبه ومالية رقبته مقدمة على حق
المولى وقد أتلف المولى مالية رقبته بالإعتاق
وليس للمأذون أن يكفل بنفس ولا مال لأن
الكفالة من عقود التبرعات باعتبار أصل الوضع
والتبرع ضد التجارة وانفكاك الحجر عنه في
التجارة خاصة وهذا بخلاف التوكيل في الحجر
بالشراء لأنه ليس بتبرع باعتبار أصل الوضع بل
هو من عمل التجارة.
ألا ترى: أن التجار لا
يتحرزون عن ذلك ويتحرزون عن الكفالة غاية
التحرز وكذلك لا يهب ولا يتصدق بالدرهم والثوب
وما أشبه ذلك ولا يعوض ما وهب له بغير شرط لأن
هذا كله تبرع باعتبار أصل الوضع ولا يقرض لأنه
تبرع قال عليه السلام:
"قرض مرتين صدقة مرة" فإن أجاز المولى هذه التبرعات منه فإن لم يكن عليه دين فلا بأس به
وإن كان عليه دين لم
ج / 26 ص -26-
يجز
شيء من ذلك لأن كسبه إذا لم يكن عليه دين
فمالية رقبته ومنافعه كلها لمولاه فإجازته
كمباشرته وإن كان عليه دين فحق الغرماء في ذلك
مقدم على حق المولى فلهذا لا يجوز شيء من ذلك
وإذا أهدى العبد المأذون هدية أو دعا رجلا إلى
منزله فغذاه أو أعاره دابة يركبها أو ثوبا
يلبسه فلا بأس به ولا ضمان فيه على الرجل إن
هلك شيء من ذلك عنده كان على العبد دين أو لم
يكن وفي القياس هذا كله باطل لأنه تبرع والعبد
ليس من أهله ولكنه استحسن فقال وهذا مما يصنعه
التجار ولا يجدون منه بدا في التجارة فإنهم
يحتاجون إلى استجلاب قلوب المهاجرين إلى
أنفسهم وإعارة موضع الجلوس والوسادة ممن
يأتيهم ليعاملهم فلو لم نجوز ذلك من المأذون
لأدى إلى الحرج والحرج مدفوع وأيد هذا
الاستحسان ما روينا أن النبي عليه السلام:
"كان يجيب دعوة المملوك" وأن سلمان رضي الله عنه أهدى إلى النبي عليه السلام وهو مملوك
فقبله وأكل أصحابه رضي الله عنهم وأتاه بصدقة
فأمر أصحابه بأكلها ولم يأكل منها.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن العبد يتصدق
بشيء فقال بالرغيف ونحوه وبه نأخذ فنقول يتصدق
المأذون بالطعام ولا يتصدق بالدراهم والكسوة
ونحو ذلك لأن أمر الطعام مبني على التوسع
ولهذا جاز للمرأة أن تتصدق بمثل ذلك من مال
الزوج بدون استطلاع رأي الزوج فإن الناس لا
يمتنعون من ذلك عادة والمكاتب في جميع ذلك
كالعبد لأن الرق الحاجز له عن التبرعات قائم
فيه إلا أن في حق المكاتب لا يجوز ذلك إلا
بإذن المولى بخلاف المأذون إذا لم يكن عليه
دين لأن كسب المأذون خالص ملك المولى والمولى
ممنوع من كسب المأذون سواء كان عليه دين أو لم
يكن.
ولو أعتق المأذون أمته على مال لم يجز لأن هذا
التصرف ليس بتجارة فإن أجازه المولى جاز إن لم
يكن عليه دين كما لو باشره بنفسه والمال دين
للمولى عليها ولا يجوز قبض المأذون له منها
لأنه في العقد كان معبرا عن المولى فهو في قبض
البدل كأجنبي آخر وإن لحقه دين بعد إجازة
المولى لم يكن للغريم في ذلك المال حق لأنه
كسب حر فلا يتعلق به حق غرماء المأذون.
وإن كان على المأذون دين لا يحيط برقبته وبما
في يده جاز العتق بإجازة المولى أيضا لكونه
مالكا فيها وعليه قيمتها للغرماء لأن حقهم في
ماليتها وقد أتلفها المولى بالإجازة ثم المال
عليها للمولى لا حق لغرماء المأذون في ذلك
بخلاف ما تقدم من الكتابة لأن الأمة ها هنا
تعتق بنفس القبول وما تكتسب بعد ذلك خالص
ملكها فإنما يؤدي بدل الكتابة من كسب اكتسبه
في حال رقه وحق الغرماء فيه مقدم على حق
المولى وإن كان الدين يحيط بالمأذون وبما في
يده فكذلك في قولهما وفي قول أبي حنيفة لا
تعتق لأنه لا حق للمولى في كسب المأذون في هذه
الحالة.
ولو تزوج المأذون امرأة حرة بغير إذن مولاه
ودخل بها يفرق بينهما لأن النكاح ليس
ج / 26 ص -27-
بتجارة
فالمأذون فيه كالمحجور ولكن يلزمه المهر
بالدخول بشبهة العقد إلا أنه لا يؤاخذ بالمهر
حتى يعتق لأن هذا دين لزمه بسبب عقد هو غير
مأذون فيه من جهة المولى فيؤخر إلى ما بعد
العتق كدين الكفالة وقد بينا في النكاح أن
المأذون لا يزوج عبده وأن في تزويجه أمته
خلافا وللمأذون أن يدفع المال مضاربة بالنصف
لأن له أن يستأجر أجيرا يعمل في ماله بأجر
مضمون في ذمته والاستئجار للعمل ببعض الربح
يكون أنفع له وهو من صنيع التجار وكذلك يأخذ
مالا مضاربة بالنصف لأنه يشترى بثمن في ذمته
ولا يرجع به على غيره ليستفيد الربح فلان يملك
الشراء على وجه يرجع فيه بالعهدة على غيره
ويحصل الربح لنفسه كان أولى.
وإذا اشترك العبد أن المأذون لهما في التجارة
شركة عنان على أن يشتريا بالنقد والنسيئة
بينهما لم يجز من ذلك النسيئة وجاز النقد لأن
في النسيئة معنى الكفالة عن صاحبه والمأذون لا
يملك الكفالة فهو بمنزلة ما لو اشتركا شركة
مفاوضة فإن الشركة بينهما تكون عنانا لا
مفاوضة لما فيها من معنى الكفالة فإن أذن لهما
الموليان في الشركة على الشراء بالنقد
والنسيئة ولا دين عليهما فهو جائز كما لو أذن
لكل واحد منهما مولاه بالكفالة أو التوكل
بالشراء بالنسيئة.
وإذا اشترى المأذون وعليه دين أو لا دين عليه
ثوبا بعشرة وباعه من مولاه بخمسة عشر لم يبعه
المولى مرابحة إلا على عشرة لتمكن تهمة
المسامحة في المعاملة بينه وبين المولى ولو
كان المولى اشتراه بعشرة ثم باعه من العبد
بخمسة عشر أو باعه من أمة لعبد مأذون لها في
التجارة فتهمة المسامحة بينهما متمكنة وكذلك
لو كان المأذون اشتراه ثم باعه من مكاتب
للمولى أو عبد آخر له أو من عبد لمكاتب المولى
أو من مضارب للمولى أو من مضارب المكاتب لم
يبعه مرابحة إلا على أقل الثمنين.
ولو باعه من بن المولى أو أبيه أو امرأته
فكذلك في قول أبي حنيفة لتمكن التهمة بينه
وبين من لا تجوز شهادته له وفي قولهما يبيعه
مرابحة على خمسة عشر لأنه ليس للمولى في مال
هؤلاء ملك ولا حق ملك وقد بينا هذا في البيوع
والله أعلم.
باب الغرور في العبد المأذون له
قال رحمه
الله: وإذا جاء الرجل بالعبد إلى السوق فقال هذا عبدي فبايعوه فقد أذنت
له في التجارة فبايعوه وبايعه أيضا من لم يحضر
هذا القول ولم يعلم فلحقه دين ثم علم أنه كان
حرا أو استحقه رجل فعلى الذي أمرهم بمبايعته
إلاقل من قيمته ومن الدين للذين أمرهم
بمبايعته ولسائرهم لأنه بما صنع صار غارا لهم
فإن أمره إياهم بالمبايعة معه يكون تنصيصا على
أنه يصرف ماليته إلى ديونهم إذا لحقه دين
ويصير الآمر بمنزلة الكفيل لهم بذلك.
ألا ترى: أن العبد لو كان
مملوكا له كما قاله كان حقهم ثابتا في ماليته
وكان المولى كالكفيل لهم عن عبده بقدر مالية
الرقبة فإذا تحقق معنى الغرور ثبت لهم حق
الرجوع عليه بما وجد فيه الغرور أو الكفالة
وهو الأقل من قيمته ومن ديونه.
ومن خاطبه بكلامه ولم يحضر مقالته ولم يعلم به
في ذلك سواء لأن هذا حكم ينبني
ج / 26 ص -28-
على
ثبوت الإذن والإذن إذا كان عاما منتشرا يكون
ثابتا في حق من علم به وفي حق من لا يعلم
فكذلك الإذن وما ينبني عليه من الغرور
والكفالة ويستوي إن كان قال فقد أذنت له في
التجارة أو لم يقل لأنه لما قال هذا عبدي
فبايعوه فالغرور والكفالة تثبت بإضافته إلى
نفسه وأمره إياهم بمبايعته فمن ضرورة ذلك
الإذن له في التجارة ولا يضمن لهم شيئا من
مكسوبه لأن الكسب لم يكن موجودا عند مقالة
المولى ولا يدري أيحصل أم لا يحصل فلا يثبت
فيه حكم الكفالة والغرور وإن شاؤوا رجعوا
بدينهم على الذي ولي مبايعتهم إن كان حرا لأنه
باشر سبب التزام الدين وهو من أهله وإن كان
عبدا لم يرجعوا عليه بشيء حتى يعتق لأن مولاه
لم يرض بتصرفه وتعلق الدين بماليته.
وإن اختاروا ضمان المولى ثم توى ما عليه
اتبعوا العبد بجميع دينهم إذا عتق لأن التزامه
في ذمته صحيح والمولى كان كفيلا عنه بقدر
مالية الرقبة فإذا لم يصل إليهم من جهة الكفيل
كان لهم أن يرجعوا على الأصيل بجميع دينهم إذا
عتق ولو لم يكن هذا ولكن العبد أقام البينة أن
مولاه الذي أذن له كان دبره قبل أن يأذن أو
كاتب أمه فإن قامت البينة أنها أم ولد له فهذا
بمنزلة المستحق لأنه تعذر عليهم استيفاء
ديونهم من مالية الرقبة لثبوت حق عتقه لهم عند
مقالة المولى فنزل ذلك منزلة حق المستحق أو
حقيقة الحرية إذا قامت البينة على حريتهم.
وإذا اختاروا أن يضمنوا المولى قيمة المدبر
وأم الولد فلا سبيل لهم عليهما فيما بقي من
دينهم حتى يعتقا لأن كسبهما ملك المولى وقد
غرم المولى لهم مالية الرقبة فلا يبقى لهم
سبيل على كسب هو مملوك له ولو جاء به إلى
السوق فقال عبدي هذا وقد أذنت له في التجارة
ولم يقل بايعوه والمسألة بحالها لم يكن هذا
غرورا ولم يلزم هذا الآذن ضمان شيء لأنه
أخبرهم بخبر وما أمرهم بمباشرة عقد الضمان معه
وحكم الغرور والكفالة لا يثبت بمجر الخبر.
ألا ترى: أنه لو أخبر إنسانا
بحرية امرأة فتزوجها فاستولدها ثم استحقت لم
يرجع المغرور على المخبر بشيء ولو زوجها منه
على أنها حرة ثم استحقت رجع على المزوج بما
غرم من قيمة أولادها فالأمر بالمبايعة ها هنا
في حكم الغرور نظير التزويج هناك والإخبار
بالملك والإذن ها هنا نظير الإخبار بالحرية
هناك.
وإن قال: هذا عبدي فبايعوه في
البز فإن قال قد أذنت له في التجارة فبايعوه
في غير البز والمسألة بحالها كان الآمر ضامنا
للغرماء الأقل من دينهم ومن قيمة العبد لأن
التقييد بالبز في الأمر بالمبايعة لغو على ما
بينا أن فك الحجر لا يقبل التخصيص بنوع من
التجارة فكان هذا والأمر بالمبايعة مطلقا سواء
بخلاف ما إذا قال لحر ما بايعت به من البز
فلانا فهو علي فبايعه غيره في البز لا يجب على
الكفيل منه شيء لأن الكفالة تقبل التخصيص وفك
الحجر الثابت بالأمر بالمبايعة مع العبد لا
يقبل التخصيص فلهذا كان ضامنا.
