المحيط
البرهاني في الفقه النعماني (الفصل السادس) في
المسح على الخفين
يجب أن يعلم بأن المسح على الخفين جائز عند عامة العلماء بآثار مشهورة
قريبة من التواتر، روى عمر وعلي والعبادلة الثلاثة وصفوان بن عسال المرادي
وغيرهم رضي الله عنهم عن رسول الله عليه السلام، وعن مغيرة بن شعبة رضي
الله عنه قال «توضأ رسول الله عليه السلام في سفر وكنت أصب عليه الماء
وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فأخرج يديه من تحت ذيله ومسح على خفيه فقلت:
نسيت غسل القدمين فقال: «بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عزّ وجلّ» . وعن جرير
بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه مسح على
(1/166)
خفيه وقال: «رأيت النبي عليه السلام فعل
ذلك، فقالوا لجرير: أبعد نزول سورة المائدة، وعنوا به وأرجلكم على قراءة
النصب الدالة على فرضية الغسل، فقال جرير: وهل كان إسلامي إلا بعد سورة
المائدة» ، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: أدركت سبعين نفراً من أصحاب
رسول الله عليه السلام كلهم يرون المسح على الخفين.
ولكثرة الأخبار قال أبو حنيفة رحمه الله: ما قلت بالمسح على الخفين حتى جاء
في مثل ضوء النهار، وفي رواية قال: حتى رأيت له شعاعاً كشعاع الشمس. وعن
أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سُئل عن السنّة والجماعة فقال: أن تحب
الشيخين ولا تطعن في الحسنين وتمسح على الخفين. وقال الكرخي رحمه الله: من
أنكر المسح على الخفين يخشى عليه الكفر. قالوا: وعلى قياس قول أبي يوسف
رحمه الله: من أنكر المسح على الخفين يكفر لأن حديث المسح على الخفين
بمنزلة التواتر عنده، ومن أنكر التواتر يكفر.
وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في صورة المسح وكيفيته ومقداره
فنقول: قال أصحابنا رحمة الله عليهم: مسح الخف مرة واحدة ولا يسن فيه
التكرار، ويبدأ من قبل الأصابع فيضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفيه
الأيمن، ويضع أصابع يده اليسرى على مقدم خفه الأيسر ويمدهما إلى أصل الساق،
هكذا روى مغيرة بن شعبة فعل رسول الله عليه السلام، والمعنى: أن المسح قائم
مقام الغسل، والسنّة في الغسل البداية من قبل الأصابع فكذلك في المسح.
وعن محمد رحمه الله: أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: أن يضع أصابع يديه
على مقدم خفيه ويجافي كفيه ويمدهما إلى الساق أو يضع كفيه مع الأصابع
ويمدهما جملة، قال محمد رحمه الله: كلاهما حسن قال شمس الأئمة الحلواني
رحمه الله: والأحسن تحصيل المسح بجميع اليد، ولو بدأ من قبل الساق يجوز
لأنه أتى بأصل المسح إلا أنه ترك السنّة، وترك السنّة لا يمنع الجواز. ألا
ترى أن في الغسل لو بدأ من أصل الساق يجوز؟، وطريقه ما قلنا.
ولو مسح برؤوس الأصابع وجافى أصول الأصابع والكف لا يجوز، إلا أن يبلغ ما
ابتل من الخف عند الوضع مقدار الواجب وذلك ثلاثة أصابع، ولو مسح بظاهر كفيه
يجوز والمستحب المسح بباطن كفيه.
(1/167)
ولو مسح بأصبع أو أصبعين لا يجوز؛ لأن
المسح على الخفين نظير المسح على الرأس لأنه معطوف على الرأس في إحدى
الروايتين على ما مر * ثم لو مسح على الرأس بأصبع أو أصبعين لا يجوز، ولو
مسح بثلاثة أصابع جاز فههنا كذلك. وعلى قياس رواية الحسن في مسح الرأس انه
لا يجوز * ما لم يمسح مقدار الربع، لا يجوز في مسح الخفين إلا مقدار الربع
أيضاً ولو مسح بالإبهام والسبابة: إن كانا مفتوحين جاز لأن ما بينهما مقدار
أصبع آخر، وقد ذكرنا هذا في مسح الرأس، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل»
: أن التقدير بثلاثة أصابع اليد أو بثلاثة أصابع الرجل، وكان الكرخي رحمه
الله يقول: التقدير بثلاثة أصابع الرجل اعتباراً لمحل المسح. وكان الفقيه
أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: التقدير بثلاثة أصابع اليد اعتباراً لآلة
المسح، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله.
ولو مسح بأصبع واحد ثم بله ومسح ثانياً وثالثاً، إن مسح كل مرة غير الموضع
الذي مسحه مرة (لا) يجوز كأنه مسح بثلاثة أصابع اليد، ويجوز المسح على الخف
ببلل الغسل سواء كانت البلة متقاطرة أو غير متقاطرة، ولا يجوز المسح ببلل
المسح، وتفسير هذا: إذا توضأ ثم مسح الخف بلة بقيت على كفه بعد الغسل يجوز،
ولو مسح رأسه ثم مسح الخف ببلة بقيت لا يجوز، لأن في الفصل الأول: البلة لم
تصر مستعملة لأن الغرض منها ما أقيم بها، وفي الفصل الثاني: البلة صارت
مستعملة، لأن الغرض أقيم بها.
ولو توضأ ونسي مسح خفيه، ثم فاض الماء، فأصاب الماء ظاهر خفيه، يجزئه عن
المسح، لأن المقصود والمأمور به وصول البلة وقد وجد، وهو نظير ما لو نسي
مسح الرأس فأصاب رأسه ماء المطر هل يصير الماء مستعملاً؟ قال أبو يوسف رحمه
الله: لا يصير، وقال محمد رحمه الله: يصير.
وإذا لم يمسح على خفيه ولكن مشى في الحشيش فابتل ظاهر خفيه ببلل الحشيش، إن
كان الحشيش مبتلاً بالماء أو بالمطر يجزئه بالإجماع، وإن كان مبتلاً بالطل،
اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يجوز لأن الطل من الماء كالمطر، وفيه أن
الطل سبيل في بيت المقدس كالمطر.
ولو أَمَرَ إنساناً حتى مسح على خفيه جاز لحصول المقصود وهو إيصال البلة
والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان محل المسح
فنقول: محل المسح ظاهر الخف دون باطنه، حتى لو مسح باطن خفيه دون ظاهرهما
لم يجزئه، وقال الشافعي رحمه الله: المسح على ظاهر الخف فرض وعلى باطنه
سنة، والأولى عنده أن يضع يده اليمنى على ظاهر الخف، ويده اليسرى على باطن
الخف فيمسح بهما كل رجل.
احتج الشافعي رحمه الله بما روي عن مغيرة بن شعبة رضي الله عنه: «أن النبي
عليه
(1/168)
السلام: مسح على خفيه أسفله وأعلاه» ، ولأن
الاستيعاب في مسح الرأس سنة، فكذا في مسح الخفين.
وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا: بما روينا من حديث المغيرة، وبما روي عن علي
رضي الله عنه أنه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من
ظاهره، ولكني رأيت رسول الله عليه السلام يمسح على ظاهر الخفين دون
باطنهما» ، ولأن باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة فيصب يده ذلك اللوث وفيه
بعض الحرج.
والمسح بالخف إنما شرع لرفع الحرج. وأما الجواب عن الحديث: فكذلك الحديث
فلا يوجه به، وأما الجواب عن استيعاب الرأس قلنا: جميع الرأس محل المسح
بدليل: أنه لو مسح بعض أطرافه دون البعض يجوز بالإجماع، وههنا لو اقتصر على
المسح على باطن الخف، لا يجوز بالإجماع، دل أن باطن الخف ليس بمحل للمسح،
وإذا لم يكن محلاً للمسح لا يسن المسح عليه وكذلك إذا مسح على العقب لا
يجوز؛ لأن محل المسح المقدم دون المؤخر، ولو مسح على ما يلي الساق أو على
ما يلي مقدم ظاهر الخف يجوز، ولو مسح على فوق الكعبين لا يجزئه والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان ما يجوز عليه المسح من الخفاف وما بمعناها وما لا يجوز
قال: الخف الذي يجوز عليه المسح ما يُمَكّن قطع السفر، وتتابع المشي عليه،
وستر الكعبين وما تحتهما. وستر ما فوق الكعبين ليس بشرط، لأن ما فوق
الكعبين زيادة في إطلاق اسم الخف عليه، وإن كان يرى من الكعب قدر أصبع أو
أصبعين جاز المسح عليه، وإن كان ثلاثة أصابع فصاعداً (24ب1) لا يجوز المسح
نص عليه محمد رحمه الله في «الزيادات» .
والمذكور في «الزيادات» : رجل عليه خفاف لا ساق عليهما جاز أن يمسح عليهما،
إذا كان الكعب مستوراً، وإن كان خرج منها شيء من مواضع الوضوء نحو الكعب
وغيره، وإن كان ما خرج مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع الرجل لا يجوز المسح
عليهما، وعن هذه المسألة قال مشايخنا: إذا لبس المكعب ولا يرى من كعبه إلا
إصبع أو إصبعان جاز المسح عليه لأنه بمنزلة الخف الذي لا ساق له.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمع الله: الصحيح من المذهب جواز المسح على الخفاف
المتخذة من اللبود التركية، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله روى عن أبي
حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود، قال
مشايخنا: كان أبو حنيفة رحمه الله لم يعرف صلابة هذا النوع من الخف
وصلاحيته لقطع السفر وتتابع المشي به أما لو عرف ذلك لأفتى به، لأن مثل هذا
الخف صالح لقطع السفر وتتابع المشي به فكان كالخف المتخذ من الأديم وغيره.
وأما المسح على الجوارب، فلا يخلو: إما إن كان الجوارب رقيقاً غير منعل،
وفي
(1/169)
هذا الوجه لا يجوز المسح بلا خلاف، وأما
إذا كان ثخيناً منعلاً، وفي هذا الوجه يجوز المسح بلا خلاف، لأنه يمكن قطع
السفر وتتابع المشي عليه فكان بمعنى الخف، والمراد من الثخين: إن كان
يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء، ولا يسقط، فأما إذا كان لا يستمسك
ويسترخي فهذا ليس بثخين، ولا يجوز المسح عليه، وأما إذا كان ثخيناً غير
منعل، وفي هذا الوجه لا يجوز المسح عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز.
ثم بين المشايخ اختلاف في مقدار النعل الذي يكفي لجواز المسح على الثخين
عند أبي حنيفة رحمه الله، قال بعضهم: إذا كان في باطن الخف أديم وهو ما
يكفي لكف القدم، جاز المسح عليه، وقال بعضهم: لا يجوز المسح (حتى) حتى تكون
الأديم على أصابع الرجل وظاهر القدمين، وقال بعضهم: لا يجوز المسح (حتى)
يكون الأديم إلى الساق ليكون ظاهر قدميه وكعباه مستوراً بالأديم فعلى قول
هذا القائل: لو كان المستور بالأديم ما دون الساق، والساق مجورب لا يجوز
المسح عند أبي حنيفة رحمه الله.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وسألت الشيخ الإمام الأستاذ عن تفسير
الجورب المنعل عند أبي حنيفة رحمه الله، أراد به الجلد الرقيق، الذي اعتاد
الناس حوزه على جواربهم، أو أراد الصرم العلنطنطر الصرم الذي يكون على
جوارب أهل مرو، وقال: إن كان هذا الجورب المنعل كجوارب الصبيان يمشون
عليهما في تخرجة وغلظ النعل جاز المسح عند أبي حنيفة رحمه الله.
قال شمس الأئمة: هذا في شرح كتاب الصلاة الجورب أنواع: منها ما يكون من غزل
وصوف، ومنها ما يكون من غزل، ومنها ما يكون من شعر.
والأول: أن لا يجوز عليه المسح عندهم جميعاً.
وأما الثاني: فإن كان رقيقاً: لا يجوز المسح عليه بلا خلاف، وإن كان ثخيناً
مستمسكاً ويستر الكعب ستراً لا يراه الناظر كما هو جوارب أهل مرو، فعلى قول
أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز المسح عليه، إلا إذا كان منعلاً أو مبطناً،
وعلى قولهما: يجوز.
وأما الثالث: ذكر في «النوادر» : أنه لا يجوز المسح عليه، قالوا: إذا كان
صلباً مستمسكاً يمشي معه فراسخ أو فرسخاً، يجب أن يكون على الخلاف بين أبي
حنيفة وصاحبيه رحمهم الله.
وأما الرابع، فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز المسح عليه،
والمتأخرون قالوا: الصحيح أن المسألة على الخلاف.
وأما الخامس: فلا يجوز المسح عليه كيف ما كان، وذكر شمس الأئمة السرخسي في
«شرحه» : حكي أن أبا حنيفة رحمه الله مسح على جوربيه في مرضه الذي مات فيه،
وقال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، قال رحمه الله: استدلوا به على
رجوعه إلى قولهما، وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: هذا كلام
محتمل يحتمل أنه كان رجوعاً إلى قولهما، ويحتمل أن لا يكون رجوعاً ويكون
اعتذاراً إليهم، أي إنما أخذت بقول المخالف للضرورة، فلا يثبت الرجوع
بالشك.
(1/170)
وأما المسح على الحاروق فإن كان يستر القدم
والكعب، فهو بمنزلة الخف الذي لا ساق له، فكل جواب ذكرناه ثمة فهو الجواب
ههنا، وإن كان لا يستر الكعب والقدم أكر بدهش حاروق يوست برد وفيه باسر
جنابك عادت بعضي مرديان أست مسح روا يودوا بن بمعنى جوربي ما شدان يوست كه
بليس معه النعليه وإنما مسح رواست باتفاق كذا ذكره الطحاوي رحمه الله، واكر
وني حاروق توست في برد وضنة است عليه عامة مشايخ برا يندكه لا يجوز المسح
عليه، وجوز بعضهم ذلك لأن عوام الناس يسافرون به خصوصاً في بلاد الشرق،
وإذا كان مشقوقاً بمعنى ما يلي ظاهر القدم فكان يبدو قدمه من ذلك، أو كان
جورباً ثخيناً منعلاً إلا أن ما يلي ظاهر القدم مشقوق، وقد بينا لذلك الشق
أزراراً مكان حشوهما أو هيأ له خيطاً أو ستراً فكان يسدها سداً يستر قدميه
فهو كغير المشوق، وإن كان يستر بعضه دون بعض ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه
الله: أن ذلك بمنزلة الخرق في الخف، وسيأتي الكلام في الخرق بعد هذا إن شاء
الله تعالى.
وإذا لبس الجرموقين، وأراد أن يمسح عليهما فالمسألة على وجهين: إما أن
يلبسهما وحدهما أو يلبسهما فوق الخفين، وكل مسألة على وجهين: إما إن كان
الجرموق من كرباس أو ما يشبه الكرباس، أو من أديم، أو ما يشبه الأديم فإن
لبسهما وحدهما، فإن كان من كرباس، أو ما يشبه الكرباس لا يجوز المسح
عليهما، لأنه لا يمكن قطع السفر، وتتابع المشي عليه، وإن كان من أديم أو ما
يشبه الأديم يجوز المسح عليهما، لأنه يمكن قطع السفر وتتابع المشي عليه،
وإن لبسهما فوق الخفين، فإن كانا من كرباس أو ما يشبه الكرباس لا يجوز
المسح عليهما كما لو لبسهما على الانفراد إلا أن يكونا رقيقين يصل البلل
إلى ما تحتهما، وإن كانا من أديم أو ما يشبه الأديم أجمعوا أنه إذا لبسهما
بعدما أحدث قبل أن يمسح على الخفين أو بعدما أحدث ومسح على الخفين أنه لا
يجوز المسح عليهما، وإن لبسهما قبل أن يحدث جاز المسح عليهما عندنا، به ورد
الأثر عن رسول الله عليه السلام فقد روى عنه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
«أنه مسح على الموق والموق هو الجرموق، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر
رضي الله عنه مسح على جرموقيه.
وحاصل مذهب أصحابنا رحمهم الله: أنه متى لبس الجرموق على الخف قبل الحدث
والجرموق يصير بدلاً عن الخف، فلا يؤدي إلى أن يكون للبدل بدلاً، ومتى لبس
الجرموقين على الخف، فلو جاز المسح على الجرموق أدى إلى أن يكون للبدل
بدلاً وأنه لا يجوز، وإن مسح على جرموقيه ثم نزعهما أعاد المسح على خفيه.
فرق بين هذا وبين ما إذا مسح على خف ذي طاقين ثم نزع أحد طاقيه، فإنه لا
يلزمه إعادة المسح على الطاق الثاني، وكذلك إذا مسح على خفيه فقشر جلد ظاهر
الخفين ثم رفعه فإنه لا يلزمه إعادة المسح، وكذلك إذا كان الخف مشعوراً
كالخف اليماني فمسح على ظاهر الشعر ثم حلق الشعر، فإنه لا يلزمه إعادة
المسح.
والفرق: أن الخف إذا كان ذا طاقين وكل طاق متصل بالآخر غير مزايل عنه
(1/171)
فيصيران بحكم الاتصال كشيء واحد كالشعر مع
بشرة الرأس اعتبرا شيئاً واحداً في حكم الاتصال، حتى كان المسح على شعر
الرأس كالمسح على البشرة، فكذا ههنا يجوز المسح على أحد الطاقين كالمسح على
الطاق الآخر فالممسوح لم يزد من حيث الحكم والاعتبار فلم يجب إعادة المسح،
فأما الجرموق غير متصل بالخف بل هو مزايل عنه فلا يجعل المسح على الجرموق
كالمسح على الخفين، فالممسوح زال حقيقة وحكماً فيحل الحدث بما تحته، فيلزمه
إعادة المسح، كما لو أحدث في هذه الحالة. وإذا لبس الخفين فوق الخفين،
فالجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا: فيما إذا لبس الجرموقين فوق الخفين.
