المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الصلاة
هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة وثلاثين فصلاً:
1 * في المواقيت.
2 * في بيان فضيلة الأوقال.
3 * في بيان اللوقات التي تكره فيها الصلاة.
4 * في كيفيتها.
5 * في الأذان.
6 * في بيان ما يفسد الصلاة وما لا يفسد.
7 * في بيان مقام الإمام والمأسوم.
8 * في الحث على الجماعة.
9 * في المرور بين يدي المصلي.
10 * في صلاة التطوع.
11 * في التطوع قبل الفرض.

(1/271)


الفصل الأول في المواقيت
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في بيان أول المواقيت وآخرها
فنقول: أول وقت الفجر من حين يطلع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير المنتشر في الأفق، فإذا طلع الفجر الثاني خرج وقت العشاء، ودخل وقت الفجر هذا هو المنقول عن أصحابنا رحمهم الله، ولم ينقل عنهم أن العبرة لأول طلوع الفجر الثاني أو لاستطاره وانتشاره.

وقد اختلف المشايخ فيه، وآخر وقت صلاة الفجر طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس خرج وقت الفجر، ولا يدخل وقت صلاة أخرى حتى تزول الشمس، فمن حين طلوع الشمس إلى زواله وقت مهمل، وأول وقت الظهر من حين نزول الشمس.
وإذا أردت معرفة زوال الشمس، فالمنقول عن أبي حنيفة: أنه ينظر إلى القرص، فما دام في كبد السماء، فإنها لم تزل، وإذا انحطّت يسيراً فقد زالت، والمنقول عن محمد في ذلك أن يقوم الرجل مستقبل القبلة، فإذا مالت الشمس عن يساره فهو الزوال، وقد قيل: في معرفة ذلك أن يغرز خشبة مستوية في أرض مستوية قبل زوال الشمس، ويحط في ضلع ظلها علامة، فإن كان الظل يقصر عن العلامة فاعلم بأن الشمس لم تزل؛ لأن ظل الأشياء يقصر إلى زوال الشمس. وإن كان الظل يطول ويجاوز الخط، فاعلم بأن الشمس قد زالت، وإن امتنع الظل عن القصر ولم يأخذ في الطول، فهذا هو وقت الزوال وهو الظل الأصلي.
واختلفوا في آخر وقت الظهر روى الحسن عن أبي حنيفة أن آخر وقت الظهر: أن يصير ظل كل شيء مثله سوى الظل الأصلي، فإذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وذكر في «الأصل» : أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين ولم يتعرض لآخر وقت الظهر، وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة أنه إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثله، وروى أبو

(1/273)


يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا صار الظل أقل من قامتين خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، قال أبو الحسن: وهذه الرواية أصح، فعلى هاتين الروايتين يكون بين الوقتين وقت مهمل، لا من الظهر ولا من العصر وهو الذي يسميه الناس بين الصلاتين، وإنما يعتبر ظل كل شيء مثله أو مثليه سوى فيء الزوال.

واعلم أن ما مِنْ شيء إلا وله ظل عند الزوال إلا بمكة وبمدينة في أطول أيام السنة، فإن في أطول أيام السنة بمكةوبمدينة لا يبقى للأشياء ظل عند الزوال على الأرض، أما بمكة لأنه سرّة الأرض ومنها بسطت الأرض وأما بمدينة، فلأن الشمس تأخذ الحيطان الأربعة، فأما في غيرهما من الأماكن فلا تخلو الأشياء عن الظل عند الزوال غير أنه تصغر وتكبر وتطول وتقصر بحسب قرب الأماكن إلى مكة، فلا يعتبر ذلك المقدار في تقدير ظل كل شيء مثله أو بمثليه.
فأول وقت العصر عند أبي يوسف ومحمد إذا صار الظل قامة وزاد عليها. وذكر أبو سليمان عن أبي يوسف أنه لم يعتبر الزيادة. قال أبو الحسن الخلاف في آخر وقت الظهر خلاف في أول وقت العصر، وآخر وقت العصر وقت غروب الشمس.
وأول وقت المغرب حتى تغيب الشمس وآخر وقت المغرب حتى يغيب الشفق.
وأول وقت العشاء حتى يغيب الشفق، وآخر وقتها يمتد إلى طلوع الفجر وتفسير.
الشفق في قول أبي حنيفة رحمه الله البياض، وفي رواية أسد بن عمرو أنه الحمرة، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي ورد فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة رحمه الله، وكان فيه أنا بخير وقت العشاء في بلدن، فإن الشمس كما تغرب تطلع الفجر من الجانب الآخر، هل علينا صلاة العشاء؟ فكتب في الجواب أنه ليس عليكم صلاة العشاء، وهكذا كان يفتي ظهير الدين المرغيناني.
وأما الوتر فوقته ما هو وقت العشاء إلا أنه مأمور بتقديم العشاء عليه، ووقت الجمعة ما هو وقت الظهر والله أعلم.

الفصل الثاني في بيان فضيلة الأوقات
قال أصحابنا رحمهم الله: الإسفار بالفجر أفضل في الأزمنة كلها إلا صبيحة يوم النحر للحاج بالمزدلفة، فإن هناك التغليس أفضل، وإنما كان الإسفار في سائر الأزمنة أفضل لقوله عليه السلام «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» وقال إبراهيم النخعي؛ ما اجتمع أصحاب رسول الله عليه السلام على شيء كما اجتمعوا على الإسفار بالفجر، فإنه سبب لتكثير الجماعة فكان أفضل إلا أنه لا ينبغي أن يؤخر تأخيراً يقع الشك في طلوع

(1/274)


الشمس؛ لأنه حينئذ يقع الشك في فساد صلاته، واختيار الطحاوي رحمه الله في الفجر الجمع بين التغليس والإسفار يبدأ بالتغليس، ويطول القرءاة ويختم بالإسفار.
وأما الظهر فتأخير هما في زمان الصيف أفضل، قال عليه السلام: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهم» وتعجيلها في زمان الشتاء أفضل لحدث إبراهيم قال: كانوا يحبون أن يعجلوا الظهر في الشتاء.
وأما العصر فتأخيرها أفضل في الأزمان كلها ما لم تتغير الشمس، لحديث رافع بن خديج أن رسول الله عليه السلام «كان يأمرنا بتأخير العصر» ولكن يكره تأخيرها إلى أن تتغير الشمس، هكذا ذكر في «الأصل» ، في «القدوري» . وذكر الطحاوي إلى أن تحمرّ الشمس مع هذا لو صلى جاز؛ لأنه صلى في الوقت ثم على ما ذكره في «الأصل» يعتبر التغير في عين القرص أو في الضوء الذي يقع على الجدران والحائط، قال سفيان وإبراهيم النخعي في الضوء، وهكذا حكى الإمام الزاهد أبو بكر بن حامد عن الحاكم الشهيد، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد في «النوادر» أنه يعتبر التغير في القرص، وبه كان يقول مشايخ بلخ والشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل ببخارى.
ثم تكلموا في معرفة التغير في القرص قال بعضهم إذا قامت الشمس للغروب قدر رمحين أو رمح لم تتغير، وإذا صارت أقل من ذلك فقد تغيرت.

وقال بعضهم يوضع طست ماء في الصحراء وننظر فيه، فإن كان القرص يبدو للناظر، فقد تغيرت، وقال بعضهم: إذا كان بحال يمكنه إحاطة النظر إلى القرص، ولا تحار عيناه فما..... مما تغيرت. وقال بعض أصحابنا التأخير إلى هذا الوقت مكروه، فأما الفعل فغير مكروه؛ لأنه مأمور بالفعل ولا يستقيم إثبات الكراهة للشيء مع الأمر به.
فأما المغرب فيكره تأخيرها إذا غربت الشمس، لقوله عليه السلام: «لا تزال هذه الأمة بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» .
وأما العشاء فتأخيرها أفضل إلى ثلث الليل في رواية وفي رواية: إلى نصف الليل هكذا ذكر في «القدوري» (43أ1) ، وذكر الطحاوي بأن تأخير العشاء إلى ثلث الليل مستحب، وبعده إلى نصف الليل مباح غير مكروه، قال الطحاوي وبعد نصف الليل إلى طلوع الفجر مكروه إذا كان التأخير بغير عذر.
وأما الوتر فإن كان لا يثق من نفسه الاستيقاظ أوتر أول الليل، فإن كان يثق فالأفضل آخر الليل، وفي يوم القيم يؤخر الفجر والظهر والمغرب، ويعجل العصر والعشاء في الأزمنة كلها، وأراد بقوله تؤخر المغرب، التأخير قدر ما يستيقن بغروب

(1/275)


الشمس، وأراد بقوله تعجل العصر التعجيل قدر ما يقع عنده أنه لا تقع في الوقت المكروه، فإن التأخير إلى آخر الوقت قبل أن تتغير الشمس مستحب وأراد بقوله تعجل العشاء التعجيل قليلاً أو على الوقت المعتاد؛ لأن التأخير إلى ثلث الليل مستحب في رواية، وفي رواية إلى نصف الليل وما بعده يقع في حد الكراهة، فتعجل قليلاً احترازاً عن الوقوع في الوقت المكروه، ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حضر ولا في سفر إلا عرفة ومزدلفة، فإن الحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفات في وقت الظهر ويجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة.

وقيل: الجمع بين الصلاتين فعلاً لعذر المطر جائز إحرازاً لفضيلة الجماعة، وذلك بتأخير الظهر وتعجيل العصر، وتأخير المغرب وتعجيل العشاء، قال مشايخنا: المستحب للإنسان أن لا يؤخر الظهر حتى يصير ظل كل شيء مثله، ولا يصلي العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، حتى يصير مؤدياً كل صلاة في وقتها بالإجماع.

الفصل الثالث في بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة
الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة، ثلاثة يكره فيها التطوع والفرض:
وذلك: عند طلوع الشمس، ووقت الزوال، وعند غروب الشمس إلا عصر يومه، فإنه لا يكره عند غروب الشمس، وعن أبي يوسف أنه جوز التطوع وقت الزوال يوم الجمعة، ولا يجوز في هذه الأوقات صلاة جنازة، ولا سجدة تلاوة ولا سجدة سهو ولا قضاء فرض.
ولو قضى فرضاً من قضاء الفائتات في هذه الأوقات لا يعيدها، ولو صلى صلاة الجنازة لا يعيدها، وكذلك لو سجد لتلاوة في هذه الأوقات لا يعيدها وتسقط عنه، وإذا تلا آية السجدة في هذه الأوقات، فالأفضل أن لا يسجد في هذه الأوقات ولو سجد جاز ولا يعيدها.
ووقتان آخران يكره فيهما التطوع وهو ما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إلا ركعتي الفجر. وما بعد صلاة العصر إلى وقت غروب الشمس ولا يكره فيها الفرائض ولا صلاة الجنازة ولا يجوز أداء المنذورة في هذين الوقتين، وإن كانت الصلاة المنذورة واجبة إلا أنها وجبت بإيجاب العبد.
والواجبات على قسمين: قسم وجب بإيجاب العبد، كالمنذورة، وقسم وجب بإيجاب الله تعالى، كالوتر على إحدى الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله وسجدة التلاوة وسجدتي السهو، فما وجب بإيجاب الله تعالى يجوز أداؤه في هذين الوقتين، وما وجب بإيجاب العبد لا يجوز أداؤه في هذين الوقتين، ولو أوجب على نفسه صلاة في هذه الأوقات، فالأفضل له أن يصلي في وقت مباح، ولو صلى في هذا الوقت سقط عنه ولا تجوز ركعتي الطواف في هذين الوقتين.

(1/276)


وههنا وقت آخر، وهو ما بعد غروب الشمس قبل أن يصلي المغرب والصلاة فيه مكروه، لكن لا لمعنى في الوقت، بل لتأخير المغرب.
بقي الكلام في الوقت الذي تباح فيه الصلاة: إذا طلعت الشمس، والمذكور في «الأصل» : إذا طلعت حتى ارتفعت قدر رمحين أو قدر رمح تباح الصلاة، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس، فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر تباح فيه الصلاة، وقال الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن الفضل ما دامت الشمس محمرة أو مصفرة على رؤوس الحيطان والجبال والأشجار فهي في الطلوع، فلا تحل الصلاة. فإذا ابيضت فقد طلعت وحلّت الصلاة وقال الفقيه أبو حفص السفكردري رحمه الله: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية ما دامت الشمس تقع في حيطانه فهو على الطلوع فلا تحل له الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة.
ولو شرع في النفل في الأوقات الثلاثة، فالأفضل له أن يقطعها، وإذا قطعها لزمه القضاء في المشهور من الرواية. ولو شرع في الوقتين في النافلة، ثم أفسدها لزمه القضاء، ولو افتتح الصلاة النافلة في وقت مستحب ثم أفسدها ثم أراد أن يقضيها بعد العصر قبل غروب الشمس لا يقضيها، وإن كانت واجبة؛ لأنها وجبت بشروعه فأَشْبَهَ المنذورة.

وعلى هذا لو شرع في سنة الفجر ثم أفسدها ثم أراد أن يقضيها بعدما صلى الفجر قبل طلوع الشمس لا يقضيها. هكذا قيل: وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أن له أن يقضيها بعدما صلى الفجر قبل طلوع الشمس، وصورة ما حكي عن رجل جاء إلى الإمام في صلاة الفجر وخاف أنه لو اشتغل بالسنّة يفوته الفجر بالجماعة، قال: فقد جاز له أن يدخل في صلاة الإمام ويترك السنّة ويقضيها بعدما طلعت الشمس عند محمد، وإن أراد أن يقضيها قبل طلوع الشمس فالحيلة أن يشرع ثم يفسدها على نفسه ثم يشرع في صلاة الإمام من الفريضة ثم يقضيها قبل طلوع الشمس ولا يكره؛ لأنه بإفساده إياها صارت ديناً عليه، ويصير كمن شرع في التطوع ثم أفسد وما على نفسه ثم قضاها في هذا الوقت، وذلك لا يكره كذا ههنا.
ومن المشايخ من قال: في هذه الحيلة نوع الخطأ؛ لأن فيها أمراً بإفساد العمل، والله تعالى يقول: {وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ} (محمد: 33) والأحسن أن يقال يشرع في السنّة ويكبر لها ثم يكبّر مرة ثانية للفريضة، فيخرج بهذه التكبيرة من السنة ويصير شارعاً في الفريضة ولا يصير مفسداً للعمل بل يصير مجاوزاً من العمل إلى العمل، وهو كمن كبّر للظهر في وقت العصر على ظن أنه لم يصلِ الظهر ثم يذكر أنه صلى الظهر في وقتها فكبّر ثانياً من غير سلام ولا كلام، ينوي الدخول في العصر يصير شارعاً في العصر خارجاً عن الظهر كذا ههنا.
ولو غربت الشمس في خلال العصر لا يفسد عصره ويتمها، ولو طلعت الشمس في

(1/277)


خلال الفجر يفسد فجره، والفرق: أن بالغروب يدخل وقت فرض مثله فلا يكون منافياً، وبالطلوع لا يدخل وقت الفرض، ألا ترى أنه لو خرج وقت الجمعة في خلال الجمعة تفسد الجمعة، لأنه لا يدخل وقت فرض مثله، وعن الحسن بن زياد: يفسد إن صلى عصر يومه عند غروب الشمس لم يجزه، كما إذا صلى الفجر عند طلوع الشمس، وعن أبي يوسف أن من صلى ركعة من الفجر ثم طلعت الشمس لم تفسد صلاته، ولكنه يلبث كذلك إلى أن ترتفع الشمس وتبيض ثم تتم الصلاة.
ومما يتصل بهذا الفصل
ويكره الكلام بعد انشقاق الفجر إلى أن يصلي الفجر إلا بخير، لأثر عمر وابن مسعود، وعن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون الكلام بعد طلوع الفجر إلا بخير، وقوله: هم كناية عن الصحابة، فإذا صلى الفجر فلا بأس بأن يتكلم في حاجته ويمشي في حاجته المعتادة ومعاشه والمراد من هذا الكلام الكلام المباح. أما الفاحش فحرام في جميع الأوقات، وقال بعض الناس يكره الكلام بعد صلاة الفجر أيضاً إلى طلوع الشمس، وقال بعضهم إلى أن ترتفع الشمس، وعن الحسن بن علي: أنه كان لا يتكلم إلى أن ترتفع الشمس، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في كتاب «البستان» أن السمر بعد العشاء مكروه عند البعض، قال: وهو الكلام لأجل المؤانسة، وفي شرح كتاب الصلاة لبعض المشايخ ذكر الكراهة ولم ينسبه إلى البعض، وروي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا سمر بعد العشاء» والله أعلم.

الفصل الرابع في فرائض الصلاة وسننها وآدابها وواجباتها
فرائض الصلاة نوعان: أحدهما: قبل الشروع فيها على سبيل المتهيؤ لها وإنها كثيرة، فمن جملتها ستر العورة للرجل من تحت سرته حتى يجاوز ركبتيه، وقال زفر: من فوق السرة إلى تحت الركبة بناءً على أن سرة الرجل ليست بعورة عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر وركبته عورة عند علمائنا جميعاً وهي مسألة كتاب الاستحسان إلا أن (43ب1) الرجل إذا ستر مقدار ما ذكرنا، وصلى كذلك كان مسيئاً؛ لأنه ترك الزينة أصلاً والمصلي مأمور بها، قال الله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) أي عند كل صلاة.
بخلاف ما إذا صلى في ثوب واحد متوشحاً وتفسير التوشح أن يفعل بالثوب مثل ما يفعله القصار في المقصرة إذا لف الكرباس على نفسه حيث لا يكون مسيئاً؛ لأن هناك أتى بأصل الزينة، أما ترك التمام.. عن أبي حنيفة رحمه الله، أن الصلاة في سراويل

(1/278)


واحد يشبه فعل أهل الجفاء، وفي الثوب الذي يتشح به أبعد من الجفاء وفي قميص وإزار خلاف الناس تحملهم وذكر ابن شجاع أنه إذا كان محلول الإزار، وكان إذا نظر رأى عورة نفسه من زيقه لم تجز صلاته. وهكذا ذكر هشام في «نوادره» ، والمذكور في «نوادر هشام» ، إذا صلى في قميص واحد وهو محلول الجيب فانفتح جيبه حتى لو نظر رأى عورة نفسه فصلاته فاسدة، وزاد فقال: وإن لم ينظر وإن كان مدلوق الثوب بصدره، فلم ير عورته لو نظر إليها لا تفسد صلاته، فعلى هذه الرواية جعل ستر العورة من نفسه شرطاً.
حتى فرق بعض أصحابنا على هذه الرواية بين أن يكون المصلي خفيف اللحية وبين أن يكون كث اللحية فقال إذا كان المصلي كث اللحية تجوز صلاته، لأن لحيته سترت عورته، وقال بعضهم لا تجوز صلاته ولا تنفعه لحيته ذكر الزندوستي هذا القول في «نظمه» ، وعامة أصحابنا جعلا الشرط ستر العورة من غيره لا من نفسه؛ لأن العورة لا تكون عورة في حق صاحبها إنما تكون عورة في حق غيره.

ألا ترى أنه يجوز لصاحب العورة مسَّها والنظر إليها، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة وأبي يوسف أيضاً أنه إذا كان محلول الجيب، فنظر إلى عورته لا تفسد صلاته، وإن كان عليه قميص لبس غيره، فكان إذا سجد لا يرى أحد عورته، ولكن لو نظر إنسان من تحته رأى عورته فهذا ليس بشيء.
وأما المرأة يلزمها أن تستر نفسها من فرقها إلى قدميها ولا يلزمها ستر الوجه والكفين بلا خلاف، وفي القدمين اختلاف المشايخ واختلاف الروايات عن أصحابنا رحمهم الله، وكان الفقيه أبو جعفر يتردد في هذا فيقول مرة؛ إن قدميها عورة، ويقول مرة: إن قدميها ليس بعورة، فمن يجعلها عورة يقول يلزمها سترها ومن لا يجعلها عورة يقول: لا يلزمها سترها، والأصح أنه ليس بعورة، وهي مسألة كتاب الاستحسان آنفاً.
وفي «الجامع الصغير» : امرأة صلت وربع ساقها أو ثلث ساقها مكشوفة لم تجز صلاتها، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: إن كان المكشوف أكثر من النصف لم تجز صلاتها، وإن كان أقل من النصف جازت صلاتها، وفي النصف عنه روايتان، يجب أن تعلم أن قليل الانكشاف عفو؛ لأن الناس فيه بلوى وضرورة؛ لأن ثيابهم لا تخلو عن قليل خرق، فيجعل عفواً بالإجماع فلا بلوى في الكثير؛ لأن الثياب تخلو عن كثير خرق، فلا يجعل عفواً بعد هذا.
قال أبو حنيفة ومحمد: الربع وما فوقه كثير، وما دون الربع قليل، وقال أبو يوسف: ما فوق النصف كثير وما دونه قليل، وفي النصف عنه روايتان، والصحيح قولهما؛ لأن ربع الشيء أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام كمسح ربع الرأس في الوضوء، وكحلق ربع الرأس في حق المحرم.