أرأيت: لو بايعوه في البز
فاستقرض ثمن البز من رجل فقضى به الذين بايعوه
أما كان للمقرض أن يرجع بدينه على الذي أمره
بالمبايعة وهو مغرور في ذلك بمنزلة الذين
بايعوه في البز؟
ج / 26 ص -29-
أرأيت: لو اشترى بزا على أن يضمن الثمن عنه رجل فأدى الكفيل الذين بايعوه
في البز أما كان للكفيل أن يرجع عليه بذلك
وإذا أذن لعبده في التجارة ولم يأمر بمبايعته
ثم أن المولى أمر رجلا بعينه أو قوما بأعيانهم
بمبايعته فبايعوه مرة أخرى وقد علموا بأمر
المولى فلحقه دين ثم استحق أو وجد حرا أو
مدبرا فللذين أمرهم المولى عليه بمبايعته
الأقل من حصتهم من قيمة العبد ومن دينهم وأما
الآخرون فلا شيء لهم على المولى من ذلك لأن
الغرور ثبت باعتبار الأمر بالمبايعة دون الإذن
في التجارة والأمر بالمبايعة كان لخاص فلا
يتعدى حكمه إلى غيره بخلاف الأول فالأمر
بالمبايعة هناك عام منتشر وهذا نظير الحجر بعد
الإذن العام فإنه إذا نهى واحدا أو اثنين عن
مبايعته لا يثبت حكم ذلك النهي في حق سائر
الناس.
وإذا كان النهى عاما منتشرا يثبت حكمه في حق
كل من علم به وفي حق كل من لم يعلم به إذا ثبت
هذا فنقول إنما يغرم الذين أمرهم بمبايعته
مقدار ما كان يسلم لهم لو كان ما أخبر به حقا
وذلك الأقل من حصتهم من القيمة ومن ديونهم
فإنما يتحقق الغرور في حقهم في ذلك القدر ولو
كان أمر قوما بأعيانهم بمبايعته في البز
فبايعوه في غيره وفيه فهو سواء والضمان واجب
لهم على الغار لأن التقييد في حقهم في البز
لغو فإن الأمر بالمبايعة في حقهم بمنزلة الأمر
العام في حق الجماعة وقد بينا أن هناك لا
يعتبر التقييد بالبز فهذا مثله. وإن أتى به
إلى السوق فقال بايعوه ولم يقل هو عبدي فلحقه
دين ثم استحق أو وجد حرا أو مدبرا لم يكن على
الآمر شيء لأن هذه مشورة أشاره بها عليهم فلا
يثبت بها الغرور وهذا لأنه لم يضفه إلى نفسه
بالملك والغرور والكفالة تنبنى على ذلك فإنه
بالأمر بالمبايعة إنما يصير ضامنا لهم مالية
مملوكة لهم وإنما يكون مطمعا لهم في سلامة
مالية مملوكة له وذلك لا يتحقق إلا بإضافته
إلى نفسه بالملكية.
ولو كان أتى به إلى السوق وقال هذا عبدي
فبايعوه ثم دبره ثم لحقه دين لم يضمن المولى
شيئا لأنه لم يغرهم في شيء فإنه كان عبدا له
قنا كما أخبرهم به وبمجرد الإذن لا يتعلق حق
أحد بمالية رقبته ما لم يجب عليه دين فيكون هو
بالتدبير متصرفا في خالص ملكه لا حق لغيره فيه
فلا يضمن شيئا ولكن الغلام يسعى في الدين
وكذلك لو كان أعتقه بعد الإذن ثم لحقه الدين
لأن إعتاقه لاقى خالص ملكه ولا حق لأحد فيه.
ولو باعه بعد الإذن ثم بايعوه فلحقه دين لم
يكن على الآمر منه شيء لأنه لم يغرهم في شيء
ولكن ما أخبر به كان حقا فلا يضمن لأجل الغرور
ولا يضمن للتصرف لأنه حين تصرف لم يكن حقهم
متعلقا بماليته ولو جاء به إلى السوق فقال هذا
عبدي فبايعوه وقد أذنت له في التجارة فبايعوه
ثم استحق أو وجد حرا والذي أمرهم بمبايعته عبد
مأذون أو مكاتب أو صبي مأذون له في التجارة
فلا ضمان على الآمر في ذلك علم الذين بايعوه
بحال الآمر أو لم يعلموا لأن ضمان الغرور
بمنزلة ضمان الكفالة وهو في هذا الموضع أمين
فالآمر يصير كالكفيل للغرماء عنه بقدر مالية
الرقبة وكفالة الصبي المأذون له في التجارة لا
ج / 26 ص -30-
يلزمه
شيء بحال علم المكفول له بحاله أو لم يعلم
وكفالة العبد والمكاتب لا تلزمهما شيئا حتى
يعتقا فإذا عتقا رجع عليهما غرماء العبد
بالأقل من دينهم ومن قيمة الذي بايعهم لأن
التزامهما بالكفالة صحيح في حقهما.
قال: ألا ترى أن الذي اشترى
المغرور منه لو كان فيه ربح لم يكن للآمر من
ذلك قليل ولا كثير وهذا إشارة إلى أنه بمنزلة
الكفالة في حقه لا بمنزلة الوكالة بالشراء فإن
كان الآمر مكاتبا جاء بأمته إلى السوق فقال
هذه أمتي فبايعوها فقد أذنت لها في التجارة
فلحقها دين ثم علم أنها قد ولدت في مكاتبته
قبل أن يأذن لها فللغرماء أن يضمنوا المكاتب
إلا قل من قيمتها أمة ومن دينهم لأنه صار غارا
لهم بما أخبرهم به فصار ضامنا لهم عنها بمقدار
مالية رقبتها وضمان المكاتب عن أم ولده مالا
يكون صحيحا لأن كسبها للمكاتب فيجوز ضمانه
عنها بخلاف ما إذا استحقت أو وجدت حرة لأن
المكاتب لا يكون مالكا لكسبها ولا يجوز ضمانه
عنها وقد بينا أن ضمان الغرور بمنزلة ضمان
الكفالة.
وإذا أتى الرجل بالعبد إلى السوق فقال هذا
عبدي فبايعوه فقد أذنت له في التجارة فبايعوه
فلحقه دين ثم استحقه رجل وقد كان المستحق أذن
له في التجارة قبل أن يأتي به الآخر إلى السوق
فإنه يباع في الدين ولا ضمان على الذي أمرهم
بمبايعته لأن بما ظهر من الاستحقاق لم يمتنع
سلامة شيء مما ضمن سلامته لهم فإنه إنما ضمن
لهم سلامة مالية لرقبة وذلك سالم لهم سواء كان
مأذونا له في التجارة من جهة المستحق أو من
جهة الآمر.
ولو كان مدبرا للمستحق مأذونا له في التجارة
ضمن له الغار وإلا قل من قيمته غير مدبر ومن
دينهم لأنه لم يسلم لهم ما ضمن الآمر سلامته
لهم وهو مالية الرقبة.
ألا ترى: أنه لو ظهر أنه كان
مدبرا للآمر يضمن لهم الأقل من قيمته غير مدبر
ومن دينهم فإذا ظهر أنه كان مدبرا لغيره أولي
ولو كان عبدا محجورا عليه لغيره فأتى به هذا
إلى السوق وقال هذا عبدي فبايعوه ثم أذن له
مولاه في التجارة فلحقه دين بعد ذلك لم يكن
على الغار ضمان لأن مالية الرقبة سلمت لهم
بالإذن الصادر من المالك بعد الأمر بالمبايعة
كما سلم لهم بالإذن الموجود منه وقت الأمر
بالمبايعة.
ولو كان لحقه دين ألف درهم قبل إذن مولاه في
التجارة وألف درهم بعد إذنه فإن على الغار
إلاقل من الدين الأول ومن نصف قيمة العبد لأن
صاحب الدين الأول لا يسلم له شيء من مالية
الرقبة بالإذن الصادر من المولى بعد وجوب دينه
ولو كان ما أخبر به الغار حقا كان سلم له نصف
مالية الرقبة فلهذا كان على الغار له الأقل من
دينه ومن نصف قيمة العبد فإذا أتى الرجل بعبد
إلى السوق فقال هذا عبد فلان قد وكلني بأن آذن
له في التجارة وأن آمركم بمبايعته وقد أذنت له
في التجارة فبايعوه فاشترى وباع فلحقه دين ثم
حضر مولاه وأنكر التوكيل فالوكيل ضامن الأقل
من الدين ومن القيمة لأن الغرور تحقق منه بما
أخبرهم به فإن في معنى الغرور عبده وعبد غيره
سواء لأن ما أخبرهم به لو كان حقا كان يسلم
لهم مالية الرقبة
ج / 26 ص -31-
فيصير
هو بالإخبار ضامنا لهم سلامة مالية الرقبة ولم
يسلم حين أنكر المولى التوكيل وحلف وكان لهم
أن يضمنوا المخبر قيمته.
ألا ترى أن مشتري الأرض إذا بنى فيها ثم
استحقت رجع على البائع بقيمة البناء للغرور
سواء باعه لنفسه أو لغيره بوكالته إذا أنكر
المالك التوكيل ولو وجد العبد حرا أو استحقه
رجل أو كان مدبرا لمولاه فالوكيل ضامن أيضا
لأنه ضمن لهم سلامة ماليته ولم تسلم ويرجع به
على الموكل إن كان أقر بالتوكيل الذي ادعاه
لأنه كان عاملا للموكل فيما باشره فيرجع عليه
بما لحقه من العهدة وإن أنكر التوكيل لم يرجع
عليه بشيء إلا أن يثبتها بالبينة.
وإن قال: هذا عبد ابني وهو
صغير في عيالي فبايعوه فلحقه دين ثم استحق أو
وجد حرا ضمن الأب الأقل من قيمة العبد ومن
الدين لأنه بما أخبرهم به صار ضامنا لهم سلامة
ماليته.
ألا ترى أن ما أخبر به لو كان حقا كان يسلم
لهم مالية الرقبة باعتبار كلامه وكذلك وصى
الأب والجد فأما الأم والأخ وما أشبههما فإن
فعلوا شيئا من ذلك لم يكن غرورا ولم يلحقه
ضمان لأن ما أخبر به لو كان حقا لم تسلم لهم
مالية الرقبة باعتبار كلامه فإن هؤلاء لا
يملكون الإذن لعبد اليتيم فكذلك هو بالإخبار
لا يصير ضامنا لهم شيئا وإذا أتى الرجل بصبي
إلى السوق فقال هذا بن ابني فبايعوه فلحقه دين
ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الدين يبطل
عن الصبي أبدا لأنه تبين أنه كان صبيا محجورا
عليه فلا يلزمه دين بالمبايعة أبدا وترجع
الغرماء على الذي غرهم بجميع الدين لأن ما
أخبرهم به لو كان حقا كان لهم حق مطالبة الصبي
بجميع دينهم في الحال أو بعد البلوغ وكان على
الصبي أن يقضي ذلك من ملكه فيصير الآمر
بمبايعته ضامنا لهم سلامة ديونهم وإن أخبرهم
بحريته فإذا لم يسلموا رجعوا عليه بذلك كما لو
زوج رجلا امرأة على أنها حرة وكذلك وصي الأب
والجد أب الأب وهذا إذا لم يكن أب ولا وصي أب.
ولو أتى بعبده إلى السوق فقال هذا عبدي وهو
مدبر فبايعوه فلحقه دين ثم أقام رجل البينة
أنه مدبر له بطل عن المدبر الدين حتى يعتق
لأنه ظهر أنه كان محجورا عليه ولا ضمان على
الغار من قيمة رقبته ولا من كسبه لأنه ما ضمن
لهم سلامة مالية الرقبة حين أخبرهم أنه مدبر
والغرور لا يتحقق في الكسب لأنه لم يكن موجودا
حين أخبرهم به ولم يدر أيحصل أو لا يحصل؟.
ولو قتل المدبر في يد الذي استحقه ضمن الغار
قيمته مدبرا للغرماء لأنه بإضافته إلى نفسه
بالملكية ضمن لهم سلامة بدل نفسه مدبرا إذا
قتل.
ألا ترى أن ما أخبرهم به لو كان حقا كان يسلم
لهم ذلك وحكم البدل حكم الأصل فوجود الأصل عند
الآمر بالمبايعة كوجود البدل فلهذا يثبت حكم
الغرور فيه بخلاف الكسب.
ولو أتى بجارية إلى السوق فقال هذه أمتي
فبايعوها فلحقها دين يحيط برقبتها ثم ولدت
ج / 26 ص -32-
ولدا
فاستحقها رجل وأخذها وولدها ضمن الغار قيمتها
وقيمة ولدها لأن الولد جزء متولد من عينها وهو
يسلم للغرماء لو كان ما أخبر به حقا كنفسها
وهذا بخلاف الكسب فإن الكسب غير متولد من
عينها فلا يجعل وجودها كوجود الكسب عند الآمر
بالمبايعة كوجود ما يتولد منها في ثبوت حكم
الغرور في ذلك فأما الولد فمتولد من عينها
فوجودها عند الآمر بالمبايعة كوجود ما يتولد
منها في ثبوت حكم الغرور في ذلك.
ألا ترى أنها لو كانت مدبرة كان ولدها كنفسها
لأنه لا يتعلق حق الغرماء بماليته بخلاف كسبها
فإن كانت قيمتها يوم استحقت أكثر من قيمتها
يوم أمرهم بمبايعتها أو أقل ضمن قيمتها يوم
استحقت لأنه إنما امتنع سلامة المالية لهم حين
استحقت وقد صار الغار بالأمر بالمبايعة ضامنا
لهم سلامة ذلك.
