المبسوط
للسرخسي دار المعرفة [كِتَابُ الْحُدُودِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْحُدُودِ
(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ
وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ
السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إمْلَاءً
: الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ
حَدَّادًا لِمَنْعِهِ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ وَسُمِّيَ اللَّفْظُ
الْجَامِعُ الْمَانِعُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَانِيَ الشَّيْءِ
وَيَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ فِيهِ فَسُمِّيَتْ الْعُقُوبَاتُ حُدُودًا؛
لِكَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا. وَفِي الشَّرْعِ،
الْحَدُّ: اسْمٌ لِعُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى بِهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ
وَلَا يُسَمَّى بِهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعِبَادِ وَهَذَا؛
لِأَنَّ وُجُوبَ حَقِّ الْعِبَادِ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ
فَأَمَّا مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَالْمَنْعُ مِنْ ارْتِكَابِ
سَبَبِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ
لِيُحْتَاجَ فِي حَقِّهِ إلَى الْجُبْرَانِ
وَهِيَ أَنْوَاعٌ فَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ نَوْعَيْنِ: مِنْهَا حَدُّ
الزِّنَا وَحَدُّ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا، وَسَبَبُ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَا يُضَافُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ تُضَافُ إلَى
أَسْبَابِهَا وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ
لِتَيْسِيرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْعِبَادِ لَا أَنْ تَكُونَ الْأَسْبَابُ
هِيَ الْمُوجِبَةُ، ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا نَوْعَانِ: رَجْمٌ فِي حَقِّ
الْمُحْصَنِ، وَجَلْدٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ.
وَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ الْحَبْسُ فِي الْبُيُوتِ
وَالتَّعْيِيرُ وَالْأَذَى بِاللِّسَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] وَقَالَ {فَآذُوهُمَا}
[النساء: 16] ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خُذُوا
عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ
مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ
وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ
النُّورِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ خُذُوا عَنِّي، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ
نُزُولِهَا لَقَالَ خُذُوا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَى الْجَلْدِ فِي حَقِّ
غَيْرِ الْمُحْصَنِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَأَمَّا الْجَلْدُ
فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا الرَّجْمُ فَهُوَ
حَدٌّ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، إلَّا عَلَى
قَوْلِ الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الرَّجْمَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا
يَقْبَلُونَ الْأَخْبَارَ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ
(9/36)
«أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا بَعْدَ مَا سَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ
وَرَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ، وَحَدِيثُ الْعَسِيفِ حَيْثُ قَالَ: وَاغْدُ يَا
أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» دَلِيلٌ
عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى
الْمِنْبَرِ: وَإِنَّ مِمَّا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الشَّيْخَ
وَالشَّيْخَةَ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ وَسَيَأْتِي
قَوْمٌ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ زَادَ
عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ
وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ غَيْرُ
مَشْرُوعٍ حَدًّا عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ هُمَا حَدُّ
الْمُحْصَنِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ»
وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ
الْهَمْدَانِيَّةَ، ثُمَّ رَجَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: جَلَدْتهَا بِكِتَابِ
اللَّهِ وَرَجَمْتهَا بِالسُّنَّةِ.
(وَحُجَّتنَا) حَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ قَدْ رَجَمَهُمَا رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا،
وَقَالَ: فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ عَنْ ارْتِكَابِ السَّبَبِ وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ
مِنْ الزَّجْرِ بِعُقُوبَةٍ تَأْتِي عَلَى النَّفْسِ بِأَفْحَشِ الْوُجُوهِ
فَلَا حَاجَةَ مَعَهَا إلَى الْجَلْدِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ اشْتِغَالٌ
بِمَا لَا يُفِيدُ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا
حَدًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَدْ انْتَسَخَ
وَقِيلَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ
الْجَلْدُ فِي حَقِّ ثَيِّبٍ هُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَالرَّجْمُ فِي حَقِّ
ثَيِّبٍ هُوَ مُحْصَنٌ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَلَدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ إحْصَانَهَا ثُمَّ
عَلِمَ إحْصَانَهَا فَرَجَمَهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَنَا عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ فِي الْجَامِعِ
ثُمَّ سَبَبُ هَذَا الْحَدِّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِالشَّهَادَةِ
تَارَةً وَبِالْإِقْرَارِ أُخْرَى فَبَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِ مَا
يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ فَقَالَ وَالزِّنَا مُخْتَصٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ
الْحُقُوقِ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}
[النساء: 15] وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِيهِ مَعْنًى وَهُوَ
أَنَّ الزِّنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِاثْنَيْنِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ لَا
يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ
شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ كَمَا يُثْبِتُ فِعْلَ الْوَاحِدِ يُثْبِتُ فِعْلَ
الِاثْنَيْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السَّتْرَ
عَلَى عِبَادِهِ وَإِلَى ذَلِكَ نَدَبَ وَذَمَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى السَّتْرِ شُرِطَ زِيَادَةُ الْعَدَدِ
فِي الشُّهُودِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَإِلَيْهِ «أَشَارَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ لِهِلَالِ
بْنِ أُمَيَّةَ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك
وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك» وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - حِين شَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرَةَ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ
وَنَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - بِالزِّنَا فَقَالَ لِزِيَادٍ وَهُوَ الرَّابِعُ بِمَ
تَشْهَدُ فَقَالَ: أَنَا رَأَيْت أَقْدَامًا بَادِيَةً وَأَنْفَاسًا
عَالِيَةً وَأَمْرًا مُنْكَرًا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: رَأَيْتُهُمَا
تَحْتَ
(9/37)
لِحَافٍ وَاحِدٍ يَنْخَفِضَانِ
وَيَرْتَفِعَانِ وَيَضْطَرِبَانِ اضْطِرَابَ الْخَيْزُرَانِ، وَفِي
رِوَايَةٍ: رَأَيْت رَجُلًا أَقْعَى وَامْرَأَةً صَرْعَى وَرِجْلَيْنِ
مَخْضُوبَتَيْنِ وَإِنْسَانًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ أَرَ مَا سِوَى
ذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَفْضَحْ
وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَفِي هَذَا بَيَانُ اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ لِإِبْقَاءِ سَتْرِ
الْعِفَّةِ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَتْ الْأَرْبَعَةُ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ
الْقَاضِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ؟
وَكَيْف هُوَ؟ وَمَتَى زَنَى؟ وَأَيْنَ زَنَى؟ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا
بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ، أَمَّا
السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ
يَعْتَقِدُ فِي كُلِّ وَطْءٍ حَرَامٍ أَنَّهُ زِنًى وَلِأَنَّ الشَّرْعَ
سَمَّى الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ زِنًى قَالَ «الْعَيْنَانِ
تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا
الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْفَرْجُ
يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُ» وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ إلَّا
بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا حَتَّى فَسَّرَ
كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرَّشَا فِي الْبِئْرِ؟ وَقَالَ لَهُ مَعَ
ذَلِكَ: لَعَلَّك قَبَّلْتهَا، لَعَلَّك مَسِسْتهَا حَتَّى إذَا ذَكَرَ
الْكَافَ وَالنُّونَ قَبْلَ إقْرَارِهِ.
وَالزِّنَا لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ الزِّنَا وَهُوَ الضِّيقُ وَلَا يَكُونُ
ذَلِكَ إلَّا بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ
فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَكَيْفِيَّتِهِ، وَأَمَّا
السُّؤَالُ عَنْ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ مُتَقَادِمًا
فَإِنَّ حَدَّ الزِّنَا بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ لَا يُقَامُ بَعْدَ
تَقَادُمِ الْعَهْدِ عِنْدَنَا وَالسُّؤَالُ عَنْ الْمَكَانِ لِتَوَهُّمِ
أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ
وِلَايَةِ الْإِمَامِ وَالسُّؤَالُ عَنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ مَاعِزًا عَنْ
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعَةً فَبِمَنْ زَنَيْت وَلِأَنَّ
مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِكَاحٌ أَوْ شُبْهَةُ نِكَاحٍ فِي
الْمَفْعُولِ بِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلشُّهُودِ فَإِذَا
فَسَّرُوا تَبَيَّنَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ
مَنْدُوبٌ إلَى الِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ كَمَا قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»
وَلَقَّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ أَسَرَقَ مَا إخَالُهُ سَرَقَ
وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اُطْرُدُوا الْمُعْتَرِفِينَ
يَعْنِي الَّذِينَ يُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ
لِلْحَدِّ وَمِنْ أَسْبَابِ احْتِيَالِ الدَّرْءِ أَنْ يَسْتَقْصِيَ مَعَ
الشُّهُودِ وَلِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا إذَا
وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَسْتَقْضِي
لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَالْقَاضِي لَا
يَعْرِفُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ
الشُّهُودِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ هَرَبَ فَلَا
يَظْفَرُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا وَجْهَ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ؛
لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا
فِيمَا بُنِيَ عَلَى الدَّرْءِ.
(فَإِنْ قِيلَ) الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ (قُلْنَا) حَبْسُهُ
لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ
صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ
(9/38)
فَيَحْبِسُهُ تَعْزِيرًا وَلِهَذَا لَا
يَحْبِسُهُ فِي الدُّيُونِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَلِأَنَّ
الْحَبْسَ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ هُنَاكَ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ
الْحَقُّ لَا يُعَاقِبُهُ إلَّا بِالْحَبْسِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ
قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِذَا ظَهَرَتْ عَدَالَةُ
الشُّهُودِ نَظَرَ فِي أَمْرِ الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رَجَمَهُ
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ جَلَدَهُ وَالْإِحْصَانُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ
بِهِ الرَّجْمُ لَهُ شَرَائِطُ فَالْمُتَقَدِّمُونَ يَقُولُونَ شَرَائِطُهُ
سَبْعَةٌ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ
وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ
الزَّوْجَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ فِي صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَالْإِسْلَامُ
وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ اثْنَانِ
الْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ
مِثْلُهُ، فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ
لِلْعُقُوبَةِ لَا شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ
الْمُخَاطَبِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِالْتِزَامِ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ
وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ لَا أَنْ تَكُونَ شَرْطُ
الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ فَأَمَّا الدُّخُولُ شَرْطٌ ثَبَتَ
بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثَّيِّبُ
بِالثَّيِّبِ» وَالثُّيُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالدُّخُولِ وَشَرَطْنَا
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الثُّيُوبَةَ عَلَى
مَا عَلَيْهِ أَصْلُ حَالِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحُرِّيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ
بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ سِوَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ
تَغْلِيظُ الْجَرِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ أَفْحَشُ الْعُقُوبَاتِ
فَيَسْتَدْعِي أَغْلَظَ الْجِنَايَاتِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا
بَعْدَ إصَابَةِ الْحَلَالِ يَكُونُ أَغْلَظَ وَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ
الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا فِي هَذَا الْإِحْصَانِ بِخِلَافِ إحْصَانِ
الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بَعْدَ الزِّنَا أَغْلَظُ فِي الْجَرِيمَةِ
مِنْ الزِّنَا بَعْدَ الْعِفَّةِ.
فَأَمَّا الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا وَعَنْ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِّي
عَنْهُمَا رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا» وَزَادَ فِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ وَقَدْ أُحْصِنَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ
عُقُوبَةٌ يَعْتَقِدُ الْكَافِرُ حُرْمَةَ سَبَبِهَا فَيُقَامُ عَلَيْهِ
كَمَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالْجَلْدِ وَالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ فِي
الْقِصَاصِ بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقَدُ حُرْمَةُ
سَبَبِهِ وَتَأْثِيرُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا اُشْتُرِطَ فِي
الْإِحْصَانِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِمَعْنًى تَغَلُّظِ الْجَرِيمَةِ،
وَغِلَظُ الْجَرِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ
الْحُرْمَةِ فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي دِينِهِ مُعْتَقِدًا لِلْحُرْمَةِ
كَالْمُسْلِمِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَكَانَ بِهِ
مُحْصَنًا، فَإِنَّ الْمُحْصَنَ مَنْ يَكُونُ فِي حِصْنٍ وَمُنِعَ مِنْ
الزِّنَا وَهُوَ بِاعْتِقَادِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ الزِّنَا، وَقَدْ أُنْذِرَ
عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ فِي دِينِهِ فَكَانَ مُحْصَنًا ثُمَّ لَا يَجُوزُ
اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ لِمَعْنَى الْفَضِيلَةِ وَالْكَرَامَةِ
وَالنِّعْمَةِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ سَائِرُ الْفَضَائِلِ مِنْ الْعِلْمِ
وَالشَّرَفِ وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ لِمَعْنَى
التَّغْلِيظِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَلْيَقُ بِهَذَا مِنْ الْإِسْلَامِ
فَالْإِسْلَامُ
(9/39)
لِلتَّخْفِيفِ وَالْعِصْمَةِ وَالْكُفْرُ
مِنْ دَوَاعِي التَّغْلِيظِ فَإِذَا كَانَ تُقَامُ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ
عَلَى الْمُسْلِمِ بِارْتِكَابِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فَعَلَى الْكَافِرِ
أَوْلَى.
(وَحُجَّتُنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ
أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» مَعْنَاهُ لَيْسَ بِكَامِلِ
الْحَالِ فَإِنَّ الْمُحْصَنَ مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ، وَالرَّجْمُ لَا
يُقَامُ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ وَالِاعْتِمَادُ فِي
الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالثُّيُوبَةِ فَإِنَّ الثُّيُوبَةَ
بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ شَرْطٌ لِإِيجَابِ الرَّجْمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْمَقْصُودَ انْكِسَارُ شَهْوَتِهِ بِإِصَابَةِ الْحَلَالِ وَهَذَا
الْمَقْصُودُ يَتِمُّ بِالْإِصَابَةِ بِمُلْكِ الْيَمِينِ كَمَا يَتِمُّ
بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ بِالنِّكَاحِ فَمَا كَانَ ذَلِكَ
إلَّا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى النِّعْمَةِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ مَا
يُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ الرَّجْمِ يُشْتَرَطُ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ
فَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ يُشْتَرَطُ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ
وَذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّعْمَةِ فِي
الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَوْجُودٌ إنَّمَا انْعَدَمَ نِهَايَتُهَا،
وَأَصْلُ النِّعْمَةِ مُنْعَدِمٌ هُنَا فِيمَا يَعْتَقِدُهُ الْكَافِرُ
وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْجَرِيمَةَ كَمَا تَتَغَلَّظُ بِاجْتِمَاعِ
الْمَوَانِعِ تَتَغَلَّظُ بِاجْتِمَاعِ النِّعَمِ وَلِهَذَا هَدَّدَ
اللَّهُ تَعَالَى نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُنَّ وَبِضِعْفِ مَا هَدَّدَ بِهِ
غَيْرَهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}
[الأحزاب: 30] لِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِنَّ وَعُوتِبَ
الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الزَّلَّاتِ
بِمَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ غَيْرُهُمْ لِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ،
وَالْحُرُّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ وَلَا يُقَامُ عَلَى
الْعَبْدِ لِزِيَادَةِ نِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ،
فَبَدَنُ الْعَبْدِ أَكْثَرُ احْتِمَالًا لِلْحَدِّ مِنْ بَدَنِ الْحُرِّ
فَعَرَفْنَا أَنَّ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ يَزْدَادُ تَغْلِيظُ
الْجَرِيمَةِ؛ لِمَا فِي ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ مِنْ كَفْرَانِ
النِّعْمَةِ، فَأَمَّا سَائِرُ الْفَضَائِلِ إنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ؛
لِأَنَّ شَرْطَ الْحَدِّ بِالرَّأْيِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَنَحْنُ
قُلْنَا مَا يَكُونُ شَرْطًا بِالِاتِّفَاقِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ
بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ اسْتِدْلَالًا بِالثُّيُوبَةِ، فَأَمَّا مَا لَمْ
يُعْرَفْ شَرْطًا لَوْ أَثْبَتْنَاهُ لَأَثْبَتْنَاهُ بِالرَّأْيِ
ابْتِدَاءً مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ مَا
يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ وَسَائِرُ الْفَضَائِلِ لَا
يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيُطْلَقُ
عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] فَأَمَّا الْعِفَّةُ، وَإِنْ كَانَ
يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ وَلَكِنَّ الْعِفَّةَ انْزِجَارٌ
عَنْ الزِّنَا، وَالِانْزِجَارُ عَنْ الزِّنَا مَعَ الْإِقْدَامِ عَلَى
الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ الْعِفَّةِ
مُقْتَرِنًا بِالزِّنَا وَلَا سَابِقًا عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا
تَتَغَلَّظُ بِهِ الْجَرِيمَةُ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِنَّ الْإِصْرَارَ
عَلَى الزِّنَا أَفْحَشُ فِي الْجَرِيمَةِ مَعَ أَنَّ الْعِفَّةَ
الْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِ الدِّينِ، فَإِذَا شَرَطْنَا أَصْلَ الدِّينِ
بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
دَعَا بِالتَّوْرَاةِ
(9/40)
وَبِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ
وَنَاشَدَهُ بِاَللَّهِ حَتَّى اعْتَرَفَ بِأَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي
كِتَابِهِمْ الرَّجْمُ فَرَجَمَهُمَا، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ أَحْيَا
سُنَّةً أَمَاتُوهَا، وَإِحْيَاءُ سُنَّةٍ أُمِيتَتْ إنَّمَا يَكُونُ
بِالْعَمَلِ بِهَا فَدَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ
التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الرَّجْمِ بِحُكْمِ
التَّوْرَاةِ، وَقَوْلُهُ وَقَدْ أُحْصِنَا شَاذٌّ وَلَوْ ثَبَتَ
فَمُرَادُهُ الْإِحْصَانُ مِنْ حَيْثُ الْحُرِّيَّةُ كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَأَمَّا اشْتِرَاطُ إحْصَانِ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ فَهُوَ مَذْهَبُنَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ
بِشَرْطٍ، حَتَّى إنَّ الْمَمْلُوكَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَطْءٌ
بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي حَالَةِ الرِّقِّ ثُمَّ عَتَقَا لَا يَكُونَا
مُحْصَنَيْنِ عِنْدَنَا، وَكَذَلِكَ الْكَافِرَانِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمَا مُحْصَنَانِ.
وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ
مَجْنُونَةً وَدَخَلَ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ إذَا تَزَوَّجَ
كِتَابِيَّةً وَدَخَلَ بِهَا أَوْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ
يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الْكَافِرُ فَدَخَلَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مُحْصَنَةً بِهَذَا الدُّخُولِ
عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ
قَدْ تَمَّ وَهُوَ انْكِسَارُ الشَّهْوَةِ بِإِصَابَةِ الْحَلَالِ وَأَنْ
يَكُونَ بِطَرِيقٍ هُوَ نِهَايَةٌ فِي النِّعْمَةِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ
بِمَا رُوِيَ «أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
بِيَهُودِيَّةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك» ، وَأَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ
الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دَعْهَا
فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ، وَلَا
الْحُرَّةَ الْعَبْدُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ» وَفِيهِ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا، أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْبِيءُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ فَذَلِكَ
الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِمْ زَوْجُ نَعْلٍ زَوْجُ خُفٍّ، وَقَدْ صَارَتْ
الزَّوْجِيَّةُ هُنَا شَرْطًا فَتُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي
الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِهِ ثُمَّ بِسَبَبِ
الرِّقِّ يُنْتَقَصُ مِلْكُ الْحِلِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ
الطَّلَاقِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لِتَكُونَ الثُّيُوبَةُ بَعْدَ كَمَالِ مِلْكِ الْحِلِّ، وَإِذَا
ثَبَتَ اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ يَثْبُتُ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ
وَالْعَقْلِ فِيهَا بِطَرِيقِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الصِّغَرِ
يَدْخُلُ فِي هَذَا الْفِعْلِ نُقْصَانٌ فَإِنَّ تَمَامَ مَيْلِ طَبْعِ
الْمَرْءِ إلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ.
وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَةَ فِي حَقِّ
الْمُسْلِمِ نَاقِصَةُ الْحَالِ لَا يَتِمُّ سُكُونُهُ إلَيْهَا، وَقَدْ
بَيَّنَّا أَنَّ الرَّجْمَ أَقْصَى الْعُقُوبَاتِ، وَفِي شَرَائِطِهِ
يُعْتَبَرُ النِّهَايَةُ أَيْضًا احْتِيَالًا لِدَرْءِ هَذِهِ
الْعُقُوبَةِ، فَإِنْ أَقَرَّ الزَّانِي بِأَنَّهُ مُحْصَنٌ فَإِقْرَارُهُ
عَلَيْهِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ
بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَفْسِرُهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ
الْإِحْصَانَ لَفْظٌ مُبْهَمٌ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ يُسَمَّى
بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَإِنْ قَالَ لَسْت بِمُحْصَنٍ فَشَهِدَ
عَلَيْهِ
(9/41)
شَاهِدَانِ أَنَّهُ مُحْصَنٌ
اسْتَفْسَرَهُمَا عَنْ الْإِحْصَانِ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ فَإِذَا
بَيَّنَا ذَلِكَ رَجَمَهُ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالْإِحْصَانِ رَجُلَيْنِ،
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
بِسَبَبٍ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ.
(قَالَ) وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْإِحْصَانِ
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا
يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَمَّا
الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَنِي
عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنَّ النِّكَاحَ فِي غَيْرِ هَذِهِ
الْحَالَةِ عِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مِنْ حُقُوقِ مَا هُوَ مَالٌ، وَإِنَّمَا
يَتَحَقَّقُ الْكَلَامُ هُنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ فَحُجَّته -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِحْصَانِ هُنَا
تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ وَبِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ
لِلنِّسَاءِ فِيهِ شَهَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَمِّلَ لِلْعُقُوبَةِ
بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ لِأَصْلِ الْعُقُوبَةِ بِهِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ
أَصْلُ الْعُقُوبَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ.
فَكَذَلِكَ تَكْمِيلُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الزَّانِيَ لَوْ كَانَ
عَبْدًا مُسْلِمًا لِذِمِّيٍّ فَشَهِدَ ذِمِّيَّانِ أَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ
أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا وَقَدْ اسْتَجْمَعَ سَائِرَ شَرَائِطِ
الْإِحْصَانِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي غَيْرِ
هَذِهِ الْحَالَةِ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْعِتْقِ عَلَى
الذِّمِّيِّ مَقْبُولَةٌ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا
تَكْمِيلَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ نَظَرْنَا إلَى الْمَقْصُودِ
دُونَ الْمَشْهُودِ بِهِ.
يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى
الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ كَمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ ثُبُوتًا بِهِ
فَكَمَا لَا يَثْبُتُ سَبَبُ الْعُقُوبَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ
فَكَذَلِكَ شَرْطُهَا.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ
لِلْعُقُوبَةِ فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ
كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ فَإِنَّ الْإِحْصَانَ
عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ بَعْضُهَا مَأْمُورٌ بِهِ وَبَعْضُهَا
مَنْدُوبُ إلَيْهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِيجَابِ
الْعُقُوبَةِ وَلَا هُوَ شَرْطٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا
يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ وَلَا يَتَوَقَّفُ
وُجُوبُ الرَّجْمِ عَلَى وُجُودِ الْإِحْصَانِ بَعْدَ الزِّنَا فَإِنَّهُ
وَإِنْ صَارَ مُحْصَنًا بَعْدَ الزِّنَا لَمْ يُرْجَمْ وَلَكِنَّهُ
عِبَارَةٌ عَنْ حَالٍ فِي الزَّانِي يَصِيرُ الزِّنَا فِي تِلْكَ
الْحَالَةِ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ، وَالْحُكْمُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الْحَالِ
ثُبُوتًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَهُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ
بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ سَوَاءٌ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَنَقُولُ: الْعِتْقُ هُنَاكَ
يَثْبُتُ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّ هَذَا
تَارِيخٌ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ وَمَا يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ لَا
يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَضَرَّرُ
بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْكَامِلَةِ
عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُ بِشَهَادَةِ
الْكُفَّارِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَخَلَهَا
الْخُصُوصُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ
شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَعَلَى أَهْلِ
الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ
الْخُصُوصُ فِي
(9/42)
الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَنْظُرُ إلَى مَنْ
يُقَامُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَعْدَ شَهَادَتِهِمْ وَاَلَّذِي يُقَامُ هُنَا
الْحَدُّ الْكَامِلُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا
فِيهِ، فَأَمَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ دَخَلَهَا
الْخُصُوصُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَا فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ
فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ قَبُولُهَا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ سَبَبَ
الْعُقُوبَةِ أَوْ شَرْطًا مُؤَثِّرًا فِي الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا
أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْإِحْصَانِ فَلِهَذَا قُبِلَتْ
شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ هُنَا.
(قَالَ) فَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ حِينَ اسْتَفْسَرَهُمْ
الْقَاضِي: إنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا
فَذَلِكَ كَافٍ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجِمَاعِ يَتَنَاوَلُ الْجِمَاعَ فِي
الْفَرْجِ خَاصَّةً، وَلِهَذَا مَا تَعَلَّقَ بِالْجِمَاعِ مِنْ
الْأَحْكَامِ شَرْعًا إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ،
وَالْمُبَاضَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ إدْخَالِ الْبُضْعِ فِي الْبُضْعِ
فَأَمَّا إذَا قَالُوا دَخَلَ بِهَا فَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ
الْإِحْصَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَكْفِي فِي قَوْلِ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي
يُوسُفَ وَهُوَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى
مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الدُّخُولُ مُشْتَرَكٌ قَدْ
يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُلَاقَاةُ.
وَكُلُّ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ مُبْهَمٍ يَذْكُرُ الشُّهُودُ فَعَلَى
الْقَاضِي أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ لِيَكُونَ إقْدَامُهُ عَلَى الْأَمْرِ
عَنْ بَصِيرَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: أَتَاهَا أَوْ
قَرِبَهَا لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قَالَ: إنَّهُمْ ذَكَرُوا الدُّخُولَ مُضَافًا إلَيْهَا وَالدُّخُولَ
مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ بِحَرْفِ الْبَاءِ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}
[النساء: 23] وَإِذَا قِيلَ: فُلَانٌ دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ لَا يُفْهَمُ
مِنْهُ إلَّا الْجِمَاعُ، وَالِاسْمُ مُشْتَرَكٌ بِدُونِ الصِّلَةِ،
وَأَمَّا مَعَ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْإِضَافَةِ فَلَا وَهُوَ كَاسْمِ
الْوَطْءِ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ بِالْقَدَمِ، ثُمَّ إذَا قَالُوا:
وَطِئَهَا كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا لِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ فَهَذَا مِثْلُهُ،
وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: قَدْ يُقَالُ:
دَخَلَ بِهَا وَالْمُرَادُ مَرَّ بِهَا أَيْ خَلَى بِهَا إلَّا أَنَّ
ذَلِكَ نَوْعُ مَجَازٍ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ.
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى التَّزْوِيجِ فَقَطْ غَيْرَ أَنَّ لَهُ
مِنْهَا وَلَدًا فَهُوَ إحْصَانٌ، وَلَا يَكُونُ الْإِحْصَانُ بِشَيْءٍ
أَبْيَنَ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ
مِنْهُ فَقَدْ حَكَمْنَا بِالدُّخُولِ بِهَا وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ
شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى أَنَّهُ جَامَعَهَا، وَلِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ
بِهِ الْعِلْمُ بِالدُّخُولِ بِهَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَوْلَادٌ
فَوْقَ مَا يَقَعُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ.
(قَالَ) وَلَا يَكُونُ مُحْصَنًا بِالْخَلْوَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَهْرِ
وَالْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْكِسَارُ الشَّهْوَةِ بِإِصَابَةِ
الْحَلَالِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ
بِالْخَلْوَةِ وَإِنَّمَا تُجْعَلُ الْخَلْوَةُ تَسْلِيمًا لِلْمُسْتَحِقِّ
بِالْعَقْدِ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ
الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا
بِالْخَلْوَةِ؟ فَكَذَلِكَ الْإِحْصَانُ
(قَالَ) وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَلَا بَيْنَ
الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ أَمَّا فِي حَقِّ
(9/43)
الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ
فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْبِكْرِ
فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ عِنْدَنَا، وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا
فَيَجْلِدُ مِائَةً وَيُغَرِّبُ سَنَةً، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ «بِحَدِيثِ
الْعَسِيفِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
عَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ وَغَرَّبَ وَأَبُو بَكْرٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ وَغَرَّبَ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَاشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ:
النَّفْيُ مِمَّا يَقَعُ بِهِ التَّعْزِيرُ فَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ حَدًّا
كَالْجَلْدِ، وَلَكِنْ هَذَا كَلَامُ الْجُهَّالِ فَإِنَّ إثْبَاتَ
الْحُدُودِ وَتَكْمِيلَهَا بِالْقِيَاسِ لَا يَكُونُ وَلَكِنْ الْحَرْفُ
لَهُمْ أَنَّ الزِّنَا قَبْلَ أَنْ تَتَّخِذَهُ الْمَرْأَةُ عَادَةً
تَكْتَسِبُ بِهِ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَالَفَةِ
وَالْمُؤَانَسَةِ، وَالْفَرَاغُ وَالتَّغْرِيبُ قَاطِعٌ لِهَذَا السَّبَبِ
وَالْحَدُّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ فَمَا يَكُونُ
قَاطِعًا لِلسَّبَبِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُود فَيَكُونُ حَدًّا.
أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ مَشْرُوعٌ بِقَطْعِ الْيَدِ
وَالرِّجْلِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ بِالْمَشْيِ
وَالْبَطْشِ فَقَطْعُ الْآلَةِ الْمَاشِيَةِ وَالْبَاطِشَةِ مَانِعٌ لَهُ
مِنْ ذَلِكَ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ كَيْفَ تَنْفِي مَعَ الْمَحْرَمِ
أَوْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ هِجْرَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا
يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَالْهِجْرَةِ فِي الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي
دَارِ الْحَرْبِ، فَلَمَّا كَانَ حَدًّا فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ
يَتَكَلَّفَ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إقَامَتِهِ كَالْجَلْدِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَقَدْ جَعَلَ الْجَلْدَ جَمِيعَ
حَدِّ الزِّنَا فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ التَّغْرِيبَ كَانَ الْجَلْدُ
بَعْضَ الْحَدِّ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ وَذَلِكَ يَعْدِلُ
النَّسْخَ، وَرُوِيَ «أَنْ مُحَدَّجًا سَقِيمًا وُجِدَ عَلَى بَطْنِ أَمَةٍ
مِنْ إمَاءِ الْحَيِّ يَفْجُرُ بِهَا فَأُتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اضْرِبُوهُ مِائَةً،
فَقَالُوا: إنَّ بَدَنَهُ لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ، فَقَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذُوا عُثْكَالًا عَلَيْهِ مِائَةُ
شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّغْرِيبِ، وَلَوْ
كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَتَكَلَّفَ لَهُ كَمَا تَكَلَّفَ لِلْحَدِّ، وَأَنَّ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - فِي دَارِهِ عَلَى الزِّنَا، وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ
تَكْتُمَ فَلَوْ كَانَ التَّغْرِيبُ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ لَمَا أَمَرَهَا
بِالْكِتْمَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ وَلَمَّا نُفِيَ شَارِبُ
الْخَمْرِ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالرُّومِ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَنْفِي
أَحَدًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا فَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا حَدًّا لَمَا حَلَفَ
أَنْ لَا يُقِيمَهُ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَفَى
بِالنَّفْيِ فِتْنَةً وَالْحَدُّ مَشْرُوعٌ لَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَمَا
يَكُونُ فِتْنَةً لَا يَكُونُ حَدًّا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ
مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اخْتَلَفَا فِي أُمِّ وَلَدٍ
زَنَتْ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
تُجْلَدُ، وَلَا تُنْفَى، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- تُنْفَى وَأَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛
لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ وَمَعْنَى هَذَا
مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ قَالَ أَرَأَيْت شَابَّةً زَنَتْ أَكُنْتُ
(9/44)
أَنْفِيهَا؟ أَيْ فِي نَفْيِهَا تَعْرِيضٌ
لَهَا لِمِثْلِ مَا اُبْتُلِيَتْ بِهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ أَبَوَيْهَا
تَكُونُ مَحْفُوظَةً فَفِي دَارِ الْغُرْبَةِ تَكُونُ خَلِيعَةَ
الْعَذَارِ، وَالنِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُنَّ،
وَإِنَّمَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحْفُوظَةً بِالْحَافِظِ
وَالِاسْتِحْيَاءِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالتَّغْرِيبِ فَيَكُونُ
تَعْرِيضًا لَهَا لِلْإِقْدَامِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ بِرَفْعِ
الْمَانِعِ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّ مَا
يَنْشَأُ عَنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ يَكُونُ مَكْتُومًا، وَمَا
يَنْشَأُ عَنْ الْمُوَاقَحَةِ يَكُونُ ظَاهِرًا، فَإِنَّ فِي هَذَا قَطْعًا
لِسَبَبِ مَا يَنْشَأُ عَنْ الْمُحَادَثَةِ وَهُوَ مَكْتُومٌ فَفِيهِ
تَعْرِيضٌ لِلزِّنَا بِطَرِيقِ الْوَقَاحَةِ وَهُوَ أَفْحَشُ ثُمَّ قَالَ:
أَرَأَيْت أَمَةً زَنَتْ أَكُنْت أَنْفِيهَا؟ فَأَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
مَوْلَاهَا وَبَيْنَ خِدْمَتِهَا وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ
مَرْعِيٌّ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ
الْأَمَةَ لَا تُنْفَى فَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء:
25] وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِصْفَ الْحَدِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً ثَبَتَ أَنَّ
كَمَالَهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ تُنْفَى الْحُرَّةُ
مَعَ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ لَمْ يَزْنِ فَكَيْف يُقَامُ
عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ وَبِدُونِ الْمَحْرَمِ هِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ
الْمُسَافَرَةِ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِطَرِيقٍ فِيهِ
إبْطَالُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا.
فَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ لَا تَقْصِدُ السَّفَرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ
وَإِنَّمَا تَقْصِدُ التَّخَلُّصَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى لَوْ
وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمِنَتْ
لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ
وَالتَّغْرِيبِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ بِنُزُولِ
سُورَةِ النُّورِ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّغْرِيبِ الْحَبْسُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ قِيلَ
فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} [المائدة:
33] : إنَّهُ الْحَبْسُ، وَقَالَ الْقَائِلُ:
وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ
بِهَا لَغَرِيبُ
أَيْ: مَحْبُوسٌ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِحَبْسٍ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ حَتَّى
تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَإِنْ ثَبَتَ النَّفْيُ عَلَى أَحَدٍ فَذَلِكَ
بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ لَا بِطَرِيقِ الْحَدِّ كَمَا نَفَى رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيتَ الْمُخَنَّثَ مِنْ
الْمَدِينَةِ، وَنَفَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصْرَ بْنَ
حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ حِينَ سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا ... أَوْ هَلْ سَبِيلٌ إلَى
نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
فَنَفَاهُ وَالْجَمَالُ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ وَلَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ
لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: لَا ذَنْبَ لَك وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِي حَيْثُ لَا
أُطَهِّرُ دَارَ الْهِجْرَةِ مِنْك، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّفْيِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ يَنْفِي إلَى بَلَدٍ
غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فَجَرَ فِيهِ وَلَكِنْ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ النَّفْيُ دُونَ
مَسِيرَةِ سَفَرٍ.
(قَالَ) وَلَا يَكُونُ مُحْصَنًا بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛
لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَرَامِ فَلَا يُتِمُّ بِهِ عَلَيْهِ
النِّعْمَةَ
(9/45)
وَلَا يَسْتَفِيدُ كَمَالَ الْحَالِ،
وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ
الصَّحِيحِ إذَا كَانَ قَالَ لَهَا إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ؛
لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ بِنَفْسِ
الْعَقْدِ فَجِمَاعُهُ إيَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ زِنًى إلَّا أَنَّهُ
لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ لَا
يُسْتَفَادُ بِهَذَا الْفِعْلِ كَمَالُ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ
الْمُسْلِمُ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُسْلِمَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَدَخَلَ
بِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
(قَالَ) وَإِذَا ثَبَتَ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي سَأَلَ الزَّانِيَ:
أَمُحْصِنٌ أَنْتَ؟ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ اسْتَغْنَى
الْقَاضِي عَنْ طَلَبِ إحْصَانِهِ بِالْحُجَّةِ، فَإِنْ أَنْكَرَ
إحْصَانَهُ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ
الْإِحْصَانِ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ مَا شَهِدُوا بِسَبَبِ
الْعُقُوبَةِ وَلَا بِشَرْطِهَا، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ ثَابِتٌ
بِبَقَاءِ شُهُودِ الزِّنَا عَلَى شَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ
الزِّنَا وَشُهُودُ الْإِحْصَانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ
عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
يَشْتَرِكُونَ فِي الضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَنَّ الْإِحْصَانَ
شَرْطُ الرَّجْمِ وَأَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ يَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ
كَشُهُودِ السَّبَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا لَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ
الشَّرْطِ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛
لِأَنَّ الشَّرْطَ حَقِيقَةً مَا يَتَوَقَّفُ تَمَامُ السَّبَبِ عَلَيْهِ
وَلَكِنَّهُ حَالٌ فِي الزَّانِي فَلَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا
إلَيْهِ بِوَجْهٍ، وَرُبَّمَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
الْإِحْصَانُ يَغْلُظُ جَرِيمَتُهُ وَالرَّجْمُ عُقُوبَةُ جَرِيمَةٍ
مُغَلَّظَةٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بِشُهُودِ الْإِحْصَانِ تَغَلَّظَتْ
جَرِيمَتُهُ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَثْبَتَ أَصْلَ الْجَرِيمَةِ
فَصَارُوا فِي الْمَعْنَى كَسِتَّةِ نَفَرٍ شَهِدُوا عَلَى اسْتِحْقَاقِ
الْقَتْلِ، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَالنِّكَاحَ
يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضَافَ إلَيْهِمَا
الْجَرِيمَةُ وَلَا تَغْلِيظُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ
رَجُلَانِ بِالزِّنَا وَآخَرَانِ بِالْإِحْصَانِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ،
مَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجْمَ يُسْتَحَقُّ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ أَرْبَعَةٍ
فَلَوْ كَانَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ كَشُهُودِ الزِّنَا لَتَمَّتْ
الْحُجَّةُ هُنَا، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا أَوْ بَعْضُهُمْ
فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
إمَّا أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ
قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِنْ رَجَعَ
أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا كَمَا
لَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا
يُحَدُّ إلَّا الرَّاجِعُ خَاصَّةً وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحُجَّةَ
تَمَّتْ بِاجْتِمَاعِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَتَمَامُ
الْحُجَّةِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، ثُمَّ
الرَّاجِعُ فَسَخَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ بِرُجُوعِهِ
فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا وَلَكِنَّ لَهُ وِلَايَةَ فَسْخِ
الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَبْقَى كَلَامُ
الْبَاقِينَ
(9/46)
شَهَادَةً وَصَارَ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ
لَمْ يَرْجِعْ فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ
ثَلَاثَةٌ وَامْتَنَعَ الرَّابِعُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَتِمَّ
هُنَاكَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ، وَلَكِنْ
بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الْحُجَّةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا
شَرْعًا فَلَمَّا لَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ هُنَاكَ بَقِيَ كَلَامُهُمْ
قَذْفًا فَيَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ وَلَمَّا تَمَّتْ الْحُجَّةُ هُنَا لَمْ
يَكُنْ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، ثُمَّ حُكْمُ فَسْخِ الشَّهَادَةِ بِرُجُوعِ
الرَّابِعِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِي.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّ الْعَارِضَ بِالشُّهُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ
كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ الْأَدَاءِ بِدَلِيلِ عَمَى الشُّهُودِ
وَرِدَّتِهِمْ وَبِدَلِيلِ الْمَالِ، فَإِنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ هُنَاكَ
قَبْلَ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَالِ
لِعَدَمِ تَمَامِ الْحُجَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا
فَنَقُولُ: لَوْ امْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي
الِابْتِدَاءِ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَكُونُ
ذَلِكَ لِسُكُوتِ الرَّابِعِ بَلْ بِنِسْبَتِهِمْ إيَّاهُ إلَى الزِّنَا،
فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ قَوْلُهُ إنَّ
الْحُجَّةَ تَمَّتْ وَكَانَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً.
(قُلْنَا) هَذَا مَوْقُوفٌ مُرَاعًى؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ
حُجَّةً مُوجِبَةً مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَضَاءُ، فَإِذَا لَمْ
يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ هُنَا بِالشَّهَادَةِ حَتَّى رَجَعَ أَحَدُهُمْ
بَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا بِالزِّنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ حُجَّةُ
الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ تَامَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّ كَلَامَ
الرَّاجِعِ قَذْفٌ بِالزِّنَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ شُهِدَ مَعَ
الْقَاذِفِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ جَمِيعًا
فَكَذَلِكَ هُنَا، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ
قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى
الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فِيمَا
يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْعَارِضِ قَبْلَهُ بِدَلِيلِ عَمَى
الشُّهُودِ وَرِدَّتِهِمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ
إقَامَةُ الْحَدِّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ وَلَمْ تَبْقَ بَعْدَ رُجُوعِ
أَحَدِهِمْ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا حَدَّ
الْقَذْفِ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى يُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ
الْأَصْلَ أَنَّ رُجُوعَ الشَّاهِدِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ
الِاسْتِيفَاءِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالرُّجُوعِ قَبْلَ
الْقَضَاءِ.
وَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ كَالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ
بِدَلِيلِ الْمَالِ، فَإِنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا
يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا
فَنَقُولُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ تَنْدَرِئُ
بِالشُّبُهَاتِ فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ فِيهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَالرُّجُوعِ
قَبْلَهُ، فَأَمَّا سُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُمْ يَثْبُتُ مَعَ
الشُّبُهَاتِ فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ فِيهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَرُجُوعِهِ
بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْحُجَّةَ تَعْتَمِدُ الْقَضَاءَ
وَبَعْدَ مَا تَمَّتْ الْحُجَّةُ لَا يَكُونُ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ثُمَّ
بِرُجُوعِ أَحَدِهِمْ يَبْطُلُ مَعْنَى الْحُجَّةِ فِي حَقِّهِ فَيَصِيرُ
كَلَامُهُ قَذْفًا وَلَكِنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْبَاقِينَ وَلَا
عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَيَبْقَى كَلَامُ الْبَاقِينَ حُجَّةً
غَيْرَ قَذْفٍ كَمَا كَانَ قَبْلَ
(9/47)
رُجُوعِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو
يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولَانِ: رُجُوعُ أَحَدِهِمْ
بَعْدَ الْقَضَاءِ كَرُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ سُقُوطِ
الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ
إبْطَالِ الْحُكْمِ، وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِهَذَا
الدَّلِيلِ كَانَ هَذَا وَمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ سَوَاءً، وَتَحْقِيقُهُ
أَنَّ فِيمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَمَامُ الْقَضَاءِ
بِالِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ
وَلِهَذَا كَانَ إلَى الْإِمَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إمَّا أَنْ
يَكُونَ لِإِعْلَامِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِحَقِّهِ أَوْ لِتَمْكِينِهِ مِنْ
الِاسْتِيفَاءِ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى النِّيَابَةُ فِي
الِاسْتِيفَاءِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ بَلْ بِحَقِيقَةِ
الِاسْتِيفَاءِ فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ الْقَضَاءِ
بِالِاسْتِيفَاءِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ
وَكَذَلِكَ إنْ أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ؛ لِأَنَّ
الْحَدَّ لَا يَتَجَزَّى فَاسْتِيفَاؤُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِتْمَامِهِ
فَأَمَّا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَهَذَا عَلَى
وَجْهَيْنِ:
إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا، فَإِنْ كَانَ جَلْدًا
فَإِنَّهُ يُحَدُّ هَذَا الرَّاجِعُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا حَدَّ عَلَى
الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ وَالْحُكْمَ تَأَكَّدَ
بِالِاسْتِيفَاءِ، فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ يُبْطِلُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي
حَقِّهِ لِإِقْرَارِهِ فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ، وَلَا يَبْطُلُ بِهِ
مَعْنَى الشَّهَادَةِ الْمُتَأَكَّدَةِ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَلَا حَدَّ
عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا فَعِنْدَنَا يُحَدُّ
الرَّاجِعُ وَحْدَهُ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا
يُحَدُّ الرَّاجِعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ
بِالرُّجُوعِ فَإِنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ خَيْرًا فَيَقُولُ: كَانَ
عَفِيفًا وَلَمْ يَكُنْ زَانِيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ
بِالشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّهُ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ
مَاتَ وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ
الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
الْحَدُّ جَلْدًا؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ حَيٌّ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ
عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ
الشُّهُودِ كَانَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّونَ حَدَّ
الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلَا رَجْمَ
عَلَيْهِمْ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا مِثْلُهُ.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ
بِالْتِزَامِ حَدِّ الْقَذْفِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ حُجَّةٌ
وَتَحْقِيقُهُ وَهُوَ أَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا يَصِيرُ
قَاذِفًا مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ بَلْ يَصِيرُ قَاذِفًا فِي الْحَالِ؛
لِأَنَّ اقْتِرَانَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ بِكَلَامِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ قَذْفًا وَإِنَّمَا انْتَزَعَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ
عِنْدَ رُجُوعِهِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ السَّابِقُ الْآنَ قَذْفًا، كَمَنْ
قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ
دُخُولِ الدَّارِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْكَلَامُ طَلَاقًا لَا أَنْ يَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ طَلَاقًا بِاعْتِبَارِ
وُصُولِهِ إلَى الْمَحَلِّ، وَوُصُولُهُ إلَى الْمَحَلِّ مَقْصُورٌ عَلَى
الْحَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ كَلَامُهُ فِي الْحَالِ
قَذْفًا، وَالْمَقْذُوفُ فِي الْحَالِ مَيِّتٌ وَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا
يَلْزَمُهُ الْحَدُّ (فَإِنْ قِيلَ) هُوَ فِي الْحَالِ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ
الْحَاكِمِ لَوْ
(9/48)
قَذَفَهُ قَاذِفٌ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ
فَكَيْف يُحَدُّ هَذَا الرَّاجِعُ (قُلْنَا) هُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ
الْحَاكِمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَيْسَتْ
بِحُجَّةٍ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْقَاذِفِ،
فَإِنَّ قَذْفَهُ لَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ حُجَّةٌ.
(فَإِنْ قِيلَ) أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ كَانَ
عَفِيفًا، وَلَوْ قَذَفَهُ إنْسَانٌ بِالزِّنَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ
وَقَالَ إنَّهُ كَانَ عَفِيفًا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا
(قُلْنَا) نَعَمْ الْقَاذِفُ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَالْحُجَّةُ
الْمُسْقِطَةُ لِلْإِحْصَانِ بَقِيَتْ كَامِلَةً فِي حَقِّهِ، فَأَمَّا
إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الشُّهُودِ لَا تَبْقَى الْحُجَّةُ الْمُسْقِطَةُ
لِلْإِحْصَانِ كَامِلَةً فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَبْدٌ؛ لِأَنَّ
الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا
فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ لَا يُقَامُ
عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَعَلَى الرَّاجِعِ رُبْعُ
الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا بِشَهَادَتِهِمْ
وَكُلُّ شَاهِدٍ عَلَى الزِّنَا مُتْلِفٌ رُبْعَ النَّفْسِ كَمَا قَالَ
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ شَهِدَ أَحَدُ الشُّهُودِ عَلَى
الْمُغِيرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَوَّهْ أُودِيَ رُبْعُ
الْمُغِيرَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَقُومُ
بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي
رُبْعِ الْحَقِّ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الرَّاجِعِ رُبْعُ الدِّيَةِ
عِنْدَنَا.
(قَالَ) وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ وَغَرِمَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعَ الدِّيَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالْحَسَنُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يُقْتَلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ
قَاتِلُونَ لَهُ، فَإِنَّ مَا يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَكُونُ
مُضَافًا إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ
بِمَنْزِلَةِ الْقَاتِلِينَ لَهُ، وَلَكِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِإِبَاحَةِ
دَمِهِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ مَعَ أَنَّ الرَّجْمَ
يَكُونُ بِالْحِجَارَةِ، وَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ لَا يُوجِبُ
الْقِصَاصَ عِنْدَنَا، وَالشُّهُودُ مُتَسَبِّبُونَ عِنْدَنَا، وَلَا
قِصَاصَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ
فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ أَحَدُ الشُّهُودِ بَعْدَ الرَّجْمِ: كُنْت يَوْمَ
شَهِدْت عَلَيْهِ كَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى
أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كَلَامَهُمْ حُجَّةٌ
مُتَأَكَّدَةٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَإِقْرَارُ الْمَرْءِ حُجَّةٌ
عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِقَوْلِهِ إنَّ
كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ
كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا فَإِنَّ هُنَاكَ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ
كَانَ قَذْفًا فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا بِأَنْ كَانَ الْحَدُّ
جَلْدًا يُحَدُّونَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا بِأَنْ كَانَ
الْحَدُّ رَجْمًا لَا يُحَدُّونَ ثُمَّ إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ
الشُّهُودِ كَانَ أَعْمَى أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَهُوَ وَمَا لَوْ
ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدٌ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ
لَهُ شَهَادَةُ الْأَدَاءِ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ
وَلِهَذَا لَا يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ وَالْأَعْمَى لَيْسَتْ لَهُ شَهَادَةٌ
فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا لَا تَكُونُ إلَّا
بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَلَيْسَ لِلْأَعْمَى
ذَلِكَ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
(9/49)
وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُكَاتَبِ، فَإِذَا
كَانَ ظُهُورُ هَذَا بَعْدَ الرَّجْمِ فَدِيَةُ الْمَرْجُومِ فِي بَيْتِ
الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْ الْإِمَامِ فِي عَمَلِهِ لِلَّهِ
تَعَالَى فَيَكُونُ ضَمَانُهُ فِي مَالِ اللَّهِ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ
الْمَالِ، وَالْإِمَامُ فِي هَذَا عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ تَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ
فِيهَا فَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ
لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ
كَانَ خَصْمًا وَفِيمَا هُوَ خَصْمٌ لَا يَكُونُ قَاضِيًا كَمَا فِي
حُقُوقِ نَفْسِهِ فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ قُلْنَا
يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْقَضَاءُ لَهُ فَفِي حُقُوقِ
اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ
كَالْقِصَاصِ وَالْمَالِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ
(قَالَ) فَإِنْ رَجَمَهُ الْإِمَامُ بِشَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ
عَنْ الشُّهُودِ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُمْ فَأُخْبِرَ أَنَّهُمْ غَيْرُ
عُدُولٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةَ
الْأَدَاءِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ فِي شَهَادَتِهِ لِتَمَكُّنِ
تُهْمَةِ الْكَذِبِ، وَلِهَذَا يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ
بِظُهُورِ فِسْقِهِمْ أَنَّ الْقَاضِيَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَلِهَذَا لَا
يَجِبُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: إنَّ
هَؤُلَاءِ قَدْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إذَا تَابُوا، وَهَذَا ضَعِيفٌ
فَالْكُفَّارُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَسْلَمُوا وَالْعَبِيدُ إذَا
أُعْتِقُوا، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا قُلْنَا
[وُجِدَ الرَّجُلُ مَجْبُوبًا بَعْدَ مَا رُجِمَ]
(قَالَ) فَإِنْ وُجِدَ الرَّجُلُ مَجْبُوبًا بَعْدَ مَا رُجِمَ فَعَلَى
الشُّهُودِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ
الْمَجْبُوبَ لَيْسَ لَهُ آلَةُ الزِّنَا فَكَيْف يَزْنِي، وَظُهُورُ
كَذِبِهِمْ هُنَا فَوْقَ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِيمَا إذَا رَجَعُوا
بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ، فَإِنَّ
هُنَاكَ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِكَذِبِهِمْ وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ قَدْ
يُصَدَّقُ، وَلَكِنْ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ فَكَانَ خَطَأً مِنْ الْإِمَامِ
فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً
فَنَظَرَ النِّسَاءُ إلَيْهَا بَعْدَ الرَّجْمِ، وَقُلْنَ هِيَ عَذْرَاءُ
أَوْ رَتْقَاءُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ بِقَوْلِ النِّسَاءِ؛
لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تَكُونُ حُجَّةً تَامَّةً فِي إلْزَامِ
ضَمَانِ الْمَالِ وَلَا مَقْصُودَ هُنَا سِوَى إيجَابِ ضَمَانِ الْمَالِ
عَلَى الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْجَبِّ فَذَلِكَ مُعَايَنٌ يُتَيَقَّنُ بِهِ
لَا مِنْ جِهَةِ قَوْلِ النِّسَاءِ، لَكِنْ إنْ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ
قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَقُلْنَ هِيَ عَذْرَاءُ أَوْ رَتْقَاءُ يُدْرَأُ
عَنْهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَتَمَكَّنُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ
وَلَا شُبْهَةَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا فَمَعَ الرَّتْقِ لَا يُتَصَوَّرُ
الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ، وَبَعْدَ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ
لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْعُذْرَةِ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ وَمَاتُوا أَوْ
غَابُوا أَوْ عَمُوا أَوْ ارْتَدُّوا أَوْ خَرِسُوا أَوْ ضُرِبُوا حَدَّ
الْقَذْفِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى
بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يُرْجَمْ، أَمَّا مَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ
كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالرِّدَّةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ
الْعَوَارِضَ لَوْ اقْتَرَنَتْ بِالشَّهَادَةِ مَنَعَتْهَا مِنْ أَنْ
تَكُونَ حُجَّةً، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَتْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ
الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ
مُوجِبَهُ مِمَّا يَنْدَرِئُ
(9/50)
بِالشُّبُهَاتِ وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَى
الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ وَالْعَدَدُ
مُتَكَامِلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَ ذَلِكَ أَحَدُ الشُّهُودِ فَهُوَ
وَمَا لَوْ أَصَابَهُمْ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ فَأَمَّا فِي مَوْتِ
الشُّهُودِ وَغَيْبَتِهِمْ فَنَقُولُ إنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي
الْحُجَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُقُوقِ النَّاسِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى
الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا، إذَا كَانَ الْحَدُّ
جَلْدًا؛ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَتَأَكَّدُ عَدَالَتُهُمْ إذْ لَا
يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا يُبْطِلُ عَدَالَتَهُمْ،
وَكَذَلِكَ غَيْبَتُهُمْ لَا تَكُونُ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِمْ فَلَا
يَمْنَعُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاضِي، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَدُّ
رَجْمًا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ بَعْدَ غَيْبَةِ الشُّهُودِ وَمَوْتِهِمْ؛
لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الرَّجْمِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الشُّهُودُ ثُمَّ
الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِمْ
وَغَيْبَتِهِمْ.
وَهَذَا قَوْلُنَا، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - لَا يُعْتَبَرُ فِي الرَّجْمِ بِدَايَةُ الشُّهُودِ وَلَكِنَّ
الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ قَالَ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ فَارَقُوا
سَائِرَ النَّاسِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَإِقَامَةُ الرَّجْمِ لَيْسَ
مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ
النَّاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَّ لَوْ كَانَ جَلْدًا لَا يُؤْمَرُ
الشُّهُودُ بِالضَّرْبِ؟ فَكَذَا الرَّجْمُ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ
بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ
أَنْ يَرْجُمَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ قَالَ الرَّجْمُ رَجْمَانِ
رَجْمُ سِرٍّ وَرَجْمُ عَلَانِيَةٍ فَرَجْمُ الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَشْهَدَ
عَلَى الْمَرْأَةِ مَا فِي بَطْنِهَا وَتَعْتَرِفَ بِذَلِكَ فَيَبْدَأَ
فِيهِ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَرَجْمُ السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ
أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَيَبْدَأَ الشُّهُودُ ثُمَّ
الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ وَلِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِبِدَايَةِ الشُّهُودِ
احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَجْتَرِئُ عَلَى
أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَاذِبًا ثُمَّ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى مُبَاشَرَةِ
الْقَتْلِ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الْحُدُودِ
بِالِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ فَكُلُّ أَحَدٍ لَا
يُحْسِنُ الضَّرْبَ، فَلَوْ أَمَرْنَا الشُّهُودَ بِذَلِكَ رُبَّمَا
يَقْتُلُونَهُ بِخِرَقِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ
مُسْتَحَقًّا، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الرَّجْمِ، فَكُلُّ أَحَدٍ
يُحْسِنُ الرَّمْيَ وَقَدْ صَارَ الْإِتْلَافُ مُسْتَحَقًّا هُنَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: يُؤْمَرُ
الشُّهُودُ بِالْبِدَايَةِ إذَا كَانُوا حَاضِرِينَ حَتَّى إذَا
امْتَنَعُوا لَا يُقَامُ الرَّجْمُ فَإِذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا يُقَامُ
الرَّجْمُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْبِدَايَةُ بِهِمْ بِسَبَبٍ
لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ تُهْمَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ الرَّجْمِ
كَمَا لَوْ كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي أَوْ مَرْضَى أَوْ عَاجِزِينَ
عَنْ الْحُضُورِ بِخِلَافِ مَا لَوْ امْتَنَعُوا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا
مُتَّهَمِينَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ حِين كَانُوا مَقْطُوعِي
الْأَيْدِي فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ تُسْتَحَقَّ الْبِدَايَةُ بِهِمْ
لِلتَّعَذُّرِ، فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ اُسْتُحِقَّ الْبِدَايَةُ بِهِمْ
لِتَيَسُّرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُكْمِ فَإِذَا تَعَذَّرَ بِالْمَوْتِ أَوْ
الْغَيْبَةِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ بِامْتِنَاعِهِمْ
(قَالَ) وَلَا يُحْفَرُ لِلْمَرْجُومِ وَلَا يُرْبَطُ بِشَيْءٍ وَلَا
يُمْسَكُ وَلَكِنْ يُنْصَبُ قَائِمًا لِلنَّاسِ فَيُرْجَمُ «؛ لِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا
وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ وَلَا رَبَطَهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ لَمَا مَسَّهُ حَرُّ
الْحِجَارَةِ
(9/51)
هَرَبَ فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِلَحْيِ
جَمَلٍ فَقَتَلَهُ ثُمَّ لَمَّا أُخْبِرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ؟ وَفِي
رِوَايَةٍ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَهَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ
الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضِ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ» ، وَلَوْ كَانَ
مَرْبُوطًا أَوْ فِي حَفِيرَةٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْهَرَبِ، وَأَمَّا
الْمَرْأَةُ فَإِنْ حُفِرَ لَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَضُرَّ
لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَمَّا أَمَرَ بِرَجْمِ الْغَامِدِيَّةِ أَمَرَ بِأَنْ يُحْفَرَ لَهَا إلَى
قَرِيبٍ مِنْ السُّرَّةِ فَجُعِلَتْ فِيهَا فَلَمَّا رَجَمُوهَا وَمَاتَتْ
أَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا وَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ
تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» وَأَنَّ عَلِيًّا -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَفَرَ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ إلَى
قَرِيبٍ مِنْ السُّرَّةِ ثُمَّ لَفَّهَا فِي ثِيَابِهَا وَجَعَلَهَا فِيهَا
ثُمَّ رَمَاهَا وَكَانَ مُصِيبَ الرَّمْيَةِ فَأَصَابَ أَصْلَ أُذُنِهَا
وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِ الْمَرْأَةِ عَلَى السِّتْرِ وَالْحَفْرُ أَسْتَرُ
لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ إذَا مَسَّتْهَا الْحِجَارَةُ فَرُبَّمَا
يَنْكَشِفُ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا وَلَكِنْ مَعَ هَذَا الْحَفْرِ لَيْسَ
مِنْ الْحَدِّ فِي شَيْءٍ فَلَا يَضُرُّ تَرْكُهُ فَأَمَّا مَبْنَى حَالِ
الرِّجَالِ عَلَى الظُّهُورِ فَيَنْصِبُ قَائِمًا عِنْدَ الرَّجْمِ وَلَا
يُشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فِي الْحَفْرِ لَهُ
وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَادَّعَتْ
الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا وَلَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ بِذَلِكَ
وَلَكِنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛
لِأَنَّ إنْكَارَهَا صِفَةَ الطَّوَاعِيَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ إنْكَارِهَا
أَصْلَ الْفِعْلِ وَلَا يَنْفَعُهَا ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ
بِهِ عَلَيْهَا وَلَكِنْ إنْ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي، وَقَالَ الرَّجُلُ:
كَذَبَتْ بَلْ زَنَيْت بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛
لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ الصَّدَاقَ وَلَوْ سَاعَدَهَا الزَّوْجُ
عَلَى ذَلِكَ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ فَإِذَا أَنْكَرَ كَانَ لَهَا أَنْ
تُحَلِّفَهُ عَلَيْهِ فَإِذَا نَكَلَ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ وَإِنْ حَلَفَ
لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّدَاقُ وَلَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ
لَوْ أُقِيمَ الْحَدُّ إنَّمَا يُقَامُ بِالْحَلِفِ وَالْحُدُودُ لَا
تُقَامُ بِالْأَيْمَانِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا بِدَعْوِي
الْإِكْرَاهِ لَا تَدَّعِي الصَّدَاقَ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْمُكْرَهَةِ
لَا يُوجِبُ الصَّدَاقَ لَهَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يُخَالِفُنَا فِي الْفَصْلَيْنِ فَيَقُولُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمَا أَوْ
دَعْوَى أَحَدِهِمَا النِّكَاحَ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ»
وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ زَانٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ دَعْوِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ
أَوْ فَاسِدٍ فَلَوْ أَسْقَطْنَا الْحَدَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى
لَانْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَكِنَّا نَقُولُ كَمَا أُمِرْنَا
بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فَقَدْ أُمِرْنَا بِدَرْئِهَا بِالشُّبْهَةِ قَالَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ
بِالشُّبُهَاتِ» وَتَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ عِنْدَ دَعْوَى أَحَدِهِمَا
النِّكَاحَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُسْتَحْلَفُ خَصْمُهُ عَلَى قَوْلِ
مَنْ يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ
يَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ لِلشَّرِكَةِ وَلَا يُؤَدِّي هَذَا إلَى سَدِّ
بَابِ الْحَدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ
ثُمَّ لَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ وَلَا
يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى سَدِّ بَابِ إقَامَةِ
(9/52)
الْحَدِّ فِي الْإِقْرَارِ.
فَأَمَّا إذَا زَنَى بِمُكْرَهَةٍ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ دُونَ الْمَهْرِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ
الْمَهْرُ لَهَا وَهِيَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ
أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي
السَّرِقَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُنَا الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مُتَقَوِّمٌ
لِحَقِّهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ بِالْعَقْدِ وَالشُّبْهَةِ فَلَا
يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّهَا عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَإِذَا كَانَتْ
مُطَاوِعَةً فَقَدْ رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا فَيَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا
وَلَكِنَّا نَقُولُ فِعْلُهُ بِالْمُكْرَهَةِ زِنًى وَالْوَاجِبُ
بِالزِّنَا الْحَدُّ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ بِالرَّأْيِ،
ثُمَّ لَوْ كَانَ بُضْعُهَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الزَّانِي لَمْ يَسْقُطْ
ذَلِكَ بِرِضَاهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَتَقَوَّمُ
بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ لَمْ يَسْقُطْ بِرِضَاهَا بِأَنْ طَاوَعَتْهُ
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِأَمَةٍ وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ
لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ وَتُقَوَّمُ بُضْعُهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى فَلَا
يَسْقُطُ بِرِضَاهَا وَلَكِنْ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا
يَتَقَوَّمُ بِالْمَالِ بِالزِّنَا الْمَحْضِ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ
بِالْعَقْدِ أَوْ بِشُبْهَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ثُمَّ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ
عَنْهُ بِدَعْوَاهَا النِّكَاحَ وَجَبَ الصَّدَاقُ لَهَا؛ لِأَنَّ
الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ
غَرَامَةٍ فَإِذَا جُعِلَ مَا ادَّعَتْ مِنْ النِّكَاحِ كَالثَّابِتِ فِي
إسْقَاطِ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ يُجْعَلُ
كَالثَّابِتِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ
[يَطَأُ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْتهَا تَحِلُّ لِي]
(قَالَ) وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَطَأُ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ:
ظَنَنْتهَا تَحِلُّ لِي، أَوْ يَطَأُ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ
وَيَقُولُ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا،
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛
لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الزِّنَا قَدْ تَقَرَّرَ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا
لَوْ قَالَا عَلِمْنَا بِالْحُرْمَةِ يَلْزَمُهُمَا الْحَدُّ وَلَوْ سَقَطَ
إنَّمَا يَسْقُطُ بِالظَّنِّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا
كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ وَقَالَ: ظَنَنْتهَا
تَحِلُّ لِي وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ تَمَكَّنَتْ بَيْنَهُمَا شُبْهَةُ
اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يُشْتَبَهُ، فَإِنَّ مَالَ
الْمَرْأَةِ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ لِلزَّوْجِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله
تَعَالَى {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أَيْ بِمَالِ
خَدِيجَةَ، وَلَمَّا جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فَقَالَ: إنَّ عَبْدِي سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي، فَقَالَ: مَالُكَ سَرَقَ
بَعْضُهُ بَعْضًا وَلِأَنَّهَا حَلَالٌ لَهُ فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ
عَلَيْهِ أَنَّ حَالَ جَارِيَتِهَا كَحَالِهَا، وَفِي جَارِيَةِ الْأَبِ
وَالْأُمِّ.
كَذَلِكَ قَدْ يُشْتَبَهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَمْلَاكَ
مُتَّصِلَةٌ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَالْمَنَافِعُ دَائِرَةٌ
وَلِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ أَبِيهِ فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ
أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ حَلَالًا لِلْأَصْلِ تَكُونُ حَلَالًا لِلْجُزْءِ
أَيْضًا وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ
عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ كَالْقَوْمِ عَلَى مَائِدَةٍ
فَسُقُوا خَمْرًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَمْرٌ يَلْزَمُهُ
الْحَدُّ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يُحَدُّ وَالْأَصْلُ فِي حَدِيثِ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا
تَضَيَّفَ أَهْلَ بَيْتٍ بِالْيَمَنِ فَأَصْبَحَ يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّهُ
زَنَى بِرَبَّةِ الْبَيْتِ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فَقَالَ عُمَرُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ
(9/53)
اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَا فَحُدُّوهُ
وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَحُدُّوهُ فَقَدْ
جَعَلَ ظَنَّ الْحِلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شُبْهَةً لِعَدَمِ اشْتِهَارِ
الْأَحْكَامِ فَلَأَنْ يَكُونَ الظَّنُّ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ
مُورِثًا شُبْهَةً أَوْلَى فَأَمَّا إذَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَجَبَ
الْمَهْرُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ
لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ وَإِذَا سَقَطَتْ
الْعُقُوبَةُ وَجَبَ الْمَهْرُ
[شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ
فَزَنَى بِهَا]
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَ
هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَزَنَى بِهَا حُدَّ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ؛
لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لِلزَّجْرِ وَهِيَ مُنْزَجِرَةٌ حِينَ أَبَتْ
التَّمْكِينَ حَتَّى اسْتَكْرَهَهَا، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ
جِهَتِهَا يُعْتَبَرُ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ عَنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا
فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ أَنَّ لَهَا أَنْ تُمَكِّنَ إذَا أُكْرِهَتْ
بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ، وَالْحَدُّ أَقْرَبُ إلَى السُّقُوطِ مِنْ الْإِثْمِ
فَإِذَا سَقَطَ الْإِثْمُ عَنْهَا فَالْحَدُّ أَوْلَى، وَيُقَامُ الْحَدُّ
عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا التَّامَّ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ
وَجِنَايَتُهُ إذَا اسْتَكْرَهَهَا أَغْلَظُ مِنْ جِنَايَتِهِ إذَا
طَاوَعَتْهُ.
وَلَا يُقَالُ قَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ
عَنْهُ كَمَا لَوْ ادَّعَتْ النِّكَاحَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ
بِدَعْوِي النِّكَاحِ تَتَمَكَّنُ فِي الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ مُشْتَرَكٌ
بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا كَوْنُهَا مُكْرَهَةً لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ شُبْهَةٌ
فِي الْفِعْلِ وَلَا يَخْرُجُ فِعْلُ الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ زِنًى
مَحْضًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَلَا تَنْعَدِمُ
الْمَحَلِّيَّةُ بِكَوْنِهَا مُكْرَهَةً، وَهُوَ كَمَا لَوْ زَنَى
بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَوْ نَائِمَةٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ
وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا
(قَالَ) وَلَوْ أَنَّ مَجْنُونًا أَكْرَهَ عَاقِلَةً حَتَّى زَنَى بِهَا
لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّهَا
مُكْرَهَةٌ غَيْرُ مُمَكِّنَةٍ طَوْعًا، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلِأَنَّهُ
مَجْنُونٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا دَعَتْ
الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا إلَى نَفْسِهَا
فَزَنَى بِهَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهَا الْحَدُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهَا زَانِيَةٌ
فَعَلَيْهَا الْحَدُّ بِالنَّصِّ، وَبَيَانُهُ وَهُوَ أَنَّ الزِّنَا
لَيْسَ إلَّا وَطْءٌ مُتَعَرٍّ عَنْ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ وَشَبَهِهِمَا
وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ أَحَدِهِمَا
لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِمَعْنًى فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَتُهُ عَلَى
الْآخَرِ كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ
فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلٌ فِي نَفْسِهِ وَهِيَ فِي
التَّمْكِينِ زَانِيَةٌ كَالرَّجُلِ فِي الْإِيلَاجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً وَبَدَأَ بِذِكْرِهَا وَأَنَّ مَنْ
نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَلَوْ كَانَ لَا
يُتَصَوَّرُ مِنْهَا مُبَاشَرَةُ الزِّنَا لَمْ يَحُدَّ قَاذِفُهَا بِهِ
كَالْمَجْبُوبِ وَلِأَنَّهَا بِهَذَا التَّمْكِينِ تَقْضِي شَهْوَتَهَا
كَالرَّجُلِ بِالْإِيلَاجِ فَإِذَا ثَبَتَ كَمَالُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ يُرَاعَى حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ
الْعُقُوبَةِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهَا مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاعِلٍ لَمْ
يَأْثَمْ وَلَمْ يُحْرَجْ فَلَا يَلْزَمْهَا الْحَدُّ كَمَا لَوْ مَكَّنَتْ
نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ
وَالْحَرَجَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ وَهُمَا لَا يُخَاطَبَانِ
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْفِعْلِ هُوَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ
تَابِعَةٌ بِدَلِيلِ
(9/54)
تَصَوُّرِ الْفِعْلِ فِيهَا وَهِيَ
نَائِمَةٌ لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْفِعْلِ
زِنًى فَهِيَ لَا تَصِيرُ زَانِيَةً؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ التَّبَعِ بِثُبُوتِ
الْأَصْلِ وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زِنًى لُغَةً، وَلَكِنْ
لَيْسَ بِزِنًا شَرْعًا؛ لِأَنَّ الزِّنَا شَرْعًا فِعْلٌ وَجَبَ الْكَفُّ
عَنْهُ لِخِطَابِ الشَّرْعِ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ،
وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَإِذَا
انْعَدَمَ الزِّنَا شَرْعًا فِي جَانِبِهِ فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهَا
وَالْحَدُّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَيَسْتَدْعِي ثُبُوتَ سَبَبِهِ شَرْعًا
وَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى زَانِيَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا
مَزْنِيٌّ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:
21] أَيْ مَرْضِيَّةٍ وَقَالَ تَعَالَى {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]
أَيْ مَدْفُوقٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا
لِنِسْبَتِهَا إلَى مَا تَتَعَيَّرُ وَتَسْتَوْجِبُ بِهِ الْحَدَّ
وَتَقْضِي بِهِ شَهْوَتَهَا وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الزِّنَا وَإِنْ
كَانَتْ تَابِعَةً فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ فَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِأَصْلِ
الْفِعْلِ وَفِعْلُهُ زِنًى لُغَةً وَشَرْعًا فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ
بِحَقِيقَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ وَالْمَحَلِّيَّةُ مُشْتَهَاةٌ
وَذَلِكَ بِاللِّينِ وَالْحَرَارَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِيهِ
بِجُنُونِهَا وَصِغَرِهَا فَقَدْ تَمَّ فِعْلُهُ زِنًى لِمُصَادَفَةِ
مَحَلِّهِ، فَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ لَا
نَفْسُ الْآلَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْآلَةِ لَا يَكُونُ زِنًى شَرْعًا إلَّا
إذَا كَانَ وَاجِبَ الْكَفِّ عِنْدَ الْخِطَابِ وَذَا بِصِفَةِ الْإِثْمِ
وَالْحَرَجِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَهَذَا فِقْهٌ
دَقِيقٌ وَفَرْقٌ حَسَنٌ وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ فَقَالَ: ذَكَرُ
الصَّبِيِّ كَأُصْبُعِهِ، مَعْنَاهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالزِّنَا
مَعْدُومٌ فِي آلَةِ الصَّبِيِّ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ بِهَذِهِ الْآلَةِ
زِنًى وَالْمَعْتُوهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا
الْمُحْصَنَةُ إذَا زَنَى بِهَا غَيْرُ الْمُحْصَنِ فَعَلَيْهَا الرَّجْمُ؛
لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِ الْمُحْصَنِ زِنًى فَتَصِيرُ هِيَ زَانِيَةً
بِالتَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ حَالُهَا فِيمَا
يُقَامُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ وَكُلُّ رَجُلٍ
يَزْنِي بِامْرَأَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ مِثْلُ
الْخَرْسَاءِ الَّتِي لَا تَنْطِقُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ
الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ هُنَا وَالْخَرْسَاءُ لَوْ كَانَتْ تَنْطِقُ
رُبَّمَا تَدَّعِي شُبْهَةَ نِكَاحٍ وَقَدْ لَا تَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ
مَا فِي نَفْسِهَا بِالْإِشَارَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا لَوْ
ادَّعَتْ النِّكَاحَ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ
خَرْسَاءَ وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُ - ادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَإِنْ يُخْطِئَ
فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ، فَإِذَا
وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا فَادْرَءُوا عَنْهُ وَهَذَا بِخِلَافِ
مَا إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ
عَنْهَا لَيْسَ لِلشُّبْهَةِ بَلْ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ
[زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ]
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوْ
الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا حَدَّ
عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا، أَمَّا
الْمُسْتَأْمَنُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
لَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا
كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَفِي قَوْلِ
(9/55)
أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَالشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ
عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِنَا فَهُوَ مُلْتَزِمٌ
أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّمِّيِّ، أَلَا
تَرَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَيُمْنَعُ
مِنْ الرِّبَا وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ
وَالْمُصْحَفِ إذَا اشْتَرَاهُ كَمَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الذِّمِّيُّ؟
وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُقَامُ صِيَانَةً لِدَارِ
الْإِسْلَامِ فَلَوْ قُلْنَا لَا تُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ يَرْجِعُ
ذَلِكَ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمَا أَعْطَيْنَاهُ
الْأَمَانَ لِيَسْتَخِفَّ بِخِلَافِ حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَا
يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَقِدَانِ إبَاحَةَ
شُرْبِ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ
نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}
[التوبة: 6] فَتَبْلِيغُ الْمُسْتَأْمَنِ مَأْمَنَهُ وَاجِبٌ بِهَذَا
النَّصِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ
تَفْوِيتُ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ تَفْوِيتُ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ،
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَا الْتَزَمَ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ
اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا دَخَلَ تَاجِرًا لِيُعَامِلَنَا ثُمَّ
يَرْجِعَ إلَى دَارِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى
دَارِ الْحَرْبِ؟ وَلَوْ كَانَ مُلْتَزِمًا شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَالذِّمِّيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ
مِنْ أَنْ يَعُودَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا حَصَلَ فِي
أَيْدِيهِمْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ حَقُّ
الْعِبَادِ وَهُوَ قَدْ الْتَزَمَ حُقُوقَ الْعِبَادِ فِي الْمُعَامَلَاتِ،
وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ بَعْضُ حَقِّ الْعِبَادِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ رَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَالْإِجْبَارُ عَلَى
بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ
الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ
نَوْعُ إذْلَالٍ بِالْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ فِي اسْتِخْفَافِهِ
بِالْمُصْحَفِ وَأَمَّا الرِّبَا فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عَهْدٍ
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ» .
فَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا
مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاعِلٍ لَا يَلْزَمُ الْحَدُّ بِفِعْلِهِ فَهُوَ
كَالتَّمْكِينِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ
لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ عِنْدَنَا، وَمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى فَالْخِطَابُ فِيهِ قَاصِرٌ عَنْ الْكَافِرِ كَمَا هُوَ
قَاصِرٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَقَاسَ هَذَا بِمَا لَوْ
مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُكْرَهٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ
عَلَيْهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ فِعْلُ
الْمُسْتَأْمَنِ زِنًى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِهِ
بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَصَارَتْ هِيَ
زَانِيَةً بِالتَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ،
بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ فِعْلَهُمَا لَيْسَ بِزِنًا
شَرْعًا حَتَّى لَوْ قَذَفَهُمَا قَاذِفٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ بَعْدَ
الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى
قَوْلِنَا الْكُفَّارُ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ وَالْعِبَادَاتِ
الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْحُرُمَاتُ ثَابِتَةٌ
فِي حَقِّهِمْ وَكَانَ فِعْلُ الْمُسْتَأْمَنِ وَاجِبَ الْكَفِّ عَنْهُ
بِخِطَابِ الشَّرْعِ
(9/56)
فَيَكُونُ زِنًى إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ
عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُوبِ تَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ وَأَمَّا إذَا
مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُكْرَهٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا، وَإِنْ ضَجَعَ أَبُو يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الرِّوَايَةَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: لَسْت
أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي
الْمُكْرَهِ شَيْئًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مَمْنُوعٌ عَنْ
الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا وَفِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَكُونُ فِعْلُهُ
زِنًى وَتَصِيرُ هِيَ بِالتَّمْكِينِ زَانِيَةً تَبَعًا فَيَلْزَمُهَا
الْحَدُّ
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنَةِ
حُدَّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ دُونَ الْمُسْتَأْمَنَةِ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحَدَّانِ.
أَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمُسْتَأْمَنَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَتَعَذُّرُ
إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا لَيْسَ لِلشُّبْهَةِ فَلَا يَمْنَعُ
إقَامَتَهُ عَلَى الرَّجُلِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ حَدَّ
الزِّنَا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُقَامُ وَلَكِنَّهُ يُدْفَعُ إلَى
أَهْلِ دِينِهِ لِيُقِيمُوا عَلَيْهِ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ الْعُقُوبَةِ؛
لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا
سُئِلَا عَنْ ذِمِّيِّينَ زَنَيَا فَقَالَا: يُدْفَعَانِ إلَى أَهْلِ
دِينِهِمَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجْمَ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ وَكَانَا
ذِمِّيَّيْنِ وَلَنَا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ
أَهْلِ دَارِنَا وَمُلْتَزِمٌ أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى
الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الزِّنَا كَمَا يَعْتَقِدُهُ
الْمُسْلِمُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْ الْحُدُودِ تَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ
ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
دَارِنَا فَهُوَ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا حَتَّى
يَمْنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُقِيمَ الْحَدَّ
عَلَيْهِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ
الْإِمَامِ حُكْمًا حَتَّى لَا يَمْنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ
الْحَرْبِ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ
فَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي أَوْ شَبَّهْتهَا بِامْرَأَتِي أَوْ
جَارِيَتِي لَمْ يُدْرَأْ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا قَدْ
تَحَقَّقَ عَنْهُ وَظَنُّهُ هَذَا لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْ دَلِيلٍ فَكَانَ
لَغْوًا
وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ بَصِيرًا وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ
فَوَاقَعَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ عَدِمَ
آلَةَ التَّمْيِيزِ وَهُوَ الْبَصَرُ فَبُنِيَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ،
وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى فِرَاشِهِ إلَّا زَوْجَتُهُ أَوْ
أَمَتُهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْبَصِيرِ،
وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
وَالْمَعْنَى فِيهِ إنْ اعْتَمَدَ مُجَرَّدَ الظَّنِّ فَإِنَّ
الْمَوْجُودَةَ عَلَى فِرَاشِهِ قَدْ تَكُونُ أُمَّهُ أَوْ أُخْتَهُ وَقَدْ
تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ زَوْجَتَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ
بِذَلِكَ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَهَا كَتَمَكُّنِ
الْبَصِيرِ مِنْ أَنْ يَرَاهَا.
فَأَمَّا إذَا دَعَا الْأَعْمَى امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَتَتْهُ
أَجْنَبِيَّةٌ فَوَاقَعَهَا، إنْ كَانَتْ قَالَتْ لَهُ أَنَا زَوْجَتُك
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ أَجَابَتْ أَوْ أَتَتْهُ سَاكِتَةً
(9/57)
فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ
الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا إذَا قَالَتْ: أَنَا زَوْجَتُك فَقَدْ اعْتَمَدَ
خَبَرَ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الْبَصِيرَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّ
امْرَأَتَهُ هَذِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ وَيَطَأَهَا؟
فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ امْرَأَتِهِ كَانَ الثَّابِتُ حُكْمَ
الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، فَكَذَلِكَ هِيَ إذَا أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ،
فَأَمَّا إذَا لَمْ تُخْبِرْهُ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - يَقُولُ إجَابَتُهَا أَوْ إتْيَانُهَا بَعْدَ مَا دَعَا
زَوْجَتَهُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهَا أَنِّي زَوْجَتُك وَمُحَمَّدٌ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إنْ أَجَابَتْهُ إلَى الْفِرَاشِ
فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهَا نَائِمَةً عَلَى فِرَاشِهِ وَكَمَا لَا
يَسْقُطُ الْحَدُّ هُنَاكَ بِظَنِّهِ فَكَذَلِكَ هُنَا
[اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا فَزَنَى بِهَا]
(قَالَ) رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا فَزَنَى بِهَا
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَيْهِمَا
الْحَدُّ لِتَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا، فَإِنَّ الِاسْتِئْجَارَ
لَيْسَ بِطَرِيقٍ لِاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ شَرْعًا فَكَانَ لَغْوًا
بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ أَوْ الْخَبْزِ ثُمَّ
زَنَى بِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةٌ لَهَا
حُكْمُ الْمَالِيَّةِ وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ
وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا وَالْعَقْدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ لَا
يَنْعَقِدُ أَصْلًا، فَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ كَانَ هُوَ وَالْإِذْنُ
سَوَاءً.
وَلَوْ زَنَى بِهَا بِإِذْنِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَلَكِنْ أَبُو
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ بِحَدِيثَيْنِ ذَكَرَهُمَا عَنْ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً
اسْتَسْقَتْ رَاعِيًا فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا حَتَّى تُمَكِّنَهُ مِنْ
نَفْسِهَا فَدَرَأَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَدَّ عَنْهُمَا،
وَالثَّانِي أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَجُلًا مَالًا فَأَبَى أَنْ
يُعْطِيَهَا حَتَّى تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَدَرَأَ الْحَدَّ وَقَالَ:
هَذَا مَهْرٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا دَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا؛
لِأَنَّهَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً تَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْعَطَشِ؛
لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ وَهُوَ
غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ سَائِلَةً مَالًا كَمَا ذَكَرْنَا
فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مَعَ أَنَّهُ عَلَّلَ فَقَالَ إنَّ هَذَا مَهْرٌ
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَهْرَ وَالْأَجْرَ يَتَقَارَبَانِ قَالَ
تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
[النساء: 24] سُمِّيَ الْمَهْرُ أَجْرًا.
وَلَوْ قَالَ: أَمْهَرْتُك كَذَا لِأَزْنِيَ بِك لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ،
فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ
لَيْسَ بِزِنًا، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُسَمُّونَ الْوَطْءَ الَّذِي
يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ زِنًى وَلَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الزِّنَا
وَغَيْرِهِ إلَّا بِالْعَقْدِ فَكَذَلِكَ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ
الِاسْتِئْجَارِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا شَرْعِيٌّ،
وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا
الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا لُغَةً وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ
وُجُوبِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى
الْمُخْتَلِسِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِسَرِقَةٍ لُغَةً، يُوَضِّحُهُ
أَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ
فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْفَعَةٌ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ
لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ
شُبْهَةً
(9/58)
بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ لِلطَّبْخِ
وَالْخَبْزِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى
الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَلَا إلَى مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَالْعَقْدُ
الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يُوجِبُ الشُّبْهَةَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا
فِي مَحَلٍّ آخَرَ
[الْإِكْرَاه عَلَى الزِّنَا]
(قَالَ) رَجُلٌ أُكْرِهَ حَتَّى زَنَى بِامْرَأَةٍ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ أَوَّلًا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَهُوَ
قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا
يَزْنِي مَا لَمْ تَنْتَشِرْ آلَتُهُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ
بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ التَّمْكِينَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَعَ
الْإِكْرَاهِ فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهَا دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ ثُمَّ
رَجَعَ فَقَالَ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ وَهُوَ مُنْزَجِرٌ عَنْ الزِّنَا
وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ الْإِقْدَامِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ
نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَالْمَرْأَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ
انْتِشَارَ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ طَائِعًا؛ لِأَنَّ
انْتِشَارَ الْآلَةِ قَدْ يَكُون طَبْعًا وَقَدْ يَكُونُ طَوْعًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّائِمَ قَدْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ
وَفِعْلٍ مِنْهُ؟ وَإِنَّمَا انْتِشَارُ الْآلَةِ دَلِيلُ الْفُحُولِيَّةِ،
فَأَمَّا إذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إذَا زَنَى وَعِنْدَهُمَا
إذَا جَاءَ مِنْ إكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يُشْبِهُ إكْرَاهَ
السُّلْطَانِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ،
فَإِنَّ السُّلْطَانَ كَانَ مُطَاعًا فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ
يَرَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى
الْإِكْرَاهِ، فَقَالَ: لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ إلَّا مِنْ
السُّلْطَانِ، ثُمَّ فِي عَصْرِهِمَا قَدْ ظَهَرَتْ الْقُوَّةُ لِكُلِّ
مُتَغَلِّبٍ فَقَالَا: يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ،
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ
وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الْمُكْرِهَ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا
هَدَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، بَلْ خَوْفُ التَّلَفِ هُنَا
أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُتَغَلِّبَ يَكُونُ مُسْتَعْجِلًا لِمَا قَصَدَهُ
لِخَوْفِهِ مِنْ الْعَزْلِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ وَالسُّلْطَانُ ذُو
أَنَاةٍ بِمَا يَفْعَلُهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ مِنْ
السُّلْطَانِ بِالتَّهْدِيدِ فَمِنْ الْمُتَغَلِّبِ أَوْلَى وَأَبُو
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ مَا يَكُونُ مُغَيِّرًا
لِلْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا،
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ نَادِرٌ؛
لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ فَالْمُبْتَلَى بِهِ
يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ لِيَدْفَعَ شَرَّهُ عَنْهُ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ
ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ وَلَا حُكْمَ لِلنَّادِرِ فَأَمَّا الْمُبْتَلَى
بِالسُّلْطَانِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِغَيْرِهِ لِيَدْفَعَ
شَرَّهُ عَنْهُ فَيَتَحَقَّقَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ
ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ
(قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِأَمَةٍ أَوْ حُرَّةٍ ثُمَّ قَالَ اشْتَرَيْتهَا
دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى سَبَبًا مُبِيحًا فَإِنَّ
الشِّرَاءَ فِي الْأَمَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ وَفِي الْحُرَّةِ
النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ فَكَانَ دَعْوَاهُ
الشِّرَاءَ كَدَعْوَى النِّكَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ دَعْوَى
النِّكَاحِ يُسْقِطُ الْحَدَّ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَزَكَّاهُمْ
الْمُزَكُّونَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَرَجَمَهُ
الْإِمَامُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ مَجُوسٌ فَإِنْ ثَبَتَ
(9/59)
الْمُزَكُّونَ عَلَى التَّزْكِيَةِ
وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى
الشُّهُودِ أَمَّا عَلَى الشُّهُودِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ
كَذِبُهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إذْ لَا شَهَادَةَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ لِلْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُزَكِّينَ
فَلِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا مَا سَمِعُوا مِنْ إسْلَامِهِمْ
وَحُرِّيَّتِهِمْ وَإِنَّمَا زَكُّوهُمْ بِقَوْلِ النَّاسِ فَلَمْ
يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ الْقَاضِيَ مِنْ قَوْلِ
النَّاسِ إنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَأَمَّا إذَا رَجَعُوا عَنْ
التَّزْكِيَةِ، وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الدِّيَةِ
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا ضَمَانَ عَلَى
الْمُزَكِّينَ وَلَكِنَّ الدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛
لِأَنَّ الْمُزَكِّينَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الزِّنَا
وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا، فَكَانُوا فِي الْمَعْنَى
كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ، إلَّا أَنَّ أُولَئِكَ أَثْبَتُوا خِصَالًا
مَحْمُودَةً فِي الزَّانِي لَا يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَيْهِ إلَّا بِهَا
وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا خِصَالًا فِي الشَّاهِدِ لَا يُقَامُ الرَّجْمُ
إلَّا عِنْدَهَا، فَكَمَا لَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ إذَا
رَجَعُوا فَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَأَبُو حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْمُزَكُّونَ جَعَلُوا مَا لَيْسَ
بِمُوجِبٍ مُوجِبًا فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَثْبَتَ سَبَبَ
الْإِتْلَافِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا
بِدُونِ التَّزْكِيَةِ، وَسَبَبُ الْإِتْلَافِ الشَّهَادَةُ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ مُوجِبَةً بِالتَّزْكِيَةِ فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ عِلَّةَ
الْعِلَّةِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ
إلَيْهِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى
الزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَانِ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَشُهُودُ
الْإِحْصَانِ مَا جَعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجِبِ مُوجِبًا وَأُمًّا
الشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ التَّزْكِيَةِ فَمِنْ هَذَا
الْوَجْهِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا اُشْتُرِطَ
الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّينَ كَشُهُودِ الزِّنَا.
وَيَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَإِنْ
كَانَ الْمُزَكُّونَ قَالُوا هُمْ عُدُولٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ
بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ وَالْعَبْدُ قَدْ
يَكُونُ عَدْلًا وَيَكُونُ الْقَاضِي جَهِلَ حِينَ اكْتَفَى مِنْهُمْ
بِهَذَا الْقَدْرِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُزَكُّونَ
[زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا]
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا، إنْ قَتَلَهَا بِفِعْلِهِ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَضَمَانُ الْقِيمَةِ، الْحَدُّ لِلزِّنَا
وَالْقِيمَةُ لِإِتْلَافِ النَّفْسِ، وَهُمَا مَعْنَيَانِ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ
بِحُرَّةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَمَةِ يَدْرَأُ عَنْهُ
الْحَدَّ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ
الْأَمَةِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا زَنَى بِأَمَةٍ فَأَذْهَبَ
بَصَرَهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ
الْجُثَّةَ الْعَمْيَاءَ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً
فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، فَأَمَّا إذَا قَتَلَهَا فَإِنَّمَا لَزِمَهُ
ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ
بَدَلُ النَّفْسِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ
تَقَرُّرِ الْجِنَايَةِ بِالْمَوْتِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلْمُلْكِ
(9/60)
بَعْدَ الْمَوْتِ
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى بِأَمَةٍ هِيَ رَهْنٌ عِنْدَهُ فَإِنْ قَالَ ظَنَنْت
أَنَّهَا تَحِلُّ لِي دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْت
أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُثْبِتُ مِلْكَ
الْيَدِ حَقًّا لِلْمُرْتَهِنِ وَبِمُلْكِ الْيَدِ تَثْبُتُ شُبْهَةُ
الِاشْتِبَاهِ كَمَا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ خُلْعٍ أَوْ مِنْ
تَطْلِيقَاتٍ إذَا وَطِئَهَا، وَقَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا
يُحَدُّ لِبَقَاءِ مِلْكِ الْيَدِ لَهُ فِيهَا بِسَبَبِ الْعِدَّةِ،
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّهُ يُحَدُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛
لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِيَّةِ وَذَلِكَ
لَيْسَ بِسَبَبٍ لَلْحِلِّ بِحَالٍ وَهُوَ نَظِيرُ الْغَرِيمِ إذَا وَطِئَ
جَارِيَةً مِنْ التَّرِكَةِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَتْ
الْمَالِيَّةُ حَقًّا لَهُ فَإِنَّهَا تُبَاعُ فِي دَيْنِهِ
[اسْتَأْجَرَ أَمَةً لِتَخْدُمَهُ أَوْ اسْتَعَارَهَا فَزَنَى بِهَا]
(قَالَ) وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَمَةً لِتَخْدُمَهُ أَوْ اسْتَعَارَهَا
فَزَنَى بِهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا
لِانْعِدَامِ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَا
يَتَعَدَّى إلَى مِلْكِ الْمَحَلِّ بِحَالٍ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَاخْتَلَفُوا
فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا أَوْ فِي الْمَكَانِ أَوْ فِي الْوَقْتِ بَطَلَتْ
شَهَادَتُهُمْ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الْمَحَلِّ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَمَا لَمْ يَجْتَمِعْ الشُّهُودُ
الْأَرْبَعَةُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ
الْإِمَامِ، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَنَا، وَقَالَ
زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ
اثْنَيْنِ نَسَبَاهُ إلَى زِنًى آخَرَ فَكَانَا قَاذِفَيْنِ لَهُ، وَشَرْطُ
سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ بِزِنًا
وَاحِدٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَسَكَتَ الرَّابِعُ حُدَّ
الثَّلَاثَةُ؟ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى زِنَا آخَرَ؛
لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمَثْنَى، وَلَكِنَّا
نَقُولُ: قَدْ اجْتَمَعَ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ
بِالزِّنَا، وَذَلِكَ مَنْعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ
شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْفُسَّاقِ بِالزِّنَا عَلَى رَجُلٍ تَوْضِيحُهُ
أَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمَزْنِيِّ بِهَا أَوْ فِي
الْمَكَانِ أَوْ فِي الزَّمَانِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ
لِلْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ
عَلَيْهِمْ، وَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ
بَيَانِ ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا
وَامْتَنَعُوا مِنْ بَيَانِ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ
فَهَذَا مِثْلُهُ.
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى بَيْتٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِيهِ،
فَقَالَ اثْنَانِ: فِي مُقَدَّمِهِ وَقَالَ اثْنَانِ: فِي مُؤَخَّرِهِ فِي
الْقِيَاسِ لَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي مُقَدَّمِ الْبَيْتِ
غَيْرُ الْفِعْلِ فِي مُؤَخَّرِ الْبَيْتِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
الشَّهَادَةِ فِي بَيْتَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ
يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُمْ
اجْتَمَعُوا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفُوا
نَقْلَهُ، وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ كَمَا
لَوْ اخْتَلَفُوا فِي ثِيَابِهَا حِينَ زَنَى بِهَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ
أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ لَمْ
يَسْأَلْهُمْ الْقَاضِي إنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِهِ أَوْ فِي مُؤَخَّرِهِ،
وَبَيَانُ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا)
(9/61)
أَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ كَانَ فِي
مُقَدِّمِ الْبَيْتِ وَانْتِهَاءَهُ كَانَ فِي مُؤَخَّرِهِ
لِاضْطِرَابِهِمَا أَوْ كَانَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَظَنَّ اثْنَانِ أَنَّ
ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ مُقَدَّمِ الْبَيْتِ وَاثْنَانِ أَنَّهُ مِنْ
مُؤَخَّرِ الْبَيْتِ فَشَهِدُوا عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ
الْبَيْتَيْنِ وَالْقَبِيلَتَيْنِ فَالتَّوْفِيقُ هُنَاكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ،
ثُمَّ هَذَا الِاسْتِحْسَانُ مِنَّا لِتَصْحِيحِ الشَّهَادَةِ لَا
لِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَإِنَّمَا يُسْتَحْسَنُ لِدَرْءِ الْحَدِّ وَلَمْ
يُذْكَرْ إذَا تَقَارَبَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الزَّمَانِ، وَالْجَوَابُ
فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْمَكَانِ إذَا تَقَارَبَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ
التَّوْفِيقُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ اسْتِحْسَانًا، وَلَوْ اخْتَلَفُوا
فِي الثَّوْبِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حِينَ زَنَى بِهَا لَمْ تَبْطُلْ
شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ بَيَانِ ثَوْبِهِ حِينَ
زَنَى لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ
اخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفُوا نَقْلَهُ وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ وَقَعَ بَصَرُ اثْنَانِ عَلَى
أَحَدِهِمَا وَبَصَرُ الْآخَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَأَحَدُهُمْ
وَالِدُهُ أَوْ وَلَدُهُ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ
فِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ ثُمَّ يَرِثُ الْوَلَدُ مِنْ
وَالِدِهِ وَإِنْ رُجِمَ بِشَهَادَتِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ
الْإِمَامُ بِالْبِدَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَمَّدَ قَتْلَهُ؛
لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مَانِعٌ لِلْوَلَدِ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ
لِوَالِدِهِ بِالْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحَ الدَّمِ عَلَى مَا رُوِيَ
«أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقَالَ: يَكْفِيكَ
ذَلِكَ غَيْرُك» ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ أَخًا أَوْ جَدًّا أَوْ
وَاحِدًا مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ
حُرْمَتَانِ الْإِسْلَامُ وَالْقَرَابَةُ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ
التَّعَرُّضِ لَهُ بِالْقَتْلِ كَمَا فِي الْعَادِلِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يَقْتُلَ أَخَاهُ الْبَاغِيَ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يَقْتُلَ أَخَاهُ الْكَافِرَ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ هُنَاكَ حُرْمَةٌ
وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْقَرَابَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ
فِيمَا بَيْنَ الْأَجَانِبِ.
(قَالَ) فَأَمَّا فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمَوْجُودُ
حُرْمَتَانِ الْوِلَادُ يَعْنِي بِهِ الْجُزْئِيَّةَ وَالْقَرَابَةَ فَلَوْ
أَنَّهُ أَصَابَ مَقْتَلَهُ لَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ
قَتَلَ بِحَقٍّ، وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ جَزَاءٌ عَلَى الْقَتْلِ
الْمَحْظُورِ عُقُوبَةً فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي الْقَتْلِ بِحَقٍّ
[امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ مِنْ الْبِدَايَةِ بِالرَّجْمِ]
(قَالَ) وَلَوْ امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ مِنْ الْبِدَايَةِ بِالرَّجْمِ
فَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ،
وَلَكِنْ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ
عَلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ مُبَاشَرَةِ
الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا
وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِحَقٍّ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَعَدَلُوا
فَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ حَتَّى قَتَلَهُ إنْسَانٌ بِالسَّيْفِ
عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ
عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ
شَيْئًا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَضَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ
رَجَعُوا بَعْدَ عَدَالَتِهِمْ
(9/62)
لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ وَلَمْ
يَضْمَنُوا لِلْمَشْهُودِ لَهُ شَيْئًا وَلَوْ وَجَبَ حَقُّ الْمَشْهُودِ
لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ لَصَارُوا مُتْلِفِينَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنُوا لَهُ، وَلَمَّا
ثَبَتَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ
فَبَقِيَتْ النَّفْسُ مَعْصُومَةً عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ الشَّهَادَةِ
فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ
قَدْ بَطَلَتْ بِالْقَتْلِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِهَا بَعْدَ
ذَلِكَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَهُوَ كَمَا لَوْ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ
بِرُجُوعِهِمْ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِرَجْمِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ إنْسَانٌ
عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ لَا شَيْءَ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُبَاحَ الدَّمِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي،
وَالْفِعْلُ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا يَكُونُ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ،
وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَلَا شَيْءَ عَلَى
الْجَانِي؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْجَانِي
فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَإِنْ وَجَدَ أَحَدُ الشُّهُودِ عَبْدًا بَعْدَ مَا قَتَلَهُ الرَّجُلُ
عَمْدًا فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ كَانَ مَحْقُونَ الدَّمِ حِينَ ظَهَرَ أَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ
لَمْ يَتَكَامَلْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا
فِي مَعْنَى قَتْلِهِ إيَّاهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ
تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي كَانَ بَاطِلًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ
فَأَبْطَلَ عَنْهُ الْقِصَاصَ وَجَعَلَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فِي
ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِإِبَاحَةِ دَمِهِ، وَصُورَةُ
قَضَاءِ الْقَاضِي تَكْفِي لِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ
حَقًّا كَانَ مُبِيحًا لِلدَّمِ، فَصُورَتُهُ تَمَكُّنُ شُبْهَةٍ
كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُجْعَلُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ
وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمَوْلَى إذَا جَاءَ الْمَشْهُودُ
بِقَتْلِهِ حَيًّا.
وَإِذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي
مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ
وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا
بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَتَلَهُ رَجْمًا فَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْقَاضِي فَيَكُونُ
فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْقَاضِي فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَلَكِنَّ هَذَا
خَطَأٌ مِنْ الْإِمَامِ فِيمَا عَمِلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَجِبُ
الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا
امْتَثَلَ أَمْرَ الْقَاضِي فِي قَتْلِهِ إيَّاهُ بِالسَّيْفِ وَلِهَذَا
يُؤَدِّبُهُ الْقَاضِي هُنَاكَ عَلَى مَا صَنَعَ وَلَا يُؤَدِّبُهُ هُنَا،
وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَجْهَزُوا عَلَيْهِ حَتَّى ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ
الشُّهُودِ عَبْدٌ فَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ أَيْضًا فِي بَيْتِ الْمَالِ
اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ أَنَّ
الْخَطَأَ مِنْ الْإِمَامِ فِي الْوَجْهَيْنِ
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُوَ غَيْرُ
مُحْصَنٍ وَضَرَبَهُ الْإِمَامُ الْحَدَّ ثُمَّ وَجَدَ أَحَدَهُمْ عَبْدًا
وَقَدْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ أَوْ لَمْ يَمُتْ فَلَا شَيْءَ فِي
بَيْتِ الْمَالِ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا هُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ
وَعَلَى هَذَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ وَقَدْ جَرَحَتْهُ
(9/63)
السِّيَاطُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا
يَضْمَنُ الشُّهُودُ أَرْشَ الْجِرَاحَاتِ وَالدِّيَةَ إنْ مَاتَ مِنْ
ذَلِكَ.
(وَحُجَّتُنَا) أَنَّ الْجَلَدَاتِ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمْ،
فَالشَّاهِدُ يُجْعَلُ كَالْمُبَاشِرِ لِمَا أَوْجَبَهُ بِشَهَادَتِهِ فِي
حُكْمِ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا، وَكَمَا أَنَّ
شُهُودَ الْقِصَاصِ وَشُهُودَ الْقَتْلِ إذَا رَجَعُوا ضَمِنُوا مَا
أُتْلِفَ بِشَهَادَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ بَاشَرُوا ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ،
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَالْمُبَاشِرِينَ تَلَفًا وَمَنْ ضَرَبَ
إنْسَانًا بِسَوْطٍ فَجَرَحَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ أَرْشَ
الْجِرَاحَةِ وَلَوْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا لِلدِّيَةِ
فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعُوا هُنَا، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ فَقَدْ
ظَهَرَ الْخَطَأُ مِنْ الْإِمَامِ، فَذَلِكَ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ
الْمَالِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ إنَّمَا
أَوْجَبُوا بِشَهَادَتِهِمْ ضَرْبًا مُؤْلِمًا غَيْرَ جَارِحٍ وَمُتْلِفٍ،
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ هَذَا الْحَدُّ الشَّدِيدُ عَلَى الْمَرِيضِ
كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْتَارُ
لِإِقَامَةِ الْحَدِّ سَوْطًا لَا ثَمَرَةَ لَهُ كَيْ لَا يَجْرَحَهُ،
وَيُفَرَّقَ عَلَى الْأَعْضَاءِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْجِرَاحَةِ،
وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ فَلَمْ يَجْرَحْهُ يَتِمُّ إقَامَةُ الْحَدِّ
حَتَّى لَا يُعَادَ عَلَيْهِ فَيَثْبُتَ أَنَّهُمْ إذَا أَوْجَبُوا
بِشَهَادَتِهِمْ ضَرْبًا مُؤْلِمًا غَيْرَ جَارِحٍ وَلَا مُتْلِفٍ،
وَلَكِنَّ الْجِرَاحَةَ وَالْإِتْلَافَ أَفْضَتْ إلَيْهِ الشَّهَادَةُ
وَالشَّاهِدُ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا يَضْمَنُ مَا أَفْضَى إلَيْهِ
شَهَادَتُهُ كَالشَّهَادَةِ بِالنَّسَبِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ إذَا رَجَعَ
بَعْدَ مَا مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَوَرِثَ الْمَشْهُودُ لَهُ
بِنِسْبَةٍ.
وَكَمَا أَنَّ الْجِرَاحَةَ وَالْإِتْلَافَ لَيْسَ مِنْ مُوجِبِ
الشَّهَادَةِ فَكَذَا لَيْسَ مِنْ مُوجِبِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ
إنَّمَا يَقْضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ
الضَّمَانِ عَلَى الْقَاضِي وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا
يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا كَانَ وَاجِبًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي إذَا
تَبَيَّنَ فِيهِ الْخَطَأُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَلَّادِ أَيْضًا؛
لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْقَاضِي وَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيمَا أَقَامَ
مِنْ الْحَدِّ، فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ أَحَدٌ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا
بَاشَرَ الضَّرْبَ بِالسَّوْطِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِضَرْبِهِ مِنْ
مُوجِبَاتِ فِعْلِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ فَكَانَ مُؤَاخَذًا
بِضَمَانِهِ
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِشَيْءٍ يَجِبُ فِيهِ
التَّعْزِيرُ فَعَزَّرَهُ الْإِمَامُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ
عَلَى الْإِمَامِ، وَلَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ
عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعَلَى قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ،
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ
لِلتَّأْدِيبِ لَا لِلْإِتْلَافِ، فَإِذَا أَدَّى إلَى الْإِتْلَافِ كَانَ
خَطَأً مِنْ الْإِمَامِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛
لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَمَا نَقُولُ فِي الزَّوْجِ
إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ فَمَاتَتْ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّيَةِ،
وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِمَامُ مُحِقٌّ فِيمَا أَقَامَ وَهُوَ مُسْتَوْفٍ
حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ كَأَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ أَمَاتَهُ
بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي
ذَلِكَ
(9/64)
لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَمَا يَتَوَلَّدُ
مِنْهُ يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ إقَامَةَ التَّعْزِيرِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ
شَرْعًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِهِ، وَمَا يَكُونُ
مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَرْءِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطٍ لَيْسَ فِي
وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ
فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَأَمَّا تَعْزِيرُ الزَّوْجِ مُبَاحٌ لَهُ غَيْرُ
مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَالْمُبَاحَاتُ تَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ
كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ
(قَالَ) وَإِذَا حَكَمَ الْإِمَامُ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَالرَّجْمِ
بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَقَالَ لِلنَّاسِ اُرْجُمُوهُ وَسِعَهُمْ أَنْ
يَرْجُمُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ، وَرَوَى ابْنُ
سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسَعُهُمْ
ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ عَدْلٌ آخَرُ عِنْدَهُمْ، أَوْ يُعَايِنُوا
أَدَاءَ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَمْرٌ عَظِيمٌ إذَا
وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ وَالتَّلَاقِي، وَمَنْ
يَكُونُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ مُلْزِمًا الْأَنْبِيَاءُ الْمَعْصُومُونَ عَنْ
الْكَذِبِ فَإِنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْقَاضِي لَا
تَبْلُغُ دَرَجَتُهُ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ
عَنْ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَسَعُهُمْ الْإِقْدَامُ بِمُجَرَّدِ
قَوْلِهِ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي أَوْلَى مِنْ
شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَلَوْ عَايَنُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ وَسِعَهُمْ
أَنْ يَرْجُمُوهُ، وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ غَيْرَ مَعْصُومِينَ عَنْ
الْكَذِبِ فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُمْ الْقَاضِي بِقَضَائِهِ وَهَذَا؛
لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ هِيَ الِاكْتِفَاءُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ
بِقَاضٍ وَاحِدٍ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ حُكْمِهِ حُجَّةً لَكَانَ
يُتَّخَذُ قَاضِيَانِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ
وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِقَاضٍ وَاحِدٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ
قَوْلِهِ حُجَّةٌ يُطْلِقُ لَهُمْ الْإِقْدَامَ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ
رَجْمًا كَانَ أَوْ قَتْلًا حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ أَوْ قَطْعًا فِي
السَّرِقَةِ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا وَقَالَ الرَّابِعُ
لَمْ أَرَ مَا قَالُوا وَلَكِنِّي رَأَيْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ
فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّابِعَ مَا شَهِدَ بِشَيْءٍ فَلَمْ
يَتَكَامَلْ عَدَدُ شُهُودِ الزِّنَا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى
الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوهُ
بِالزِّنَا حَيْثُ لَمْ يَتَكَامَلْ عَدَدُ الشُّهُودِ وَلَا يُحَدُّ
الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا بِقَوْلِهِ
رَأَيْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ
حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ حِين امْتَنَعَ زِيَادٌ مِنْ
الشَّهَادَةِ عَلَى صَرِيحِ الزِّنَا وَلَمْ يُقِمْ الْحَدَّ عَلَى
زِيَادٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ ثُمَّ
سُئِلَ عَنْ صِفَتِهِ فَلَمْ يَصِفْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَوْلِهِ
إنَّهُ زَانٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا بِهَذَا وَأَكَّدَ
ذَلِكَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَكِّدْ ذَلِكَ بِلَفْظَةِ
الشَّهَادَةِ وَلَكِنْ قَالَ هَذَا زَانٍ كَانَ قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا
اللَّفْظِ مُسْتَوْجِبًا الْحَدَّ فَهُنَا أَوْلَى، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّابِعَ إذَا قَالَ: هَذَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ
سِوَى الْمَجْلِسِ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ الثَّلَاثَةُ، فَأَمَّا إذَا
اجْتَمَعَ الْأَرْبَعَةُ فِي مَجْلِسٍ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا
وَأَبَى بَعْضُهُمْ
(9/65)
أَنْ يُفَسِّرَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَى
مَا فَسَّرَهُ بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ
بِالزِّنَا فَسُئِلُوا عَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَمَاهِيَّتِه وَقَالُوا لَا
نَزِيدُ لَك عَلَى هَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يُبَيِّنُوا مُبْهَمَ كَلَامِهِمْ وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ
لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ فَإِنَّ تَكَامُلَ عَدَدِ الشُّهُودِ مَانِعٌ مِنْ
وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ
الْفُسَّاقِ بِالزِّنَا، وَكَذَلِكَ إنْ وَصَفَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ؛
لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ فِي أَصْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ
بِالزِّنَا، وَامْتِنَاعُ بَعْضِهِمْ عَنْ الْبَيَانِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا
عَنْ الشَّهَادَةِ وَلَكِنْ يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ
الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُقَامُ
عَلَى الشُّهُودِ أَيْضًا كَمَا فِي فِسْقِ الشُّهُودِ
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَشَهِدَ
أَرْبَعَةٌ عَلَى الشُّهُودِ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ زَنَوْا بِهَا لَا
تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ
الَّتِي دَخَلَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا
عَلَى الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ
لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ عُدُولٌ شَهِدُوا عَلَى
الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ بِالزِّنَا فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ، وَقَدْ
ثَبَتَ فِسْقُهُمْ لِظُهُورِ زِنَاهُمْ بِالْحُجَّةِ فَتَبْطُلُ
شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ، وَبَقِيَتْ
الشُّبْهَةُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى إنْ قَصَدَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إبْطَالَ
شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَشْهَدُوا إلَى
أَنْ شَهِدَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ
قَاصِدِينَ إلَى إبْطَالِ شَهَادَتِهِمْ أَوْ كَانُوا صَادِقِينَ
وَلَكِنَّهُمْ اخْتَارُوا السَّتْرَ فَلَمَّا شَهِدَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ
حَمَلَتْهُمْ الضَّغِينَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ دُونَ
الْحِسْبَةِ وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ
شَهِدُوا بِالزِّنَا بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَلِأَنَّ فِي لَفْظِهِمْ
مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَصْدَهُمْ الْمُجَازَاةُ دُونَ الْحِسْبَةِ،
فَإِنَّ فِي الشَّهَادَةِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ يَقُولُونَ زَنَوْا وَهُمْ
زُنَاةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ هُمْ الَّذِينَ زَنَوْا يَكُونُ عَلَى
طَرِيقِ الْمُجَازَاةِ ثُمَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى التَّهَاتُرِ فَرُبَّمَا
يَشْهَدُ فَرِيقٌ ثَالِثٌ عَلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي بِمِثْلِ ذَلِكَ،
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ
[شَهِدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَامْرَأَتَانِ بِالزِّنَا]
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَامْرَأَتَانِ بِالزِّنَا لَمْ
تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ «لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ مَضَتْ السُّنَّةُ
مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي
حَدِّ الزِّنَا» فَكَانُوا جَمِيعًا قَذَفَةً
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ
بِالزِّنَا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى
الشَّهَادَةِ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْكَلَامَ إذَا
تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ تُمْكِنُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ
مَنْصُوبَةٌ لِلْحَاجَةِ وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهَا
مَبْنِيَّةٌ عَلَى الدَّرْءِ وَلَا حَدَّ عَلَى الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ
مَا نَسَبُوا الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إلَى الزِّنَا إنَّمَا حَكَوْا
شَهَادَةَ الْأُصُولِ بِذَلِكَ وَالْحَاكِي لِلْقَذْفِ عَنْ غَيْرِهِ لَا
يَكُونُ قَاذِفًا، فَإِنْ قَدِمَ الْأُصُولُ فَشَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ
أَنْفُسِهِمْ عَلَى هَذَا
(9/66)
الرَّجُلِ بِالزِّنَا لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَهْدَ قَدْ تَطَاوَلَ
وَالثَّانِي أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ بِرَدِّ هَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ
فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ
نَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأُصُولِ أَيْضًا فَفِي الْمَوْضِع الَّذِي تُرَدُّ
أَيْضًا يَتَعَدَّى رَدُّهُ إلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ
وَذَلِكَ شُبْهَةٌ وَلَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ،
وَلِأَنَّا إنَّمَا لَا نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ
بِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَالشُّبْهَةُ تَصْلُحُ لِدَرْءِ الْحَدِّ بِهَا لَا
لِإِيجَابِ الْحَدِّ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ
مَجْلِسِ الْقَاضِي نَشْهَدُ أَنَّكُمَا زَانِيَانِ وَقَدَّمُوهُمَا إلَى
الْقَاضِي وَشَهِدُوا عَلَيْهِمَا وَقَالَا: إنَّهُمْ قَدْ قَالُوا لَنَا
هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعُونَا إلَيْك، وَلَنَا بِذَلِكَ
بَيِّنَةٌ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَسْقُطْ
شَهَادَتُهُمْ بِهِ وَحُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهُمْ عُدُولٌ.
(فَإِنْ قِيلَ) صَارُوا قَاذِفِينَ لَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا
فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي الشَّهَادَةِ
مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَا إسْقَاطَ الْحَدِّ.
(قُلْنَا) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَكَامُلَ الْعَدَدِ كَمَا
يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي
فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فِعْلِهِمَا
النَّدَمُ مَعْنَاهُ أَنَّ مَقْصُودَ الشُّهُودِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ
فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي أَنَّكُمَا زَانِيَانِ لِيَظْهَرَ النَّدَمُ
لِيَسْتُرُوا عَلَيْهِمَا أَوْ الْإِصْرَارُ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِمَا،
وَالشَّاهِدُ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ الْأَوَّلَ
مَوْقُوفٌ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي
لَمْ يَكُنْ قَذْفًا وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَذْفًا
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا فَقَالَ: اثْنَانِ
طَاوَعَتْهُ، وَقَالَ آخَرَانِ: اسْتَكْرَهَهَا دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ الرَّجُلُ
وَحْدَهُ لَهُمَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ تَمَّتْ
مُوجِبَةً لِلْحَدِّ فَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي حَالِهَا،
وَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْفِعْلِ فِي جَانِبِهِ فَإِنَّ الْكُلَّ
لَوْ اتَّفَقُوا أَنَّهَا كَانَتْ طَائِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً يَجِبُ
الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلَانِ مِنْ
الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِفِعْلِهِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُودِ الْفِعْلِ
الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ شَهِدَا
بِفِعْلٍ آخَرَ فَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْفِعْلِ
الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ الزِّنَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ
وَالزَّمَانِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ شَهِدَا
بِفِعْلٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ طَائِعَةً
كَانَتْ شَرِيكَةً لَهُ فِي الْفِعْلِ حَتَّى تُشَارِكَهُ فِي إثْمِ
الْفِعْلِ وَشَاهِدَا الْإِكْرَاهِ شَهِدَا بِفِعْلٍ تَفَرَّدَ بِهِ
الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِلْمَرْأَةِ فِي الْفِعْلِ إذَا
كَانَتْ مُكْرَهَةً حَتَّى لَا تُشَارِكَهُ فِي إثْمِ الْفِعْلِ
وَالْفِعْلُ الْمُشْتَرَكُ غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ
الرَّجُلُ، وَقَوْلُنَا إنَّ الزِّنَا فِعْلَانِ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ
الْحُكْمُ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ
(9/67)
الْفِعْلُ وَاحِدٌ وَلِهَذَا لَوْ
تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَصِيرُ ذَلِكَ
شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْآخَرِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي مَا
ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ
صَارُوا قَاذِفِينَ لَهَا مُلْتَزِمِينَ حَدَّ الْقَذْفِ لَوْلَا شَهَادَةُ
الْآخَرِينَ أَنَّهُ زَنَى بِهَا وَهِيَ مُكْرَهَةٌ فَكَانَا خَصْمَيْنِ
وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ، وَإِنَّمَا لَا يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ
عَلَيْهِمَا بِشَهَادَةِ آخَرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً
ثُمَّ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَنَّهَا زَنَتْ، وَهِيَ مُكْرَهَةٌ سَقَطَ
الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ عَدَدِ الْأَرْبَعَةِ فِي
الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ
عَلَى سُقُوطِ إحْصَانِهَا؛ لِأَنَّ زِنَا الْمُكْرَهَةِ لَا يُوجِبُ حَدَّ
الزِّنَا عَلَيْهَا بِحَالٍ، وَسُقُوطُ الْإِحْصَانِ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ
شَاهِدَيْنِ.
وَبَيَانُ هَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي
الْكَيْسَانِيَّاتِ قَالَ: لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ
وَوَاحِدٌ أَنَّهَا مُكْرَهَةٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقَامُ عَلَى الثَّلَاثَةِ حَدُّ
الْقَذْفِ بِخُصُومَتِهَا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا قَاذِفِينَ لَهَا،
وَالشَّاهِدُ عَلَى سُقُوطِ إحْصَانِهَا وَاحِدٌ وَبِشَهَادَةِ وَاحِدٍ لَا
يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ لَا فِعْلَ لَهَا
فَتَكُونُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ
امْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
(قَالَ) وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ: أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا وَوَاحِدٌ
أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فَلَيْسَ عَلَى هَذَا الْوَاحِدِ حَدُّ الْقَذْفِ
لَهَا بِشَهَادَةِ الْبَاقِي بِسُقُوطِ إحْصَانِهَا هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً
عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا يَسْقُطُ
إحْصَانُهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا بِفِعْلِهَا.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا مُمَكِّنَةٌ مِنْ وَطْءٍ حَرَامٍ
فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُعْدِمُ لَهَا الْفِعْلَ خُصُوصًا فِيمَا لَا
يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ الْمُكْرَهَةُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ وَلِأَنَّهَا
مُضْطَرَّةٌ إلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ سُقُوطَ إحْصَانِهَا
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِهَذِهِ
الْمَرْأَةِ فِي مَوْضِعِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ
أَنَّهُ زَنَى بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
بِعَيْنِهِ فِي مَكَان آخَرَ وَالْبَيِّنَتَانِ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ لَمْ
يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ
الْفَرِيقَيْنِ وَالشَّخْصَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ
يَكُونَا فِي مَكَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَا يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنْ
الْكَاذِبِ فَيَمْتَنِعُ لِلتَّعَارُضِ أَوْ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ
الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ كُلِّ فَرِيقٍ أَوْ لِعَدَمِ ظُهُورِ رُجْحَانِ
جَانِبِ الصِّدْقِ، وَإِنْ شَهِدَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى وَقْتٍ
غَيْرِ الْوَقْتِ الْآخَرِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ وَحُدَّ الرَّجُلُ
وَالْمَرْأَتَانِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى الرَّجُلِ فِعْلَانِ وَعَلَى
كُلِّ امْرَأَةٍ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فَيُقِيمُ
الْقَاضِي الْحَدَّ عَلَيْهِمْ إذْ الزِّنَا بَعْدَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ
فِي وَقْتَيْنِ وَمَكَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِامْرَأَةٍ وَامْرَأَتَيْنِ
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى يَوْمَ النَّحْرِ
بِمَكَّةَ الْعَبْدِ
(9/68)
وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ قَتَلَ يَوْمَ
النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ فُلَانًا لَمْ تُقْبَلْ وَاحِدَةٌ مِنْ
الشَّهَادَتَيْنِ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ،
وَلَا حَدَّ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ وَعَلَى هَذَا
سَائِرُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَلَا يُقَالُ لَا
تُنْكَرُ كَرَامَةُ الْأَوْلِيَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ بِمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَلِيِّ لَا
يَزْنِي وَلَا يَجْحَدُ مَا فَعَلَهُ وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ
الْأَحْكَامِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ، فَإِنْ حَضَرَ
أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ وَشَهِدُوا فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمْ
ثُمَّ شَهِدَ الْآخَرُونَ فَشَهَادَةُ الْآخَرِينَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ
رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ ثَبَتَ فِي شَهَادَةِ الْأَوَّلِينَ حِينَ
اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِهَا فَيَبْقَى الْكَذِبُ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ
الثَّانِي، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا وَإِنْ كَانُوا
هُمْ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ
(قَالَ) وَإِذَا ثَبَتَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى رَجُلٍ بِشَهَادَةِ
الشُّهُودِ وَهُوَ مُحْصَنٌ أَوْ غَيْرُ مُحْصَنٍ، فَلَمَّا أُقِيمَ
عَلَيْهِ بَعْضُهُ هَرَبَ فَطَلَبَهُ الشُّرَطُ فَأَخَذُوهُ فِي فَوْرِهِ
أُقِيمَ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْهُرُوبَ غَيْرُ مُسْقِطٍ
عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْحَدِّ، وَأَصْلُهُ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا
يُقَامُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ عِنْدَنَا
وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدٍّ هُوَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَامُ وَاعْتَبَرَهُ
بِسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ غَيْرُ
مُسْقِطٍ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ فَاعْتُبِرَ الْبَيِّنَةُ بِالْإِقْرَارِ
فَإِنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُقَامُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ تَقَادُمِ
الْعَهْدِ فَكَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
حَيْثُ قَالَ: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا
عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضِغْنٍ، قَالَ الْحَسَنُ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَدِيثِهِ: لَا شَهَادَةَ لَهُمْ،
وَالْمُغْنِي أَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ مُخَيَّرٌ فِي
الِابْتِدَاءِ بَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ أَوْ يَشْهَدَ فَلَمَّا
أَخَّرَ الشَّهَادَةَ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَالَ إلَى السَّتْرِ ثُمَّ
حَمَلَتْهُ الْعَدَاوَةُ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ السَّتْرَ وَيَشْهَدَ
عَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةً بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ فَلِهَذَا
لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَا
تُقْبَلُ إلَّا بِخُصُومَةِ الْمَقْذُوفِ وَطَلَبِهِ الْحَدَّ فَإِنَّمَا
أَخَّرُوا أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ الْخُصُومَةِ مِنْ الْمَقْذُوفِ
وَلِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ حَقِّ الْعِبَادِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ
الْمَقْذُوفِ فَمَتَى أَقَامَ الْحُجَّة عَلَيْهِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ
لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ.
وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ السَّرِقَةُ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ
عَلَيْهَا لَا تُقْبَلُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ وَلَكِنَّ خُصُومَةَ
الْمَسْرُوقِ مِنْهُ هُنَاكَ فِي الْمَالِ لَا فِي الْحَدِّ وَبَعْدَ
تَقَادُمِ الْعَهْدِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ فِيمَا فِيهِ الْخُصُومَةُ
لَهُ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ هُنَاكَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى،
وَلِهَذَا صَحَّ الرُّجُوعُ فِيهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ حَدِّ
الْقَذْفِ، وَحَدُّ اللَّهِ تَعَالَى أَقْرَبُ إلَى الدَّرْءِ؛ لِأَنَّهُ
يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ خُسْرَانٌ أَوْ ضَرَرٌ وَهَذَا بِخِلَافِ
الْإِقْرَارِ، فَإِنَّ مَعْنَى الضَّغِينَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي
الْإِقْرَارِ بَعْدَ التَّقَادُمِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ
عَلَى وَجْهٍ يَحْمِلُهُ
(9/69)
ذَلِكَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَلَمْ
يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ حَدَّ التَّقَادُمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: جَهَدْتُ بِأَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلَّ الْجَهْدِ فَأَبَى أَنْ
يُؤَقِّتَ فِي التَّقَادُمِ وَقْتًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْبُعْدِ مِنْ الْقَاضِي وَالْقُرْبِ
وَبِاخْتِلَافِ عَادَةِ الْقَاضِي فِي الْجُلُوسِ، وَالتَّوْقِيتُ لَا
يَكُونُ بِالرَّأْيِ بَلْ بِالنَّصِّ فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا
أَبَى أَنْ يُوَقِّتَهُ بِشَيْءٍ، وَجَعَلَهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ
الْقَاضِي.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا بَعْدَ سَنَةٍ لَا تُقْبَلُ وَأَشَارَ
الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ
الْحِينُ، وَالْأَصَحُّ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمَا قَدَّرَا ذَلِكَ بِشَهْرٍ
فَقَالَا: مَا دُونَ الشَّهْرِ قَرِيبٌ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ وَمَا فَوْقَهُ
آجِلٌ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْإِيمَانِ، فَإِذَا شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ
شَهْرٍ لَا تُقْبَلُ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْقَاضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّهُ
تَأَخَّرَ الْأَدَاءُ لِبُعْدِهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ
قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ
لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ
وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ حِينَ جَاءَ الشُّهُودُ إلَى الْمَدِينَةِ
فَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ سَلِّمْ عَمَلَك إلَى أَبِي مُوسَى
وَالْحَقْ بِي، ثُمَّ لَمَّا حَضَرَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ حَتَّى
قَالَ بَعْدَ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ: أَوَّهْ أُودِيَ رُبْعُ الْمُغِيرَةِ،
فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّقَادُمَ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ لَا يَكُونُ
قَدْحًا بِالشَّهَادَةِ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ
الْكِتَابِ، وَهُوَ مَا إذَا هَرَبَ فَوُجِدَ بَعْدَ أَيَّامٍ فِي
الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ بَقِيَّةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ
إنَّمَا تَأَخَّرَ لِعُذْرٍ وَهُوَ هَرَبُهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا
فِي الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ الْعَارِضُ فِي هَذِهِ
الْحُدُودُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْإِتْمَامِ كَالْمُقْتَرِنِ
بِالشَّهَادَةِ بِدَلِيلِ عَمَى الشُّهُودِ وَرِدَّتِهِمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ
التَّفْرِيطَ هُنَا كَانَ مِنْ أَعْوَانِ الْإِمَامِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ
الْهَرَبِ مِنْهُمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مَالُوا إلَى اكْتِسَابِ سَبَبِ
دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ ثُمَّ حَمَلَتْهُمْ الْعَدَاوَةُ عَلَى الْجَدِّ
فِي طَلَبِهِ فَكَانَ هَذَا وَالضَّغِينَةُ فِي الشُّهُودِ سَوَاءً
(قَالَ) وَلَا تَسْقُطُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يَضْرِبْ تَمَامَ
الْحَدِّ إذَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ
الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا
الْمُسْقِطُ لِلشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ
بِكَذِبِهِ يَتَحَقَّقُ وَالْحَدُّ لَا يَتَجَزَّى فَمَا دُونَهُ يَكُونُ
تَعْزِيرًا لَا حَدًّا وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلشَّهَادَةِ فَفِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثُ
رِوَايَاتٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَالثَّانِيَةُ
إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَدِّ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ إقَامَةً
لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَالثَّالِثَةُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا
وَاحِدًا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ إقَامَةِ ذَلِكَ
الْقَدْرِ مِنْ الْحَدِّ الْحُكْمُ بِكَذِبِهِ وَكَذَلِكَ هَذِهِ
الرِّوَايَاتُ
(9/70)
الثَّلَاثَةُ فِي النَّصْرَانِيِّ إذَا
أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
(قَالَ) وَإِذَا أُقِيمَ عَلَى الْقَاذِفِ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا
ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ لَمْ يُضْرَبْ إلَّا ذَلِكَ السَّوْطَ الْوَاحِدَ؛
لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ وَالْمُغَلَّبُ عِنْدَنَا
فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَ
جَمَاعَةً لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا
نُبَيِّنُهُ وَقَدْ اجْتَمَعَ الْحَدَّانِ هُنَا؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْحَدِّ
الْأَوَّلِ بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ، فَلِهَذَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا
فِي الْآخَرِ وَلَا يُقَامُ إلَّا ذَلِكَ السَّوْطُ.
تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ
الْعَارُ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي حَقِّهِمَا بِإِقَامَةِ
السَّوْطِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ وَتَسْقُطُ
شَهَادَتُهُ
(قَالَ) وَضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ الزِّنَا وَضَرْبُ
الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ
أَخَفُّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، أَمَّا ضَرْبُ التَّعْزِيرِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ بِهِ الزَّجْرُ وَقَدْ دَخَلَهُ التَّخْفِيفُ مِنْ حَيْثُ
نُقْصَانُ الْعَدَدِ فَلَوْ قُلْنَا بِتَخْفِيفِ الضَّرْبِ أَيْضًا فَاتَ
مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّ الْأَلَمَ مَا لَمْ يَخْلُصْ إلَيْهِ لَا
يَنْزَجِرُ، وَلِهَذَا قُلْنَا يُجَرَّدُ فِي التَّعْزِيرِ عَنْ ثِيَابِهِ
وَيُعْذَرُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ،
فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ التَّعْزِيرُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَصْلُ
فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَلَغَ حَدًّا
فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» قَالَ أَبُو يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُرَادُ الْحَدُّ الْكَامِلُ وَهُوَ حَدُّ
الْأَحْرَارِ وَأَدْنَاهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، فَيَنْقُصُ التَّعْزِيرُ
مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ وَقِيلَ كَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْرِبُ بِالْخَمْسِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً
فَنَقَصَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فِي التَّعْزِيرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا يُزَادُ عَلَى
تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَوْطًا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ فِي حَقِّ
الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ حَدٌّ فَنَقَصَ التَّعْزِيرُ عَنْهُ
بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَهَذَا بَيَانُ أَقْصَى التَّعْزِيرِ، فَأَمَّا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ
الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ يُعَزِّرُهُ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ
يَنْزَجِرُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ
النَّاسِ وَبِاخْتِلَافِ جَرَائِمِهِمْ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أُقَرِّبُ كُلِّ شَيْءِ مِنْ بَابِهِ
فَالتَّعْزِيرُ فِي اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ بِشَهْوَةٍ أُقَرِّبُهُ مِنْ
الزِّنَا، وَالتَّعْزِيرُ فِي الشُّبْهَةِ بِغَيْرِ الزِّنَا أُقَرِّبُهُ
مِنْ الشُّبْهَةِ بِالزِّنَا فَاعْتُبِرَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ فِيمَا
أُقِيمَ مِنْ التَّعْزِيرِ، ثُمَّ الضَّرْبُ فِي الزِّنَا أَشَدُّ مِنْ
الضَّرْبِ فِي الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ
وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَذَابًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ،
وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}
[النور: 2] وَحَدُّ الشُّرْبِ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ
الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ وَدُعَاءُ الطَّبْعِ إلَى الزِّنَا عِنْدَ
(9/71)
غَلَبَةِ الشَّبَقِ أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى
الشُّرْبِ، ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ أَشَدُّ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ
جَرِيمَةَ الشَّارِبِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا بِخِلَافِ جَرِيمَةِ الْقَاذِفِ
فَالْقَذْفُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَقَدْ
يَعْجِزُ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ مَعَ صِدْقِهِ،
فَلِهَذَا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ أَخَفَّ مِنْ حَدِّ الشُّرْبِ حَتَّى
يُضْرَبَ حَدَّ الْقَذْفِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، إلَّا أَنَّهُ يُنْزَعُ
عَنْهُ الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ لِيَخْلُصَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِهِ
وَسَائِرُ الْحُدُودِ تُقَامُ عَلَى الرَّجُلِ فِي إزَارٍ، إلَّا أَنَّهُ
رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ
يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الشُّرْبِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ
حَدَّ الشُّرْبِ حَدُّ الْقَذْفِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَلِأَنَّ حَدَّ
الشُّرْبِ كَانَ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنْ اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ
عَلَى الْجَلْدِ فِي عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِهَذَا
قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا مِنْ أَحَدٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ
حَدٌّ فَيَمُوتُ فَأُحِبُّ أَنْ أَدِيَهُ إلَّا حَدَّ الشُّرْبِ فَإِنَّهُ
بِآرَائِنَا، وَلِضَعْفِهِ قَالَ: لَا يُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ وَلَكِنْ
فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِتَحَقُّقِ جَرِيمَتِهِ يُجَرَّدُ كَمَا فِي
حَدِّ الزِّنَا
(قَالَ) وَلَا يُمَدُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ، وَالتَّعْزِيرُ قِيلَ:
مُرَادُهُ الْمَدُّ بَيْنَ الْعِقَابَيْنِ، وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّ
الْجَلَّادَ لَا يَفْصِلُ عَضُدَهُ عَنْ إبْطِهِ وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ
فَوْقَ رَأْسِهِ، وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَوْقَعَ
السَّوْطَ عَلَى بَدَنِ الْمَجْلُودِ لَا يَمُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ
مُبَالَغَةٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا
يُؤَدِّي إلَى التَّلَفِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ شَرْعًا فِي
مَوْضِعٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْإِتْلَافَ شَرْعًا، أَلَا تَرَى أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِحَسْمِ
السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِتْلَافِ، وَيُعْطِي
كُلَّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنْ الضَّرْبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَالَ اللَّذَّةَ فِي
كُلِّ عُضْوٍ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْجَلَدَاتِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ رُبَّمَا
يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ، وَالْإِتْلَافُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ
فَيُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ،
غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ، أَمَّا الْفَرْجُ
فَلَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ وَالضَّرْبُ عَلَى الْفَرْجِ مُتْلِفٌ،
وَأَمَّا الْوَجْهُ «فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَمَا أَمَرَهُمْ بِرَجْمِ الْغَامِدِيَّةِ أَخَذَ حَصَاةً
كَالْحِمَّصَةِ وَرَمَاهَا بِهَا قَالَ لِلنَّاسِ: ارْمُوهَا وَاتَّقُوا
الْوَجْهَ» فَلَمَّا مَنَعَ مِنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ
الْإِتْلَافُ مُسْتَحَقًّا فَفِي مَوْضِعٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ الْإِتْلَافُ
أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَجْهَ مَوْضِعُ الْحَوَاسِّ فَفِي الضَّرْبِ
عَلَيْهِ إذْهَابُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ عَنْهُ وَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمًا
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُضْرَبُ
الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَيْهِمَا مُتْلِفٌ.
(قَالَ) وَلَا يَضْرِبُ الرَّأْسَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يَضْرِبُ الرَّأْسَ
أَيْضًا ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى
(9/72)
لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي
الرَّأْسِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فَإِنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ إيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ الرَّأْسَ وَالْفَرْجَ
وَلِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضِعُ الْحَوَاسِّ فَفِي الضَّرْبِ عَلَيْهِ
تَفْوِيتُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ.
(قَالَ) وَلَا تُجَرَّدُ الْمَرْأَةُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ
عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ
إلَّا أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهَا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ لِيَخْلُصَ
الْأَلَمُ إلَى بَدَنِهَا وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ يَحْصُلُ
بِالْمَلْبُوسِ عَادَةً فَلَا حَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ الْحَشْوِ وَالْفَرْوِ
عَلَيْهَا.
(قَالَ) وَتُضْرَبُ وَهِيَ قَاعِدَةٌ كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ، وَيُضْرَبُ
الرَّجُلُ قَائِمًا، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَضْرِبُ الْمَرْأَةَ الْحَدَّ وَهِيَ قَائِمَةٌ كَالرَّجُلِ، وَلَكِنَّا
نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ يُضْرَبُ
الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةً وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِ
الرَّجُلِ عَلَى الِانْكِشَافِ وَالظُّهُورِ وَمَبْنَى حَالِهَا عَلَى
السَّتْرِ.
(قَالَ) فَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ فَإِنْ حَفَرَ لَهَا فَحَسَنٌ
وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَضُرَّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ
(قَالَ) وَإِنْ كَانَتْ حُبْلَى حُبِسَتْ حَتَّى تَلِدَ «لِحَدِيثِ
الْغَامِدِيَّةِ فَإِنَّهَا لَمَّا أَقَرَّتْ أَنَّ بِهَا حَبَلًا مِنْ
الزِّنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي حَمْلَك» ، وَلِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - حِين هَمَّ بِرَجْمِ الْمُغَنِّيَةِ " إنْ يَكُنْ لَك عَلَيْهَا
سَبِيلٌ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا " وَهُوَ الْمَعْنَى؛
لِأَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ
مَاءِ الزِّنَا لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْعَهْدِ مَا لِغَيْرِهِ وَلَمْ
يُوجَدْ مِنْهُ جِنَايَةٌ وَلَوْ رُجِمَتْ كَانَ فِيهِ إتْلَافُ الْوَلَدِ،
وَلَوْ تُرِكَتْ هَرَبَتْ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُضَيِّعَ الْحَدَّ
بَعْدَ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ بِبَيِّنَةٍ فَيَحْبِسُهَا حَتَّى تَلِدَ ثُمَّ
إنْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ رَجَمَهَا؛ لِأَنَّ إتْلَافَهَا مُسْتَحَقٌّ
وَإِنَّمَا تُؤَخَّرُ لِحَقِّ الْوَلَدِ وَقَدْ انْفَصَلَ الْوَلَدُ
عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ تُؤَخَّرُ إلَى أَنْ تَتَعَافَى
مِنْ نِفَاسِهَا؛ لِأَنَّ النُّفَسَاءَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضَةِ
وَالْحُدُودُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا تُقَامُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ،
وَلِأَنَّهُ إذَا انْضَمَّ أَلَمُ الْجَلْدِ إلَى أَلَمِ الْوِلَادَةِ
بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ فَتُؤَخَّرُ إلَى أَنْ تَتَعَافَى مِنْ نِفَاسِهَا.
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدُوا عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَادَّعَتْ أَنَّهَا
حَبِلَتْ فَمُجَرَّدُ قَوْلِهَا لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يُؤَخِّرُ
الْحَدَّ عَنْهَا كَمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْمُسْقِطِ، وَلَكِنَّ
الْقَاضِيَ يُرِيهَا النِّسَاءَ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ
النِّسَاءُ، وَمَا يُشْكِلُ عَلَى الْقَاضِي فَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ
إلَى مَنْ لَهُ بَصَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا فِي قِيَمِ
الْمُتْلَفَاتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَإِنْ قُلْنَ هِيَ
حُبْلَى حَبَسَهَا إلَى سَنَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَلِدْ رَجَمَهَا
لِلتَّيَقُّنِ بِكَذِبِهِنَّ فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ
سَنَتَيْنِ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهَا عَذْرَاءُ أَوْ رَتْقَاءُ فَنَظَرَ
إلَيْهَا النِّسَاءُ فَقُلْنَ هِيَ كَذَلِكَ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهَا
(9/73)
لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ حُجَّةٌ فِيمَا لَا
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَلَكِنْ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى
الشُّهُودِ بِقَوْلِ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ إذَا عُلِمَ
أَنَّهُ مَجْبُوبٌ دُرِئَ الْحَدُّ وَلَمْ يُحَدَّ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ
الْمَجْبُوبَ لَا يَزْنِي وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ
لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْعَارُ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَكَذِبُهُ ظَاهِرٌ هُنَا،
وَإِنَّمَا يَلْحَقُ الْعَارُ الْقَاذِفَ هُنَا دُونَ عِفَّةِ
الْمَقْذُوفِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
قَذْفُ الْمَجْبُوبِ كَقَذْفِ غَيْرِهِ يُوجِبُ الْجَلْدَ عَلَى الْقَاذِفِ
بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ جَرِيمَةٌ، وَفِيمَا
يَرْجِعُ الْقَاضِي فِيهِ إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ يُكْتَفَى بِقَوْلِ
امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْمُثَنَّى أَحْوَطُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي
الطَّلَاقِ
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ الزَّانِي: أَنَا عَبْدٌ فَشَهِدَ
نَصْرَانِيَّانِ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَهُوَ
نَصْرَانِيٌّ عَتَقَ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَكِنْ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ
الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النَّصْرَانِيِّ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى
الْمُسْلِمِ، فَيُجْعَلُ فِيمَا يُقَامُ عَلَيْهِ وُجُودُ هَذِهِ
الشَّهَادَةِ كَعَدَمِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ
فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ الْكَامِلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا
الْفَرْقُ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِحْصَانِ
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةُ نَصَارَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِالزِّنَا
فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ قَالَ أَدْرَأُ عَنْهُ
الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ
إلَّا بِحُجَّةٍ، وَشَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى
الْمُسْلِمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَارِضَ مِنْ قِبَلِ إقَامَةِ
الْحَدِّ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أُقِيمَ
عَلَيْهِ بَعْضُهُ وَأَسْلَمَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ وَمَا بَقِيَ،
وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ وَالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَأَمَّا فِي
الْقِيَاسِ فَقَدْ تَمَّ الْقَضَاءُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ، وَلَا تَأْثِيرَ
لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْحَقِّ
عَنْهُ كَالْمَالِ إذَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ النَّصْرَانِيِّ
فَأَسْلَمَ يُسْتَوْفَى مِنْهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ الْعُقُوبَاتُ
تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيُجْعَلُ الْمُعْتَرِضُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ
شُبْهَةً مَانِعَةً كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ بِخِلَافِ
الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ثُمَّ الْمَقْصُودُ فِي
الْعُقُوبَاتِ الِاسْتِيفَاءُ، وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ قَبْلَ
الِاسْتِيفَاءِ امْتَنَعَ الِاسْتِيفَاءُ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَقَدْ
بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
تَمَامُ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَمَا يَعْتَرِضُ قَبْلَ
الِاسْتِيفَاءِ مِنْ إسْلَامِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ يُجْعَلُ
كَالْمَوْجُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الشَّهَادَاتِ
أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ وَإِنْ
اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَا
نُجِيزُ شَهَادَةَ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى
(قَالَ) وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ،
فَإِنْ أَسْلَمَ ثُمَّ شَهِدَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ
بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلَ
إقَامَةِ الْحَدِّ وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ
(9/74)
تَصِرْ مَجْرُوحَةً بِخِلَافِ الْعَبْدِ
يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ ثُمَّ يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ
لَمْ يَسْتَفِدْ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً، وَقْتَ إقَامَةِ
الْحَدِّ فَإِنَّ الْعَبْدَ عَدْلٌ فِي دِينِهِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ
الْفُصُولِ فِي الشَّهَادَاتِ
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا ثُمَّ أَقَرُّوا
عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْبَاطِلِ فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ؛
لِأَنَّهُمْ أَكْذَبُوا أَنْفُسَهُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ
فَإِنْ لَمْ يَحُدَّهُمْ الْقَاضِي حَتَّى شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أُخَرُ
غَيْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ بِالزِّنَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ
لِظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ وَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ
بِشَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَرُجُوعَهُمْ
فِي حَقِّ الْفَرِيقِ الثَّانِي كَالْمَعْدُومِ، وَيُدْرَأُ عَنْ
الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِشَهَادَةِ
الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ زَانٍ وَأَنَّهُمْ
صَادِقُونَ فِي قَذْفِهِ بِالزِّنَا، وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ
مُحْصَنٍ وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَأَكْثَرُ مَا
فِي الْبَابِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ لَمْ يُعَايِنُوا الزِّنَا
مِنْهُ فَحَالُهُمْ كَحَالِ سَائِرِ الْأَجَانِبِ فِي قَذْفِهِ
وَالْقَاذِفُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا
(قَالَ) وَإِذَا ثَبَتَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ عَلَى الْكَافِرِ
بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَانَتْ
هَذِهِ الشَّهَادَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ
إسْلَامُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ قَدْ تَقَادَمَ فَحِينَئِذٍ
يُدْرَأُ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ كَمَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا حِينَ شَهِدُوا
عَلَيْهِ
(قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ مُسْتَكْرَهَةٍ فَأَفْضَاهَا فَعَلَيْهِ
الْحَدُّ لِلزِّنَا فَإِنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ
ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ
كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَيْهَا عُضْوًا لَا ثَانِيَ لَهُ
فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ مَا يُسْتَمْسَكُ بِهِ الْبَوْلُ وَفِي ذَلِكَ
كَمَالُ الدِّيَةِ وَمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ بَدَلَ
الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ حَتَّى يُقَالَ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْحَدِّ بَلْ هُوَ بَدَلُ الْمُتْلَفِ بِالْجِنَايَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ
الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مَا يُمْلَكُ
بِالنِّكَاحِ وَالْإِفْضَاءُ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِالنِّكَاحِ وَإِنْ
طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ
لِوُجُودِ الرِّضَى مِنْهَا فَإِنَّ إذْنَهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
مُعْتَبَرٌ فِي إسْقَاطِ الْأَرْشِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ صَبِيَّةً
يُجَامَعُ مِثْلُهَا إلَّا أَنَّ رِضَاهَا هُنَاكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي
إسْقَاطِ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ إسْقَاطِ حَقِّهَا
(قَالَ) وَإِنْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَأَفْضَاهَا
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَدِّ الزِّنَا يَعْتَمِدُ كَمَالَ
الْفِعْلِ، وَكَمَالُ الْفِعْلِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ كَمَالِ
الْمَحَلِّ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا
لِهَذَا الْفِعْلِ حِينَ أَفْضَاهَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا وَلَمْ
يُفْضِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مَحَلًّا لِذَلِكَ
الْفِعْلِ حِين احْتَمَلَتْ الْجِمَاعَ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ
لِلزَّجْرِ، وَإِنَّمَا يُشْرَعُ الزَّجْرُ فِيمَا يَمِيلُ الطَّبْعُ
إلَيْهِ، وَطَبْعُ الْعُقَلَاءِ لَا يَمِيلُ إلَى وَطْءِ الصَّغِيرَةِ
الَّتِي لَا تُشْتَهَى وَلَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ فَلِهَذَا لَا حَدَّ
عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ
(9/75)
لَهُ شَرْعًا ثُمَّ إنْ كَانَتْ
تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَالْمَهْرُ، أَمَّا
ثُلُثُ الدِّيَةِ لِجُرْحِ الْجَائِفَةِ وَالْمَهْرُ لِلْوَطْءِ فَإِنَّ
الْوَطْءَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ
غَرَامَةٍ وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ لِشُبْهَةِ النُّقْصَانِ فِي
الْفِعْلِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ،
وَالْوَطْءُ لَيْسَ إلَّا إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ، وَقَدْ وُجِدَ
ذَلِكَ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمَهْرُ تَارَةً بِالْعَقْدِ
وَتَارَةً بِالْوَطْءِ ثُمَّ الْعَقْدُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُوجِبُ
الْمَهْرَ؟ فَكَذَلِكَ وَطْؤُهَا إنْ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ
فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِإِفْسَادِ الْعُضْوِ الَّذِي كَانَ
اسْتِمْسَاكُ الْبَوْلِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْبَدَنِ
وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - عَلَيْهِ مَهْرٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ مِنْهُ فَكَمَا
لَا يَدْخُلُ الْمَهْرُ فِي بَعْضِ الدِّيَةِ فَكَذَا لَا يَدْخُلُ فِي
جَمِيعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى
الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا وَالْمَهْرَ فِي مَالِ الْجَانِي حَالًّا فَكَيْفَ
يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ وَهُمَا يَقُولَانِ: الْفِعْلُ وَاحِدٌ،
فَإِذَا وَجَبَ بِهِ كَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ يَدْخُلُ فِيهِ مَا دُونَهُ،
كَمَا لَوْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ سَقَطَ جَمِيعُ شَعْرِهِ
حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ دَخَلَ فِيهِ أَرْشُ
الْمُوضِحَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ
الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ الْمُتْلَفُ بِالْجِنَايَةِ، وَعِنْدَ اتِّحَادِ
الْمُسْتَوْفَى لَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ بِخِلَافِ مَا
إذَا كَانَ الْبَوْلُ يَسْتَمْسِكُ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ بَعْضُ
بَدَلِ النَّفْسِ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ مَعَهُ وَهُوَ نَظِيرُ
مَا لَوْ فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْ أَمَةِ إنْسَانٍ يَضْمَنُ نِصْفَ
قِيمَتِهَا وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْجُثَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا
فَقَأَ الْعَيْنَيْنِ وَضَمِنَ كَمَالَ الدِّيَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ
الْجُثَّةَ.
(قَالَ) وَإِذَا جَامَعَ صَبِيَّةً فَأَفْضَاهَا وَمِثْلُهَا لَا يُجَامَعُ
لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْرُمُ اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ
الْوَطْءِ بِوُجُودِ إيلَاجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ، وَالْوَطْءُ عِلَّةٌ
لِإِيجَابِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ
جُعِلَ حُكْمًا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاغْتِسَالُ بِنَفْسِ
الْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَيَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ، وَبَابُ
الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِلِاحْتِيَاطِ
اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ
قَوْلِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ لَيْسَ
لِعَيْنِهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ
بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ وَبِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَهَذَا الْفِعْلُ
لَيْسَ بِحَرْثٍ لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْحَرْثَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا
بِمَحَلٍّ مُنْبِتٍ بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ
بِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِمَعْنَى
الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ فِي الْمَحَلِّ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ
صَغِيرَةً يُشْتَهَى مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَحَلِّ مَنْبِتًا
حَقِيقَةً لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فَيُقَامُ السَّبَبُ
الظَّاهِرُ وَهُوَ كَوْنُهَا مُشْتَهَاةً مُقَامَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ
هَذَا الْفِعْلَ حَلَالٌ شَرْعًا لِمَعْنَى الْحَرْثِ؟
(9/76)
ثُمَّ يَحِلُّ وَطْءُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي
تُشْتَهَى بِالنِّكَاحِ وَلَا يَحِلُّ وَطْءُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا
تُشْتَهَى، وَمَنْ قَذَفَ هَذَا الَّذِي جَامَعَ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ لَا
حَدَّ عَلَيْهِ لِارْتِكَابِهِ وَطْئًا حَرَامًا فَإِنَّ الْوَطْءَ
الْحَرَامَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مُسْقِطًا لِلْإِحْصَانِ، وَالصُّورَةُ
فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ فِي دَرْءِ مَا
يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ
(قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَسَرَ فَخِذَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ
وَالْأَرْشُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمْدِ، وَلَا
تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ الْعَمْدَ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْإِفْضَاءِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ
الدِّيَةِ فِي مَالِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ عَمْدٌ فَيَسْتَقِيمُ
إدْخَالُ الْمَهْرِ فِيهِ
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ إلَى
الزَّانِيَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا
بِهَذَا النَّظَرِ صِحَّةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ لَا قَضَاءَ
الشَّهْوَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ
يَرَوْا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ
عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ وَإِنْ تُعُمِّدَ ذَلِكَ، أَلَا
تَرَى أَنَّ الْقَابِلَةَ تَنْظُرُ وَالْخَتَّانُ وَالْحَافِظَةُ كَذَلِكَ؟
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا: رَأَيْنَا ذَلِكَ وَلَمْ نَتَعَمَّدْ النَّظَرَ
(قَالَ) وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَزْنِيُّ بِهَا أَنَّهَا صَارَتْ مُفْضَاةً
لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ عَلَى
الْإِفْضَاءِ وَمَا لَمْ يُفَسِّرُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا
تَدَّعِي الْجِنَايَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْأَرْشِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ
إلَّا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ
[أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا]
(قَالَ) وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا فَعَلَيْهِ
الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى وَالتَّعْزِيرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ اللِّوَاطُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - يُوجِبُ التَّعْزِيرَ عَلَيْهِمَا، وَعِنْدَهُمَا
يُحَدَّانِ حَدَّ الزِّنَا يُرْجَمَانِ إنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ
وَيُجْلَدَانِ إنْ كَانَا غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ قَالَ:
يُقْتَلَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ
وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «اُرْجُمُوا الْأَعْلَى
وَالْأَسْفَلَ» وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِي حَقِّ مَنْ اسْتَحَلَّ
ذَلِكَ الْفِعْلَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُرْتَدًّا فَيُقْتَلُ لِذَلِكَ
وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ «مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ
الْحَائِضَ أَوْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا فَقَدْ كَفَرَ
بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» يَعْنِي إذَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ.
(وَحُجَّتُهُمَا) أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ زِنًى فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَدُّ
الزِّنَا بِالنَّصِّ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الِاسْمُ فَلِأَنَّ الزِّنَا
فَاحِشَةٌ، وَهَذَا الْفِعْلُ فَاحِشَةٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ
الزِّنَا فِعْلٌ مَعْنَوِيٌّ لَهُ غَرَضٌ وَهُوَ إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي
الْفَرْجِ عَلَى وَجْهٍ مَحْظُورٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِقَصْدِ سَفْحِ
الْمَاءِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَإِنَّ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْجٌ يَجِبُ سَتْرُهُ شَرْعًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مُشْتَهًى طَبْعًا حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ لَا
يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَحَلُّ إنَّمَا يَصِيرُ مُشْتَهًى طَبْعًا
لِمَعْنَى الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقُبُلِ
وَالدُّبُرِ وَلِهَذَا وَجَبَ
(9/77)
الِاغْتِسَالُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ وَلَا شُبْهَةَ فِي تَمَحُّضِ الْحُرْمَةِ هُنَا؛ لِأَنَّ
الْمَحَلَّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَيُتَصَوَّرُ هَذَا الْفِعْلُ
مَمْلُوكًا فِي الْقُبُلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الدُّبُرِ فَكَانَ
تَمَحُّضُ الْحُرْمَةِ هُنَا أَبَيْنَ، وَمَعْنَى سَفْحِ الْمَاءِ هُنَا
أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْقُبُلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلُّ مَنْبَتٌ
فَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَرْثًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ
الزَّانِي ذَلِكَ، وَلَا تَوَهُّمَ هُنَا فَكَانَ تَضْيِيعُ الْمَاءِ هُنَا
أَبَيْنَ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ فَالْحَدُّ
بِالْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ وَلَكِنَّ هَذَا إيجَابُ الْحَدِّ بِالنَّصِّ
وَمَا كَانَ اخْتِلَافُ اسْمِ الْمَحَلِّ إلَّا كَاخْتِلَافِ اسْمِ
الْفَاعِلِ فَإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْحَدِّ فِي حَقِّ مَاعِزٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِيجَابُ الْحَدِّ عَلَى الْغَيْرِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ
لَا يَكُونُ قِيَاسًا، فَكَذَلِكَ هُنَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِيجَابِ
الْحَدِّ عَلَى مَنْ بَاشَرَ هَذَا الْفِعْلَ فِي مَحَلٍّ هُوَ قُبُلٌ
فَإِيجَابُهُ عَلَى الْمُبَاشِرِ فِي مَحَلٍّ هُوَ دُبُرٌ بَعْدَ ثُبُوتِ
الْمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ الْمَعَانِي لَا يَكُونُ قِيَاسًا وَأَبُو
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هَذَا الْفِعْلُ لَيْسَ
بِزِنًا لُغَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْفَى عَنْهُ هَذَا الِاسْمُ
بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ؟ فَيُقَالُ: لَاطَ وَمَا زَنَى، وَكَذَلِكَ أَهْلُ
اللُّغَةِ فَصَلُوا بَيْنَهُمَا قَالَ الْقَائِلُ:
مِنْ كَفِّ ذَاتِ حُرٍّ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ ... لَهَا مُحِبَّانِ
لُوطِيٌّ وَزَنَّاءُ
فَقَدْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ
اسْمِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَطْعُ
عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ.
وَاَلَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا
زَانِيَانِ» مَجَازٌ لَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ اللُّغَةِ بِهِ وَالْمُرَادُ
فِي حَقِّ الْإِثْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ «وَإِذَا أَتَتْ
الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» وَالْمُرَادُ فِي حَقِّ
الْإِثْمِ دُونَ الْحَدِّ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى هَذَا
الْفِعْلَ فَاحِشَةً فَقَدْ سَمَّى كُلَّ كَبِيرَةٍ فَاحِشَةً فَقَالَ
{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}
[الأنعام: 151] ثُمَّ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ الْفِعْلِ فِي الْقُبُلِ فِي
الْمَعْنَى الَّذِي لَأَجْلِهِ وَجَبَ حَدُّ الزِّنَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ زَجْرًا وَطَبْعُ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْ الْفَاعِلَيْنِ يَدْعُو إلَى الْفِعْلِ فِي الْقُبُلِ وَإِذَا آلَ
الْأَمْرُ إلَى الدُّبُرِ كَانَ الْمَفْعُولُ بِهِ مُمْتَنِعًا مِنْ ذَلِكَ
بِطَبْعِهِ فَيَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي دُعَاءِ الطَّبْعِ إلَيْهِ،
وَالثَّانِي: أَنَّ حَدَّ الزِّنَا مَشْرُوعٌ صِيَانَةً لِلْفِرَاشِ،
فَإِنَّ الْفِعْلَ فِي الْقُبُلِ مُفْسِدٌ لِلْفِرَاشِ وَيَتَخَلَّقُ
الْوَلَدُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ لَا وَالِدَ لَهُ لِيُؤَدِّبَهُ فَيَصِيرُ
ذَلِكَ جُرْمًا يَفْسُدُ بِسَبَبِهِ عَالَمٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «وَوَلَدُ الزِّنَا شَرُّ
الثَّلَاثَةِ» .
وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الدُّبُرِ يَنْعَدِمُ مَعْنَى فَسَادِ
الْفِرَاشِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ هَذَا النُّقْصَانُ بِزِيَادَةِ
الْحُرْمَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَالَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ
مُقَايَسَةً، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ
الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَنَّهُمَا يُحْرَقَانِ بِالنَّارِ وَبِهِ
(9/78)
أَمَرَ فِي السَّبْعَةِ الَّذِينَ وُجِدُوا
عَلَى اللِّوَاطَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ:
يُجْلَدَانِ إنْ كَانَا غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ وَيُرْجَمَانِ إنْ كَانَا
مُحْصَنَيْنِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
يَقُولُ: يُعَلَّى أَعْلَى الْأَمَاكِنِ مِنْ الْقَرْيَةِ ثُمَّ يُلْقَى
مَنْكُوسًا فَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَجَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الحجر: 74]
الْآيَةَ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ
يُحْبَسَانِ فِي أَنْتَنِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَمُوتَا نَتْنًا، وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اتَّفَقَتْ
الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ لَهُمَا
أَنْفُسُهُمَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِ
عُقُوبَتِهِمَا فَأَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ
وَرَجَّحْنَا قَوْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا يُوجِبُ
عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَدِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ:
الصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا؛
لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا نَصَّ الزِّنَا وَمَعَ هَذَا اخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِ
هَذَا الْفِعْلِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ الِاجْتِهَادُ فِي مَوْضِعِ
النَّصِّ فَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ غَيْرُ
الزِّنَا وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ حَدِّ الزِّنَا بِغَيْرِ الزِّنَا
بَقِيَتْ هَذِهِ جَرِيمَةٌ لَا عُقُوبَةَ لَهَا فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ
فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ فِيهِ يَقِينًا، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ
السِّيَاسَةِ مَوْكُولٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ فِي حَقٍّ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ شَرْعًا
(قَالَ) وَالنَّاسُ أَحْرَارٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ: فِي
الشَّهَادَةِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ.
يَعْنِي بِالشَّهَادَةِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا طَعَنَ فِي
الشَّاهِدِ أَنَّهُ عَبْدٌ فَمَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى
حُرِّيَّتِهِ لَا يُقْضَى بِشَهَادَتِهِ، وَبِالْعَقْلِ أَنَّ عَاقِلَةَ
الْقَاتِلِ خَطَأٌ إذَا زَعَمُوا أَنَّهُ عَبْدٌ فَمَا لَمْ تَقُمْ
الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يَعْقِلُونَ جِنَايَتَهُ
وَبِالْحُدُودِ إذَا ادَّعَى الزَّانِي أَنَّهُ عَبْدٌ، فَمَا لَمْ تَقُمْ
الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الْأَحْرَارِ،
وَبِالْقِصَاصِ إذَا قَطَعَ يَدَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ
عَبْدٌ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، فَمَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى
حُرِّيَّتِهِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ
الْحُرِّيَّةِ لِمَجْهُولِ الْحَالِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ أَنَّ
الدَّارَ الْإِسْلَامُ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ كُلِّ مَنْ هُوَ فِيهِ
الْحُرِّيَّةُ أَوْ بِاعْتِبَارِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّ
النَّاسَ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَهُمَا
كَانَا حُرَّيْنِ، وَهَذَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا
لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ تُثْبِتُ
الِاسْتِحْقَاقَ.
وَكَذَلِكَ الْعَاقِلَةُ تُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ،
وَكَذَلِكَ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ فَالظَّاهِرُ لِهَذَا لَا يَكُونُ
حُجَّةً حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْيَدِ
فَإِنَّهَا حُجَّةٌ لَدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِهِ حَتَّى
إنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ فِي الْجَارِيَةِ لَا يَسْتَحِقُّ
أَوْلَادَهَا عَلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهَا
بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ عَلَى
أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِفُلَانٍ أَعْتَقَهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ
ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْلَى الْغَائِبُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى
إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بَيِّنَةٌ قَامَتْ عَلَى
خَصْمٍ وَهُوَ الْمُنْكِرُ
(9/79)
لِحُرِّيَّتِهِ فَإِنَّهُ خَصْمٌ عَنْ
الْغَائِبِ لِاتِّصَالِ حَقِّهِ بِحَقِّ الْغَائِبِ فَالْقَضَاءُ بِهِ
عَلَيْهِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ
(قَالَ) وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ مَالٍ
وَأَمْضَاهُ ثُمَّ قَالَ: قَضَيْتُ بِالْجَوْرِ وَأَنَا أَعْلَمُ ذَلِكَ
ضَمِنَهُ فِي مَالِهِ وَعُزِّرَ وَعُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ
فِيمَا جَارَ فِيهِ لَيْسَ بِقَضَاءٍ بَلْ هُوَ إتْلَافٌ بِغَيْرِ حَقٍّ
إنَّمَا قَضَاؤُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ لَا
يَأْمُرُ بِالْجَوْرِ وَهُوَ فِيمَا يُتْلِفُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَغَيْرِهِ
فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَيُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ
مَا لَا يَحِلُّ لَهُ قَصْدًا وَيُعْزَلُ عَنْ الْقَضَاءِ لِظُهُورِ
خِيَانَتِهِ فِيمَا جُعِلَ أَمِينًا فِيهِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ
أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا
يَنْعَزِلُ بِالْجَوْرِ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ عَزْلَهُ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ
عِنْدَنَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَقْلِيدِهِ ابْتِدَاءً فَلَا يَمْنَعُ
الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى بِخِلَافِ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ
إنَّهُ يَنْعَزِلُ بِالْجَوْرِ، وَإِنَّ تَقْلِيدَ الْفَاسِقِ ابْتِدَاءً
لَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ بِالْفِسْقِ يَخْرُجُ مِنْ
الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ اسْمُ ذَمٍّ وَاسْمَ الْإِيمَانِ
اسْمُ مَدْحٍ فَلَا يَجْتَمِعَانِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ مِنْ مَذْهَبِهِمْ
فِي الْقَوْلِ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْن الْمَنْزِلَتَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوَافِقُهُمْ فِي أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِنَاءً عَلَى
أَصْلِهِ أَنَّ بِالْفِسْقِ يُنْتَقَضُ إيمَانُهُ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ
مِمَّنْ قَلَّدَهُ كَانَ عَلَى ظَنِّ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَلَا يَبْقَى
حُكْمُهُ بَعْدَ الْخِيَانَةِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ يَقُولُ بِالْخِلَافِ
مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ.
وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْوُلَاةَ مِنْ الْخُلَفَاءِ
وَالسَّلَاطِينِ وَالْقُضَاةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ قَلَّ مَا
يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ فِسْقٍ وَجَوْرٍ، فَفِي الْقَوْلِ بِمَا
قَالُوا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ سُدًى لَا وَالِيَ لَهُمْ،
وَأَيُّ قَوْلِ أَفْحَشُ مِنْ هَذَا، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ قَضَى
بِالْجَوْرِ وَقَدْ فَعَلَهُ خَطَأً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمُهُ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ مَوْضُوعٌ شَرْعًا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ
بِهِ} [الأحزاب: 5] فَكَانَ هُوَ قَاضِيًا عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِ
الشَّرْعِ ظَاهِرًا غَيْرَ جَانٍ فِيمَا فَعَلَ، وَلَكِنْ إذَا تَبَيَّنَ
الْخَطَأُ أَخَذَ الْمَقْضِيُّ لَهُ بِغُرْمِ ذَلِكَ إنْ كَانَ قَضَاؤُهُ
بِحَقِّ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَضَمَانُهُ
فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى: الْقَاضِي إذَا أَخْبَرَ عَنْ قَضَائِهِ بِشَيْءٍ وَأَمَرَ
النَّاسَ بِرَجْمٍ أَوْ قَتْلٍ بِنَاءً عَلَى قَضَائِهِ فَإِنْ كَانَ
عَالِمًا وَرِعًا وَسِعَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَسْتَفْسِرُوهُ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا غَيْرَ وَرِعٍ لَمْ يَسَعْهُمْ
ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْتَفْسِرُوا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَرِعًا غَيْرَ
عَالِمٍ؛ لِأَنَّ الْوَرِعَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ عَالِمٍ قَدْ يُخْطِئُ
لِجَهْلِهِ، وَالْعَالِمُ الَّذِي لَيْسَ بِوَرِعٍ قَدْ يَعْتَمِدُ
الْجَوْرَ وَيَمِيلُ إلَى الرِّشْوَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عَالِمًا
وَرِعًا فَإِنَّهُمْ يَأْمَنُونَ الْخَطَأَ لِعِلْمِهِ وَالْجَوْرَ
لِوَرَعِهِ فَيَسَعُهُمْ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ
(قَالَ) وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ
وَمَمْلُوكَتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى -: لَهُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ
(9/80)
تَعَالَى إذَا عَايَنَ سَبَبَهُ مِنْ
الْعَبْدِ أَوْ أَقَرَّ بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِذَا ثَبَتَ بِحُجَّةِ
الْبَيِّنَةِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ
لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى مِمَّنْ يَمْلِكُ
إقَامَةَ الْحَدِّ بِوِلَايَةِ الْإِمَامَةِ، إنْ كَانَ إمَامًا وَإِنْ
كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ امْرَأَةً فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ
إقَامَةِ الْحَدِّ كَمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ
بِتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ» وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا زَنَتْ
أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُحِدَّهَا إلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ
فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» .
وَالْجَلْدُ مَتَى ذُكِرَ عِنْدَ حُكْمِ الزِّنَا يُرَادُ بِهِ الْحَدُّ
دُونَ التَّعْزِيرِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ
مَشْرُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَالتَّطْهِيرِ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى إقَامَتَهُ
بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ كَالتَّعْزِيرِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ إصْلَاحٌ
لِلْمُلْكِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَتَعَيَّبُ بِارْتِكَابِ هَذِهِ
الْفَوَاحِشِ فَمَا شُرِعَ لِلزَّجْرِ عَنْهَا يَكُونُ إصْلَاحًا
لِمِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّزْوِيجِ، وَفِي التَّطْهِيرِ إصْلَاحُ
مِلْكِهِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا لِلتَّطْهِيرِ
كَالْخِتَانِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِوِلَايَةِ
الْمِلْكِ؟ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَمْلُوكِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ
السُّلْطَانِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، أَوْ هُوَ أَقْوَى حَتَّى تَنْفُذَ فِيهِ
تَصَرُّفَاتُهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى
ضَرَبَهُ حَنِثَ كَالسُّلْطَانِ فِي حَقِّ الرَّعِيَّةِ وَلِهَذَا قُلْنَا
إذَا كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا يُقِيمُ
الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ بِوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ لَا يُقِيمُ، فَكَذَلِكَ
بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ كَمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَمَّا كَانَ لَا يُقِيمُ
الْحَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بِوِلَايَتِهِ السَّلْطَنَةِ لَا يُقِيمُ
بِمِلْكِهِ نَفْسَهُ، وَلِأَنَّ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يُقِيمُ
التَّعْزِيرَ عَلَيْهِ دُونَ الْحَدِّ جَمْعًا بَيْنَ التَّعْزِيرِ
وَالْحَدِّ بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِزِنَاهُ
عَزَّرَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ
وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ فِعْلٍ وَاحِدٍ.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ قَوْلُهُ {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَاسْتِيفَاءُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ لِلْإِمَامِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ مَا عَلَى الْإِمَاءِ مِنْ
نِصْفِ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا
ضَمِنَ الْإِمَامُ أَرْبَعَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أَرْبَعَةٌ إلَى
الْوُلَاةِ:
الْحُدُودُ وَالصَّدَقَاتُ، وَالْجُمُعَاتُ، وَالْفَيْءُ. وَالْمَعْنَى
فِيهِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ
بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي اسْتِيفَائِهِ
كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ بِسَبَبِ
الْمِلْكِ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى الْوِلَايَةُ فِي مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ
مِلْكِهِ فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِيفَاؤُهَا بِطَرِيقِ
النِّيَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ لَا يَسْتَوْفِيه إلَّا
هُوَ أَوْ نَائِبُهُ وَالْإِمَامُ مُتَعَيَّنٌ لِلنِّيَابَةِ عَنْ
الشَّرْعِ، فَأَمَّا الْمُوَلَّى بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ لَا يَصِيرُ
نَائِبًا عَنْ الشَّرْعِ، وَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي اسْتِيفَائِهِ
بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ
(9/81)
فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ،
وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّأْدِيبُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُعَزِّرُ
مَنْ لَا يُخَاطَبُ بِحُقُوقِ اللَّهِ كَالصِّبْيَانِ وَهُوَ نَظِيرُ
التَّأْدِيبِ فِي الدَّوَابِّ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ
الْخِتَانُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَصِيِّ فِي الدَّوَابِّ لِإِصْلَاحِ
الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ
الْمُؤَنِ وَالنَّفَقَاتِ فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى حَقِّ الْمِلْكِ
مُرَجَّحًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَلَكَ الْمَوْلَى إقَامَتَهُ، أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ امْرَأَةً كَانَ
لَهُ إقَامَةُ التَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ؟ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِيمَا
يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى الْوِلَايَةُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ هُوَ مُقَدَّمٌ
عَلَى السُّلْطَانِ كَالتَّزْوِيجِ وَبِالِاتِّفَاقِ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ
إقَامَةِ هَذَا الْحَدِّ شَاءَ الْمَوْلَى أَوْ أَبَى، عَرَفْنَا أَنَّهُ
لَا يُثْبِتُ وِلَايَةَ إقَامَتِهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْحُدُودِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى
النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ إذْ الْحَدُّ لَا يَجِبُ عَلَى
الْمَالِ بِحَالٍ، وَالْعَبْدُ فِي مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ مُبْقًى عَلَى
أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ
بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ
بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَوِلَايَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ
فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْمَالِيَّةِ فَأَمَّا فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ
كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ جَعَلَ
الْمَوْلَى كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ؟ فَذَلِكَ قَدْ
يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ
نَظِيرُ الضَّرْبِ فِي الدَّوَابِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ
السُّلْطَانِ لَمَلَكَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ
بِالضَّرْبِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ.
وَقَوْلُهُ «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
خِطَابٌ لِلْأَئِمَّةِ كَقَوْلِهِ {فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] خِطَابٌ
لِلْأَئِمَّةِ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَمَالِيكِ أَنْ لَا تَحْمِلَهُمْ
الشَّفَقَةُ عَلَى مِلْكِهِمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ إقَامَةِ الْحَدِّ
عَلَيْهِمْ، أَوْ الْمُرَادُ السَّبَبُ وَالْمُرَافَعَةُ إلَى الْإِمَامِ،
وَقَدْ يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى الْمُبَاشِرِ تَارَةً وَإِلَى الْمُسَبِّبِ
أُخْرَى، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ الْجَلْدَ وَإِنْ ذُكِرَ عِنْدَ الزِّنَا وَإِنَّمَا
أُضِيفَ إلَى مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ
اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الْمُرَادُ التَّعْزِيرُ.
وَلَا يَبْعُدُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ بِسَبَبِ فِعْلٍ
وَاحِدٍ كَالزَّانِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُعَزَّرُ لِتَعَمُّدِ
الْإِفْطَارِ وَيُحَدُّ لِلزِّنَا، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى
مُكَاتَبًا يُعَزَّرُ مَمْلُوكُهُ عَلَى الزِّنَا، ثُمَّ يَرْفَعُهُ إلَى
الْإِمَامِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ
(قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَنَّ هَذَا
الشَّاهِدَ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ، وَأَنَّ عِنْدَهُ بَيِّنَةً بِذَلِكَ
أَمْهَلْته مَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ
مُتَمَثِّلٍ فَيَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ
فِيهِ تَضْيِيعُ الْحَدِّ الَّذِي ظَهَرَ سَبَبُهُ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ
مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا مَأْمُورٌ بِالْإِقَامَةِ وَالِاحْتِيَالِ
لِلدَّرْءِ فَلِهَذَا لَا يُخَلَّى عَنْهُ وَلَكِنْ يُمْهِلُهُ إلَى آخَرِ
الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ شُهُودِ بَيَانِهِ فِي
هَذَا الْمِقْدَارِ فَإِنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِلَّا أَقَامَ
عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ
(9/82)
شُهُودَهُ لَيْسَ بِحُضُورٍ فِي الْمِصْرِ
وَسَأَلَهُ أَنْ يُؤَجِّلَهُ أَيَّامًا لَمْ يُؤَجِّلْهُ؛ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا
فَلَيْسَ عَلَى كُلِّ غَائِبٍ يَئُوبُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْمَعْنَى
كَالتَّضْيِيعِ فَكَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ الْحَدَّ، فَكَذَلِكَ
لَا يُؤَخِّرُ إقَامَتَهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ،
بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ هُنَاكَ تَأْخِيرُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ
مَجْلِسَ الْإِمَامِ كَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ
الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَدَّ إلَى
آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ
مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ فِيهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
«لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» «وَلِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ
حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ فَلَا يُقَامُ
فِيهَا حَدٌّ» وَلِأَنَّ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ حَرَامٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «جَنِّبُوا
مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ» .