قال في «الجامع الصغير» : وكذلك حكم البطن والظهر والفخذ والشعر نظير حكم الساق، قال بعض مشايخنا: لولا هذه الرواية لكنا نقول بأن حكم الظهر والبطن أغلظ، ألا ترى أنه لا يحل للرجل بأن ينظر إلى بطن أمه وظهرها، ويحل له أن ينظر إلى ساقها،

(1/279)


فبهذه الرواية عرفنا أن حكم الظهر والبطن والفخذ والشعر والساق سواء، ثم إن كان المراد من الشعر في «الكتاب» ما يواري المنبت ما ذكر من الجواب على الروايات كلها، وإن كان المراد منه الشعر المسترسل، فما ذكر من الجواب على إحدى الروايتين؛ لأن في كون المسترسل عورة روايتان، واختار الفقيه أبي الليث رحمه الله رواية العورة، لأن الرواية الأخرى تقتضي للرجل النظر إلى طرف وصرع الأجنبية وطرف ناصيتها كما ذهب إليه أبو عبد الله البلخي، وهذا أمر يؤدي إلى الفتنة، فكان الاحتياط فيما قلنا.
وأما العورة الغليظة، فالتقدير فيها على الخلاف الذي ذكرنا، هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر الكرخي في «كتابه» أنه يعتبر في السوءيتن قدر الدرهم، وفيما عدا ذلك الربع.
وإنما قال ذلك؛ لأن العورة نوعان غليظة وخفيفة كما أن النجاسة نوعان: غليظة وخفيفة، ثم في النجاسة الغليظة اعتبر الدرهم، وفي الخفيفة اعتبر الربع فكذا في العورة، ولكن هذا وهم من الكرخي؛ لأنه قصد به الغليظه في العورة الغليطة، وهذا في الخفيفة تخفيف؛ لأنه اعتبر في الدبر قدْر الدرهم والدبر لا يكون أكثر من قدر الدرهم، فهذا يقتضي جواز الصلاة، وإن كان جميع الدبر مكشوفاً وهذا تناقض.
والركبة تعتبر عضواً على حدة أم تعتبر مع الفخذ عضواً واحداً؟ فقد اختلف المشايخ فيه منهم من قال: الركبة عضو على حدة حتى يعتبر فيه انكشاف الربع منه ومن المشايخ من قال: يعتبر مع الفخذ عضواً واحداً حتى يعتبر الربع منهما.

وأما الخصيتان مع الذكر ففيهما اختلاف المشايخ أيضاً، قال بعضهم يعتبر كل واحد منهما عضواً على حدة اعتباراً بالدية، فإن في باب الدية يعتبر كل واحد منهما عضواً على حدة، ومنهم من قال يعتبران عضواً واحداً؛ لأن الخصيتين كالتبع للذكر.
وأما ثدي المرأة إن كانت مراهقة فهي تبع للصدر وإن كانت كبيرة فالثدي أصل بنفسه.
ومن جملتها طهارة ما يستر به عورته إذا كان مقيماً وله ثوب آخر (وليس له ثوب آخر) ، وإذا كان مسافراً وله ثوب آخر لا تجوز صلاته مع ثوب للنجس إذا كانت النجاسة أكثر من قدر الدرهم، وإن لم يكن له ثوب آخر وعجز عن غسله لعدم الماء أو معه ماء بحال العطش جاز له الصلاة فيه، وإن كان كله مملوءاً من الدم كان هو بالخيار، إن شاء صلى عرياناً قاعداً نائماً، وإن شاء صلى قائماً بركوع وسجود، وعن محمد يلزمه أن يصلي به قائماً بركوع وسجود قال: هذا أهون الوجهين، لأن فيه ترك فرض واحد وهو طهارة الثوب، وفي الآخر ترك الفرائض من ستر العورة والقيام والركوع والسجود.
ولهما: أن الوجهين قد استويا في حق حكم الصلاة، فإن الصلاة عرياناً لا تجوز حالة الاختيار، وكذلك الصلاة في الثوب المملوء من الدم لا تجوز حالة الاختيار فكان له الاختيار، وما يقول بأن في الصلاة عرياناً ترك الفرائض قلنا: ليس كذلك؛ لأن القاعد يأتي بالأركان كلها لكن بالإيمان وفيه ضرب قصور ولكن مع إحراز الطهارة، وفي الجانب الآخر يأتي بها مع استعمال بالنجاسة، وفيه ضرب قصور أيضاً فاستويا، فإن كان

(1/280)


ربعه طاهراً وثلاثة أرباعه نجساً لم تجز الصلاة عرياناً بالإجماع، لأن للربع حكم الكل في الجملة، فثبت للثوب شبهة الطهارة، فصار أولى من العري الذي لا شبهة فيه، وإن كان أقل من الربع طاهراً فله الخيار على الاختلاف الذي مر.

ولو وجدت المرأة ثوباً تستر به جسدها ورأسها لا يزيد على ذلك فغطت به جسدها، ولم تستر به رأسها لم تجز صلاتها، لأن للربع حكم الكل، ألا ترى أنه لو انكشف ربع ساقها لم تجز صلاتها عند أبي حنيفة ومحمد، وإذا جعل انكشاف الربع كانكشاف الكل يجعل القدرة على تغطية الربع كالقدرة على تغطية الكل، ولو كانت تقدر على أن تغطي بذلك الثوب جسدها أقل من ربع رأسها فالأفضل لها أن تغطي ما قدرت عليه من رأسها تقليلاً عورة، وإن لم تغط رأسها وغطت جسدها جاز، لأن ما دون الربع ليس له حكل الكل، ألا ترى أن في حق الانكشاف فرقاً بين الربع وما دونه، فكذا في حق التغطية والله أعلم.
وإذا صلى وهو لابس منديلاً أو ملاءة وأحد طرفيه فيه نجس والطرف الذي فيه النجاسة على الأرض فكان النجس يتحرك بتحرك المصلي لم تجز صلاته، وإن كان لا يتحرك تجوز صلاته؛ لأن في الوجه الأول مستعمل للنجاسة، وفي الوجه الثاني لا.
وإذا صلى في ثوب وعنده أنه نجس، فلما فرغ من صلاته تبيّن له أنه طاهر تجوز صلاته. وبمثله لو صلى إلى جهة عنده أن القبلة إلى جهة أخرى فلما فرغ من صلاته تبين أنه أصاب القبلة لا تجوز صلاته. المسألة في «مجموع النوازل» .

ومن جملة (44أ1) ذلك: طهارة موضع الصلاة، فإن كان موضع قدميه وركبتيه وجبهته وأنفه طاهراً جازت صلاته بلا خلاف، وكذلك إذا كان موضع قدميه طاهراً وموضع أنفه نجساً وموضع جبهته وركبتيه طاهراً تجوز صلاته بلا خلاف، وكذلك إذا كان موضع قدميه وموضع ركبتيه وموضع أنفه طاهراً وموضع جبهته نجساً سجد على أنفه، وتجوز صلاته بلا خلاف للقذر الذي في الجبهة، وإن كان موضع قدميه وركبتيه طاهراً وموضع جبهته وأنفه نجساً ذكر الزندوستي في «نظمه» قال أبو حنيفة: يسجد على أنفه دون جبهته وتجوز صلاته؛ لأن الأرنبة لا تأخذ من الأرض والنجاسة أكثر من قدر الدرهم وفرض السجود عنده يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر وعندهما لا تجوز صلاته؛ لأن فرض السجود، عندهما لا يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر، والجبهة تأخذ من الأرض، والنجاسة أكثر من قدر الدرهم.
وفي «القدوري» : أن عن أبي حنيفة في هذا الفصل روايتين: روى محمد عنه لا تجوز، وروى أبو يوسف عنه أنه يجوز، فإن أعاد تلك السجدة في الصلاة في مكان طاهر تجوز ذكره في «القدوري» أيضاً.
وإن كان موضع قدميه وجبهته وأنفه طاهراً، وموضع ركبتيه نجساً ذكر الزندوستي في «نظمه»

(1/281)


أن في ظاهر الأصول لا تجوز صلاته لعجزه عن السجدة بدون الركبتين، وقال الطحاوي تجوز، وكان الفقيه أبو الليث يقول: لا تجوز، وذكر الشيخ شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» في باب الحدث إذا كانت النجاسة في موضع الكفين والركبتين جازت صلاته عندنا خلافاً لزفر، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله إلا أنه لم يذكر خلاف زفر، وهكذا ذكره القدوري.

وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف في «الأمالي» : إذا سجد على دم أو وضع يديه أو ركبتيه عليه، فإنه لا يعيد الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إن سجَدَ عليه يعيد الصلاة، وإن وضع يديه أو ركبتيه لا يعيد الصلاة، أما إذا وضع يديه أو ركبتيه؛ لأنه ليس بفرض من فرائض الصلاة فأقلّ حاله أن يجعل كالعدم، وأما إذا سجد فالكلام فيه بناءً على ما قلنا إن فرض السجود يتأدى بوضع الأنف لا غير، وعندهما بوضع الجبهة.
وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أنه قال فيمن صلى قائماً وموضع القدمين نجس: فسدت صلاته، ولا يفترق الحال بين أن يكون جميع موضع القدمين نجساً، وبين أن يكون موضع الأصابع؛ لأن القدم وموضع الأصابع شيء واحد، فكان حكمها واحداً، وإذا كان موضع إحدى القدمين طاهراً، وموضع الأخرى نجساً؛ فوضع قدميه اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا تجوز صلاته؛ لأن القيام يحصل برجل واحدة فيكون وضع الآخر كلا وضع، وفي نسخة الإمام الزاهد الصفار؛ الأصح أنه لا تجوز صلاته؛ لأنه لما وضعهما صار القيام مراداً بهما، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، فإن وضع إحدى القدمين التي موضعها طاهر ورفع القدم الأخرى التي موضعها نجس وصلى، فإن صلاته جائزة.
وفي «القدوري» إذا افتتح الصلاة على مكان نجس منع ذلك انعقاد الصلاة، وإن افتتح الصلاة على مكان طاهر ثم نقل قدميه إلى مكان نجس ثم عاد إلى مكان طاهر صحت صلاته، إلا أن يتطاول حتى يصير في حكم الفعل الذي إذا زيد في الصلاة أفسدها.

ولو صلى على بساط في ناحية منها نجاسة إن كانت النجاسة في موضع قيامه لا تجوز، وإن كانت في موضع سجوده فعلى ما ذكرنا فيما إذا كانت النجاسة على الأرض، وإن كانت غير هذين الموضعين فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يجوز صغيراً كان البساط (أو لبيا) وحدّه أنه إذا رُفِعَ أحد طرفيه لا يتحرك الطرف الآخر، في الوجهين جميعاً تجوز صلاته وبه أخذ الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وقال بعضهم: إذا كان البساط صغيراً على التفسير الذي قلنا: لا يجوز، وإن كان كبيراً على التفسير الذي قلنا يجوز.
ولو كان البساط مُبطّناً فأصابته النجاسة البطانة فصلى على الظهارة، وقد قام على ذلك الموضع، فعن محمد أنه يجوز، وهكذا ذكر في «نوادر» الصلاة، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز، وقيل: جواب محمد في مخيط غير مُضَرَّب حكمه حكم ثوبين وجواب أبي

(1/282)


يوسف في مخيط مضرب حكمه حكم ثوب واحد، فلا خلاف بينهما في الحقيقة في «شرح الطحاوي» ؛ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «نوادره» الضم بالخياط غير معتبر، وهو كثوبين منفصلين، الأسفل منهما نجس وأبو يوسف يقول: الضم قد جمعهما فهو كثوب واحد غليظ.
وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف في جبّة مبطنة أصابها دم قدر درهم وخلص إلى البطانة وهو إن جمع كان أكثر من قدر الدرهم فصلى فيه جازت صلاته، والجسد بمنزلة ثوب واحد، وروى أبو سليمان عن محمد أنه لا يجوز؛ لأن هذا بمنزلة ثوبين عنده وصار كالبساط المبطن.
وفي «النوازل» : ثوب ذو طاقين فأصابته نجاسة أقل من قدر الدرهم ونفذت النجاسة إلى الجانب الآخر، حتى صارت أكثر من قدر الدرهم لا يجوز، ولو كان الثوب ذو طاق واحد فأصابته نجاسة، ونفذت إلى الجانب الآخر وصارت أكثر من قدر الدرهم، لم يمنع ذلك جواز الصلاة؛ لأن هذا من الجانبين واحد فلا يعتبر منفرداً، فأما ذو الطاقين متعدد وما ذكر من الجواب في الثوب إذا كان ذا طاقين فذاك قول محمد، أما على قول أبي يوسف لا يمنع ذلك جواز الصلاة؛ لأنها بمنزلة ثوب واحد عنده بدليل المسائل الذي ذكرنا قبل هذا.
وفي «القدوري» لو كانت على بطانة مصلاه أو في حشوها جازت الصلاة عليها، بخلاف ما إذا كانت النجاسة في حشو جبته، وإذا صلى على موضع نجس وفرش نعليه وقام عليهما جاز، ولو كان لابساً لهما لا يجوز لأنهما يكونان تبعاً له حينئذٍ.
في «النوازل» : إذا قام على مكعبه وعلى نعله نجاسة جاز عند محمد خلافاً لأبي يوسف، ولو كان لم يخرج رجليه وصلى فيهما إن كان واسعاً فهو على الخلاف، وإن كان ضيقاً لم تجز بلا خلاف، فلو كانت النجاسة في خفه لا تجوز بلا خلاف، وقول أبي حنيفة لا يحفظ في باب المسح من «نوادر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله» .
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا صلى على مكان طاهر وسجد على مكان طاهر إلا أنه إذا سجد تقع ثيابه على أرض نجسة يابسة أو ثوب نجس جازت صلات؛ لأنه أدى الصلاة في مكان طاهر، وفي اختلاف زفر: إذا كانت النجاسة على باطن اللبنة أو الآجرّة وهو على ظاهرها قائم يصلى لم تفسد صلاته.

وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: البول إذا كان على الأرض فبنى عليه أو فرشه بطين وجص حتى رفع به أحكام الفعل وقام عليه البول وصلى أجزأه، وإن أرق البول بباطن البناء وليس البناء في هذا كالثوب، ولو فرشه بالتراب ولم يطين بجص، والبول اتصل بباطنه، القياس أن لا تجوز، وعنه أيضاً لبنة أو آجرّة أصابها بول فجف حتى ذهب أثره ثم بنى عليها بناءً أو فرشها أجزأه أن يصلي عليها.
وعنه أيضاً: آجرّة حلت بها نجاسة فقلبها رجل وسجد عليها جاز، وبمثله لو حلت نجاسة بخشبة، فقلبها وسجد عليها لم يجز، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر مسألة

(1/283)


الخشبة في موضع آخر، وذكر أنه إذا كان غلظ الخشب بحيث يقبل القطع تجوز الصلاة وعن أبي يوسف رواية أخرى في الآجر واللبن يقلب: نظر في ذلك، فإن وضع للبناء أو للفرش جازت صلاته، وإن وضع لغير ذلك لكن يرفع لم تجز صلاته، وكذلك الأرض إذا أصابته نجاسة فألقى عليها التراب وصلى عليها، فإن كان ذلك......... غير أن يفعل إلى غيرها جازت صلاته وإلا فلا، وقال محمد في هذه الفصول كلها: إن صلاته جائزة ولو كان لبأ أصابه فقلب حلت وصلى على الوجه الثاني؛ روى عن محمد أنه يجوز، وقال أبو يوسف: لا يجوز.
ومن جملة ذلك الوضوء والتييم: إذا كان مسافراً عادماً الماء، ومسائل الوضوء والتيمم مرت في كتاب الطهارة.
ومن جملة ذلك الوقت حتى لو صلى قبل دخول الوقت لا يجوز، وقد ذكرنا مواقيت الصلاة في الفصل المتقدم.

ومن جملة ذلك استقبال القبلة، قال الله تعالى: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (القرة:144) فكل من كان بحضرة الكعبة يجب عليه إصابة عينها، ومن كان نائياً عنها ففرضه جهة الكعبة لا عينها، وهذا قول الشيخ أبي الحسن (44ب1) الكرخي والشيخ أبي بكر الرازي رحمه الله؛ لأنه ليس في وسعه سوى هذا، والتكليف بحسب الوسع، وعلى قول الشيخ أبي عبد الله الجرجاني من كان غائباً عنها، ففرضه عينها، لأنه لا فصل في النص.
وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط نية عين الكعبة، فعلى قول أبي عبد الله تشترط، وعلى قول أبي الحسن وأبي بكر: لا تشترط؛ وهذا لأن عند أبي عبد الله لما كان إصابة عينها فرضاً لا يمكنه إصابة عينها حال غيبته عنها إلا من حيث النية، شرط نيّة عينها، وعند أبي الحسن وأبي بكر لما كان الشرط إصابة جهتها لمن كان غائباً، وذلك يحصل من غير نيّة العين لا حاجة إلى اشتراط العين، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يشترط نيّة الكعبة مع استقبال القبلة، وكان الشيخ الإمام أبو بكر بن فضل لا يشترط ذلك وبعض المشايخ يقول: إن كان يصلي في المحراب فكما قال الحامدي، وإن كان في الصحراء فكما قال الفضلي وذكر الزندوستي في «نظمه» : إن الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام والمسجد الحرام قبلة أهل مكة ممن يصلي في بيته أو في البطحاء، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل العالم، قال وقيل: مكة وسط الدنيا، فقبلة أهل المشرق إلى المغرب عندنا، وقبلة أهل المغرب إلى المشرق، وقبلة أهل المدينة إلى يمين من توجه إلى المغرب، وقبلة أهل الحجاز إلى يسار من توجه إلى المغرب، فإذا صلى بمكة صلى إلى أي جهات الكعبة شاء مستقبلاً بشيء منها، فإن كان منحرفاً عنها غير متوجه إلى شيء منها لم تجز.

(1/284)


قال القدوري: إن صلوا جماعة استداروا حول الكعبة، هكذا جرت العادة، ومن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام، فإن كان في الجماعة التي يصلي إليها الإمام لم يجز؛ لأنه متقدم على الإمام، فإن كان في جهة أخرى جاز.
وإن صلت امرأة إلى جنب الإمام في ذلك الجهة فسدت صلاة الإمام وصلاة القوم، وإن صلت إلى غير ذلك الجهة فسدت صلاة من يحاذيها خاصة، والكلام في فساد صلاة الرجل بحسب المحاذاة يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وسواء كانت الكعبة مبنيّة أو منهدمة يتوجه إليها، لأن الكعبة ليست للحيطان ألا ترى لو وضع الحيطان في موضع آخر وصلى إليها لا يجوز.

وفي «الأصل» يقول: وإذا كانت الكعبة تبنى جاز له أن يصلي إليها، وأراد به انهدام الحيطان، لكن يكره إطلاق لفظ الهدم عليها، ولو صلى في جوف الكعبة أو على سطحها جاز إلى حيث ما توجه؛ لأنه مستقبل الجزء منها واستدبار الباقي لا يضر؛ لأن استقبال الكل متعذّر ولو صلى على جدار الكعبة فإن كان وجهه إلى سطح الكعبة يجوز وإلا فلا، ولو صلوا في جوف الكعبة بجماعة استداروا خلف الإمام وينبغي لمن يواجه الإمام أن يجعل بينه وبين الإمام سترة، ولو صلى وظهره إلى ظهر الإمام جاز، ومن كان ظهره إلى وجه الإمام لم يجز؛ لأنه متقدم.
الإمام إذا صلى فنوى مقام إبراهيم، ولم ينوِ الكعبة إن كان هذا الرجل قد رأى مكة، لم يجز وإن لم يكن رأى مكة، وعنده أن المقام أو البيت واحد أجزأه؛ لأنه نوى البيت، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في الباب الأول من صلاته من نوى مقام إبراهيم لا يجزيه إلا أن ينوي الجهة، فحينئذٍ يجوز، ومن شرط نية الكعبة يقول إذا نوى الكعبة أو نوى الفرضة يجوز، ولو نوى البناء لا يجوز إلا أن يريد بالبناء الجهة، ولو صلى مستقبلاً بوجهه إلى الحطيم لا يجوز.
ولو أن مريضاً صاحب فراش لا يمكن أن يحول وجهه إلى القبلة وليس يحضر به أحد يوجهه تجزيه صلاته إلى جهة ما توجه، وكذا إذا كان صحيحاً لكنه يختفي من العدو أو غيره ويخاف أنه إذا تحرك واستقبل القبلة أن يتبصر به العدو جاز له أن يصلي قاعداً أو قائماً بالإيماء أو مضجعاً حيث ما كان بوجهه، وكذلك إذا انكسرت السفينة وهي على لوح وخاف أنه لو استقبل القبلة يَسقط في الماء يتأتى له أن يصلي حيث ما كان وجهة المصلي إذا حوّل وجهه عن القبلة إن حول صدره فسدت صلاته، وإن لم يحول صدره لا تفسد صلاته إذا استقبل من ساعة القبلة؛ لأنه قل ما يمكن التحرز عن هذا، قالوا: وهذا الجواب أليق بقول أبي يوسف ومحمد أما على قول أبي حنيفة ينبغي أن لا تفسد صلاته في الوجهين بناءً على أن عندهما الاستدبار إذا لم يكن لقصد الإصلاح تفسد الصلاة، وعند أبي حنيفة إذا لم يكن لقصد ترك الصلاة لا تفسد ما دام في المسجد.
أصل هذا إذا انصرف عن القبلة على ظن أنه أتم الصلاة فتبيّن أنه إن لم يتم فعند أبي حنيفة يبني ما دام في المسجد، وعندهما لا يبني، والمسألة مع أجناسها تأتي بعد هذا

(1/285)


إن شاء الله، ومن جملة ذلك النية، قال عليه السلام: «لا عمل لمن لا نية له» وقال عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيّات» .
وفي «الأصل» يقول: إذا أراد الدخول في الصلاة فظن بعض أصحابنا أن محمداً لم يذكر النية، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأنه ذكر إرادة الدخول في الصلاة، وإرادة الدخول في الصلاة هي النية. والكلام فيها في فصلين في كيفيتها وفي محلها.