ولو أقام الغار البينة على أنه قد أذن لها في
التجارة قبل أن يغرهم أو بعد ما غرهم قبل أن
يلحقه دين بريء من الضمان لأن الثابت بالبينة
كالثابت بإقرار الخصم.
ألا ترى أن مالية الرقبة تسلم للغرماء في
الوجهين فكذلك الضمان ينفي عن الغار في
الوجهين والله أعلم.
باب الشهادة على المأذون
قال رحمه الله: وشهادة الشهود
على العبد والصبي والمعتوه المأذون بغصب أو
ببضاعة مستهلكة أو بإقراره بذلك أو ببيع أو
شراء جائز وإن كان مولاه غائبا ويقضي القاضي
عليه بذلك لأنه بالإذن صار منفك الحجر عنه في
التجارة وتوابعها فالتحق في ذلك بالحر العاقل
البالغ فيكون الخصم فيما يدعي أو يدعى قبله هو
ولا حاجة إلى حضور مولاه إلى القضاء بذلك
استدلالا بالمكاتب.
ولو شهدوا على العبد المحجور عليه بغصب أو
وديعة مستهلكة والمولى غائب لم يقض على العبد
بذلك حتى يحضر المولى لأن المستحق به مالية
رقبته والمولى هو الخصم في استحقاق مالية
الرقبة عليه فلا يقضى ما لم يكن حاضرا في
الأول.
وإن كان المستحق مالية رقبته أيضا ولكن المولى
بالإذن قد صار راضيا بكونه خصما في استحقاق
مالية رقبته بجهة التجارة.
ألا ترى: أنه مستحق بإقراره
وبمباشرته التجارة وإن كان المولى غائبا فكذلك
يستحق بينة تقوم عليه بالدين بخلاف ما نحن فيه
وكما يشترط حضرة المولى ها هنا يشترط حضرة
العبد لأن المدعي قبله والمستحق به دين في
ذمته وكان يتعلق بمالية رقبته فلا بد من حضوره
فإذا حضر قضى على العبد بالقيمة فيباع فيه لأن
الحجر لا يؤثر في الأفعال الموجبة للضمان وأما
الوديعة وما أشبهها فلا يقضى عليه بها حتى
يعتق وهذا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
ج / 26 ص -33-
الله
وقال أبو يوسف يقضى عليه بما استهلك من
الأمانات في الحال فإن كانوا شهدوا عليه
بإقراره بذلك ومولاه حاضر أو غائب لم يقض على
العبد بشيء من ذلك حتى يعتق فإذا عتق لزمه ما
شهدوا به عليه لأنه محجور عن التزام الدين
بالقول لحق مولاه والإقرار الثابت عليه
بالبينة كالثابت بالمعاينة فلا نلزمه شيئا ما
لم يسقط حق المولى عنه بقبضه.
ولو شهدوا عليه بقتل رجل عمدا أو قذف أو شرب
خمر لم يقم عليه حد حتى يحضر مولاه في قول أبي
حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يقضى عليه بذلك وإن
لم يحضر مولاه وكذلك لو شهدوا عليه بإقراره
بذلك ومولاه غائب ففيما يعمل فيه الرجوع عن
الإقرار لا تقبل هذه الشهادة وفيما لا يعمل
فيه الرجوع عن الإقرار كالقصاص وحد القذف فهو
على الخلاف الذي بينا ولا خلاف أنه لو أقر به
قضى القاضي به عليه فأبو يوسف يقول المستحق
بهذه الأسباب هو خالص حقه وهو دمه فإن وجوب
العقوبات عليه باعتبار معنى النفسية دون
المالية وهو في حكم النفسية مبقى على أصل
الحرية ولهذا تقام عليه هذه العقوبات بإقراره
وإن كان المولى غائبا أو مكذبا له ولا يقبل
إقرار المولى بشيء من ذلك فلا يشترط حضور
المولى لقبول البينة عليه بذلك وهما يقولان في
القضاء بهذه البينة مع غيبة المولي إبطال حقه
من أوجه:
أحدها: أنه يستوفي هذه
العقوبة فتفوت به مالية المولى أو تنتقص.
والثاني: أنه يخرج من يد
المولى إذا حضر مجلس الحكم لإقامة الحد عليه
بذلك واليد مستحقة للمولى.
والثالث: أن له حق الطعن في
الشهود لو كان حاضرا فبالقضاء عليه قبل حضوره
يبطل حق الطعن الثابت له وإبطال حقه بالقضاء
حال غيبته لا يجوز بخلاف الإقرار فإن الإقرار
موجب للحق بنفسه وليس للمولى حق الطعن في
إقراره فلا تفوت به يده ولا حقه في الطعن ثم
لا تهمة في إقراره على نفسه لأن ما يلحقه
بالضرر بذلك فوق ما يلحق مولاه وقد بينا هذه
المعاني في كتاب الآبق.
وأما الصبي والمعتوه المأذون لهما فلا يلزمهما
شيء من ذلك في الإقرار ولا في الشهادة على
الفعل لأنهما غير مخاطبين والأهلية للعقوبة
تنبني على كون المباشر مخاطبا إلا في القتل
خاصة إذا كان أب الصبي أو المعتوه أو وصيهم
حاضرا فإنه يقضى بالدية على عاقلتهما وفي حالة
غيبة الولي لا يقضى بذلك.
ولو شهدوا عليهما بالإقرار بالقتل فالشهادة
باطلة لأن القتل ليس من التجارة وفيما ليس من
التجارة المأذون والمحجور سواء ولا قول له في
ذلك والخصم في إثبات البينة عليه الولي فبدون
حضرة المولى لا يقضى بشيء وبعد حضوره الثابت
بالبينة كالثابت بالمعاينة وأنه مما يوجب
الدية على العاقلة.
ولو شهدوا على العبد المأذون بسرقة عشرة دراهم
أو أكثر فإن كان مولاه حاضرا قطع وإن كان
غائبا فكذلك عند أبي يوسف وفي قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله لا يقطع
ج / 26 ص -34-
ولكن
يضمن السرقة لأن المسروق منه يدعي المال ولكنه
متى ثبت السبب الموجب للعقوبة عند القاضي
استوفى العقوبة في حال غيبة المولى ولا يثبت
السبب الموجب للعقوبة عليه بالبينة فتبقى دعوى
المال والعبد خصم فيما يدعي قبله من المال كما
لو كانت الدعوى بسبب الغصب وشهدوا عليه ولو
شهدوا عليه بسرقة أقل من عشرة ضمن السرقة لأن
فيما دون النصاب الأخذ بجهة السرقة كالأخذ
بجهة الغصب.
ولو شهدوا على صبي أو معتوه مأذون لهما بسرقة
عشرة دراهم أو أكثر قضي عليه بالضمان وإن كان
وليه غائبا لأن جهة السرقة كجهة الغصب في
حقهما إذ لا عقوبة عليهما بسبب السرقة وقد
بينا أن المأذون خصم فيما يتهم بذلك عليه من
الأخذ الموجب للضمان وإن كان وليه غائبا وإن
شهدوا على إقرار واحد منهم بذلك قضى القاضي
عليه بالضمان حضر مولاه أو وليه أو لم يحضر
لأن الرجوع عامل في حق العقوبة فإذا كان هو
جاحدا والشهود يشهدون على إقراره بذلك كانت
هذه شهادة على ما يوجب ضمان المال.
ولو شهدوا على عبد محجور بسرقة عشرة أو أكثر
ومولاه غائب لم يقض عليه بشيء حتى يحضر المولى
لأن دعوى السرقة عليه كدعوى الغصب وقد بينا
أنه يشترط حضرة المولى فيما يدعي على المحجور
من الغصب فكذلك فيما يدعي قبله من السبب
الموجب للعقوبة فإن كان مولاه حاضرا قطعت يده
لأن السبب الموجب للعقوبة ظهر بشهادته وهو
مخاطب وإن شهدوا على إقرار العبد بذلك وهو
يجحد فالشهادة باطلة لأن إقرار المحجور عليه
في حق المال باطل حتى يعتق وفي حق القطع
الإقرار يبطل بالرجوع عنه.
ثم قد بينا أن إقرار المحجور بسرقة مال مستهلك
أو قائم بعينه في يده وما في ذلك من الاختلاف
بينه أصحابنا في كتاب السرقة قال وإذا أذن
المسلم لعبده الكافر في التجارة فاشترى خمرا
أو خنزيرا فهو جائز كان عليه دين أو لم يكن
لأنه يتصرف لنفسه بفك الحجر عنه فيراعى حاله
في ذلك ثم المولى إنما يتملكه عليه بطريق
الخلافة كما يتملك الوارث مال مورثه والمسلم
من أهل أن يتملك الخمر بالميراث.
ولو اشترى ميتة أو دما أو بايع كافرا بربا فهو
باطل لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك
الحجر عنه بالعتق وتصرف الحر الكافر في الميتة
والدم باطل وهو في جميع بياعاته بمنزلة المسلم
إلا في الخمر والخنزير فكذلك العبد المأذون
ولو شهد عليه كافران بغصب أو وديعة مستهلكة أو
بيع أو إجارة أو شهدوا على إقراره بذلك وهو
ومولاه ينكران ذلك فشهادتهما جائزة استحسانا
ذكره في كتاب المأذون الصغير وفي القياس لا
تقبل هذه الشهادة لأن المسلم يتضرر بها فإن
الكسب ومالية الرقبة إنما يستحق على المولى
بهذه الشهادة والمولى مسلم وشهادة الكافر فيما
يتضرر به المسلم لا تكون حجة.
وجه الاستحسان: أن المولى فك الحجر عنه بالإذن
فيجعل ذلك في إقامة الحجة عليه
ج / 26 ص -35-
بمنزلة
فك الحجر عنه بالعتق والمولى وإن كان يتضرر به
ولكنه قد صار راضيا بالتزام هذا الضرر حين أذن
له في التجارة مع علمه أن شهادة الكفار حجة
على الكافر.
ألا ترى: أن العبد الكافر لو
أقر بذلك صح إقراره وإن كان المولى يتضرر
لوجود الرضا منه بذلك فكذلك إذا شهد الشهود
عليه بذلك وكذلك الصبي الكافر يأذن له وصيه
المسلم أو جده أب أبيه في التجارة لأن انفكاك
الحجر عنه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالبلوغ
فشهادة الكافر تكون حجة عليه.
وإن كان العبد المأذون مسلما ومولاه كافرا لم
تجز شهادة الكافرين على العبد بشيء من ذلك وإن
لم يكن عليه دين لأن العبد هو الخصم فيما يشهد
به الشهود عليه وهو مسلم جاحد لذلك فلا تقبل
شهادة الكفار عليه.
وإن شهد الكافران على العبد المحجور الكافر
بغصب ومولاه مسلم فشهادتهما باطلة لأن الخصم
فيما يدعي على العبد المحجور مولاه.
ألا ترى: أن الشهادة عليه لا
تقبل إلا بمحضر من مولاه فإذا كان المولى
مسلما لم تكن شهادة الكفار حجة عليه بخلاف
المأذون فإن كان مولاه كافرا فشهادتهما جائزة.
قال: وإذا أذن المسلم لعبده
الكافر في التجارة فشهد عليه كافران بجناية
خطأ أو بقتل عمدا أو بشرب خمر أو بقذف أو شهد
عليه أربعة من الكفار بالزنى وهو ومولاه
منكران لذلك فالشهادة باطلة لأن الخصم ها هنا
المولى.
ألا ترى: أن البينة لا تقبل
على العبد بشيء من ذلك إلا بمحضر من المولى
أما في جناية الخطأ فغير مشكل وفي الأسباب
الموجبة للعقوبة كذلك عند أبي حنيفة ومحمد وفي
قول أبي يوسف المولى يتضرر بذلك ولم يوجد منه
الرضا بالتزام هذا الضرر بالإذن له في التجارة
فلهذا لا تقبل شهادتهم عليه وكذلك لو كان
العبد مسلما ومولاه كافرا لأن الثابت بهذه
البينة فعل العبد وشهادة الكفار لا تكون حجة
في إثبات فعل المسلمين.
وإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد
عليه كافران بسرقة عشرة دراهم أو أقل قضي عليه
بضمان السرقة وإن كان المولى حاضرا أو غائبا
لم يقطع لأن هذه البينة لا تكون حجة في إثبات
العقوبة لإسلام المولى فكانت شهادتهما عليه
بالأخذ بجهة السرقة بمنزلة الشهادة بجهة
الغصب.