وَإِقَامَةُ الْحَدِّ فِي الْمَسْجِدِ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى التَّلْوِيثِ
فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ
أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَخْرُجَ مِنْ
الْمَسْجِدِ لِيُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُ ذَلِكَ
الْقَدْرَ مِنْ التَّأْخِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ
شَيْئًا، وَلَكِنْ إنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى بَعْضِ
الشُّهُودِ أَنَّهُ قَذَفَهُ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ وَيَسْأَلُ عَنْ شُهُودِ
الْقَذْفِ، فَإِذَا زُكُّوا وَزُكِّيَ شُهُودُ الزِّنَا بُدِئَ بِحَدِّ
الْقَذْفِ وَدُرِئَ عَنْهُ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ
حَدَّانِ وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ فَيَبْدَأُ
بِذَلِكَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِحَدِّ
الْقَذْفِ صَارَ شَاهِدُ الزِّنَا مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ
وَالْمُعْتَرِضُ فِي الشُّهُودِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ كَالْمُقْتَرِنِ
بِالسَّبَبِ، وَفِيهِ دَرْءُ حَدِّ الزِّنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا رَجُلًا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي، فَإِنْ حَضَرَ الْمَقْذُوفُ
وَطَالَبَ بِحَدِّهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَسَقَطَ عَنْهُ
حَدُّ الزِّنَا، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْمَقْذُوفُ لِيُطَالِبَ بِحَدِّهِ
يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَذْفِ عِنْدَنَا لَا
يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ
وَالْكَذِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ
بِالْبَيِّنَةِ؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ إقَامَةُ
الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ.
فَإِذَا أُقِيمَ حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ جَاءَ الْمَقْذُوفُ وَطَلَبَ حَدَّهُ
يُحَدُّ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُسْقِطُ حَقَّهُ
فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْخُصُومَةِ لَا يُسْقِطُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ
لَوْ كَانَ مَكَانَ الزَّانِي سَارِقٌ أَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ
آخَرَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهَذَا الْقَذْفُ مِنْ الشَّاهِدِ قَبْلَ
قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ يَبْدَأُ
بِقَسَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ، فَإِنْ أَقَامُوا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فَلَا
يَقْضِي بِهَا فَلَوْ بَدَأَ بِقَطْعِ السَّارِقِ أَوْ بِالْقَضَاءِ
بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ وَسِعَهُ وَذَلِكَ
أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ فِي قَضَائِهِ الْحُجَّةَ
(قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّاهِدَ آكِلُ
(9/83)
رِبًا أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ أَنَّهُ
اُسْتُؤْجِرَ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَجَاءَ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ
لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ يَقُولُ هَذَا جَرْحٌ فِي
الشَّاهِدِ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى
أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ
الْمَشْهُودَ لَهُ لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا أَوْ الشَّاهِدُ أَقَرَّ بِهِ
امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَهُ الْخَصْمُ
بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ
بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ
الْبَيِّنَةِ لَيْسَ يُثْبِتُ شَيْئًا إنَّمَا يَنْفِي شَهَادَتَهُ
وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ قَامَتْ
الْبَيِّنَةُ عَلَى رَجُلٍ بِالْغَصْبِ أَوْ بِالْقَتْلِ فِي مَكَان فِي
يَوْمٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ
الْمَكَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ.
وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى التَّهَاتُرِ فَقَالَ: لَوْ قَبِلْتُ هَذَا
لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَحَدٍ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ
يَأْتِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُمْ
كَذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَنْقَطِعُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ
عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ إثْبَاتُ
وَصْفٍ لَازِمٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَحْدُودًا لَازِمٌ مُبْطِلٌ
لِشَهَادَتِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَقَبُولُ تِلْكَ الْبَيِّنَةِ لَا
يُؤَدِّي إلَى التَّهَاتُرِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُهُمْ مِنْ حَدَّهُ
وَمَا لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِهِ كَذَا حَدَّهُ لَمْ تُقْبَلْ
شَهَادَتُهُمْ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجِدُهُ كُلُّ خَصْمٍ، وَهَذَا مِمَّا
يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي
مَالٍ فَيَجِيءُ بِالْبَيِّنَةِ، أَنَّ الشَّاهِدَ شَرِيكٌ فِيهِ قَدْ
ادَّعَى شَرِكَتَهُ، أَوْ يَقُولُ: أَخَذَ مِنِّي كَذَا مِنْ الْمَالِ
رِشْوَةً لِكَيْ لَا يَشْهَدَ عَلَى الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِرْدَادَ ذَلِكَ
الْمَالِ، فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَظْهَرُ بِهِ فِسْقُ
الشَّاهِدِ.
(قَالَ) فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ مَحْدُودٌ فِي
قَذْفٍ حَدَّهُ فُلَانٌ قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ
أَنَا آتِيك بِالْبَيِّنَةِ عَلَى إقْرَارِ ذَلِكَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَمْ
يَحُدَّنِي، أَوْ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ
هَؤُلَاءِ أَنَّهُ حَدَّنِي فِيهِ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ
لَا يُثْبِتُ بِهَذَا شَيْئًا إنَّمَا يَنْفِي شَهَادَةَ الَّذِينَ
شَهِدُوا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: أَنَا آتِي بِالْبَيِّنَةِ
أَنِّي كُنْت غَائِبًا ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي أَرْضِ كَذَا لَمْ يُقْبَلْ
ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مَشْهُورٍ،
فَيُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ فِي النَّفْيِ حُجَّةٌ كَمَا فِي
الْإِثْبَاتِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مَشْهُورًا فَالْقَاضِي
عَالِمٌ بِكَذِبِ الشُّهُودِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَضَاءُ
بِشَهَادَتِهِمْ عِنْدَ تَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فَعِنْدَ الْعِلْمِ
بِكَذِبِهِمْ أَوْلَى
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَرَادَ الْإِمَامُ
أَنْ يَحُدَّهُ فَافْتَرَى رَجُلٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى بَعْضِهِمْ
فَخَافَ الْمَقْذُوفُ إنْ طَلَبَ بِحَقِّهِ فِي الْقَذْفِ أَنْ تَبْطُلَ
شَهَادَتُهُمْ فَلَمْ يُطَالِبْ، قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى
الزِّنَا وَيُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ شُبْهَةً؛
لِأَنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ فَنَفْسُهُ لَا يَكُونُ جَرِيمَةً وَرُبَّمَا
يَكُونُ حَسَنَةً إذَا عُلِمَ إصْرَارُهُ وَلَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ
الشُّهُودِ
(9/84)
وَإِنَّمَا الْجَرِيمَةُ فِي هَتْكِ سِتْرِ
الْعِفَّةِ وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، فَلَا
يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِعَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ
الشُّهَدَاءِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ
فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ الْقَذْفِ عِنْدَنَا شُبْهَةً مَانِعَةً
مِنْ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ.
(قَالَ) وَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالرَّجْمِ عَلَيْهِ ثُمَّ عُزِلَ
قَبْلَ أَنْ يَرْجُمَهُ وَوُلِّيَ آخَرُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛
لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ فِي الْحُدُودِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ فَهُوَ
كَنَفْسِ الْقَضَاءِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَإِذَا عُزِلَ الْقَاضِي
بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ
فَلَيْسَ لِلَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ
قَالَ، وَإِنَّمَا هَذَا مِثْلُ قَاضٍ قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالرَّجْمِ،
ثُمَّ إنَّهُ أُتِيَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ فَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ
عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَنَّ فُلَانًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ،
فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُنَفِّذُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي
إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْعَمَلِ بِهِ
فَكَذَلِكَ هُنَا
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: نَشْهَدُ
أَنَّهُ وَطِئَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، وَلَمْ يَقُولُوا: زَنَى بِهَا
فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِّ الزِّنَا، وَلَا
يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَالْوَطْءُ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَقَدْ
يَكُونُ حَلَالًا بِشُبْهَةٍ وَغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَالزِّنَا نَوْعٌ
مَخْصُوصٌ مِنْ الْوَطْءِ، وَبِاللَّفْظِ الْعَامِّ لَا يَثْبُتُ مَا هُوَ
خَاصٌّ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا
وَلَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ لِتَكَامُلِ عَدَدِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ مَا
صَرَّحُوا بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا
[زَنَى الذِّمِّيُّ فَقَالَ عِنْدِي هَذَا حَلَالٌ]
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى الذِّمِّيُّ فَقَالَ: عِنْدِي هَذَا حَلَالٌ لَمْ
يُدْرَأْ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا بِكَذِبِهِ فَالزِّنَا
حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلِأَنَّا مَا أَعْطَيْنَاهُ
الذِّمَّةَ عَلَى اسْتِحْلَالِ الزِّنَا بِخِلَافِ شُرْبِ الْخَمْرِ،
فَذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَصْلِ اعْتِقَادِهِمْ، فَأَمَّا اسْتِحْلَالُ
الزِّنَا فِسْقٌ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ كَاسْتِحْلَالِ الرِّبَا،
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ الرَّبَّا، وَلَا يُعْتَبَرُ
اسْتِحْلَالُهُمْ لِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الزِّنَا
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى ذِمِّيٍّ
أَنَّهُ زَنَى بِهَذِهِ الْمُسْلِمَةِ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ؛
لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، فَكَانُوا
قَاذِفِينَ لَهَا فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ
عَلَى الرَّجُلِ إمَّا لِإِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِمْ أَوْ؛
لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ
بِشَهَادَتِهِمْ كَوْنُ الْمُسْلِمَةِ مَحَلًّا لِذَلِكَ
(قَالَ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا
فَدَخَلَ بِهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ أَوْ
غَيْرَ عَالَمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -،
وَلَكِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، وَعِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ
عَالِمًا بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَكُلِّ
امْرَأَةٍ إذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى
التَّأْبِيدِ.
(وَحُجَّتُهُمَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا زِنًى، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] ، وَكَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [النساء: 22] وَالْفَاحِشَةُ
اسْمُ الزِّنَا، وَفِي «حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مَرَّ بِي خَالِي
أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَمَعَهُ
(9/85)
لِوَاءٌ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَجُلٍ نَكَحَ
مَنْكُوحَةَ أَبِيهِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَهُ» ، وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُهُ بِدُونِ الْمَحَلِّ
وَمَحَلُّ النِّكَاح هُوَ الْحِلُّ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِمِلْكِ
الْحِلِّ، فَالْمَحْرَمِيَّةُ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا تَكُونُ مَحَلًّا
لِلْحِلِّ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ لَا تَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَكَانَ لَغْوًا كَمَا يَلْغُوَا إضَافَةُ
النِّكَاحِ إلَى الذُّكُورِ وَالْبَيْعُ إلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ لَوْ ارْتَفَعَ
بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَبْقَ شُبْهَةً مُسْقِطَةً
لِلْحَدِّ، فَاَلَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا أَوْلَى.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ
بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا
فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» فَمَعَ الْحُكْمِ
بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ أُسْقِطَ الْحَدُّ بِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
صُورَةَ الْعَقْدِ مُسْقِطَةٌ لِلْحَدِّ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا شَرْعًا،
وَاخْتَلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي
الْمُعْتَدَّةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ
فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمَهْرُ لَهَا، وَقَالَ
عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِبَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ
مِنْهُمَا عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ وَلِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ
بِزِنًا لُغَةً؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَفْصِلُونَ
بَيْنَ الزِّنَا وَغَيْرِهِ إلَّا بِالْعَقْدِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ
الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ شَرْعًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَطْءَ
الْمُتَرَتِّبَ عَلَى عَقْدٍ لَا يَكُونُ زِنًى لُغَةً فَكَذَلِكَ شَرْعًا؛
لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ كَانَ حَلَالًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا،
وَالزِّنَا مَا كَانَ حَلَالًا قَطُّ.
وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ يُقَرُّونَ عَلَى هَذَا، وَلَا يُقَرُّونَ
عَلَى الزِّنَا بَلْ يُحَدُّونَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُنْسَبُ
أَوْلَادُهُمْ إلَى أَوْلَادِ الزِّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ
لَيْسَ بِزِنًا وَحَدُّ الزِّنَا لَا يَجِبُ بِغَيْرِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ
لَوْ وَجَبَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقِيَاسِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي
الْحَدِّ، ثُمَّ هَذَا الْعَقْدُ مُضَافٌ إلَى مَحَلِّهِ فِي الْجُمْلَةِ؛
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ مَحَلٌّ لِلنِّكَاحِ، وَلَكِنْ
امْتَنَعَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ فِي حَقِّهِ لِمَا بَيْنَ الْحِلِّ
وَالْحُرْمَةِ مِنْ الْمُنَافَاةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ
الْحَدِّ كَمَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِخَمْرٍ فَإِنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ
بِمَالٍ، عِنْدَنَا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ مَالًا فِي حَقِّ أَهْلِ
الذِّمَّةِ جُعِلَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ انْعِقَادِ الْعَقْدِ
بِهِ، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي مَحَلٌّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ لَأَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ فِي
حَقِّهِ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِلْكُ الْيَمِينِ، فَإِنَّ مَنْ
وَطِئَ أُمَّتَهُ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَلْزَمُهُ
الْحَدُّ.
وَالنِّكَاحُ فِي كَوْنِهِ مَشْرُوعًا لِلْحِلِّ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ
الْيَمِينِ، ثُمَّ مِلْكُ الْيَمِينِ فِي مَحَلٍّ لَا يُوجِبُ الْحِلَّ
بِحَالٍ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ فَعَقْدُ النِّكَاحِ
أَوْلَى وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا
بَعْدَ الرَّفْعِ وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ لِلْعَقْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
اسْمَ الْفَاحِشَةِ لَا تَخْتَصُّ بِالزِّنَا بَلْ هُوَ اسْمٌ لِجَمِيعِ
مَا هُوَ حَرَامٌ قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي
بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ
(9/86)
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ
الرَّجُلَ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَكَانَ مُرْتَدًّا، أَلَا تَرَى
أَنَّهُ قَالَ: وَأَمَرَنِي أَنْ أُخَمِّسَ مَالَهُ
[تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَزُفَّتْ إلَيْهِ أُخْرَى فَوَطِئَهَا]
(قَالَ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَزُفَّتْ إلَيْهِ أُخْرَى فَوَطِئَهَا
لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ بِشُبْهَةٍ، وَفِيهِ قَضَى عَلِيٌّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسُقُوطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ
وَالْعِدَّةِ، وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ
وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ إحْصَانَهُ،
إلَّا فِي رِوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -،
فَإِنَّهُ يَقُولُ: بُنِيَ الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ هَذَا
الْوَطْءُ حَلَالًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِهِ،
وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَمَّا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ
فَإِنَّمَا يَبْقَى اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ
وَبِالشُّبْهَةِ يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَلَكِنْ لَا يُقَامُ الْحَدُّ
(قَالَ) وَلَوْ فَجَرَ بِامْرَأَةٍ فَقَالَ: حَسِبْتُهَا امْرَأَتِي
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحُسْبَانَ وَالظَّنَّ لَيْسَ بِدَلِيلٍ
شَرْعِيٍّ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ
بِخِلَافِ الزِّفَافِ وَخَبَرِ الْمُخْبِرِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَإِنَّهُ
دَلِيلٌ يَجُوزُ اعْتِمَادُهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ فَيَكُونُ
مُورِثًا شُبْهَةً
(قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ قَالَ: اشْتَرَيْتُهَا شِرَاءً
فَاسِدًا، أَوْ عَلَى أَنْ لِلْبَائِعِ خِيَارًا فِيهِ، أَوْ ادَّعَى
صَدَقَةً أَوْ هِبَةً وَكَذَّبَهُ صَاحِبُهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ
دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا
لَكَانَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ كَمَا
لَوْ ادَّعَى نِكَاحًا أَوْ شِرَاءً صَحِيحًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ
أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا أَوْ اسْتَحْلَفَ مَوْلَى الْأَمَةِ،
فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ
السَّبَبِ مُورِثٌ شُبْهَةً، وَإِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ
لِمَانِعٍ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي؛ لِأَنَّهُ مَتَى آلَ
الْأَمْرُ إلَى الْخُصُومَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ سَقَطَ حَدُّ الزِّنَا،
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَا، وَشَهِدُوا
أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَقَالَ لَسْتُ أَمْلِكُ الْجَارِيَةَ، ثُمَّ
ادَّعَى عِنْدَ الْقَاضِي هِبَةً أَوْ بَيْعًا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ
لِمَا قُلْنَا
[وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ شِقْصٌ فِيهَا]
(قَالَ) وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ شِقْصٌ فِيهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ
وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا
كَانَ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ فَوُجُودُ جُزْءٍ مِنْهَا يَكُونُ مُسْقِطًا
لِلْحَدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَى نِسْبَةً
ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَصَارَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؟ فَكَيْفَ
يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ؟ وَلَكِنْ عَلَيْهِ حِصَّةُ
شَرِيكِهِ مِنْ الْعُقْرِ إذَا لَمْ تَلِدْ.
(قَالَ) وَمَنْ أَعْتَقَ أَمَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ وَهُوَ مُعْسِرٌ
فَقَضَى عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ لِشَرِيكِهِ فَوَطِئَهَا الشَّرِيكُ
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ
كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَوَقَعَ عَلَيْهَا الْآخَرُ قَبْلَ أَنْ
يَضْمَنَ شَرِيكُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَهَا،
وَلَوْ ضَمِنَ شَرِيكُهُ ثُمَّ وَطِئَهَا الْمُعْتِقُ فَلَا حَدَّ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَسْعِيهَا فِيمَا ضَمِنَ فَتَكُونُ
كَالْمُكَاتَبَةِ لَهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا الشَّرِيكُ بَعْدَ مَا ضَمِنَ
شَرِيكُهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا مُكَاتَبَةُ غَيْرِهِ، وَزَعَمَ
بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - وَأَمَّا عِنْدَهُمَا
(9/87)
يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ وَطِئَهَا،
الْمُعْتِقُ وَالسَّاكِتُ فِيهِ سَوَاءٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ
الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّى، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ
جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ مُتَعَارِضَةٌ فِي تَجَزِّي الْعِتْقِ،
وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً
فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَكِنْ يَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُ الْوَاطِئِ حَتَّى
لَا يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ وَطْءَ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَإِنَّ
ثُبُوتَ مِلْكِ الْوَاطِئِ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ
وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ
(قَالَ) رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ
وَقَعَ عَلَيْهَا فِي عِدَّتِهَا، فَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ
لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ
حَرَامٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَفِي الْأَصْلِ أَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً
بَائِنَةً وَالْمُرَادُ الْخُلْعُ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ بِلَفْظِ
الْبَيْنُونَةِ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ عَلَى
كُلِّ حَالٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْدَ الْخُلْعِ وَالطَّلْقَاتِ
الثَّلَاثِ هِيَ مُعْتَدَّةٌ، وَبِسَبَبِ الْعِدَّةِ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ
الْيَدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْيَدِ مُعْتَبَرٌ فِي
الِاشْتِبَاهِ فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ سَقَطَ الْحَدُّ وَإِلَّا فَلَا.
(فَإِنْ قِيلَ) بَيْنَ النَّاسِ اخْتِلَافٌ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
ثَلَاثًا جُمْلَةً هَلْ يَقَعُ الثَّلَاثُ أَمْ لَا؟ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَصِيرَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ.
(قُلْنَا) هَذَا خِلَافٌ غَيْرُ مُعْتَدٍ بِهِ حَتَّى لَا يَسَعَ
الْقَاضِيَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَلَوْ قَضَى لَا يُنَفَّذُ قَضَاؤُهُ،
أَرَأَيْتُ لَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَكُنَّا نُسْقِطُ
الْحَدَّ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً لَا
يَقَعُ شَيْءٌ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ وَطِئَهَا
فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّتُهُ عَنْ فِرَاشٍ صَحِيحٍ بَعْدَ
زَوَالِ الْمِلْكِ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَالْمُخْتَلِعَةِ، وَلَا
حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِارْتِكَابِهِ وَطْئًا حَرَامًا
غَيْرَ مَمْلُوكٍ.
(قَالَ) وَإِذَا حَرُمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِرِدَّتِهَا أَوْ
مُطَاوَعَتِهَا لِابْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ مَعَ أُمِّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا،
وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَفِي الْقِيَاسِ أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ
أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْخُلْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً
عَلَى التَّأْبِيدِ؟ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَدَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ؛
لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي عِدَّتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ: يَتَوَقَّفُ زَوَالُ الْمِلْكِ بِالرِّدَّةِ عَلَى انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ
بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ وَمَنْ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ
قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ
الْحَرَامُ» وَهَذَا خِلَافٌ ظَاهِرٌ لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي نَفَذَ
قَضَاؤُهُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ إنْ
أَبَانَهَا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ بَائِنٍ أَوْ
بَتَّةٌ أَوْ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ
ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ فَلَا
حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذَا اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ فَيَصِيرُ ذَلِكَ
شُبْهَةً حُكْمِيَّةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَمْرُك
بِيَدِك فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ يَنْوِي ذَلِكَ؛
لِأَنَّ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا فِي
(9/88)
ذَلِكَ هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ
فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ، وَالْحَاصِلُ
أَنَّ الشُّبْهَةَ الْحُكْمِيَّةَ مُسْقِطَةٌ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ
بِالْحُرْمَةِ أَوْ يَعْلَمُ كَالْأَبِ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ
وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ
عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَمْ
يَعْرِفُوهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهَا
غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا، وَالزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ
بِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَتَحَقَّقُ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ
تِلْكَ الْمَرْأَةَ الَّتِي رَأَوْهَا يَفْعَلُ بِهَا زَوْجَتُهُ أَوْ
أَمَتُهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ إلَّا
بِالْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ
الْحَدِّ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: الَّتِي
رَأَوْهَا مَعِي لَيْسَتْ لِي بِامْرَأَةٍ وَلَا خَادِمٍ لَمْ يُحَدَّ
أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ بَطَلَتْ حِينَ لَمْ يُبَيِّنُوا
الشَّهَادَةَ فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِالزِّنَا،
وَلَوْ كَانَ إقْرَارًا فَحَدُّ الزِّنَا لَا يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ
مَرَّةً، وَإِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، إذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ فِعْلَهُ
بِهَا لَا يَكُونُ زِنًى، فَلَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا فَهَذَا تَصْرِيحٌ
مِنْهُ بِفِعْلِ الزِّنَا فِي مَحَلِّهِ، وَأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي
تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ لِذَلِكَ
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ غَيْرُ عُدُولٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَلَا
حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ، أَمَّا عَلَيْهِ فَلِأَنَّ ظُهُورَ
الزِّنَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَشَهَادَةُ
الْفُسَّاقِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا فِيهَا بِالتَّوَقُّفِ
بِالنَّصِّ، وَأَمَّا عَلَيْهِمْ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهَذَا بِنَاءً
عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَهُ شَهَادَةٌ عِنْدَنَا حَتَّى إنَّ الْقَاضِيَ
لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ فَيَكُونُ كَلَامُهُمْ
شَهَادَةً مَانِعَةً مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةٌ
وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ
الْقَاذِفُ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ يَسْقُطُ
بِهِ - الْحَدُّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَهَذَا أَتَى بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةً فَلَا يَلْزَمُهُ
الْحَدُّ لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - لَا شَهَادَةَ لَهُمْ بَلْ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ
وَعَلَى الْقَاذِفِ بِقَذْفِهِ، وَإِنْ كَانُوا عُمْيَانًا أَوْ
مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ أَوْ عَبِيدًا حُدُّوا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ
الْعَبِيدَ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ فَكَانَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فِي
الْأَصْلِ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ لَهُ شَهَادَةُ
الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ وَحَكَمَ بِكَذِبِهِ،
وَالْعُمْيَانُ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ
عَلَى الزِّنَا لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَالْمِيلِ فِي
الْمُكْحُلَةِ، وَلَيْسَ لِلْأَعْمَى هَذِهِ الْآلَةُ فَكَانَ كَلَامُهُمْ
قَذْفًا مِنْ الْأَصْلِ.
وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً أَحَدُهُمْ زَوْجُ الْمَشْهُودِ
عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ تُقْبَلُ عِنْدَنَا خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي
بَابِ اللِّعَانِ فَإِذَا كَانَتْ الثَّلَاثَةُ كُفَّارًا وَالزَّوْجُ
(9/89)
مُسْلِمًا فَلَا شَهَادَةَ لِلْكُفَّارِ
عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُلَاعِنُ الزَّوْجُ
امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَقَذْفُ الزَّوْجِ مُوجِبٌ
لِلِّعَانِ
(قَالَ) وَإِنْ جَاءَ شُهُودُ الزِّنَا فَشَهِدُوا بِهِ مُتَفَرِّقِينَ فِي
مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ حَدَّ
الْقَذْفِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ،
وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ، فَإِنَّ
اخْتِلَافَ الْمَجَالِسِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ
مِنْ الْحُقُوقِ، وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا لَا يَنْدَرِئُ
بِالشُّبُهَاتِ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ الزِّنَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ
الثَّابِتَ بِالنَّصِّ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ فَاشْتِرَاطُ
اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا
شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَامْتَنَعَ زِيَادٌ أَقَامَ الْحَدَّ
عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ مَجِيءَ رَابِعٍ لِيَشْهَدَ
عَلَيْهِ بِالزِّنَا، فَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ غَيْرَ
مُؤَثِّرٍ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَانْتَظَرَ مَجِيءَ رَابِعٍ لِيَدْرَأَ
بِهِ الْحَدَّ عَنْ الثَّلَاثَةِ وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ عَنْ
الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: لَوْ جَاءَ مِثْلُ
رَبِيعَةَ وَمُضَرَ فُرَادَى حَدَدْتُهُمْ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ
الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا قَذْفٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ
بِتَكَامُلِ الْعَدَدِ يَتَغَيَّرُ حُكْمُهَا فَيَصِيرُ حُجَّةً لِلْحَدِّ
فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا بِهِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا
الْمُغَيَّرِ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي الْمَجْلِسِ كَالْقَبُولِ مَعَ
الْإِيجَابِ، فَإِنَّ الْإِيجَابَ لَيْسَ بِعَقْدٍ، فَإِذَا انْضَمَّ
إلَيْهِ الْقَبُولُ يَصِيرُ عَقْدًا فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْقَبُولِ فِي
الْمَجْلِسِ لِيَصِيرَ الْإِيجَابُ بِهِ عَقْدًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ
كَلَامَهُمْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَذْفٌ مُفْتَرِقٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ
حُجَّةٌ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ.
وَلِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ تَأْثِيرٌ فِي جَمْعِ مَا تَفَرَّقَ مِنْ
الْكَلَامِ فَإِذَا كَانَ الْمَجْلِسُ وَاحِدًا جُعِلَ كَلَامُهُمْ
كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا تَفَرَّقَتْ الْمَجَالِسُ، وَإِنْ
كَانُوا فِي مَقْعَدٍ وَاحِدٍ عَلَى بَابِ الْقَاضِي فَقَامَ إلَى
الْقَاضِي وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالزِّنَا فَفِي
الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ
بِهَذَا لَا يَحْصُلُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَنْ يَجْلِسُوا جَمِيعًا بَيْنَ
يَدَيْ الْقَاضِي فَيَشْهَدُوا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ
اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ هُنَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ
اجْتَمَعَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مِنْ الْقَاضِي مُبَالَغَةٌ فِي
الِاحْتِيَاطِ لِيَنْظُرَ أَنَّهُمْ هَلْ يَتَّفِقُونَ عَلَى لَفْظٍ
وَاحِدٍ إذَا لَمْ يَسْمَعْ بَعْضُهُمْ كَلَامَ بَعْضٍ فَلَا يُوجِبُ
ذَلِكَ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ، فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا
الْقَدْرَ مِنْ التَّفَرُّقِ وَجَبَ اعْتِبَارُ تَفَرُّقِ الْأَدَاءِ،
وَإِنْ جَلَسُوا جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي، وَلَا يُتَصَوَّرُ
أَدَاؤُهُمْ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ سَمَاعِ
كَلَامِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ قَالَ اثْنَانِ: زَنَى بِهَا فِي دَارِ
فُلَانٍ آخَرَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ
فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَا حَدَّ
(9/90)
عَلَى الشُّهُودِ لِاجْتِمَاعِ
الْأَرْبَعَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا عَلَيْهِمَا
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ نَصَارَى عَلَى نَصْرَانِيَّيْنِ
بِالزِّنَا فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ أَسْلَمَ الرَّجُلُ
أَوْ الْمَرْأَةُ، قَالَ: يَبْطُلُ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ الطَّارِئَ مِنْ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ
قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقَارِنِ لِلسَّبَبِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ
الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ
شُبْهَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الشُّهُودُ بَعْدَ ذَلِكَ
لَمْ يَنْفَعْ أَعَادُوا الشَّهَادَةَ أَوْ لَمْ يُعِيدُوهَا؛ لِأَنَّ
الْحَاكِمَ أَبْطَلَهَا حِينَ دَرَأَ الْحَدَّ عَنْهُمَا فَلَا يُعْمَلُ
بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
(قَالَ) وَإِنْ كَانُوا شَهِدُوا عَلَى رَجُلَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ
بِالزِّنَا فَلَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ أَسْلَمَ أَحَدُ
الرَّجُلَيْنِ أَوْ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْ الَّذِي
أَسْلَمَ وَعَنْ صَاحِبِهِ، وَلَا يُدْرَأُ عَنْ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ
شَهِدُوا عَلَى كُلِّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ كَأَنَّهُمْ تَفَرَّدُوا
بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا]
(قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدُّ الزِّنَا لَا يُقَامُ
بِالْإِقْرَارِ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ
مَجَالِسَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
-: يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ ابْنُ لَيْلَى -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ،
وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ
هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَأَنَّ «الْغَامِدِيَّةَ لَمَّا
جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَقَالَتْ: إنَّ بِي حَبَلًا مِنْ الزِّنَا، قَالَ: اذْهَبِي حَتَّى
تَضَعِي حَمْلَك ثُمَّ رَجَمَهَا» ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْأَقَارِيرَ
الْأَرْبَعَةَ وَاعْتُبِرَ هَذَا الْحَقُّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ فَمَا
يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ يَثْبُتُ
بِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالشَّهَادَةِ
فِي الْعَدَدِ، فَإِنَّ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْعَدَدَ مُعْتَبَرٌ فِي
الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
الْعَدَالَةُ تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ
فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الذُّكُورَةُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ يُعْتَبَرُ فِي
الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةِ
الْقَلْبِ تَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ
بِتَكْرَارِ الْكَلَامِ مِنْ وَاحِدٍ، وَفِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ
سُقُوطُ حَدٍّ عَنْ الْقَاذِفِ يُعْتَبَرُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي
الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، فَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ
الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الزِّنَا،
ثُمَّ فِي الشَّهَادَةِ الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ دُونَ
اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ (وَحُجَّتُنَا)
فِيهِ
(9/91)
حَدِيثُ «مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي فَأَعْرَضَ
عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ
فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الثَّالِثِ وَقَالَ مِثْلَ
ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ إلَى الْجَانِبِ الرَّابِعِ وَقَالَ
مِثْلَ ذَلِكَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «قَالَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَأَنَّ هَذَا
لِلْآخَرِ فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا فَبِمَنْ
زَنَيْتَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «الْآنَ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِك أَرْبَعًا
فَبِمَنْ زَنَيْتَ؟ قَالَ: بِفُلَانَةَ، قَالَ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَهَا
أَوْ لَمَسْتَهَا بِشَهْوَةٍ، لَعَلَّك بَاشَرْتَهَا فَأَبَى إلَّا أَنْ
يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا فَقَالَ: أَبِكَ خَبَلٌ؟ أَبِكَ جُنُونٌ؟» ،
وَفِي رِوَايَةٍ «بَعَثَ إلَى أَهْلِهِ هَلْ يُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ
شَيْئًا؟ فَقَالُوا: لَا فَسَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ فَوَجَدَهُ مُحْصَنًا
فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ» .
فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَضَ عَنْهُ فِي
الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَحَكَمَ
بِالرَّابِعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَدَدُ مِنْ شَرْطِهِ لَمْ يَسَعْهُ
الْإِعْرَاضُ عَنْهُ عَلَى مَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «لَا يَنْبَغِي لِوَالٍ عِنْدَهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ
أَلَّا يُقِيمَهُ» ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ
لَمَّا تَمَّتْ الْحُجَّةُ كَيْفَ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ؟ وَلَكِنَّهُ
قَالَ: الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعًا وَاشْتَغَلَ بِطَلَبِ مَا يَدْرَأُ
عَنْهُ الْحَدَّ فَحِينَ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَغَلَ بِالْإِقَامَةِ،
وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَحَسَّ بِهِ
الْجُنُونَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ثَائِرَ
الرَّأْسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ: " أَبِك خَبَلٌ؟ " ثُمَّ
لَمَّا رَأَى إصْرَارَهُ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ
جُنُونٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا، وَفِي
هَذَا تَنْصِيصٌ أَنَّ الْإِعْرَاضَ قَبْلَ هَذَا لِعَدَمِ قِيَامِ
الْحُجَّةِ، وَقَدْ جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا مُؤْثِرًا عُقُوبَةَ
الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا دَلِيلَ جُنُونِهِ؟
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِطَلَبِ مَا يَدْرَأُ بِهِ عَنْهُ الْحَدَّ، كَمَا لَقَّنَ
الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ: أَسَرَقْت؟ مَا إخَالُهُ سَرَقَ،
أَسَرَقْتِ؟ قَوْلِي لَا، وَإِنَّمَا كَانَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ؛ لِأَنَّهُ
جَاءَ مِنْ الْبَادِيَةِ، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا عَلَامَةَ الْأَبْرَارِ فَقَالَ «رُبَّ
أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرِينَ لَا يُؤْبَهُ بِهِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى
اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا وَيَقُولُ الْمَذْكُورُ عَدَدُ
الْأَقَارِيرِ دُونَ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ
وُجِدَ اخْتِلَافُ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرَدَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ
حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ رَجَعَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ
«، قَالَ: اذْهَبْ وَيْلَك فَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ فَذَهَبَ حَتَّى غَابَ
عَنْ بَصَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ
رَجَعَ» فَالْمُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ الْقَاضِي،
حَتَّى إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِ الْقَاضِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَكْفِي هَذَا
لِاخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ أَقَرَّ خَمْسَ
مَرَّاتٍ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى إقْرَارَيْنِ كَانَا مِنْهُ
فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَكَانَا
(9/92)
كَإِقْرَارٍ وَاحِدٍ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ أَقْرَرْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
إنْ أَقْرَرْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: إيَّاكَ وَالرَّابِعَةَ،
فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: كُنَّا
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نَتَحَدَّثُ أَنَّ مَاعِزًا لَوْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ
ثَلَاثًا مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إلَيْهِ مَنْ يَرْجُمُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَدِ
الْأَقَارِيرِ كَانَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ
مِنْ قَوْلِهِ: «فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» الِاعْتِرَافُ
الْمَعْرُوفُ فِي الزِّنَا، وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ هَكَذَا ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
إلَّا أَنَّ الْأَقَارِيرَ مِنْهَا كَانَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ
قَبْلَ الْوَضْعِ وَبَعْدَ الْوَضْعِ وَبَعْدَ مَا طَهُرَتْ مِنْ
نِفَاسِهَا وَبَعْدَ مَا فَطَمَتْ وَلَدَهَا، وَلِهَذَا لَمْ تَتَّفِقْ
الرِّوَايَةُ عَلَى نَقْلِ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ فِي حَدِيثِهَا،
وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتُرِيدُ أَنْ تَرْدُدَنِي، كَمَا
رَدَدْت مَاعِزًا لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ تَرْدِيدَ مَاعِزٍ كَانَ
حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَا يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا جَاءَتْ لِطَلَبِ
التَّطْهِيرِ ثُمَّ تَعْتَرِضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَاعْتِبَارُ هَذَا
الْحَقِّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ بَاطِلٌ، فَقَدْ ظَهَرَ فِيهَا مِنْ
التَّغْلِيظِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مِنْ ذَلِكَ
أَنَّ النِّسْبَةَ إلَى هَذَا الْفِعْلِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِخِلَافِ
سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَمُوجِبٌ لِلِّعَانِ إذَا حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ فِي
زَوْجَتِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْعَدَدِ مَا لَا يُشْتَرَطُ
فِي سَائِرِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ لِلتَّغْلِيظِ، فَكَذَلِكَ اعْتِبَارُ
عَدَدِ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّ الْعَدَدَ فِي الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ
حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِدُونِ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي
الْإِقْرَارِ حُكْمًا إلَّا بِاخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ
إذَا تَكَرَّرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ
يُجْعَلُ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّغْلِيظِ
بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ لَا فِي
الْإِقْرَارِ الْمُسْقِطِ لِلْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ
التَّصْرِيحَ بِلَفْظِ الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ
لِلْحَدِّ دُونَ الْمُسْقِطِ؟ وَكَذَلِكَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ
بِالشُّهُودِ حَتَّى إذَا قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَا فَشَهِدَ عَلَيْهَا
شَاهِدَانِ أَنَّهَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا سَقَطَ حَدٌّ عَنْ
الْقَاذِفِ.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّ
الْمُعْتَرَفَ بِالزِّنَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ
وَالثَّالِثَةِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ:
اُطْرُدُوا الْمُعْتَرَفِينَ بِالزِّنَا، فَإِذَا عَادَ الرَّابِعَةَ
فَأَقَرَّ عِنْدَهُ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ، وَكَيْفَ هُوَ
وَبِمَنْ زَنَى وَأَيْنَ زَنَى لِمَا بَيَّنَّا فِي الشَّهَادَةِ إلَّا
أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَسْأَلُهُ مَتَى زَنَى؛ لِأَنَّ حَدَّ
الزِّنَا يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ التَّقَادُمِ، وَإِنَّمَا لَا
يُقَامُ بِالْبَيِّنَةِ، فَلِهَذَا يُسْأَلُ الشُّهُودُ مَتَى زَنَى، وَلَا
يُسْأَلُ الْمُقِرُّ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا وَصَفَهُ وَأَثْبَتَهُ قَالَ
لَهُ فَلَعَلَّك تَزَوَّجْتَهَا أَوْ وَطِئْتَهَا
(9/93)
بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا فِي مَعْنَى تَلْقِينِ
الرُّجُوعِ وَالْإِمَامُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا «قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَاعِزٍ لَعَلَّك
قَبَّلْتَهَا» ، فَإِنْ، قَالَ: لَا نَظَرَ فِي عَقْلِهِ وَسَأَلَ أَهْلَهُ
عَنْ ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي مَاعِزٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَجْنُونِ
وَالْمَعْتُوهِ هَدَرٌ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِمُعَايَنٍ فَلَا بُدَّ
لِلْإِمَامِ مِنْ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ
صَحِيحُ الْعَقْلِ يَسْأَلُ عَنْ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ
مِنْ الْعُقُوبَةِ يَخْتَلِفُ بِإِحْصَانِهِ وَعَدَمِ إحْصَانِهِ،
وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَعَسَى يُقَرِّبُهُ وَلَا يَطُولُ الْأَمْرُ عَلَى
الْقَاضِي فِي طَلَبِ الْبَيِّنَةِ عَلَى إحْصَانِهِ، فَإِذَا قَالَ:
أَحْصَنْت اسْتَفْسَرَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْإِحْصَانِ
يَنْطَلِقُ عَلَى خِصَالٍ، وَرُبَّمَا لَا يَعْرِفُ الْمُقِرُّ بَعْضَهَا
فَيَسْأَلُهُ لِهَذَا، فَإِذَا فَسَّرَهُ أَمَرَ بِرَجْمِهِ، فَإِذَا
رُجِمَ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ
مَقْتُولٌ بِحَقٍّ فَيُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى.
«وَقَدْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَنْ غُسْلِ مَاعِزٍ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ:
اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ
«وَلَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ
الْحِجَازِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ،
وَقَدْ رَأَيْته يَنْغَمِسُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» ، وَرُوِيَ «أَنَّ
رَجُلَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَا فِيمَا بَيْنَهُمَا: مَا رَكَنَتْ
نَفْسُهُ حَتَّى جَاءَ وَاعْتَرَفَ فَقُتِلَ كَمَا يُقْتَلُ الْكِلَابُ،
فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَسَكَتَ حَتَّى مَرُّوا بِحِمَارٍ مَيِّتٍ فَقَالَ لِلرَّجُلَيْنِ:
انْزِلَا فَكُلَا فَقَالَا: إنَّهَا مَيِّتَةٌ، فَقَالَ: تَنَاوُلُكُمَا
مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ»
(قَالَ) فَإِنْ أَمَرَ بِرَجْمِهِ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ دُرِئَ حَدٌّ
عَنْهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى -: لَا يُدْرَأُ عَنْهُ حَدٌّ بِرُجُوعِهِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ
فِي كُلِّ حَدٍّ هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتُبِرَ هَذَا
الْإِقْرَارُ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ
أَوْ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ
فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ فِي هَذَا كُلِّهِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَقَّنَ الْمُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ الرُّجُوعَ» ، فَلَوْ لَمْ
يَصِحَّ رُجُوعُهُ لَمَا لَقَّنَهُ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَيْنَا «أَنَّ
مَاعِزًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا هَرَبَ انْطَلَقَ
الْمُسْلِمُونَ فِي أَثَرِهِ فَرَجَمُوهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» ، وَلِأَنَّ
الرُّجُوعَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ فِي حُقُوقِ
الْعِبَادِ لِوُجُودِ خَصْمٍ يُصَدِّقُهُ فِي الْإِقْرَارِ وَيُكَذِّبُهُ
فِي الرُّجُوعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَعَارَضُ كَلَامَاهُ الْإِقْرَارُ وَالرُّجُوعُ
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ
وَالشُّبْهَةُ تَثْبُتُ بِالْمُعَارِضَةِ
(قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ
وَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ
يُرْجَمُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ
بِالْإِقْرَارِ، وَلَا يُجْعَلُ إنْكَارُهُ لِلْإِحْصَانِ رُجُوعًا مِنْهُ
عَنْ
(9/94)
الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ
مُصِرٌّ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالْتِزَامُ الْعُقُوبَةِ مَعَ
إنْكَارِ الْإِحْصَانِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْإِحْصَانَ، وَقَدْ ثَبَتَ
بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ بَعْدَ إنْكَارِهِ كَانَ
يُرْجَمُ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ
[الْمَرْأَةُ الَّتِي أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِهَا غَائِبَةً]
(قَالَ) فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِهَا
غَائِبَةً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ
حَضَرَتْ رُبَّمَا ادَّعَتْ شُبْهَةَ نِكَاحٍ مُسْقِطَةٍ لِلْحَدِّ عَنْهَا
فَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ، وَقِيلَ: هَذَا قِيَاسُ
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى قِيَاسِ
مَسْأَلَةِ السَّرِقَةِ إذَا قَالَ: سَرَقْت أَنَا وَفُلَانٌ مَالَ
فُلَانٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ «لِحَدِيثِ مَاعِزٍ
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُحْضِرْ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَقَرَّ
أَنَّهُ زَنَى بِهَا وَلَكِنْ أَمَرَ بِرَجْمِهِ» ، وَفِي «حَدِيثِ
الْعَسِيفِ أَوْجَبَ الْجَلْدَ عَلَى ابْنِ الرَّجُلِ ثُمَّ قَالَ: اُغْدُ
يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»
فَدَلَّ أَنَّ حُضُورَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا
مِنْ شُبْهَةٍ تَدَّعِيهَا إذَا حَضَرَتْ فَالرَّجُلُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ
أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، وَتَوَهُّمُ أَنْ تَحْضُرَ فَتَدَّعِي الشُّبْهَةَ
كَتَوَهُّمِ أَنْ يَرْجِعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ.
فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ حَدٍّ عَلَى الْمُقِرِّ لِتَوَهُّمِ أَنْ
يَرْجِعَ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَإِنْ جَاءَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا
حُدَّ الرَّجُلُ فَادَّعَتْ النِّكَاحَ وَطَلَبَتْ الْمَهْرَ لَمْ يَكُنْ
لَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ زِنًى
بِهَا حِينَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ الْمَهْرَ
وَهِيَ تَدَّعِي إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِقَوْلِهَا
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ فُسَّاقٌ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَأَقَرَّ
هُوَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ
الْحُجَّةَ الْأَقَارِيرُ الْأَرْبَعَةُ أَوْ شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ
عُدُولٍ، وَلَا يُقَالُ: إقْرَارُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً تَعْدِيلٌ مِنْهُ
لِلشُّهُودِ وَتَصْدِيقٌ لَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَحِقُوا
بِالْعُدُولِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي
بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْخَصْمُ، فَإِنَّ
التَّوَقُّفَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَتَغَيَّرُ
ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ إقْرَارُهُ مَانِعٌ مِنْ الْقَضَاءِ
بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِ
دُونَ الْمُقِرِّ إلَّا إنَّهُ إذَا كَانَ الشُّهُودُ عُدُولًا يُجْعَلُ
الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ كَالْمَعْدُومِ لَمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ
سَبَبُ حَدٍّ فَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَ
الشُّهُودُ عُدُولًا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي غَيْرِ
رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِإِقْرَارِهِ
لِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْمُنْكِرِ لَا عَلَى الْمُقِرِّ، وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ
عُدُولٌ فَاسْتَغْنَى عَنْ إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْإِقْرَارُ، وَلَا
يُوجَدُ ذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ.
(فَإِنْ قِيلَ) فَبِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ
يَثْبُتُ الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْمَهْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ
ذَلِكَ، وَإِنْ كَرَّرَ الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ
الْمَهْرِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَا
قُلْتُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي السَّرِقَةِ
(9/95)
أَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ
فَبِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ يَجِبُ الضَّمَانُ فَلَا يُعْتَبَرُ
إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ
حُكْمَ إقْرَارِهِ بِالزِّنَا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ إنَّ الزِّنَا غَيْرُ
مُوجِبٍ لِلْمَهْرِ فَإِنْ تَمَّ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ كَانَ مُوجِبًا
لِلْمَهْرِ، كَمَا أَنَّهُ بَعْدَ تَمَامِ الْإِقْرَارِ إنْ رَجَعَ
تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ بِخِلَافِ
السَّرِقَةِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَإِنَّمَا
سَقَطَ الضَّمَانُ لِضَرُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ
تَعَالَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ
(قَالَ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَقَالَ: عَلِمْت
أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ الَّتِي
تَمَكَّنَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «أَنْتَ، وَمَالُك لِأَبِيك» وَكَيْف يَجِبُ الْحَدُّ؟ وَلَوْ
جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ
لَهُ.
وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَوْ امْرَأَتِهِ فَإِنْ
اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا يَعْلَمَانِ بِحُرْمَةِ الْفِعْلِ
فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ هُنَا فِي الْمَحَلِّ،
وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِبَاهُ فَلَا يَكُونُ
مُعْتَبَرًا إذَا لَمْ يُشْتَبَهْ، فَأَمَّا إذَا قَالَ الْوَاطِئُ:
ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، أَوْ قَالَتْ الْجَارِيَةُ: ظَنَنْت أَنَّهُ
يَحِلُّ لِي، لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ
الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مُعْتَبَرٌ بِالشُّبْهَةِ
الْحُكْمِيَّةِ وَدَعْوَى الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمَا
يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُمَا، فَكَذَلِكَ شُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ.
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ رَجُلٌ
أَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ أُمِّهِ فَقَالَ لَهُ: أَوَطِئْتَهَا؟ قَالَ:
نَعَمْ، حَتَّى قَالَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ الْحَدَّ.
وَخَطَّأَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا
الْقَضَاءَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ بِإِقْرَارِهِ بِلَفْظِ
الْوَطْءِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ مَا لَمْ يُقِرَّ بِصَرِيحِ الزِّنَا،
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ
الْإِقْرَارَ فِي هَذَا الْبَابِ بِقَوْلِهِ: أَفَعَلْت، بَلْ هُوَ
مَنْدُوبٌ إلَى تَلْقِينِ الرُّجُوعِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ
يَسْأَلْهُ عَنْ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُ
عَنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ مَا لَمْ يَعْلَمْ
عِلْمَهُ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ
(قَالَ) ، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ وَقَالَ: ظَنَنْت
أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ
بِمَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ
الْمِلْكِ كَالْأَجْنَبِيِّ.
(قَالَ) فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا كَالسَّرِقَةِ يَعْنِي إذَا
سَرَقَ مَالَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ لَا يُقْطَعُ ثُمَّ أَجَابَ وَقَالَ:
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ حَدَدْته، وَلَوْ
سَرَقَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَمْ أَقْطَعْهُ؟ وَإِنَّمَا أَشَارَ
بِهَذَا إلَى أَنَّ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ لَا بُدَّ مِنْ هَتْكِ
الْحِرْزِ، وَالْإِحْرَازُ لَا يَتِمُّ فِي حَقِّ ذِي الرَّحِمِ
الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ
اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ بِخِلَافِ حَدِّ الزِّنَا
[وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ]
(قَالَ) وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ
فَادَّعَاهُ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا لَمْ تَثْبُتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ
إذَا كَذَّبَهُ وَلَدُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِيلَادِ تُبْنَى
عَلَى وِلَايَةِ نَقْلِ الْجَارِيَةِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْجَدِّ
وِلَايَةُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْأَبِ وَلَكِنْ
(9/96)
إنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَدُ الْوَلَدِ عَتَقَ
بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْجَدِّ،
وَأَنَّهُ عَمُّهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى
الْجَدِّ مِنْ قِيمَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا
وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ
وَسَقَطَ حَدٌّ لِلشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَهُوَ الْبُنُوَّةُ فَيَجِبُ
الْعُقْرُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ
لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْعُلُوقَ
كَانَ فِي حَيَاةِ الْأَبِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ عِنْدَ ذَلِكَ
وِلَايَةُ نَقْلِهَا إلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الدَّعْوَةِ، صَدَّقَهُ ابْنُ
الْأَبِ أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ إنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ
مَوْتِ الْأَبِ، وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ
فِي الْوِلَايَةِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا إلَى نَفْسِهِ بِدَعْوَةِ
الِاسْتِيلَادِ
[شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى زِنًى قَدِيمٍ]
(قَالَ) ، وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى زِنًى قَدِيمٍ لَمْ أُحِدَّ
بِشَهَادَتِهِمْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا، وَلَمْ
أُحِدَّهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَالْأَهْلِيَّةُ
لِلشَّهَادَةِ مَوْجُودَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ
قَذْفًا
وَإِنْ أَقَرَّ بِزِنًى قَدِيمٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أُقِيم عَلَيْهِ
الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا
يُقَامُ اعْتِبَارًا لِحُجَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ،
فَإِنَّ الشُّهُودَ كَمَا نَدَبُوا إلَى السَّتْرِ فَالْمُرْتَكِبُ
لِلْفَاحِشَةِ أَيْضًا مَنْدُوبٌ إلَى السَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ: -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ
الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ» ، وَلَكِنَّا
نَسْتَدِلُّ بِآخِرِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ «وَمَنْ أَبْدَى لَنَا
صَفْحَةً أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ» ، وَهَذَا قَدْ أَبْدَى
صَفْحَتَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ وَالْمَعْنَى
فِيهِ أَنَّ التُّهْمَةَ تَنْتَفِي عَنْ إقْرَارِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ
تَقَادُمِ الْعَهْدِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ عَلَى
وَجْهٍ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى هَتْكِ سِتْرِهِ بَلْ إنَّمَا يَحْمِلُهُ
عَلَى ذَلِكَ النَّدَمُ وَإِيثَارُ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ
بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، فَبِتَقَادُمِ الْعَهْدِ هُنَاكَ تَتَمَكَّنُ
التُّهْمَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَدَاوَةَ حَمَلَتْهُمْ عَلَى أَدَاءِ
الشَّهَادَةِ بَعْدَ مَا اخْتَارُوا السَّتْرَ عَلَيْهِ وَهُنَا كَانَ
إصْرَارُهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ ثُمَّ النَّدَمُ وَالتَّوْبَةُ
حَمَلَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ
(قَالَ) وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا كَالْحُرِّ
الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَحُرْمَةُ الزِّنَا ثَابِتٌ فِي
حَقِّهِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَإِقْرَارُهُ مُلْزِمٌ
أَيْضًا كَإِقْرَارِ الْمُسْلِمِ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ
بِالزِّنَا يَصِحُّ عِنْدَنَا مُوجِبًا لِلْحَدِّ عَلَيْهِ مَأْذُونًا
كَانَ أَوْ مَحْجُورًا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا
يَصِحُّ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى وَبِهَذَا الْإِقْرَارُ
يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنْتَقِصُ مَالِيَّتُهُ
بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَى
نَفْسِهِ بِالْمَالِ إذَا كَانَ مَحْجُورًا، فَكَذَلِكَ بِالْحَدِّ،
وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ
فَالْعَبْدُ فِيهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُرِّ كَطَلَاقِ زَوْجَتِهِ
بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُ
عَلَيْهِ ثُمَّ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ
نَفْسٌ مُخَاطَبَةٌ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ هُوَ كَالْحُرِّ،
وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالْإِقْرَارِ عَلَى
(9/97)
نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ
لِلْعُقُوبَةِ، وَلِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي ذَلِكَ فَوْقَ
مَا يَلْحَقُ الْمَوْلَى فَلِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ
إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ
(قَالَ) وَلَا يُؤْخَذُ الْأَخْرَسُ بِحَدِّ الزِّنَا، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ
الْحُدُودِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بِإِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ شَهِدْت
بِهِ عَلَيْهِ شُهُودٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - يُؤْخَذُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُخَاطَبَةٌ فَهُوَ
كَالْأَعْمَى أَوْ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ، وَلَكِنَّا
نَقُولُ: إذَا أَقَرَّ بِهِ بِالْإِشَارَةِ فَالْإِشَارَةُ بَدَلٌ عَنْ
الْعِبَارَةِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِالْبَدَلِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ
مِنْ التَّصْرِيحِ بِلَفْظَةِ الزِّنَا فِي الْإِقْرَارِ وَذَلِكَ لَا
يُوجَدُ فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ إنَّمَا الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ
إشَارَتِهِ الْوَطْءُ، فَلَوْ أَقَرَّ النَّاطِقُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ
لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ الْأَخْرَسُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ
بِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَرَدَّدُ وَالْكِتَابَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ
الْعِبَارَةِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَتْ
الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا
يَدَّعِي شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَكُونُ فِي
نَفْسِهِ يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِهِ بِالْإِشَارَةِ، فَلَوْ أَقَمْنَا
عَلَيْهِ كَانَ إقَامَةَ الْحَدِّ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، وَلَا
يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ
إظْهَارِ دَعْوَى الشُّبْهَةِ.
وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ
الْأَصِحَّاءِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِالزِّنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
سَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ.
وَإِنْ قَالَ: زَنَيْت فِي حَالِ جُنُونِي لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ
الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ
لِالْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِكَوْنِهِ مَرْفُوعٌ
الْقَلَمُ عَنْهُ، فَهُوَ كَالْبَالِغِ إذَا قَالَ: زَنَيْتُ وَأَنَا
صَبِيٌّ، وَكَذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْنِي
فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ
تُنَافِي الْتِزَامَ الْعُقُوبَةِ بِالزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ، وَلَا كَانَ
مُلْتَزِمًا حُكْمَ الْإِسْلَامِ
[أقر الْمَجْبُوب بِالزِّنَا]
(قَالَ) ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمَجْبُوبُ بِالزِّنَا لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّا
نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ فَالْمَجْبُوبُ لَيْسَ لَهُ آلَةُ الزِّنَا
فَالتَّيَقُّنُ بِكَذِبِهِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ رُجُوعِهِ عَنْ
الْإِقْرَارِ
(قَالَ) وَإِنْ أَقَرَّ الْخَصِيُّ بِالزِّنَا أَوْ شَهِدَتْ بِهِ عَلَيْهِ
الشُّهُودُ حُدَّ؛ لِأَنَّ لِلْخَصِيِّ آلَةُ الزِّنَا، وَإِنَّمَا
يَنْعَدِمُ بِالْخَصِيِّ الْإِنْزَالُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي
إتْمَامِ فِعْلِ الزِّنَا فَيَلْزَمُهُ مِنْ حَدٍّ مَا يَلْزَمُ الْفَحْلَ
وَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ: زَنَيْت وَأَنَا عَبْدٌ لَزِمَهُ
حَدُّ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِي إضَافَةِ الْإِقْرَارِ إلَى
حَالَةِ الرِّقِّ لِكَوْنِهَا حَالَةً مَعْهُودَةً فِيهِ، ثُمَّ الثَّابِتُ
بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَاهُ زَنَى فِي
حَالَةِ رِقِّهِ ثُمَّ عَتَقَ كَانَ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ فَهَذَا
مِثْلُهُ
(قَالَ) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى
بِفُلَانَةَ، وَقَالَتْ كَذَبَ مَا زَنَى بِي، وَلَا أَعْرِفُهُ لَمْ
يُحَدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ
لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِالزِّنَا
بِامْرَأَةٍ وَأَنْكَرَتْ فَحَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ» ، وَلِأَنَّ الزِّنَا
(9/98)
فِعْلَانِ مِنْ الزَّانِيَيْنِ وَفِعْلُ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ
عَلَيْهِ فَإِنْكَارُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إقْرَارِهِ، وَأَكْثَرُ مَا
فِيهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِإِنْكَارِهَا ظُهُورُ الزِّنَا فِي حَقِّهَا،
وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ، كَمَا لَوْ
كَانَتْ حَاضِرَةً سَاكِتَةً أَوْ غَائِبَةً، وَكَمَا لَوْ قَالَتْ: زَنَى
بِي مُسْتَكْرَهَةً يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: فِعْلُ الزِّنَا
مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَبِإِنْكَارِهَا قَدْ
انْتَفَى فِي جَانِبِهَا فَيَنْتَفِي فِي جَانِبِهِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَوْ انْتَفَى صِفَةُ الزِّنَا فِي جَانِبِهَا بِدَعْوِي
النِّكَاحِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا؟ فَإِذَا انْتَفَى أَصْلُ الْفِعْلِ
أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ
عَلَيْهِ بِالزِّنَا بِهَا مَعَ إنْكَارِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَبْقَى
مُحْصَنَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا
بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ، وَبِدُونِ الْقَضَاءِ
بِالزِّنَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ.
وَفِي الْغَائِبَةِ قِيَاسُ اسْتِحْسَانٍ وَالْفَصْلُ الْمُسْتَحْسَنُ لَا
يَدْخُلُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ ثُمَّ بِغَيْبَتِهَا
وَاسْتِكْرَاهِهَا لَا يَنْتَفِي الْفِعْلُ فِي جَانِبِهَا
وَبِإِنْكَارِهَا يَنْتَفِي، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ
بِشَيْءٍ وَكَذَّبَهُ بَطَلَ إقْرَارُهُ؟ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا سَاكِتًا لَمْ
يَبْطُلْ بِهِ الْإِقْرَارُ حَتَّى إذَا صَدَّقَهُ عَمِلَ بِتَصْدِيقِهِ،
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ زَنَى بِي مُسْتَكْرَهَةً؛ لِأَنَّ
الْمَحَلِّيَّةَ وَأَصْلَ الْفِعْلِ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّهَا،
وَلِهَذَا سَقَطَ إحْصَانُهَا بِهِ وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَدْ
ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا
أَنْكَرَتْ وَطَالَبَتْهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ فَحَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَذْفِهِ إيَّاهَا بِالزِّنَا لَا
بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا عَلَى نَفْسِهِ
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فُلَانٌ
أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي
بَيَّنَّا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ
لِلْفِعْلِ هُوَ الرَّجُلُ فَلَا يَثْبُتُ أَصْلُ الْفِعْلِ مَعَ
إنْكَارِهِ، وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ صَدَقَتْ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ، وَلَمْ
يُحَدَّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَا
مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالْإِقْرَارِ الْوَاحِدِ لَا
يُقَامُ الْحَدُّ
(قَالَ) الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا إذَا أَقَرَّ
بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَدْ
بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي هَذَا فِي الْبَيِّنَةِ، فَكَذَلِكَ فِي
الْإِقْرَارِ، وَعَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ
مِنْهُ الْخَرَاجُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْ
الْمُسْتَأْمَنِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ خَالِصُ
حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
(قَالَ) وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَزَنَى
هُنَاكَ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ فَأَقَرَّ بِهِ لَمْ يُحَدَّ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزَمٌ لِأَحْكَامِ
الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا كَانَ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وُجُوبُ
الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ
(9/99)
فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَالْمَعْنَى فِيهِ
أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يُرَادُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَقَدْ
انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى
نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةٌ عَلَى مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ
لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ لِانْعِدَامِ
الْمُسْتَوْفِي، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِينَ بَاشَرَ السَّبَبَ لَا
يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ خَرَجَ إلَى دَارِنَا
(قَالَ) وَكَذَلِكَ سَرِيَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَتْ فِي دَارِ
الْحَرْبِ فَزَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ هُنَاكَ أَوْ كَانُوا عَسْكَرًا؛
لِأَنَّ أَمِيرَ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ إنَّمَا فُوِّضَ إلَيْهِ
تَدْبِيرُ الْحَرْبِ، وَمَا فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ الْحُدُودِ، وَأَمَّا
إذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ غَزَا بِنَفْسِهِ أَوْ كَانَ أَمِيرُ مِصْرٍ
يُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا غَزَا بِجُنْدِهِ فَإِنَّهُ
يُقِيمُ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ
جُنْدِهِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ فَمَنْ ارْتَكَبَ مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُوجِبًا
لِلْعُقُوبَةِ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ، كَمَا يُقِيمُهَا فِي دَارِ
- الْإِسْلَامِ هَذَا إذَا زَنَى فِي الْمُعَسْكَرِ، وَأَمَّا إذَا دَخَلَ
دَارَ الْحَرْبِ وَفَعَلَ ذَلِكَ خَارِجًا مِنْ الْمُعَسْكَرِ لَا يُقِيمُ
عَلَيْهِ الْحَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ
(قَالَ) ، وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي
مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْهُمْ، وَلَا مَنْ كَانَ تَاجِرًا مِنْ
أَهْلِ الْعَدْلِ وَأُمَرَاؤُهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ يَدَ إمَامِ أَهْلِ
الْعَدْلِ لَا تَصِلُ إلَيْهِمْ لِمَنَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَوِلَايَتُهُ
فِي الِاسْتِيفَاءِ مُنْقَطِعَةٌ لِقُصُورِ يَدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
الْوُجُوبَ لِلِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي امْتَنَعَ
الْوُجُوبُ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ
خُرُوجُهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ
بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَدْرَأُ
الْعُقُوبَةَ إذَا تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةَ فِي حَدِّ الشُّرْبِ سَوَاءٌ
ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا إذَا
ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ
(قَالَ) وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا أَوْ
بِغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا،
وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ وَالْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ
بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ فِي مَحَلٍّ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ،
فَإِنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْمَالِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي
حُكْمِ النَّفْسِيَّةِ هُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقَانِ بَيْنَ حُجَّةِ
الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ
الطَّعْنِ فِي الْبَيِّنَةِ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ
مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا
بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فِي الْآبِقِ
(قَالَ) وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ فِي زِنًى
أَوْ شُرْبٍ أَوْ سَرِقَةٍ حُبِسَ حَتَّى يَبْرَأَ لِمَا رُوِيَ عَنْ
«رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ
عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَمَةٍ
فَرَأَى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ فَرَجَعَ، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ
يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ،
وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ أَثَرَ الدَّمِ بِهَا كَانَ
نِفَاسًا لَا حَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَائِضَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحَةِ فِي
إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا وَالنُّفَسَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضَةِ،
وَلِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى الْمَرِيضِ رُبَّمَا يَنْضَمُّ
أَلَمُ الْجَلْدِ
(9/100)
إلَى أَلَمِ الْمَرَضِ فَيُؤَدِّي إلَى
الْإِتْلَافِ وَالْحَدُّ إنَّمَا يُقَامُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا
لَا مُتْلِفًا، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى مَرِيضٍ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ
وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ بُرْئِهِ وَاسْتَحْكَمَ ذَلِكَ الْمَرَضُ عَلَى
وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَعِنْدَنَا فِي مِثْلِ هَذَا يُقَامُ
عَلَيْهِ الْحَدُّ تَطْهِيرًا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَدُّ رَجْمًا
فَأَمَّا الرَّجْمُ يُقَامُ عَلَى الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ نَفْسِهِ
هُنَاكَ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَتُهُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ
(قَالَ) رَجُلٌ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ
وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالْقَذْفُ وَفَقْءُ عَيْنِ رَجُلٍ، فَإِنَّهُ
يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْفَقْءِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ
وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ
الضَّرَرِ بِالتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ الْفَوْتَ وَاَللَّهُ
تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ
أَخْرَجَهُ وَأَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِحَقِّ
الْعِبَادِ فَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا هُوَ مَحْضُ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ حَدِّ
الْقَذْفِ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، فَلِهَذَا يُبْدَأُ بِهِ
قَبْلَ حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ، وَإِذَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ
بِحَدِّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْضُ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ثَابِتٌ بِنَصٍّ يُتْلَى وَيُجْعَلُ حَدُّ شُرْبِ
الْخَمْرِ آخِرَهَا؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُتْلَى
فِي الْقُرْآنُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ.
وَكُلَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ حَدًّا حَبَسَهُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ
أَقَامَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَالَى إقَامَةَ هَذِهِ الْحُدُودِ
رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ
بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا،
وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ رُبَّمَا يَهْرُبُ
فَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ
مُضَيِّعًا لِلْحَدِّ وَالْإِمَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَضْيِيعِ الْحَدِّ
بَعْدَ ظُهُورِهِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا اقْتَصَّ مِنْهُ فِي
الْعَيْنِ وَضَرَبَهُ حَدَّ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ حَقِّ
الْعِبَادِ ثُمَّ رَجَمَهُ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ مَحْضُ
حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَتَى اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا نَفْسٌ
قُتِلَ وَتُرِكَ مَا سِوَى ذَلِكَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ
فِي الْحُدُودِ الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى الْمَقْصُودَ هُوَ
الزَّجْرُ، وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الزَّجْرِ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ،
وَالِاسْتِيفَاءُ بِمَا دُونَهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، فَلِهَذَا
رَجَمَهُ وَدَرَأَ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ
السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ،
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ حَقًّا لِلَّهِ،
وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ، فَلِهَذَا يُضَمِّنُهُ السَّرِقَةَ وَيَأْمُرُ
بِإِيفَائِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ
(قَالَ) ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا قَوَدٌ، وَلَا
تَعْزِيرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ وَهْمِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ
الْمَجْلُودَ قَدْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي
الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَنِّبُوا
مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ
(9/101)
أَصْوَاتِكُمْ» ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ
يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا أَرَادَ إقَامَةَ الْحَدِّ بَيْنَ
يَدَيْهِ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ أَوْ يَبْعَثُ أَمِينًا لِيُقَامَ
بِحَضْرَتِهِ، كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي مَاعِزٍ
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى الرَّجُلُ مَرَّاتٍ أَوْ قَذَفَ مَرَّاتٍ أَوْ
سَرَقَ مَرَّاتٍ أَوْ شَرِبَ مَرَّاتٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ
وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ لِمَا أَنَّ
الْمَقْصُودَ بِهَا الزَّجْرُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ،
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ كَذِبِ الْقَاذِفِ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ
الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ
الْمُغَلِّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا عَلَى
مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ
[وَاطِئِ الْبَهِيمَةِ]
(قَالَ) وَلَيْسَ عَلَى وَاطِئِ الْبَهِيمَةِ حَدٌّ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهُ
يُعَزَّرُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لِحَدِيثِ
رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ
مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ» ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ شَاذٌّ لَا
يَثْبُتُ الْحَدُّ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَأْوِيلُهُ فِي حَقِّ مَنْ
اسْتَحَلَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ، ثُمَّ لَيْسَ لِفَرْجِ الْبَهِيمَةِ حُكْمُ
الْفَرْجِ حَتَّى لَا يَجِبُ سِتْرُهُ وَالْإِيلَاجُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ
الْإِيلَاجِ فِي كُوزٍ أَوْ كُوَّةٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا أَنَّهُ لَا
تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ،
وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ، وَلَا يَمِيلُ طَبْعُ
الْعُقَلَاءِ إلَى إتْيَانِ الْبَهِيمَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ
بِمُشْتَهَاةٍ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ وَقَضَاءُ الشَّهْوَةِ يَكُون مِنْ
غَلَبَةِ الشَّبَقِ أَوْ فَرْطِ السَّفَهِ، كَمَا يَحْصُلُ قَضَاءُ
الشَّهْوَةِ بِالْكَفِّ وَالْأَلْيَةِ، وَلَكِنَّهُ يُعَذَّرُ
لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ.
(قَالَ) فِي الْأَصْلِ بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ أَتَى بَهِيمَةً فَلَمْ
يُحِدَّهُ وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ فَذُبِحَتْ وَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ،
وَهَذَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَنَا وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ
كَيْ لَا يُعَيَّرَ الرَّجُلُ بِهِ إذَا كَانَتْ الْبَهِيمَةُ بَاقِيَةً
(قَالَ) وَلَوْ قَذَفَ قَاذِفٌ رَجُلًا بِإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ فَلَا
حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ إذَا
نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِمُبَاشَرَتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ
مَوْجُودٍ هُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ
أَوْ تَقْبِيلِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ؟ فَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَهُ
بِإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ
[قَذَفَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ]
(قَالَ) وَإِنْ قَذَفَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ لَمْ يُحَدَّ إلَّا أَنْ
يُفْصِحَ مَعْنَاهُ إذَا قَالَ: يَا لُوطِيُّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ
بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى فَلَا يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي الْقَذْفِ، فَأَمَّا
إذَا أَفْصَحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُعَزَّرُ، وَلَا يُحَدُّ؛
لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى فِعْلٍ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ
الْفِعْلِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ
نِسْبَةٌ إلَى فِعْلٍ يَسْتَوْجِبُ بِمُبَاشَرَتِهِ الْحَدَّ عِنْدَهُمَا
(قَالَ) وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي نِكَاحِ فَاسِدٍ ثُمَّ قَذَفَهُ
رَجُلٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ
مَمْلُوكٍ فَيَسْقُطُ بِهِ إحْصَانُهُ
(قَالَ) ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُلَقِّنَ الشُّهُودَ مَا
تَتِمُّ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي الْحُدُودِ
(9/102)
لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَالِ
لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِقَامَتِهِ، وَفِي هَذَا احْتِيَالٌ لِإِقَامَةِ
الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ
(قَالَ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَنْ
يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَلَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
هَلَّا سَأَلُوهُ إذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ
السُّؤَالُ» ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِحَقٍّ، وَلَا
يَتَّصِلُ إلَى ذَلِكَ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ إلَّا بِالسُّؤَالِ فَلَا
يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ
أَفْقَهُ مِنْهُ فِي رَأْيِ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَ الْقَاضِي
فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ إذَا كَانَ
يُبْصِرُ وُجُوهَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالِاجْتِهَادِ
إذَا كَانَ مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَهُ.
وَلَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَدَعَ رَأْيَهُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ،
وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَدْ يَسْبِقُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي
حَادِثَةٍ لِإِنْسَانٍ وَيَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْقَهَ
مِنْهُ، وَإِنْ تَرَكَ رَأْيَهُ وَعَمِلَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ كَانَ
مُوَسِّعًا عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ اجْتِهَادٍ مِنْهُ،
فَإِنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَقَاوِيلِ تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ هُوَ
أَفْقَهُ مِنْهُ نَوْعُ اجْتِهَادٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا
لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَادِثَةٍ كَانَ
عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ عِنْدَهُ وَيَكُونُ
ذَلِكَ اجْتِهَادَ مِثْلِهِ، وَهُنَا أَيْضًا إذَا قَدَّمَ رَأْيَ مَنْ
هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ عَلَى رَأْيِ نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ نَوْعَ
اجْتِهَادٍ مِنْهُ فَكَانَ مُوَسِّعًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ]
ِ (قَالَ) ، وَإِذَا شَهِدَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا
كُلُّ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَا بِامْرَأَةٍ عَلَى حِدَةٍ
فَرَجَمَهُ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ
لَمْ يَضْمَنُوا، وَلَمْ يُحَدُّوا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى
الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ عَلَيْهِ
شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَسَائِلِ الرُّجُوعِ
بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ
مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَضْمَنْ الرَّاجِعُونَ شَيْئًا، وَلَا
يُحَدُّونَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ مَا
بَقِيَتْ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى زِنَاهُ، فَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ
الْآخَرِينَ أَيْضًا فَعَلَى الرَّاجِعِينَ رُبُعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةَ
أَرْبَاعِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي الرُّبْعِ
فَعَلَى الرَّاجِعِينَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ بِالْوُجُوبِ
عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ
جَمِيعًا وَيُحْدَوُنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحَدُّونَ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ
(9/103)
الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا فَعَلَيْهِمْ
ضَمَانُ الدِّيَةِ وَيُحَدُّونَ عِنْدَهُمَا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَرْبَعَةٍ أَثْبَتُوا بِشَهَادَتِهِمْ
زِنًى آخَرَ فَالزِّنَا بِزَيْنَبِ غَيْرُ الزِّنَا بِعَمْرَةِ فَفِي حَقِّ
كُلِّ فَرِيقٍ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ ثَابِتُونَ عَلَى
الشَّهَادَةِ فِي حُكْمِ سُقُوطِ الْإِحْصَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شُهُودَ
الزِّنَا لَوْ رَجَعُوا وَقَذَفَ الْمَرْجُومَ إنْسَانٌ فَلَا حَدَّ عَلَى
الْقَاذِفِ؟ وَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى
الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ سِوَاهُمْ أَنَّهُ كَانَ
زَانِيًا بَعْدَ رُجُوعِهِ لَا يُحَدُّونَ إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى
لَا يُعْتَبَرُ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ بَدَلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي
إلَى إهْدَارِ الدَّمِ وَيُعْتَبَرُ فِي امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْحَدِّ
عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَنْدَرِئُ الشُّبُهَاتِ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: هُمْ فِي حَقِّ
الرُّجُوعِ كَالشَّاهِدِينَ عَلَيْهِ بِزِنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ، وَلَا يُقَامُ
عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَعَدَّدَ فِعْلُ الزِّنَا مِنْهُ،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ جُعِلُوا
كَالشَّاهِدِينَ بِزِنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْ
كُلِّ فَرِيقٍ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا أَيْضًا، وَلَوْ لَمْ يُجْعَلُوا
كَذَلِكَ لَضَمِنُوا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ شَاهِدَانِ
أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَشَاهِدَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ
أُخْرَى، وَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِهَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ جُعِلُوا
كَالشَّاهِدِينَ عَلَيْهِ بِزِنًى وَاحِدٍ.
(قَالَ) ، وَلَوْ شَهِدُوا بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ حُدُّوا
جَمِيعًا فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا،
فَقَدْ حَكَمْنَا فِي حَقِّهِمْ بِأَنَّهُ مُحْصَنٌ مَقْتُولٌ ظُلْمًا
حَتَّى غَرَّمْنَاهُمْ الدِّيَةَ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُقَامُ
عَلَيْهِ الْحَدُّ وَمِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُ عَفِيفٌ، وَأَنَّهُمْ
قَذَفُوهُ بِغَيْرِ حَقٍّ
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ خَمْسَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ
فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ حُجَّةٍ
تَامَّةٍ، فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ غَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ
الْبَاقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةَ
أَرْبَاعِ النَّفْسِ وَيُحَدَّانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى
الشَّهَادَةِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ، وَقَدْ انْفَسَخَتْ
الشَّهَادَةُ فِي حَقِّهِمَا بِالرُّجُوعِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ.
(فَإِنْ قِيلَ) الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حِينَ رَجَعَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
الْحَدُّ، وَلَا ضَمَانَ، فَلَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِرُجُوعِ
الثَّانِي وَرُجُوعِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ الْحَدَّ.
(قُلْنَا) لَمْ يَجِبْ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ بَلْ لِمَانِعٍ، وَهُوَ
بَقَاءُ حُجَّةٍ تَامَّةٍ، فَإِذَا زَالَ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَجَبَ
الْحَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَرِّرِ فِي حَقِّهِ لَا
بِزَوَالِ الْمَانِعِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى لَوَجَبَ
الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا مَعًا لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛
لِأَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
بِرُجُوعِهِ وَحْدَهُ لَوْ ثَبَتَ أَصْحَابُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهَذَا
بَعِيدٌ
(قَالَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا
فَعَلَ الْإِمَامُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إمَامٌ شَيْئًا مِمَّا هُوَ
إلَى السُّلْطَانِ فَلَيْسَ فِيهِ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا الْقِصَاصُ
وَالْأَمْوَالُ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ
إلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ الْإِمَامُ فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ
عَلَى
(9/104)
نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا جَعَلَ
مَنْ عَلَيْهِ نَائِبًا عَنْهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ
إقَامَتَهُ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالْعُقُوبَةِ فَلَا يَفْعَلُ
الْإِنْسَانُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ نَائِبُهُ لَا
يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ فَانْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي، وَفَائِدَةُ
الْوُجُوبِ الِاسْتِيفَاءُ، فَإِذَا انْعَدَمَ الْمُسْتَوْفِي قُلْنَا
أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
يَقُولُ: يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَيَجْتَمِعُ الصُّلَحَاءُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَدَّ، وَأَهْلُ
الزَّيْغِ يُعَلِّلُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ
بِالزِّنَا قَدْ انْعَزَلَ فَكَانَ زِنَاهُ فِي وَقْتٍ لَا إمَامَ فِيهِ،
وَلَوْ زَنَى فِي مَكَان لَا إمَامَ فِيهِ، وَهُوَ دَارُ الْحَرْبِ لَا
يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، فَكَذَلِكَ إذَا زَنَى فِي زَمَانٍ لَا إمَامَ فِيهِ،
وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ بِالْفِسْقِ لَا
يَنْعَزِلُ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ وَالْأَمْوَالُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ
وَاسْتِيفَاؤُهُ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْتَوْفِيهِ مِنْهُ إنْ
تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ
(قَالَ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: السُّكْرُ
الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الرَّجُلَ
مِنْ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ مَا سِوَى
الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْكِرْ،
وَحَدُّ سُكْرِهِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَخْتَلِطَ كَلَامُهُ فَلَا يَتَمَيَّزُ
جَدُّهُ مِنْ هَزْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ يُسَمَّى فِي
النَّاسِ سَكْرَانَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وَأَبُو
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ مَا لَمْ يَبْلُغْ
نِهَايَةَ السُّكْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِي الْأَسْبَابِ
الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ يُعْتَبَرُ أَقْصَى النِّهَايَةِ احْتِيَالًا
لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ
السَّمَاءِ وَالْفَرْوَ مِنْ الْقَبَاءِ وَالذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى إلَى
هَذَا أَشَارَ فِي الْأَشْرِبَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
[بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْقَذْفِ]
ِ (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ
أَنَّهُ قَذَفَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى ذَلِكَ،
وَلَا يَمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ إنَّمَا يَكُونُ
بَدَلًا وَالْبَدَلُ لَا يَعْمَلُ فِي الْحُدُودِ أَوْ يَكُونُ قَائِمًا
مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ
غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يُسْتَحْلَفُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ بِنَاءً
عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُسْتَحْلَفُ
فِيهِ كَالتَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ
رُجُوعَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ فَلَا يَكُونُ اسْتِحْلَافُهُ
مُفِيدًا، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ
فَالِاسْتِحْلَافُ فِيهِ يَكُونُ مُفِيدًا كَالْأَمْوَالِ، وَلَكِنَّا
نَقُولُ هَذَا حَدٌّ يُدْرَأُ
(9/105)
بِالشُّبْهَةِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ
كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ
فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ.
(قَالَ) إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ
فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ضَمِنَ الْمَالَ، وَلَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ
الْمَالَ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهُوَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَحَقِيقَةُ
الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي السَّرِقَةِ أَخْذُ الْمَالِ، فَإِنَّمَا
يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْأَخْذِ لَا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ، وَعِنْدَ
نُكُولِهِ يُقْضَى بِمُوجِبِ الْأَخْذِ، وَهُوَ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ
شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ يَثْبُتُ الْأَخْذُ الْمُوجِبُ
لِلضَّمَانِ، وَلَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِ
السَّرِقَةِ فَإِنْ جَاءَ الْمَقْذُوفُ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ
قَذَفَهُ سُئِلَا عَنْ مَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا
بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ فَالْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا، وَقَدْ يَكُونُ
بِغَيْرِ الزِّنَا فَإِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ
شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَا
يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ، فَكَذَلِكَ
يَمْتَنِعُ عَنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِمَا عَنْ بَيَانِ مَا
شَهِدَا بِهِ.
فَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ يَا زَانٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا
وَحُدَّ الْقَاذِفُ إنْ كَانَا عَدْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا
بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وَاتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ
أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله
تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ،
فَإِنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ شَرْطٌ فِي الزِّنَا
خَاصَّةً، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ
لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ
مَقَالَتِك وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك»
(قَالَ) وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي شُهُودَ الْقَذْفِ بِالْعَدَالَةِ
حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا
بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ هَتْكِ السِّتْرِ وَأَذَى النَّاسِ
بِالْقَذْفِ فَيُحْبَسُ لِذَلِكَ، وَلَا يُكَفِّلُهُ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيلَ
لِلتَّوَثُّقِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّرْءِ
وَالْإِسْقَاطِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُكْفَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ
الْكَفَالَةِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ مِنْهُ الْكَفِيلَ فِي
دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ،
وَلَا خِلَافَ لَهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ الْحَدِّ
وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي إيفَائِهِمَا،
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ إقَامَةُ الْكَفِيلِ مَقَامَ
الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِيفَاءِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي شَيْءٍ
مِنْ الْحُدُودِ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، فَأَمَّا أَخْذُ
الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -.
إذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ،
فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا
بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَإِنْ أَحْضَرَ
بَيِّنَتَهُ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْحَبْسِ
الْمُلَازَمَةُ أَنَّهُ
(9/106)
يَأْمُرُهُ بِمُلَازَمَتِهِ إلَى آخِرِ
الْمَجْلِسِ لَا حَقِيقَةُ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَبِمُجَرَّدِ
الدَّعْوَى لَا تُقَامُ الْعُقُوبَةُ عَلَى أَحَدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا
بِنَفْسِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ، وَقَالَا:
إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ بِمَنْزِلَةِ حُقُوقِ
الْعِبَادِ، وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الْخَصْمِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ
عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَأْخُذُ
الْقَاضِي كَفِيلًا بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا فِي
الْأَمْوَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي، وَلِهَذَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ
عِنْدَ طَلَبِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَيَجُوزُ
أَخْذُ الْكَفِيلِ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
يَقُولُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْخُصُومَةِ إثْبَاتُ الْحَدِّ
وَالْكَفَالَةُ لِلتَّوَثُّقِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالْحَدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى
الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ فَلَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ،
كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - يَقُولُ: مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُ
الْخَصْمَ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ، وَلَكِنْ إنْ سَمَحَتْ نَفْسُهُ
فَأَعْطَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ صَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ
مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا
وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّاهِدَ
بِالْعَدَالَةِ فَهُوَ وَمَا لَمْ يُقِمْ الشَّاهِدُ سَوَاءٌ لَا
يَحْبِسُهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ
كَانَ يَعْرِفُ هَذَا الشَّاهِدَ بِالْعَدَالَةِ فَادَّعَى أَنَّ شَاهِدَهُ
الْآخَرَ حَاضِرٌ حَبَسَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً اسْتِحْسَانًا، وَفِي
الْقِيَاسِ لَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ بِالشَّاهِدِ
الْوَاحِدِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ بِحَالٍ، وَلَكِنَّهُ
اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: قَدْ تَمَّ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ
لِلشَّهَادَةِ شَرْطَيْنِ الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ، فَلَوْ تَمَّ
الْعَدَدُ حَبَسَهُ قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ
صِفَةُ الْعَدَالَةِ قُلْنَا: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ
بِشَاهِدٍ آخَرَ وَيُمْهِلُهُ فِي ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ
فَيَحْبِسُهُ هَذَا الْمِقْدَارَ اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِي
الْحَدِّ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ، وَلَا
يَحْبِسُهُ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ
(قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ
أَسْلَمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَذَفَهُمَا رَجُلٌ فَعَلَيْهِ
الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مِنْ
أَصْلِهِ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَهُ حُكْمُ
الصِّحَّةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ
(قَالَ) وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً فَأُدِّيَتْ
مُكَاتَبَتُهُ فَقَذَفَهُ رَجُلٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِشُبْهَةِ
الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ
مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَبَعْدَ
ثُبُوتِ الْقَذْفِ يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ يُرِيدُ بِهِ
إنَّهُ إذَا زَعَمَ الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ، وَقَدْ
بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرِّيَّةَ الثَّابِتَةَ بِالظَّاهِرِ لَا تَكْفِي
لِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ،
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ
(9/107)
وَعَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ فَمَا لَمْ يُقِمْ الْمَقْذُوفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرِّيَّتِهِ
لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ فَإِنْ عَرَفَ الْقَاضِي
حُرِّيَّتَهُ اكْتَفِي بِمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْقَاضِي أَقْوَى
مِنْ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْحَدِّ
بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ،
وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي بِالْحُرِّيَّةِ هُنَا بِعِلْمِهِ
وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْحَدِّ فَإِنْ اخْتَلَفَ
الشَّاهِدَانِ فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمَا
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى
قَوْلِهِمَا لَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَالْحَاصِلُ
أَنَّ مَا يَكُونُ قَوْلًا مَحْضًا كَالْبُيُوعِ وَالْأَقَارِيرِ
وَنَحْوِهَا فَاخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ لَا
يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُعَادُ وَيُكَرَّرُ
وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ
بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ
اخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ
الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ وَاحِدٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَمِنْ هَذِهِ
الْجُمْلَةِ الْقَرْضُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْقَرْضِ، وَإِنْ كَانَ
بِالتَّسْلِيمِ وَلَكِنْ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى قَوْلِ الْمُقْرِضِ
أَقْرَضْتُك، وَذَلِكَ قَوْلٌ فَأَلْحَقَهُ بِالْإِقْرَارِ لِهَذَا،
فَأَمَّا الْجِنَايَةُ وَالْغَصْبُ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ الْأَفْعَالِ
اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْإِقْرَارِ
وَالْإِنْشَاءِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا
لَا يَتَكَرَّرُ وَالْإِقْرَارُ بِالْفِعْلِ غَيْرُ الْفِعْلِ، وَمَا لَمْ
يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي
مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ وَالنِّكَاحُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا؛
لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ
شَاهِدَيْنِ وَحُضُورُ الشُّهُودِ فِعْلٌ فَأُلْحِقَ بِالْأَفْعَالِ
لِهَذَا، وَفِي الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْفِعْلِ
كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ اخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ نَذْكُرُهُ
فِي الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ.