الفصل الرابع في كيفيتها
نقول المصلي لا يخلو، إما أن يكون متنفلاً أو مفترضاً، فأما إن كان متنفلاً لا تكفيه نية مطلق الصلاة، لأن الصلاة أنواع في منازلها لو أدياها منزلة النفل، فانصرف مطلق النية إليه، وفي صلاة التراويح يكفيه أيضاً مطلق النية عند عامة المشايخ؛ لأنها سنّة الصحابة، وفي سائر السنن تكفيه مطلق النية على ظاهر الجواب، وبه أخذ عامة المشايخ.
وإن كان المصلي مفترضاً فلا يخلو، إما إن كان منفرداً أو إماماً أو مقتدياً، فإن كان منفرداً لا يكفيه نية مطلق الفرض سواء كان يصلي في الوقت أو خارج الوقت أما إذا كان يصلي في الوقت فلأن كل وقت كما هو قابل لفرض الوقت، فهو قابل لفرض آخر بطريق القضاء، وأما إذا كان يصلي خارج الوقت، فلأن خارج الوقت قابل لجميع الفرائض الظهر أو العصر أو المغرب وغير ذلك بطريق القضاء ثم إذا عين الظهر، وكان في وقت الظهر هل يشترط نية فرض الوقت فيه اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: يشترط؛ لأن الظهر أنواع في منازلها ظهر الفائت وغير الفائت وليست إحديهما بأن يصرف النية إليها بأولى من الأخرى، وقال بعضهم: لا يشترط لأن فرض الوقت مشروع الوقت، والفائت غير مشروع الوقت، فإذا وقع التعارض انصرفت إلى ما هو مشروع الوقت كما في نقد البلد.
وإن نوى فرض الوقت ولم يعين أجزأه إلا في فرض الجمعة فإن في فرض الوقت يوم الجمعة خلافاً على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله.
وإذ نوى فرض الوقت ظهر الوقت أو عصر الوقت، ولم ينوِ أعداد الركعات جاز؛ لأنه نوى الظهر، فقد نوى عدد الركعات، هذا إذا كان يصلي في الوقت، وإن كان يصلي بعدما خرج وهو لا يعلم بخروج الوقت فنوى فرض الوقت لا يجوز؛ لأن بعد خروج

(1/286)


وقت الظهر فرض الوقت يكون هو العصر، فإذا نوى فرض الوقت كان ناوياً العصر وصلاة الظهر لا تجوز بنية العصر.
رجل افتتح المكتوبة ثم ظن أنها تطوع، فصلى على نية تطوع العصر حتى فرغ، فالصلاة هي المكتوبة؛ لأن فوات النية بكل جزء من أجزاء العبادة متعذر فيشترط قران النية بالجزء الأول، وكذا لو شرع في التطوع ثم ظن أنها مكتوبة وأتمها على نية المكتوبة، ولو كبّر ينوي التطوع ثم كبر ينوي الفرض يصير شارعاً في الفرض، فإذا أراد أن يصلي ظهر يومه، وعنده أن وقت الظهر لم يخرج، وقد خرج الوقت، فنوى ظهر اليوم جاز، لأنه لما خرج الوقت ظهر اليوم في ذمته؛ فإذا نوى ظهر اليوم فقد نوى عليه إلا أنه قضى ما عليه بنية الأداء وقضاءها عليه بنية الأداء جاز هذا إذا كان منفرداً، فأما إذا كان إماماً فكذلك الجواب في حقه؛ لأنه بمنزلة المنفرد في حق نفسه، ولا يحتاج إلى نية الإمامة؛ لأن الأداء لا يختلف عليه إلا في حق النساء، فإنه لا يصير إماماً لهن إلا بالنية: وإن كان مقتدياً لا تكفيه نية الفرض والتعيين حتى ينوي الاقتداء؛ لأن الأداء مقتدياً يخالف الأداء منفرداً، والمخالفة من هذا الوجه أظهر من المخالفة بين الظهر والعصر، وكذلك في صلاة التراويح إذا كان مقتدياً يحتاج إلى نية الاقتداء مع نية التراويح.

وإن نوى الاقتداء بالإمام ولم يعين الصلاة اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تجزئه؛ لأن الاقتداء بالإمام متنوع إلى نفل وفرض والنفل أدنى، فانصرفت إليه النية المطلقة، وقال بعضهم: تجزئه؛ لأنه جعل نفسه تبعاً للإمام مطلقاً، وإنما يظهر تعيينه مطلقاً إذا صار شارعاً في صلاة الإمام وهو الفرض، وكذلك إذا قال: نويت أن أصلي مع الإمام، وذكر رحمه الله في باب الحديث إذا اقتدى بالإمام ينوي صلاة الإمام ولم يعلم أن الإمام في أية صلاة في الظهر أو في الجمعة (45أ1) أجزأه أَيُّها كانت؛ لأنه نوى الدخول في صلاة الإمام مقتدياً به؛ فيصير شارعاً في صلاته، وإن نوى صلاة الإمام لا تجزئه بالاتفاق؛ لأن صلاة الإمام قد يكون منفرداً وقد يكون مقتدياً إلا بالنية.

وإن نوى الشروع في صلاة الإمام فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: تجزئه، وقال بعضهم: لا تجزئه؛ لأن الشروع في صلاة الإمام متنوع إلى نفل وفرض، والنفل أدنى يفيد الإطلاق، فينصرف إليه، فيصير شارعاً في صلاة الإمام ولكن متنفلاً، والأول أصح؛ لأنه جعل نفسه تبعاً من كل وجه فلا تثبت التبعية من كل وجه مع المخالفة من وجه.
ولو نوى الاقتداء بالإمام ولكن لم ينوِ صلاة الإمام إنما نوى الظهر، فإذا هي الجمعة لا يجوز؛ لأن اختلاف الفرضين يمنع الاقتداء، وإذا أراد المقتدي بنية الأمر على نفسه ينبغي أن ينوي صلاة الإمام والاقتداء به أو ينوي أن يصلي مع الإمام، ولو نوى الجمعة ولم ينوِ الاقتداء بالإمام اختلفوا فيه، بعضهم قالوا لا يجوز؛ لأن الجمعة لا تكون إلا مع الإمام.
ولو نوى الاقتداء بالإمام ولم يخطر بباله أنه زيد أو عمرو جاز اقتداؤه، ولو نوى

(1/287)


الاقتداء بالإمام وهو يرى أنه زيد فإذا هو عمرو صح اقتداؤه؛ لأن العبرة لما ينوي لا لما يرى وهو قد نوى الاقتداء بالإمام، ولو قال: اقتديت بزيد أو نوى الاقتداء بزيد، فإذا هو عمرو لا يصح اقتداؤه.

ولو نوى الشروع في صلاة الإمام على قول من يرى صحة الشروع فهذه النيّة والإمام لم يشرع بعد وهو يعلم بذلك يصير شارعاً في صلاة الإمام إذا شرع الإمام؛ لأنه ما قصد الشروع في صلاة الإمام للحال إنما قصد الشروع في صلاة الإمام إذا شرع الإمام، والأفضل أن ينوي الاقتداء بعدما قال الإمام أكبّر حتى يكون مقتدياً بمصلي.
ولو نوى الاقتداء حتى وقف الإمام موقف الإمامة يجوز نيته عند عامة العلماء، وبه كان يفتي الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد والحاكم عبد الرحمن الكاتب، وقال أبو سهيل الكبير والفقيه عبد الواحد والقاضي أبو جعفر، وبه أخذ أهل بخارى، لا تجوز نية الاقتداء ما لم يكبر الإمام وقال الفقيه الزاهد ينوي الاقتداء بعد قول الإمام الله قبل قوله أكبر وقول إسماعيل الزاهد والحاكم عبد الرحمن: أحوط، ولو نوى الشروع في صلاة الإمام على ظن أن الإمام قد شرع ولم يشرع الإمام بعد، اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يجوز وإذا كان المقتدي يرى شخص الإمام؛ فقال اقتديت بهذا الإمام الذي هو عبد الله، فإذا هو جعفر جاز، وكذا إذ كان في أحد الصفوف لا يرى شخص الإمام، فقال: اقتديت بالإمام الذي هو قائم في المحراب الذي هو عبد الله، فإذا هو جعفر.
ولو شرع في صلاة ثلاثية على ظن أنها. سنية فإذا هي أحادية لا يصح شروعه، ولو شرع على ظن أنها أحادية، فإذا هي سنية يصح شروعه، فإذا جاء إلى المسجد.

ولو قال إن كان الإمام زيداً فأشرع، وإن كان عمرواً فلا، قال محمد بن مقاتل: فهو على ما نوى وقال أبو جعفر الهندواني: لا يصح شروعه فعلاً، ولو نوى الصلاة ولم ينوِ الصلاة لله تعالى جاز، ويكون فعلاً لأن المسلم لا يصلي لغير الله تعالى، وإذا لم يعرف الرجل أن الصلوات الخمس فريضة ولكن يصليها في مواقيتها لا يجوز، وعليه قضاؤها؛ لأنه لم ينوِ الفرائض، وكذلك لو علم أن منها فريضة ومنها سنّة إلا أنه لم يعلم الفريضة من السنّة ولم ينوِ الفريضة في الكل لم تجز الفرائض.
ولو صلى سنين ولم يعرف النافلة من المكتوبة؛ إن ظن أن الكل فريضة جاز ما يصلي، لأنّ النفل يتأدى به. وإن كان ما يعلم أن البعض فريضة والبعض سنّة فكل صلاة صلاها خلف الإمام جاز إذا نوى صلاة الإمام.

وإن كان يعلم الفرائض من النوافل، ولكن لا يعلم ما في الصلاة من الفريضة والسنّة، فصلى الفرائض بنيتها فصلواته جائزة، وإذا كان لا يعلم الفرائض من النوافل، قام يوماً ونوى الفرض في الكل، فقد ذكرنا أن صلوات الأيام كلها جائزة، وأما صلاة القوم فكل صلاة قبلها مثلها من التطوع كالفجر والظهر لا تجوز صلاتهم، وكل صلاة ليس قبلها مثلها من التطوع كالعصر والمغرب والعشاء تجوز صلاتهم وهذا؛ لأنّ كل صلاة قبلها مثلها إذا نوى الإمام السنن نيّة الفرض يقع ذلك عن الفرض، فالتي يأتي بعدها

(1/288)


تصير نفلاً وللقوم فريضة، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز.
وإذا كان الرجل شاكاً في وقت الظهر هل هو باقي ينوي ظهر الوقت، فإذ الوقت قد خرج يجوز بناءً على أن القضاء يجوز بنية الأداء، والأداء بنية القضاء وهو المختار.

رجل صلى الظهر ونوى هذا من ظهر يوم الثلاثاء، فتبين أن ذلك يوم الأربعاء جاز ظهره؟ في تعيين الوقت، ثم في هذه الفصول هل يستحب أن يتكلم بلسانه؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا؛ لأن الله تعالى مطلع على الضمائر، وبعضهم قالوا: يستحب وهو المختار، وإليه أشار محمد رحمه الله في أول كتاب المناسك حيث قال: وإذا أردت أن تحرم بالحج إن شاء لله، فقل: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، هذا هو الكلام في كيفية النية.
بقي الكلام في معرفة وقتها فنقول: لا شك أنها لو كانت مقارنة للشروع يجوز؛ لأنها شُرعت لتعيين العمل بالعبادة، وذلك إنما يحتاج إليه حالة الأداء وحالة الشروع وحالة الأداء، وصار هذا كسائر العبادات، أما إذا تقدمت النية على حالة الشروع لم يذكر محمد رحمه الله هذا في ظاهر الرواية.
وذكر محمد بن شجاع في «نوادره» عن محمد أن من توضأ يريد به الصلاة يعني صلاة الوقت، فصلى وقد عديت النية أجزأه وفي الوقت فيمن خرج من منزله يريد الصلاة أي الصلاة التي كان القوم فيها، فلما انتهى إلى القوم كبّر ولم تحضره النية، فهو داخل مع القوم، وذكر في المناسك إذا خرج يريد الحج أحرم ولم تحضره النية جاز إحرامه، وذكر هشام في «نوادره» أن من جعل دراهم في صرة يتصدق بها عن زكاة ماله؟ ولم تحضره النية عند الفعل لا تجزئه الزكاة عند أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله أرجو أن تجزئه.

فالحاصل: أن الشروع في الصلاة، وفي جملة العبادات صحيح بالنية المتقدمة عند محمد إذا لم يشتغل بعدها بعمل آخر لا يليق بالصلاة، وقال أبو يوسف: لا تجزئه إلا في الصوم خاصة، هو يقول بأن النية شرط للتعيين بشرط حالة الأداء وحالة الأداء حالة الشروع فلا يسقط هذا الشرط وفي باب الصوم مسّت الضرورة؛ لأن حالة الشروع فيه حالة السهو والغفلة، فسقط، ولا كذلك في سائر العبادات، ومحمد رحمه الله يقول باقي النية قد وجدت، وبعد الوجه تبقى حكماً حتى؟ بخلاف ما إذا اشتغل بعمل آخر؛ لأن الصلاة نفسها تبطل بالعمل، فالنية تبطل به أيضاً، وذكر الطحاوي رواية أنه ينوي مقارناً للتكبير ومخالطاً له، وهو مذهب الشافعي رحمه الله هو يقول بأن الأصل أن يعتبر وجودها في كل الصلاة، وإنما لم يعتبر لما فيه الحرج، فاكتفينا بالوجود في حالة العقد على الأداء، وهي التجربة دفعاً للحرج.
ونحن نقول: فيه أيضاً ضرب حرج فيما قاله الطحاوي أحوط، وما قاله محمد

(1/289)


رحمه الله أيسر، وأبو يوسف رحمه الله اعتبر الوجود حالة الشروع ممسكاً بما هو الأصل وما اعتبر المخالطة لما فيه من الحرج كما لم يعتبر ما في كل الصلاة، ومحمد رحمه الله يقول: إذا اكتفينا بالوجود حكماً عند فعل الصلاة أولى أن يكتفي به عند الشرط، هذه الجملة من «شرح الأصل» .

وفي القدوري: تقديم النية على التحريمة جائز إذا لم يتخلل بينهما عمل يمنع الاتصال، ولم ينسب هذا القول إلى أحد، ثم قال: وروي عن أبي يوسف فيمن خرج من منزله يريد الفرض بالجماعة، فلما انتهى إلى الإمام كبّر ولم تحضره النيّة في تلك الساعة أنه يجوز؟ قال: ولا أعلم أحداً من علمائنا خالف أبا يوسف ذلك، هذه الجملة من القدوري.

ومن أصحابنا رحمهم الله من قال: إذا كان عند التحريمة بحيث لو قيل له: أي صلاة هذه؟ أمكنه أن يجيب على البديهة فهو نية صحيحة، وإن كان لا يقدر على أن يجيب إلا بتباطىء فهو ليس يتأتى، ولا تجزيه الصلاة، وله إذا تأخرت النية عن الشروع بأن؟ النية وقت التكبير، ونوى بعد التكبير ففي ظاهر الرواية لا تصح، وقال أبو الحسن الكرخي: تصح ما دام في البناء، وقال بعض الناس يصح إذا تقدمت على الركوع. وجه ما ذهب إليه أبو الحسن أن التسابيح للتكبير وهو صالح للدخول به في الصلاة وإحضار النيّة عنده كإحضاره عند التكبير، وجه ما ذهب به أولئك أن النيّة وجدت في أكثر الركعة والأكثر ينوب الكل كالصوم.
النوع الثاني: من فرائض الصلاة هي عند الشروع في الصلاة، وبعد الشروع فيها (45ب1) وهي منه بنيته على الوقت وهي تكبيرة الافتتاح، والقيام في حق القادر عليه والقراءة والركوع والسجود والقعدة الأخيرة، وبنيّة أن على الخلاف، وهي القومة بين الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين والخروج عن الصلاة بفعل المصلي على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فرعفي تكبيرة الافتتاح أو ما يقوم مقامها
مع النية فرض الدخول في الصلاة إلا بهما، قال عليه السلام: «لا يقبل الله تعالى صلاة امرىء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول: الله أكبر» وقال عليه السلام: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير» ، وإذا أراد التكبير يرفع يديه ويكبّر، واختلف الناس في أن رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح هل هو سنّة؟ والصحيح أنه

(1/290)


سنّة؛ لأن رسول الله عليه السلام واظب عليه، وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما واظب عليه رسول الله عليه السلام يكون سنّة، وهكذا روي عن أبي حنيفة أيضاً، فإن ترك رفع اليدين هل يأثم؟ تكلموا فيه بعضهم قالوا: يأثم، وبعضهم قالوا: لا يأثم، وقد روي عن أبي حنيفة ما يدل على هذا القول، فإنه قال: إن ترك رفع اليدين جاز وإن رفع فهو أفضل، وكان الشيخ الإمام الزاهد الصفار يقول: إن ترك أحياناً لا يأثم وإن اعتاد ذلك يأثم.l
وكذلك اختلفوا في وقت رفع اليدين، قال بعضهم: يرفع ثم يكبّر، وقال بعضهم: يرسل يديه أولاً إرسالاً ويكبّر ثم يرفع يديه، وقال الفقيه أبو جعفر: يستقبل ببطون كفيّه القبلة وينشر أصابعه ويرفعهما، فإذا استقرتا في موضع المحاذاة يعني محاذاة الإبهامين شحمة الأذنين يكبّر، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وعليه عامة المشايخ، وعن بعض المشايخ أن الصواب أن يقبض أصابعه قبضاً ويضمهما ضماً في الابتداء ثم إذا جاء أوان التكبير ينشرهما، وعن بعضهم أنه لا يفرج أصابعه كل التفريج، ولا يضمهما كل الضم بل يتركهما على ما عليه العادة، وهو المعتمد.

وذكر ابن رستم في «نوادره» لا يفرج أصابعه كل التفريج في حالة الصلاة، ولا يضم كل الضم إلا في موضعين؛ في حالة الركوع يفرج كل التفريج؛ لأنه يحتاج إلى أخذ الركبة، والتفريج أمكن للأخذ، وفي حالة السجود يضم كل الضم؛ لأنه يحتاج إلى الاعتماد على راحتيه، وعند الضم يكون أقدر على الاعتماد، وفيهما سواء فتركه على ما عليه العادة، وعن أبي يوسف أنه ينبغي أن يقول التكبير موضع اليدين، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده والشيخ الإمام الزاهد الصفار؛ وهذا لأن رفع اليدين سنّة التكبير، وما كان سنّة الشيء يكون مقارناً لذلك الشيء، كتسبيحات الركوع والسجود، وينبغي أن يرفع يديه حذاء أذنيه ويحاذي بإبهاميه شحمة أذنيه.
وأما المرأة ترفع يديها كما يرفع الرجل في رواية الحسن عن أبي حنيفة، وبهذه الرواية أخذ بعض المشايخ، وقال بعضهم: حذاء يديها، قال بعضهم: حذو منكبيها وهو الأصح؛ لأن هذا أستر في حقها، وما يكون أستر لها فهو أولى.
فلا يطأطىء رأسه عند التكبير، ذكره في كتاب الصلاة للحسن بن زياد، ثم تكبيرة الافتتاح ليست من جملة أركان الصلاة، بل هي شرط الدخول في الصلاة، وقال الشافعي هي من أركان الصلاة.
وفائدة الخلاف تظهر في جواز بناء التنفل على تحريمة الفرض وجاز بناء ركعتي الظهر على تحريمة الظهر، وبناء التنفل على تحريمة الفرض عندنا يجوز، وعند الشافعي لا يجوز.
ووجه بناء هذه المسائل على هذا الأصل: أن عندنا التكبير لما كان شرطاً كان هو مؤدياً للنفل بشرط أتى به الفرض، ومؤدياً للفرض بشرطٍ أتى به لفرض آخر، وذلك جائز، وعند الشافعي التكبير لما كان ركناً كان مؤدياً للتنفل بركن الفرض ومؤدياً الفرض بركن آخر وكل ذلك لا يجوز.