ولو كان العبد مسلما والمولى كافرا كانت
شهادتهما باطلة لأنها تقوم لإثبات فعل المسلم
فإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد
عليه كافران لكافر أو لمسلم بدين ألف درهم
والعبد يجحد وعليه ألف درهم دين لمسلم أو كافر
فشهادتهما عليه جائزة وإن كان صاحب الدين
الأول مسلما لأن هذه البينة تقوم لإثبات الدين
في ذمة الكافر وقد بينا أن انفكاك الحجر عنه
بالإذن كهو بالعتق والحر الكافر يثبت عليه
الدين بشهادة الكافر وإن كان له عبد مسلم فهذا
مثله فإن كان صاحب الدين الأول كافرا بيع في
الدينين وإن كان مسلما بيع
ج / 26 ص -36-
العبد
وما في يده في الدين الأول حتى يستوفى جميع
دينه فإن فضل فهو للذي شهد له الكافران الآن
لأن الأول استحق كسبه ومالية رقبته فلو قبلنا
شهادة الكافر في إثبات المزاحمة للثاني معه
تضرر المسلم بشهادة الكافر وذلك لا يجوز فإن
قيل: حق الغريم المسلم في رقبته وكسبه لا يكون
أقوى من حق المولى المسلم وقد بينا أن شهادة
الكفار عليه مقبولة في حق مولى المسلم فكذلك
في حق الغريم المسلم.
قلنا: المولى المسلم رضي
بالتزام هذا الضرر حين أذن له في التجارة فأما
الغريم المسلم فلم يوجد منه الرضا بالتزام هذا
الضرر وفي إثبات هذه المزاحمة عليه ضرر.
ولو ادعى عليه مسلمان كل واحد منهما ألف درهم
فشهد لأحدهما مسلمان وشهد للآخر بدينه كافران
فإن القاضي يقضي بالدين كله عليه فيبدأ بالذي
شهد له المسلمان فيقضي دينه فإن بقي شيء كان
للذي شهد له الكافران لأن الذي شهد له
المسلمان أثبت دينه بما هو حجة على العبد خاصة
وثبوت الحق بحسب السبب فكان دين الذي شهد له
المسلمان ثابتا في حق الذي شهد له الكافران
ودين الذي شهد له الكافران غير ثابت في حق
الذي شهد له المسلمان فلهذا يبدأ من كسبه
وثمنه بقضاء دينه الذي شهد له المسلمان فإن
بقي شيء فهو للذي شهد له الكافران.
ولو صدق العبد الذي شهد له الكافران اشتركا في
كسبه وثمن رقبته لأن دينه ثبت بإقرار العبد
والثابت بإقرار المأذون من الدين كالثابت
بالبينة فيظهر وجوبه في حق الغريم الذي شهد له
المسلمان ويتحاصان فيه ولو كان الذي شهد له
الكافران مسلما والذي شهد له المسلمان كافرا
والعبد يجحد ذلك كله بيع العبد واقتسما ثمنه
نصفين لأن كل واحد منهما أثبت دينه بما هو حجة
على العبد وعلى خصمه فاستوى الدينان في القوة.
ولو كان الغرماء ثلاثة كل واحد منهم يدعي ألف
درهم أحدهم مسلم شهد له كافران والثاني مسلم
شهد له مسلمان فإنه يقضى عليه بجميع الدين
ويباع فيه لأن البينات كلها حجة عليه ثم يقسم
ثمنه بين المسلم الذي شهد له المسلمان والكافر
الذي شهد له المسلمان نصفين لأن كل واحد منهما
أثبت دينه بما هو حجة على العبد وعلى الخصمين
الآخرين فأما الثالث الذي شهد له كافران فقد
أثبت دينه بما ليس بحجة على المسلم الذي شهد
له المسلمان فلا يستحق المزاحمة معه في ثمنه
وإذا لم تثبت المزاحمة صار كالمعدوم واستوى
دين الآخرين في القوة فالثمن بينهما نصفان سلم
للمسلم نصفه والنصف الذي صار للكافر بينه وبين
المسلم الذي شهد له الكافران نصفين لأنه أثبت
دينه بما هو حجة على هذا الكافر وإنما كان
محجورا لحق المسلم ولم يبق في هذا النصف
للمسلم حق وبينهما مساواة في قوة دين كل واحد
منهما في حق صاحبه فيقسم هذا النصف بينهما
نصفين ثم لا يكون للمسلم أن يأخذ من يد هذا
الذي شهد له الكافران ما يأخذه من صاحبه لأن
ذلك لا يفيد شيئا إذا أخذ ذلك أتاه الكافر
الذي شهد له المسلمان فاسترد ذلك منه لأنه
يساويه في الثمن فلهذا لا يشغل بذلك.
ج / 26 ص -37-
ولو
كان أحد الغرماء مسلما شهد كافران والآخران
كافران شهد لكل واحد منهما كافران بدئ بالمسلم
لأن دينه ثبت بما هو حجة على خصمه ودينهما ثبت
بما ليس بحجة عليه فإن بقي بعد دينه كان بين
الكافرين لاستوائهما في ثبوت دين كل واحد
منهما في حق صاحبه ولو كان العبد مسلما
والمولى كافرا والغرماء رجلين أحدهما مسلم شهد
له كافران والآخر كافر شهد له مسلمان والعبد
يجحد ذلك فإن القاضي يبطل دعوى المسلم الذي
شهد له كافران ويباع العبد الآخر في دينه
فيوفيه حقه فإن بقي شيء من ثمنه فهو للمولى
لأن المسلم إنما أقام شهودا كفارا على دينه
وشهادة الكفار لا تكون حجة على العبد المسلم
فما لم يثبت دينه على العبد لا يستحق شيئا من
ثمنه فلا يكون لهذا المسلم أن يزاحم الغريم
الكافر فيما يأخذه ولا أن يأخذ من المولى شيئا
مما بقي من ثمنه في يده بخلاف ما سبق فهناك
الديون كلها تثبت على العبد وكذلك لو كان
العبد محجورا عليه في هذا الفصل لأن أصل الدين
لا يثبت عليه بشهادة الكفار وإن كان محجورا
عليه وما لم يثبت عليه أصل الدين في ذمته لا
يتعلق بمالية رقبته.
ولو كان العبد كافرا محجورا ومولاه مسلما
والغرماء رجلين أحدهما مسلم شهد له كافران
والآخر كافرا شهد له مسلمان بأنه غصب منه ألف
درهم فإنه يقضى عليه بدين الكافر ولا يقضى
عليه بدين المسلم حتى يعتق لأن مولاه مسلم وقد
بينا أن شهادة الكفار على العبد الكافر
المحجور عليه بالغصب لا تكون حجة في حق المسلم
فما لم يسقط حقه بالعتق لا يقضى عليه بدين
المسلم وليكن إذا أخذ الكافر دينه من ثمنه
شاركه المسلم لأن أصل دين المسلم ثابت على
العبد بشهادة الكفار ها هنا.
ألا ترى أنه يؤخذ به بعد العتق وإنما لا يظهر
ذلك في حق المولى وقد سقط حق المولى عما أخذه
الكافر من ثمن العبد وإنما بقي المعتبر فيه حق
الكافر ودين المسلم ثابت بما هو حجة على
الكافر وعلى العبد كدين الكافر ولهذا شاركه
فيما أخذه.
وإذا أذن المسلم لعبده الكافر فشهد عليه
كافران بدين ألف درهم لمسلم أو كافر بإقرار أو
غصب وقضى القاضي بذلك فباع العبد بألف درهم
فقضاها الغريم ثم ادعى على العبد دينا ألف
درهم كانت عليه قبل أن يباع فإن أقام على ذلك
شاهدين مسلمين فإن القاضي يأخذ الألف من
الغريم الذي شهد له الكافران فيدفعها إلى هذا
الغريم الذي شهد له المسلمان ولو كان الثاني
كافرا أخذ منه نصف ما أخذه الأول لأنه أثبت
دينه بتاريخ سابق على البيع فيلتحق بالدين
الظاهر عليه بشهادة المسلمين قبل أن يباع ولو
قامت البينة قبل البيع كان الحكم فيه ما ذكرنا
فكذلك ها هنا.
قال ولو كان الأول كافرا وشاهداه مسلمين
والثاني مسلما أو كافرا وشاهداه كافرين فإنه
يأخذ من الأول نصف ما أخذه لأن دين الثاني ثبت
بما هو حجة على العبد وعلى الغريم الأول ودين
الأول كذلك فلاستوائهما في القوة يجعل ثمنه
بينهما نصفين.
ج / 26 ص -38-
ألا
ترى أن الكافر لو هلك وترك ألف درهم فأسلم
وارثه وأقام كافر شاهدين مسلمين على الميت
بألف درهم فقضى له القاضي ثم إن مسلما أو
كافرا أقام على الميت شاهدين كافرين بدين ألف
أنه يأخذ من الأول نصف ما أخذ للمعنى الذي
بينا واستحقاق تركة الميت بدينه كاستحقاق كسب
العبد وثمن رقبته بدينه.
قال: وإذا أذن الرجل لعبد
الكافر في التجارة فباع واشترى ثم أسلم فادعى
عليه رجلان دينا فجاء أحدهما بشاهدين كافرين
عليه بألف درهم دينا كانت عليه في حالة كفره
وجاء الآخر بشاهدين مسلمين عليه بمثل ذلك
والمدعيان مسلمان أو كافران والمولى مسلم أو
كافر فشهادة المسلمين جائزة ولا شيء للذي شهد
له الكافران لأن العبد مسلم حين قامت البينة
عليه وشهادة الكافر على المسلم لا تقبل سواء
أطلق الشهادة أو أرخ بتاريخ سابق على إسلامه.
ولو كان العبد مسلما ومولاه كافرا أو مسلما
فارتد العبد عن الإسلام والعياذ بالله فشهد
عليه مسلمان لكافر أو لمسلم بمال وشهد عليه
كافران لمسلم أو كافر بمال فشهادة المسلمين
جائزة وشهادة الكافرين باطلة لأن المرتد مجبر
على العود إلى الإسلام وحكم الإسلام باق في
حقه ولهذا لا ينفذ تصرفه في الخمر والخنزير
فشهادة الكافر لا تكون حجة أصلا.
وإذا أذن الرجل لعبده الكافر في التجارة
ومولاه مسلم أو ذمي فشهد عليه مسلمان لمسلم
بدين وشهد عليه ذميان لمسلم بدين وشهد عليه
مستأمنان لمسلم بدين فإن القاضي يبطل شهادة
المستأمنين لأن العبد ذمي وشهادة المستأمن لا
تكون حجة على الذمي باعتبار أن الذمي من أهل
دارنا ويقضي بشهادة الذميين والمسلمين لأنها
حجة عليه ثم يبيع العبد فيبدأ بدين الذي شهد
له المسلمان لأنه أثبت دينه بما هو حجة على
العبد وعلى خصمه الآخر إنما أثبت دينه بما هو
حجة على العبد لا على خصمه فإذا أخذ المسلم
حقه وبقي شيء كان للذي شهد له الذميان لأن
دينه كان ثابتا على العبد ولكن كان محجورا لحق
المسلم وقد زال الحجر حين استوفى المسلم حقه
فإن بقي شيء بعد دينه كان للمولى لأن دين الذي
شهد له المستأمنان غير ثابت في حق العبد وكذلك
لو كان المولى حربيا لأن الدين بشهادة
الحربيين لا يثبت على العبد الذمي وما لم يثبت
الدين على العبد لا يتعلق بماليته التي هي حق
مولاه.
فلو كان المولى وعبده حربيين والمسألة بحالها
قضي بالدين كله على العبد وبيع فيه فيبدأ
بالذي شهد له المسلمان ثم بالذي شهد له
الذميان لما قلنا: ثم ما فضل يكون للذي شهد له
الحربيان لأن دينه ثابت في حق العبد ها هنا
وإنما كان محجورا بحق الآخرين فإذا زال الحجر
كان الباقي له فان كان أصحاب الدين كلهم أهل
الذمة والمسألة بحالها يحاص في ثمنه الذي شهد
له المسلمان والذي شهد له الذميان لأن دين كل
واحد منهما ثبت بما هو حجة على العبد وعلى
الخصمين الآخرين ودين الثالث إنما ثبت بما هو
حجة على العبد خاصة فلا يزاحمهما في ثمنه ولكن
يقدمان عليه ويتحاصان للمساواة بينهما في
القوة فإن فضل شيء فهو للذي شهد له الحربيان.
ج / 26 ص -39-
ولو
كان أصحاب الدين كلهم مستأمنين تحاصوا جميعا
في دينهم لأن دين كل واحد منهما ثبت بما هو
حجة على العبد وعلى الخصمين الآخرين ولو كان
المولى مسلما أو ذميا والعبد حربيا دخل بأمان
فاشتراه هذا المولى وأذن له في التجارة
والمسألة بحالها لم تجز شهادة الحربيين عليه
بشيء لأن العبد قد صار ذميا حين دخل في ملك
مسلم أو ذمي فلا تكون شهادة أهل الحرب بالدين
عليه حجة.
وإذا دخل الحربي دارنا بأمان ومعه عبد له فأذن
له في التجارة جازت شهادة المستأمنين عليه
بالدين كما تجوز على مولاه لأنه حربي مستأمن.
ألا ترى أن لمولاه أن يعيده إلى دار الحرب ولو
كان الغرماء ثلاثة مسلم شهد له حربيان بدين
ألف درهم وذمي شهد له ذميان بدين ألف درهم
وحربي شهد له مسلمان بدين ألف درهم ثم بيع
العبد بألف درهم فإنه يقسم الألف بين الذمي
الذي شهد له الذميان والحربي الذي شهد له
المسلمان نصفين لأن دين كل واحد منهما ثبت بما
هو حجة على العبد وعلى صاحبه فأما المسلم
فإنما يثبت دينه بما ليس بحجة على الذمي وهو
شهادة الحربيين فلهذا لا يزاحمهما.