فَأَمَّا الْقَذْفُ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى قَالَا: اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِيهِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَبَبٍ مُوجِبٍ
لِلْحَدِّ، وَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ لَا
يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ
اخْتَلَفَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا
وَأُلْحِقَ ذَلِكَ بِالْأَفْعَالِ؟ فَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي
الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالتَّنَاوُلِ
مِنْ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ فَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ
الشَّهَادَةِ عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ وَأَبُو
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ الْقَذْفُ قَوْلٌ قَدْ
تَكَرَّرَ فَيَكُونُ حُكْمُ الثَّانِي حُكْمَ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْتَلِفُ
الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا
هُوَ الْقِيَاسُ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، قَالَ:
إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ
بِالْقَذْفِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْإِنْشَاءِ بِالْقَذْفِ، أَلَا تَرَى
أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا
قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَذَفَهَا فِي
الْحَالِ لَاعَنَهَا
(9/108)
وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ
أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ الْإِبَانَةِ فَلَا حَدَّ
عَلَيْهِ، وَلَا لِعَانَ، وَلَوْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ حُدَّ فَلَمَّا
كَانَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِنْشَاءِ يَتَحَقَّقُ
الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِقْرَارِ
وَالْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا حُكْمُ الْقَذْفِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَكَانِ
وَالزَّمَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الشُّهُودِ
بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
(قَالَ) ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ
ثُمَّ عَفَى الْمَقْذُوفُ عَنْهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ
يَسْقُطْ الْحَدُّ بِعَفْوِهِ عِنْدَنَا وَذَكَرَ ابْنُ عِمْرَانَ عَنْ
بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى -.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فَهُوَ فِي
حُكْمِ التَّبَعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ
أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ التَّنَاوُلُ مِنْ عِرْضِهِ، وَعِرْضُهُ حَقُّهُ
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيَعْجِزُ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ إذَا أَصْبَحَ قَالَ:
اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك» ، وَإِنَّمَا
يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ
وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ حَقُّهُ،
وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ حَدُّ الْقَذْفِ يُسْتَوْفَى بِالْبَيِّنَةِ
بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ
الْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ
وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَتِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَوْفَى
بِخُصُومَتِهِ مَا هُوَ حَقُّهُ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَخُصُومَتُهُ
هُنَاكَ بِالْمَالِ دُونَ الْحَدِّ، وَيُقَامُ هَذَا الْحَدُّ عَلَى
الْمُسْتَأْمَنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ
بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا أَنَّ مَنْ لَهُ لَا يَتَمَكَّنُ
مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَلَمَ الْجَلْدَاتِ غَيْرُ
مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، فَإِذَا فُوِّضَ إلَى مَنْ لَهُ رُبَّمَا لَا
يَقِفُ عَلَى الْحَدِّ لِغَيْظِهِ فَجُعِلَ الِاسْتِيفَاءُ إلَى الْإِمَامِ
مُرَاعَاةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ،
فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ، فَإِذَا جَاوَزَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ذَلِكَ
الْحَدَّ يُعْلَمُ ذَلِكَ فَيُمْنَعُ مِنْهُ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ يُعْتَبَرُ فِيهِ
الْإِحْصَانُ فَيَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالرَّجْمِ وَتَأْثِيرُ
هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ زَوَاجِرُ، وَالزَّوَاجِرُ
مَشْرُوعَةٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَا يَكُونُ حَقًّا
لِلْعَبْدِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَائِزٌ فَمَا أُوجِبَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ
حَقًّا لِلْعَبْدِ وَجَبَ بِاسْمِ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ
الْمُسَاوَاةِ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى مَعْنَى الْجَبْرِ، وَمَا أُوجِبَ
بِاسْمِ الْحَدِّ فَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الِاسْمِ إشَارَةٌ
إلَى مَعْنَى الزَّجْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حُقُوقِ
الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَبِهِ وَرَدَ النَّصُّ حَيْثُ قَالَ
تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194] ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ نِسْبَةِ الزِّنَا وَبَيْنَ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ
(9/109)
لِتَعْفِيَةِ أَثَرِ الزِّنَا وَحُرْمَةُ
إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ هَذَا
نَظِيرَ الْوَاجِبِ بِمُبَاشَرَةِ الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَشْرُوعٌ لِإِبْقَاءِ السِّتْرِ وَتَعْفِيَةِ أَثَرِ الزِّنَا
وَاعْتِبَارُ الْإِحْصَانِ لِمَعْنَى النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا هُوَ
مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ لَا يَنْفِي
مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِي عِرْضِهِ حَقَّهُ وَحَقَّ
اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي دَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِي
إبْقَاءِ سِتْرِ الْعِفَّةِ مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا دَلَّ
بَعْضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبَعْضُ
الْأَدِلَّةِ عَلَى اجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ فِيهِ، قُلْنَا بِأَنَّ
الْمُغَلَّبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اعْتِبَارِ حَقِّ الْعَبْدِ
فِيهِ أَيْضًا لِيَكُونَ عَمَلًا بِالْأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إلَى الْإِمَامِ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا
يَتَعَيَّنُ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِ، وَلَا
مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ، فَإِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ
زَوْجَتَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوهِمُ التَّفَاوُتَ لَكِنَّ
التَّعْزِيرَ لَمَّا كَانَ لِلزَّوْجِ حَقًّا لَهُ لَا يُنْظَرُ إلَى
تَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ
الْمُبَالَغَةَ كَمَا تُتَوَهَّمُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ تُتَوَهَّمُ مِنْ
الْجَلَّادِ، وَيُمْنَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ
أَثَرُهُ، كَمَا يُمْنَعُ الْجَلَّادُ مِنْهُ مَعَ أَنَّ تَوَهُّمَ
الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ صَاحِبَ الْحَقِّ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ
كَتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ فِي الْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
يَتَنَصَّفُ هَذَا الْحَدُّ بِالرِّقِّ، وَإِنَّمَا يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ
لِانْعِدَامِ نِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، لَا لِأَنَّ
بَدَنَهُ دُونَ بَدَنِ الْحُرِّ فِي احْتِمَالِ الضَّرْبِ فَاحْتِمَالُ
بَدَنِ الْعَبْدِ لِلْمَهَانَةِ وَالضَّرْبِ أَكْثَرُ، وَإِنَّمَا
يَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ النِّعَمِ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛
لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ
حَقٌّ لِلْمُنْعِمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ مُتَمِّمًا
لِهَذَا الْحَدِّ، وَهُوَ سُقُوطُ الشَّهَادَةِ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ
تَعَالَى، فَكَذَلِكَ أَصْلُ الْحَدِّ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
فِيهِ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ أَيْضًا، فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُ
وَطَلَبُهُ، وَلِهَذَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ؛
لِأَنَّ الْخَصْمَ مُصَدِّقٌ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ مُكَذِّبٌ لَهُ فِي
الرُّجُوعِ بِخِلَافِ مَا كَانَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ
هُنَاكَ لَيْسَ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلِهَذَا يُقَامُ بِحُجَّةِ
الْبَيِّنَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الشُّهُودِ مِنْ
أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَلَا يَصِيرُونَ
مُتَّهَمِينَ بِالضَّغِينَةِ، وَلِهَذَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ؛
لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْعَبْدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالطَّلَبِ بِهِ
وَالْمُسْتَأْمَنُ مُلْتَزِمٌ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ
إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ بِعَفْوِهِ لَا يَسْقُطُ عِنْدَنَا،
وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ مَا يَتَمَحَّضُ حَقًّا لَهُ
فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ.
وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ كَالْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا لَا
تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى،
وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ مَذْهَبِنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
وَلَكِنَّ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِعَفْوِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ
الْعَافِي لَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ لِمَا بَيَّنَّا
أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَقَدْ تَرَكَ
(9/110)
الطَّلَبَ إلَّا أَنَّهُ إذَا عَادَ
فَطَلَبَ فَحِينَئِذٍ يُقِيمُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ كَانَ لَغْوًا
فَكَأَنَّهُ لَمْ يُخَاصِمْ إلَى الْآنَ، وَلَوْ صَدَّقَهُ فِيمَا قَالَ
أَوْ قَالَ: شُهُودِي شَهِدُوا بِالْبَاطِلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ
فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ
كَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ إذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ، وَإِذَا صَدَّقَهُ، فَقَدْ
صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَا وَانْعَدَمَ بِهِ إحْصَانُهُ وَقَذْفُ غَيْرِ
الْمُحْصَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَبِإِقْرَارِهِ يَنْعَدِمُ السَّبَبُ
الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ لَا أَنَّهُ يَسْقُطُ فَأَمَّا بِعَفْوِهِ لَا
يَنْعَدِمُ السَّبَبُ، وَمَا أَسْقَطَهُ حَقُّ الشَّرْعِ فَكَانَ
إسْقَاطُهُ لَغْوًا لِهَذَا
(قَالَ) وَيُسْتَحْسَنُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ لِلطَّالِبِ قَبْلَ
إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ اُتْرُكْ هَذَا وَانْصَرِفْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ
يَثْبُتْ عِنْدَهُ بَعْدُ، وَهَذَا نَوْعُ احْتِيَالٍ مِنْهُ لِدَرْءِ
الْحَدِّ وَهَكَذَا فِي السَّرِقَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ
لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ اُتْرُكْ دَعْوَى السَّرِقَةِ قَبْلَ أَنْ نُثْبِتَ
السَّرِقَةَ بِالْبَيِّنَةِ
(قَالَ) وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي
كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ
عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ قَذَفَهُمْ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ،
فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ
يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ الْمَقْذُوفِ عِنْدَهُ
فَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ،
وَعِنْدَنَا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَشْرُوعٌ
لِلزَّجْرِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَكَذَلِكَ
إنْ حَضَرَ بَعْضُهُمْ لِلْخُصُومَةِ، وَلَمْ يَحْضُرْ الْبَعْضُ فَأُقِيمَ
الْحَدُّ بِخُصُومَةِ مَنْ حَضَرَ فَعَلَى مَذْهَبِهِ إذَا حَضَرَ
الْغَائِبُ وَخَاصَمَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَجْلِهِ أَيْضًا،
وَعِنْدَنَا لَا يُقَامُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِالزِّنَا قَبْلَ
إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ
كَحُضُورِ جَمَاعَتِهِمْ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ، وَهُوَ
دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ بِالْحُكْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ
(قَالَ) وَلَا يُقْبَلُ فِي الْقَذْفِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي،
وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ
الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهُ الْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ
وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ إذَا
كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ، فَلَوْ
ثَبَتَ قَبْلَ كَمَالِ الْجَلْدِ لَمْ يَكُنْ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ،
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ رَدَّ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجَلْدَاتِ
وَالْمَعْطُوفُ لَا يَسْبِقُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: زَنَيْتِ مُسْتَكْرَهَةً، أَوْ قَالَ:
جَامَعَك فُلَانٌ جِمَاعًا حَرَامًا، أَوْ زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ لَا
حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى فِعْلٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ
عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ
بِنِسْبَةِ الْمَقْذُوفِ إلَى فِعْلٍ مُوجِبِ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ، ثُمَّ
الْمُسْتَكْرَهَةُ لَا فِعْلَ لَهَا، وَقَوْلُهُ جَامَعَك جِمَاعًا
حَرَامًا لَيْسَ بِصَرِيحٍ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَقَوْلُهُ زَنَيْت
وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ مُحَالٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ لَا
يَكُونُ زِنًى شَرْعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَأْثَمُ بِهِ فَهُوَ
كَقَوْلِهِ زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ تُولَدِي وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ
لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ بِهَذَا الْكَلَامِ يَلْحَقُ الْقَاذِفَ
دُونَ
(9/111)
الْمَقْذُوفِ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ
لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ
وَإِنْ قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ أَوْ قَالَ:
زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ، وَقَدْ أُعْتِقْت فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِدَفْعِ
الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى فِعْلٍ مُوجِبٍ
لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، فَإِنَّ فِعْلَ الذِّمِّيَّةِ وَالْأَمَةِ زِنًى
وَيُحَدَّانِ عَلَى ذَلِكَ
وَلَوْ قَالَ: قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا وَأَنْتِ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا بِهَذَا
الْكَلَامِ بَلْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا فِي حَالٍ لَوْ
عَلِمْنَا مِنْهُ الْقَذْفَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ
الْحَدُّ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلْحَدِّ لَا مُقِرًّا بِهِ.
وَيُضْرَبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ضَرْبًا لَيْسَ بِشَدِيدٍ مُبَرِّحٍ
وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِعْلٌ مُؤْلِمٌ
لَا مُتْلِفٌ فَالشَّدِيدُ الْمُبَرِّحُ مُتْلِفٌ فَعَلَى الْجَلَّادِ أَنْ
يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ
[قَذَفَ مَيِّتًا بِالزِّنَا]
(قَالَ) رَجُلٌ قَذَفَ مَيِّتًا بِالزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ
وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ وَالْمَوْتُ
يُقَرِّرُ إحْصَانَهُ وَلَا يَنْفِيهِ، ثُمَّ الْخُصُومَةُ فِي هَذَا
الْقَذْفِ إلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَيِّتِ بِالْوِلَادِ أَوْ يُنْسَبُ
إلَيْهِ الْمَيِّتُ بِالْوِلَادِ، وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الشَّيْنُ
بِذَلِكَ وَحَقُّ الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ الْعَارِ فَمَنْ يَلْحَقُهُ
الشَّيْنُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
(قَالَ) وَلَيْسَ لِأَخِيهِ أَنْ يُخَاصِمَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ
ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِلْأَخِ عَلَقَةً فِي حُقُوقِهِ
بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوَلَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْقِصَاصِ
يَخْلُفُهُ فَكَذَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْخُصُومَةُ
هُنَا لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ، فَإِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا
يُورَثُ لِيَخْلُفَ الْوَارِثُ الْمُوَرِّثَ فِيهِ، وَإِنَّمَا
الْخُصُومَةُ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْأَخُ لَا يَلْحَقُهُ
الشَّيْنُ بِزِنَا أَخِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ
إلَى صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا نِسْبَةُ زِنَا الْغَيْرِ بِاعْتِبَارِ
نِسْبَتِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ.
(قَالَ) وَلِوَلَدِ الْوَلَدِ أَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ، كَمَا لِلْوَلَدِ
ذَلِكَ قَالَ، وَفِي كِتَابِ الْحُدُودِ الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ يَرِثُ
وَيُورَثُ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ
الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ، إلَّا أَنَّ
مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ
لِوَلَدِ الِابْنَةِ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي هَذَا الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ
مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى أُمِّهِ فَلَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ
بِزِنَا أَبِي أُمِّهِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ النَّسَبُ يَثْبُتُ
مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَيَصِيرُ الْوَلَدُ بِهِ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ،
وَلَوْ قَذَفَ أُمَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ
إلَيْهَا لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَ أَبَا
أُمِّهِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ بَقَاءِ
الْوَلَدِ لَيْسَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ
الَّذِي يَلْحَقُ الْوَلَدَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ وَلَدَ الْوَلَدِ فَصَارَ
وَلَدُ الْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ الْوَلَدِ كَالْوَلَدِ مَعَ بَقَاءِ
الْمَقْذُوفِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ، فَإِنَّهُ لَا
خُصُومَةَ فِيهِ لِلْأَبْعَدِ مَعَ بَقَاءِ الْأَقْرَبِ، وَلَكِنَّا
نَقُولُ حَقُّ الْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ
بِنِسْبَتِهِ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ وَلَدِ الْوَلَدِ
كَوُجُودِهِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ يُقَامُ
(9/112)
الْحَدُّ بِخُصُومَتِهِ بِخِلَافِ
الْمَقْذُوفِ، فَإِنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ لَهُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ
الْقَاذِفِ مِنْ عِرْضِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ وَلَدِهِ
(قَالَ) وَلِوَلَدِ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَدِّ،
كَمَا يَأْخُذَ بِهِ الْوَلَدُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ، وَعِنْدَ زُفَرَ
لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْمَمْلُوكَ لَوْ قُذِفَ فِي
نَفْسِهِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَإِذَا قُذِفَ فِي
أَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْحَدُّ وَجَبَ لِحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى وَخُصُومَةُ الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ الشَّيْنِ الَّذِي
لَحِقَهُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَلَدِ الْكَافِرِ
وَالْمَمْلُوكِ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِالرِّقِّ
وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْخِلَافَةُ إرْثًا بِالْكُفْرِ
وَالرِّقِّ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ الْمَيِّتِ وَحَدُّ الْقَذْفِ لَيْسَ
مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قُذِفَ فِي نَفْسِهِ؛
لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ قَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْعَبْدِ،
وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، أَمَّا هُنَا تَمَّ سَبَبُ وُجُوبِ
الْحَدِّ، وَهُوَ قَذْفُ الْمُحْصَنِ إذْ الْمَيِّتُ مُحْصَنٌ فَكُلُّ مَنْ
يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِهَذَا الْقَذْفِ فَهُوَ خَصْمٌ فِي الْمُطَالَبَةِ
بِالْحَدِّ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ
(قَالَ) وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا غَائِبًا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ
هَؤُلَاءِ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْغَائِبُ كَالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ
خُصُومَتَهُ تَتَعَذَّرُ لِغَيْبَتِهِ، كَمَا هُوَ مُتَعَذَّرٌ بَعْدَ
مَوْتِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: يَنُوبُ أَوْ يَبْعَثُ وَكِيلًا لِيُخَاصِمَ
وَالْخُصُومَةُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْعِرْضِ أَصْلٌ فَمَا لَمْ يَقَعْ
الْيَأْسُ عَنْهُ لَا يُعْتَبَرُ بِالْخُصُومَةِ بِاعْتِبَارِ الشَّيْنِ،
وَفِي الْمَيِّتِ الْخُصُومَةُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْعِرْضِ مَأْيُوسٍ
عَنْهُ فَيُقَامُ الْحَدُّ بِخُصُومَةِ مَنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ
بِخِلَافِ الْغَائِبِ فَإِنْ مَاتَ هَذَا الْغَائِبُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ
لَمْ يَأْخُذْ وَلِيُّهُ أَيْضًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ عِنْدَهُ حَقُّ
الْعَبْدِ فَيَصِيرُ مَوْرُوثًا عَنْ الْمَقْذُوفِ بَعْدَ مَوْتِهِ
لِوَرَثَتِهِ، وَعِنْدَنَا الْمُغَلَّبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا
يُورَثُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا
يَجْرِي الْإِرْثُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى» ، وَلِأَنَّ
الْإِرْثَ خِلَافَةُ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي حَقِّهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
(فَإِنْ قِيلَ) فَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ أَيْضًا بِمَوْتِ
الْمَقْذُوفِ.
(قُلْنَا) لَا نَقُولُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَذَّرُ
اسْتِيفَاؤُهُ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ فَالشَّرْطُ خُصُومَةُ الْمَقْذُوفِ،
وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْخُصُومَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
(فَإِنْ قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْوَارِثُ مَقَامَهُ فِي
خُصُومَتِهِ أَوْ وَصِيُّهُ إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ إلَى إنْسَانٍ.
(قُلْنَا) شَرْطُ الْحَدِّ مُعْتَبَرٌ بِسَبَبِهِ فَكَمَا أَنَّ مَا
يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ بِهِ سَبَبُ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ
لَا يَثْبُتُ بِهِ شَرْطُ الْحَدِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ بَعْدَ
الْمَوْتِ؛ لِأَنَّا لَا نَقُولُ خُصُومَةُ وَلَدِهِ تَقُومُ مَقَامَ
خُصُومَتِهِ، وَكَيْف يُقَالُ ذَلِكَ وَلَا يُورَثُ ذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ
لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّ الْوَلَدَ خَصْمٌ عَنْ
نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الشَّيْنِ، فَأَمَّا فِي حَالِ
الْحَيَاةِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَلَدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ
بَعْدَ الْمَوْتِ
(9/113)
كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَامِ مَقَامَهُ
وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْحُدُودِ
[وَكَّلَ الْغَائِبُ مَنْ يَطْلُبُ بِحَدِّهِ]
(قَالَ) وَلَوْ وَكَّلَ الْغَائِبُ مَنْ يَطْلُبُ بِحَدِّهِ صَحَّ
التَّوْكِيلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُمْ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا
أَقْبَلُ الْوَكَالَةَ فِي حَدٍّ، وَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ خُصُومَةَ
الْوَكِيلِ تَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَشَرْطُ الْحَدِّ لَا يَثْبُتُ
بِمِثْلِهِ، وَلِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ
بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ
بِالشُّبُهَاتِ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا فِي الْحُدُودِ الَّتِي
هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُمَا يَقُولَانِ الْإِثْبَاتُ مِنْ
جُمْلَةِ مَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ فِيهِ
وَتَلَافِيهِ وَالتَّوْكِيلُ فِي مِثْلِهِ صَحِيحٌ كَالْأَمْوَالِ
بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا
يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ فِي حَالِ غَيْبَةِ
الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ
أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ قَدْ عَفَى، وَأَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ صَدَّقَ
الْقَاذِفَ أَوْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ، وَهَذَا لَا يُسْتَوْفَى بِحَضْرَةِ
الْوَكِيلِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ
(قَالَ) فَإِنْ مَاتَ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ مَا ضُرِبَ الْقَاذِفُ بَعْضَ
الْحَدِّ، فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ اعْتِبَارًا
لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، وَكَذَلِكَ إنْ غَابَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ
الْحَدِّ لَمْ يَتِمَّ إلَّا، وَهُوَ حَاضِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ
عَمِيَ الشُّهُودُ أَوْ فَسَقَوْا بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضُ الْحَدِّ
دُرِئَ عَنْهُ مَا بَقِيَ
(قَالَ) وَالْقَذْفُ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ
الْعَرَبِيَّةِ أَوْ النَّبَطِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
بِصَرِيحِ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الشَّيْنِ، وَذَلِكَ لَا
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْسُنِ
، رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى
اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ
مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانٍ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ
لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْإِيجَازَ وَالتَّرْخِيمَ مَعْرُوفٌ
فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الْقَائِلُ:
أَصَاحِ تُرَى بَرْقًا أُرِيَك وَمِيضَهُ
مَعْنَاهُ يَا صَاحِبُ وَقُرِئَ وَنَادَوْا يَا مَالِ أَيْ مَالِكُ،
وَهَذَا أَيْضًا حَذْفُ آخِرِ الْكَلَامِ لِلتَّرْخِيمِ فَلَا يَخْرُجُ
بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لَهَا، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ امْرِئِ
الْقِيسِ: " أَفَاطِمُ مَهْلًا " أَيْ يَا فَاطِمَةُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ
فِي الْكَلَامِ التَّذْكِيرُ وَإِلْحَاقُ هَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْفَصْلِ،
وَالْفَصْلُ هُنَا حَاصِلٌ بِالْإِشَارَةِ فَلَا يَخْرُجُ بِإِسْقَاطِ
حَرْفِ التَّأْنِيثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لَهَا وَاسْتَدَلَّ فِي
الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة:
12] {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30] .
فَأَمَّا إذَا قَالَ: يَا زَانِيَةُ، فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - يَقُولُ: صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَزَادَ حَرْفَ
الْهَاءِ فَتَلْغُو الزِّيَادَةُ وَيَبْقَى قَاذِفًا لَهُ مُلْتَزِمًا
لِلْحَدِّ، وَلِأَنَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إلْحَاقُ هَاءِ التَّأْنِيثِ
بِآخِرِ الْكَلَامِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ
نَسَّابَةٌ وَعَلَامَةٌ وَرَاوِيَةٌ لِلشَّعْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو
يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
(9/114)
تَعَالَى يَقُولَانِ: هُوَ كَذَلِكَ،
وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِعِلْمِ ذَلِكَ
الشَّيْءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ أَكْثَرُ النَّاسِ عِلْمًا بِالزِّنَا
أَوْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالزِّنَا، وَهَكَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا
مُوجِبًا لِلْحَدِّ ثُمَّ نَسَبَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ
مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الْمَوْطُوءَةُ الْمُمَكِّنَةُ مِنْ
فِعْلِ الزِّنَا وَالرَّجُلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِذَلِكَ فَقَذْفُهُ بِهَذَا
اللَّفْظِ نَظِيرُ قَذْفِ الْمَجْبُوبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ
بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانٍ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا
إلَى مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا بِأَنْ
تَسْتَدْخِلَ فَرْجَ الرَّجُلِ فِي فَرْجِهَا
(قَالَ) وَإِذَا ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً عَلَى تَحْقِيقِ
قَوْلِهِ أُجِّلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيَامِ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- يُسْتَأْنَى بِهِ وَيُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِيُحْضِرَ
شُهُودَهُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِشَرْطِ عَجْزِهِ عَنْ
إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَالْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا
بِالْإِمْهَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى
دَفْعًا أَوْ طَعْنًا فِي الشُّهُودِ يُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي
لِيَأْتِيَ بِهِ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ
سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ
يُؤَخِّرَ الْإِقَامَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ
بِتَأْخِيرِ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ وَلَكِنْ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا
يَكُونُ تَأْخِيرًا فَلَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يُؤَخِّرُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْجَلَّادُ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا
لَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ
عَنْهُ، وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُ: ابْعَثْ إلَى شُهُودِك وَذَكَرَ ابْنُ
رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنْ
لَهُ مَنْ يُحْضِرُ شُهُودَهُ أُطْلِقَ عَنْهُ وَبَعَثَ مَعَهُ بِوَاحِدٍ
مِنْ شُرَطِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا
يَجِدُ نَائِبًا وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
وَلَكِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا
لَمْ يُحْضِرْ الشُّهُودَ بَقِيَ سِتْرُ الْعِفَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ
وَذَلِكَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ
(قَالَ) وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَقَالَ
تَعَالَى {، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ
اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] فَإِنْ جَاءَ بِهِمْ فَشَهِدُوا
عَلَى الْمَقْذُوفِ بِزِنًى مُتَقَادِمٍ دَرَأْتُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ
اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا بَعْدَ
التَّقَادُمِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، إلَّا
أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: إنَّمَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى
الزِّنَا بَعْدَ التَّقَادُمِ لِتُوهِمَ الضَّغِينَةَ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ
فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا فِي إسْقَاطِ
الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ
عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ، وَإِنْ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ فَشَهِدُوا عَلَيْهِ
بِالزِّنَا وَقَالَ الْقَاذِفُ: أَنَا رَابِعُهُمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى
كَلَامِهِ وَيُقَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ
خَصْمٌ مُلْتَزِمٌ لِلْحَدِّ فَلَا يَكُونُ شَاهِدًا وَبِالثَّلَاثَةِ لَا
تَتِمُّ الْحُجَّةُ فَكَانُوا قَذَفَةً يُحَدُّونَ جَمِيعًا
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى
إقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا يُدْرَأُ
(9/115)
الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَعَنْ
الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ
كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ إثْبَاتِ
الْإِقْرَارِ هُنَا إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ لَا يَثْبُتُ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ،
وَإِنْ كَثُرَ الشُّهُودُ، فَإِنَّهُ فِي الْحَالِ مُنْكِرٌ، وَلَوْ
سَمِعْنَا إقْرَارَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ
فَكَيْفَ يَثْبُتُ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ
إسْقَاطُ الْحَدِّ وَذَلِكَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ مَا إذَا
شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ تِلْكَ
الشَّهَادَةِ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي إذَا تَمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ،
فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْمُثَنَّى شَهَادَةٌ فِي ذَلِكَ
[قَذَفَ الزَّانِي بِالزِّنَا]
(قَالَ) وَمَنْ قَذَفَ الزَّانِي بِالزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ
عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ أَوْ بِزِنًى
آخَرَ أَوْ مُبْهَمًا وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ قَذَفَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ
الزِّنَا أَوْ بِالزِّنَا مُبْهَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ
الرَّمْيَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّامِي صَادِقًا،
وَإِنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إذَا نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ الزِّنَا
بِعَيْنِهِ فَفِي مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَاذِبٌ مُلْحِقُ الشَّيْنَ
بِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ رَمْيُ الْمُحْصَنِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِالنَّصِّ
قَالَ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]
وَالْمُحْصَنُ لَا يَكُونُ زَانِيًا فَقَاذِفُ الزَّانِي بِالزِّنَا
قَاذِفٌ غَيْرَ الْمُحْصَنِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي نِسْبَتِهِ إلَى أَصْلِ
فِعْلِ الزِّنَا فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ
(قَالَ) وَإِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَطْئًا حَرَامًا فَهُوَ عَلَى
وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَطْؤُهُ هَذَا فِي الْمِلْكِ، أَوْ فِي
غَيْرِ الْمِلْكِ، أَمَّا فِي الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ
بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ إحْصَانُهُ كَوَطْءِ
امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ وَالْمَجُوسِيَّةِ أَوْ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا
أَوْ الْمُحْرِمَةِ أَوْ أَمَتِهِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَوْ هِيَ فِي
عِدَّةٍ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ قَائِمٌ بِبَقَاءِ
سَبَبِهِ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ، وَهُوَ نَظِيرُ وَطْءِ
امْرَأَتِهِ الْمَرِيضَةِ إذَا كَانَتْ تَسْتَضِرُّ بِالْوَطْءِ، وَهَذَا؛
لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ بِالْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًى
وَلَا فِي مَعْنَاهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى
التَّأْيِيدِ كَأَمَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ
يُسْقِطُ بِوَطْئِهَا إحْصَانَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ
الْإِحْصَانُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ الَّذِي
هُوَ مُبِيحٌ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي
الْمَحَلِّ مُنَافَاةٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ
الْمُؤَبَّدَةِ انْتِفَاءُ الْحِلِّ فَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ
إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا
لِلْحِلِّ فِي حَقِّهِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْحِلِّ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي
مَعْنَى الزِّنَا، وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ
إحْصَانُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْقُطُ؛
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَطْئًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ بِوَطْئِهَا وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ
يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مَمْلُوكَةٌ
(9/116)
لَهُ رِقًّا لَا يَدًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ
الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَوَطْءُ الْمُشْتَرَكَةِ مُسْقِطٌ
لِلْإِحْصَانِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مِلْكُهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ قَائِمٌ
وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَمَةِ
الْمُزَوَّجَةِ وَبِأَنْ يَلْزَمَهُ الْعُقْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ كَالزَّوْجَةِ
(قَالَ) فَإِنْ وَطِئَ أُمَّتَهُ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ
بِوَطْءِ أَبِيهِ إيَّاهَا أَوْ بِوَطْئِهِ أُمَّهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ؛
لِأَنَّ فِي الْمُصَاهَرَةِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً فَهُوَ نَظِيرُ حُرْمَةِ
الرَّضَاعِ فَأَمَّا إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ أَوْ أَمَةٍ
بِشَهْوَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا
فَوَطِئَهَا فَقَذَفَهُ رَجُلٌ حُدَّ قَاذِفُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْيِيدِ، فَإِنَّ اللَّمْسَ
وَالتَّقْبِيلَ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا مَعْنَى
لِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ كَالزِّنَا، فَإِنَّ أَبَاهُ
لَوْ زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا هُوَ فَوَطِئَهَا يَسْقُطُ
إحْصَانُهُ، وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا مُخْتَلَفٌ
فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- يَقُولُ: كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ اللَّمْسَ
وَالتَّقْبِيلَ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَلَيْسَ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ
نَصٌّ ظَاهِرٌ بَلْ نَوْعُ احْتِيَاطٍ أَخَذْنَا بِهِ مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ
السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْوَطْءِ مَقَامَ الْوَطْءِ وَبِمِثْلِ هَذَا
الِاحْتِيَاطِ لَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ
الْمَزْنِيِّ بِهَا، فَإِنَّ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ
بِالْوَطْءِ نَصًّا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ، فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ
لَنَا أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ وَمَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا
يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي غَيْرِ
الْمِلْكِ مَسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ فِي
الْأَبِ يَطَأُ جَارِيَةَ ابْنِهِ
(قَالَ) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ
مِنْ زَوْجٍ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ وَوَطِئَهَا سَقَطَ
بِهِ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ،
وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فِي مَعْنَى الزِّنَا
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ
أَوْ امْرَأَةً وَعَمَّتَهَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَبِالْوَطْءِ بِحُكْمِ
هَذِهِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ، وَكَذَلِكَ إذَا
تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ
مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِالْمُصَاهَرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ عَالِمًا عِنْدَ الْوَطْءِ بِأَنَّهَا
غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ سَقَطَ إحْصَانُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ
لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ فِي
الظَّاهِرِ هَذَا الْوَطْءُ حَلَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّهُ مَعْذُورٌ لِجَهْلِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، فَأَمَّا الْوَطْءُ
فَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا
فَيَكُونُ مُسْقِطًا لِإِحْصَانِهِ
[مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَهُمَا]
(قَالَ) وَإِنْ مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَهُمَا حُدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ
هَذَا وَطْءٌ فِي الْمِلْكِ وَالْحُرْمَةُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ
الزَّوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ إحْدَاهُمَا عَنْ مِلْكِهِ
حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى وَبِمِثْلِ هَذَا الْوَطْءِ لَا يَسْقُطُ
(9/117)
الْإِحْصَانُ
فَإِنْ وَطِئَ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَمْ
يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَإِنْ
وَطِئَ امْرَأَةً مُسْتَكْرَهَةً لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ، وَلَا
قَاذِفُهَا؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَعِنْدَ
الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْقُطُ الْإِثْمُ عَنْهَا فَلَا يَخْرُجُ
مِنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ زِنًى، فَلِهَذَا سَقَطَ إحْصَانُهَا
وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنَتِهِ أَوْ أَحَدَ أَبَوَيْهِ أَوْ أُخْتِهِ
ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ مَوْلَاهَا بَاعَهَا مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
بَيِّنَةٌ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ شَاهِدًا
وَاحِدًا عَلَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِ الْحِلِّ لَا يَثْبُتُ
بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَهُوَ
مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ، فَإِنْ زَنَى فِي حَالِ كُفْرِهِ فِي دَارِ
الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ إنْسَانٌ
لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ
الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَامُ بِهِ الْحَدُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ
قَاذِفُهُ صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ
وَإِنْ بَاشَرَ امْرَأَةً حَرَامًا وَبَلَغَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى
الْجِمَاعِ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ
الْإِحْصَانِ بِالْوَطْءِ، فَإِنَّ الْمُسْقِطَ لِلْإِحْصَانِ الزِّنَا
أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَاللَّمْسُ وَالتَّقْبِيلُ لَيْسَ فِي مَعْنَى
الزِّنَا
(قَالَ) مَجْنُونٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ مُطَاوِعَةٍ أَوْ مُسْتَكْرَهَةٍ
ثُمَّ قَذَفَ الْمَجْنُونَ أَوْ الْمَرْأَةَ قَاذِفٌ فَلَا حَدَّ عَلَى
قَاذِفِهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِوُجُودِ الْوَطْءِ مِنْهَا فِي غَيْرِ
الْمِلْكِ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ
لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ قَدْ
تَحَقَّقَ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْإِحْصَانِ، وَإِنْ
قَذَفَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ فَقَاذِفُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا
يُحَدُّ؛ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ
عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ فَأَوَّلُ ذَلِكَ كَمَالُ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ
يَنْعَدِمُ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لِدَفْعِ
الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَالشَّيْنُ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ يَلْحَقُ الْقَاذِفَ دُونَ الْمَقْذُوفِ، وَكَذَلِكَ
الْمَمْلُوكُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فَهُوَ
بَيَانُ أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا، وَإِنْ كَانَ
الْمَمْلُوكُ هُوَ الْقَاذِفَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ لِلْآيَةِ
(قَالَ) ، وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ
مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»
وَعَلَى الذِّمِّيِّ فِي قَذْفِ الْمُسْلِمِ حَدٌّ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ
الْمُسْلِمَ مُحْصَنٌ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِقَذْفِهِ وَالْقَاذِفُ مَعَ
كُفْرِهِ حُرٌّ فَعَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً
وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ مُحْصَنٌ
[قَاذِفُ الْأَخْرَسِ]
وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ الْأَخْرَسِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنْطِقُ
رُبَّمَا يُقِرُّ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَاذِفِ
، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَلَا الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِ
الْمَجْبُوبِ وَالرَّتْقَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ، فَإِنَّ
الزِّنَا مِنْهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ وَيَلْحَقُ الشَّيْنُ الْقَاذِفَ فِي
هَذَا الْقَذْفِ
(قَالَ) وَالْقَاذِفُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مَتَى قَذَفَ رَجُلًا مِنْ
أَهْلِ الْعَدْلِ فِي عَسْكَرِهِمْ أَوْ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْحَرْبِ
أَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ رَجُلًا
(9/118)
مِنْهُمْ لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛
لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ السَّبَبَ، وَهُوَ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ
الْإِمَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا
تَثْبُتُ لِلْإِمَامِ إذَا اُرْتُكِبَ السَّبَبُ، وَهُوَ تَحْتَ
وِلَايَتِهِ وَبِدُونِ الْمُسْتَوْفِي لَا يَجِبُ الْحَدُّ
(قَالَ) وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا
لَمْ يُحَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ؛
لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي هَذَا الْحَدِّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى،
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ حِينَ
لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِدُخُولِهِ دَارَنَا
بِأَمَانٍ وَيُحَدُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا، فَإِنَّ
فِي هَذَا الْحَدِّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ حُقُوقَ
الْعِبَادِ، وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ الْمُسْلِمِ يَسْتَخِفُّ بِهِ، وَمَا
أُعْطِيَ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَسْتَخِفَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا
يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ يُحَدُّ بِقَذْفِ
الْمُسْلِمِ
(قَالَ) وَكُلُّ شَيْءٍ أَوْجَبْنَا فِيهِ الْحَدَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ،
فَإِنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ وَهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ
فَعَلَيْهِمَا اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مُوجَبُ قَذْفِ الزَّوْجِ
زَوْجَتَهُ بِالنَّصِّ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ اللِّعَانِ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ
لَاعَنَهَا؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لَهَا فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ
قَالَ كُنْت قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، فَإِنَّهُ
يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ قَاذِفًا لَهَا بِكَلَامِهِ بَعْدَ
النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ بِكَلَامِهِ قَذْفٌ كَانَ قَبْلَ النِّكَاحِ
فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ: زَنَيْتُ
بِكَ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ لَهَا وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ؛
لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ فَصَارَتْ قَاذِفَةً
لِلرَّجُلِ بِقَوْلِهَا: زَنَيْتُ بِك فَعَلَيْهَا الْحَدُّ لَهُ.