(1/291)


حجته: أن هذا ذكر مفروض شرط في حالة القيام، فيكون من الصلاة كالقراءة، ولهذا شرط لصحتهما شرط لسائر أفعال الصلاة.
وجه قول علمائنا: قول الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 15) جاء في التفسير أن المراد منه تكبيرة الافتتاح، فالاستدلال بالآية أن الله تعالى عطف الصلاة على تكبيرة الافتتاح، والشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره، فهذا بذلك على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة، وقال عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة امرء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول الله أكبر» فالاستدال بالحديث أن النبي عليه السلام جعل الطهارة، فاستقبال القبلة والتكبير سواء ثم الطهارة واستقبال القبلة شرط، فكذا التكبير إلا أن التكبير متصل بالركن وهو القيام، فشرط هذه الشرائط لصحة ما يتصل بها من الركن لا لصحة التكبير.
ولو افتتح الصلاة بالتهليل، بأن قال: لا إله إلا الله، أو بالتحميد بأن، قال: الحمد لله، وبالتسبيح، بأن قال: سبحان الله أو، قال: الله أجل الله أعظم، أو قال: لا إله غيره أو، قال: تبارك الله يصير شارعاً، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول النخعي، والحكم بن عيينة، وينوي إن كان يحسن التكبير أو لا يحسن، وكذلك يستوي إن كان يعرف أن الصلاة تفتتح بالتكبير أو لا يعرف.
وقال أبو يوسف في «الجامع الصغير» : إذا كان يحسن التكبير لم يجزه إلا بقوله الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولم يفصل بين ما إذا كان يعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير أو لا يعلم وذكر في كتاب الصلاة، وقال أبو يوسف: إن كان يحسن التكبير ويعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير لا يصير شارعاً إلا بما ذكرنا من الألفاظ، فأما إذا كان لا يعرف الافتتاح بالتكبير يجزيه، وإن كان يحسن التكبير، وقال الشافعي: إذا كان يحسن التكبير لا يصير شارعاً إلا بقوله الله أكبر الله أكبر، وقال مالك: لا يصير شرعاً إلا بقوله الله أكبر حجة مالك ظاهر قوله عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة امرء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول الله أكبر» .

وجه قول الشافعي: إن في قوله الله الأكبر ما في قوله الله أكبر وزيادة، وأبو يوسف يقول: الله أكبر والله الكبير سواء؛ لأن أفعل وفعيل في صفات الله تعالى واحد؛ لأن أفعل لا نذكر إلا من مذكورين وليس ههنا إلا مذكور واحد، وأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله قول الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 15) علق بالصلاة بمطلق ذكر اسم الله تعالى، وعن مجاهد وعبد الرحمن أن الأنبياء كانوا يفتتحون الصلاة بلا إله إلا الله؛ ولأن المقصود هو التعظيم وبأي ذكر أتى فقد حصل معنى التعظيم، فلا حجة لهم في الحديث؛ لأن التكبير قد يجيء بمعنى التعظيم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (يوسف: 31) أي عظمته، وقال الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ

(1/292)


تَفْعَلُونَ} (الصف: 3) وعندنا إنما يجوز إذا ذكر اسماً آخر على وجه التعظيم، ولو قال الله أكبر؛ روي عن أبي يوسف أنه لا يصير شارعاً.
ولو قال الله الكبار؛ روي عن أبي يوسف أنه يصير شارعاً؛ لأن الكبار لغة في التكبير، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر أنه إذا افتتح الصلاة بالتهليل أو بالتسبيح أو بالتحميد أنه يصير شارعاً ولم يذكر أنه هل يكره ذلك عندهما؟ فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يكره، وبعضهم قالوا: لا يكره والأول أصح، فقد ذكر القدوري رواية عن أبي حنيفة أيضاً أنه كره الافتتاح إلا بقوله؛ الله أكبر ولو قال أكبار لا يصير شارعاً، ولو قال هكذا في خلال الصلاة تفسد صلاته، لو قال اللهم اغفر لي أو قال اللهم ارزقني كذا لا يصير شارعاً بلا خلاف؛ لأن هذا سؤال والسؤال غير الذكر، قال عليه السلام: «فيما يرويه عن ربه «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وعلى هذا إذا قال أستغفر الله أو قال نعوذ بالله أو قال: بالله أو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله أو قال: ما شاء الله لا يصير شارعاً، ولو قال الله يصير شارعاً عند أبي حنيفة.

فعن رواية الحسن اكتفى بذكر اسم، وفي ظاهر رواية «الأصل» اعتبر الصفة مع الاسم، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع» والشيخ الإمام الزاهد الصفار في شرح كتاب الصلاة أن على قول أبي حنيفة: يصير شارعاً، وعلى قول محمد: لا يصير شارعاً؛ لأن تمام التعظيم بذكر الاسم والصفة، ولو قال: بالله يصير شارعاً عندهما، هكذا ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يصير شارعاً عندهما، هكذا ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يصير شارعاً عند محمد، ولو قال الله أكبر بالكاف يصير شارعاً، فالعرب قد تبدل الكاف بالكاف، ولو قال اللهم فقد اختلف، أهل النحو فيه على قولهما؛ قال البصريون يصير شارعاً لأن الميم بدل عن ياء النداء فكأنه قال يا ألله، وهناك يصير شارعاً؛ وقال الكوفيون: لا يصير شارعاً والأول أصح، وفي «فتاوى النسفي» إذا افتتح الصلاة بالتعوذ أو بالتسمية لا يصير شارعاً، أما قوله سبحانك اللهم وبحمدك يصير شارعاً.
ولو كبر بالفارسية بأن قال خداي ندر كست خداي تررك ندنام خداي تررك جاز عند أبي حنيفة سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن إلا أنه إذا كان يحسن العربية يكره، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا يجوز إذا كان يحسن العربية (46أ1) وعلى هذا الخلاف قراءة القرآن بالفارسية، وعلى هذا الخلاف لو دعا بالفارسية في الصلاة أو سبّح أو أثنى على الله تعالى أو تعوذ أو هلل أو صلى على النبي أو استغفر الله تعالى بالفارسية في الصلاة، وفي القراءة بالفارسية كلمات كبيرة، سيأتي بعد هذا في فصل القراءة إن شاء الله.

وفي «نوادر ابن سماعة» : لو افتتح المؤتم الصلاة مع الإمام، ففرغ من قوله الله قبل

(1/293)


فراغ الإمام من قوله الله لم يجز سواء قال أكبر مع الإمام أو قبله أو بعده، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف: يجزئه إذا قال أكبر مع الإمام أو بعده؛ لأن كل لفظ التكبير فرض عند أبي يوسف حتى لا يصير داخلاً عنده بقوله الله للتفسير المتقدم والمتأخر في كل لفظ التكبير.
وعندهما بقول الله: يصير شارعاً فيعتبر التقدم، والتأخر فيه، ولو قال الله مع الإمام أو بعده، وفرغ في قوله أكبر قبل فراغ الإمام من قوله أكبر على قول أبي حنيفة: يجوز؛ لأنه لو اقتصر على قول الله مع الإمام أو بعده يجوز، فههنا كذلك.
وقيل: ينبغي ههنا أن لا يجوز بالاتفاق؛ لأنه إنما يصير شارعاً بقول الله عند أبي حنيفة إذا اقتصر عليه، أما إذا قال أكبر يصير شارعاً بالكل، ويصير الكل فرضاً، وإذا نوى الاقتداء وكبّر ووقع تكبيره قبل تكبير الإمام، فيصلي الرجل بصلاة الإمام لم يجز؛ لأنه لم يصر إماماً؛ لأنه حين اقتدى به لم يكن هو في الصلاة، وهل يصير شارعاً في صلاة نفسه؟
أشار في كتاب الصلاة إلى أنه يصير شارعاً، فإنه قال متى جدد تكبيراً مستأنفاً ونوى صلاة الإمام كما في تكبيره قطعاً للصلاة، الأولى شروعاً في صلاة الإمام، وذكر في «النوازل» : لأبي سليمان أنه لا يصير شارعاً، فإنه قال: إذا قهقهه لا تنتقض طهارته، ولو صار شارعاً لا تنتقض طهارته.

فمن مشايخنا من قال في المسألة روايتان على رواية «النوادر» : لا يصير شارعاً، وعلى رواية «الأصل» يصير شارعاً، ومن المشايخ من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين، واختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم على رواية «النوادر» يصير شارعاً؛ لأنه نوى نيتيّن الاقتداء والصلاة، فبطلان إحدى النيتين لا يوجب بطلان النية الأخرى، وما ذكر من عدم انتقاض الطهارة بالقهقهة لا يدل على عدم الشروع؛ لأن حرمة هذه الصلاة قاصرة، فإنه شرع مقتدياً وقد ظهر فيه بخلافه، فصار كالصلاة المظنونة، ولا رواية فيها فلا تكون في معنى المنصوص، وهذا الحكم وهو انتقاض الطهارة بالقهقهة عرف بالنص، ومنهم من قال على رواية كتاب الصلاة لا يصير شارعاً؛ لأنه اقتدى بمن ليس في الصلاة، فصار كما لو اقتدى بجنب أو محدث، والروايات ثمة متفِّقَة، وإنما سمّاه قطعاً في زعم المصلي غير أن كلا القولين ضعيف، أما الأول؛ لأن القهقهة في الصلاة المظنونة توجب انتقاض الطهارة؛ لأنها لاقت حرمته صلاة مطلقة، وإن كانت لا توجب القضاء كما لو قهقه قبل السلام، وذلك روي عن أبي يوسف.
وأما الثاني: فلأنه سمّاه قطعاً للصلاة مطلقاً فيجب العلم بحقيقته، ما يكون قطعاً للصلاة بزعم المصلي يكون قطعاً بصورته فلا يكون قطعاً مطلقاً أو لا يكون قطعاً حقيقة، بل يكون مجازاً.

وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أن ما ذكر في «الأصل» قول أبي يوسف، وما ذكر في «النوادر» قول محمد بناءً على أصل أن الجهة إذا فسدت قبل: تبقى أصل الصلاة على قول أبي يوسف تبقى، وعلى قول محمد: لا تبقى، وعن أبي حنيفة

(1/294)


روايتان، والمسألة تأتي بعد هذا، وعامة المشايخ على أنه إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع وموضع ما ذكر في «الأصل» : أنه يذكر قبل الإمام ولم يقتد به، فلمّا كبّر الإمام نوى هو بقلبه الاقتداء بالإمام فلا يصير مقتدياً، ولكن يصير شارعاً في صلاة نفسه، وموضوع ما ذكر في «النوادر» : أنه كبّر قبل تكبير الإمام مقتدياً به، ثم كبر الإمام، فلا يصير شارعاً في صلاة الإمام ولا في صلاة نفسه، وإلى هذا قال شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، فلو أنه كبّر بعد ما كبّر الإمام، ونوى الشروع في صلاة الإمام يصير شارعاً في صلاة الإمام قاطعاً لما كان فيه، وهذه التكبيرة تعمل عملين، ومثل هذا جائز كمن كان في النافلة فكبّر ينوي الفريضة.
ثم إذا شرع في صلاة الإمام في هذه الصورة وقطع ما كان فيها هل يلزمه قضاء ما قطعها؟ ينظر إن كانت تلك الصلاة نفلاً لزمه القضاء بالشروع، وإن كانت فرضاً ينظر إن كانت تلك الصلاة، والصلاة التي اقتدى بالإمام واحداً لا يلزمه شيء؛ لأنه أداها على أكمل الوجوه، وإن كانت مختلفة يلزمه القضاء، ثم الأفضل في تكبيرة الافتتاح في حق المقتدي أن تكون تكبيرة مع تكبير الإمام عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر، وقال أبو يوسف ومحمد يكبّر مع تكبير الإمام، ذكر الاختلاف على هذا الوجه في اختلاف زفر ويعقوب لهما قوله عليه السلام: «فإذا كبّر فكبروا» والفاء للتعقيب.

ولأبي حنيفة القيام ركن من أركان الصلاة، فيكون الأفضل للمؤتم المشاركة في جميع ذلك قياساً على الركوع والسجود، وإذا كبر بعد تكبير الإمام تفوته المشاركة في جزء من القيام وأما الحديث قلنا: الفاء إنما توجب التعقيب إذا دخل على الجزاء.
وقوله: «فكبروا» ليس بجزاء ولكن هذا بيان الحال، كما يقال إذا دخلت على الأمير ألا ترى أنه عليه السلام عطف عليه قوله، «وإذا ركع فاركعوا» ، ثم المقتدي لا يؤخر الركوع عن ركوع الإمام كذا ههنا فرع على قولهما، فقال: لو كبر مقارناً؛ قال أبو يوسف رحمه الله في رواية: تجزيه ويكره، وقال في رواية: لا يجزيه ذكر الرواية الأولى المعلى في «نوادره» ، وقال محمد أجزأه وقد أساء ذكر في الكنايات، ودليل عدم الجواز ما ذكرنا أن الشرع علّق شروع المؤتم بتكبير يوجد منه بعد الأمام؛ ولأنه يأتي، فلا يصح قبل شروع الإمام، دليل الجواز أن المشاركة حصلت بالشروع مع الإمام فيصح الاقتداء لكن يكره لمخالفة السنّة فلا يُسلّم بأنه يأتي على سبيل التعقيب، بل على سبيل المشاركة كما في سائر الأركان وإذا لم يعلم المؤتم أنه كبّر قبل الإمام، أو بعده ذكر المسألة..... روايات وجعلها على ثلاثة أوجه: (إن) كان أكثر رأيه أنه كبّر قبل الإمام لا يجزيه، وإن كان أكثر رأيه أنه كبّر بعد الإمام يجزيه؛ لأن أكثر الرأي يقوم مقام العلم في الأحكام، وإن

(1/295)


استوى الظنّان عنده يجزيه لأن أمره محمول على الصواب، وقد علم أنه في الاقتداء قصد الشروع في صلاة الإمام، فهو على الصواب حتى يظهر الخطأ.
وإذا نسي المصلي تكبيرة الافتتاح، وقرأ ثم تذكر ذلك فكذا للركوع ينوي أن يكون ذلك عن تكبيره لم يجزئه ذلك عن تكبيرة الافتتاح؛ لأن تكبيرة الافتتاح شرعت في حالة القيام وحالة الركوع ليست بحالة القيام مطلقاً، وكذلك هذا في التطوع إذا كبّر في حالة الركوع الافتتاح لا يجوز وإن كان التطوع يجوز قاعداً من غير عذر.

والفرق: أن التكبير إنما شرع في قيام مطلق، والقيام المطلق إنما يكون باستواء الشق الأعلى والأسفل والشق الأعلى أصل؛ لأن الآدمي لا يعيش إلا به والشق الأسفل تبع؛ لأنه يعيش بدونه، فإذا كبّر في حالة الشروع، فقد كبّر في غير محلّه فلم يجزئه، فأما صلاة التطوع شرعت عند قيام النصف الأعلى، فإذا صلى قاعداً فقد صلى، قال: قيام النصف الأعلى وهو الشرط، فأجزأه مسائل هذا الفصل تأتي في فصل صلاة المريض إن شاء الله تعالى.
يجب أن يعلم أن القراءة في الصلاة ركن، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) ، وقال الله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) أَمَرَ بالقراءة والأمر على الوجوب والمراد حالة الصلاة؛ لأن القراءة لا تجب خارج الصلاة، فتعين حالة الصلاة، وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بقراءة» وإذا أثبت أن القراءة ركن، فنقول: لا بد من معرفة حدِّها ومحلّها وقدرها وصفتها.

أما معرفة حدها، فنقول: تصحيح الحروف أمر لا بد منه، ولا تصير قراءة إلا بعد تصحيح الحروف، فإن صحح الحروف بلسانه ولم يسمع نفسه؛ حكي عن الكرخي أنه يجزيه، وبه كان يفتي الفقيه أبو بكر الأعمش؛ لأن القراءة فعل اللسان، وذلك بإقامة الحروف، لا بالسماع، فإن السماع فعل السامع، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الأصل» حيث قال:
وإن كان وحده وكانت صلاة يجهر فيها بالقراءة قرأ في نفسه إن شاء، وإن جهر وأسمع نفسه داخلاً في القراءة، لكان إسماع نفسه مستفاداً من قوله قرأ في نفسه، فيكون قوله وأسمع نفسه تكراراً، وحكي عن الفقيه أبي جعفر (46ب1) الهندواني والشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه لا يجزيه ما لم يسمع نفسه، وبه أخذ المشايح؛ لأن هذا الكلام ما هو مسموع مفهوم، ألا ترى أنّ ألحان الطيور لا تسمى

(1/296)


كلاماً مع أنها مسموعة لأنها غير مفهومة، وألا ترى أن الكتاب لا يسمى كلاماً مع أنه بشرط وجود القراءة في نفسه.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الأصح أنه لا يجزيه ما لم يُسمع أذناه ويسمع من بقربه، قال بعض مشايخنا التسمية على الذبيحة، والاستثناء في اليمين والطلاق والعتاق والإيلاء والبيع فهو على هذا الاختلاف، وذكر القاضي الإمام علاء الدين في «شرح مختلفاته» أن الصحيح عندي أن في بعض يكتفي بسماعِهِ، وفي بعضها يشترط سماع غيره مثلاً في البيع ولو أدنى المشتري صماخه من فم البائع فسمع يكفي، ولو سمع البائع بنفسه، ولم يسمعه المشتري لا يكتفى، وفيما إذا حلف لا يكلم فلاناً، فناداه من بعيد بحيث لا يسمع لا يحنث، نصّ على هذا في كتاب الأيمان؛ لأن شرط الحنث وجود الكلام في محلها، فنقول في التطوع محل القراءة الركعات كلها.

وفي الفرائض محل القراءة الركعتان، حتى تفترض القراءة في الركعتين إن كانت الصلاة من ذوات المثنى يقرأ فيهما جميعاً، وإن كانت الصلاة من ذوات الأربع يقرأ في الركعتين الأوليين، وفي الركعتين الأخريين هو بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح، وإن شاء سكت.
وقال الشافعي: هي فرض في الأربع؛ لأن القراءة ركن، وكل ركعة تشتمل على أركان الصلاة ثم سائر..... كان كالركوع والسجود، والقيام فرض في كل ركعة، فكذا ركن القراءة، ولهذا كان ركناً في التطوع في كل ركعة.
ولنا: أن قضية القياس الاكتفاء بالقراءة في ركعة واحدة، فإن الأمر بالفعل اقتضى التكرار لا أن الركعة الثانية مثل الأولى من كل وجه فأوجدنا القراءة فيها استدلالاً بالأولى، فأما الأخريات فهما زائدتان على الأوليين؛ لأن الصلاة في الأصل كانت ركعتين كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كانت الصلاة في الأصل ركعتين فزيدت في الحضر وأُقِرّت في السفر» ، فلم يجز قياس الآخرين على الأوليين، ولهذا لا يقاس الأخريان على الأوليين في حق وصف القراءة وهو الجهر والإخفاء، وكذا في حق القدر وهو السورة، فكذا في أصل القراءة، وإن ترك القراءة والتسبيح لم يكن عليه حرج، ولم تكن عليه سجدتا السهو إن كان ساهياً، لكن القراءة أفضل، هذا هو الصحيح من الروايات، كذا ذكره القدوري في «شرحه» .
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لو سبح في كل ركعة ثلاث تسبيحات أجزأه، وقراءة الفاتحة أفضل، فإن لم يقرأ ولم يسبح كان مسيئاً إن كان متعمداً أو كان ناسياً فعليه سجدتا السهو؛ لأن القيام في الأخروين مقصود، فيكره إخلاؤه عن الذكر والقراءة جميعاً كما في الركوع أو السجود، وقد كره ذلك رسول الله عليه السلام لأصحابه

(1/297)


حيث قال:؟ أي واقعين.....h

والأوّل أصح؛ إذ الأصل في القيام القراءة، فإذا سقطت القراءة في الأخراوين بقي القيام المطلق، فيكون قيامه كقيام المؤتم بخلاف الركوع والسجود، ولأن القراءة فيهما ليست بمسموعة، وإنما المشروع فيهما الذكر، فلا يجوز أصلاً؟ عن الذكر، وعن أبي يوسف أنه قال: يسبح فيهما فلا يسكت، إلا أنه إن أراد أن يقرأ الفاتحة، فليقرأ على جهة البناء لا على جهة القراءة، وبه أخذ بعض المتأخرين من أصحابنا.
وفي الوتر محل القراءة الركعات كلّها حتى تفترض القراءة في الركعات كلها، وهذا على أصلهما لا يشكل؛ لأن الوتر على أصلهما سنّة، والقراءة في السنن في جميع الركعات واجبة، وإنما يشكل على أصل أبي حنيفة، فإنه يقول فرض عملاً لا اعتقاداً، ولزوم القراءة من أمارات النفل، والجواب عن هذا أن دليل الفرضية عنده قاصر؛ لأنه من؟....... بإيجاب القراءة في الكل احتياطاً، فإن القراءة في الكل في الفرائض لا يوجب الفساد، وترك القراءة في ركعة من النوافل يوجب الفساد.
وأما الكلام في قدر القراءة متنفلاً فرض القراءة عند أبي حنيفة يتأدى بأية واحدة، وإن كانت قصيرة وهو مذهب ابن عباس، فإنه قال: إقرأ ما معك من القرآن فليس شيء من القرآن بقليل، وقال أبو يوسف ومحمد؛ لا يتأدى إلا بأية طويلة كآية المداينة، وكآية الكرسي أو ثلاث آيات قصار مما يقولان أن ما دون ذلك لا يقصد بالقراءة عرفاً، فلا يتناوله مطلق اسم القراءة، وكان المعنى فيه أنه لا يتم به الإعجاز.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إن المأمور به قراءة ما تيسر عليه من القرآن والآية القصيرة من القرآن حقيقةً وحكماً، أما حقيقةً لا يشكل، وأما حكماً، فإنها تحرم قرائتها على الجنب والحائض، أما ما دون الآية ليس لها حكم القرآن، ولهذا لا يحرم على الجنب والحائض قراته، هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله.