وإذا لبس (25أ1) الجرموقين فوق الخفين ثم نزع أحدهما قال: عليه أن يعيد
المسح على الخف الثاني والجرموق الثاني هكذا ذكر في ظاهر الرواية، ووقع في
بعض كتاب الصلاة أنه يخلع الجرموق الثاني ويمسح على الخفين وهكذا روي عن
أبي يوسف رحمه الله في غير رواية، «الأصول» .
ووجه ذلك: أن الحدث حل بالخف الأدنى فيحل في الخف الآخر لأنه خلف الخف فلا
يتجزأ، ووجه ما ذكرنا في «ظاهر الرواية» : أن الحدث إنما حل بالخف الأدنى
لزوال المانع وهو الجرموق وهذا المعنى معدوم في الخف الآخر، فلا يحل الحدث
بالخف الآخر، وإنما يحل بالجرموق الذي على الخف الآخر، فلا يلزمه إعادة
المسح على الخف الآخر، وإنما لزمه إعادة المسح على الجرموق الذي على الخف
الآخر؛ لأن المسح انتقض في حق الخف الأدنى فينتقض المسح في حق الجرموق
الآخر، لأن انتقاض المسح لا يتجزأ.
فإن قيل: ما ذكرتم يشكل بما إذا نزع أحد خفيه، فإن هناك يحل الحدث بالرجل
الأخرى حتى يلزمه غسل الرجل الأخرى مع أن المانع من حلول الحدث في الرجل
الأخرى قائم وهو الخف.
قلنا: قضية القياس فيما إذا نزع أحد خفيه ألا يحل الحدث في الرجل الأخرى
لقيام المانع به لكن سقط اعتبار القياس فيه لضرورة وهي ألا يصير جامعاً بين
البدل والمبدل منه، وهذه الضرورة معدومة فيما نحن فيه فيبقى المانع
معتبراً، وهذه المسائل كلها دليل على أن من لبس الجرموق فوق الخف ومسح على
الجرموق ثم أحدث ونزع الجرموق جاز له المسح على الخف.
وإذا كان في الخف خرق فإن كان يسيراً لا يمنع وإن كان كبيراً يمنع، والقياس
في الخرق الكبير أن يمنع جواز المسح أيضاً لأن الخف جعل مانعاً سراية الحدث
إلى الرجل لا رافعاً حدثاً حل بالرجل، وإذا كان بعض القدم مكشوفاً، ولا
مانع في حق ذلك البعض فسرى الحدث إلى ذلك البعض، ومن ضرورته سراية الحدث
إلى الكل، لأن الحدث لا يتجزأ إلا أنا استحسنا في اليسير لضرورة لأن الخف
قل ما يخلو عن قليل خرق، لأنه وإن كان جديداً ما بان الدروب والأسافي فيه
خرق ولهذا يدخله التراب، ولا ضرورة في
(1/172)
الكبير فيبقى الكبير على أصل القياس.
بعد هذا الكلام في معرفة الحد الفاصل بين اليسير والكبير فنقول: إذا كان
الخرق قدر إصبع أو إصبعين فهو يسير، وإذا كان قدر ثلاثة أصابع فهو كبير، ثم
على رواية «الزيادات» : اعتبر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع الرجل، وعلى رواية
الحسن عن أبي حنيفة: اعتبر ثلاثة أصابع اليد، ثم الخرق الكبير إنما يمنع
جواز المسح إذا كان منفرجاً يرى ما تحته، فأما إذا كان لا يرى ما تحته، فإن
كان الخرق جلياً إلا أنه إذا أدخل فيه الأصابع يدخل فيها ثلاثة أصابع لا
يمنع جواز المسح وإن كان يبدو قدر ثلاثة أصابع حالة المشي، لأن في حال وضع
القدم على الأرض يمنع جواز المسح، لأن الخف يلبس للمشي، فكان المعتبر حالة
المشي، وهذا لأن جواز المسح على الخفين بطريق الرخصة لرفع الحرج عن الناس،
فإذا كان الجرموق بحال لا يرى ما تحته حالة المشيء فالناس يلبسون مثل هذا
الخف عادة لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي به فلو أمروا بالنزع وغسل
الرجل لوقعوا في الحرج، وإذا كان الخرق بحال يرى ما تحته حالة المشيء،
فالناس لا يلبسون مثل هذا الخف عادة، لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي
به فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لا يقعون في الحرج.
ثم اختلف المشايخ في فصل أنه إذا كان يبدو قدر ثلاثة أنامل من أصابع الرجل
هل يمنع جواز المسح؟ قال بعضهم يمنع، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه
الله، وقال بعضهم: لا يمنع ويشترط أن يبدو قدر ثلاثة أصابع بكمالها، وإليه
مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وهو الأصح.
ولو ظهر من الخرق الإبهام، وهي مقدار ثلاثة أصابع من غيرها جاز عليه المسح
ويعتبر التقدير في تقدير الأصابع الصغير والكبير على السواء، قال شمس
الأئمة السرخسي رحمه الله: وسواء كان الخرق في باطن الخف أو ظاهره أو في
ناحية العقب فالحكم لا يختلف، يعني إذا كان الخرق مقدار ثلاثة أصابع من أي
جانب كان، فذلك يمنع جواز المسح؛ لأن الخرق إذا كان مقدار ثلاثة أصابع يمنع
قطع السفر وتتابع المشيء به من أي جانب كان الخرق فلا يلبس عادة مع هذا
الخرق، فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لا يقعون في الحرج.
وذكر شمس الأئمة الحلواني وشيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله:
إذا كان المكشوف من قبل العقب أكثر من المستور لا يجوز المسح عليه، وإن كان
المكشوف أقل من المستور يجوز المسح، والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله في هذه
الصورة أنه يمسح حتى يبدو أكثر من نصف العقب.
ويجمع الخروق في خف واحد ولا يجمع في خفين.
بيانه: إذا كان في أحد الخفين خرق قدر أصبع، وفي الآخر قدر إصبعين جاز
المسح عليهما، ولو كان في خف واحد خرق في مقدم الخف قدر أصبع وفي العقب مثل
ذلك، وفي جانب الخف مثل ذلك لايجوز المسح عليه، فرق بين الخرق وبين
النجاسة،
(1/173)
فإن النجاسة تجمع في خفين كما تجمع في خف
واحد متى كان في كل موضعين وكذلك الخرق في موضع العورة يجمع، والفرق أن في
باب العورة المانع انكشاف العورة وقد وجد ذلك، وأما في باب النجاسة المانع
هو النجاسة لأنها تنافي الطهارة، وإن كانت في مواضع متفرقة، فأما الخرق فما
كان مانعاً لعينه، بل لكونه مانعاً تتابع المشي به، وهذا إنما يحصل إذا كان
الخرق مقدار ثلاثة أصابع في خف واحد لا في خفين، وإن كان الخرق على الساق
لا يمنع جواز المسح وإن كان أكثر من ثلاثة أصابع؛ لأن الخرق على الساق لا
يكون أعلى حالاً من عدم الساق، ولو لم يكن للخف ساق وكان الكعب مستوراً
يجوز المسح عليه فههنا أولى.
(نوع آخر) في بيان شرط جواز المسح على الخف
شرط جواز المسح على الخف أن يكون الحدث بعد اللبس طارئاً على طهارة كاملة،
حتى إنه لو غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أحدث لم يجزه المسح، لأن الحدث
ما طرأ على طهارة كاملة وسواء كملت الطهارة قبل اللبس أو بعده جاز المسح في
الحالين عندنا حتى إنه لو غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أكمل وضوءه ثم
أحدث جاز له المسح على الخف عندنا، وقال الشافعي: الشرط أن يدخلهما في الخف
بعد إكمال الطهارة.
وثمرة الخلاف مع الشافعي لا تظهر في هذه المسألة، لأن عنده الترتيب في
الوضوء شرط وقد عدم الترتيب ههنا، وإنما تظهر في مسألة أخرى، وهي:
ما إذا توضأ وغسل رجله اليمنى ولبس عليه الخف ثم غسل رجله اليسرى ولبس عليه
الخف ثم أحدث وتوضأ وأراد المسح جاز المسح عندنا وعند الشافعي لا يجوز
واعتبر بما لو أحدث بعد اللبس ثم أكمل الطهارة فإنه لا يجوز المسح هناك،
ونحن فرقنا بينما إذا أكمل الطهارة قبل الحدث، وبينما إذا لم يكمل حتى
أحدث، والفرق أن الخف جعل مانعاً سراية الحدث إلى الرجل لا رافعاً لحدث حل
بالرجل، فإذا أكمل الطهارة قبل الحدث كان الخف مانعاً سراية الحدث من كل
وجه ولم يكن رافعاً بوجه ما، لأن الحدث قد ارتفع عن الرجلين حقيقة لغسلهما،
وحكماً لغسل ما بقي ولهذا جاز أداء الصلاة بتلك الطهارة فجاز المسح، فأما
إذا أحدث قبل إكمال الطهارة كان الخف رافعاً الحدث من وجه لأن الحدث إن
ارتفع عن القدمين حقيقة بغسلهما لم يرتفع حكماً، ولهذا لو أراد أن يصلي
بتلك الطهارة لا يجوز فيكون الخف رافعاً لحدث كان قائماً فيه من وجه وإنه
لا يجوز، ولهذا لا يمسح.
والنية ليست بشرط لجواز المسح على الخفين حتى إن من قال لغيره: علمني
الوضوء والمسح على الخفين، فتوضأ ذلك الغير ومسح على الخفين وكان قصده
التعلم جاز عندنا وهذا لأن المنصوص عليه المسح دون النية فاشتراط النية
يكون زيادة على النص وإنه لا يجوز، ألا ترى أنه لا تشترط (25ب1) النية
لجواز مسح الرأس، وإنما لا تشترط لما قلنا.
(1/174)
وكذلك الترتيب ليس بشرط عندنا، بيانه: فيما
ذكرنا أنه إذا غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أكمل وضوءه ثم أحدث وتوضأ،
جاز له المسح على الخفين.
ويمسح من كل حدث أو خبث في الوضوء بعد اللبس، فأما الجنابة فلا يجوز المسح
فيها لحديث صفوان بن عسال المرادي قال: «كان رسول الله عليه السلام يأمرنا
إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة ولكن من
بول أو غائط أو نوم» ولأن الجنابة ألزمته غسل جميع البدن بالنص ومع الخف لا
يتأتى ذلك، ولأن جواز المسح لضرورة دفع المشقة، وذلك في الحدث أظهر لتكرير
وقوعه في كل يوم عادة، وعدم تكرير وقوع الجنابة في كل يوم عادة، فامتنع
الاستدلال.
ذكر الناطفي رحمه الله في «هدايته» : قال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء»
: كل طهارة تنتقض بغير حدث، فإذا انتقض مع الحدث يمنع جواز المسح على
الخفين، وكل طهارة لا تنتقض إلا بالحدث، فإذا انتقض بالحدث الصغرى لا يمنع
جواز المسح على الخفين.
وأشار إلى الفرق فقال: ما يبطل بغير حدث كان الحدث موجوداً عند ابتداء لبسه
فلم يصادف الحدث طهارة ولا كذلك طهارة لا تنتقض إلا بالحدث، لأن ابتداء
اللبس صادف طهارة كاملة، فكان الحدث طارئاً على لبسه.
وتفسير هذا: المسافر إذا لم يجد الماء وتيمم ولبس خفيه ثم أحدث ووجد من
الماء ما يكفيه للوضوء فإن عليه أن يتوضأ ويغسل قدميه ولا يجوز المسح على
خفيه، لأن تيممه قد بطل بوجود الماء، وكان الحدث موجوداً في رجليه لأن
التيمم لا يرفع الحدث، وكذلك المستحاضة، ومن به جرح سائل.
وكذلك لو توضأ بنبيذ التمر ولبس الخفين ومسح على الخفين بنبيد التمر ثم وجد
الماء نزع خفيه وتوضأ به وغسل قدميه لأنه لا يرفع الحدث وهو كالتراب.
وإذا توضأ بسؤر الحمار ولبس خفيه ولم يتيمم حتى أحدث فإنه يتوضأ بما بقي
معه من سؤر الحمار ويمسح على الخفين ثم يتيمم ويصلي لأن سؤر الحمار إن كان
طاهراً مطهراً فقد حصل اللبس على طهارة كاملة فجاء شرط جواز المسح على
الخفين، وإن كان نجساً أو كان طاهراً غير طهور ففرضه في هذه الحالة التيمم،
والرِّجْلُ لاحظ لها من التيمم، فتيقنا لسقوط غسل الرجلين فلهذا جاز المسح.
ولو توضأ بنبيذ التمر، ولبس الخف ثم أحدث ومعه نبيذ التمر، فإنه يتوضأ
وينزع خفيه ويغسل قدميه في قول أبي حنيفة رحمه الله، ولا يمسح على خفيه وفي
سؤر الحمار قال: يمسح على وخفيه، ونبيذ التمر عنده مقدم على سؤر الحمار حتى
قال في سؤر الحمار: يجمع بينه وبين التيمم، ولم يقل بالجمع في نبيذ التمر.
والفرق: أن الطهارة الحاصلة بنبيذ التمر طهارة ناقصة، ولهذا تنتقض برؤية
الماء،
(1/175)
ورؤية الماء ليست بحدث علم أنه يصير محدثاً
بالحدث السابق، إلا أنه جوز أداء الصلاة بها عند انعدام الماء بالنص، إنما
هي في نفسها طهارة ناقصة فكان اللبس حاصلاً على طهارة ناقصة فلا يجوز
المسح، فأما سؤر الحمار، فإنما يجوز التوضؤ به على تقدير أنه طاهر مطهر،
وعلى هذا التقدير هو وسائر المياه سواء كان اللبس حاصلاً على طهارة كاملة
والله أعلم.
(نوع آخر) في بيان مدة المسح على الخفين
قال علماؤنا رحمة الله: عليهم: يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة
أيام ولياليها، والأصل فيه ما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله عليه
السلام قال: «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام» ، وعن صفوان بن
عسال المرادي أنه سأل رسول الله عليه السلام عن المسح على الخفين فقال:
«المقيم يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ، والمعنى المجوز للمسح
الضرورة، والضرورة في حق المسافر أكثر من الضرورة في حق المقيم، لأن
المسافر لا ينزع الخف في كل مرحلة غالباً أو يلحقه الحرج بالنزع في كل
مرحلة، فقدر في حقه بأقل مدة السفر، إذ لا نهاية لما وراءه، فأما المقيم
ينزع الخف في كل يوم وليلة عادة، ولا يُحرج في ذلك، فقدر في حقه بيوم وليلة
لهذا.
وابتداء المدة يعتبر من وقت الحدث عند علمائنا، حتى إن من توضأ في وقت
الفجر وهو مقيم وصلى الفجر ثم طلعت الشمس فلبس الخفين ثم زالت الشمس وصلى
الظهر ثم أحدث ثم دخل وقت العصر فتوضأ ومسح على الخفين فقدرنا مدة المسح
باقية إلى الغد إلى الساعة التي أحدث فيها اليوم، حتى جاز له أن يصلي الظهر
في الغد بالمسح، ولا يجوز له أن يصلي العصر في الغد بالمسح، وإنما اعتبر
بابتداء المدة من وقت الحدث لأن وجوب الطهارة باعتبار الحدث.... القدم
بالخف مانع سراية الحدث إلى القدم، وإنما يصير مانعاً عند الحدث، وإذا كان
علمه يظهر عند الحدث تعتبر المدة من وقت الحدث ضرورة.
قال في «الأصل» : وإذا انقضى وقت المسح ولم يحدث في تلك الساعة فعليه نزع
خفيه وغسل رجليه وليس عليه إعادة الوضوء، وأراد بقوله: ولم يحدث في تلك
الساعة، أنه لم يحدث بعد الحدث الأول من وقت اللبس لا أنه لم يحدث أصلاً من
وقت اللبس، فإن لابس الخفين إذا استكمل يوماً وليلة وهو على وضوء ولم يحدث
أصلاً لا يجب عليه غسل القدمين بالإجماع، لأن انقضاء المدة إنما عتبر في حق
ماسح الخفين لا في حق لابس الخفين، وهذا الرجل لابس الخفين وليس بماسح
الخفين، فلا يعتبر انقضاء المدة
(1/176)
في حقه، فأما إذا أحدث بعد لبس الخفين
فتوضأ ومسح على الخفين، ثم استكمل يوماً وليلة، وهو على وضوء ولم يحدث
حدثاً آخر، يجب عليه نزع الخفين، وغسل القدمين، ولا يجب عليه تجديد الوضوء
لأن الخف جعل مانعاً سراية الحدث إلى الرجل ما دامت مدة المسح باقية، فإذ
انقضت مدة الحدث لم يبق المانع، فيسري الحدث السابق إلى الرجل، فصار كما لو
توضأ وأخر غسل الرجلين، ولو توضأ وأخر غسل الرجلين، يجب عليه غسل الرجلين،
ولا يجب عليه تجديد الوضوء كذا ههنا، علمنا أن المراد من المسألة ما ذكرنا،
وإن كان أحدث في تلك الساعة نزع خفيه وغسل رجليه وأعاد الوضوء.
وإذا استكمل المقيم مسح الإقامة، ثم سافر نزع خفيه وغسل رجليه. وإن لم
يستكمل مسح الإقامة حتى سافر: إن سافر قبل أن يحدث فإنه يستكمل مدة مسح
السفر بالإجماع لأن ابتداء المدة انعقد وهو مسافر، لأن ابتداء المدة من وقت
الحدث، وأما إذا أحدث ومسح على الخفين أو لم يمسح وسافر فكان ذلك قبل
استكمال مسح الإقامة، فإنه يستكمل مدة مسح المسافر عند علمائنا الثلاثة
رحمهم الله.
وإذا قدم المسافر مصره، وكان ذلك بعد ما مسح يوماً وليلة أو أكثر نزع خفيه
لأنه صار مقيماً، ولا يلزمه إعادة شيء من تلك الصلوات وإن كان قدومه بعدما
مسح أكثر من يوم وليلة؛ لأنه حين مسح كان مسافراً.