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ فَلَا
لِعَانَ، وَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ فَسَقَطَ اللِّعَانُ
بِتَصْدِيقِهَا، وَلَمْ تَصِرْ قَاذِفَةً لَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَرْأَةِ
بِزَوْجِهَا لَا يَكُونُ زِنًى
(قَالَ) وَلَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا مُبْتَدِئَةً: زَنَيْتُ
بِكَ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ
وَلَا لِعَانٌ؛ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا فَاجِرُ
أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرِ أَوْ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ فَلَا حَدَّ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ وَلَا أُمَّهُ إلَى صَرِيحِ الزِّنَا
فَالْفُجُورُ قَدْ يَكُونُ بِالزِّنَا وَغَيْرِ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ
مَنْ يَكُونُ مِنْهَا ذَلِكَ الْفِعْلُ فَلَا يَكُونُ هَذَا قَذْفًا
بِصَرِيحِ الزِّنَا، فَلَوْ أَوْجَبْنَا بِهِ الْحَدَّ إنَّمَا يُوجَبُ
بِالْقِيَاسِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ يَا
آكِلَ الرِّبَا أَوْ يَا خَائِنُ أَوْ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ لَا حَدَّ
عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛
لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَلِأَنَّهُ
أَلْحَقَهُ نَوْعَ شَيْنٍ بِمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ
لِدَفْعِ ذَلِكَ الشَّيْنِ عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ: يَا حِمَارُ أَوْ يَا
ثَوْرُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إطْلَاقُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِمَعْنَى
الْبَلَادَةِ أَوْ الْحِرْصِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّتِيمَةَ، أَلَا
تَرَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بِهِ؟ فَيُقَالُ: عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَلِأَنَّ
(9/119)
الْمَقْذُوفَ لَا يَلْحَقُهُ شَيْنٌ
بِهَذَا الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُ الْقَاذِفَ فَكُلُّ أَحَدٍ
يَعْلَمُ أَنَّهُ آدَمِيٌّ وَلَيْسَ بِحِمَارٍ، وَأَنَّ الْقَاذِفَ
كَاذِبٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا كَلْبُ، وَحُكِيَ عَنْ
الْهِنْدُوَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ يُعَزَّرُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا؛ لِأَنَّ
هَذَا اللَّفْظَ فِينَا يُذْكَرُ لِلشَّتِيمَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا
يُعَزَّرُ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ
لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الطَّلَبِ وَقِلَّةِ الِاسْتِحْيَاءِ، فَقَدْ
يُسَمُّونَ بِهِ كَالْكَلْبِيِّ وَنَحْوِهِ ثُمَّ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ
أَنَّهُ كَاذِبٌ فَالشَّيْنُ يَلْحَقُهُ دُونَ الْمَقْذُوفِ
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لَهُ: فَجَرْتَ بِفُلَانَةَ وَجَامَعْتَهَا أَوْ
فَعَلْتَ بِهَا فَسَمَّى الْفُحْشَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَدٌّ؛
لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَفِي الْأَسْبَابِ
الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ يُعْتَبَرُ عَيْنُ النَّصِّ فَمَا لَمْ يَقْذِفْهُ
بِصَرِيحِ الزِّنَا لَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ
(قَالَ) وَإِذَا عَرَّضَ بِالزِّنَا فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ
بِزَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - يُحَدُّ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ -
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ
لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي مِثْلِ هَذَا، وَيَقُولُ فِي حَالِ
الْمُخَاصَمَةِ مَعَ الْغَيْرِ: مَقْصُودُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ نِسْبَةُ
صَاحِبِهِ إلَى الشَّيْنِ وَتَزْكِيَتُهُ لِنَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ
قَذْفًا لِلْغَيْرِ وَأَخَذْنَا بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ إنْ تُصُوِّرَ
مَعْنَى الْقَذْفِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ
وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ
(قَالَ) فَإِنْ قَالَ: قَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّك زَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ مَا نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا إنَّمَا حَكَى خَبَرَ مُخْبِرٍ،
وَالْخَبَرُ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ يَكُونُ كِذْبًا، فَالْمُخْبِرُ
يَكُونُ حَاكِيًا لِلْقَذْفِ عَنْ الْغَيْرِ لَا قَاذِفًا
وَإِنْ قَالَ: اذْهَبْ فَقُلْ لِفُلَانٍ إنَّكَ زَانٍ فَالْمُرْسَلُ لَا
يَكُون قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرُ الْغَيْرِ أَنْ يَقْذِفَهُ
وَبِالْأَمْرِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا، كَمَا أَنَّهُ بِالْأَمْرِ
بِالْقَتْلِ لَا يَكُونُ قَاتَلَا فَإِنْ ذَهَبَ الرَّسُولُ وَحَكَى
كَلَامَ الْمُرْسِلِ عَلَى وَجْهِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ لَا حَدَّ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَاكٍ كَلَامَ الْغَيْرِ، وَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ:
أَنْتَ زَانٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لَهُ بِالزِّنَا،
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَشْهَدَنِي رَجُلٌ عَلَى شَهَادَتِهِ بِأَنَّك
زَانٍ فَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ شَهَادَةَ الْغَيْرِ إيَّاهُ فَيَكُونُ
قَاذِفًا
(قَالَ) وَإِذَا قَالَ لِلْعَبْدِ: يَا زَانٍ، فَقَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ،
حُدَّ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ أَنْتَ مَعْنَاهُ بَلْ أَنْتَ
الزَّانِي، فَإِنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَهُوَ
غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ
مَا تَقَدَّمَ مُعَادًا فِيهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاذِفًا
لِصَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ بِقَذْفِ
الْعَبْدِ وَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِقَذْفِ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَا
حُرَّيْنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَدُّ لِصَاحِبِهِ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ: يَا زَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: صَدَقْتَ
لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى
الزِّنَا وَتَصْدِيقُهُ إيَّاهُ لَفْظٌ مُحْتَمَلً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِهِ فِي الزِّنَا وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ
الظَّاهِرِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ فِي الزِّنَا وَلَكِنْ
هَذَا الظَّاهِرُ لَا يَكْفِي لِإِيجَابِ الْحَدِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ
(9/120)
قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ،
فَحِينَئِذٍ قَدْ صَرَّحَ بِكَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ التَّصْدِيقُ فِي
نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَشْهَدُ أَنَّك زَانٍ وَقَالَ الْآخَرُ:
وَأَنَا أَشْهَدُ أَيْضًا لَا حَدَّ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ
أَشْهَدُ كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَنَا
أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا شَهِدْتَ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ
قَاذِفًا لَهُ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ زَنَى فَرْجُك فَعَلَيْهِ
الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلِأَنَّ
الزِّنَا يَكُونُ بِالْفَرْجِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ زَنَى يَدُك أَوْ رِجْلُك
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِيَةُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا
قَطَعَ كَلَامَهُ: وَأَنْتِ مُسْتَكْرَهَةٌ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُ
بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَلَهُ بِكَلَامِهِ فَقَالَ: زَنَيْت وَأَنْتِ
مُسْتَكْرَهَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُغَيِّرٌ حُكْمَ أَوَّلِ
الْكَلَامِ وَمِثْلُهُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا
كَالِاسْتِثْنَاءِ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ زَنَيْتَ أَنْتَ وَفُلَانٌ مَعَكَ
فَهُوَ قَاذِفٌ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ،
وَالْعَطْفُ لِلْإِشْرَاكِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: مَعَك، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ
حُرٌّ وَفُلَانٌ مَعَكَ عَتَقَا جَمِيعًا؟ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ أَنَّ
فُلَانًا مَعَك شَاهِدٌ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ أَضْمَرَ خَبَرًا آخَرَ لِلثَّانِي، وَمُوجِبُ الْعَطْفِ
الِاشْتِرَاكُ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إضْمَارِ
خَبَرٍ آخَرَ لِلثَّانِي فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ عَنْهُ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا وَلَدَ الزِّنَا أَوْ يَا ابْنَ
الزِّنَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ بِهَذَا
اللَّفْظِ، فَإِنَّ وَلَدَ الزِّنَا مَنْ تَكُونُ أُمُّهُ زَانِيَةً،
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَذْفَ الْمَيِّتَةِ يُوجِبُ الْحَدَّ
وَلِوَلَدِهَا أَنْ يُطَالِبَ بِحَدِّهِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إثْبَاتُ
إحْصَانِ الْأُمِّ وَمَوْتِهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ
فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا، وَإِذَا كَانَتْ حَيَّةً فَلَا خُصُومَةَ
لِلْوَلَدِ مَعَ قَاذِفِهَا
(قَالَ) وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: لَسْتَ لِأَبِيكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛
لِأَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ بِهَذَا، فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزِّنَا لَا
يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ، فَأَمَّا الْوَطْءُ إذَا لَمْ
يَكُنْ زِنًى يَكُونُ مُثْبِتًا لِلنَّسَبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِهَذَا
اللَّفْظِ قَذَفَ أُمَّهُ، فَإِذَا كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً فَعَلَيْهِ
الْحَدُّ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
لَا يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ
الْأُمُّ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةً بِشُبْهَةٍ وَلَدَتْ فِي
عِدَّةِ الْوَطْءِ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: لَا حَدَّ إلَّا فِي
قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلِأَنَّهَا إذَا
وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فَوَلَدُهَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ
إنْسَانٍ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ
الْأَبِ إذَا كَانَتْ هِيَ زَانِيَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِهَذَا
اللَّفْظِ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ: إنَّكَ ابْنُ فُلَانٍ لِغَيْرِ أَبِيهِ فَعَلَيْهِ
الْحَدُّ إذَا كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي حَالَةِ الْمُسَابَّةِ؛
لِأَنَّ مَقْصُودَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ مِنْ أَبِيهِ وَنِسْبَةُ أُمِّهِ إلَى
الزِّنَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ بَيْنَ أُمِّهِ وَبَيْنَ فُلَانٍ الَّذِي
نَسَبَهُ
(9/121)
إلَيْهِ سَبَبَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ فِي
حَالَةِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ مِنْ
هَذَا اللَّفْظِ فِي حَالَةِ الرِّضَا أَنَّ أَخْلَاقَك تُشْبِهُ أَخْلَاقَ
فُلَانٍ فَكَأَنَّك ابْنُهُ فَهَذَا لَا يَكُونُ قَذْفًا
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَا يُحَدُّ؛
لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ الْأَدْنَى
حَقِيقَةً وَنِسْبَتُهُ إلَى الْجَدِّ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ نَفْيُ اسْمِ الْأُبُوَّةِ عَنْ جَدِّهِ فَيُقَالُ:
إنَّهُ جَدُّهُ وَلَيْسَ بِأَبِيهِ، فَإِنْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ فَلَا
حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ، كَمَا يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ حَقِيقَةً
يُنْسَبُ إلَى جَدِّهِ مَجَازًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: بَنُو آدَمَ
وَآدَمُ جَدُّهُمْ الْأَعْلَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ وَكَذَلِكَ لَوْ
نَسَبَهُ إلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ، فَإِنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ
الْأَبِ قَالَ تَعَالَى {قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَك وَإِلَهَ آبَائِك
إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] ، وَهُوَ كَانَ
عَمَّا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّجُلُ صِنْوُ
أَبِيهِ» ، وَكَذَلِكَ الْخَالَةُ سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمًّا فَيَكُونُ الْخَالُ أَبًا أَيْضًا،
قَالَ الْقَائِلُ:
وَخَالُ بَنِي الْعَبَّاسِ وَالْخَالُ كَالْأَبِ
وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَهُ إلَى زَوْجِ أُمِّهِ قَالَ تَعَالَى
{وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:
23] وَفِي الْعَادَةِ زَوْجُ الْأُمِّ يَقُولُ لِوَلَدِ امْرَأَتِهِ: هُوَ
وَلَدِي بِاعْتِبَارِ أَنِّي أُرَبِّيهِ وَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ ابْنًا
لَهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا، وَلَكِنَّهُ مَتَى كَانَ
صَادِقًا فِي كَلَامِهِ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهُ
وَإِنْ قَالَ لَسْت لِأَبِيك وَأُمُّهُ حُرَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ وَقَدْ
مَاتَتْ، فَإِنَّهُ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ فَعَلَيْهِ
الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لِكَافِرٍ قَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ
مُسْلِمَيْنِ أَوْ لِعَبْدٍ، وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْذُوفَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأُمُّ، وَالْمُعْتَبَرُ
إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ مَنْ يُطَالِبُ بِالْحَدِّ فَإِنْ
قَالَ الْمَوْلَى ذَلِكَ لِعَبْدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ
بِحَدِّهِ، وَإِنْ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا عَلَيْهِ الْحَدُّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا
يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ
[قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهِيَ مَيِّتَةٌ]
وَعَلَى هَذَا إذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهِيَ
مَيِّتَةٌ فَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ
الِابْنَ يُضَافُ إلَى أَبِيهِ كَالْعَبْدِ إلَى سَيِّدِهِ، أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، وَلَا يُحَدُّ فِي قَذْفِهِ فِي
نَفْسِهِ؟ فَكَذَلِكَ فِي قَذْفِهِ فِي أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ
سَبَبَ إيجَادِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مُسْتَوْجَبًا
عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: لَسْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ لِقَبِيلَتِهِ
لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ، فَإِنَّ بَنِي فُلَانٍ حَقِيقَةُ
أَوْلَادِهِ لِصُلْبِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
هَذَا قَذْفًا، فَإِنَّمَا يَكُونُ قَذْفًا لِامْرَأَةِ مَنْ تُنْسَبُ
إلَيْهِ الْقَبِيلَةُ وَهِيَ كَانَتْ كَافِرَةً غَيْرَ مُحْصَنَةٍ، وَهُوَ
نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لَهُ: جَدُّك زَانٍ أَوْ جَدَّتُك زَانِيَةٌ،
فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا بِهَذَا؛ لِأَنَّ فِي أَجْدَادِهِ
وَجَدَّاتِهِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ، فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مُسْلِمًا لَا
يَكُونُ قَاذِفَ مُحْصَنٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ ابْنِ
الزَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ الْأَدْنَى
وَهِيَ كَانَتْ مُحْصَنَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ مُزَيْقِيَا أَوْ يَا ابْنَ مَاءِ
السَّمَاءِ
(9/122)
أَوْ يَا ابْنَ جَلَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ
فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ النَّاسِ وَلَيْسَ
عَلَى سَبِيلِ الْقَذْفِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ
إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ
يُشْبِهُ هَؤُلَاءِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ أَوْ الْجُودِ أَوْ الْجَلَادَةِ،
فَقَدْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِذَلِكَ فِيهِمْ فَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ
قَاذِفًا مُلْتَزِمًا لِلْحَدِّ
وَإِذَا نَسَبَ رَجُلٌ رَجُلًا إلَى غَيْرِ أَبِيهِ فِي غَيْرِ غَضَبٍ
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْغَضَبِ وَالسَّبِّ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ
فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ مُحْتَمِلٍ
وُجُوهًا إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَجِبُ
تَحْصِيلُهُ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فَفِي حَالَةِ الرِّضَا
مَقْصُودُهُ الْمَدْحُ بِنِسْبَتِهِ إلَى جَوَادٍ أَوْ مُبَارِزٍ أَوْ
مُتَبَحِّرٍ فِي الْعِلْمِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَأْخُذُ الْحَسَنُ وَيَقُولُ يَا
شَبِيهَا بَعْلَهُ، وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ يُعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَهُ
إلْحَاقُ الشَّيْنِ بِهِ فِي ذِكْرِ نِسْبَةِ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا،
فَإِذَا كَانَ يُعْتَبَرُ الْحَالُ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ
فِي لَفْظِ الْقَذْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا قَالَ: يَا
يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَأَرَادَ الْقِرَاءَةَ لَمْ يَضُرَّهُ
وَإِنْ أَرَادَ خِطَابَ إنْسَانٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ:
لَسْت بِعَرَبِيٍّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى:
إذَا قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، أَوْ قَالَ: لَسْت مِنْ بَنِي
فُلَانٍ لِقَبِيلَتِهِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛
لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يُرَادُ
بِهَذَا اللَّفْظِ الْقَذْفُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ
لِلْآخَرِ أَنْتَ رُسْتَاقِيٌّ أَوْ خُرَاسَانِيٌّ أَوْ كُوفِيٌّ، وَلَا
يُرِيدُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ الْقَذْفَ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ
قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا نَبَطِيُّ فَقَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ
[قَذَفَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ]
(قَالَ) وَإِذَا قَذَفَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ
مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ، وَلَا يُعَاقَبُ بِجِنَايَتِهِ عَلَى
نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُعَاقَبُ بِالتَّنَاوُلِ مِنْ
عِرْضِهِ
(قَالَ) وَإِنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مُحْصَنٌ، وَلَوْ قَتَلَهُ
الْقَاذِفُ قُتِلَ بِهِ فَيُحَدُّ بِإِلْحَاقِ الشَّيْنِ بِقَذْفِهِ
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِابْنِهِ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَأُمُّهُ
مَيِّتَةٌ وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ فَجَاءَ يَطْلُبُ الْحَدَّ يُضْرَبُ
الْقَاذِفُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ الْأُمَّ وَهِيَ مُحْصَنَةٌ
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي الْحَدِّ
بِنِسْبَتِهِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُ الْقَاذِفِ
وَالِابْنُ لَا يُخَاصِمُ أَبَاهُ فِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ
فَيَكُونُ كَالْمَقْذُوفِ يَبْقَى الْآخَرُ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ
بِالْحَدِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ الْمَقْذُوفِ ابْنَانِ
فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْحَدِّ؛
لِأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعْتَبَرُ
الْخُصُومَةُ مِمَّنْ يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَصْلٌ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ
فَتَصْدِيقُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ عَامِلًا فِي
(9/123)
حَقِّ الْآخَرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا
إذَا قُتِلَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا ابْنَانِ فَعَفَى أَحَدُهُمَا أَوْ كَانَ
أَحَدُ الِابْنَيْنِ لَهَا مِنْ الْقَاتِلِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ
اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ
مِيرَاثًا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا، إمَّا
بِإِسْقَاطِهِ أَوْ لِمَعْنَى الْأُبُوَّةِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْآخَرِ
الِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ، فَأَمَّا حَدُّ
الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا لِلِابْنَيْنِ
بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْخُصُومَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحَقُّ
الْخُصُومَةِ ثَابِتٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ تَوْضِيحُهُ
أَنَّ الْمَقْذُوفَ هُنَا مُنْكِرٌ وُجُوبَ الْحَدِّ لَا مُسْقِطٌ لَهُ،
فَإِذَا أَثْبَتَ الْآخَرُ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْحُجَّةِ اسْتَوْفَاهُ
الْإِمَامُ بِخِلَافِ الْعَفْوِ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْمَقْذُوفِ إلَّا ابْنٌ وَاحِدٌ فَصَدَّقَهُ فِي الْقَذْفِ ثُمَّ
أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْحَدِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى فَلَا
يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا بِخُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ
وَلَوْ كَانَ لِلْمَقْذُوفِ ابْنَانِ أَحَدُهُمَا عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ
كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْحَدِّ حَاضِرًا كَانَ الْآخَرُ أَوْ
غَائِبًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خُصُومَتَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ
مَنْسُوبٌ إلَيْهَا وَحَالُ الِابْنَيْنِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ
(قَالَ) رَجُلٌ قَذَفَ رَجُلًا قُدَّامَ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ
الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي
يَقَعُ لَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ فَوْقَ الْعِلْمِ الَّذِي يَثْبُتُ
لَهُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ مَعْنَى حَقِّ
الْعَبْدِ فَهُوَ كَالْقِصَاصِ وَسَائِرُ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَالْقَاضِي
يَقْضِي فِي ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، وَإِنْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ
ثُمَّ اسْتَقْضَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ حَتَّى
يَشْهَدَ الشَّاهِدُ عِنْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ
بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَا يَخْتَلِفُ بَعْدَ مَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ
وَقَبْلَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ:
حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ اسْتَفَادَ عِلْمَ الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ
ذَلِكَ بِتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ، وَهُوَ قَاضٍ؛
لِأَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ
تَوْضِيحُهُ أَنَّ مُعَايَنَةَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ
الشُّهُودِ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَهُ، وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ
عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْضِيَ ثُمَّ اسْتَقْضَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يَقْضِيَ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَايَنَ السَّبَبَ فَأَمَّا فِي
الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا
وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنْ عَايَنَ السَّبَبَ فِي حَالَةِ
الْقَضَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي
الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ أَقْوَى
مِنْ عِلْمِهِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ
لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَرَأَيْت لَوْ لَقِيتَ رَجُلًا عَلَى الزِّنَا مَا كُنْت أَصْنَعُ بِهِ
فَقَالَ شَهَادَتُك عَلَيْهِ كَشَهَادَةِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
فَقَالَ صَدَقْت وَرُوِيَ
(9/124)
نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ
الْإِمَامَ نَائِبٌ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ الْخَصْمَ، وَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْخَصْمِ
لَا يَكْفِي لِلْقَضَاءِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الِاسْتِيفَاءِ
تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ جَحَدَ لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالْمُقِرُّ بِهِ فِي حَقِّ
الْمُقِرِّ كَالْمُعَايِنِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَرَوَى
ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَجَعَ
عَنْ هَذَا فَقَالَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ
الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَوْفِي لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِذَا
اكْتَفَى بِعِلْمِ نَفْسِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ فَعَلَيْهِ أَنْ
يَتَحَرَّزَ عَنْ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ
(قَالَ) رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً شِرَاءً فَاسِدًا فَوَطِئَهَا ثُمَّ
قَذَفَهُ إنْسَانٌ فَعَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا
بِالْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ السَّبَبِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ مُبِيحٌ
لِلْوَطْءِ وَالْحُرْمَةُ بَعْدَهُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ
وَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ بِخِلَافِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ
الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ،
فَإِنَّ مُوجِبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ
بِالسَّبَبِ الْفَاسِدِ فَيَكُونُ وَطْؤُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلِ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدٌّ
وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ
فَخَاصَمَاهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ إذَا
كَانَا مَيِّتَيْنِ فَخَاصَمَهُ الِابْنُ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لَسْت لِفُلَانٍ، وَلَا لِفُلَانَةَ لَا حَدَّ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ وِلَادَةِ الْأُمِّ إيَّاهُ، فَإِنَّ ثُبُوتَ
النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ فَنَفْيُ وِلَادَتِهَا لَا يَكُونُ
قَذْفًا لَهَا إنَّمَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهَا
وَلَدَتْهُ مِنْ زِنًى، فَإِنَّمَا يَنْدَرِجُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَسْت
لِأَبِيك، وَلَا لِأُمِّك لَا يَنْدَرِجُ قَذْفَ الْأُمِّ يُوَضِّحُهُ
أَنَّ وِلَادَتَهَا إيَّاهُ مُعَايِنٌ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِكَذِبِ
الْقَاذِفِ فِي نَفْسِ مَا هُوَ مُعَايَنٌ، وَلَا يَلْحَقُ الْوَلَدَ
شَيْنٌ بِهَذَا الْقَذْفِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَسْت لِأَبِيك، فَإِنَّهُ
يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بِنَفْيِ نَسَبِهِ عَنْ أَبِيهِ
وَإِذَا قَالَ: لَمْ يَلِدْك فُلَانٌ لِأَبِيهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، وَإِنَّمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَا
أَبُوهُ
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ بِبَعِيرٍ أَوْ بِثَوْرٍ أَوْ
بِحِمَارٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى التَّمْكِينِ مِنْ
بَهِيمَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا
أَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى فِعْلٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى فَاعِلِهِ لَا
يَكُونُ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ
وَلَوْ قَالَ: زَنَيْت بِنَاقَةٍ أَوْ بِبَقَرَةٍ أَوْ بِثَوْبٍ أَوْ
بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ زَنَيْت
بِدِرْهَمٍ بَدَلٌ لَك، وَهَذَا أَفْحَشُ مَا يَكُونُ مِنْ الزِّنَا أَنْ
تَكْتَسِبَ الْمَرْأَةُ بِفَرْجِهَا (فَإِنْ قِيلَ) بَلْ مَعْنَى كَلَامِهِ
زَنَيْت بِدِرْهَمٍ اُسْتُؤْجِرَتْ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَدَّ
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا؛
لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ.
(قُلْنَا) هَذَا مُحْتَمَلٌ وَالْبَدَلُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ فَتَقَابُلُ
الْمُحْتَمَلَانِ يُبْقِي قَوْلَهُ زَنَيْت، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى
هَذَا حَتَّى لَوْ قَالَ اُسْتُؤْجِرَتْ عَلَى الزِّنَا بِدِرْهَمٍ فَلَا
حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى -
(9/125)
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي
آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُحَقِّقُ تَمْكِينَهَا مِنْهُ جَعَلَ كَلَامَهُ
بِمَعْنَى التَّمْكِينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ احْتِمَالٌ ذَلِكَ
جَعَلَ بِمَعْنَى الْبَدَلِ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْتَ بِبَعِيرٍ أَوْ بِنَاقَةٍ، أَوْ
مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى إتْيَانِ
الْبَهِيمَةِ، فَإِنْ قَالَ: بِأَمَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ
فَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْأَقْطَعِ أَوْ يَا ابْنَ الْمُقْعَدِ
أَوْ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ
حَدٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِمِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ نَفْيُهُ عَنْ
أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ وَصْفُ الْأَبِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ
كَمَنْ يَقُولُ لِبَصِيرٍ يَا أَعْمَى أَوْ يُشَبِّهُ بِهِ فِي
الْحِرْفَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ يَا ابْنَ
الْأَصْفَرِ أَوْ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَوْ قَالَ يَا ابْنَ السِّنْدِيِّ أَوْ يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ
لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ بِهَذَا فَالْمَقْصُودُ تَحْقِيرُهُ لَا
قَذْفُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ
وَلَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ يَا عَبْدُ أَوْ يَا مَوْلَى لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ
بِقَاذِفٍ لَهُ بِقَوْلِهِ يَا مَوْلَى قَالَ تَعَالَى {وَإِنِّي خِفْت
الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] وَالْمُرَادُ الْوَرَثَةُ وَبَنُو
الْأَعْمَامِ
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَعَرَبِيٍّ: يَا دِهْقَانُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ،
وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ فَلَفْظُ الدِّهْقَانِ فِينَا
لِلْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَذْفِ،
وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ،
وَلَا يُسَمُّونَ بِهِ إلَّا الْعُلُوجَ فَلِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ
ذَكَرَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ، فَإِنَّ الدِّهْقَانَ اسْمٌ
لِمَنْ لَهُ ضِيَاعٌ وَأَمْلَاكٌ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ لِلْعَرَبِ
وَالْعَجَمِ
(قَالَ) وَلَوْ قَالَ: يَا بُنَيَّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا
اللَّفْظَ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ اللُّطْفِ دُونَ الْقَذْفِ فَهُوَ
كَقَوْلِهِ يَا أَخِي
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ عَبْدِي أَوْ مَوْلَايَ فَهَذِهِ
دَعْوَى الرِّقِّ وَالْوَلَاءُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ مِنْ الْقَذْفِ فِي
شَيْءٍ
وَإِنْ قَالَ: يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ أَوْ يَا مَجُوسِيُّ أَوْ
يَا ابْنَ الْيَهُودِيِّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ
بِالْكُفْرِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَشِينُ
الْمَقْذُوفَ إذَا كَانَ إسْلَامُهُ مَعْلُومًا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ؛
لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمُسْلِمِ إلَى الْكُفْرِ حَرَامٌ وَبِارْتِكَابِ
الْمُحَرَّمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ: يَا زَانٍ وَأَدْخَلَ فِيهِ الْهَمْزَةَ وَقَالَ:
عَنِيت أَنَّهُ يَصْعَدُ عَلَى الْجَبَلِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ فَعَلَيْهِ
الْحَدُّ وَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ لُغَةً
بِالْهَمْزَةِ فَذِكْرُ الْهَمْزَةِ يُقَرِّرُهُ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ
أَنْ يَكُونَ قَذْفًا
(قَالَ) وَإِنْ قَالَ: زَنَأْت فِي الْجَبَلِ وَقَالَ عَنِيت الصُّعُودَ
فِيهِ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ
فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أَهْلُ اللُّغَةِ
يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ مَهْمُوزًا عِنْدَ ذِكْرِ الْجَبَلِ
وَيُرِيدُونَ بِهِ الصُّعُودَ قَالَ الْقَائِلُ:
وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنْئًا فِي الْجَبَلِ
وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ مُشْتَرَكَةً وَالْحَدُّ
لَا يَجِبُ بِمِثْلِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ
عَلَى مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ وَالْعَامَّةُ
(9/126)
لَا يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ
إلَّا الزِّنَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَلْحَقُ الْمَقْذُوفَ الشَّيْنُ
فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْهُ، أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْجَبَلَ كَانَ قَاذِفًا مُلْتَزِمًا
لِلْحَدِّ بِأَنْ قَالَ زَنَأْت فَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِ الْجَبَلِ،
كَمَا لَوْ قَالَ: زَنَيْت لَا يَفْصِل بَيْنَ قَوْلِهِ زَنَيْت فِي
الْجَبَلِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ بِدُونِ ذِكْرِ الْجَبَلِ
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَنَأْت عَلَى الْجَبَلِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ،
فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: زَنَأْت فِي الْجَبَلِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أَهْلُ اللُّغَةِ إذَا اسْتَعْمَلُوا
الْكَلِمَةَ لِمَعْنَى الصُّعُودِ يَصِلُونَ بِهِ حَرْفَ فِي لَا حَرْفَ
عَلَى، وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا اللَّفْظِ لُغَوِيًّا وَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هُوَ يُصَدَّقُ فِي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ
الصُّعُودَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَبَيْنَ
غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي
عَادَةِ الْعَوَامّ مِنْ النَّاسِ، وَهُوَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا
(قَالَ) وَإِذَا زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى
الْقَاذِفِ أَوْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ، فَقَدْ سَقَطَ
الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ فَلَا
بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَدْ زَالَ إحْصَانُهُ
بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ، وَإِنْ
أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
سَقَطَ الْحَدُّ لِزَوَالِ إحْصَانِهِ بِالرِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ صَارَ
مَعْتُوهًا ذَاهِبَ الْعَقْلِ أَوْ أَخْرَسَ وَبَقِيَ كَذَلِكَ
وَبِالْخَرَسِ لَا يَزُولُ إحْصَانُهُ وَلَكِنْ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةٌ مِنْ
حَيْثُ إنَّهُ إذَا كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا يُصَدِّقُهُ، وَلِهَذَا شُرِطَ
بَقَاءُ الْخَرَسِ حَتَّى إذَا زَالَ الْخَرَسُ وَطَالَبَ بِالْحَدِّ
فَلَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ يَبْرَأُ
[قَذَفَ وَلَدَ مُلَاعَنَةٍ أَوْ وَلَدَ زِنًى فِي نَفْسِهِ]
(قَالَ) وَمَنْ قَذَفَ وَلَدَ مُلَاعَنَةٍ أَوْ وَلَدَ زِنًى فِي نَفْسِهِ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مُحْصَنٌ عَفِيفٌ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ
لِأَبَوَيْهِ وَفِعْلُهُمَا لَا يُسْقِطُ إحْصَانُهُ، وَإِنْ قَذَفَ
أُمَّهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، أَمَّا وَلَدُ الزِّنَا فَلِأَنَّ قَاذِفَ
أُمِّهِ صَادِقٌ؛ لِأَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ،
فَإِنَّ أُمَّهُ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهَا
وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَالِدٌ وَمِثْلُهُ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ
لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ
(قَالَ) وَإِنْ اخْتَلَفَا شَاهِدَا الْقَذْفِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي
قُذِفَ بِهَا مِنْ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالنَّبَطِيَّةِ
فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُعْتَبَرٌ فِي الْقَذْفِ،
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِصَرِيحِ الزِّنَا،
وَعِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي اللُّغَةِ يَتَمَكَّنُ الِاخْتِلَافُ فِي
الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَا
ابْنَ الزَّانِيَةِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَسْت لِأَبِيك، فَقَدْ
اخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ الْمَشْهُودِ بِهِ
وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيٌّ أُمَّهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ
أَسْلَمَا فَقَذَفَهُ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ
عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الدُّخُولُ بِحُكْمِ نِكَاحٍ يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ
بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ
بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَعَلَى قَاذِفِهِمْ
الْحَدُّ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ
(9/127)
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
لِأَنْكِحَتِهِمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا وَعِنْدَهُمَا
كُلُّ نِكَاحٍ لَا يُتْرَكَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ لَهُ
حُكْمُ الصِّحَّةِ وَلَكِنْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ
لِاعْتِقَادِهِمْ مَا لَمْ يُسْلِمُوا وَاعْتِقَادُهُمْ لَا يَكُونُ
حُجَّةً عَلَى الْقَاذِفِ
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى عَبْدٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ،
وَأَنَّهُ قَدْ زَنَى، وَهُوَ مُحْصَنٌ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ
شَهَادَةِ الزِّنَا وَالْعِتْقِ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الْقِيمَةِ
لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمْ
أَتْلَفُوا مَالِيَّتَهُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ
وَبِالزِّنَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَيُضْرَبُونَ الْحَدَّ لِإِقْرَارِهِمْ
أَنَّهُ كَانَ عَفِيفًا وَبُطْلَانُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِمْ
عِنْدَ رُجُوعِهِمْ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى الْعِتْقِ
فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ شَهِدَا مَعَ آخَرَيْنِ عَلَى الزِّنَا عَلَيْهِ
فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدَا الْعِتْقِ عَنْ الْعِتْقِ، وَلَمْ
يَرْجِعَا عَنْ الزِّنَا وَرَجَعَ الْآخَرَانِ عَنْ الزِّنَا فَعَلَى
شَاهِدَيْ الْعِتْقِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ تَلَفَ
الْمَالِيَّةِ كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَعَلَى
الْآخَرَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى
الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا مَنْ يَسْتَحِقُّ بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ النَّفْسِ،
فَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ
الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ، وَإِنْ شَهِدَ
الرَّجُلَانِ عَلَى عِتْقِهِ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ مَعَ
شَاهِدَيْ الْعِتْقِ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرَجَمَهُ ثُمَّ رَجَعَا
عَنْ الْعِتْقِ جَمِيعًا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى، وَلَمْ يَضْمَنَا
مِنْ دِيَةِ الْمَرْجُومِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى
الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ.
(فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَفِي زَعْمِهِمَا أَنَّهُ
عَبْدٌ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ عَلَى الزِّنَا.
(قُلْنَا) وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الزِّنَا فَرُجِمَ ثُمَّ ظَهَرَ
أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ عَبْدٌ لَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ، وَلَا
يُمْكِنُ إيجَابُ ضَمَانِ النَّفْسِ عَلَيْهِمَا مِنْ أَجْلِ
شَهَادَتِهِمَا بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا رُجِمَ لِعِتْقِهِ، وَإِنَّمَا
رُجِمَ لِزِنَاهُ، وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ
عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْمُزَكِّي لِلشُّهُودِ إذَا رَجَعَ
ضَمِنَ وَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا بِحُرِّيَّةِ الشَّاهِدِ صَارَا
مُزَكِّيَيْنِ لَهُ، وَقَدْ رَجَعَا عَنْ التَّزْكِيَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَجِبَ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ، وَلَكِنْ الْأَصَحُّ أَنْ لَا يَجِبَ؛
لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الزِّنَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُزَكِّيًا
لِلشَّاهِدِ مَعَهُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ شَهَادَتِهِمَا بِالْعِتْقِ
تَزْكِيَةً لِلشَّاهِدِ مَعَهُمَا عَلَى الزِّنَا، وَلِأَنَّ قَضَاءَ
الْقَاضِي بِالْعِتْقِ لَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِمَا فَتَبْقَى الْحُجَّةُ
عَلَى الزِّنَا تَامَّةٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنَا مِنْ دِيَةِ
الْمَرْجُومِ شَيْئًا، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا
(قَالَ) وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا زَنَى بِصَبِيَّةٍ مُطَاوِعَةٍ لَا حَدَّ
عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ فِيهِمَا وَعَلَى
الصَّبِيِّ الْمَهْرُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْفِعْلِ
وَالصَّبِيُّ أُسْوَةُ الْبَالِغِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِضَمَانِ الْفِعْلِ
بِحَقِّ الْعِبَادِ إنَّمَا لَا يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْقَوْلِ، وَلِهَذَا
لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
(قَالَ) وَلَوْ زَنَى الصَّبِيُّ بِامْرَأَةٍ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا
وَشَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ إذَا
اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَعَتْهُ
(9/128)
إلَى نَفْسِهَا فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا وَرِضَاهَا مُعْتَبَرٌ لِكَوْنِهَا
بَالِغَةً، وَلِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَعْمِلَةً لِلصَّبِيِّ وَمَنْ
اسْتَعْمَلَ صَبِيًّا فِي شَيْءٍ لَحِقَهُ فِيهِ ضَمَانٌ ثَبَتَ
لِوَلِيِّهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ فَلَا فَائِدَةَ فِي
إيجَابِ الْمَهْرِ لَهَا إذَا طَاوَعَتْهُ وَالْمَجْنُونُ فِي ذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً
دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ
أَهْلِ الرِّضَى بِسُقُوطِ حَقِّهَا، وَلِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالْأَمْرِ
غَيْرُ مُثَبِّتٍ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا لِإِهْدَارِ قَوْلِهَا
(قَالَ) رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ فَلَا حَدَّ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَفْعَلَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي
الْعِلْمِ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْتَ أَعْلَمُ بِالزِّنَا مِنْ
فُلَانٍ أَوْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنْ فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ
لَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ وَعَنْ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ
الزَّانِي أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ
بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِفِعْلِ
الزِّنَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَزْنَى النَّاسِ؛ لِأَنَّ فِي النَّاسِ
زَانٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَزْنَى الزُّنَاةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ
أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ
(قَالَ) رَجُلٌ زَنَى بِخَرْسَاءَ، أَوْ أَخْرَسُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا
حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَوْ كَانَ نَاطِقًا رُبَّمَا
يَدَّعِي شُبْهَةً يُسْقِطُ بِهِ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ
وَالْخَرَسُ يَمْنَعُهُ مِنْ إظْهَارِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَجُوزُ
إقَامَةُ الْحَدِّ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى
صَحِيحٌ بِمَجْنُونَةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ
لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَدَّعِيَ الشُّبْهَةَ وَامْتِنَاعُ وُجُوبِ
الْحَدِّ لِمَعْنًى فِيهَا، وَهُوَ الْجُنُونُ لَا لِشُبْهَةٍ فِي
الْفِعْلِ فَهُوَ نَظِيرُ الزِّنَا بِمُسْتَكْرَهَةٍ
(قَالَ) وَلَوْ سَرَقَ رَجُلَانِ سَرِقَةً وَاحِدَةً وَأَحَدُهُمَا
أَخْرَسُ أَوْ مَجْنُونٌ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ
الْفِعْلَ هُنَا وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ عَلَى
أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا عَلَى الْآخَرِ فَأَمَّا فِي الزِّنَا
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّانِيَيْنِ مُبَاشِرٌ لِفِعْلٍ آخَرَ إذْ لَا
مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ الْإِيلَاجُ
وَفِعْلَهَا التَّمْكِينُ فَجُنُونُهَا لَا يَعْدَمُ التَّمْكِينَ فَلَا
يَتَمَكَّنُ فِيهِ نُقْصَانٌ فَيَكُونُ فِعْلُ الرَّجُلِ فِي الْإِيلَاجِ
مَخْصُوصًا بِكَمَالِ الزِّنَا، فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ
(قَالَ) وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَآخَرَانِ
عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ
عَلَى الْإِقْرَارِ لَغْوٌ فِي إيجَابِ حُكْمِ الْحَدِّ، فَإِنَّ
الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ جَاحِدٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ جُحُودِهِ الرُّجُوعُ عَنْ
إقْرَارِهِ، وَلِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَشَهِدَ
اثْنَانِ بِالْفِعْلِ وَالْآخَرَانِ بِالْقَوْلِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛
لِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْإِقْرَارِ مَا نَسَبَاهُ إلَى
الزِّنَا وَالْآخَرَانِ، وَإِنْ نَسَبَاهُ إلَى الزِّنَا فَشَهَادَةُ
الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْإِقْرَارِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُمَا؛
لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى تَصْدِيقِ الْمَقْذُوفِ وَالتَّصْدِيقُ
يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ
(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا وَوَاحِدٌ بِالْإِقْرَارِ بِهِ
فَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوهُ بِالزِّنَا وَلَيْسَ
عَلَى التَّصْدِيقِ إلَّا شَاهِدٌ
(9/129)
وَاحِدٌ وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ لَا
تُثْبِتُ التَّصْدِيقَ
(قَالَ) وَإِذَا ضُرِبَ الْعَبْدُ حَدَّ الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا
ثُمَّ أُعْتِقَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ أَبَدًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا
أَنَّ الْأَرْبَعِينَ الْحَدُّ فِي حَقِّهِ وَإِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ
جَرْحٌ فِي عَدَالَتِهِ وَحُكْمٌ بِكَذِبِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ شَهَادَتُهُ
عَلَى التَّأْبِيدِ، كَمَا فِي حَقِّ الْحُرِّ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ
مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِّ
فَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ
وَبِالْعِتْقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ الْآنَ فَيَصِيرُ مَرْدُودَ
الشَّهَادَةِ تَتْمِيمًا لِحَدِّهِ
وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ
تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَمْ يَزِدْهُ إلَّا شَرًّا،
وَإِذَا صَارَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَبِالرِّدَّةِ
لَا يَصِيرُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ
فَإِنْ ضُرِبَ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَتْ
شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ وَلَكِنْ يَزُولُ
ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِ وَيَسْتَفِيدُ بِالْإِسْلَامِ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ
مَوْجُودَةً حِينَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذِهِ الْعَدَالَةُ لَمْ
تَصِرْ مَجْرُوحَةً، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ
الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ
عَلَيْهِ وَيَتِمُّ بِهِ حَدُّهُ، ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ
شَهَادَةً حَادِثَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ
عَلَيْهِ، فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ
(قَالَ) أَرْبَعَةٌ كُفَّارٌ شَهِدُوا عَلَى كَافِرٍ أَنَّهُ زَنَى
بِامْرَأَتَيْنِ كَافِرَتَيْنِ فَلَمَّا قُضِيَ بِالْحَدِّ عَلَيْهِمْ
أَسْلَمَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَتَانِ بَطَلَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا؛
لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ
فَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا
يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ إحْدَى
الْمَرْأَتَيْنِ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ وَبَقِيَ الْحَدُّ عَلَى
الْأُخْرَى لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ فِي حَقِّهَا، وَكَذَلِكَ عَلَى
الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الزِّنَا بِاَلَّتِي هِيَ بَاقِيَةٌ
عَلَى الْكُفْرِ بَاقٍ وَذَلِكَ كَافٍ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدُوا عَلَى كَافِرَيْنِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ
وَاحِدَةٍ فَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهَا وَعَنْ
الرَّجُلَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً عِنْدَ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ
أَسْلَمَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُ خَاصَّةً وَيُقَامُ
الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ الْآخَرِ وَالْمَرْأَةِ لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ
الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ فِي زِنَاهُ بِهَا
(قَالَ) وَإِذَا جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً عَمْدًا فِيهَا الْقِصَاصُ
فَوَطِئَهَا الْوَلِيُّ، وَلَمْ يَدَّعِ شُبْهَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ
الْحَدُّ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ
إنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ حَقَّ التَّمَلُّكِ إنْ شَاءَ، وَهَذَا قَوْلٌ
مُعْتَبَرٌ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَيْنَ أَنْ
يُتْلِفَ مَالِيَّتَهُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْلَفَ
بِتَمْلِيكِ الْوَلِيِّ أَيَّاهَا عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ
لِلْوَلِيِّ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ أَوْ تَمَلَّكَهَا فَلَهُ أَنْ
يَخْتَارَ أَيَّ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ
التَّمَلُّكِ فِيهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَصِيرُ ذَلِكَ
شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ إتْلَافُ
جُزْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ
مِنْ الْعَيْنِ، فَإِذَا صَارَ
(9/130)
إتْلَافُ الْكُلِّ حَقًّا لَهُ شَرْعًا
يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إتْلَافِهِ جُزْءًا مِنْهَا وَالْحَدُّ
يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ لِسَيِّدِهَا؛
لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الْحَدِّ أَوْ
عُقْرٍ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَيَكُونُ
لِلسَّيِّدِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ
فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَالِ، وَالْعُقْرُ
وَالْكَسْبُ مَالٌ فَيَكُونُ لِمَوْلَاهَا بِمِلْكِهِ رَقَبَتِهَا، وَإِنْ
كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَوَطِئَهَا الْوَلِيُّ فَفِي الْقِيَاسِ
عَلَيْهِ الْحَدُّ وَبِهِ يَأْخُذُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ اخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ أَوْ
الْفِدَاءَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ اخْتَارَ
الْمَوْلَى الْفِدَاءَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ
فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ بِالْجِنَايَةِ الْخَطَأِ
لَمْ يَثْبُتْ لِلْوَلِيِّ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِيهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ
مُوجَبَ جِنَايَةِ الْخَطَأِ يَكُونُ عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْ
الْجَانِي، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْحُرِّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ عَلَى
الْعَاقِلَةِ، وَفِي الْمَمْلُوكِ مُوجِبَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى؛
لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ؟ وَلِهَذَا خُيِّرَ بَيْنَ الدَّفْعِ
وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ، فَقَدْ وَصَلَ إلَى وَلِيِّ
الْجِنَايَةِ حَقُّهُ وَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى
كَمَا كَانَتْ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَهَا، وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا
فَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مُوجِبَ
الْجِنَايَةِ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ
اخْتِيَارِ الدَّفْعِ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الشُّغْلُ إنَّمَا لَحِقَنِي
بِجِنَايَتِهَا عَلَى أَنْ أَدْفَعَهَا لِأُخَلِّصَ نَفْسِي مِنْ هَذَا
الشُّغْلِ فَكَانَ هَذَا مِلْكًا حَادِثًا لِلْوَلِيِّ فِيهَا بَعْدَ
تَقَرُّرِ فِعْلِ الزِّنَا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْقُطُ
الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي
رَقَبَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْوِيلِ
الْحَقِّ عَنْ الرَّقَبَةِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا
لَوْ هَلَكَتْ يَسْقُطُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ
لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي مَحَلِّهِ
بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى الدَّفْعَ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا بِسَبَبِ
تِلْكَ الْجِنَايَةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا وَطِئَهَا وَلَهُ فِيهَا سَبَبُ
مِلْكٍ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّ
الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَارَ
الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَلَا حَدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ هَذَا
ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِيهَا سَبَبُ مِلْكٍ لَمْ يَلْزَمْهُ
الْحَدُّ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ، كَمَا فِي
الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَلَا حَدَّ عَلَى
الْمُشْتَرِي، وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فِيهَا وَحَيْثُ وَجَبَ الْحَدُّ
هُنَا عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا
سَبَبُ مِلْكٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصْلًا، وَهُوَ أَنَّهُ
زَنَى بِجَارِيَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ
فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَإِنْ كَانَ
جَوَابُ هَذَا الْفَصْلِ هَكَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكَلُّفِ الَّذِي
قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ
الْحَادِثَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ
(9/131)
قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ، وَقَدْ ثَبَتَ
ذَلِكَ لِلْوَلِيِّ بِدَفْعِ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ مُسْقِطًا
لِلْحَدِّ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْفَصْلِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي
النَّوَادِرِ
فَذَكَر أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِأَمَةٍ
ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - فِي نَوَادِرِهِ عَلَى عَكْسِ هَذَا قَالَ عَلِيٌّ:
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
الْحَدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا زَنَى بِأَمَةٍ ثُمَّ
اشْتَرَاهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَنَى بِحُرَّةٍ ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، فَأَمَّا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي
قَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي
الْمَحَلِّ لَوْ اقْتَرَنَ بِالْفِعْلِ كَانَ مَانِعًا وُجُوبَ الْحَدِّ،
فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ يَكُونُ مُسْقِطًا
لِلْحَدِّ كَمِلْكِ السَّارِقِ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بَعْدَ مَا وَجَبَ
عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَالْعَمَى وَالْفِسْقُ فِي الشُّهُودِ بَعْدَ وُجُوبِ
الْحَدِّ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْحَدَّ
عَلَيْهِ إنَّمَا أَقَامَ بِوَطْئِهِ امْرَأَةً هِيَ زَوْجَتُهُ فِي
الْحَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْفَصْلَيْنِ
أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَوْفَى وَالْمُسْتَوْفَى
مَثَلًا شَيْءٌ فَبِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا
يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمُسْتَوْفَى فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ
بِخِلَافِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ
بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ، وَقَدْ مَلَكَ تِلْكَ الْعَيْنَ فَسَقَطَ
الْقَطْعُ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فِي الْفَرْقِ
بَيْنَ النِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ أَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ عَيْنَهَا
وَمِلْكُ الْعَيْنِ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْحِلِّ
فَيُجْعَلُ الطَّارِئُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ
كَمَا فِي بَابِ السَّرِقَةِ، فَأَمَّا بِالنِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ عَيْنَ
الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِهَذَا
لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا فَلَا يُورِثُ ذَلِكَ
شُبْهَةً فِيمَا تَقَدَّمَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهَا، فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ
الْحَدُّ عَنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ
وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(9/132)
|