وهما يقولان: الأمر المطلق ينصرف إلى ما يسمى قرآناً عرفاً وقوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن: 64) وقوله: {لَمْ يَلِدْ} (الصمد: 3) لا يسمى قرآناً عرفاً، لا يقصد بالقراءة عرفاً للأمر المطلق لا ينصرف إليهما على قول أبي حنيفة إذا قرأ آية قصيرة هي كلمات أو كلمتين نحو قوله فقيل: كيف قدرتم..... ما أشبه ذلك يجوز بلا خلاف بين المشايخ، كذا ذكر بعض المشايخ في «شرحه» ، وسيأتي بعد هذا بخلافه.
وأما إذا قرأ آية قصيرة هي كلمة واحدة نحو قوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن: 64) أو آية قصيرة هي حرف واحد نحو قوله ق. س. ز، فإن هذه آيات عند بعض القُرّاء؟ اختلف المشايخ فيه، وإذا قرأ آية طويلة في ركعتين نحو آية الكرسي وآية المداينة قرأها في ركعتين والبعض في ركعة والبعض في ركعة، اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله، بعضهم قالوا: لا يجوز؛ لأنه ما قرأ آية تامة في كل ركعة، وعامتهم على أنه يجوز فإن

(1/298)


بعض هذه الآيات تزيد على ثلاث آيات قصار أو تقدمها، فلا تكون قراءته أقل من قراءة ثلاث آيات قصار.

وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف إذا كان الرجل لا يحسن إلا هذه الآية وهو قوله تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} (الفاتحة) فله (أن) يقرأها مرّة واحدة في الركعة، ولا يكررها في الركعة وتجوز صلاته، وهو قول أبي حنيفة، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أدنى ما يجوز من القراءة في الصلاة في؟...... سورة في القرآن مثل {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر) وإن قرأ بآيتين طويلتين أو بآية طويلة يكره مثل أقصر سورة في القرآن وإن لم تكن تلك الآيتين أو تلك الآية تشمل أقصر سورة في القرآن لا يجزيه وقراءة الفاتحة على التيقن ليس بفرض عندنا ولكنها وجب حتى يكره تركها، وقال الشافعي رحمه الله: فرض، حتى لو ترك حرفاً منها لم تصح، واستدل بقوله عليه السلام «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ولمواظبة النبي عليه السلام على قراءتها في كل صلاة.
ولنا: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) فهذا يقتضي جواز الصلاة بقراءة القرآن مطلقاً، والعمل بالحديث الواحد إنما يجب على وجه لا يكون نسخاً لما في الكتاب، وذلك بأن يثبت في الحديث وجوب الفاتحة حتى يكره ترك قراءتها، إما أن تثبت الركنية فلا والله أعلم.
في صفة القراءة، فنقول لا يخلو إما أن يكون إماماً أو منفرداً، والصلاة لا تخلو إما أن تكون مكتوبة أو نافلة.
أما إذا كانت الصلاة مكتوبة، فإن كان يجهر في موضع الجهر ويسرّ في موضع السر.
وموضع الجهر الفجر والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين.
وموضع الإسرار الظهر والعصر؛ وهذا لأن الجهر والإسرار في حق الأئمة في موضعها...... ظاهرتان يقيناً من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.

وإن جهر فيما يخافت أو خافَتَ فيما يجهر فقد أساء؛ لأنه خالف السنّة، وأما إذا كان منفرداً؛ إن كانت صلاة يُخافَتْ فيها فخافِت، وإن جهر فيها يكون مسيئاً، هكذا ذكر

(1/299)


الحسن بن زياد في كتاب صلاته، وإن كانت صلاة يجهر فيها فهو بالخيار إن شاء جهر وأسمع نفسه، وإن شاء أسرّ فقرأ في نفسه، أمّا له أن يجهر؛ لأنه سبقه الإمام وله أن يخافت؛ لأن الإمام بالجهر يُسمع غيره، والمنفرد لا يسمع غيره، هكذا ذكر في عامة الروايات، وذكر في رواية أبي حفص أن الجهر أفضل، والأصل فيه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من صلى بنية الجماعة صلت بصلاته صفوف الملائكة» (47أ1) والجهر سنّة الصلاة بجماعة فيما يجهر، فإن قيل..... الجهر جار الأئمة لحاجتهم إلى سماع غيرهم والمنفرد لا يحتاج إلى إسماع غيره، فلا يشرع الجهر في حقه، قبل له المنفرد الإمام في نفسه فيجهر لإسماع نفسه.
فإن قيل: إذا اعتبر إماماً في نفسه لماذا جازت له المخافتة في حقه؟ قيل: له، لأن القراءة دون غيره، فكان تخافته كجهره.
وأما النوافل لا تخلو إما أن تكون نوافل النهار أو نوافل الليل، فإن كانت نوافل النهار يكره الجهر فيها؛ لأنها تابعة للفرائض، والأصل فيه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: «صلاة النهار عجماء» .

وأما نوافل الليل لا بأس بالجهر فيها؛ لأنه مشروع في فرائض الليلة لكن الأفضل أن يكون بين الجهر والإخفاء، لما روي عن النبي عليه السلام أنه خرج ذات ليلة، فمرّ بأبي بكر رضي الله عنه، وهو يُسرّ بالقراءة جزءاً، ومرّ بعمر وهو يجهر بالقراءة جزءاً، ومرّ ببلال رضي الله عنه، وهو يتنقل من سورة إلى سورة، فلما أصبح ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّمذلك لهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كنت أسمع من أناجيه، وقال عمر رضي الله عنه كنت أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، وقال بلال رضي الله عنه: كنت أنتقل من بستان إلى بستان، فقال عليه السلام لأبي بكر: ارفع من صوتك قليلاً، وقال لعمر اخفض من صوتك قليلاً، وقال لبلال: إذا افتتحت سورة، فلا تنتقل إلى غيرها حتى تفرغ عنها.
وأما المخافتة في بسم الله الرحمن الرحيم في أوائل السورة، فهو عند أصحابنا رحمهم الله وهو قول الثوري، رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» .
بقي الكلام بعد هذا في القدر المسنون، قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : القراءة في الصلوات في السفر سواء، تقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت، وفي الحضر تقرأ في

(1/300)


الفجر في الركعتين بأربعين أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب، وكذلك في الظهر والعصر والعشاء، سواء القراءة فيهما على النصف من القراءة في الظهر وفي المغرب يقرأ بالقصار..... هذا هو المذكور في ظاهر الرواية؛ وفي روايات الحسن، ويقرأ في الظهر في الركعتين مثل قراءته في الركعة الأولى من الفجر.
اعلم بأن ما كان من باب المقادير لا يثبت قياساً بل يتبع فيه للنص، والنص قد يرد معقول المعنى والنص الوارد في تقدير القراءة في الصلوات كلها معقول المعنى، على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
والحال حالتان، حالة السفر وحالة الحضر.

وقال: السفر نوعان حالة الضرورة، وهو أن يعجل السير أو يكون خائفاً من جهة العدو، وحالة الاختيار وهو أن يكونوا آمنين في السفر، ولا يعجل السير.
وحالة الحضر أيضاً نوعان؛ حالة الاختيار، وهو أن يكون في الوقت سعة، وحالة الضرورة وهو أن يخاف فوت الوقت، إذا عرفنا هذا، فنقول.
بدأ محمد رحمه الله في «الكتاب» ببيان حالة السفر فقال: يقرأ في السفر بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت؛ لأن السفر لمّا أوجب قصر الصلاة تخفيفاً أوجب قصر القراءة من طريق الأولى، وقد صح أنّ النبي عليه السلام «قرأ في صلاة الفجر في السفر المعوذتين» ، وهذا في حالة الضرورة، أما في حال الاختيار في السفر يقرأ في الفجر نحو سورة البروج وانشقت، ليحصل الجمع بين مراعاة السنّة في القراءة وبين التخفيف، وفي الظهر مثل ذلك، وفي العشاء والعصر دون ذلك، وفي المغرب يقرأ بالقصار جداً، وأما في حالة الحضر.
فإن كانت الحالة حالة الضرورة بأن كان يخاف خروج الوقت يقرأ مقدار ما لا تفوته وقت الصلاة.
وإن كانت الحالة حالة الاختيار بأن كان في الوقت سعة، ذكر في هذا «الكتاب» أنه يقرأ في الفجر في الركعتين بأربعين أو خمسين أو ستين آية سوى فاتحة الكتاب، ولم يرد بقوله بأربعين أو خمسين أو أربعون أو خمسون في كل ركعة، بل أراد به أربعون فيهما في كل ركعة عشرون، وذكر في «الأصل» : أنه يقرأ بأربعين آية سوى فاتحة الكتاب.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقرأ ما بين الستين إلى مائة وفي غير رواية «الأصول» عن أبي حنيفة أنه يقرأ في الركعة الأولى {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَنِ} (الإنسان: 1) والآثار قد اختلفت عن رسول الله عليه السلام، فقد روى أبو برزة الأسلمي أن رسول الله عليه السلام «كان يقرأ في الفجر من ستين آية إلى مائة آية» ، وعن بعض الصحابة أنه

(1/301)


قال: تلقيّت من رسول الله عليه السلام سورة ق والنازعات، لكثرة ما يقرأها في صلاة الفجر وعنه عليه السلام أنه قرأ في الفجر، {إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ} (التكوير: 1) و {إِذَا السَّمَآء انفَطَرَتْ} (الانفطار: 1) . وروي عنه عليه السلام أنه قرأ في الفجر سورة المزمّل والمدثر، وعنه عليه السلام أنه قرأ في الركعة الأولى {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَنِ} (الإنسان: 1) ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ في الركعة الأولى فاتحة البقرة، وفي الركعة الثانية خاتمتها. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في الركعة الأولى سورة النمل، وفي الركعة الثانية سورة بني إسرائيل ولما اختلفت الأخبار في مقادير القراءة، اختلفت مقادير محمد رحمه الله، وباختلاف الآثار تدل على أن في الأمر سعة.
والمشايخ وفقوا بين الروايات فمنهم من قال الأربعون للكسالى، وما فوق ذلك إلى الستين للوسط من الناس، وما بين الستين إلى المائة للذين يجهدون، ويستأنسون بالقراءة ولا يملون.

ومنهم من وفق من وجه آخر، فقال: المراد من الأربعين إذا كان الآي طوالاً، كسورة الملك، فإنها مع طولها ثلثون آية، والمراد من الخمسين والستين إذا كانت الآي متوسطة بين الطول والقصر أو مختلطة فيها القصار والطوال...... فما بين الستين إلى المائة إذا كانت الآية قصار، كسورة المزمل والمدثر وسورة الرحمن.
ومنهم من وفق وجه آخر فقال: إن كان الوقت وقت كدَ وكسب نحو الصيف يقرأ أربعين، فإن كان وقت فراغ كالشتاء يقرأ ما بين الستين إلى مئة، وإن كان فيما بينهما يقرأ خمسين إلى ستين، ومنهم من يقول إذا كانت الليالي قصاراً يقرأ أربعين، وإن كانت طوالاً يقرأ (ما) بين الستين إلى مئة، وإذا كان..... ذلك يقرأ خمسين أو ستين هذا في صلاة الفجر.
وذكر في «الأصل» : يقرأ في الظهر بمثل الفجر أو دونه وكل ذلك، منقول عن النبي عليه السلام روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه السلام..... الظهر {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، و...... أنه قرأ في الفجر أيضاً {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، فكان الظهر مثل الفجر في القراءة؛ ولأن وقت الفجر ووقت الظهر مُتَّسِع، لا يخاف بالتأخير.... يستحب تطويل القراءة ... ، وإحراز الأربع قبل الظهر، ويقرأ دون

(1/302)


الفجر أيضاً، لما روي عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام أنهم قالوا: أحرزوا قراءة رسول الله عليه السلام في..... ثلاثين إلى أربعين، و.... الظهر وقت اشتغال بالكسب، فتطويل القراءة يؤدي إلى السآمة، بخلاف وقت الفجر؛ لأنه وقت فراغ عن الكسب.
وأما في صلاة العصر يقرأ في الركعتين بعشرين آية سوى فاتحة الكتاب، لحديث جابر بن سمرة «أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة العصر في الأولى سورة البروج وفي الثانية والسماء والطارق» ، وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قالوا: أحرزوا ما قرأ رسول الله عليه السلام في العصر، فوجدناه على النصف من قراءة في الظهر؛ وهذا لأن المستحب في العصر هو التأخير..... للناظر إذ النفل بعد العصر مكروه، فإذا أخّر العصر ... بأنه يطول القراءة فيها ... أن يتصل بالوقت المكروه، وأما في العشاء يقرأ بمثل ما يقرأ في العصر، لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن قومه شكوه إلى رسول الله عليه السلام عن تطويل قراءته في العشاء، فقال النبي عليه السلام: «أفتّان أنت يا معاذ، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها» ؛ ولأن المستحب هو تأخير العشاء إلى ثلث الليل، فلو أطال القراءة يؤدي إلى الملالة.
وأما في المغرب يقرأ في كل ركعة سورة قصيرة، فإن النبي عليه السلام قرأ فيهما بالمعوذتين، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصّل، والعشاء بأواسط المفصّل، وفي المغرب بقصار المفصّل؛ ولأن مبنى المغرب على التعجيل، وعلى أن لا يحل تأخيرها كذا جاءت الآثار، قال (47ب1) عليه السلام: «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» ، فيجب تخفيف القراءة ليحصل التعجيل وهذا عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يقرأ في المغرب مثل سورة {وَالْمُرْسَلَتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) و {عَمَّ يَتَسَآءلُونَ} (النبأ: 1) ، وروي في ذلك خبر أن النبي عليه السلام قرأ في المغرب والطور، وتأويل الحديث عندنا: أنه افتتحها إلا أنه ضمها.

وأما الوتر فما قرأ فيه فهو حسن، بلغنا عن رسول الله عليه السلام «أنه قرأ في الوتر في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) وفي الثانية ب {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 1) ، وفي الثالثة ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وروى

(1/303)


أنه كان يوتر بتسع سور من المفصّل في الركعة الأولى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} (القدر: 1) و {إِذَا زُلْزِلَتِ} (الزلزلة: 1) و {أَلْهَكُمُ التَّكَّاثُرُ} (التكاثر: 1) ، وفي الركعة الثانية والعصر وإنا أعطيناك وإذا جاء نصر الله، وفي الركعة الثالثة ب {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 109) وتبّت و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) ، والأفضل أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة تامة.
ولو قرأ بعض السورة في ركعة والبعض في ركعة أخرى، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا يكره؛ لأنه خلاف ما جاء به الأثر، وذكر عيسى بن أبان رحمه الله في كتاب الحج أنه لا يكره، وروي ذلك عن أصحابنا رحمهم الله، وروى حديثاً بإسناد له عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قرأ في صلاة الفجر سورة بني إسرائيل، فلما بلغ أنهى التلاوة ركع وسجد، ثم قام إلى الثانية وختم السورة.
ولو قرأ في الركعتين من وسط (سورة) أو من آخر سورة، فلا بأس به، ولو قرأ في الركعة الأولى من وسط سورة أو من آخر سورة وقرأ في الركعة الأخرى من وسط سورة أخرى أو من آخر سورة، فلا ينبغي أن يفعل ذلك على ما هو ظاهر الرواية، ولكن لو فعل لا بأس به، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» في نسخة شمس الأئمة رحمه الله قال بعضهم: يكره وقال بعضهم: لا يكره.

وفي «الفتاوى» : سئل عن القراءة في الركعتين من آخر السورة أفضل أم قراءة سورة بتمامها؟ قال: إن كان آخر السورة أكثر آية من سورة التي أراد قراءتها كان قراءة آخر السورة أفضل، وإن كانت السورة أكثر فهي أفضل، ولكن ينبغي أن يقرأ في الركعتين آخر سورة واحدة، ولا ينبغي أن يقرأ في كل ركعة آخر سورة على حدة، قال ذلك مكروه عند أكثرهم، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» .
وإذا انتقل من آية إلى آية أخرى من سورة أخرى أو من هذه السورة وبينهما آيات يكره، فقد صح أن رسول الله عليه السلام نهى بلالاً عن ذلك حين سمعه ينتقل من سورة إلى سورة، فقال: «اقرأ كل سورة على نحوها» ، وكذلك يكره اختيار قراءة أواخر السور دون أن يقرأ السّور على الولاء في الصلاة وخارج الصلاة؛ لأنه يخالف فعل السلف، وكذلك إذا جمع بين سورتين بينهما سور أو سورة واحدة في ركعة واحدة، فإنه يكره.
وأما في الركعتين إن كان بينهما سور لا يكره، وإن كان بينهما سورة واحدة هل يكره؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم يكره، وقال بعضهم إن كانت السورة طويلة لا يكره وقال بعضهم لا يكره أصلاً.
وإذا قرأ في ركعة سورة وقرأ في الركعة الأخرى سورة فوق تلك السورة أو قرأ في ركعة سورة ثم قرأ في تلك الركعة سورة أخرى فوق تلك السورة يكره، وإذا قرأ في الركعة الأولى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) ، ينبغي أن يقرأ في الركعة الثانية {قُلْ أَعُوذُ

(1/304)


بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) أيضاً؛ لأن قراءة سورة واحدة في الركعتين غير مكروهة، وإذا قرأ في الركعة آية، وقرأ في الركعة الأخرى آية فوق تلك الآية أو قرأ في ركعة آية، ثم قرأ بعد هذا في تلك الركعة آية أخرى فوق تلك الآية، فهو على ما ذكرنا في السور.
وإذا جمع بين آيتين بينهما آيات أو آية واحدة في ركعة واحدة أو في ركعتين، فهو على ما ذكرنا في السور أيضاً.

ولو قرأ في ركعة سورة، وقرأ في الركعة الثانية سورة أطول منها، إن كان التفاوت قليلاً لا يكره، فقد صح أن رسول الله عليه السلام: «كان يقرأ في الجمعة في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَاكَ} ، وهل أتاك أطول من سبح اسم ربك بقليل، فإن كان التفاوت كبيراً يكره. وهذا كله في الفرائض فأما في السنن فلا يكره، هكذا ذكر صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله في زلة القاري.
وإذا قرأ الفاتحة وحدها في الصلاة، أو قرأ الفاتحة ومعها آية أو آيتين، فذلك مكروه.
Y
ذكر في «شرح الطحاوي» : المقتدي إذا قرأ خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يكره، وإليه مال الشيخ الإمام أبو حفص، وبعض مشايخنا ذكروا في شرح كتاب الصلاة أن على قول محمد: لا يكره، وعلى قولهما: يكره، ولا بأس بقراءة القرآن على التأليف، فقد صح أن الصحابة فعلوا ذلك، ومشايخنا استحسنوا قراءة المفصل ليسمع القوم ويتعلموا.
وإذا كبّر للركوع في الصلاة ثم بدا له أن يزيد في القراءة لا بأس به ما لم يركع، ويكره أن يتخذ شيئاً من القرآن مؤقتاً لشيء من الصلوات، يعني لا يقرأ غيرها في تلك الصلوات؛ لأن في هجرها سؤا وإذا فعل ذلك في بعض الأوقات لا بأس به، وفي بعض شروح «الجامع الصغير» أن هذه الكراهة فيما إذا اعتقد أن الصلاة لا تجوز بدونها، إلا أن قراءة هذه السورة أيسر عليه لا بأس به، وإذا كرر آية واحدة مراراً، فإن كان ذلك في التطوع الذي يصلي وحده، فكذلك غير مكروه فقد ثبت عندنا عن جماعة من السلف أنهم كانوا يُحيون ليلتهم بآية العذاب أو آية الرحمة أو آية الرجاء أو آية الخوف، وإن كان ذلك في صلاة الفريضة فهو مكروه؛ لأنه لم ينقل إلينا عن واحد من السلف أنه فعل ذلك. وهذا كلّه في حالة الاختيار وأما في حالة العدو والنسيان فلا بأس به والله أعلم.
(نوع آخر)

في معرفة طوال المفصّل وأوساطه وقصاره

فنقول طوال المفصّل من سورة الحجرات إلى سورة والسماء ذات البروج، والأوساط من سورة والسماء ذات البروج إلى سورة لم يكن، والقصار من سورة لم يكن إلى الآخر.
(نوع آخر)
في إطالة القراءة في الركعة الأولى على الركعة الثانية
قال أبو حنيفة رحمه الله في «الجامع الصغير» : يطول الركعة الأولى من الفجر على الثانية، وركعتا الظهر سواء وقال محمد: أحب أن يطول الركعة الأولى على الثانية في

(1/305)


الصلوات كلها، يجب أن يعلم بأن إطالة القراءة في الركعة الأولى على الثانية في الفجر مسنونة بالإجماع، ليدرك الناس ركعتي الفجر بجماعة، وفي سائر الصلوات كذلك عند محمد رحمه الله وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إطالة القراءة في الركعة الأولى في سائر الصلوات غير مسنونة.
احتج محمد رحمه الله بحديث أبي قتادة في غير هذه المسألة وحين وصف أبو حميد الساعدي صلاة رسول الله عليه السلام كان من جملة ما وصف «أن النبي عليه السلام كان يطول الركعة الأولى في كل صلاة» ؛ وهذا لأن التفضيل في صلاة الفجر باعتبار أنه وقت غفلة، فتفضيل الأولى ليدرك الناس الجماعة، وهذا المعنى موجود في سائر الأوقات، إلا أن الغفلة في وقت الفجر بسبب النوم، وفي سائر الأوقات باشتغال الناس بالكسب، ومما احتجا بما روي أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى فاتحة الكتاب وسورة الجمعة وفي الثانية المنافقون، وقرأ مرّة أُخرى في صلاة الجمعة في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} (الغاشية: 1) ، وهما متقاربان أو الثانية أطول من الأولى؛ ولأن الثانية تكرار الأولى، فتكون مثل الأولى، ألا ترى أنه يتكرر بصيغته، وهو الجهر والسورة فكذلك يتكرر بمقداره.