وإذا اقتسما ثمنه نصفين أخذ المسلم من الحربي
نصف ما صار له لأن دينه ثابت بما هو حجة في حق
الحربي وإنما كان ممنوعا لحق الذمي وقد سقط حق
الذمي عن هذا النصف فكان بينهما نصفين وقال
عيسى بن أبان رحمه الله هذا خطأ وينبغي أن
يكون الألف بينهم أثلاثا لأن المسلم الذي شهد
له الحربيان والذمي الذي شهد له الذميان
استويا من حيث إن دين كل واحد منهما ثبت بما
هو حجة على العبد دون صاحبه فليس جعل المسلم
محجوبا عن المزاحمة لأجل الذمي بأولى من جعل
الذمي محجوبا عن المزاحمة لأجل المسلم وقد ثبت
دين كل واحد منهما بما هو حجة على الحربي ودين
الحربي بما هو حجة عليهما فينبغي أن يكون
بينهم أثلاثا وهذا ذكره الحسن بن زياد عن أبي
يوسف رحمهما الله وقيل في تصحيح جواب الكتاب
أنه وإن كان كذلك فشهادة الذمي أقوى من شهادة
الحربي لأن شهادة أهل الحرب إنما تقبل بعقد
الأمان والأمان يثبت للحربي بهذا المسلم أو من
يقوم مقامه من المسلمين أما عقد الذمة فليس
يثبت من جهة الذمي فكانت شهادة أهل الذمة
للذمي أقوى وأبعد عن التهمة من شهادة
المستأمنين للمسلم فترجح جانبه لهذا.
ولو كانت شهود الذمي حربيين وشهود المسلم
ذميين والمسألة بحالها كان الثمن بين المسلم
والحربي نصفين لأن الذمي إنما أثبت دينه بما
ليس بحجة على المسلم والمسلم أثبت دينه بما هو
حجة على المسلم فكان الذمي محجوبا به بقي
المسلم والحربي وقد أثبت كل واحد منهما دينه
بما هو حجة على العبد وعلى صاحبه فكان الثمن
بينهما نصفين ثم يأخذ الذمي نصف ما أصاب
الحربي لأن بينته حجة عليه وإنما كان محجوبا
عن المسلم وقد سقط حق المسلم عن هذا النصف.
ج / 26 ص -40-
ولو
كان الذي شهد له المسلمان ذميا والذي شهد له
الذميان حربيا والذي شهد له الحربيان مسلما
فإن الثمن بين الحربي والذمي نصفين لأن دين كل
واحد منهما ثبت بما هو حجة على صاحبه ودين
المسلم ثبت بما ليس بحجة على الذمى فكان هو
محجوبا وليس في هذا الفصل طعن فإن الدين ثبت
بما هو حجة على المسلم لأن شهود الذمي مسلمون
فلهذا كان الثمن بين الحربي والذمي نصفين ثم
يأخذ المسلم نصف ما أخذ الحربي لما بينا أنه
كان محجوبا بالذمي وقد زالت مزاحمته.
قال: فإذا لحق العبد دين فقال
مولاه هو محجور عليه وقال الغرماء هو مأذون له
فالقول قول المولى لأنه متمسك بالأصل وهو
الحجر بسبب الرق ولأن الغرماء يدعون عليه بسبب
استحقاق كسبه ومالية رقبته والمولى ينكر ذلك
فعليهم إثبات هذا السبب بالبينة فإن جاؤوا
بشاهدين على الإذن فشهد أحدهما أن مولاه أذن
له في شراء البز وشهد آخر أنه أذن له في شراء
الطعام فشهادتهما جائزة وإن كان الدين من غير
هذين الصنفين لأن المشهود به إنما هو أصل
الإذن فأما هذا التقيد بالبز والطعام فلغو لأن
الإذن في التجارة لا يقبل التخصيص وقد اتفقا
على ما هو المقصود والمشهود به فإن شهد أحدهما
أنه أذن له في شراء البز وشهد آخر أنه رآه
يشتري البز فلم ينهه فشهادتهما باطلة لأنهما
اختلفا في المشهود به فإن أحدهما شهد بمعاينة
فعل والآخر شهد بقول.
ولو شهد أحدهما أنه رآه يشتري البز فلم ينهه
وشهد الآخر أنه رآه يشتري الطعام فلم ينهه
فشهادتهما باطلة لأن كل واحد منهما شهد
بمعاينة فعل غير الفعل الذي شهد الآخر
بمعاينته فلم يثبت بما شهد بمعاينة كل فعل إلا
شاهد واحد.
ولو شهد أنه رآه يشتري البز فلم ينهه كان
الشراء جائزا وكان العبد مأذونا له في التجارة
لأنهما اتفقا على الشهادة بمعاينة فعل واحد
والثابت بشهادة شاهدين كالثابت بالمعاينة ولو
عاينا المولى رآه يبيع البز فلم ينهه كان
مأذونا له في التجارة في الأشياء كلها فكذلك
إذا شهد عليه الشاهدان بذلك والله أعلم.
باب الاختلاف بين المأذون ومولاه
قال رحمه الله: وإذا كان
العبد المأذون في يده مال وعليه دين فقال هو
مالي وقال مولاه بل هو مالي فالقول قول العبد
لأن يده في كسبه معتبرة لحق الغرماء والمولى
ممنوع من أخذ ما في يده لحقهم فيكون المال في
يده ككونه في يد غرمائه لأن انفكاك الحجر عنه
بالإذن بمنزلة انفكاك الحجر عنه بالعتق أو
بالكتابة إلا أن يده قبل أن يلحقه الدين ما
كانت لازمة وبلحوق الدين إياه صارت لازمة
فالمنازعة بينه وبين المولى فيما في يده
كالمنازعة بين المولى ومكاتبه فيما في يده.
وإن كان المال في يد المولى وفي يد العبد فهو
بينهما نصفان لأن المولى من كسب عبده في هذه
الحالة كأجنبي آخر وقد استويا في دعوى اليد
والعين ظهرت في يديهما فكان بينهما
ج / 26 ص -41-
نصفين
فإن كان في يد المولى ويد العبد ويد أجنبي
فادعاه كل واحد منهم فهو بينهم أثلاثا لأن يد
العبد فيه كيد غريمه فتكون معارضة ليد المولى
ويد الأجنبي في المزاحمة.
وإن كان العبد لا دين عليه فالمال بين المولى
والأجنبي نصفان ولا شيء للعبد فيه لأن ما في
يد العبد ويد مولاه واحد إذا لم يكن عليه دين
فإن كسبه خالص ملك مولاه ويده فيه كيد مولاه
وفي حق الأجنبي لأن الحق لا يعدوهما فهو
بمنزلة ما لو تنازع اثنان في شيء وأحدهما ممسك
له بيديه والآخر بيد واحدة فإنه يقضي بذلك
نصفان هذا ولو كان ثوب في يد حر وعبد مأذون
وكل واحد منهما يدعيه ومعظمه في يد أحدهما
والآخر متعلق بطرفه فهو بينهما نصفان لأن
الاستحقاق باعتبار اليد ويده على جزء من الثوب
كيده على جميعه.
ألا ترى أنه لو كان في يده طرف من الثوب وليس
في يد الآخر منه شيء فتنازعا فيه كان ذو اليد
أولى بجميعه سواء كان الطرف الذي في يده معظم
الثوب أو شيئا يسيرا منه فإن كان أحدهما متزرا
به أو مرتديا أو لابسا والآخر متعلقا به أو
كانت دابة أحدهما راكب عليها والآخر متمسك
باللجام فهي للراكب واللابس لأنه مستعمل للعين
واليد بالاستعمال تثبت حقيقة دون التعلق به.
ألا ترى أنه لا يتمكن من الركوب واللبس في
العادة إلا صاحب اليد ويتمكن الخارج من التعلق
به لأن الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب
لأن قيامه به وكانت يده فيما هو تبع له من وجه
أقوي من يد المتعلق به والضعيف لا يظهر في
مقابلة القوى ولو لم يكن هذا راكبها وكان
الآخر متعلقا بها لا يستحق الترجيح بتعلقه بها
ولو كان هذا راكبها ولم يكن الآخر متعلقا بها
كان الراكب أولى فإذا كان لأحدهما سبب يستحق
به عند الانفراد وليس للآخر مثله كان هو أولى.
ولو أن حرا أو مأذونا أجر نفسه من رجل يبيع
معه البز أو يخيط معه ثم اختلفا في ثوب في يد
الأجير فإن كان في حانوت الذي استأجره فهو
للمستأجر لأن الآخر مع ما في يده في يد
المستأجر فإن حانوت المستأجر ويده ثابتة عليه
فما في الحانوت يكون في يده فالظاهر شاهد
للمستأجر فإن الأجير لا ينقل أمتعته إلى حانوت
المستأجر عادة خصوصا ما ليس من أداة عمله وإن
كان في السكة أو في منزل الأجير فهو للأجير
لأنه لا يد للمستأجر على هذا الموضع حقيقة ولا
حكما ويد الأجير ثابتة على الثوب حقيقة وبعقد
الإجارة لا يخرج من أن يكون له يد معتبرة في
أمتعته والصغير والكبير في هذا سواء لأن كل
واحد منهما له يد معتبرة دافعة لاستحقاق
الغير.
ولو أن عبدا محجورا عليه أجره مولاه لرجل وكان
مع العبد ثوب فقال المستأجر هو لي وقال مولاه
هو لي كان للمستأجر سواء كان في السكة أو في
السوق أو في حانوت المستأجر أو كانت المنازعة
في دابة والعبد راكبها لأن مولاه حين آجره فقد
حول يده فيه إلى المستأجر وصار المستأجر
بمنزلة المالك في ثبوت يده وعلى ما معه لأنه
صار أحق بالانتفاع به فيكون القول في جميع ما
في يده قوله بخلاف الحر فإن المستأجر وإن صار
أحق بمنافعه فقد بقيت له يد معتبرة في أمتعته
لأنه مالك للأمتعة بعد الإجارة كما كان قبله
ج / 26 ص -42-
والعبد
المحجور عليه مملوك ليست له يد معتبرة فكان هو
وما في يده لمولاه قبل الإجارة وقد حوله
بالإجارة إلى يد المستأجر.
ولو كان على العبد قميص أو قباء فقال المستأجر
هو لي وقال المولى هو لعبدي فالقول قول المولى
لأن الظاهر يشهد له لأن الظاهر أن العبد لا
ينقل إلى يد المستأجر عريانا.
ألا ترى أنه لو باعه من إنسان دخل في البيع ما
عليه من لباسه وإن لم يذكر باعتبار الظاهر
والعادة ولا يدخل في البيع متاع آخر في يده
إلا ما يذكر فلا ينظر إلى قول العبد في شيء من
ذلك لأنه محجور عليه وليس للمحجور عليه قول
ولا يد معتبرة فيما معه.
ولو كان العبد في منزل المولى وفي يده ثوب
فقال المستأجر هو لي وقال المولى هو لي فهو
للمولى لأن المنزل في يد المولى فما فيه يكون
في يده أيضا لأنه ليس للعبد يد معتبرة في
معارضة يد المولى والمستأجر إذا كانت يده لا
تظهر في منزل المولى كان المتاع للمولى ولو
كان العبد مأذونا له وعليه دين وهو في منزل
المولى وفي يده ثوب فقال المولى هو لي وقال
العبد هو لي فإن كان الثوب من تجارة العبد فهو
له لأن ما يكون من تجارته فهو كسبه والحق في
كسبه لغرمائه فيده فيه كيد الغريم وإن لم يكن
من تجارته فهو للمولى لأنه في ملك المولى ويده
ثابتة على ما في ملكه وحق الغرماء لا يثبت في
شيء من ذلك ما لم يثبت كونه كسبا للعبد.
ولو كان العبد راكبا على دابة أو لابسا ثوبا
فقال العبد هو لي وقال المولى هو لي فهو للعبد
يقضي به دينه كان ذلك من تجارته أو لم يكن لأن
الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب وحق
الغرماء يتعلق بمالية رقبته فيكون متعلقا بما
هو تبع له والله أعلم.
باب المأذون يأسره العدو أو يرتد
قال رحمه الله: قد بينا في
السير أن العبد إذا أسره العدو فأحرزوه بدارهم
ثم عاد إلى قديم ملك المولى فإنه يعود ما كان
فيه من الدين والجناية وإن لم يعد إلى قديم
ملك المولى فإن لم يأخذه من يد من وقع في سهمه
أو من يد المشتري أو أسلم أهل الحرب عليه فإن
الدين يعود عليه كما كان والجناية لا تعود لأن
المستحق بالجناية الملك القائم وقت الجناية.
ألا ترى أن المولى لو أعتقه بعد الجناية لا
يبقى حق ولي الجناية فكذلك إذا زال ذلك الملك
ولم يعد إليه بخلاف الدين فإنه ثابت في ذمته.