وإن قدم المصر قبل استكمال يوم وليلة يمسح مسح المقيمين بالاتفاق، وإذا
انقضت مدة المسح وهو مسافر ويخاف ذهاب الرجل من البرد لو نزع خفيه، جاز له
المسح لمكان الضرورة، وإن كان لا يخاف ذهاب الرجل ينزع خفيه ويغسل رجليه،
وإذا أحدث الماسح في صلاته وانصرف للتوضؤ وانقضت مدة المسح قبل أن يتوضأ
يغسل رجليه ويبني على صلاته، كالمصلي بالتيمم إذا أحدث وانصرف ووجد ماءً،
فإنه يتوضأ ويبني على صلاته.
إذا انقضت مدة مسحه وهو في الصلاة، ولم يجد ماء فإنه يمضي على صلاته؛ لأنه
لا فائدة في قطع الصلاة؛ لأن حاجة الماسح بعد انقضاء مدة المسح إلى غسل
الرجلين، ولو قطع الصلاة وهو عاجز عن غسل الرجلين فإنه يتيمم ولاحظ للرجلين
من التيمم، ولهذا يمضي على صلاته، ومن المشايخ من قال: تفسد صلاته، والأول
أصح والله أعلم.
(نوع آخر)
بيان ما يبطل المسح على الخفين
قال رضي الله عنه: وإذا مسح على الخف (26أ1) ثم دخل الماء وابتل من رجله
قدر ثلاثة أصابع أو أقل، لا يبطل مسحه، ولو ابتل جميع القدم وبلغ الماء
الكعب بطل المسح، روي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله، ويجب غسل الرجل الأخرى،
ذكره في «حيرة الفقهاء» .
وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: إذا أصاب الماء أكثر أحد رجليه ينتقض مسحه،
ويكون بمنزلة الغسل وبه قال بعض المشايخ، وقد حكي أيضاً عن الفقيه هذا رحمه
الله أنه
(1/177)
قال مرة على نحو ما ذكرنا في كتاب «الحيرة»
، وبعض مشايخنا قالوا لا ينتقض المسح، على كل حال لأن استتار القدم بالخف
يمنع سراية الحدث إلى القدم، فلا يقع هذا غسلاً معتبراً فلا يوجب انتقاض
المسح.
وإذا نزع خفيه بعد المسح أو أحدهما غسل رجليه، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما
تقدم، وإذا بدا للماسح أن يخلع خفيه، فنزع القدم من الخف غير أنه في الساق
بعد فقد انتقض مسحه، وهذا قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وجه ذلك: أن موضع المسح فارق مكانه، فكأنه ظهر رجله، وهذا لأن ساق الخف غير
معتبر حتى لو لبس خفاً لا ساق له، جاز له المسح إذا كان الكعب مستوراً،
فكون الرجل في الساق وظهوره في الحكم سواء هذا إذا نزع كل القدم إلى الساق.
فأما إذا نزع بعض القدم عن مكانه ذكر الفقيه أبو محمد الجويني عن أبي حنيفة
رحمه الله في «الإملاء» : أنه إذا زال عقب الرجل عن عقب الخف أو زال أكثر
عقب الرجل عن عقب الخف انتقض المسح ووجب غسل الرجل، وهو رواية عن أبي يوسف
رحمه الله؛ لأن اللبس وقع للمشي المعتاد، وقد تعذر المشي إذا خرج أكثر عقب
الرجل عن موضعه، فصار وجود هذا اللبس والعدم بمنزله، فيبطل المسح ضرورة.
وعن أبي يوسف رحمه الله في رواية أخرى: إذا نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة
أصابع انتقض مسحه، وعن محمد رحمه الله: إذا بقي من ظهر القدم في موضع المسح
قدر ثلاثة أصابع لا ينتقض مسحه، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه
الجملة في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هذه المسألة في
«شرحه» ، وقال: ذكر في بعض الروايات أنه إذا كان بحيث يمكنه المشي بعد ما
تحرك قدمه عن موضعه لا ينتقض مسحه وإن كان بحيث لا يمكنه المشي ينتقض مسحه،
وذكر في بعض الروايات: إذا خرج أكثر ما يفترض غسله ينتقض مسحه، وما لا فلا،
وفي بعض الروايات: إن بقي في موضع قرار القدم مقدار ثلاثة أصابع لا ينتقض
مسحه، قال: وأكثر المشايخ على هذا، وهو مروي عن محمد رحمه الله على نحو ما
ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
وفي كتاب «الصلاة» لأبي عبد الله الزعفراني رحمه الله: رجل أعرج يمشي على
صدور قدميه وقد ارتفع عقبه عن موضع عقب الخف أو كان لا عقب للخف وصدور
(1/178)
قدميه في الخف، أو رجل صحيح أخرج عقبه من
عقب الخف، إلا أن مقدم قدمه في الخف في موضع المسح، له أن يمسح ما لم يخرج
صدر قدمه عن الخف إلى الساق، وفي بعض المواضع إذا كان صدور القدم في موضعه
والعقب يخرج ويدخل لا ينتقض مسحه، ولو كان الخف واسعاً إذا رفع القدم قع
(عن) القدم حتى يخرج العقب، فإذا وضع القدم عادت العقب إلى موضعها لا ينتقض
مسحه.
ذكر أبو علي الدقاق رحمه الله صاحب «كتاب الحيض» : رجل لبس خفين ولبس
فوقهما جرموقين واسعين يفضل من الجرموق على الخف مقدار ثلاثة أصابع، فمسح
على تلك الفضلة لم يجز، وإن مسح على تلك الفضلة وقد قدم رجله إلى تلك
الفضلة ومسح عليه، ثم زال رجله عن ذلك الموضع، أعاد المسح والله أعلم.t
(نوع آخر)
المرأة في المسح على الخفين بمنزلة الرجل؛ لاستوائهما في المعنى المجوز
للمسح، وإذا استحيضت المرأة ولبست خفيها بعدما توضأت، ثم أحدثت في الوقت
حدثاً آخر حتى انتقضت طهارتها لما عرف، فتوضأت وأرادت أن تمسح على خفهيا،
فهذه المسألة على أربعة أوجه:
أما إذا كانت الدم سائلاً وقت الوضوء واللبس، أو كان منقطعاً وقت الوضوء
واللبس، أو كان سائلاً وقت الوضوء منقطعاً وقت اللبس، أو كان منقطعاً وقت
الوضوء سائلاً وقت اللبس، وفي الوجوه كلها لها أن تمسح على خفيها؛ لأن
طهارتها ما دام الوقت باقياً طهارة معتبرة يجوز أداء الصلاة بها، فكان
اللبس حاصلاً على طهارة معتبرة، فيجوز المسح.
ولو لم تحدث حدثاً آخر، ولكن خرج الوقت حتى انتقضت طهارتها بخروج الوقت،
فتوضأت وأرادت أن تمسح على خفيها ففيما إذا كان الدم منقطعاً وقت الوضوء
واللبس لها أن تمسح، وفيما عدا ذلك من الوجوه ليس لها أن تمسح عند علمائنا
الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر رحمه الله لها أن تمسح.
وجه قول زفر: أن اللبس حصل على طهارة معتبرة، لأن طهارة المستحاضة طهارة
معتبرة حتى ينبني عليها جواز الصلاة، وما وجد من السيلان أسقط الشرع
اعتباره وألحقه بالعدم، فيجوز لها أن تمسح كما لو كان الدم منقطعاً وقت
الوضوء واللبس جميعاً.
وجه قول علمائنا الثلاثة: أن طهارة المستحاضة متى انتقضت بخروج الوقت يستند
الانتقاض ويظهر الاستناد في حق القائم من الأحكام على ما عرف، وجواز المسح
حكم قائم فيظهر الاستناد في حقه ويظهر أن اللبس حصل مع الحدث في حق هذا
الحكم، بخلاف ما إذا كان الدم منقطعاً وقت اللبس والوضوء؛ لأن هناك وإن
استند الانتقاض إلا أنه إنما يستند إلى سيلان، متأخر عن اللبس، فلا يظهر أن
اللبس حصل مع الحدث.
فإن قيل: لو استند الانتقاض بخروج الوقت يجب أن يقال إذا شرعت في التطوع ثم
خرج الوقت أن لا يجب عليها القضاء؛ لأنه ظهر أن الشروع حصل مع الحدث، قلنا:
هذا ليس بظهور من كل وجه، بل هو ظهور من وجه، اقتصار من وجه؛ لأن انتقاض
(1/179)
الطهارة حكم الحدث والحدث وجد في تلك
الحالة، فهذا يقتضي صيرورتها محدثة من تلك الحالة، إلا أن صيرورتها محدثة
معلقة بخروج الوقت وخروج الوقت وجد الآن، فهذا يقتضي صيرورتها محدثة من كل
وجه فلا يجوز لها المسح، ولا يجب عليها القضاء، ولو كان اقتصاراً من كل وجه
يجوز لها المسح، ويجب عليها القضاء، فإذا كان ظهوراً من وجه اقتصاراً من
وجه، قلنا: لا يجوز لها المسح ويجب عليها القضاء أخذاً بالاحتياط في كل
فصل.
وصاحب الجرح السائل في حق هذه الأحكام بمنزلة المستحاضة؛ لأنه بمعناها
والله أعلم.
(نوع آخر)
قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل قطعت إحدى رجليه، وبقي من موضع
الوضوء مقدار ثلاثة أصابع أو أكثر أو أقل حتى بقي شيء منها من موضع الوضوء،
فتوضأ وغسل ذلك الرجل، والرجل الصحيحة، ولبس الخف على الرجل الصحيحة ثم
أحدث وتوضأ لا يجوز له أن يمسح على الرجل الصحيحة؛ لأنه إذا بقي من الرجل
المقطوعة شيء من موضع الوضوء يجب غسله، فيجب غسل الرجل الصحيحة كي لا يؤدي
إلى الجمع بين البدل والمبدل في وظيفة واحدة.
وإن لبس الخفين، فإن كان ما بقي من الرجل المقطوعة سأقل من مقدار ثلاثة
أصابع لا يجوز المسح على الخفين؛ لأن محل المسح قدر ثلاثة أصابع ولم يبق من
الرجل المقطوعة قدر ثلاثة أصابع، فلم يجز المسح عليه بل وجب غسله، فوجب غسل
الرجل الصحيحة لما ذكرنا، وهذا بخلاف ما إذا لبس الخفين وظهر من أحدها أقل
من مقدار ثلاثة أصابع من موضع الوضوء ثم أحدث، فإنه يتوضأ ويمسح على خفيه؛
لأن هناك ليس يلزمه غسل ما ظهر من إحدى الرجلين، فلا يلزمه غسل الباقي، فلا
يلزمه غسل الرجل الأخرى، أما هنا لزمه غسل ما بقي من الرجل المقطوعة فيلزمه
غسل الرجل الصحيحة.
وإن كان الباقي من الرجل المقطوعة مقدار ثلاثة أصابع، فإن لم يكن الباقي من
ظاهر القدم لا يجوز المسح، وإن كان الباقي من ظاهر القدم جاز المسح؛ لأن
محل المسح ظهر القدم على ما مر، فإذا لم يكن الباقي من ظاهر القدم لم يجز
المسح بل وجب غسله فيجب غسل الرجل الصحيحة، فأما إذا كان الباقي من ظاهر
القدم جاز المسح عليه، فيجوز المسح على الرجل الصحيحة أيضاً هكذا ذكر
المسألة في «الزيادات» .
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا كان الباقي مقدار ثلاثة
أصابع من جانب الأصابع، جاز المسح وإن لم يبق من جانب الأصابع شيء، وإنما
بقي ما يلي العقب مقدار ثلاثة أصابع أو أقل أو أكثر لم يجز المسح، وهو
الصحيح لأن محل المسح ظاهر القدم من جانب الأصابع، (26ب1) وقد مر هذا في
أول هذا الفصل.
رجل قطعت إحدى رجليه من الكعب، أو من نصف الكعب ولبس الخف على الرجل
الصحيحة لم يجز له أن يمسح عليها، إلا على قول زفر رحمه الله؛ لأن عنده
(1/180)
الكعب لا يدخل في الغسل، وعندنا الكعب يدخل
في الغسل فإذا بقي أحد طرفي الكعب يجب غسله، فيجب غسل الرجل الأخرى، فإن
قطعت إحدى رجليه فوق الكعب جاز له المسح على الأخرى، لأنه لم يبق شيء من
هذه الرجل من موضع الوضوء، فكأنها ذاهبة أصلاً.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله في مقطوع الرجل من الكعب عليه أن
يمسح موضع القطع وإن كان عليه خفاف جاز أن يمسح عليها والله أعلم.
(نوع آخر)
قال محمد في «الزيادات» : رجل بإحدى رجليه جراحة لا يستطيع غسلها، ولكن
يستطيع أن يمسح على الخرق التي عليها، فإنه يتوضأ ويمسح على الخرق التي
عليها ويغسل الرجل الصحيحة، فإن توضأ وغسل الرجل الصحيحة ولبس الخف عليها
ومسح على الخرقة التي على الرجل الأخرى إلا أنه لم يستطع أن يلبس الخف
عليها ثم أحدث وتوضأ لا يجوز له المسح على الخف الذي لبسه على الرجل
الصحيحة؛ لأنه لو مسح على الخف مسح على الجبيرة، والمسح على الجبيرة بمنزلة
غسل ما تحتها، فيجتمع له البدل والمبدل في وظيفة واحدة، وذلك لا يجوز، وعلى
قياس ما قيل عن أبي حنيفة رحمه الله: أن من ترك المسح على الجبائر والمسح
لا يضره أنه يجزئه عنده لما تبين ينبغي أن يجوز ههنا المسح على الخف؛ لأن
المسح على الجبائر عنده ليس بفرض لما تبين وسقط وظيفة هذا الرجل المجروحة
أصلاً، فكأنها ذهبت أصلاً، وهناك جاز المسح على الخف في
(1/181)
الرجل، إذ لا يؤدي إلى الجمع بين البدل
والمبدل منه في وظيفة واحدة كذا ههنا.
وإن كان حين غسل الرجل الصحيحة ومسح لبس الخفين ثم أحدث جاز المسح على
الخفين على الجبائر بمنزلة غسل ما تحتها، فصار كأنه لبس الخفين بعد غسل
الرجلين وهناك يجوز المسح؛ لأنه لو مسح مسح على الخفين، فلا يؤدي إلى الجمع
بين البدل والمبدل في وظيفة واحدة، كذا ههنا، فقد جوز المسح على الخف الذي
لبسه على الرجل المجروحة، وإن كان ما تحته ممسوحاً.
وإذا مسح على الخفين ثم لبس عليهما الجرموقين لا يجزئه المسح على الجرموق،
والفرق أن المسح على الجبيرة بمنزلة غسل ما تحتها، ولهذا لا يتوقت هذا
المسح بمدة، ويجب الاستيعاب فيه كالغسل وإذا كان بالغسل لما تحتها صار في
الحكم لابساً الخفين بعد غسل القدمين، فلو جوزنا المسح على الخفين كان
المسح بدلاً عن الغسل لا عن المسح، فلا يؤدي إلى أن يكون البدل بدلاً من
جنسه، فأما المسح على الخف ليس كالغسل لما تحته، بدليل عكس هذه الأحكام، بل
هو بدل عن الغسل، فلو جاز المسح على الجرموق صار البدل بدلاً آخر من جنسه،
وإنه لا يجوز.
وإن كانت الجراحة بحال لا يقدر على المسح عليها وعلى ربط الخرق والجبائر،
فغسل الرجل الصحيحة ولبس الخف عليها، ثم أحدث وتوضأ جاز المسح على الخف في
الرجل الصحيحة؛ لأن الجراحة إذا كانت بهذه الصفة لا يلزمه في الرجل
المجروحة لا فرض الغسل ولا فرض المسح، فجعلت كالدامية وصار كأن له رجلاً
واحدة وهي الصحيحة لا غير فيمسح عليها إذ المسح لا يؤدي إلى الجمع بين
البدل والمبدل.
قال: وفي «نوادر الصلاة» لأبي سليمان عن محمد رحمه الله: رجل انكسرت يده
وهو على وضوء وربط الجبائر عليها ولبس خفيه ثم أحدث وتوضأ، ومسح على الخفين
والجبائر ثم برئت اليد، قال: يغسل موضع الجبائر ويصلي، ولو كان على غير
وضوء، حين انكسرت يده وربط الجبائر عليها ثم توضأ ولبس خفيه ثم أحدث وتوضأ
ومسح على الخفين والجبائر ثم برئت، قال: ينزع خفيه.
قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وجدت في بعض «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه
الله، فيمن أحدث وعلى بعض مواضع وضوءه جبائر فتوضأ ومسح عليه ثم لبس الخف
ثم برىء، فعليه أن يغسل قدميه، قال: ولو أنه لم يحدث بعد لبس الخفين حتى
برأ الجرح، وألقى الجبائر، وغسل مواضعه ثم أحدث، فإنه يتوضأ ويمسح على
الخفين.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا مسح على جبائر إحدى رجليه وغسل
الأخرى ولبس خفيه، ثم أحدث، فإنه ينزع الخف الذي على الرجل الذي عليه
الجبائر، ويمسح على الجبائر، ويمسح على الخف الآخر.