والقياس في الفجر هكذا، وإنما تركنا القياس بعذر؛ لأنه وقت نوم وغفلة بخلاف سائر الأوقات، فإنها وقت علم ويقظة، فلو تغافلوا.... بسبب اشتغالهم بأمور الدنيا، وذلك يضاف إلى تقصيرهم واختيارهم، والنوم لا يكون باختيارهم، فالتفضيل هناك لا يكون تفضيلاً ههنا، ثم يعتبر التطويل من حيث الآيات، إذا كان بين ما يقرأ في الأولى، وبينما يقرأ في الثانية مقارنة من حيث الآي، أما إذا كان بين الآيات تفاوت من حيث الطول والقصر تعتبر الكلمات والحروف.
بعد هذا اختلف المشايخ، قال بعضهم: ينبغي أن يكون التفاوت فيهما بقدر الثلث والثلثين، الثلثان في الأولى والثلث في الثانية، وفي «شرح الطحاوي» قال ينبغي أن يقرأ في الأولى ثلاثين آية وفي الثانية بقدر عشر آيات، أو عشرين، وهذا هو بيان الأولى، وأما بيان الحكم فنقول: التفاوت وإن كان فاحشاً بأن قرأ بأربعين آية وفي الثانية بثلاث آيات لا بأس به، به ورد الأثر (48أ1) .
وأما إطالة الركعة الثانية على الركعة الأولى فمكروه بالإجماع، كذا ذكر صدر الإسلام وفجر الإسلام رحمهما الله في «شرح الجامع الصغير» قالا: وهذا إذا كان الفتاوت كبير بثلاث آيات فما فوقها، وأما إذا كان قليلاً نحو آية أو آيتين لا يكره والله أعلم.

(1/306)


(نوع آخر) في القراءة بالفارسية
وإذا قرأ في الصلاة بالفارسية جاز قراءته سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن، غير أنه إن كان يحسن العربية يكره، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية لا تجوز قراءته، وإن كان لا يحسن العربية يجوز.

فالعبرة عند أبي حنيفة للمعنى وعندهما للفظ والمعنى إذا قدر عليهما، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع الصغير» رجوع أبي حنيفة إلى قولهما رحمهما الله، وقال الشافعي: لا تجوز قراءته على كل حال، وأجمعوا على أنه لا تفسد صلاته بالقراءة بالفارسية إنما الخلاف في الجواز، احتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} (الزخرف: 3) الله تعالى أخبر أن القرآن عربي، والفارسي غير العربي، فلا يكون قرآناً، فلا تجوز صلاته و؟.... القرآن اسم للمعجز، والإعجاز في النظم والمعنى، فإذا قدر عليهما لا يتأدى الفرض إلا بهما، وإذا عجز عن التعلم أتى بما قدر عليه كمن عجز عن الركوع والسجود، فإنه يصلي بالإيماء.
وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي أن الفرس كتبوا إلى سليمان أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتبها إليهم، وكانوا يقرؤون في الصلاة حتى لانت ألسنتهم بالعربية، والدليل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ} (الشعراء: 196) ، ولا شك أن في زبر الأوليين هو المعنى دون اللفظ.

قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: إن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوز قراء القرآن بالفارسية إذا قرأ آية قصيرة يعني قرأ ترجمة آية قصيرة؛ لأن الصلاة عنده تجوز بأدنى الآيات، ثم ذكر أبو سعيد البردعي أن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوّز القراءة بالفارسية خاصة، دون غيرها من الألسنة، أَمَرَ به بالعربية على ما جاء في الحديث «لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية» ، والأصح أن الاختلاف في جميع الألسنة واللغات، نحو التركية والهندية والرومية خلاف واحد، ثم إنما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان مقطوع القول بأن ما أتى به هو المعنى، ويكون على نظم القرآن نحو قوله تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء: 93) ستراي وي دونغ ونحو قوله تعالى {فَجَمَعْنَهُمْ جَمْعاً} (الكهف: 99) ..... وقال تعالى: {مَعِيشَةً ضَنكاً} (طه: 124) ، فأما إذا لم يكن على نظم القرأن لا يجوز.
قال الإمام الزاهد الصفار رحمه الله يجوز كيف ما كان ذكر في باب السهو، قال بعضهم؛ إنما يجوز إذا كان ذلك..... كسورة الإخلاص، فأما إذا كان من القصص،

(1/307)


فإنه لا يجوز، كقوله تعالى: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ} (يوسف: 9) فقال بكشند يوسف لا، فإنه لا يجوز وتفسد صلاته، والصحيح أنه يجوز في الكل، والله أعلم.
ولو اعتاد القراءة بالفارسية أو أراد أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك أشدّ المنع، وإن فعل ذلك في آية أو آيتين لا يمنع من ذلك، ذكره شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع الصغير» ، ولو كتب القرآن وكتب تفسير كل حرف وترجمته تحته؛ روي عن الفقيه أبي حفص رحمه الله لا بأس بهذا في ديارنا؛ لأن معانِ القرآن وفوائدها لا يضبطها العوام إلا بهذا، وإنما يكره هذا في ديارهم؛ لأن القرآن نزل بلغتنا.

إذا قرأ الرجل في صلاته شيئاً من التوراة أو الإنجيل أو الزبور لم تجز صلاته، سواء كان يحسن القرآن أو لا يحسن، علل فقال: لأن هذا كلام وليس بقرآن ولا تسبيح، والذكر الذي يجري في الصلاة إما قرآن أو تسبيح وما يجري مجراه، قال عليه السلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني حاكياً عن استاذه القاضي الإمام هذا رحمهما الله، هذا التعليل من محمد يشير إلى أنه لا بأس للجنب أن يقرأ شيئاً من هذه الكتب؛ لأن محمداً رحمه الله حطه درجة عن درجة التسبيح حيث قال: لأن هذا ليس بقرآن ولا تسبيح، ثم لا بأس للجنب أن يسبح؛ فلأن لا يكون له بقراءة هذه الكتب بأساً من (باب) أولى.
وفي «النوادر» : ويكره للجنب قراءة التوراة.
ووجه ذلك: أنه منزل كالقرآن فيكره للجنب قراءته كالقرآن، وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن هذا فقال، إن عرف أنه منزل لم يقرأه الجنب، قال شمس الأئمة هذا رحمه الله، ونحن لا نعلم أنها كيف أنزل، لأنهم حرفوها وغيروها، فينبغي أن لا ينهى عن قراءتها، ثم قال رحمه الله: وجدت في بعض النسخ أنه إن كان ما قرأ من التوراة وأشباهها مؤدياً للمعنى الذي في القرآن يجوز في قول أبي حنيفة.
وإن لم يكن مؤدياً المعنى الذي في القرآن لا شك أنه لا يجزيه عن صلاته، ولكن هل تفسد صلاته؟ ينظر: إن علم أنه هو التوراة الذي أنزل على موسى لا تفسد صلاته؛ لأنه بمنزلة التسبيح إلا أن يكون ذكر قصة، فحينئذٍ تفسد صلاته؛ لأنه كلام الناس، وكثير من مشايخنا اختاروا ما حكاه شمس الأئمة الحلواني عن بعض النسخ أن ما قرأ في صلاته من التوراة: إن كان موافقاً لمعنى القرآن جازت صلاته في قول أبي حنيفة؛ لأن العبرة عنده للمعنى، والله أعلم.
من هذا الفصل في المتفرقات

محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى: في رجل قرأ في الأوليين من

(1/308)


العشاء سورة سورة، ولم يقرأ بفاتحة الكتاب في الأخريين، يريد بقوله: لم يعد فاتحة الكتاب لم يقضها، وإن قرأ في الأولين بفاتحة الكتاب، ولم يقرأ بالسورة، قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة وجهر، هذا هو لفظ «الجامع الصغير» .
واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بعضهم قالوا: القراءة واجبة في الأوليين، فيحتاج إلى بيان كيفيتها، ينظر أنه هل يمكن القضاء بمثلها في الأخريين، فنقول: القراءة وجبت في الأوليين بصفة أن يفتتح بفاتحة، ويترتب عليها السورة، فإذا ترك الفاتحة في الأوليين، لا يمكن أن يقضيها كذلك.... الفاتحة في الركعتين الأخراوين مرّة واحدة، وإذا ترك السورة في الأوليين أمكنه القضاء؛ لأن الفاتحة مشروعة في الأخريين، فيقرأها، ويبني السورة عليها كما في الركعة الأولى، فيمكنه القضاء بالمثل، وبعضهم قالوا: الأخريين محل الفاتحة، فلم يتسع للقضاء، وليستا بمحل السورة فوسعتا للقضاء.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يقضي السورة؛ لأنه عجز عن القضاء، لأن قراءة السورة غير مشروعة في الأخراوين، ألا ترى أنه لو ترك الفاتحة في الأوليين لا يقضيها في الأخريين، وإنما لا يقضيها لعجزه عن القضاء كذا هذا، فإن أراد أن يقرأ السورة وحدها في الأخريين، ويترك الفاتحة ويقول: كنت بالخيار قبل هذا في قراءة الفاتحة في الأخريين بين أن أقرأها، وبين أن أدع قراءتها، فأمضي على خياري، فلا أقرأها هل له ذلك لم يذكر هذا «في الكتاب» ، ومشايخنا فيه مختلفون منهم من قال: له أن لا يقرأ الفاتحة؛ لأنها لم تكتب عليه في الأخريين، وهو الأشبه بمذهب أصحابنا رحمهم الله، ومنهم من قال ليس له أن يترك الفاتحة هنا لتقع السورة بعد الفاتحة كما هو سنة القراءة في الصلاة، ثم قول محمد في «الجامع الصغير» .
وإن قرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب ولم يقرأ بالسورة قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة مقتضى وجوب قضاء السورة وذكر هذه المسئلة في «الأصل» : وقال: إذا ترك السورة في الأوليين فأحب إلي إلى أن يقرأها في الأخريين نص على أن قضاء السورة في الأخريين بطريق الاستحباب، فصار في المسألة روايتان على رواية «الأصل» يستحب قصاء السورة، وعلى رواية «الجامع الصغير» يجب قضاء السورة، وقول محمد في «الجامع الصغير» قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة وجَهَرَ يحتمل أنه أراد به الجهر بالسورة والفاتحة جميعاً، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله حتى لا تؤدى بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة، فإن ذلك غير مشروع ... الفاتحة تبعاً للسورة؛ لأنها سنّة والسورة واجبة، لكونها قضاء، فيكون على حسب الثواب واجبة والسنّة تبع الواجب، ومن حق السورة الجهر، فكذا ما هو تبع لها، وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا رحمهم الله، ويحتمل أنه أراد بالجهر بالسورة دون الفاتحة، وإليه ذهب بعض المشايخ، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن الفاتحة أداء والسورة قضاء، والأداء يكون على حسب محله،

(1/309)


والقضاء على حسب الفوائت وقد فات (48ب1) مع الجهر، فيقضي مع الجهر. ويلتحق بالركعة الأولى، فلا يؤدي إلى الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة تقديراً، ومنهم من قال، فإنه يخافت بهما، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن الفاتحة تتقدم على السورة، فكانت أصلاً، والسورة تبع لها ومن حق الفاتحة في هذه الركعة المخافتة، فيخافت بالسورة تبعاً لها.
ومما يتصل بهذه المسألة

إذا نسي فاتحة الكتاب في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية، وقرأ السورة ثم تذكر فإنه يبدأ فيقرأ قرأ فاتحة الكتاب ثم يقرأ السورة، هكذا ذكر في «الأصل» : وروى الحسن في «الأصل» : وروى الحسن عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يركع ولا يقرأ الفاتحة؛ لأن فيه نقص الفرض (لا) يؤد التمام لمكان الواجب؛ لأن قراءة السورة وقعت فرضاً وقراءة الفاتحة واجبة.
وجه ظاهر الرواية: أن باعتبار الحال، هذا نقص الفريضة لأجل الفرض، فإنه إذا قرأ الفاتحة تصير جميع القراءة فرضاً، وصار كما لو تذكر السورة في الركوع، فإنه يرجع، إلا أنّ أبا يوسف ربما يمنع تلك المسألة على قياس هذه المسألة، والله أعلم.
ولو لم يقرأ في الركعتين الأوليين أصلاً وقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب خاصة، فإن صلاته جائزة وفوت هذا عن الأوليين، ولو قرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب خاصة، أليس أنه تجوز صلاته كذا هنا، إلا أن يزيد بقراءة الفاتحة في الأخريين ... على ما جرى من السنّة، فحينئذٍ لا تجز صلاته، ولا ينوب هذا عن القراءة.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل فات العشاء فصلاها بعدما طلعت الشمس إن لم فيها جهر بالقراءة؛ لأن القضاء بدأ على حسب الأداء، ويدل عليه حديث ليلة التعريس، فإن النبي عليه السلام قضى الوتر والفجر ضحى ليلة التعريس على حسب الفوائت من الأذان والإقامة والجهر، وإن كان صلى وحده اتفق المشايخ أنه مُخيّر بين المخافتة والجهر، والجهر أفضل إن كان في الوقت، وإن كان بعد ذهاب الوقت اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يخافت حتماً، وبعضهم قالوا: يخيّر والجهر أفضل كما في الوقت، وأصل هذا إن الجهر بالقراءة من شعار الدين، وإنه شرع واجباً في الجماعات، لما أنّ مبنى الجماعة على الإشهاد، أما لا يجب على التفرّد، وكذلك قال في «الأصل» : إذا جهر المنفرد فيما يخافت أو خافت فيما يجهر، لا يلزمه سجود السهو، وإذا لم يجب الجهر على المنفرد يخير في الوقت بالإجماع والجهر أفضل؛ لأنه مأمور بأداء الصلاة بالجماعة، ومن سنّتها الجهر، فإن عجز عن الجماعة لم يعجز عن الجهر، فأما بعد خروج الوقت؛ منهم من قال مخافتة؛ لأنه لا يجب عليه أداء الصلاة بالجماعة

(1/310)


بعد خروج الوقت؛ إذ لا يجد بجماعة بعد خروج الوقت، وإذا لم يجب أداء الصلاة بالجماعة لا تنوب إلى إقامة سنّة الجماعة، وهي الجهر، ومنهم من قال: كلاهما سواء، والجهر أفضل ليكون القضاء على حسب الأداء، وهذا أصح.
واختلف مشايخنا في حدّ الجهر والمخافتة، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي: أدنى الجهر أن يسمع نفسه وأقصاه أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة تحصيل الحروف، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، والإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري: أدنى الجهر أن يسمع غيره وأدنى المخافتة أن يسمع نفسه، وعلى هذا يعتمد. والله أعلم.

محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في إمام يصلي في رمضان أو غيره، ويقرأ من المصحف، فصلاته فاسدة عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا تفسد صلاته ويكره، وعند الشافعي رحمه الله لا يكره، حكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني أنه قال: هذه المسألة دليل على أن الصحيح من مذهب أصحابنا أنه لا بأس بذكر رمضان مطلقاً من غير التقيد بالسهو، وإن مذهبهم بخلاف مذهب مجاهد.
ألا ترى أنهم ذكروا رمضان هنا مطلقاً من غير تقييد حجة الشافعي في المسألة حديث ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنه كان يؤم عائشة رضي الله عنها في رمضان، وكان يقرأ من المصحف، ولو كان مكروهاً لما رَضِيْت به، وأن النظر في المصحف عبادة، والصلاة أيضاً عبادة، فقد أضافت عبادة إلى عبادة فلا تكره، يبقى هذا العذر أنه نسبة بأهل الكتاب، فإنهم يفعلون كذلك، ولكن لا كل ما يفعله أهل الكتاب يكره.
ألا ترى أنهم يقرؤون عن ظهر قلب، ونحن نقرأ كذلك أيضاً ولا يكره، ومما احتجا بجواز الصلاة بحديث ذكوان أيضاً؛ ولأن الواجب قراءة القرآن مطلقاً، وقد قرأ القرآن، فيجوز كما لو قرأ عن ظهر القلب؛ وهذا لأن المفسد إنما يكون محل المصحف أو النظر فيه، أو تقليب الأوراق وحمل المصف لا يصلح مفسداً، فإن حمل ما هو أكثر من ذلك لا تفسد، فإن النبي عليه السلام كان يصلي وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، وكان يضعها إذا سجد ويرفعها إذا قام، والنظر في المصحف لا يصلح مفسداً كالنظر إلى نقوش المحراب بل أولى؛ لأن النظر في المصحف عبادة، والنظر إلى نقوش المحراب ليس بعبادة، وتقليب الأوراق عمل يسير لا يقطع الصلاة، إلا أنه يكره؛ لأنه يشبه أهل الكتاب في صلاتهم فيما عنه بد بخلاف القراءة عن ظهر القلب؛ لأنه لا بد منه، فصار كالصلاة....، فإنه يكره لأن.

ولأبي حنيفة رحمه الله وجهان: حمل المصحف وتقليب الأوراق، والنظر فيه عمل كثير والصلاة منه بد فتفسد الصلاة، فعلى هذا الوجه نقول: إن كان المصحف بين يديه على رجل وهو لا يحمل، ولا يقلب الأوراق تصح صلاته، وكذلك لو قرأ آية مكتوبة على المحراب تصح صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله على قياس هذا التعليل.

(1/311)


والوجه الثاني: أن هذا تعلم من المصحف في الصلاة، والتعلم في الصلاة، مفسد للصلاة كما لو تعلّم من معلم؛ وهذا لأن التعلم نوعان: تعلم من الكتاب، وهما علم الصحيفتين، وتعلم من معلم، ثم التعلم من المعلم يفسد الصلاة، فكذا من الكتاب، فعلى هذا الوجه نقول: وإن كان المصحف بين يديه، وهو لا يحمله ولا يقلب الأوراق تفسد صلاته عن أبي حنيفة، وأورد الحاكم في «المختصر» مسألة تصلح حجة لأبي حنيفة.
وصورتها: إذا كان لا يحفظ شيئاً من القرآن ويمكنه القراءة من المصحف، لو صلى بغير قراءة يجوز، ووجه الاحتجاج: أن القراءة من المصحف لو كانت جائزة لما جازت الصلاة في هذه الصورة من غير قراءة، ولكن الظاهر من مذهبهما أنهما لا يسلمان بهذه المسألة، وبه قال بعض المشايخ، وأما حديث ذكوان.
قلنا: قوله وهو كان يقرأ من المصحف، هذا قول الراوي ذكره على وجه التعريف لذكوان أي لم يكن ذكوان ممن يقرأ القرآن كله عن ظهر القلب، لكنه استظهر فصار المفصّل فيقرأ في صلاته ويؤمها بالسور القصار، وكان لا يمكنه أن يختم في الصلاة؛ لأنه كان لا يقرأ جميع القرآن عن ظهر القلب، وكان يحتاج في قراءة السور الطوال إلى المصحف؛ لأنه إن كان يقرأ في الصلاة من المصحف، فيكون فيه دليلاً على أنه لا بأس بأن لا يختم القرآن في صلاة التراويح، بخلاف ما اعتاده العوام في يومنا هذا.

ومما يحفظ في هذا المقام، ولو نظر إلى مكتوب في المحراب ينوي القرآن وماثل وفهم قيل: على قياس قول أبي يوسف: لا تفسد صلاته، وعلى قياس قول محمد: تفسد، أصل المسألة، فإذا حلف لا يقرأ كتاب فلان، فنظر فيه حتى فهم؛ عند أبي يوسف لا يحنث، وعند محمد يحنث، وقيل: لا تفسد صلاته إجماعاً، بخلاف مسألة اليمين على قول محمد.
والفرق: أن جواز الصلاة تتعلق بصورة القرآن ولم توجد أما الحنث في قراءة الكتاب تتعلق بالمعنى وهو الفهم، وقد وُجد ثم فرّق بينهما، إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر فيه وفهم، فإنه لا يحنث، وبينما إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان، فنظر فيه وفهم، فإنه يحنث.
والفرق عرف في كتاب الأيمان، والله أعلم.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمة الله عليهم: في رجل صلى أربع ركعات تطوعاً، لم يقرأ فيهن شيئاً يقضي ركعتين، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف يقضي أربع ركعات. واعلم بأن هنا ثمان مسائل.
إحداها: هذه المسألة.
الثانية: إذا قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين.
والثالثة: إذا قرأ في الأوليين.
والرابعة: إذا قرأ في الأخريين.
والخامسة: إذا قرأ في الثلاث الأول.