ألا ترى أنه يبقى عليه بعد العتق فسواء عاد
ذلك الملك أو لم يعد بقي الدين في ذمته كما
كان والدين في ذمة العبد لا يجب إلا شاغلا
مالية رقبته فلهذا بيع في الدين في ملك من
كان.
وإن ارتد المأذون وعليه دين أو جناية خطأ ولحق
بدار الحرب ثم أسره المسلمون فمولاه أحق به
قبل القسمة وبعدها بغير شيء في قول أبي حنيفة
لأنه لم يحرزه المشركون إنما هو
ج / 26 ص -43-
أبق
إليه فإذا بقي على ملك مولاه بقي الدين
والجناية عليه بحالهما يدفع بالجناية ثم يباع
في الدين قال وإذا أدان المسلم دينا ثم ارتد
ولحق بدار الحرب ثم أسر فإن أبى أن يسلم فقتل
بطل الدين إلا أن يؤخذ ماله في دار الإسلام
فيقضى به دينه لأن ماله الذي خلفه في دار
الإسلام مصروف إلى حاجته وهو خلف عن ذمته في
وجوب قضاء الدين كما بعد موته وإن لم يكن له
مال في دار الإسلام فقد فات محل الدين حين قتل
فبطل دينه وليس هذا بأول مديون بملك مفلسا ولو
كانت مرتدة فسبيت وأسلمت فهي أمة للذي
استولدها وقد بطل الدين عنها لأن نفسها تبدلت
بالأسر فصارت كالهالكة لا إلى خلف فإن الحرية
حياة والرق تلف وهذا لأن حكم الدين تغير بحدوث
الرق فيها لأنه حين وجب الدين كان في ذمتها
ولا تعلق له بمحل آخر وبعد ما صارت أمة فالدين
عليها يكون شاغلا مالية رقبتها أن لو بقي وهذه
مالية حادثة لا يمكن شغلها بالدين والدين لا
يجب على المملوك إلا شاغلا مالية رقبته فيسقط
بهذه المنافاة.
وكذلك كل حد وقصاص كان عليها فيما دون النفس
قبل الردة لتغيير حكمه برقها فالرق ينصف
الحدود وينافي وجوب القصاص فيما دون النفس
فأما القصاص في النفس فهو على حاله عليها لأن
ذلك لا يتغير بالرق والأمة والحرة فيه سواء
وكذلك الرجل الذمي أو المرأة الذمية ينقض
العهد ويلتحق بدار الحرب وعليه دين يوم يؤسر
فهو رقيق وقد بطل الدين وكل حد أو قصاص دون
النفس كان عليه يتغير حكمه برقه ويؤخذ بالقصاص
في النفس لأن الحر والرقيق فيه سواء.
وإذا استدان الحر المستأمن في دار الإسلام ثم
رجع إلى بلاده ثم عاد إلينا مسلما أو ذميا أو
مستأمنا أخذ بذلك الدين لبقاء دينه على رجوعه
إلى بلاده وبعد عوده إلينا ولم يصر محجورا
متمكنا لما في ذمته لأن الإحراز في الدين لا
يتحقق ولو لم يرجع إلينا حتى أسر فصار عبدا
بطل الدين لتبدل نفسه بالرق.
ولو دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدان حربيا
ثم أسر المسلمون الحربي فصار عبدا بطل الدين
عنه لأن نفسه تبدلت بما حدث فيه من الرق وخرج
من أن يكون أهلا للمالكية والأسر لم يخلفه في
ملك الدين فسقط عمن عليه لانعدام المطالبة
والمستوفى له فإن الدين ليس إلا مجرد المطالبة
هذا إذا كان الدين له على المسلم وإن كان
للمسلم عليه فقد سقط بفوات محله بتبدل نفسه
بالرق فإن جاء مستأمنا لم يؤخذ به إن كان
الدين عليه ولم يؤخذ به المسلم إن كان الدين
على المسلم لأن هذه المعاملة جرت بينهما في
دار الحرب وهو بالخروج إلينا بأمان لم يصر من
أهل دار الإسلام فلا تسمع الخصومة في ذلك
الدين بينهما إلا أن يسلم أو يصير ذميا فحينئذ
يؤخذ بذلك كل واحد منهما لأنه التزم أحكام
الإسلام وصار منا دارا ودينا والدين ببقاء
ذمته على حاله وبقاء الطلب أهلا للمالكية
فيؤخذ كل واحد منهما به وقد بينا ما في هذه
الفصول من الخلاف في كتاب الصلح والله أعلم.
ج / 26 ص -44-
باب إقرار المأذون في مرض مولاه
قال رحمه
الله: وإذا أقر المأذون في مرض مولاه بدين أو غصب أو وديعة قائمة أو
مستهلكة أو غير ذلك من ديون التجارات فإن كان
المولى لا دين عليه ومات من مرضه ذلك فإقرار
العبد جائز بمنزلة إقرار المولى به لأن الدين
على العبد يشغل كسبه ومالية رقبته وذلك حق
مولاه وصحة إقراره اعتبار إذن المولى به
واستدامة الإذن بعد مرضه بمنزلة إنشائه وإذا
كان صحة إقراره بسبب يضاف إلى المولى صار
إقراره كإقرار المولى وإقرار المولى في مرضه
بدين أو عين للأجنبي صحيح إذا لم يكن عليه دين
وإن كان عليه دين في صحته بدئ بدين الصحة من
تركته ومن رقبة العبد وكسبه فإن فضل من رقبته
وكسبه شيء فهو للذي أقر به العبد لأن كسبه
ورقبته ملك مولاه فإقراره فيه كإقرار المولى.
ولو أقر المولى بذلك كان دين الصحة مقدما عليه
وكان الباقي بعد قضاء دين الصحة مصروفا إليه
فهذا مثله وإن كان مال المولى غائبا فقضى
القاضي دين المولي من ثمن العبد وما في يده ثم
حضر مال المولى فإن القاضي يأخذ منه ثمن العبد
وما كان في يده فيقضي به دين العبد وما أقر به
لأن حق غريم العبد كان متعلقا به وقد قضي به
دين المولى فيقوم غريم العبد مقام غريم المولى
في الرجوع به في تركته إذا ظهر ماله ليأخذه
قضاء من دينه وإن كان دين العبد أكثر من ذلك
فما زاد على ثمن العبد ومالية كسبه من تركة
المولى لوارثه لا حق فيه لغريم العبد لأن دينه
ما كان ثابتا في ذمة المولى وإنما كان في كسب
العبد ومالية رقبته.
وإن كان على المولى دين الصحة وعلى العبد دين
الصحة وأقر العبد في مرض المولى كما وصفنا بدئ
من كسب العبد ومالية رقبته بدين العبد الذي
كان في صحة المولى لأن ذلك أسبق تعلقا به في
حق غريم المولى وإنما يثبت فيه من جهة المولى
وقد كان حق غريم العبد فيه مقدما على حق
المولى فكذلك يكون مقدما على حق غريم المولى
ثم يقضى منه دين المولى الذي كان في الصحة لأن
ذلك أسبق تعلقا به مما أقر العبد به في مرض
المولى لما بينا أن إقرار العبد فيه كإقرار
المولى فإن فضل شيء فهو للذي أقر له العبد في
مرض مولاه ولا يكون للذي أقر له العبد في مرض
المولى مزاحمة غريم العبد في صحة المولى فيما
يستوفيه لأن حقه يتأخر عن حق غريم المولى
وغريم العبد في صحة المولى حقه مقدم على حق
غريم المولى فكيف يزاحمه من كان حقه متأخرا عن
حق غريم المولى وهذا لأنه لو زاحمه فاستوفى
منه شيئا لم يسلم له ذلك بل يأخذه غريم المولى
منه لكونه مقدما عليه في ذلك ثم يأخذ ذلك منه
غريم العبد في صحة المولى لأن حقه مقدم على
حقه فلخلوه عن الفائدة لا يشتغل به.
ولو لم يكن على المولى دين يحاص غرماء العبد
الأولين والآخرين فيما في يده لأن صحة إقرار
العبد في حق غرمائه بكونه مأذونا له في
التجارة وقد جمع الإقرارين حالة واحدة وهي
حالة الإذن فيجعل كل واحد منهما مزاحما لصاحبه
في كسب العبد ورقبته بمنزلة ما لو
ج / 26 ص -45-
أقر
لهما بالدين معا إلا أن يكون أقر بشيء بعينه
لإنسان فإنه يبدأ فيسلم للمقر له لأن إقراره
بذلك صحيح ما دام مأذونا له في التجارة وتبين
بإقراره أن تلك العين ليست من كسبه وإنما
يتعلق حق غرمائه بكسبه.
والحاصل: أنه إذا لم يكن على
المولى دين فحال مرضه في أقارير العبد كحال
صحته ولو لم يقر العبد بذلك في مرض مولاه
ولكنه التزمه بسبب عاينه الشهود لزمه ذلك مثل
ما يلزمه في صحة مولاه لأنه مأذون على حاله
ولا تهمة في السبب الذي وجب به الدين.
ألا ترى أن المولى لو باشر هذا الدين كان
الدين الواجب به مساويا لدين الصحة فكذلك إذا
باشره العبد ودين العبد في كسبه ومالية رقبته
مقدم على دين المولى فما لم يقض ديونه لا يسلم
لغريم المولى شيء من ذلك.
ولو مرض المولى ولا دين على واحد منهما وقيمة
العبد ألف درهم فأقر المولى على نفسه بدين ألف
درهم ثم مات المولى فإن العبد يباع فيتحاص
الغريمان في ثمنه لأن ما أقر به العبد على
نفسه بمنزلة ما لو أقر به المولى على نفسه ولو
أقر المولى في مرضه بدين ثم بدين يحاص
الغريمان فيه لأن الإقرارين جميعهما حالة
واحدة فهذا مثله.
ولو كان إقرار العبد أولا بدىء به لأن حق
المقر له بنفس الإقرار تعلق بمالية رقبته فكان
في حق المولى بمنزلة الإقرار بالعين ولو أقر
المولى في مرضه بعين ثم بدين كان المقر له
أولى بالعين بخلاف ما إذا أقر بدين ثم بعين
يتحاصان فيه فإقرار العبد مع إقرار المولى
بمنزلة ذلك في المعنى وهذا لأنه إذا سبق إقرار
المولى فقد تعلق حق المقر له بمال المولى فلا
يصدق العبد على إبطال حق غريم المولى عنه بعد
ذلك لأن صحة إقراره نادر فكما لا يبطل حق غريم
المولى بإقرار المولى برقبته لإنسان فكذلك لا
يبطل بإقرار العبد بخلاف ما إذا سبق إقرار
العبد لأنه حين أقر لم يكن لأحد حق في مالية
رقبته وثبت فيه حق المقر له فلا يصدق المولى
بعد ذلك في إثبات المزاحمة لمن يقر له مع غريم
العبد.
ولو بدأ المولى فأقر بدين ألف ثم بألف إقرارا
متصلا أو منقطعا ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات
المولى فإن الغرماء الثلاثة يتحاصون في ثمنه
فيكون الثمن بينهم أثلاثا لأن إقرار المولى
لما جمعهما حالة واحدة جعلا كأنهما واحد معا
ولا حق لغريم العبد حين وجد الإقرار من المولى
ثم أقر العبد بعد ذلك وهو مأذون فيكون إقراره
كإقرار المولى بألف قدر ماليته فيتحاصون في
ثمنه فكذلك لو كان العبد أقر بألف ثم بألف
إقرارا متصلا أو منقطعا ضربوا بجميع ذلك مع
غرماء المولى لأن أقارير العبد حصلت وهو مأذون
له فجعل في الحكم كأقارير المولي وقد جمع الكل
حالة واحدة.
ولو أقر المولى بدين ألف درهم ثم أقر العبد
بدين ألف ثم أقر المولى بدين ألف يتحاصون
جميعا لأن إقرار المولى لما سبق كان مانعا من
سلامة مالية الرقبة للذي أقر له العبد فنزل
إقراره بعد إقرار المولى بمنزلة إقرار المولى
وقد جمع الأقارير حالة واحدة فيتحاصون في ثمنه
ولو
ج / 26 ص -46-
كان
العبد أقر بدين ألف قبل إقرار المولى ثم أقر
المولى على نفسه بدين ثم أقر العبد بدين ألف
ثم مات المولى فإن ثمن العبد لغريمه دون غريم
المولى لأن حق الغريم الأول للعبد لما تعلق
بمالية رقبته كان ذلك مانعا صحة إقرار المولى
في حق مالية الرقبة بعد ذلك لأنه لا فضل في
قيمته على ما أقر به العبد أولا فكان إقرار
المولى في حق مالية الرقبة وجوده كعدمه وإنما
بقي الإقرار من العبد وقد جمعهما حالة واحدة
فكان ثمن العبد بينهما.