رجل بإحدى رجليه بثرة، فغسل رجليه ولبس الخف عليهما، ثم أحدث ومسح على
الخفين وصلى صلوات، فلما نزع الخف وجد البثرة قد انشقت وسال منها الدم وبطل
مسحه وهو لا يعلم أنها متى انشقت حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن
الفضل رحمه الله أنه قال: ننظر إذا كان رأس الجرح قد يبس، وكان الرجل لبس
الخف عند طلوع الفجر ونزعه بعد العشاء فإنه لا يعيد الفجر، ويعيد باقي
الصلوات، وإن نزع الخف ورأس الجراحة يسيل بالدم لا يعيد شيئاً من الصلوات.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «صلاة المستفتي» : إذا كان الرجل
مقطوع الأصابع، وبعض خفيه خالٍ عن القدم، فمسح عليه؛ ننظر إن وقع المسح على
المغسول مقدار ثلاثة أصابع جاز وما لا فلا، وكذلك إذا كان الخف واسعاً
وبعضه خالٍ عن القدم ويؤم الماسح الغاسل؛ لأنه صاحب بدل صحيح، والبدل
الصحيح حكمه عند العجز عن الأصل حكم الأصل والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل المسح على الجبائروعصابة المفتصد ومسألة الشقاق
قال ذكر في كتاب الصلاة، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «غريب الرواية»
: من ترك المسح على الجبائر وذلك لا يضره أجزأه، ولم يبين القائل، قال:
وسمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول: ذلك قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال
الحسن: قال أبو حنيفة
(1/182)
رحمه الله: إذا مسح على العصابة، فعليه أن
يمسح على موضع الجرح، وعلى جميع العصابة، صغيراً كان الجرح أو كبيراً أو
على الأكثر منها، فقد أوجب المسح، فصار عن أبي حنيفة رحمه الله روايتان.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله * والله أعلم * أيهما الأول وأيهما الآخر،
قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص السفكردري رحمه الله في «مختصر غريب
الرواية» ليس في روايتنا ما حكاه الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن كتاب
الصلاة، وإنما الذي في روايتنا: وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: إذا ترك
المسح على الجبائر، وذلك لا يضره لا يجزئه، فلعل ما ذكر الفقيه أبو جعفر
رحمه الله في رواياتهم.
وفي باب الوضوء والغسل من «الأصل» إذا اغتسل من الجنابة فمسح بالماء على
الجبائر التي على بدنه أو لم يمسح؛ لأنه يخاف على نفسه إن مسح يجزئه، ذكره
مطلقاً من غير أن يضيفه إلى أحد، ثم ذكر قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
كما حكاه الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله: أنه إذا ترك المسح
على الجبائر ولا يضره ذلك لا يجزئه.
وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «مختلف الرواية» : اختلاف المتأخرين في
قول أبي حنيفة رحمه الله، قال بعضهم: لا يخالف قول أبي يوسف ومحمد؛ لأنهما
قالا بعدم جواز الترك فيمن لا يضره المسح، وأبو حنيفة رحمه الله قال: يجوز
إن ترك المسح فيمن يضره ذلك وبعضهم حققوا الخلاف فيما إذا ترك المسح والمسح
لا يضره، فقالوا على قول أبي حنيفة رحمه الله يجزئه وعلى قولهما لا يجزئه.
وفي «شرح الطحاوي» : إن المسح على الجبيرة ليس بفرض عند أبي حنيفة رحمه
الله، وفي «تجريد القدوري» : إن الصحيح من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن
المسح على الجبيرة ليس بفرض، وإن كان لا يضره المسح.
وكان القاضي الإمام أبو علي الحسين بن الخضر النسفي رحمه الله يقول: المسح
على الجبائر إنما يجوز إذا كان لا يقدر على القرحة كما كان لا يقدر على
غسلها بأن كان يضرها الماء، أما إذا كان يقدر على القرحة على المسح لا يجوز
المسح على الجبائر، كما لو كان قادراً على غسلها، فلم يغسلها وكان يقول
ينبغي أن يحفظ هذا، فإن الناس عن هذا غافلون.
وإذا كان بإصبعه قرحة أدخل المرارة في إصبعه والمرارة تجاور موضع القرحة،
فمسح عليها جاز، وهل يكره إدخال المرارة في إصبعه لأجل الاستشفاء؟ لا شك
أنه إذا لم يكن فيه شيء من بول الشاة أنه لا يكره، وإن كان فيه شيء من بول
الشاة يكره، هكذا روي عن (27أ1) محمد رحمه الله. ويجب أن يكون قول أبي يوسف
رحمه الله في هذا كقول محمد رحمه الله؛ لأن عندهما يجوز شرب بول الشاة
للتداوي، فيجوز الاستشفاء به وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يكره؛ لأن على
قوله لا يجوز شربه للتداوي، فقد كره الاستشفاء به.
وكذلك إذا كان على بعض أعضائه جراحة، فجعل عليها الجبائر، والجبائر تزيد
(1/183)
على موضع الجراحة، فمسح عليها جاز، وكذلك
في المفتصد.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله لا يجيز المسح على عصابة
المفتصد، وإنما يجيزه على خرقة المفتصد لا غير، وذكر القاضي علاء الدين
محمود النسفي رحمه الله في، «مختلف الرواية» في حق المفتصد: أنه إن كان في
موضع يمكنه الشد بنفسه من غير إعانة أحد لا يجوز المسح على العصابة، وإن
كان في موضع يحتاج إلى العون يجوز المسح على العصابة.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: إذا كان حل العصابة وغسل
ما تحتها يضر بالجراحة يجوز المسح على العصابة وما لا فلا.
قال رحمه الله: وكذلك الحكم في كل خرقة جاوزت موضع القرحة وأما القرحة التي
تبقى من اليد بين العقدتين، فقد اختلف المشايخ فيها؛ بعضهم قالوا يجب
غسلها؛ لأنها.... به.
بعضهم قالوا: لا يجب غسلها، ويكفي المسح؛ لأنه لو أمر بالغسل ربما تبتلّ
جميع العصابة وتنفذ البلّة إلى موضع الفصد، فيتضرر وإذا مسح على الجبيرة أو
على عصابة المفتصد، هل: يشترط الاستيعاب؟ فقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم
شرطوا الاستيعاب، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر
القاضي الإمام الكبير أبو زيد رحمه الله في «الأسرار» .
وبعضهم لم يشترطوا ذلك؛ لأنه عسى يؤدي إلى إفساد الجراحة، ولكن إذا مسح على
أكثر العصابة يجوز، وإن مسح على النصف فما دونه لا يجوز، وبه كان يقول شيخ
الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله.
وهل يشترط تكرار المسح اختلفوا فيه أيضاً؟ قال بعضهم يشترط إلى الثلاث؛
لأنه لو كان بارئاً يغسل ثلاثاً، فكذا يمسح عليه ثلاثاً، إلا أن تكون
الجراحة في الرأس، فلا يشترط التكرار أيضاً، ومنهم من قال لا يشترط ويكتفي
بالمسح مرة واحدة وهو الصحيح.
وإذا انكسر عضو من أعضائه، وهو محدث فشد عليه العصابة ثم توضأ ومسح على
العصابة جاز؛ لأن المسح على العصابة بمنزلة غسل ما تحتها.
ولو غسل ما تحت العصابة ثم عصب عليها أليس إنه يجوز؟ كذا ههنا، وهذا بخلاف
المسح على الخفين، فإن اللبس إذا حصل مع الحدث لا يجوز المسح على الخف،
فالمسح على الجبائر يخالف المسح على الخف في حق أحكام من هذه، ومن أن المسح
على الخفين ينتقض بمضي مدة المسح، والمسح على الجبائر لا ينتقض إلا بالحدث
كالغسل، ومن جملتها أن ماسح الخف إذا نزع أحد خفيه يلزمه غسل الرجلين وإذا
سقطت الجبائر لا عن برء لا يلزمه الغسل أصلاً، وإن سقطت عن برء يجب غسل ذلك
الموضع خاصة.
(1/184)
وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي
حنيفة رحمه الله إذا مسح على الجبائر ثم نزعها ثم أعادها كان عليه أن يعيد
المسح عليها وإن لم يعد أجزأه، ورأيت في موضع آخر: إذا سقطت العصابة فبدلها
بعصابة أخرى، فالأفضل والأحسن أن يعيد المسح عليها، وإن لم يعد أجزأه؛ لأن
المسح على الأولى بمنزلة الغسل لما تحتها.
وفيه عن أبي يوسف رحمه الله: رجل به جرح يضره إمساس الماء فعصبه بعصابتين
ومسح على العليا ثم رفعها، قال: يمسح على العصابة الباقية بمنزلة الخفين
والجرموقين ولا يجزئه حتى يمسح.
وفي «الأصل» : إذا انكسر ظفره، فجعل عليه الدواء أو العلك، فتوضأ وقد أُمِر
أن لا ينزع عنه يجزئه، وإن لم يخلص إليه الماء، ولم يشترط المسح ولا إمرار
الماء على الدواء والعلك من غير ذكر خلاف، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه
الله وشرط إمرار الماء على العلك، قال: ولا يكفيه المسح، وذكر رحمه الله
أيضاً: إذا ألقى علقة على بعض أعضائه، فسقطت العلقة، فجعل الجبائر في موضع
العلقة، ولا يمكنه الغسل ولا إمرار الماء يلزمه المسح، فإن عجز عن المسح
أيضاً سقط فرض الغسل والمسح جميعاً، فيغسل ما حول ذلك الموضع ويترك ذلك
الموضع، فإن سقطت الجبائر، فإن كان السقوط عن برء يلزمه غسل ذلك الموضع وما
لا فلا.
وذكر رحمه الله أيضاً: إذا كان في أعضائه شقاق، وقد عجز عن غسله سقط عنه
فرض الغسل ولزمه إمرار الماء، فإن عجز عن إمرار الماء يكفيه المسح، فإن عجز
عن المسح أيضاً سقط عنه فرض الغسل والمسح، فيغسل ما حول ذلك الموضع ويترك
ذلك الموضع.
قال: وإذا كان الشقاق في يده ولا يمكنه استعمال الماء، وقد عجز عن الوضوء
يستعين بغيره حتى يوضئه، فإن لم يستعن وتيمم وصلى جازت صلاته عند أبي حنيفة
خلافاً لهما رحمهم الله، وإذا كان الشقاق في رجله فجعل (فيه) الدواء أو
الشحم أو العلك، ولا يمكنه إيصال الماء إلى قعره يؤمر بإمرار الماء فوق
الدواء، ولا يكلف إيصال الماء إلى قعره ولا يكفيه المسح، وإذا توضأ وأمرَّ
الماء على الدواء ثم سقط الدواء: إن سقط عن برء يفترض غسل ذلك الموضع وما
لا فلا كما في المسح على الجبائر والله أعلم.
الفصل السابع في النجاسات وأحكامها
هذا الفصل يشتمل على نوعين:
الأول: في معرفة الأعيان النجسة وحدّها، فنقول: الأعيان النجسة نوعان: مائع
وغير مائع، وكل نوع على قسمين: نجس باعتبار نفسه، ونجس باعتبار غيره وسنذكر
ههنا بعضها، وبعضها في كتاب الصلاة.
(1/185)
قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : كل ما
يخرج من بدن الإنسان مما يوجب الوضوء أو الغسل فهو نجس، كالغائط والبول
والدم والمني وغير ذلك، وقال الشافعي رحمه الله: المني طاهر لحديث عائشة
رضي الله عنها قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه
وسلّموهو يصلي» ، والمراد: حال الصلاة كما يقال فلان دخل الدار وهو راكب،
ولأنه أصل الآدمي يجب أن يكون طاهراً كرامة له، ولهذا اكتفي بالفرك، ولنا
قوله عليه السلام في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: «إنما يغسل الثوب من
خمسة من البول والغائط والمني والقيء والدم» ، وهو دليل على نجاسته إلا أنه
اكتفى فيه بالفرك، إما لأنه شيء لزج لا يداخل أجزاء الثوب كثيراً، وإنما
يصيب ظاهره، وذلك يزول بالفرك، ولا يبقى منه إلا شيء قليل، وإنه عفو، أو
لمكان الحرج، فإن إصابة المني اليابس إنما تكون باعتبار أن الجماع غالباً
إنما يكون في الثياب ويتعذر صيانة الثياب عنها، فلو كلف الغسل عند كل إصابة
يؤدي إلى الحرج، فسقط اعتباره وأقيم الفرك مقامه.
والأرواث والأخثاء كلما نجسة، وقال زفر ومالك: كلها طاهر، حجتهما أن
الأرواث وقود أهل الحرمين فإنهم يطبخون ويخبزون به ولو كان نجساً لما
انتفعوا (بها) ، وروي أن الشبان من الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا نزلوا
في أسفارهم يترامون بالأبعار ويتلاعبون بها، فلو كان نجساً لما استعملوها،
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «طلب مني رسول الله صلى الله عليه
وسلّمأحجار الاستنجاء ليلة الجن؛ فأتيته بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى
بالروثة، وقال: إنها رجس» أي نجس، وروى المعلى عن محمد رحمه الله أنه قال:
الروث لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً فاحشاً، قيل: هذا آخر قوله رجع
إلى هذا القول حين طلع مع الخليفة إلى الري، ورأى أسواقهم وسككهم مملوءة من
الأرواث، فرجع إلى هذا القول لدفع البلوى.r
قال مشايخنا على قياس هذه الرواية لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً
فاحشاً، مع أن التراب مخلوط في العذرات دفعاً للبلوى، وكان الشيخ الإمام
الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله لا يعتمد على هذه الرواية، وكان يقول
البلوى إنما تكون في النعال والنعال مما يمكن خلعها، وقد اعتاد الناس خلع
النعال، وليس فيه كثير ضرورة والصلاة بغير النعل أحمد، والكثير الفاحش فيه
يمنع جواز الصلاة.
وقد ذكرنا خرء ما يؤكل لحمه من الطيور (27ب1) كالحمامة والعصفور والبط
والحدأة.
(1/186)
وأما خرء ما لا يؤكل لحمه نحو سباع الطير،
كالصقر والبازي وغيرها من الحدأة وأشباهها، فهو طاهر في قول أبي حنيفة،
وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: هو نجس، فوجه قول محمد رحمه الله، وهو الفرق له بين
خرء هذه الطيور، وبين خرء العصفور والحمامة، أن هذه الطيور لا تخالط الناس
فيمكن التحرز عن خرئها بخلاف الحمامة والعصفور؛ لأنهما تخالطان، فلا يمكن
التحرز عن خرئهما.
ولهما أن هذه الحيوانات تذرق من الهواء، وفي التمييز بينما يخالطونا وبينما
لا يخالط الناس، فيحتاج إلى التأمل في كل جانب، وفيه حرج على أن ما قال من
المعنى لا يتأتى في الصقر والبازي والشاهين، فإن الناس يخالطوهما أكثر مما
لا يخالطون الحمام والعصفور.
والأبوال كلها نجسة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: بول ما يؤكل لحمه طاهر حجته في ذلك حديث العرنيين،
فإنه روى «أن قوماً من عرينة جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام بالمدينة
فاجتووها فانتفخت بطونهم واصفرت ألوانهم، فأمرهم رسول الله عليه السلام أن
يخرجوا إلى إبل الصدقات، فيشربوا من أبوالها وألبانها» ، فقد أمرهم بشرب
الأبوال، فلو كانت نجسة لما أمرهم بذلك مع قوله عليه السلام: «إن الله
تعالى لم يجعل في نجس شفاء» وإذا ثبت أنه طاهر، فإذا أصاب الثوب لا يمنع
جواز الصلوة فيه وإن فحش، وإذا وقع في الماء القليل لا يمنع التوضؤ به إلا
أن يغلب على الماء، فحينئذٍ لا يجوز التوضؤ به لا لأنه نجس، ولكن لأنه صار
شيئاً آخر، ألا ترى أنه لو وقع اللبن في الماء القليل واللبن غالب لا يجوز
التوضؤ به، وإنما لا يجوز لأنه صار شيئاً آخر لا لنجاسة اللبن، كذا ههنا.
لهما ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال:
«استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» ، ولأن بول الآدمي نجس مع
أنه أطهر الحيوانات فبول هذه الحيوانات أولى، وأما حديث العرنيين، فالتمسك
به لا يصح؛ لأنه روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله عليه
السلام أمرهم بشرب ألبانها» ، ولم يذكر الأبوال، ولو ثبت فهو محمول على أن
رسول الله عليه السلام عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ويحل تناول النجس
إذا علم حصول الشفاء، ألا ترى أن من اضطر إلى ميتة إن أصابه جوع مفرط يخاف
منه الهلاك ولم يجد إلا ميتة يباح له التناول؛ لعلمه أنه يزول به الجوع
والجوع داء، وكذلك إذا اضطر إلى خمر بأن أصابه عجز مفرط ولا يجد إلا
(1/187)
خمراً جاز له الشرب منها بقدر ما يزول به
العطش، لعلمه أنه يزول به العطش والعطش داء.
ويحتمل أنه كان مباحاً في الابتداء، ثم انتسخ إباحته بقوله عليه السلام:
«استنزهوا (من) البول» .
ثم إن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله اختلفا فيما بينهما، قال أبو حنيفة
لا يجوز شربه للتداوي ولغيره، وقال أبو يوسف يجوز شربه للتداوي، ولا يجوز
شربه لغيره. فأبو يوسف قال القياس ما قاله أبو حنيفة، ولكن تركنا القياس
بالأثر والأثر أباح شربه للتداوي، فبقي الشرب لغير التداوي على أصل القياس.
وبول الهرة نجس لو أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم منع جواز الصلاة هو
الظاهر من المذهب، وحكي عن محمد بن محمد بن سلام رحمه الله أنه كان يقول:
لو ابتليت به لغسلت ولكن آمر غيري بإعادة الصلاة.
وأما بول الفأرة إذا وقع في الماء أفسد الماء، حتى لا يجوز التوضؤ به بخلاف
سؤره، والقياس أن يكون سؤره نجساً لأن لعابه نجس لنجاسة لحمه، لكن أسقطنا
النجاسة في اللعاب لمكان الضرورة، فإنها تقصد الماء وتشرب، وصون الأواني
عنها غير ممكن، أما الضرورة في البول (فتنتفي) لأنها لا تقصد الماء لتبول
فيه، فيحكم بنجاسته.
وأما بول الفأرة إذا أصاب الثوب، فقد قال بعض مشايخنا إنه ينجس الثوب وقاسه
على الماء، وقال بعضهم: لا ينجسه وفرق بين الثوب والماء، والفرق أن صيانة
الثوب في الغالب يكون بالثياب؛ بأن يلف البعض في البعض ومتى صين على هذا
الوجه، وبال على الثوب الأعلى يصل إلى باقيه ويتنجس، فصيانة الثياب عن بول
الفأرة غير ممكن، فصار البول معفواً عنه في الثياب.