(1/312)


والسادسة: إذا قرأ في الثلاث الأواخر.
والسابعة: (49أ1) إذا قرأ في ركعة من الأولييين.
والثامنة: إذا قرأ في ركعة من الأخريين.

والأصل في جملتها أن يترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، وفي إحداهما لا ترتفع التحريمة، ولا تنقطع عند أبي يوسف، فيُصبح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول بتلك التحريمة، فإن قرأ في الشفع الثاني في الركعتين صح هذا الشفع، وعليه قضاء الشفع الأول لا غير، وإن ترك القراءة في الشفع الثاني في الركعتين أو في إحديهما فسد بهذا الشفع، وكان عليه قضاء الشفعين، وعند محمد ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين أو في إحديهما يرفع التحريمة ويقطعها، فلا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول، فلا يلزمه قضاؤه، وعلى قول أبي حنيفة ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين يقطع التحريمة، كما هو قول محمد باتفاق الراويات، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني عنده، ولا يلزمه قضاؤه.
واختلفت الروايات عنه في ترك القراءة في الشفع الأول في إحدى الركعتين، روى محمد أنه لا يقطع التحريمة، كما هو مذهب أبي يوسف، فيصح الشروع في الشفع الثاني، ويلزمه قضاء الأربع، كذا ذكر في صلاة «الأصل» . وفي «الجامع الصغير» .
وروى بشر بن الوليد وعلي بن الجعفر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يقطع التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني، ولا يلزمه قضاؤه، قال مشايخنا رحمهم الله في المسألة قياس واستحسان، فرواية محمد عنه استحسان، ورواية أبي يوسف عنه قياس.

وجه قول محمد: أن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، به ورد الحديث، قال عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى» وأراد به التطوع، فكانت القراءة في الركعتين فرضاً، كما في صلاة الفجر، فإذا ترك القراءة في إحداهما فقد فاتت الفرائض على وجه لا يمكن إصلاحه، كما لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فيفسد الأداء، وإذا فسد الأداء فسدت التحريمة؛ لأن التحريمة للأداء، ومتى فسدت التحريمة لم يصح بناء الأخريين عليها، فلم يلزمه قضاؤه، ويتألف ترك القراءة منهما، أو في إحداهما حجة أبي يوسف أن فساد الأداء لا يكون أعلاها لا من عدم الأداء، وعدمُ الأداء لا يفسد التحريمة، ففساد الأداء أولى أن لا يفسد التحريمة أدنى الفساد لا ينعدم.... الجواز، والفقه ما عرف في موضعه أن التحريمة شرط الأداء، فلا يفسد بفساد الأداء، وإذا لم

(1/313)


يفسد بفساد الأداء صح بناء الأخريين على التحريمة وإن ترك القراءة في الأوليين.
وجه قول أبي حنيفة ما قلنا لمحمد، والاستحسان على قوله وجهان.
إحداهما: أن التحريمة شرط الأداء كما قال أبو يوسف إلا أنها مشروعية الأداء لا تقبل الفصل عن الأداء، والأداء يتم بركعة واحدة؛ لأن أركان الصلاة كلها تتم بركعة، فإذا قرأ في الركعة الأولى، فقد وجد فعل الأداء صحيحاً فاستحكمت التحريمة وانتهت في الصحة بها ههنا، فلم تفسد بترك القراءة في الركعة الثانية، وإذا لم تفسد صح بناء الأخريين عليها، بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين؛ لأن التحريمة وإن صحت في الابتداء، فما صحت إلا بالأداء، والأداء على سبيل التمام لم يوجد، فيفسد الأداء لفوات بعضه، ففسدت التحريمة التي يراد منها الأداء.

الوجه الثاني: أن فساد الشفع الأول بترك القراءة في الركعتين مقطوع به؛ لأن القراءة في ركعة ثبت بدليل مقطوع به وهو الكتاب قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) فجاز أن يؤثر في فساد التحريمة أما فساد الشفع الأول بترك القراءة في ركعة واحدة ليس بمقطوع به بل هو مجتهد فيه، ظن من الناس من قال الفرض القراءة في إحدى الركعتين، وهذا لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، لكن القراءة في الركعة الثانية احتياطاً؛ لأن الركعة الثانية تكرار للأولى على ما سبق، والاحتياط هنا في أن لا تجعل القراءة فرضاً في الثانية في حق إبقاء التحريمة حتى يحكم بصحة الشروع في الشفع الثاني، فيجب عليه إتمام الشفع الثاني، ولا يحكم بصحة الأداء احتياطاً أيضاً، فأخذنا في كل حكم بالاحتياط.
وإذا عرفنا هذا الأصل فنقول: جئنا إلى تخريج المسائل، فنقول: إذا ترك القراءة أصلاً، فعلى قول أبي يوسف أو جبنا: يجب عليه قضاء الأربع؛ لأن التحريمة عنده بقيت على الصحة، فصح الشروع في الشفع الثاني، فعند أبي حنيفة ومحمد قضى ركعتين؛ لأن التحريمة قد انقطعت عندهما بترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في إحدى الأوليين، وفي إحدى الأخريين، فعليه قضاء أربع ركعات عند أبي يوسف، وكذا عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه يترك القراءة في إحدى الأوليين لا تبطل التحريمة، فصح بناء الشفع الثاني عليه، فيلزمه قضاء أربع ركعات.
وعند محمد رحمه الله يلزمه قضاء ركعتين؛ لأن عنده بترك القراءة في إحدى الأوليين تبطل التحريمة، فلا يصح بناء الشفع الثاني عليها، فيلزمه قضاء ركعتين، وإذا قرأ في الأوليين، فعليه قضاء ركعتين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تنقطع بالإجماع، فيصح بناء الشفع الثاني عليها، وقد ترك القراءة في الشفع الثاني فصحت، يجب عليه قضاؤه، وإذا

(1/314)


قرأ في الأخريين فعليه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع في الشفع الأول صحيح، والأداء قد فسد لعدم القراءة، فيلزمه قضاؤه.

وأما الشفع الثاني فعند محمد لم يصح الشروع فيه، وكذلك عند أبي حنيفة، فلا يلزمه القضاء، وعند أبي يوسف صح الشروع فيه وصح الأداء لوجود القراءة، لا يلزمه القضاء، فإذا اتحد الجواب مع اختلاف التخريج، وإذا قرأ في الثلاث الأوائل، فعليه قضاء الشفع الثاني بالإجماع؛ لأن الشفع الأول قد صح لوجود القراءة فيه، فيصح بناء الشفع الثاني عليه، وقد فسد الشفع الثاني لترك القراءة في إحدى الركعتين، فيلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في الثلاث الأواخر، فعليه قضاء ركعتين عند محمد؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى انقطعت التحريمة، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاء الشفع الثاني، ولكن يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع فيه صح وفسد الأداء.
وعند أبي يوسف يلزمه قضاء أربع ركعات؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى لا تنقطع التحريمة، فيصح الشروع في الشفع الثاني وفسد الأداء؛ لأن الشفع الأول قد فسد، والثاني ما عليه والبناء على الفاسد فاسد، وكذلك الجواب عند أبي حنيفة، وعلى رواية محمد عنه، ولأن عند أبي حنيفة وعلى رواية محمد عنه التحريمة لا تقطع بترك القراءة في إحدى الركعتين الأوليين، فصح الشروع في الشفع الثاني، والتقريب ما ذكرنا.
وإذا قرأ في إحدى الأوليين، فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير، وعند أبي يوسف عليه قضاء الشفعين، وكذلك عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه لما ذكرنا، وإذا قرأ في إحدى الأخريين فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير لأن الشروع في الشفع الثاني لا يصح عنده، وكذلك عند أبي حنيفة لا يصح الشروع في الشفع الثاني؛ لانقطاع التحريمة عنده بترك القراءة في الشفع الأول أصلاً، وعند أبي يوسف عليه قضاء الأربع كصحة الشروع في الشفع الثاني عنده إذا أوتر وترك القراءة في الركعة الثانية يفسد بالإجماع؛ لأن الوتر ليس بفرض في حق القراءة.

في «الفتاوى» : وإذا ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فسدت صلاته، وكذلك المسافر إذا ترك القراءة في إحدى الركعتين، وإذا افتتح الصلاة ثم نام فقرأ وهو نائم ذكر المسألة في «الفتاوى» في موضعين، وأجاب في أحد الموضعين بالجواز، وأجاب في الموضع الآخر بعدم الجواز، والمختار عدم الجواز.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمة الله عليهم في تفسير قوله عليه السلام: «لا يصلي بعد صلاة مثلها» يعني ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة، أي: النفل لأشبه الفرض، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» حتى لا يصلي بعد الظهر والعصر والعشاء أربعاً يقرأ في الركعتين الأوليين، لا يقرأ في الأخريين.
وذكر هذا الباب في كتاب الصلاة وقال: تفسير الحديث روي عن عمر وعبد الله بن

(1/315)


مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وإنما حمل الحديث على ذلك؛ لأن هذا الحديث ثبت خصوصية بالاتفاق، فإن الرجل يصلي سنّة الفجر ركعتين ثم يصلي الفجر ركعتين، والمسافر يصلي الظهر ركعتين ثم يصلي السنّة ركعتين، والمقيم يصلي سنّة الظهر أربعاً، ثم يصلي الظهر أربعاً، فيحمل على وجه صحيح (49ب1) وهو ما قلنا.
ومن العلماء من قال المراد منه الزجر على تكرار الصلوات التي أدّاها، وهو..... من الشيطان، فإنه يكره للإنسان أن يقضي صلوات عمره ثانياً، فإن النبي عليه السلام قضى صلاة الفجر ضحى ليلة التعريس، وقال له أصحابه من الغد ألا تعيد صلاة الأمس، فقال عليه السلام: «إن الله تعالى نهاكم عن الربا فنقبلها منكم» والله تعالى أعلم.

ومما يحفظ ههنا (ما) ذكر في «الأصل» افتتح الصلاة وركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه وقرأ وركع، فالمعتبر هذا للركوع الثاني حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع يصير مدركاً للركعة؛ لأنه مأمور بالقراءة بعد الركوع الأول؛ لأنه لم يأت بالقراءة فهو يأتي بها، ومحل القراءة قبل الركوع يرفض الركوع الأول، لتقع القراءة في محلها، وكذلك إذا لم يتم القراءة، وركع بأن قرأ الفاتحة ولم يقرأ السورة أو قرأ السورة، ولم يقرأ الفاتحة، وركع ثم رفع رأسه، وأتم القراءة وركع؛ لأن المعتبر هو الركوع الثاني؛ لأن ضم السورة إلى الفاتحة من واجبات الصلاة ولم يأت به، فإذا كان مأموراً بالإيتان به، فإذا أتى به وحمل القراءة على وجه التمام قبل الركوع لا بد وأن يرتفض الركوع الأول لتقع القراءة في محلّه، فإذا أتمّ القراءة وركع ثم رفع رأسه من الركوع وقرأ ثانياً وركع، ذكر في باب الحديث أن المعتبر هو الركوع الأول، حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع لا يصير مدركاً للركعة، وذكر في باب السهو أن المعتبر هو الركوع الثاني.
وجه ما ذكر في باب الحديث أن الركوع الأول حصل في أدائه؛ لأنه حصل بعد تمام القراءة، فوقع معتداً به فلا يصح الثاني؛ لأنه يكون تكراراً فلا تكرار في الركوع في ركعة واحدة.

وجه ما ذكر في باب السهو أن الركوعين جميعاً وجدا بعد القراءة؛ لأن القراءة الثانية لو لم تعتبر بالقراءة الأولى معتبرة، وهو معنى قولنا: أن الركوعين حصلا بعد القراءة إلا أن الثاني متصل بالسجود والأول غير متصل بالسجود والركوع، إنما يعتبر بإيصال السجود به، فكانت العبرة للركوع الثاني، فلو أنّ هذا الإمام ركع ولم يقرأ، فلما رفع رأسه من الركوع الأول سبقه الحدث واستخلف رجل، فقرأ هذا الرجل الخليفة وركع فجاء رجل، واقتدى به يصير مدركاً للركعة، وكذلك إذا قرأ الإمام الأول الفاتحة ولم يقرأ

(1/316)


السورة وركع، فلما رفع رأسه سبقه الحدث، فاستخلف رجلاً فقرأ الخليفة السورة وركع، فجاء رجل واقتدى به، فإن الرجل يصير مدركاً للركعة.
وكذلك لو قرأ الإمام السورة ولم يقرأ الفاتحة، وباقي المسألة على حالها، فإنه يصير مدركاً للركعة، فلو أن الإمام الأول قرأ وركع، فلما رفع رأسه من الركوع سبقه الحدث، فاستخلف رجلاً فقرأ هذا الخليفة وركع، فجاء رجل واقتدى به، فعلى الرواية التي ذكر في باب الحدث لا يصير مدركاً للركعة، والمعنى في الكل أن الخليفة قائم مقام الأول، فحاله كحال الإمام الأول، والجواب في حق الإمام الأول على هذا التفصيل، فكذلك في حق الخليفة، والله أعلم بالصواب.
فرع في زلة القارىء
يحتاج لتخريج مسائل هذا النوع إلى معرفة مخارج الحروف، لتعرف اتفاق المخارج وقربها، وإلى معرفة جواز إبدال الحروف بعضها عن البعض فنبدأ أببيان مخارج الحروف، فنذكر الحروف، وهي تسعة وعشرون حرفاً على ترتيب مخارجها، فنقول: أولها الهمزة والألف والهاء، ثم الحاء والعين والغين والخاء ثم القاف والكاف، ثم الجيم والشين والتاء، ثم الضاد، ثم اللام والراء والنون، ثم الظاء والذال والثاء، ثم الصاد والزاي والسين، ثم الطاء والدال والتاء ثم الباء والميم والواو والفاء.

ولهذه الحروف ستة عشر مخرجاً، للحلق منها ثلاثة مخارج، فأقصاها مخرجاً الهمزة والألف والهاء، وأوسطها مخرجاً الغين والخاء وأدناها من الفم العين والحاء، ومن أقصى اللسان مخرج القاف والكاف، ومن وسط اللسان مخرج الجيم والشين والتاء ولطرف اللسان جهة مخارج.
فالطاء والدال والتاء من مخرج واحد وهو طرف اللسان، وطرف الثنايا العليا، والصاد والسين والزاي من مخرج واحد، وهو من طرف اللسان، وفوق الثنايا العليا، ويبقى، وجه قليل بين اللسان والثنايا عند الذكر يمنة وبين ما فوق الثنايا، ومخرج النون المتحركة من طرف اللسان، وما يتصل بالخياشيم، ووراء مخرج النون من ظهر اللسان والحنك مخرج الراء، ولحافة اللسان مخرجان وحرفان، فمن حافة اللسان من أقصاها إلى ... الأضراس الضاد، فبعضهم يخرجها من الجانب الأيمن وبعضهم يخرجها من الجانب الأيسر، ومن حافة اللسان من أدناها.... الثنايا، ومنتهى طرف اللسان بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مخرج اللام وللشفة مخرجان، فالفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، والباء والميم والواو والفاء من بين الشفتين، ومخرج النون الخفيفة، وهو نون منك وعنك من الخياشيم ليس له في الفم موضع.
ولهذه الحروف فروع، بعضها مستحسنة وبعضها مستقبحة، فالمستحسنة مستعملة في العربية الصحيحة واللغة الفصيحة، وهي خمسة: النون الخفيفة وصفتها ما ذكرنا والهمزة

(1/317)


الخفيفة، وهي التي لا تكون ممن.... من غير..... محضاً من غير همزة، وذلك نحو قوله سأل، فإنه ليس بمهموز محض ولا بلين محض، وألف التفخيم وهو الألف التي تجد ما بين الألف والواو، نحو الصلاة والزكاة والحياة واللام وألف الإمالة، وهي الألف التي تجد ما بين الألف والياء، كما في قوله عالم حاتم، والصاد التي كالراء غير أن الصاد التي كالراء إنما تقع مستحسنة إذا وقعت قبل الدال فقط.

(وأما المستقبحة، فهي السين التي كالجيم والباء التي كالفاء والجيم التي كالشين والجيم التي كالكاف والحاء التي، كالراء والقاف التي كالكاف عند قوم قالوا في مثل قال وكال والطاء التي كالتاء، فهي سبعة أحرف، وإنها خارجة عن الفصحاء.
جئنا إلى الإبدال، فنقول: الهمزة تبدل من خمسة أحرف، الألف والواو والهاء والياء والعين، والياء تبدل عن الواو، والباء في القسم وتبدل عنه الواو، والتاء في القسم والتاء تبدل من الواو والياء والسين والصاد والطاء والذل والياء تبدل من الياء والجيم تبدل من الياء والحاء، لا تبدل من حرف هاء إلا نادراً، وكذا الحاء.
وقيل: الحاء تبدل عن العين، والحاء تبدل عن الخاء والدال تبدل عن الياء، والذال لا تبدل، وقيل: تبدل والثاء والراء لا تبدل، وقيل: تبدل عن اللام، والراء تبدل عن السين والصاد، والشين تبدل عن الذال والياء، والراء لا تبدل، وقيل: تبدل عن اللام والراء تبدل عن السين، والصاد والسين تبدل من الشين، ومن الكاف التي هي خطاب المؤنث، والصاد تبدل من السين إذا جاوره فاء أو غين أو قاف أو طاء، والصاد لا تبدل.
وقيل: تبدل عن الصاد والطاء، والطاء تبدل عن.... افتعل، والطاء تبدل عن الدال عند بعضهم، والعين تبدل من الهمزة، والحاء والعين تبدل عن الغين عند بعضهم، والفا تبدل عن الياء والقاف تبدل عن الكاف، والكاف تبدل من القاف، واللام تبدل من الصاد والنون، والميم تبدل من الواو والنون والياء واللام، والنون تبدل عن الهمزة والألف والياء والهاء تبدل عن الهمزة والألف والياء والتاء، والألف الساكنة في لا، وهي التي تسمى الألف تبدل عن الهمزة والياء والنون الخفيفة والواو. والباء تبدل من الألف والواو والهمزة والهاء والسين والباء والراء والنون واللام والصاد والضاد والميم والدال والعين والكاف والثاء والتاء والجيم) .

وبعد الشروع في هذه الجملة نشرع في المسائل فنقول: الذي يعرض من الخطأ في القراءة على وجوه، فيجعل كل وجه فصلاً تيسيراً على الطالبين، ونذكر عقيب كل فصل ما يتصل به من المسائل:
فرع في ذكر حرف مكان حرف
وإنه على وجهين، الأول: أن تخرج الكلمة بحرف البدل من ألفاظ القرآن، ومعناه أن هذه الكلمة مع حرف البدل توجد في القرآن نحو أن تقرأ تألمون مكان تعلمون أو ما

(1/318)


أشبه ذلك، وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته ويُجعل كأنّه ابتدأ من هذه الكلمة.
الوجه الثاني: إنه لا توجد الكلمة مع حرف البدل في القرآن، وإنه على قسمين.
القسم الأول: يكون مع موافقة في المعنى، نحو أن تقرأ.... مكان قوله ثواباً أو يقرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ} (البقرة: 222) أو يقرأ {كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ} (البقرة: 65) وفي هذا القسم لا تفسد صلاته (50أ1) عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وأصل هذا الاختلاف أن قراءة القرآن بالمعنى جائزة عند أبي حنيفة ومحمد، ولهذا تجوز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة عنده، وعند أبي يوسف ومحمد لا تجوز قراءته بالمعنى غير أن عند محمد يجوز استبدال اللفظ بغيره من الألفاظ القريبة بعد اتفاقهما في المعنى، وعند أبي يوسف لا يجوز، ويعتبر اللفظ المنقول ومعنى آخر لأبي حنيفة أن هذه لغة مستعملة عند العرب، والمصدر واحد، والله تعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} (الزخرف: 3) ولم يقل مائة لغة، فعلى أنه لغة..... قرأ القرآن فيجوز، فقد كتب في مصحف عبد الله بن مسعود الحي القيام في سورة البقرة وآل عمران، وعلى هذا إذا قرأ ... عليم لا تفسد صلاته؛ لأن أهل اللغة يقولون: إنه في الأصل من ذوات الواو.