ولو كانت قيمته ألفي درهم فأقر العبد بدين ألف
درهم ثم أقر المولى بدين ألف درهم ثم مات فإنه
يباع فيوفى غريم العبد حقه وغريم المولى حقه
لأن في الثمن المقبوض وفاء بالدين وإن نقصت
قيمته فبيع بألف درهم فهي لغريم العبد خاصة
لأن حقه في ماليته مقدم على حق غريم المولى
لتقدم إقراره وإنما ثبت حق غريم المولى في
الفضل ولم يفضل شيء وإن بيع بألف وخمسمائة
كانت ألف منها لغريم العبد والباقي لغريم
المولى لأن حقه في الفاضل وصار هذا نظير حق رب
المال مع حق المضارب فإن حق رب المال في رأس
المال أصل وحق المضارب في الربح تبع فإنما
يثبت في الفضل فإذا لم يظهر الفضل فلا شيء له
فإن قل الفضل كان حقه بقدر ذلك.
ولو كان أقر بدين ألف وقيمته ألفان ثم أقر
المولى بدين ألف ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات
المولى فبيع العبد بالدين اقتسمه الغرماء
أثلاثا لأنه كان في مالية الرقبة عند إقرار
المولى فضلا عن دين العبد بقدر ألف فيثبت حق
الغريم فيه ثم الإقرار من العبد صحيح لبقاء
الإذن وإن اشتغل جميع ماليته بالدين فإذا كانت
الديون كلها ثابتة عليه اقتسم الغرماء ثمنه
أثلاثا وإن بيع بألف وخمسمائة اقتسموه أخماسا
لأن حق غريم المولى إنما ثبت فيه بقدر الفضل
وقد ظهر أن الفضل كان بقدر خمسمائة حين أقر
المولى بألف درهم فإنما يثبت من دين غريمه في
حق مزاحمة غريمي العبد مقدار خمسمائة فإذا ضرب
هو بخمسمائة وكل واحد من غريمي العبد بألف كان
الثمن بينهم أخماسا لأنك تجعل كل خمسمائة سهما
وإن بيع بألف كانت لغريمي العبد خاصة لأن حق
غريم المولى ثبت باعتبار الفاضل ولم يفضل من
ماليته شيء على الدين الأول الذي أقر به العبد
حين بيع بألف وخمسمائة.
ولو بدأ المولى فأقر عليه بدين ألف درهم وقيمة
العبد ألفان ثم أقر العبد بدين ألف ثم أقر
المولى بدين ألف فإن الثمن يقسم بين الغرماء
بالحصص أثلاثا لأن حق غريم المولى الأول ثبت
في ماليته وكذلك حق غريم العبد لأن إقراره بعد
إقرار المولى كإقرار المولى وكذلك حق الذي أقر
له المولى آخرا قد ثبت فيه لأن الإقرارين
جميعا من المولى جميعهما حالة واحدة فيتحاصون
في ثمنه.
ولو بدأ العبد فأقر بدين ألف درهم ثم أقر
المولى بدين ألف ثم بألف ثم بألف إقرارا متصلا
أو منقطعا ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات
المولى فبيع بألفي درهم ضرب فيه غرماء العبد
كل واحد منهما بجميع دينه وضرب فيه غرماء
المولى كلهم بألف فقط لأن مقدار
ج / 26 ص -47-
الألف
من ماليته قد اشتغل بدين الذي أقر له العبد
أولا ثم الإقراران من المولى جمعهما حالة
واحدة فكأنهما وجدا معا والفاضل من المالية
عند إقرار المولى مقدار ألف فيثبت حق غرماء
المولى في ذلك المقدار خاصة فلهذا ضرب غرماء
المولى بألف درهم وكل واحد من غريمي العبد
بجميع دينه.
ولو بيع بألف وخمسمائة ضرب فيه غرماء العبد
بجميع دينهم وغرماء المولى كلهم بخمسمائة لأن
الفاضل عن أقارير المولى بقدر خمسمائة فيكون
الثمن مقسوما بينهم أخماسا لكل واحد من غريمي
العبد خمساه ستمائة ولغريم المولى خمسه
ثلاثمائة فإن اقتسموه على ذلك ثم خرج بعد ذلك
دين كان للسيد على الناس فخرج منه ألف أو
ألفان وخمسمائة فغرماء المولى أحق بذلك لأنه
قد بقي من دينهم ذلك القدر وزيادة ولا حق
لغرماء العبد في تركة المولى وهم ما ضربوا مع
غرماء العبد في ثمنه بقدر ألفين وخمسمائة
فلهذا كانوا أحق بجميع ما خرج منه فإن خرج منه
ثلاثة آلاف أخذ غرماء المولى من ذلك ألفين
وسبعمائة وأخذ غرماء العبد من ذلك ثلاثمائة
لأنه بقي من حق غرماء المولي ألفان وسبعمائة
فيأخذون ذلك وقد كان يقضى بقدر ثلاثمائة من
ثمن العبد دين المولى فيكون ذلك دينا لغرماء
العبد في تركة المولى فيأخذون هذه الثلثمائة
بحساب ذلك فإن كان الذي خرج من ذلك ألفان
وستمائة يأخذ غرماء المولى من ذلك ألفين
وخمسمائة وخمسين وأخذ غرماء العبد من ذلك
خمسين لأن ما تأخر خروجه من دين المولى معتبر
بما لو تقدم خروجه على قسمة ثمن العبد ولو
تقدم خروج هذا المقدار كان كله لغرماء السيد
ثم بقي من دينهم أربعمائة ودين غريمي العبد
ألفي درهم فيضرب كل واحد منهم في ثمن العبد
وهو ألف وخمسمائة بمقدار دينه.
وإذا ضرب غرماء العبد بألفين وغرماء المولى
بما بقي من دينهم وهو أربعمائة كان السبيل أن
يجعل كل أربعمائة سهما فيصير حق غريمي العبد
خمسة وحق غرماء المولى سهما فتبين أن الذي سلم
لهم سدس ثمن العبد وذلك مائتان وخمسون وقد
استوفوا ثلاثمائة فعليهم رد ما أخذوه زيادة
على حقهم وذلك خمسون درهما ولو كان العبد لم
يقر بالدين الأول والمسألة بحالها أخذ غرماء
السيد ما خرج من دين السيد وهو ألفان وستمائة
ثم يباع العبد فإن بيع بألف ضرب فيه غرماء
المولى بما بقي لهم وغريم العبد بجميع دينه
وهو ألف فكان الثمن بينهم أسباعا خمسة أسباعه
لغريم العبد وسبعاه لغرماء المولى.
ولو كانت قيمة العبد ألفي درهم فأقر العبد في
مرض المولى بدين ألف درهم ثم أقر المولى بدين
ألف ثم اشترى العبد عبدا يساوي ألفا بألف
وقبضه بمعاينة الشهود فمات في يديه ثم مات
السيد ولا مال له غير العبد فبيع بألفي درهم
اقتسمه غرماء العبد بينهم ولا شيء فيه لغريم
المولى لأن الذي وجب على العبد بمعاينة الشهود
بمنزلة دين الصحة وصاحبه أحق بمالية العبد ممن
أقر له المولى في مرضه وقد أقر له العبد أولا
بدين ألف فظهر أنه لا فضل في ثمنه على دين
المعاينة وعلى الذي أقر به العبد أولا وصحة
إقرار المولى باعتبار الفضل،
ج / 26 ص -48-
فإذا
لم يظهر بطل دين المولى فصار كالمعدوم وكان
ثمن العبد بين غرمائه ولو لم يشتر العبد
المأذون ولكن المولى هو الذي اشترى عبدا يساوي
ألفا وقبضه بمعاينة الشهود فمات في يده ثم مات
المولى من مرضه والمسألة بحالها وبيع العبد
بألف فإنه يبدأ بدين البائع لأن ما وجب على
المولى بمعاينة الشهود في مرضه بمنزلة دين
الصحة وقد بينا أن دين الصحة على المولي مقدم
على ما أقر به العبد في مرض مولاه لأن صحة
إقرار العبد باستدامة المولى الإذن له فلهذا
بدئ بدين البائع وما بقي بعد ذلك فهو بين
غرماء العبد ويستوي إن كان الإذن في صحة
المولى أو في مرضه لأن استدامة الإذن بعد
المرض كاكتسابه.
ألا ترى أنه لو أذن له في التجارة في صحته ثم
مرض فأقر العبد لبعض ورثة المولى بدين ثم مات
المولى أن إقراره باطل سواء كان على المولى
دين محيط أو لم يكن لإقرار العبد بقدر ما أذن
له في مرضه واستدامة إذنه في مرضه بمنزلة
إقرار المولى به ثم إقرار المريض لوارثه باطل
ولو مات المولى فصار العبد المأذون محجورا
عليه بموته ثم أقر بدين لم يجز إقراره لأن
الملك فيه انتقل إلى الوارث فهو بمنزلة ما لو
انتقل الملك فيه إلى غيره في حياته ببيع أو
هبة فإن أذن له الوارث في التجارة جاز إذنه
لأنه على ملكه فإن أقر العبد بعد إذنه بدين
جاز إقراره وشارك المقر له أصحاب الدين
الأولين لأن ملك الوارث خلف عن ملك المورث
فيجعل بمنزلة ملك المورث في حياته.
ولو حجر عليه بعد ما لحقه ديون ثم أذن له فأقر
بدين آخر شارك المقر له أصحاب الدين الأولين
لأن الإقرار له حصل في حال انفكاك الحجر عنه
بخلاف من أقر له في حالة الحجر فهذا مثله ولو
كان على المولى الميت دين لم يجز إذن الوارث
له في التجارة ولا إقرار العبد بالدين لأن دين
المولى يمنع ملك الوارث وتصرفه.
فإن قيل: في هذا الموضع مالية
العبد مستحقة لغرماء العبد ولا حق فيه لغرماء
المولى فيجعل دين المولى كالمعدوم ودين العبد
لا يمنع ملك الوارث فينبغي أن يصح إذنه في
التجارة.
قلنا: دين المولى لا يظهر في
مزاحمة غرماء العبد فأما في حق وارث المولى
فهذا ظاهر.
ألا ترى أنه لو سقط دين العبد كان مالية العبد
لغرماء المولى دون ورثته فلهذا لا يصح تصرف
الوارث بالإذن في التجارة في هذه الحالة والله
أعلم.
باب بيع المأذون وشرائه وإقراره في مرض المولى
قال رحمه الله: وإذا أذن
المولى لعبده في التجارة ثم مرض المولى فباع
العبد بعض ما كان في يده من تجارته واشترى
شيئا فحابى في ذلك ثم مات المولى ولا مال له
غير العبد وما في يده فجميع ما فعل من ذلك مما
يتغابن الناس فيه أو ما لا يتغابن الناس فيه
فهو جائز في قول أبي حنيفة من ثلث مال المولى
لأن العبد بانفكاك الحجر عنه بالإذن صار مالكا
للمحاباة مطلقا في قول أبي حنيفة حتى لو باشره
في صحة المولى كان ذلك صحيحا منه والمولى حين
استدام الإذن بعد مرضه جعل تصرف العبد بإذنه
كتصرفه بنفسه.
ج / 26 ص -49-
ولو
باع المولى بنفسه وحابى يعتبر من ثلث ماله
المحاباة اليسيرة والفاحشة في ذلك سواء فكذلك
إذا باشره العبد وفي قول أبي يوسف ومحمد
محاباته بما يتغابن الناس فيه كذلك فأما
محاباته بما لا يتغابن الناس فيه فباطلة وإن
كان يخرج من ثلث المولى لأن العبد عندهما لا
يملك هذه المحاباة في الإذن في التجارة حتى لو
باشره في صحة المولى كان باطلا وكذلك إن كان
على العبد دين لا يحيط برقبته وبجميع ما في
يده كان قولهم في إمضاء محاباة العبد بعد
الدين من ثلث مال المولى على ما بينا لأن قيام
الدين على العبد لا يغير حكم انفكاك الحجر عنه
بالإذن وإن كان على المولى دين محيط برقبة
العبد وبما في يده ولا مال له غيره لم يجز
محاباة العبد بشيء لأن مباشرته كمباشرة المولى
وقيل للمشتري إن شئت فانقض البيع وإن شئت فأد
المحاباة كلها لأنه لزمه زيادة في الثمن لم
يرض هو بالتزامها فيتخير لذلك.
وإن لم يكن على المولى دين وكان على العبد دين
يحيط برقبته وبجميع ما في يده فمحاباة العبد
جائزة على غرمائه من ثلث مال المولى لأن حكم
الإذن لم يتغير بلحوق الدين إياه والمحاباة
وإن جازت على الغرماء فإنما هي من مال المولى
ولو كان الذي حاباه العبد بعض ورثة المولى
كانت المحاباة باطلة في جميع هذه الوجوه لأن
مباشرة العبد كمباشرة المولى والمريض لا يملك
المحاباة في شيء مع وارثه.
ولو أن رجلا دفع إلى هذا العبد جارية يبيعها
له في مرض المولى فباعها من وارث المولى
وحاباه فيها جاز ذلك لأن هذه المحاباة ليست من
مال المولى ولا شيء على ورثة المولى وهذا
التصرف من العبد لم يكن نفوذه بإذن المولى بل
هو ثابت عن الموكل وإنما ينفذ بوكالته وكأنه
باشره بنفسه ولو باع العبد في مرض مولاه شيئا
ولم يحاب فيه ولا دين على واحد منهما أو اشترى
ولم يحاب فيه ثم أقر بقبض ما اشترى أو بقبض
ثمن ما باع ثم مات المولى فإقراره جائز بمنزلة
ما لو كان المولى هو الذي باشر هذا التصرف
وأقر بقبض الثمن وكذلك إن كان على العبد دين
كبير.