أما الماء يصان في الأواني، والأواني مما يُخمر وبعد التخمير تقع الصيانة
للماء لا محالة، فلم يكن البول معفواً عنه في الماء، وعن محمد رحمه الله
أنه قال: ولا أرى ببول الفأرة بأساً، وذهب في ذلك إلى أن البلوى في بولها
ظاهر، وإن وجد رائحته في الثوب، ولا يستيقن فالتنزه أولى، وإن صلى فيه لم
أقل بأنه لا يجزئه، وبعض مشايخنا قالوا: لا ينجسه، إلا أن هذا القائل يجعل
أثر البلوى في التخفيف لا في صلب أصل النجاسة.
وقال الحسن بن زياد رحمه الله لو أن بعرة من بعر الفأرة وقعت في وقر حنطة،
وطحنت لم يجز أكلها، ولو وقعت في دهن فسد الدهن.
وقال محمد بن مقاتل رحمه الله لا تفسد الحنطة والدهن ما لم يتغير طعمه، قال
الفقيه أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ.
وفي مسائل أبي حفص رحمه الله في بعر الفأرة: إذا وقع في الزيت أو الخل إنه
لا يفسده.
وعن الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن الفضل الخيزاخزي رحمه الله أنه قال:
وقعت في هذه المسألة، فسألت أبا إسحاق الضرير، فقال: لو كان لي لشربت وأنا
لم
(1/188)
أشرب، وليس بول الخفاش وخرؤه بشيء؛ لأنه لا
يستطاع الامتناع عنه، وليس دم البق والبراغيث بشيء وإن كثر لأنه ليس بدم
مسفوح، وأما دم الحلم والأقراد فنجس لأنه دم مسفوح والاحتراز عنه ممكن،
وإذا أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم يمنع جواز الصلوة.
في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: الدم يخرج من الكبد إن لم يكن من غيره
متمكناً فيه فهو طاهر؛ لأن الكبد دم جامد وكذلك اللحم المهزول إذا قطع،
فالدم الذي فيه ليس بنجس، هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر رحمه الله، وكان
الصدر الشهيد رحمه الله يرفض هذا القول ويقول: إن لم يكن هذا دماً فقد جاور
الدم، والشيء ينجس بنجاسة المجاور.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في موضع آخر: ذكر مسألة اللحم مطلقة، ولم
يقيد بالمهزول.
ورأيت في موضع آخر: الطحال إذا شق وخرج منه دم فليس بشيء، وكذلك الدم الذي
في القلب ليس بشيء، ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بين دم ودم.
وفي «عيون المسائل» : الدم الملتزق باللحم إن كان ملتزقاً من الدم السائل
بعدما سال كان نجساً، وإن لم يكن ملتزقاً من الدم السائل لم يكن نجساً،
وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: أن غسالة الدم إذا أصابت الثوب لم تجز
الصلاة فيه، وإن صب في بئر يفسد الماء يريد به الدم الذي بقي في اللحم
ملتزقاً به، ولو طبخ اللحم.
وفي «القدوري» صفرة أو حمرة، فلا بأس به، ورد الأثر في غير هذه الصورة عن
عائشة رضي الله عنها، وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه إنما
يحرم الدم المسفوح وهو السائل، فأما ما يكون في اللحم ملتزقاً به فلا بأس،
وعن أبي يوسف رحمه الله يفسد برواية ابن سماعة، إنما يحرم الدم المسفوح
الذي يسكن العروق، وإذا فجر سال، فهذه الروايات تبين لنا أن في الطعن في
مسألة اللحم المهزول كلام.
وفي «الجامع الأصغر» عن أبي جعفر الكبير: أن الطين إذا جعل فيه السرقين
وطُين به شيء ويبس، لا بأس بأن يوضع عليه منديل مبلول.
وسئل هو عن سرقين جاف أو التراب النجس إذا هبت به الريح وأدخلته في الثوب
لا ينجسه ما لم ير أثره.
التبن النجس، إذا استعمل في الطين، إن كان يرى مكانه كان نجساً، وإن لم ير
مكانه لا يكون نجساً؛ لأنه مستهلك في الوجه الأول دون الثاني.
ولو يبس يحكم بطهارته، ولو أصابه الماء فهو على الروايتين إذا كان الماء أو
التراب نجساً، أما الطين فيها يكون طاهراً، هكذا حكي عن الفقيه أبي نصر
محمد بن سلام رحمه الله.
وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله يقول: العبرة للماء، إن كان الماء
طاهراً فالطين طاهر، وإن كان الماء نجساً، فالطين نجس، وقد قيل على العكس
أيضاً وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: الطين نجس، وبعضهم
قالوا على (28أ1) قول محمد رحمه الله: الطين يكون طاهراً، وعلى قول أبي
يوسف رحمه الله يكون نجساً،
(1/189)
وجعلوه فرعاً لمسألة أخرى: إن السرقين أو
العذرة إذا احترقت وصارت رماداً، فالمذهب عند محمد رحمه الله أن النجس يطهر
بالتغيير والاستحالة، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله.
إذا لف الثوب النجس في ثوب طاهر، والنجس رطبة مبتلة، فظهر ندوته على الثوب
الطاهر، ولكن لم يصر رطباً، بحيث لو عصر يسيل منه شيء ويتقاطر اختلف
المشايخ فيه:
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والأصح أنه لا يصير نجساً، وكذلك الثوب
الطاهر اليابس إذا بسط على أرض نجسة مبتلة، وظهر أثر بلة النجاسة في الثوب،
إلا أنه لم يصر رطباً ولم يصر بحال لو عصر يسيل منه شيء ويتقاطر، اختلف
المشايخ، قال شمس الأئمة رحمه الله: والأصح أنه لا يصير نجساً ذكر هذين
الفصلين في «صلاة المستفتي» إذا وضع رجله على أرض نجسة، أو على لبد نجس، إن
كانت الرجل رطبة والأرض أو اللبد يابساً، وهو لم يقف عليه بل مشى لا تتنجس
رجله، ولو كانت الرجل يابسة والأرض رطبة وظهرت الرطوبة في الرجل تتنجس
رجله، وفي بعض المواضع لا يشترط ظهور الرطوبة في الرجل؛ لأنه يظهر أثر
الرطوبة في الرجل لا محالة.
وإذا نام الرجل على فراش قد أصابه مني ويبس، فعرق الرجل وابتل الفراش من
عرقه، إن لم يصب بلل الفراش جسده لا يتنجس جسده، وإن أصاب بلل الفراش جسده
يتنجس جسده.
وفي «مجموع النوازل» : عن أبي بكر الوراق رحمه الله سئل عمن توضأ بشط نهر
ومشى حافياً إلى المسجد، قال: كاد أن ينكسر ظهري في زعم بعض الناس يتوضؤون
على شطوط الأنهار، ويغسلون أقدامهم ويمشون حفاة ورجلاهم رطبة إلى مساجدهم،
فينجسون الحصر والبواري وتفسد صلواتهم وصلاة أهل المسجد، ووبال ذلك عليهم،
ثم ينصرفون كذلك حفاة إلى منازلهم، وينامون مع أزواجهم، فتتنجس فرشهم وأيدي
أزواجهم وأرجلهم وجميع أعضائهن، فيصلين ولا يشعرن بذلك، فتفسد صلاتهن،
ووبال ذلك عليهم وأكثر هذا الخوف على أرباب الدواب، وأهل الرساتيق الذين
يحتاجون إلى الدخول على الدواب والمرابط كل يوم كذا مرة، وقد قيل في.....:
إنه يرمى بالدم، فإن كان كذلك نجساً والثوب المصبوغ به أيضاً يكون نجساً،
فيغسل ثلاث مرات ويحكم بطهارته عند أبي يوسف رحمه الله، وقد سألنا عن معارف
النجار فأخبرونا أنه لا يرمى بالدم، وسمعنا أيضاً أن أهل فارس يستعملون
البول في الديباج عند النسج، ويقولون: إن البول يزيد في بريقه، فإن كان
كذلك لا شك أن ديباجهم يكون نجساً، ولا تجوز معه الصلاة إلا بعد الغسل ثلاث
مرات عند أبي يوسف رحمه الله، وقد وقع عند بعض الناس أن الصابون نجس؛ لأنه
يتخذ من دهن الكتان، ودهن الكتان نجس لأن
(1/190)
أوعيته تكون مفتوحة الرأس، والغالب يقصد
شربها ويقع فيها غالباً، ولكنا لا نفتي بنجاسة الصابون لأنا لا نفتي بنجاسة
الدهن؛ لأن الأصل الطهارة، والنجاسة يعارض أمراً نادراً وقع، إنما نفتي
بنجاسة الدهن، ولا نفتي بنجاسة الصابون؛ لأن الدهن قد تغير وصار شيئاً آخر،
وقد ذكرنا أن من مذهب محمد رحمه الله أن النجس يصير طاهراً بالتغيير، يفتى
فيه بقول محمد رحمه الله لمكان عموم البلوى.
وفي «الجامع الأصغر» : سئل خلف عمن ألقى حجراً ملطخاً بالعذرة في نهر كبير
جار، فارتفعت قطرات من الماء فأصاب ثوبه، قال: إن كان ذلك من الماء المتصل
بالحجر، فسد وإن كان من غير ذلك الماء، فلا بأس به، وإن لم يعلم، فأحب إليّ
أن يغسله، ويسعه أن يصلي فيه من غير أن يغسله.
وفي «الفتاوى» : سئل ابن شجاع عن هذه المسألة، فقال عليه أن يغسله، وبه قال
نصر بن يحيى رحمه الله، وقال إبراهيم بن يوسف لا يضره ذلك، وبه قال أبو بكر
إلا إن ظهر فيه لون النجاسة، قال أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ. وفيه عن
إبراهيم: حمار يبول في الماء، فيصيب من ذلك الرش ثوب إنسان، قال: لا يضره
وهو ماء حتى يستيقن أنه بول، قال الفقيه: وبه نأخذ.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» : في الفرس إذا مشى على الماء وعليه راكب
وأصاب ثوبه من ذلك الماء، عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري
أنه إذا كان في رجل الفرس نجاسة نحو السرقين وغيره صار الثوب نجساً، سواء
كان الماء جارياً أو راكداً، وإن لم يكن في رجله نجاسة لا يضره.
سئل أبو نصر عمن يغسل الدابة، فيصيب من مائها أو من عرقها، قال لا يضره
ذلك، قيل: فإن كانت تمرغت في بولها وروثها، قال: إذا جف وتناثر وذهب عينه
لا يضر أيضاً.
وفي «الأصل» : رجل مر بكنيف فسال عليه من ذلك الكنيف شيء، قال: إن علم
بنجاسته فعليه غسله، وإن علم بطهارته لا يجب عليه غسله، وإن لم يعلم
بنجاسته ولا بطهارته، ولم يجد من يسأل عنه يتحرى، ويبني الأمر على ما
يستيقن عليه رأيه، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام
شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله: إنما بنى هذا الجواب على عرف
ديارهم، أما في عرف ديارنا يغسله لا محالة؛ لأن الكنيف في ديارنا معد لصب
النجاسة لا يصب فيه إلا النجاسة، أما في ديارهم: الكنيف كما يعد لصب
النجاسة يعد لصب غسالة القدر، قال شيخ الإسلام: هذا وقياس كنيفهم بما عندنا
الميازيب، فإنه يصب فيه الماء وغيره، فلا جرم لو أصابه شيء من الميزاب كان
الجواب على ما ذكره في «الكتاب» .
(1/191)
وعن أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه
الله: أن من مر بكنيف وسال منه شيء وهبت به الريح وانتضح عليه منه شيء مثل
رؤوس الإبر، قال: هذا ليس بشيء، ولا يجب عليه الغسل وإن استيقن أنه بول،
وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، والمذكور في «الأصل» إذا انتضح عليه
البول مثل رؤوس الإبر، فليس ذلك بشيء، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، قال
الفقيه أبو جعفر رحمه الله: قوله: رؤوس الإبر دليل أن الجانب الآخر من
الإبرة معتبرة، وليس عندنا هكذا، بل لا يعتبر.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذ انتضح من البول بشيء يرى
أثره لا بد من غسله، ولو لم يغسل، وصلى كذلك، فكان إذا جمع كان أكثر من قدر
الدرهم أعاد الصلاة.
ذباب المستراح إذا جلس على ثوب رجل فقد قيل لا بأس به؛ لأن التحرز عنه غير
ممكن، وقيل: لا بأس به إذا فحش.
ذكر النوع الثاني من الفصلفي بيان مقدار النجاسة التي تمنع جواز الصلاة
يجب أن يعلم بأن القليل من النجاسة عفو عندنا، لما روي أن عمر رضي الله عنه
سئل عن قليل النجاسة في الثوب، فقال: «إذا كان مقدار ظفري هذا لا يمنع جواز
الصلاة» ، ولأن التحرز عن قليل النجاسة غير ممكن، فإن الذباب يغفو على
النجاسة ثم يغفو على ثياب المصلي، لا بد وأن يكون (في) أجنحتهن وأرجلهن
نجاسة، فجعل القليل عفواً لمكان البلوى، وقد صح أن أكثر الصحابة كانوا
يكتفون بالاستنجاء بالأحجار، وإنه لا يزيل أصل النجاسة لولا أن القليل من
النجاسة عفو، وإلا لما اكتفوا به.
ثم النجاسة نوعان: غليظة، وخفيفة، فالغليظة إذا كانت قدر الدرهم أو أقل فهي
قليلة لا تمنع جواز الصلاة، وإن كانت أكثر من قدر الدرهم منعت جواز الصلاة،
ويعتبر الدرهم الكبير دون الصغير، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير»
الدرهم الكبير أكبر ما يكون من الدرهم ولم يبين أنه أراد بالكبير من حيث
العرض والمساحة أو من حيث الوزن، وذكر في «النوادر» أن الدرهم الكبير أكبر
ما يكون من الدراهم كالدراهم السود الزبرقانية، درهم كبير أسود ضربه
الزبرقان، وقال في موضع آخر: الدرهم ما يكون عرض الكف كالدرهم السهيلي،
فهذا اعتبار التقدير من حيث العرض.
ومن المشايخ من قال: إنما يعتبر أكبر ما تكون الدراهم من نقود زمانهم أما
ما كان من النقود وانقطع لا يعتبر، وذكر في «كتاب الصلاة» : واعتبر الكبير
من حيث الوزن، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله يوفق بين ألفاظ محمد رحمه
الله، فنقول (28ب1) أراد بالتقدير من حيث الوزن تقدير النجاسة الغليظة، وهو
الصحيح من المذهب أن في الرقيقة يعتبر الدرهم من حيث العرض، وفي الغليظة
يعتبر الدرهم من حيث الوزن، ثم إنما قدروا بالدرهم، لما روي عن عمر رضي
الله عنه أنه قدره بظفره، وظفره كان يبلغ قدر الدرهم الكبير واعتباراً
لموضع الحدث؛ لأن الشرع عفى عن النجاسة التي في موضع الحدث،
(1/192)
فإنه حكم بطهارته بالاستنجاء بالحجر، وإنه
يزيل العين لا الأثر، والأثر مانع جواز الصلاة كالعين، فدل أن الشرع عفا عن
النجاسة التي في موضع الحدث، وموضع الحدث يبلغ قدر الدرهم الكبير لكن
استقبحوا ذكر موضع الحدث، فكنوا عنه بالدرهم، هكذا قاله إبراهيم النخعي
رحمه الله.
وأما النجاسة الخفيفة، فالتقدير فيها بالكثير الفاحش هكذا ذكر محمد رحمه
الله في هذا «الكتاب» ، وفي «الأصل» ولم يبين لذلك حداً، وروى بشر بن غياث
عن أبي يوسف رحمه الله، قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله عن حد الكثير الفاحش
فكره أن يحد فيه حداً، فقال: الكثير الفاحش ما يستفحشه الناس ويكثرونه،
وكان لا يقدر ما استطاع؛ لأن المقادير لا تعرف قياساً.
وروى الحسن في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش شبر
في شبر في «كتاب الصلاة» للمعلى قال: هو شبر أو أكثر، وعن محمد رحمه الله
أنه قال: الكثير الفاحش هو ربع الثوب، وذكر أبو علي الدقاق رحمه الله في
كتاب «الحيض» : الكثير الفاحش عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله ربع الثوب،
وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش مقدار باطن الخفين
معاً، وأن يستوعب القدمين، وروي عن محمد رحمه الله أن الفاحش في الخف أكثر
الخف، وإنما خص الخف بالأكثر على هذه الرواية؛ لأن الضرورة فيه مستدامة
خصوصاً لسايس الدواب، فقدر الفاحش فيه بالأكثر إظهاراً لتوسعه، وقد اختلفت
الروايات فيه عن أبي يوسف رحمه الله، ذكر في «كتاب الصلاة» : أنه شبر في
شبر، قاله الفقيه أبو الليث رحمه الله، وهكذا ذكر في «الأمالي» .
وفي «صلاة الأثر» قال أبو يوسف رحمه الله في لعاب الحمار: قدر شبر فاحش
يعيد منه الصلاة، وفي عرفه الفاحش أكثر من شبر، وفي الوضوء أكثر من شبر على
أصله، وذكر الطحاوي في «مختصره» عن أبي يوسف ذراعاً في ذراع، وقيل على قوله
على قياس مسائل كثيرة، الكثير الفاحش أكثر من النصف، في النصف روايتان.
قال مشايخنا: الأصح التقدير بالربع؛ لأن الربع أقيم مقام الكل في كثير من
الأحكام، المسح ربع الرأس أقيم مقام الكل، وكحلق ربع الرأس في الإحرام أقيم
مقام حلق الكل، وكذا كشف ربع العورة أقيم مقام كشف الكل.
ثم اختلف المشايخ في كيفية اعتبار الربع بعضهم، قالوا: يعتبر ربع جميع
الثوب لأن اسم الثوب يقع على المحيط بجميع أجزائه، فيصير ربع جميع الثوب
إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم، حكي عن أبي بكر الرازي أنه يعتبر ربع
السراويل احتياطاً؛ لأنه أقصر الثياب، ومنهم من قال: يعتبر ربع ثوب كامل،
وقال بعض المشايخ: يعتبر ربع الطرف الذي أصابه النجاسة، يعني: ربع الكم أو
الذيل أو الدخريص.
بعد هذا يحتاج إلى الحد الفاصل بين الغليظة والخفيفة: قال القدوري رحمه
الله في «شرحه» : النجاسة الغليظة عند أبي حنيفة رحمه الله كل عين ورد في
نجاستها نص ولم
(1/193)
يعارضه نص آخر اختلف الناس فيها أو اتفقوا
فيها، أشار إلى أنه إذا عارضه نص آخر فهي خفيفة اتفق الناس فيها أو
اختلفوا، وهذا لأن النص يعارض النص، فإن لم يعمل بأحدهما بدليل فلا أقل من
أن يؤثر في تخفيف حكمه، أما إذا لم يعارضه نص لا يخفف حكم النجاسة، اختلف
الناس فيها أم اتفقوا؛ لأنه لم يعارض النص (إلا الاختلاف) ، والاختلاف ليس
بحجة بمقابلة النص إلى النص حجة، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: ما شاع
الاجتهاد في طهارته فهو مخفف؛ لأن الاجتهاد حجة في حق وجوب العمل كالنص.d
وثمرة الاختلاف تظهر في الأرواث: عند أبي حنيفة رحمه الله نجاستها غليظة؛
لأنه ورد فيه النص، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ما روينا، ولم
يعارض هذا الحديث نص آخر فيتغلظ؛ وعندهما نجاستها خفيفة لاختلاف العلماء
فيه، ولمكان البلوى، فإن الطرق مملوءة فيها، وقد يحتاج الإنسان إلى سوق
الدواب فيمشي عليها، فيصيبه الروث على وجه لا يمكنه الدفع عن نفسه،
وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في سؤر الهرة، فلأن يكون لها أثر في
التخفيف أولى وقد ذكرنا رواية «المعلى» عن محمد رحمه الله أنه قال: الروث
لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً فاحشاً.
ونجاسة بول ما يؤكل لحمه على قول من يقول بنجاسته خفيفة، حتى لو أصاب الثوب
لا يمنع جواز الصلاة ما لم يكن كثيراً فاحشاً، وإذا وقع قطرة في الماء
أفسده؛ لأن القليل في الماء يصير كثيراً، وإنما كانت نجاسته خفيفة إما لأن
بنجاسته اختلاف، فتخفف نجاسته، أو لأن فيه ضرورة وللضرورة أثر في التخفيف.
قال الفقيه أحمد بن إبراهيم: إن أصحابنا جعلوا القيء في «ظاهر الرواية»
كالعذرة والبول، حتى قالوا إذا أصاب يده القيء، وهو أكثر من قدر الدرهم لا
تجوز الصلاة معه، وفي رواية الحسن رحمه الله ما جعله كذلك حتى كان التقدير
فيه بالكثير الفاحش على رواية الحسن، ووجه ذلك أن القيء في الأصل طعام طاهر
وقد تغير عن حاله، فلا هو طعام طاهر على الكمال ولا استحال غائطاً على
الكمال، فلا تعطى له درجة الطاهر ولا درجة البول والغائط، بل يحكم له بحكم
التخفيف؛ ليكون حكمه مأخوذاً من كل الأصل، فيتقدر فيه بالكثير الفاحش، كما
في سائر النجاسات الخفيفة.
ونجاسة سؤر سباع البهائم غليظة في إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وفي
رواية أخرى عنه خفيفة، وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وعلل أبو يوسف فقال:
الناس اختلفوا في نجاسة سؤر سباع البهائم وطهارته، فأوجب ذلك تخفيفاً فيه
كبول ما يؤكل لحمه.
والخمر: وهي التي من ماء العنب إذا غلى وقذف بالزبد واشتد، نجاستها غليظة،
وإذا طبخ أدنى طبخة وغلى واشتد وقذف بالزبد، فنجاستها غليظة، إليه أشار
محمد رحمه الله في كتاب الأشربة، قالوا: هكذا روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي
يوسف رحمة الله عليهما، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه
الله أن على قول
(1/194)
أبي حنيفة، وأبي يوسف يجب أن تكون نجاستها
خفيفة، والفتوى على الأول أن نجاستها غليظة والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في أسآره أن النجاسة إذا أخرجت من البئر ولم
ينزح شيء من الماء بعد، فنجاسة الماء غليظة، ثم بقدر ما ينزح من الماء تخف
النجاسة وتقل قال: وهذا كما قلنا في الكلب إذا ولغ في إناءين، فغسلت
إحداهما مرة وغسلت الأخرى مرتين، إن كل واحد منهما نجس ثم غسلا مرة مرة،
فإن الذي غسل في المرة الأولى مرتين طهر والآخر لا يطهر ما لم يغسل مرة
باليد.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: نجاسة الثوب إذا غسل
الثوب ينبغي أن يكون على هذا القياس.
بيانه: في الثوب النجس إذا غسل في ماء طاهر وعصر ثم غسل في ماء آخر على هذا
القياس طاهر، وعصر ثم غسل في ماء ثالث طاهر وعصر، فإن الثوب يطهر والمياه
كلها نجسة، ولو أنه أصاب هذا الماء الثالث ثوباً ينبغي أن يطهر هذا الثوب
بالعصر، وإن لم يغسل؛ لأن ما دخل فيه من النجاسة لو كانت في الثوب الأول،
فكان يطهر بالعصر، ولا يحتاج فيه إلى الغسل، ولو أصاب الماء الثاني كانت
طهارته بالعصر والغسل مرة، ولو أصاب الماء الأول كانت طهارته بالعصر والغسل
مرتين، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أن الماء
الثاني أو الثالث من غسالة الثوب النجس إذا أصاب الثوب لا يطهر الثوب إلا
بالغسل ثلاثاً، وفرق (29أ1) بين مسألة البئر وبين مسألة الثوب، وفي «شرح
الجامع» من تعليقي في مسألة الثوب أن نجاسة المياه على نمط واحد عند أبي
يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله نجاستها مختلفة.
فمن حكم الماء الأول أنه إذا أصاب ثوباً آخر لا يطهر إلا بالغسل ثلاث مرات،
ومن حكم الماء الثاني أنه إذا أصاب الثوب لا يطهر إلا بالغسل مرتين، ومن
حكم الماء الثالث أنه إذا أصاب الثوب يطهر بالغسل مرة؛ لأن بالغسل تحولت
النجاسة من الثوب إلى الماء، فيصير الماء والذي أصابه هذا الماء على الصفة
التي كان الثوب الأول، والثوب الأول حال إصابته النجاسة كان بحال لا يطهر
إلا بالغسل ثلاثاً، وبعد الغسل الأول كان بحال لا يطهر إلا بالغسل مرتين،
وبعد الغسل الثاني كان بحال يطهر مرة بالغسل، فكذا الذي أصابته هذه المياه
على هذا الترتيب والله أعلم.
في تطهير النجاسات
يجب أن تعلم أن إزالة النجاسة واجبة، قال الله تعالى: {والرجز فاهجر}
(المدثر: 5) وقال تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) وإزالتها إن كانت مرئية
بإزالة عينها وأثرها إن كانت شيئاً يزول أثرها ولا يعتبر فيه العدد، وإن
كان شيئاً لا يزول أثرها فإزالتها بإزالة عينها ويكون ما بقي من الأثر
عفواً، وإن كان كثيراً، وإنما اعتبرنا زوال العين، والأثر فيما يزول
(1/195)
الأثر؛ لأن النجاسة كانت باعتبار العين
والأثر، فيبقى ببقائهما ويزول بزوالهما، وإنما لم يعتبر زوال الأثر فيما لا
يزول أثرها لما روي عن رسول الله عليه السلام «أنه قال لخولة حين سألته عن
دم الحيض: اغسليه ولا يضرك أثره» ، والمعنى في ذلك الحرج.
بيانه: أن المرأة إذا خضبت يدها أو رأسها بحناء نجسة، لو شرطنا زوال الأثر
لثبوت الطهارة تقاعدت عن الصلاة أياماً كثيرة، وفيه من الحرج ما لا يخفى،
وكذلك الرجل إذا صبغ ثوبه بصبغ نجس لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة
لتقاعد عن الصلاة إذا لم يكن له إلا هذا الثوب، وإنه قبيح.
وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أن المرأة إذ خضبت يدها بحناء
نجسة أو الثوب إذا صبغ بصبغ نجس غسلت يدها وغسل الثوب إلى أن يصفو ويسيل
معه ماء أبيض، ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، ويحكم بطهارة يدها وبطهارة الثوب
بالإجماع.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يذكر مسألة الحناء والثوب المصبوغ بالصبغ
النجس، ويقول على قول محمد رحمه الله لا يطهر، وكان الفقيه أبو إسحاق هذا
رحمه الله يقول في الدم إذا كان عنيفاً لا يذهب أثره بالغسل، يغسل إلى أن
يصفو أو يسيل الماء من الثوب على لونه ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، وكذلك
الصديد وغيرها من النجاسات العنيفة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا غمس الرجل يده في سمن نجس، ثم غسل
اليد في الماء الجاري بغير حرض، وأثر السمن باق على يده، طهرت به، لأن
نجاسة السمن باعتبار المجاور، وقد زال المجاور عنه، فيبقى على يده سمن
طاهر، وهذا لأن تطهير السمن بالماء ممكن، ألا ترى إلى ما روي عن أبي يوسف
رحمه الله في الدهن إذا أصابته نجاسة أنه يجعل في إناء «ويصبّ عليه الماء
ثلاثاً» ، فغسله الدهن فيرفع بشيء، هكذا نفعل ثلاث مرات ويحكم بطهارته في
المرة الثالثة.
وإن زال العين والأثر في المرة الأولى هل يحكم بطهارة الثوب، اختلف المشايخ
فيه منهم من قال تطهر؛ لأن النجاسة كانت بسبب العين وقد انتفت بزوال العين،
فيحكم بطهارة الثوب كما لو غسله ثلاثاً.
في تطهير النجاسات
يجب أن تعلم أن إزالة النجاسة واجبة، قال الله تعالى: {والرجز فاهجر}
(المدثر: 5) وقال تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) وإزالتها إن كانت مرئية
بإزالة عينها وأثرها إن كانت شيئاً يزول أثرها ولا يعتبر فيه العدد، وإن
كان شيئاً لا يزول أثرها فإزالتها بإزالة عينها ويكون ما بقي من الأثر
عفواً، وإن كان كثيراً، وإنما اعتبرنا زوال العين، والأثر فيما يزول الأثر؛
لأن النجاسة كانت باعتبار العين والأثر، فيبقى ببقائهما ويزول بزوالهما،
وإنما لم يعتبر زوال الأثر فيما لا يزول أثرها لما روي عن رسول الله عليه
السلام «أنه قال لخولة حين سألته عن دم الحيض: اغسليه ولا يضرك أثره» ،
والمعنى في ذلك الحرج.
بيانه: أن المرأة إذا خضبت يدها أو رأسها بحناء نجسة، لو شرطنا زوال الأثر
لثبوت الطهارة تقاعدت عن الصلاة أياماً كثيرة، وفيه من الحرج ما لا يخفى،
وكذلك الرجل إذا صبغ ثوبه بصبغ نجس لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة
لتقاعد عن الصلاة إذا لم يكن له إلا هذا الثوب، وإنه قبيح.
وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أن المرأة إذ خضبت يدها بحناء
نجسة أو الثوب إذا صبغ بصبغ نجس غسلت يدها وغسل الثوب إلى أن يصفو ويسيل
معه ماء أبيض، ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، ويحكم بطهارة يدها وبطهارة الثوب
بالإجماع.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يذكر مسألة الحناء والثوب المصبوغ بالصبغ
النجس، ويقول على قول محمد رحمه الله لا يطهر، وكان الفقيه أبو إسحاق هذا
رحمه الله يقول في الدم إذا كان عنيفاً لا يذهب أثره بالغسل، يغسل إلى أن
يصفو أو يسيل الماء من الثوب على لونه ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، وكذلك
الصديد وغيرها من النجاسات العنيفة.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا غمس الرجل يده في سمن نجس، ثم غسل
اليد في الماء الجاري بغير حرض، وأثر السمن باق على يده، طهرت به، لأن
نجاسة السمن باعتبار المجاور، وقد زال المجاور عنه، فيبقى على يده سمن
طاهر، وهذا لأن تطهير السمن بالماء ممكن، ألا ترى إلى ما روي عن أبي يوسف
رحمه الله في الدهن إذا أصابته نجاسة أنه يجعل في إناء «ويصبّ عليه الماء
ثلاثاً» ، فغسله الدهن فيرفع بشيء، هكذا نفعل ثلاث مرات ويحكم بطهارته في
المرة الثالثة.
وإن زال العين والأثر في المرة الأولى هل يحكم بطهارة الثوب، اختلف المشايخ
فيه منهم من قال تطهر؛ لأن النجاسة كانت بسبب العين وقد انتفت بزوال العين،
فيحكم بطهارة الثوب كما لو غسله ثلاثاً.
وقال بعضهم وإن زال العين بالمرة الأولى ما لم يغسله مرتين لا يحكم بطهارته
اعتباراً بغير المرئي، وهذا لأن المرئي لا يخلو عن غير المرئي، فإن رطوبته
التي اتصلت بالثوب لا تكون مرئياً، وغير المرئي لا يطهر إلا بالغسل ثلاثاً،
فكذا هذا إذا كانت النجاسة مرئية.
وإن كانت غير مرئية كالبول والخمر، ذكر في «الأصل» ، وقال يغسلها ثلاث مرات
ويعصر في كل مرة، فقد شرط الغسل ثلاث مرات، وشرط العصر في كل مرة. وعن محمد
رحمه الله في غير رواية الأصول: أنه إذا غسل ثلاث مرات وعصر في المرة
الثالثة تطهر.
(1/196)
وفي «القدوري» ما لم تكن مرئية، فالطهارة
موكولة إلى غلبة الظن، وقدرنا بالثلاث؛ لأن غلبة الظن يحصل عنده.
وفي «شرح الطحاوي» إن كانت النجاسة غير مرئية كالبول وأشباه ذلك يغسله حتى
يطهر ولا وقت في غسله ووقته سكون قلبه إليه.
وهذا الذي ذكرنا من اشتراط الغسل ثلاث مرات مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: إذا كانت النجاسة غير مرئية فإنه يطهر بالغسل مرة
والعصر إلى أن يخرج الماء، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله مثل قول الشافعي،
وإنه ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» عنه: أنه إذا غسل مرة واحدة
ما معه طهر، فالشافعي رحمه الله اعتبر النجاسة الحقيقية بالنجاسة الحكمية،
والنجاسة الحكمية تزول بالغسل مرة، وكذا الحقيقية، بل أولى لوجهين:
أحدها: أن الحكمية أغلظ من الحقيقية لأن الحكمي، وإن قل يمنع جواز الصلوة،
ولا يكون عفواً والحقيقي ما لم يكن كثيراً لا يمنع جواز الصلوة خصوصاً على
أصلكم.
والثاني: أن الحكمي لا يسقط اعتبارها عند عدم ما يزيلها، فإنه إذا لم يجد
الماء وكان على بدنه نجاسة يصلي كذلك، وفي الحكمي ينتقل إلى التراب، فصح أن
الحكمية أغلظ من الحقيقية والتقريب ما ذكرنا.
ولنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إذا استيقظ من
منامه، فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، إنه لا يدري أين باتت
يده» فالنبي عليه السلام أمر بغسل اليد ثلاثاً من نجاسة غير مرئية إذا كانت
متوهمة، فلأن يجب عن نجاسة متحققة أولى وأحرى.
واعتبار النجاسة الحقيقية بالنجاسة الحكمية باطل؛ لأن الحكمية عرف ثبوتها
بالحكم لا بالحقيقة، فيعرف زوالها بالحكم والحكم حكم بالزوال مرة واحدة،
لما روي عن النبي عليه السلام «أنه توضأ مرة مرة، وقال «هذا وضوء من لا
يقبل الله تعالى الصلاة إلا به» فقد حكم بزوالها مرة واحدة، فأما الحقيقية
عرف ثبوتها بالحقيقة، فيعرف زوالها بالحقيقة، والحقيقية المرئية في الأغلب
لا يزول إلا بالثلاث، فاعتبر غير المرئي بها ثم يشترط «الأصل» ثلاث مرات في
ظاهر رواية الأصل، وإنه أحوط، وفي غير رواية الأصول يكتفي بالعصر مرة، وإنه
أوسع وأرفق بالناس.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «صلاة المستفتي» أن النجاسة إذا
كانت بولاً أو ماءً نجساً وصب الماء عليه كفاه ذلك، ويحكم بطهارة الثوب على
قياس قول أبي يوسف رحمه الله، فإنه روي عنه أن الجنب إذا اتزر في الحمام
وصب الماء على جسده من جنب الظهر والبطن حتى خرج عن الجنابة ثم صب الماء
على الإزار يحكم بطهارة
(1/197)
الإزار، وإن لم يعصره. وقال في رواية أخرى:
إذا صب الماء على الإزار وأمرّ الماء يكفيه فوق الإزار فهو أحسن وأحوط، فإن
لم يفعل يجزئه.
وفي «المنتقى» شرط العصر على قول أبي يوسف رحمه الله، فقد روى ابن سماعة
عنه في الثوب يصيبه مثل قدر الدرهم من البول، فصب عليه الماء صبة واحدة
وعصره طهر، وكذلك إذا غمسه غمسة واحدة في إناء أو نهر جار وعصره، فإن ذلك
يطهره وإن غمسه غمسة سابغة، فلم يطهره، قال الحاكم الشهيد رحمه الله يريد
به إذا لم يعصره.
وبعض مشايخنا قالوا على قول أبي يوسف إذا كانت النجاسة رطبة لا يشترط
العصر، وإذا كانت يابسة يشترط.