ولو كان على المولى دين كثير يحيط برقبته وما
في يده لم يصدق على القبض إلا بالبينة لأن
إقراره بالقبض في المعنى إقرار بالدين فإنه
يقول وجوبه علي بالقبض مثل ما كان لي عليه ثم
صار قصاصا ودين العبد يمنع صحة إقراره على
نفسه بالدين في مرضه فكذلك يمنع صحة إقراره
بالقبض وأما دين المولى في صحته فيمنع إقرار
العبد على نفسه بالدين في مرضه فكذلك يمنع صحة
إقراره بالقبض ويقال للمشتري إن شئت فأد الثمن
مرة أخرى وإن شئت فانقض البيع لأنه لزمه زيادة
في الثمن لم يرض بالتزامها وإقرار العبد في
إثبات الخيار للمشتري زيادة في الثمن صحيح وإن
لم يكن صحيحا في وصول الثمن إليه لتمكنه من
إقالة العقد معه ولو كان الذي بايعه بعض ورثة
المولى لم يجز إقرار العبد بالقبض منه كان
عليه أو على المولى دين أو لم يكن كما لا يجوز
إقراره له بالدين وكما لا يجوز إقرار المولى
بالقبض منه في مرضه لو كان هو الذي عامله
والله أعلم.
ج / 26 ص -50-
باب إقرار العبد في مرضه
قال رحمه الله: وإذا مرض
العبد فأقر بوديعة أو بدين أو بشراء شيء أو
غيره من وجوه التجارات ثم مات من مرضه ولا دين
عليه في الصحة فإقراره جائز وهو بمنزلة الحر
في ذلك لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك
الحجر عنه بالعتق والمرض لا ينافيه وإن كان
عليه دين الصحة بدئ بدين الصحة لأنه لا يكون
انفكاك الحجر عنه بالإذن فوق انفكاك الحجر عنه
بالعتق وفي حق الحر دين الصحة مقدم على ما أقر
به في مرضه من دين أو عين فكذلك في حق العبد.
فإن قيل: في حق الحر الحكم
يتغير بمرضه من حيث تعلق حق الغرماء والورثة
بماله وذلك لا يوجد في حق العبد فإن الدين
الذي في صحته كان متعلقا بكسبه ومالية رقبته
قبل مرضه والحق في كسبه ومالية رقبته بعد
الدين لمولاه وهو المسلط له على الإقرار
فينبغي أن يسوى بين ما أقر به في الصحة وبين
ما أقر به في المرض.
قلنا: نعم ولكن انفكاك الحجر
بالإذن فرع انفكاك الحجر عنه بالعتق والفرع
يلتحق بالأصل في حكمه وإن لم توجد فيه علته
لأنه منع ثبوت الحكم في البيع بثبوته في الأصل
ثم لو أعتقه المولى بعد ما مرض ثم أقر بدين
كان حق غرماء الصحة مقدما في ماله على ما أقر
به في مرضه بعد العتق فلا يكون مقدما على ما
أقر به في مرضه قبل العتق كان أولى.
ولو كان الذي لحقه من الدين ببينة شاركوا
أصحاب دين الصحة لانتفاء التهمة فيما ثبت عليه
بالبينة وهو في ذلك بمنزلة الحر في العين
والدين جميعا وكذلك في الإقرار بالدين
والوديعة في تقديم أحدهما على الآخر وفيما
يلحقه من ذلك ببينة وعليه دين الصحة هو كالحر
وقد بينا هذه الفصول في الحر في كتاب الإقرار
فكذلك في العبد وإذا لم يكن عليه دين في الصحة
فأقر في مرضه على نفسه بدين ألف درهم وأقر
باستيفاء ألف درهم ثمن مبيع وجب له في مرضه
على رجل لم يصدق على قبضه ولكن يقسم ما كان
عليه بينه وبين الغريم الآخر نصفين لأن إقراره
بالقبض بمنزلة إقراره له بالدين وذلك صحيح منه
إلا أنه قضاه ذلك الدين بماله في ذمته فكأنه
قضاه ذلك بعين في يده والمريض المأذون لا يملك
تخصيص أحد الغريمين بقضاء الدين وهو في ذلك
بمنزلة الحر فلهذا كان ما على الغريم بينه
وبين الآخر نصفين وإذا مرض المأذون وعليه دين
الصحة فقضى بعض غرمائه دون بعض لم يجز لأنه لو
قضى بعضهم في صحته لم يجز وكان للآخرين حق
المشاركة معه لتعلق حق الكل بكسبه فإذا قضاه
في مرضه أولى وهذا لأن في إيثاره بعض الغرماء
بقضاء الدين إسقاط حق الباقين عن ذلك المال
وهو لا يملك إسقاط حق الغرماء عن شيء من كسبه.
ولو اشترى في مرضه شيئا بمعاينة الشهود وقبضه
ثم نقد ثمنه وهلك الشيء في يده ثم مات العبد
لم يكن لغرمائه على البائع سبيل فيما قبض من
الثمن لأنه في ذلك بمنزلة المولى وهذا التصرف
من الحر صحيح مطلقا فمن العبد كذلك.
ج / 26 ص -51-
أرأيت
لو استقرض منه ألف درهم ثم ردها عليه بعينها
أكان للغرماء على ذلك سبيل فكذلك إذا رد مثلها
وإذا ثبت هذا فيما إذا فعله العبد في مرضه فهو
أولى فيما إذا فعله في صحته ولو كان هذا أجر
أجيرا أو مهر امرأة في صحة أو مرض كان للغرماء
أن يشاركوا المرأة والأجير فيما قبض وهذا فرق
قد بيناه في الحر أنه إذا لم يدخل في ملك نفسه
ظاهرا إما أن يكون مثلا لمال أخرجه من ملكه في
حق الغرماء فلا يسلم للقابض ما قبض لتحقق معنى
إيثار بعض الغرماء فيه بخلاف ما إذا دخل في
ملكه مثل ما أخرج من ملكه فيما قبض يتعلق به
حق الغرماء.
قال وإذا حابى العبد في مرضه ولا دين عليه ثم
مات فالمحاباة جائزة لأن كسبه لمولاه والمولى
راض بتصرفه وهو الذي سلطه على هذه المحاباة
بخلاف الحر فإن ماله لورثته بعد موته ولم يوجد
منهم الرضا بمحاباته وكان معتبرا من ثلث ماله
وكذلك إن كان عليه دين فوفى ماله في الدين ولم
يف ماله بالدين لم تجز المحاباة لأن كسبه حق
غرمائه ولم يوجد منهم الرضا بتصرفه ومحاباته
فهو في حقهم بمنزلة الحر المريض.
وإذا مرض المأذون فوجب له على رجل ألف درهم من
ثمن بيع أو غيره فأقر باستيفائها له لزمته ولا
دين على المأذون ولا مال له غير ذلك الدين ثم
أقر بعد ذلك على نفسه بدين ألف ثم مات فإقراره
بالاستيفاء جائز لأنه حين أقر بالاستيفاء لم
يكن لأحد في تركته حق سوى مولاه والمولى هو
المسلط له على هذا الإقرار فيصح إقراره في حقه
وترك ذلك بمنزلة ما لو أقر بدين ثم قضاه وذلك
صحيح منه وإن أقر بالدين بعد ذلك لأن ما قضاه
يخرج من أن يكون كسبا له ودينه إنما يتعلق
بكسبه ولو لم يقر بالدين ولكنه لحقه دين
بمعاينة الشهود بطل إقراره بالاستيفاء لأن ما
وجب عليه بالمعاينة بمنزلة الدين الظاهر عليه
حين أقر بالاستيفاء إذ لا تهمة في شهادة
الشهود فلهذا يبطل إقراره بالاستيفاء والله
أعلم بالصواب.
ومن كتاب المأذون الصغير
قال رحمه الله: ولو أن عبدين تاجرين كل واحد
منهما لرجل اشترى كل واحد منهما صاحبه من
مولاه فإن علم أيهما أول وليس عليه دين فشراء
الأول لصاحبه جائز لأن المولى مالك لبيعه ولو
باعه من أجنبي جاز بيعه فكذلك إذا باعه من عبد
مأذون لغيره ثم قد صار هذا المشترى ملكا لمولى
المشتري وصار محجورا عليه فشراؤه الثاني من
مولاه باطل لكونه محجورا عليه ولأنه يشتري عبد
مولاه من مولاه ولا دين عليه وهذا الشراء من
المأذون لا يصح لكونه غير مفيد وإن لم يعلم أي
البيعين أول فالبيع مردود كله بمنزلة ما لو
حصلا معا ولأن الصحيح أحدهما وهو مجهول والبيع
في المجهول لا يصح أبدا وإن كان على واحد
منهما دين لم يجز شراء الأول إلا أن يجيز ذلك
غرماؤه لأن بيع مولاه إياه من عبد مأذون كبيعه
من حر وذلك لا يجوز بدون إجازة الغرماء لأن
ماليته حقهم.
ولو اشترى المأذون أمة فوطئها فولدت له فادعى
الولد وأنكر ذلك مولاه صحت دعواه
ج / 26 ص -52-
وثبت
نسبه منه لأن الدعوى تصرف منه وهو في التصرف
في كسبه بمنزلة الحر وليس من شرط صحة الدعوى
وثبوت النسب كون الأمة حلالا له.
ألا ترى أن المكاتب لو ادعى نسب ولد جاريته
ثبت النسب وكذلك الحر لو ادعى نسب ولد جاريته
وهي ممن لا تحل له ثبت نسبه منه فكذلك العبد.
فإن كانت جارية لمولاه من غير تجارة العبد لم
يثبت النسب منه بالدعوى لأنه لا حق له في
التصرف فيها ودعواه تصرف منه وهو في سائر
أموال المولى كأجنبي آخر فلا تصح دعواه ما لم
يصدقه المولى فإن أقر أنه وطئها ولم تلد ثم
استحقها رجل فلا مهر له على العبد حتى يعتق
أما في جارية المولى فلأنه لم يأذن له في
جماعها ففعله بها يكون زنا والزنا لا يوجب
المهر وبالاستحقاق يتقرر معنى الزنى وأما في
الجارية التي هي من كسبه فإقراره بوطئها صحيح
وذلك ليس بزنا يوجب الحد حتى يتعلق به ثبوت
النسب إذا ادعاه فإذا استحقت أخذه بالعقر في
الحال بمنزلة ما لو باشر وطأها بمعاينة الشهود
ولأن وجوب المهر ها هنا باعتبار سبب هو تجارة
فيؤاخذ به في الحال وقد بينا الفرق بينه وبين
النكاح.
وإذا أذن الراهن للعبد المرهون في التجارة
فتصرف ولحقه دين فهو مرهون على حاله لأن قيام
حق المرتهن يمنع المولى من اكتساب سبب يثبت
الدين به عليه في مزاحمة المرتهن فكذلك إذا
أذن له في التصرف فلحقه دين فإذا استوفى
المرتهن ماله بيع في الدين لأن المانع حق
المرتهن وقد سقط فإن فضل من دينه شيء فلا سبيل
للغرماء حتى يعتق كما لو لم يكن العبد مرهونا
وإن كان العبد تاجرا وله على رجل ألف درهم ثم
إن مولى العبد وهب العبد للغريم وقبضه جازت
الهبة والدين لازم عليه لمولى العبد على حاله
لأنه وهب العبد دون المال والمال كسب العبد في
ذمة المديون فهو نظير مال هو عين في يده فلا
تتناوله الهبة ولكنه سالم لمولاه بعد إخراجه
العبد من ملكه بالهبة.
ولو كان على العبد المأذون دين خمسمائة وقيمته
ألف فكفل لرجل عن رجل بألف درهم بإذن مولاه ثم
استدان ألفا أخرى ثم كفل بألف أخرى ثم بيع
العبد بألف فيقول أما الكفالة الأولى فيبطل
نصفها ويضرب صاحبها بنصفها في ذمته لأن الفارغ
عن ماليته عند الكفالة الأولى كان بقدر
خمسمائة وكفالته بإذن المولى إنما تصح فيما هو
فارغ عن ماليته عن حق غريمه وقت الكفالة فيثبت
من دين المكفول له الأول مقدار خمسمائة درهم
والكفالة الثانية باطلة لأنه حين كفل بها لم
يكن شيء من ماليته فارغا فيضرب صاحب الدين
الأول بخمسمائة وصاحب الدين الثاني بجميع دينه
وهو ألف وصاحب الكفالة الأولى بخمسمائة فيصير
ثمن العبد وهو ألف درهم بينهم أرباعا غير أنك
تجعل كل خمسمائة سهما بقدر مائتين وخمسين يسلم
لصاحب الدين الأول ومثله لصاحب الكفالة الأولى
ومقدار خمسمائة لغريم العبد الآخر وعلى هذا
جميع الأوجه وقياسه والله أعلم. |