واستدلوا بما روي عنه أنه قال عقيب مسألة الجنب: إذا اتزر في الحمام وصب
الماء على جسده ثم صب الماء على الإزار إنه يحكم بطهارة الإزار، ثم قال:
وكذلك في الثوب، فقد عطف الثوب على الإزار ونجاسة الإزار رطبة؛ لأن نجاستها
بنجاسة الماء المستعمل، فإن الماء المستعمل عند أبي يوسف نجس، ثم في كل
موضع شرط العصر ينبغي أن يبالغ في العصر في المرة الثالثة، حتى يصير الثوب
بحال لو عصر بعد ذلك لا يسيل منه الماء، ويعتبر في حق كل شخص قوته وطاقته
ثلاثاً.
و (لو) عصر في كل مرة ثم تقاطر منه قطرة، فأصاب شيئاً قال ينظر إن عصر في
المرة (29ب1) الثالثة عصراً بالغ فيه حتى صار بحال لو عصر لم يسل منه،
فالثوب طاهر واليد طاهرة وماتقاطر طاهر، وإن لم يبالغ في العصر في المرة
الثالثة، وكان الثوب بحال لو عصر سال الماء، فالماء نجس، والثوب نجس، وما
تقاطر نجس؛ لأن الأول بله والتحرز عنه غير ممكن، والثاني ماء والتحرز منه
ممكن.
ثم الغسل يكون بطرفين، تورد الماء على العين النجس بأن يصب الماء على العين
النجس، ويغسل، ويورد الماء على العين النجس على الماء بأن يجعل الماء في
طست ويلقى فيه الثوب النجس، والقياس: أن يطهر العين النجس سواء ورد الماء
عليه أو ورد هو على الماء؛ لأن الماء لاقى النجاسة في الحالين، فينجس بأول
الملاقاة وتحتمل الغسل بالماء النجس، ولكن ترك القياس حال ورود الماء على
النجس، وحكم بالطهارة بالإجماع.
وفي حال ورود النجس على الماء خلاف، والمسألة في «الجامع» ، وصورتها: إذا
غسل الثوب النجس في إجانة ماء وعصر، ثم غسل في إجانة أخرى وعصر، ثم غسل في
إجانة أخرى، وعصر فقد طهر الثوب والمياه كلها نجسة، هكذا ذكر المسألة في
«الجامع» .
وذكر بعد هذه المسألة في «الجامع» : إذا غسل العضو النجس في ثلاث إجانات
فقد طهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا
يطهر ما لم يصب عليه الماء صباً، ذكر الخلاف في فصل العضو ولم يذكره في فصل
الثوب، والمشايخ المتأخرون يختلفون في ذلك، فمشايخ عراق على أن الخلاف في
الفصلين
(1/198)
واحد عند أبي يوسف رحمه الله لا يطهر الثوب
ما لم يصب عليه الماء صباً كالعضو، قيل وهكذا روى عنه في «النودار» ،
ومشايخ بلخ رحمهم الله على أن الخلاف في فصل العضو لا غير، وفرقوا على قول
أبي يوسف بين فصل العضو وبين فصل الثوب، قيل: وهكذا روى ابن سماعة في
«نوادره» ، فإن حملنا فصل الثوب على الخلاف، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله
في الفصلين أن القياس أن لا يطهر العين النجس في الأحوال كلها؛ لأن الماء
يلاقي النجس في الحالتين، فينجس بأول الملاقاة.
ويحتمل بالماء النجس لكن عرفنا الطهارة حال ورود الماء عليه بالنص على ما
مر، والنص الوارد حال ورود الماء عليه لا يكون وارداً حال وروده على الماء؛
لأن الماء حالة الصب على النجس بمعنى الماء الجاري؛ لأنه ينزل على الماء
الذي تنجس بأول الملاقاة ماء طاهر مرة بعد أخرى، فيصير بمعنى الماء الجاري؛
لأن ما يلاقي النجس من الماء الجاري، يتنجس بأول الملاقاة ثم ينزل على ما
يتنجس من الماء ماء طاهر مرة بعد أخرى فيطهره.
وإذا أورد النجس على الماء لايرد على الماء الذي يتنجس ماء طاهر ليطهره،
فيكون بمعنى الماء الراكد لا يرد عليه ماء طاهر مرة بعد أخرى، والماء
الجاري أقدر على إزالة النجاسة، وألقى لها من الماء الراكد.
ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنا تركنا القياس حال ورود الماء على النجس
ضرورة إمكان التطهير، يجب أن يترك القياس حال ورود النجس على الماء ضرورة
إمكان التطهير أيضاً، أكثر ما في الباب أن الضرورة تندفع بورود الماء على
النجس، إلا أنه ليس أحدهما بالتعيين بأولى من الآخر إذا كان كل واحد منهما
مؤثراً أو كل واحد منهما مؤثر؛ لأن الماء تداخل أجزاء الثوب في الحالين،
وبالعصر يخرج ويخرج النجاسة مع نفسه، ألا ترى أن أبا يوسف رحمه الله كما
ترك القياس حال ورود الماء على النجاسة ضرورة إمكان التطهير، ترك القياس
حال ورود النجاسة على الماء ضرورة إمكان التطهير، وإن كانت الضرورة تندفع
بالماء ما كان الطريق إلا ما قلنا إن كل واحد منهما مؤثر، وليس أحدهما
بالتعيين أولى من الأخرى كذا ههنا.
وقوله بأن الماء حال وروده على النجس، يصير بمعنى الماء الجاري على ما قدر
قلنا الماء الثاني والثالث يتنجس أيضاً بملاقاة النجاسة إياه إلا أن
النجاسة في المرة الثالثة والثانية يكون أقل من النجاسة في المرة الأولى،
لكن قليل النجاسة في تنجيس الماء القليل والكثير سواء، ثم وجب ترك القياس
في أحد الموضعين ضرورة إمكان التطهير، فكذا في الباقي، وإن حملها فصل الثوب
على الوفاق، فوجه الفرق لأبي يوسف بين الثوب وبين العضو أن في الثوب
تركناالقياس، لتعامل الناس، فإن الناس يتعاملون بغسل الثياب في الإجانات من
لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والقياس يترك بالتعامل، والتعامل
في العضو بصب الماء لا بإدخال العضو في الماء القليل، فيبقى فصل العضو على
أصل القياس.
(1/199)
والدليل على ترك القياس في الثوب كان
للتعامل، ما حكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أنه لو غسل ثلاثة
أثواب مختلفة في ثلاثة إجانات وعصرها في كل مرة لا تطهر؛ لأنه لا تعامل
فيه، إنما التعامل في ثوب واحد، ثم إذا طهر الثوب بالغسل في الإجانات على
قول من قال به طهرت الإجانة، لأن نجاسة الإجانة كانت تبعاً لنجاسة الثوب،
فإذا طهر الثوب طهرت الإجانة بطريق التبعية، وهو نظير ما قلنا في طهارة
الدلو والرشاء تبعاً لطهارة البئر، هذا إذا أصابت النجاسة شيئاً يتأتى فيه
العصر.
فأما إذا أصابت شيئاً لا يتأتى فيه العصر، فقام إجراء الماء فيه مقام العصر
حتى حكي عن الفقيه أبي إسحق الحافظ رحمه الله: أنه إذا أصابت النجاسة البدن
يطهر بالغسل ثلاث مرات متواليات؛ لأن العصر متعذر فقام التوالي في الغسل
مقام العصر.
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: خف بطانة ساقه من الكرباس، فدخل جوفه ماء
نجس، فغسل الخف ودلكه باليد ثم ملأه بالماء ثلاثاً وأهراقه إلا أنه لم
يتهيأ له عصر الكرباس، فقد طهر الخف وعلل ثمة فقال: لأن جريان الماء قد
يقام مقام الغسل واستشهد، فقال: ألا ترى أن البساط النجس إذا جعل في نهر
وترك فيه يوماً وليلة حتى جرى عليه الماء يطهر، وإذا أصابت النجاسة الأرض،
فإن كانت رخوة طهرت بالصب عليها؛ لأنها صارت بمنزلة العصر في الثوب، وإن
كانت صلبة فاندفع الماء عن موضع النجاسة طهر ذلك المكان، وينجس الموضع الذي
انتقل الماء إليه، وإن لم ينتقل الماء عن ذلك المكان يحفر ذلك الموضع، هكذا
ذكر القدوري رحمه الله، ومعنى قوله يحفر ذلك الموضع أنه يجعل أعلاها أسفلها
وأسفلها أعلاها.
وفي «الطحاوي» : إذا كانت الأرض محددة، وكانت صلبة، فإنه يحفر في أسفلها
حُفيرة، فيصب الماء عليها، فيجمع الماء في تلك الحفيرة فيغسل الأرض ثم يكنس
الحفيرة، وإن كانت الأرض مستوية وكانت صلبة، فلا حاجة إلى غسلها بل يجعل
أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويطهر.
وفي «الفتاوى» : البول إذا أصاب الأرض واحتيج إلى الغسل يصب الماء عليه عند
ذلك وينشف ذلك ... أو خرقة، فإذا فعل ذلك ثلاثاً طهر وإن لم يفعل كذلك،
ولكن صب عليه ماءً كثيراً حتى عرف أنه زالت النجاسة، ولا يوجد في ذلك لون
ولا ريح ثم تركه حتى تنشفه الأرض كان طاهراً، وعن الحسن بن أبي مطيع رحمه
الله قال: لو أن أرضاً أصابها نجاسة، فصب عليها الماء، فجرى عليها إلى أن
أخذت قدر ذراع من الأرض طهرت الأرض، والماء طاهر ويكون ذلك بمنزلة الماء
الجاري.
وفي «المنتقى» : أرض أصابها بول أو عذرة ثم أصابها ماء المطر، وكان المطر
غالباً قد جرى ماؤه عليه فذلك مطهر له، وإن كان المطر قليلاً لم يجر ماؤه
عليها لم يطهر، ثم قال: وليغسل قدميه وخفيه؛ لأن غسل كل شيء إنما يكون على
حسب ما يليق
(1/200)
بذلك الشيء واللائق بالأرض إجراء الماء
عليه قد وجد إذا كان المطر غالباً، ولم يوجد إذا كان المطر قليلاً، فبقي
نجساً، فإذا وضع عليها خفه أو قدمه فقد تنجس، فيجب الغسل، فإذا كان ذلك
الموضع قد يبس قبل المطر، فلا يغسل (30أ1) قدميه يريد به إذا كان المطر
قليلاً، وهذه إشارة إلى إحدى الروايتين في الأرض النجسة يبست ثم أصابها
الماء.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» عن أبي يوسف رحمهما الله أنه سئل عن غسل أرض
أصابها نجاسة، قال: إذا صب عليها من الماء مقدار ما يغسل به ثوب أصابته هذه
النجاسة ثلاث مرات، وعصر في كل مرة يطهر وطهرت الأرض بهذا المقدار، فبلغ
هذا القول أبا عبد الله محمد بن سلمة رحمه الله، فأعجبه وقال: ما أحد أتى
أبا يوسف رحمه الله إلا وجد عنده فائدة.
حصير أصابه نجاسة، فإن كانت النجاسة يابسة لا بد من الدلك حتى تلين، وإن
كانت رطبة إن كان الحصير من قصب أو ما أشبه ذلك، فإنه يطهر بالغسل ولا
يحتاج فيه إلى شيء آخر؛ لأن النجاسة لا تدخل أجزاء القصب، بل تبقى على
ظاهر، فيطهر بالغسل، وإن كان الحصير من بردي أو ما أشبه ذلك غسل ويوضع عليه
شيء ثقيل أو يقوم عليه إنسان حتى يخرج الماء من أثنائه، هكذا ذكر في بعض
المواضع ذكر عن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن الحصير إذا كان من بردي يغسل
ثلاثاً، ويجفف في كل مرة ويطهر عند أبي يوسف رحمه الله، خلافاً لمحمد رحمه
الله.I
وفي «شرح الطحاوي» أنه لا يؤقت في إزالة النجاسة إذا أصابت الحجر أو الآجر
أو شيئاً من الأواني، بل يغسله مقدار ما يقع في أكبر رأيه أنه قد طهر،
ويشترط مع ذلك أن لا يوجد منه طعم النجاسة ولا رائحتها ولا لونها، فأما إذا
وجد هذه الأشياء لا يحكم بالطهارة قال ثمة: وسواء كانت الآنية من خزف أو
غيره، وسواء كانت قديمة أو جديدة.
وعن محمد رحمه الله أن الخزف الجديد إذا وقع فيه خمر أو بول أنه لا يطهر
أبداً.
وفي «النوازل» : إن تشربت النجاسة في النصاب بأن غمس السكين بماء نجس أو
كان الخزف أو الآجر جديدين على قول محمد رحمه الله لا يطهر أبداً، وعلى قول
أبي يوسف رحمه الله يمر الحديد بالماء الطاهر ثلاثاً ويغسل الآجر الجديد
والخزف الجديد بالماء ويجفف في كل مرة ويطهر.
وحدّ التجفيف أن يترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب الندوة ولا يشترط
اليبس.
وعلى هذا الاختلاف الحنطة إذا أصابتها خمر وتشربت فيها وانتفخت من الخمر
فغسلها عند أبي يوسف أن تنقع في الماء حتى تشرب الماء كما تشربت الخمر ثم
تجفف، يفعل ذلك ثلاث مرات ويحكم بطهارتها عند أبي يوسف، وقيل: مثل هذا في
غسل الخزف الجديد أن يوضع في الماء حتى يتشرب فيه الماء كالنجاسة، ويطهر في
قول أبي يوسف.
ورأيت في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله ثوب كان فيه خمر فتطهيره أن يجعل
الماء فيه ثلاث مرات كل مرة بساعة إذا كان الثوب جديداً.
(1/201)
إذا أصابت الحنطة الخمر إلا أنها لم تنتفخ
من الخمر فغسلت ثلاثاً ولا يوجد لها طعم ولا رائحة ذكر في بعض المواضع عن
أبي يوسف أنه لا بأس بأكلها، وفي «شرح الطحاوي» : أنه لا يحل أكلها، وكأن
المذكور في «شرح الطحاوي» قول محمد رحمه الله.
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله لو طبخت الحنطة بخمر حتى تنتفخ وتنضج
فطبخت بعد ذلك ثلاث مرات وانتفخت في كل مرة وجفت بعد كل طبخة فلا بأس
بأكلها وفيه أيضاً: الدقيق إذا أصابه خمر لم يؤكل وليس لهذا حيلة. وفيه
أيضاً: قدر يطبخ فيه لحم وقع فيه خمر فغلى فيه لا يؤكل، وهذا قول محمد رحمه
الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يطبخ بالماء ثلاث طبخات ويرد بعد ذلك كل
طبخة ويؤكل.
وفي مسائل: امرأة تطبخ بقدر فطار طير ووقع في القدر ومات لا تؤكل المرقة
بالإجماع لأنه تنجس بموت الطير فيه، وأما اللحم ينظر إن كان الطير وقع في
القدر حالة الغليان لا يؤكل لأن النجاسة سرت فيه، وإن كان الطير قد وقع في
القدر حالة السكون يغسل ويؤكل، وهذا قول محمد رحمه الله: فأما على قول أبي
يوسف رحمه الله: إذا كان الوقوع في القدر حالة الغليان يطبخ في الماء ثلاث
مرات ويرد في كل مرة ويؤكل.
وكذلك الجمل المشوي إذا كان في بطنها بعر فأصابت بعض اللحم في حالة الشي،
فطريق غسله ما ذكرنا عند أبي يوسف رحمه الله.
أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: رجل اتخذ من سمك وملح وخمر إذا صار مرقاً
فلا بأس للأثر الذي جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وأبو يوسف رحمه الله
يقول كذلك إلا في مسألة واحدة أن السمك إذا كان هو الغالب والخمر قليل
فأراد أن يتناول شيئاً منه ليس له ذلك وهو كالخبز عجن بالخمر وإذا كان
غالباً وتحول الخمر عن طبيعتها إلى المرق فلا بأس بذلك.
وفيه أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله لو أن رجلاً اتخذ من الخمر طيباً أو ألقى
فيه ... فإنه لا يحل له أن يتطيب به وأن..... به، ولا يحل له بيعها لأن ذلك
لا يغيرها عن طبها.
وكذلك ما خالط الخمر من الإدام فإن الخمر يحرمه ماخلاً حصيلة واحدة أن تكون
الخمر غالبة فتتحول عن طباعها إلى الحل أداء المرئي.
وعن أبي يوسف رحمه الله: لو أن رغيفاً من الخبز المعجون بالخمر وقع في دنّ
خلّ وذهب فيه حتى لا يرى فلا بأس بأكل الخل، فأما الرغيف نفسه فلا يؤكل،
وفيه أيضاً لو أن خرقة أصابها خمر ثم سقطت في دن خل فلا بأس بأكل الخل، ولو
وقع رغيف طاهر في خمر ثم وقع في خل طهر الخل.
ورأيت في موضع آخر الرغيف إذا وقع في الخمر ثم تخلل فههنا اختلف المشايخ
فيه، إذا أصابت النجاسة خُفاً أو نعلاً لم يكن لها جرم كالبول والخمر فلا
بُدّ من الغسل رطباً كان أو يابساً.
(1/202)
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن
الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله إذا أصاب نعله بول أو
خمر ثم مشى على التراب أو الرمل ولزق به بعض التراب وجف ومسحه بالأرض يطهر
عند أبي حنيفة رحمه الله وهكذا ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة رحمه
الله. وهكذا ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة رحمهما الله، وعن أبي يوسف
رحمه الله مثل ذلك إلا أنه لم يشترط الجفاف.
وأما التي لها جرم إذا أصابت الخف أو النعل فإن كانت رطبة لا تطهر إلا
بالغسل، هكذا ذكر في «الأصل» ألا ترى أن الرطوبة التي فيها لو أصابته لا
يطهر إلا بالغسل فكذا إذا أصابته مع غيرها، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا
مسحه في التراب أو الرمل على سبيل المبالغة يطهر، وعليه فتوى من مشايخنا
للبلوى والضرورة.
وإن كانت النجاسة يابسة يطهر بالحت والحك عند أبي يوسف. وقال محمد رحمه
الله لا تطهر إلا بالغسل، الصحيح قولهما لقوله عليه السلام: «إذا أتى أحدكم
المسجد فليقلب نعليه وإن كان بهما أذىً فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما
طهور» .
والمعنى فيه أن الجلد شيء صلب لا تتسرب فيه رطوبات النجاسة إلا بعد زمان
وجرم النجاسة ... يبس قل أن تتشرب في الجلد الرطوبة وتجذب بأعلى النعل من
الرطوبة إلى نفسه، فإذا حكّه وحتهّ يزول الجرم وتزول الرطوبة معه ولا يبقى
معه إلا شيء قليل والقليل من النجاسة معفو وعن محمد رحمه الله أنه رجع عن
هذا القول بالري لما رأى من كثير السرقين في طرقهم، قال القدوري رحمه الله
في «شرحه» : معنى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة أن الخف والنعل
يطهر لجواز الصلاة معه.
أما لو أصابه الماء بعد ذلك يعود نجساً على إحدى الروايتين وأصل المسألة:
الأرض إذا ثبت أصل النجاسة فيها ثم أصابها الماء فإنه يعود حكم النجاسة على
إحدى الروايتين، وجعل القدوري رواية عود النجاسة في الأرض بإصابة الماء
«ظاهر الرواية» ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الجامع الصغير» في النجاسة
التي لها جرم إذا أصابت الخف أو النعل وحكّه أو حتّه بعدما يبس إنه يطهر في
قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وذكر في «الأصل» : إذا مسحه بالتراب يطهر، قال مشايخنا لولا المذكور في
«الجامع الصغير» لكنا نقول لا يطهر ما لم يمسحه بالتراب لأن المسح بالتراب
له أثر في باب الطهارة، فإن محمداً رحمه الله قال: المسافر إذا أصابت
(30ب1) يده نجاسة يمسحه بالتراب، وأما الحك فلا أثر له في باب الطهارة
فالمذكور في «الجامع الصغير» من أن للحك أثراً كما أن للمسح بالتراب أثراً،
ثم إذا وجب غسل الخف أو النعل في الموضع الذي وجب فإن كان الجلد يشف رطوبات
النجاسة فقد قال بعض مشايخنا: إنه
(1/203)
لا يطهر أبداً على قول محمد رحمه الله إذا
كان لا يمكن عصره، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ينقع ثلاثاً في ماء طاهر
ويجفف في كل مرة في رواية، وفي المرة الثالثة في رواية، وقاسوا الخف والنعل
على الخزف الجديد والآجر الجديد وسائر المسائل التي مرّ ذكرها من هذا
الجنس.
وبعض مشايخنا قالوا هذا التفصيل خلاف ظاهر لفظ محمد رحمه الله، فإن محمداً
رحمه الله قال: لا يجزئه حتى يغسل موضع النجاسة في الخفٍ وغيره من غير فصل
بين خف وخف وهو الظاهر، فإن.... الذي يتخذ منه الخف والنعل أو لا ينقع في
الماء ويعالج بالدهن والشحم فلا يتسرب منه رطوبات النجاسة فلايكون نظير
الكوز والحب. ولأجل هذا المعنى مال بعض مشايخنا (إلى) اشتراط التجفيف في
الخف، ألا ترى إلى ما حكي عن أبي القاسم الصفار رحمه الله في الرجل يستنجي
ويجري ماء استنجائه بين رجليه وخفه ليس بمنخرق أن له أن يصلي مع ذلك الخف
لأن الماء الآخر يطهر خفه كما يطهر موضع استنجائه ولم يشترط الجفاف، فعلى
قول هذا القائل الخف أو المكعب إذا أصابته نجاسة يغسل ثلاث مرات بدفعة
واحدة ويحكم بطهارته.
والمختار أنه يغسل ثلاث مرات ويترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب
الندوة ولا يشترط اليبس وفي «مجموع النوازل» : الخف الخراساني الذي صرمه
موشًّى بالغزل حتى صار ظاهر الصرم كله غزلاً فأصابه نجاسة فحته وصلى فيه،
قال نجم الدين النسفي رحمه الله: لا تجوز صلاتهُ إلا إذا غسله بالماء
ثلاثاً وجففه في كل مرة، وحكم هذا حكم الثوب لا حكم الخف أو السيف أو
السكين إذا أصابه بول أو دم. ذكر في «الأصل» أنه لا يطهر إلا بالغسل.
فإن أصابه عذرة إن كانت رطبة فكذلك الجواب، وإن كانت يابسة طهرت بالحت عند
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله لا يطهر إلا بالغسل.
والكرخي رحمه الله ذكر في «مختصره» أن السيف يطهر بالمسح من غير فصل بين
الرطب واليابس وبين العذرة والبول، وعلل فقال: لأن السيف متى صقل لا تتداخل
النجاسة في أجزائه بل تبقى على ظاهره، فإذا مسحها لا يبقى إلا شيء قليل
وذلك غير معتبر.
وفي «الفتاوى» سئل أبو القاسم عمن ذَبَحَ بالسكين ثم مسح السكين على صوفها
أو بما يذهب به أثر الدم عنه يطهر، وعنه أنه لحس السيف بلسانه حتى ذهب
الأثر فقد طهر، وعن أبي يوسف رحمه الله أن السيف إذا أصابه دم أو عذرة
فمسحت بخرقة أو تراب إنه يطهر حتى لو قطع بطيخاً بعد ذلك أو ما أشبهه كان
البطيخ طاهراً ويباح أكله، وقد صح أن الصحابة كانوا يقتلون الكفار بسيوفهم
ويمسحون السيوف ويصلون معها.
وإذا وقع على الحديد نجاسة من غير أن يمره بها فكما يطهر بالغسل يطهر
بالمسح بخرقة طاهرة أيضاً، إذا كان الحديد صقيلاً غير خشن كالسيف والسكين
والمرآة ونحوها.
(1/204)
الحديد إذا أصابه نجاسة فأدخله في النار
قبل أن يمسحه أو يغسله، ينبغي أن يطهر إذا ذهب أثر النجاسة ويكون الحرق
كالغسل، ألا ترى إلى ما ذكر في «الفتاوى» : إذا أحرق رجل رأس شاة ملطخ وزال
عنه الدم فإنه يحكم بطهارته كذا هنا بخلاف ما إذا مرّ الحديد بالماء النجس
على قول محمد رحمه الله لأن النجاسة تسير فيه بالتمويه، أما بدون التمويه
لا تتسرب فيه النجاسة بل يبقى على ظاهره فتزول بالإحراق.
وإذا سعرت التنور ثم مسحه بخرقة مبتلة نجسة ثم حرقت فيه فإن كانت حرارة
النار أكلت بلّة الماء قبل إلصاق الخبز بالتنور لا يتنجس الخبز لأن النجاسة
لا تبقى إذا نشف التنور بالنار كما لا تبقى نجاسة الأرض إذا يبست بالشمس.
قال الزنرويستي رحمه الله في «نظمه» : شيئان يطهران بالجفاف: الأرض إذا
أصابها نجاسة فجفّت ولم يُرَ أثرها جازت الصلاة فوقها. والتلة والحشيش وما
نبت في الأرض إذا أصابتها النجاسة فجفت طهرت لأنها من نبات الأرض والأرض
تطهر بهذا فكذا نباتها.
ورأيت في موضع آخر أن الكلأ أو الشجر ما دام قائماً على الأرض ففي طهارته
بالجفاف اختلاف المشايخ، وحكى الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل
رحمه الله أنه قال: الحمار إذا بال على السك فوقع عليه الظل ثلاث مرات
والشمس ثلاث مرات فقد طهر ويجوز عليه الصلاة الحشيش إذا أصابه النجاسة
وأصابه المطر بعد ذلك كان له بمنزلة الغسل.
وفي بعض النسخ حكم الحصى حكم الأرض إذا تنجست فجفت وذهب أثرها، يريد به:
إذا كان الحصى في الأرض متداخلاً، فأما إذا كان على وجه الأرض لا يطهر،
وكذا الحجر على وجه الأرض إذا أصابته نجاسة.
في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله، والآجرة إذا كانت مفروشة فحكمها
حكم الأرض تطهر بالجفاف وإن كانت موضوعة تُنقل، وتجول من مكان إلى مكان لا
بُدّ من الغسل، وكذلك اللبنة إذا أصابتها نجاسة وهي غير مفروشة لا تطهر
بالجفاف، وإن كانت مفروشة وصلى عليها بعد الجفاف يجوز لأن في الوجه الثاني
صارت من وجه الأرض بخلاف الوجه الأول، فإن خلعت بعد ذلك هل تعود نجسة؟ ففيه
روايتان.
الخف أو النعل أو الثوب إذا أصابه مني فإن كان رطباً فلا بُدّ من الغسل.
وإن كان يابساً يجوز فيه الفرك، عرف ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها عن
رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال لها: «إذا وجدت المني على الثوب، فإن
كان رطباً فاغسليه وإن كان يابساً فافركيه» .
قال الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله: المني اليابس إنما يطهر بالفرك إذا
كان رأس الذكر طاهراً وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، أما إذا لم يكن
طاهراً لا يطهر
(1/205)
قالوا: وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي
حنيفة رحمه الله، قيل أيضاً: إذا كان رأس الذكر طاهراً إنما تطهر الثياب
بالفرك إذا خرج المني قبل خروج المذي، فأما إذا خرج المذي على رأس الإحليل
ثم خرج المني لا يطهر الثوب بالفرك.
وإذا فرك المني اليابس عن الثوب وحكم بطهارة الثوب ثم أصاب الماء ذلك الثوب
هل يعود نجساً فهو على الروايتين، وقد مرّ نظير هذا فيما تقدم.
وإذا كانت النجاسة على بدن الآدمي ذكر في «الأصل» أنها لا تطهر إلا بالغسل
رطباً كان أو يابساً لها جرم أو لا جرم لها. وفي «القدوري» : لا يطهر شيء
كان فيه نجاسة من ثوب أو بدن إلا بالغسل إلا المني فإنه يجوز فيه الفرك إذا
كان يابساً على الثوب، وإن كان على البدن لا يكتفى بالحتّ ويغسل في رواية
الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله، لأن البدن لا يمكن أن يفرك ولأن لمس البدن
وتجاذ به فلا يزول بالحت منه ما يزول بالفرك في الثوب فبقي على الأصل.
وذكر الكرخي رحمه الله مسألة المني في «مختصره» وذكر أنها تطهر بالفرك من
غير فصل بين العضو وغيره. ويجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل شيء
ينعصر بالعصر كالخل وبماء الريق في قولهما، وقال محمد وزفر لا يزول إلا
بالماء، وروي عن أبي يوسف في البدن كذلك، وفرّق أبو يوسف رحمه الله على هذه
الرواية بين الثوب والبدن ووجه الفرق: أن البدن كما يقبل النجاسة الحقيقية
يقبل النجاسة الحكمية ثم النجاسة الحكمية اختص زوالها بالماء فكذا النجاسة
الحقيقية ولا كذلك الثوب.
وفي «المنتقى» رجل على ساقه دم أخذ كفّاً من ماء وغسل به ذلك الدم وسال
الماء على يده أجزأه وطهّره، ولو غمس يده في الماء ولم يأخذ في يده شيئاً
منه ثم مسح به موضع الدم حتى ذهب أثره لم يجزه، يريد به إذا مسح موضع الدم
بعدما أخرجه من الماء، أما لو مسح به في الماء حتى ذهب أثره يجزئه وهذا
ظاهر.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: كل ما غسل به الثوب من شيء نحو الدم وأشباهه
يخرج منه الدم بعصره فانعصر حتى سال فقد أذهب النجس. قال: والأدهان لا تخرج
الدم لأن لها رسوبة ولصوقاً بالمحل فلا يقدر على الاستخراج. قال: ولو غسله
بلبن أو خل فانعصر موضع الدم (31أ1) . حتى خرج من الثوب فقد طهر، وروى
الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله إذا غسل الدم من الثوب بدهن أو سمن أو
زيت حتى يذهب أثره جاز، ولو أصاب يديه لم يجز إلا أن يغسله بالماء، وقد
ذكرنا الفرق بين البدن والثوب على رواية أبي يوسف.
وفي «المنتقى» وقال أبو يوسف في المحتجم لا يجزئه أن يمسح الدم عن موضع
الحجامة حتى يغسله، قال الحاكم: رأيت عن أبي حفص عن محمد بن الحسن رحمهم
الله أنه إذا مسحه بثلاث خرق رطاب نظاف أجزأه.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد في حمار وقع في الملاحة ومات وترك حتى صار
ملحاً أكل الملح، وقال أبو يوسف: لا يؤكل، وكذلك رماد عذرة أحرقت وصلى عليه
(1/206)
على هذا الاختلاف، وحكى أبو عصمة: خشبة لو
أصابها بول فاحترقت ووقع رمادها في بئر قال أبو يوسف رحمه الله يفسد الماء،
وقال محمد رحمه الله: لا يفسد.
الطين النجس إذا جعل منه الكوزأ والقدر فطبخ يكون طاهراً.
إذا قاء ملء الفم ينبغي أن يغسل فاه، فإن لم يغسل ومضى زمان ينبغي أن تجوز
صلاته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويطهر فمه ببزاقه.
وعلى هذا إذا شرب الخمر وصلى بعد زمان، وإذا شرب الخمر ونام وسال من فمه
شيء على وسادته إن كان لا يرى عين الخمر ولا يوجد رائحته ينبغي أن يكون
طاهراً، على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله عليهما بناء على ما
قلنا.
العنب إذا تنجس يغسل ثلاثاً ويؤكل، وضع المسألة في «مجموع النوازل» في
العنقود إذا أكل الكلب بعضه وذكر أنه يغسل العنقود ثلاثاً ويؤكل. كذا قال
ثمة وكذا يفعل بعد يبس العنقود، ولو عصر عنباً فأدمى رجله وسال في العصير
والعصير يسيل ولا يظهر أثر الدم فيه قال لا ينجس العصير، وهذا قول أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمه الله عليهما كما في الماء الجاري.
الفأرة إذا وقعت في دن تشاسته ومات واين تشاسة وسيده بودشت، قال الشيخ
الإمام نجم الدين رحمه ا: أقتاده باشدكه آب درخم كرد بودنه ديك رود شرخم
كشاده بوداب دنكر رنجيشد دشرخم يستندوبعه أن جنه سبانروز سرخم كسادنه موش
ماقنية اما سيده أماومعلوم شه كه موشرهم ان اول انذر اقتاده اشت قال
الاحتياط في هذا أن يُراق لأن القلب لا يسكن إلى طهارته وزوال نجاسته، ولو
بذر هذا في الأرض صار نجساً وهذا الذي ذكر قول محمد رحمه الله أما على قول
أبي يوسف رحمه الله يغسل التساستح ثلاثاً ويجفف في كل مرة ويحكم بطهارته.
رجل اتخذ عصيراً في خابية فغلى واشتد وقذف بالزبد وانتقص مما كان ثم صارت
خلاً طهر الحب كله حتى يخرج الخل طاهراً إذا زالت رائحة الخمر، هكذا وقع في
بعض الكتب، وفي بعضها: إذا تخلل وتطاول مكثه في الدن طهر الحب كله، ولو رفع
من الدن كما تخلل من غير مكثه فالموضع الذي لوّث بالخمر نجس، فأما إذا عالج
ذلك الموضع بالخل على أن يتطاول مكثه فعلى قول من يرى إزالة النجاسة
الحقيقية بغير الماء يطهر الدن الذي فيه العصير.
إذا غلى واشتد وصار خمراً وعلى رأسه ... فرفع ذلك ... بعد زمان يعني بعدما
صار خلاّ وتطاول مكثه فإنه يكون طاهراً لو وضع على قدر مرقة لا تتنجس
المرقة أما إذا رفع قبل أن يصير خلاً فإنه يكون نجساً فتنجس المرقة وكذلك
إذا رفع بعدما صار خلاً ولكن قبل أن يتطاول مكثه.
وقع كوز من خمر في دن خل أو صب فيه ولا يوجد طعمها ولا رائحتها يباح الخل
(1/207)
من ساعته. ولو وقع قطرة من خمر في دن خل لا يباح خل من ساعته، والفرق: أن
الخمر الذي في الكوز كثير لو لم يتغير المصبوب ولو لم يصر خلاً توجد
رائحته، فإذا لم يوجد علمنا أنه تغير وصار خلاً، فأما القطرة فشيء قليل لا
يكون لها رائحة فلا يستدل بعدم الرائحة على التغيير، فلعل أنها على حالها
ولم تتغير فلا يحكم بالخل في الحال. هكذا ذكر في «مجموع النوازل» وينبغي أن
يقال في القطرة: إذا كان غالب ظنه أنه صار خلاً يطهر.
الخمر إذا وقع في الماء، والماء إذا وقع في الخمرة صار خلاً ففيه اختلاف
المشايخ، واختار الصدر الشهيد رحمه الله أنه يطهر، وكذلك في خل..... اختلف
المشايخ فيه واختياره أنه يطهر.
وإذا صب الخل المتنجس في الخمر حتى صار الكل خلاً تبقى النجاسة في الكل،
وإذا وقعت فأرة في دن خمر وصارت الخمر خلاً فقد اختلف المشايخ فيه قال
بعضهم: يباح تناول الخل وقال بعضهم: لا يباح، وقال بعضهم: إن تفسخت الفأرة
فيها لا يباح، وإن لم تتفسخ يباح.
الكلب إذا وقع في عصير فتخمّر العصير ثم تخلل لا يحل شربه لأن لعاب الكلب
فيه قائم وإنه لا يصير خلاً، وعلى قياس خل.... ينبغي أن يحلّ شربه.....
الحديدة إذا أصابها نجاسة فبالغسل ثسلاثاً تطهر ظاهراً لا باطناً حتى لو
وقع قطعة منها في ماء قليل يتنجس الماء. |