والقسم الثاني: من هذا الوجه أن يكون مع مخالفة في المعنى نحو أن يأتي بالطاء مكان الضاد أو بالضاد مكان الطاء، فالقياس أن تفسد صلاته، وهو قول عامة المشايخ، واستحسن بعض مشايخنا وقالوا: بعدم الفساد للضرورة في حق العوام خصوصاً للعجم، وهذا في الحروف المتقاربة في المخرج فأما في الحروف المتباعدة في المخرج وما يفسد المعنى، نحو أن يقرأ ونيسرك مكان...... تفسد صلاته.
والحاصل من الجواب في جنس هذه المسائل أن الكلمة مع حرف الدال إذا كانت لا توجد في القرآن، والحرفان من مخرج واحد أو بينهما قرب المخرج، ويجوز إبدال أحد الحرفين عن الآخر لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ، وعليه الفتوى.6
وعن هذا قلنا إذا قرأ في صلاته {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ} (الصخر: 9) تكهر بالكاف لا تفسد صلاته على ما اختاره المشايخ؛ لأن جماعة العرب يبدلون الكاف عن القاف ومخرجها واحد، والمعنى في ذلك كلّه أن الحرفين إذا كانا من مخرج واحد كان بينهما قرب المخرج، وأحدهما يبدل عن الآخر كان ذكر هذا الحرف كذكر ذلك الحرف، فيكون قرآناً معنى، فلا يوجب فساد الصلاة، وكذلك إذا لم يكن من الحرفين اتحاد المخرج ولا قربة، إلا أن فيه بلوى العامة نحو أن يأتي بالدال مكان الصاد أو يأتي بالزاي المحض مكان الذال والطاء مكان الضاد لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ. ولو قرأ الحمد لله بالخاء لا تفسد صلاته بعض المشايخ؛ لأن الحاء والخاء قرب المخرج.
وفي الباب الأول من صلاة «الواقعات» إذا قال الحمد لله بالهاء تفسد صلاته إن كان لا يجهد لتصحيحه، وينبغي أن لا تفسد صلاته؛ لأن الهاء تبدل عن الحاء أن يقال

(1/319)


مدحته ومدهته، وإذا قرأ الصمد بالسين حُكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله أنه لا تفسد صلاته؛ لأن السمد بالسين هو السند، وهكذا حكى فتوى القاضي الإمام الزاهد أبي بكر الزرنجري رحمه الله، وكذا لو قرأ إهدنا الصراط بالتاء الصغيرة أو قرأ المستقيم بالطاء العظيمة لا تفسد صلاته؛ لأنها من مخرج واحد وفيه بلوي العامة؛ لأنهم لا يعقلون بينهما.
ولو قرأ إهدنا الصراط بالسين أو بالراء الخالصة أو بالصاد التي بين الراء والسين لا تفسد صلاته؛ لأن هذه قراءة مشهورة، ولو قرأ.... لا تفسد صلاته؛ لأن هذه قراءة، ولو قرأ..... مكان حتى لا تفسد صلاته، وهو قراءة عائشة، ولو قرأ..... لا تفسد؛ لأنه قراءة. وإن كانت شاذة.
والحاصل: أن ما كان قراءة لا تفسد بها الصلاة وإن كانت شاذة. ولو قرأ الدال مكان الذال وعلى العكس أو ذكر العين مكان القاف أو اللام مكان النون أو على العكس تفسد صلاته بالاتفاق؛ إذ ليس بين هذه الحروف اتحاد المخرج ولا قربه ولو قرأ في دعاء القنوت ونستخفرك بالخاء لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ؛ لأنه بين الغين والخاء اتحاد المخرج، وبينهما قرب المعنى، فالاستخفار طلب الأمان، والاستغفار طلب المغفرة، ومن رزق الأمان فقد رزق المغفرة، ومن رزق المغفرة فقد رزق الأمان.
ولو قرأ..... مبثوثة تفسد صلاته؛ لأنه إبدال من..... الأخيرة ... المشددة...... وإبدال..... من..... بعيد حتى ولو قرأ وذرابيج لا تفسد صلاته؛ لأن إبدال الجيم من الياء ليس ببعيد.
ومما يتصل بهذا الفصل

إذا زاد حرفاً هو ساقط وأهل المشتق من الفعل واحد، نحو أن يقرأ...... على مكان ردوها ونحو أن يقرأ إنّا رادوه إليك لا يوجب فساد الصلاة؛ لأنه رده إلى ما توجبه الكلمة والصرف في الأصل، وإن كانت العرب تسقط أحد الحرفين لعلة، ويؤيد ذلك ما كتب في مصحف ابن مسعود {وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا} (الإسراء) بباء بعد الشين، وإن كانت العرب تسقط الباء لعلة، وكذلك كتب في مصحفه، وانهى عن المنكر بباء بعد الهاء، وكتب في مصحف آخر {يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم} (المائدة: 54) بدالين، كتب فيه ما مكنني بنونين.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا زاد حرفاً لا توجبه الكلمة في الأصل إلا أنه لا يغير النظم والحكم، ولا يقبح المعنى، نحو أن يقرأ {وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَذِبِينَ} (الشعراء: 186) مكان ما أنت، لا تفسد صلاته، فقد كتب في مصحف عثمان في العنكبوت: {خَلَقَ اللَّهُ

(1/320)


السَّمَوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} (العنكبوت: 44) بالواو، وكتب في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَئِرَ الإثْمِ وَالْفَوحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32) ، بزيادة واو في هو، وكتب في اقتربت رحمة من عندنا، {نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} (القمر: 35) ، بزيادة واو في كذلك، وكتب في الممتحنة: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآء السَّبِيلِ} (الممتحنة: 1) بزيادة واو في تسرون، وإن زاد ما لا توجبه الكلمة في الأصل ويفسد النظم ويقبح المعنى، نحو أن يقرأ {يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ} (يس: 1، 2) و {تِلْكَ آيَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (البقرة: 252) بزيادة واو في إنك، أو تقرأ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 3) و {مَا

وَدَّعَكَ} (الضحى: 3) بزيادة واو في ما، أو تقرأ {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (الليل: 2) و {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل: 4) فقد قال بعض مشايخنا أخاف أن تفسد صلاته؛ لأن في إدخال الواو في هذه السورة تغيير وتعطيل للقسم؛ لأن إدخال الواو يخرج ما أُلحق الواو به من أن يكون جواب القسم، هذا هو المنقول عن أهل اللغة، فتوجب هذه الزيادة إفساد المعنى وتعطيل القسم، فلهذا قال أخاف أن تفسد صلاته.
ومما يتصل بهذا الفصل
الألثغ الذي لا يقدر على التكلم ببعض الكلمة، فيقرأ مكان الواو ياء، فيقرأ مكان الرحيم؟..... أو ما أشبه ذلك، ولا يطاوعه لسانه على غير ذلك، وإنه على وجهين: إما أن يؤم أو يصلي وحده.
ففي الوجه الأول: لا ينبغي له أن يؤم إلا لمن كان حاله مثل حاله، لأنه إذا كان لا يقدر على التكلم ببعض الحروف كان في حق تلك الحروف.....، ولا تجوز إمامة الأمي للقارىء، ويجوز لمن كان بمثل حاله، وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وكذلك قول أبي حنيفة إذا لم يكن في القوم من يقدر على التكلم ببعض الحروف فأما إذا كان في القوم من يقدر على التكلم بتلك الحروف فسدت صلاته وصلاة القوم عند أبي حنيفة قياساً على الأمّي إذا صلّى بأميين وبقارئين.
وكذا من يقف في غير مواضعه، ولا يقف في مواضعه لا ينبغي له أن يؤم، وكذا من يتنحنح عند القراءة كثيراً لا ينبغي له أن يؤم؛ لأنه يؤدي إلى تقليل الجماعة، وكذلك من كان به تمتمة، وهو أن يتكلم بالتاء مراراً أو فأفأة، وهو أن يتكلم بالفاء مراراً حتى يتكلم بعده لا ينبغي له أن يؤم؛ لأنهما ربما يعجزان عن المضي عن القراءة، ويفسدان الصلاة على القوم.

(1/321)


وأما الذي لا يقدر على إخراج الحروف إلا بالجهد، ولا يتكلم بالتاء مراراً ولا بالفاء، وإذا أخرج الحروف أخرجها على الصحة، فصلاته وقراءته جائزتان، ولا يكره أن يكون إماماً.
وفي الوجه الثاني: وهو ما إذا كان يصلي وحده ينظر إن لم يكن فيه تبديل الكلام، ولا يمكنه أن يتخذ من القرآن آيات ليس فيها تلك الحروف تجوز صلاته بالاتفاق، وإن كان يمكنه أن يتخذ من القرآن آيات ليس فيها تلك الحروف...... إلا فاتحة الكتاب، فإنه لا يدع قراءتها، وإن كان فيه تبديل، فإن كان يجد آيات ليس فيها تلك الحروف يتخذ تلك الآيات التي ليس فيها تلك الحروف، ولو قرأ مع ذلك الآيات التي فيها تلك الحروف هل تجوز صلاته؟ ذكر في بعض نسخ زلة القاري فيه اختلاف المشايخ، والصحيح لا تجوز صلاته؛ لأنه تكلم بكلام الناس مع قدرته على أن لا يتكلم، ومثل هذا يوجب فساد الصلاة، وذكر في بعض النسخ: القياس أن لا تجوز صلاته وفي الاستحسان: تجوز، وبالقياس نأخذ، وجه القياس ما ذكرنا (50ب1) .
وجه الاستحسان: أن الآفة في لسانه خِلْقَة و...... لا يقدر على أن يزيلها عن نفسه بالجهد، فصار كالذي خلق فهو أخرس، وعلى جواب القياس يُفرّق بين الأخرس وبين الألثغ أن الأخرس لا يقدر على الإتيان بالقراءة أصلاً، فأما الألثغ ما درُ، على قراءة بعض السور بوصف الصحة، فهو نظير من حفظ سورة واحدة، ولا يحفظ غيرها، وهناك لا تجوز الصلاة من غير قراءة كذا ههنا.
فإن قيل: الأخرس قادر على القراءة بأن يقتدي بالقارىء، فتصير قراءة الإمام له قراءة ما نطق به الحديث.
قلنا: هذا فاسد؛ لأن الإنسان إنما يخاطب بفعل نفسه لا بفعل غيره، فلا تكون قراءة الإمام فرضاً عليه، وإن كان لا يجد آيات ليس لها تلك الحروف. قاله بعض المشايخ، فيسكت ولا يقرأ. ولو قرأ تفسد صلاته، وقال بعضهم يقرأ ولا يسكت، ولو سكت تفسد، وعلى قول من يقرآ نختار أنه يقرأ فيها تلك الحروف.

والمختار للفتوى في جنس هذه المسائل: أن هذا الرجل إن كان يجهد آناء الليل والنهار في تصحيح هذه الحروف، ولا يقدر على تصحيحها، فصلاته جائزة؛ لأنه جاهد، وإن ترك جهده، فصلاته فاسدة؛ لأنه قادر، وإن ترك جهده في بعض عمره لا يسعه أن يترك في باقي عمره، ولو ترك تفسد صلاته إلا أن يكون الدهر كلّه في تصحيحه والله أعلم.
فرع في ذكر كلمة مكان كلمة على وجه البدل
وإنه على وجهين أيضاً:
الأول: أن توجد الكلمة التي هي بدل في القرآن، وإنه على قسمين: الأول: أن

(1/322)


يوافق البدل المبدل في المعنى، نحو أن يقرأ الفاجر مكان الأثيم في قوله طعام الأثيم، والجواب فيه أن صلاته تامة على قول أصحابنا رحمهم الله، فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أمران علم أن شجرة الزقوم طعام الفاجر حتى عجز المتعلم أن يقول طعام الأثيم.
القسم الثاني: أن يخالف البدل المبدل من حيث المعنى، وإنه على وجهين: إن كان اختلافاً متقارباً، نحو أن يقرأ الحكيم مكان العليم، أو السميع مكان البصير. ويجوز أن يقرأ خبيراً مكان بصيراً، أو يقرأ كلا إنها موعظة مكان قوله تذكرة، وفي هذا النوع صلاته تامة، روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ في موضع الحكيم العليم، وإن كان اختلافاً متباعداً، نحو أن يختم آية الرحمة بآية العذاب أو آية العذاب بآية الرحمة أو أراد أن يقرأ {الشَّيْطَنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (البقرة: 268) يجري على لسانه الرحمن يعدكم الفقر؛ فعلى قول أبي حنيفة ومحمد تفسد صلاته.

وأما على قول أبي يوسف اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تفسد إذا لم يتعمد بقصد ذلك، ومرّ على لسانه غلطاً، ويجعل على أنه ابتدأ بكلمة من كلمات القرآن، وهذا لأنه قصد قراءة القرآن على ما أنزل، فيجعل التقدير كأنه ترك القراءة من هذا الموضع، وأخذ بالقراءة من ذلك الموضع، وهو في ذلك الموضع قرآن، فلا تفسد صلاته، وبه كان يفتي الفقيه أبو الحسن، وهو اختيار محمد بن مقاتل الرازي.
وقيل: في المسألة عن أبي يوسف روايتان:
الوجه الثاني: أن لا توجد الكلمة التي هي بدل في القرآن وإنه على قسمين أيضاً:
الأول: أن يوافق البدل المبدل نحو أن يقرأ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ} (النساء: 48) أن يكفر به مكان قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 48) أو يقرأ {فَبِأَىّ ءالآء رَبّكُمَا} (الرحمن: 13) تجحدان مكان قوله: {تُكَذّبَانِ} (الرحمن: 13) أو يقرأ {الم ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1، 2) لا شك فيه مكان قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) أو ما أشبه ذلك، وفي هذا القسم لا تفسد صلاته عن أبي حنيفة ومحمد، أما عند أبي حنيفة؛ فلأنه يعتبر المعنى مع لفظ العربية، وعند أبي يوسف تفسد صلاته؛ لأنه يعتبر اللفظ المنقول.
القسم الثاني: أن لا يوافق البدل المبدل من حيث المعنى نحو أن يقرأ: قوسرة مكان قسورة، أو كعفص مكان كعصفٍ، أو فسحقاً لأصحاب السعير تفسد صلاته بالاتفاق؛ لأن هذه الألفاظ ليست بمنقولة في القرآن، وليس بين هذه الألفاظ وبين الألفاظ المنقولة في القرآن مقارنة من حيث المعنى، فلهذا فسد عند الكل والله أعلم.

(1/323)


ومما يتصل بهذا الفصل

فصل استبدال النسبة، وإنه على وجهين: الأول: أن لا يكون المنصوص المنسوب إليه في القرآن، نحو أن يقرأ {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) عيلان {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) مكان {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) أو يقرأ عيسى بن سارة مكان {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87) ، وفي هذا الوجه تفسد صلاته؛ لأنه لم يقرأ القرآن، ولا يذكر الله تعالى، فكان متكلماً بكلام الناس فتفسد صلاته.

الوجه الثاني: أن يكون المنسوب إليه في القرآن نحو أن يقرأ ومريم ابنت لقمان وعيسى بن موسى وموسى بن مريم وما أشبه ذلك، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ المتأخرون، منهم من قال: في الصور كلها تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، عند أبي يوسف روايتان في رواية لا تفسد؛ لأن لقمان وموسى ومريم مذكور في القرآن، وكذلك لفظ ابن وابنة مذكور في القرآن، فصار كأنه وقف عند قوله ومريم ابنت، وابتدأ من قوله لقمان، ومن المتأخرين من قال في مريم ابنت لقمان، وعيسى بن موسى الجواب على الخلاف، أما في موسى بن مريم وعيسى بن عمران لا تفسد صلاته بلا خلاف، أما الفساد في قوله مريم ابنت لقمان وعيسى بن موسى عندهما وإحدى الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن هذا الكلام مركب من مضاف ومضاف إليه والمضاف، والمضاف إليه يجريان مجرى اسم واحد، وهذا الاسم بهذا اللفظ غير موجود في القرآن فصار كما لو قال جعفر بن زيد أو قال عمر بن الخطاب فصار من جملة كلام الناس، فتفسد صلاته.
وأما الجواز في قوله موسى بن مريم مكان عيسى بن مريم؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن يجعل مكان العين الذي في عيسى ميماً، ومكان الياء واواً، فأما باقي الاسمين على السواء.
قلنا وإبدال الواو عن الياء وإبدال الياء عن الواو شائع، لم يبق التفاوت إلا في أول الحرف وهو العين والميم والحرف الواحد لا يكون كلاماً، فلا يصير آتياً بكلام الناس، وصار الحاصل في فصل النسبة أنه إذا كان التفاوت في حرف واحد لا يعتبر بلا خلاف. وإذا كان التفاوت في حرفين أو أكثر فالمسألة على الخلاف والله أعلم.
الفصل في القراءة بغير ما في المصحف الذي جمعه أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بأن قرأ بما في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب

روى نصر بن يحيى عن أبي سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن أنه قال؛ قال أبو حنيفة رحمه الله إذا قرأ القارىء في الصلاة بغير ما في مصحف العامة

(1/324)


فصلاته....؟، قال وهو قول أبي يوسف وقولنا.

وروى أيضاً نصر بن يحيى عن محمد بن سماعة قال سمعت أبا يوسف يقول: إذا قرأ القارىء في الصلاة بحروف أبي وابن مسعود، وليس ذلك في مصاحفنا، فإن الصلاة لا تجوز، وروى عبد الصمد بن الفضل عن عصام بن يوسف أنه كان يقول: من قرأ بقراءة ابن مسعود في الصلاة فسدت صلاته.
والمتأخرون من مشايخنا قالوا: هذا إذا لم يثبت من وجه يلزم به الحكم أن هذه قراءة ابن مسعود أو قراءة أبي، بأن لم تثبت لهما رواية صحيحة مسندة إليهما أو إلى واحد منهما أنه قرأ، كذلك إنما وجه ذلك في المصحف؛ لأن لمجرد وجوده في المصحف لا تثبت قراءتهما، ولا يجوز العمل بما في المصاحف إذا لم توجد لهما رواية.
الدليل على صحة ما قلنا ما روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: كَتَبَ رسول الله عليه السلام كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض ثم الصحابة لم يعملوا بما في ذلك الكتاب؛ لأن رسول الله عليه السلام مات قبل أن يخرجه إلى عماله، وقبل أن يأمر به، فلم يجعلوا مجرد الوجود حجة الإلزام.
فإن قيل: ذكر في الخبر عمل به أبو بكر حتى قبض ثم عمل به (عمر) حتى قبض.

قلنا: عملهما بذلك غير مشهور ولو ثبت يحتمل أنهما عملا به لأنهما قد سمعا ما في الكتاب عن رسول الله عليه السلام، والدليل عليه ما روي في الأخبار أنه عمل به أبو بكر وعمر وعثمان صدراً من خلافته، ولو كان العمل به واجباً لكان لا يقتصر على العمل به واجباً في بعض خلافته، فأما إذا ثبتت رواية صحيحة مسندة إليهما أو إلى واحد منهما أنهما قرءا كذلك لا تفسد صلاته؛ لأنا لو قلنا تفسد صلاته، فقد قلنا أن عبد الله بن مسعود وأبي لم يصليا صلاة جائزة إذا كانا لم يجعلا للتلاوة قراءة على حدة غير التي كانا يقرءان في الصلاة، والذي يؤيد ما قلنا قول النبي عليه السلام: «من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد» ، فقد أخبر أن القرآن أنزل بقراءة عبد الله ورغب (51أ1) في القراءة بقراءته ولا يتوهم على النبي عليه السلام أنه يرغب في التلاوة بقراءة لا تجوز معها الصلاة، والجواب عن هذا أن يقال بأن من شرط جواز الصلاة قراءة القرآن قطعاً، ولم يثبت كون ما في مصحف ابن مسعود قرآناً عندنا قطعاً؛ لانعدام شرط وهو الفعل المتواتر، فلم تجز الصلاة بما في مصحفه لنا. أما كون ما في مصحفه قرآناً عنده، قد ثبت قطعاً؛ لأنه سمعه من رسول الله، فجازت صلاته من مصحفه، وقوله عليه السلام «من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً إلى آخره» ، فمعناه إذا ثبت قراءته عنده بشرط وهو النقل المتواتر، فليقرأ بقراءته وذكر بعض المشايخ أنه إذا قرأ ما يغير في

(1/325)


مصحف معروف ما لا يؤدي معنى بما في المصحف المعروف، تفسد صلاته بالاتفاق إذا لم يكن ذلك دعاءً، ولا ثناءً في نفسه؛ لأنه صار تاركاً النظم والمعنى.
وإن قرأ ما يؤدي معنى ما في المصحف المعروف، فعلى قولهما لا تفسد، وعلى قول أبي يوسف تفسد، والصحيح من الجواب في هذا إذا قرأ بما في مصحف ابن مسعود أو غيره لا يعتد به من قراءة الصلاة أن لا تفسد صلاته؛ لأنه إن لم يثبت ذلك قرآناً ثبتت قراءة شاذّة، والمقروء في الصلاة إذا كانت قراءة لا توجب فساد الصلاة. وما روينا في أول هذا الفصل عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وعصام بن يوسف أن المصلي إذا قرأ بغير ما في المصحف العامة أن صلاته فاسدة، فتأويله إذا قرأ هذا، ولم يقرأ معها شيئاً مما في المصحف العامة، فتفسد صلاته لتركه قراءة ما في مصحف العامة، لا لقراءته في مصحف ابن مسعود حتى لو قرأ مع ذلك مما في مصحف العامة مقدار ما تجوز به الصلاة تجوز صلاته.
فرع في ذكر آية مكان آية
يجب أن يعلم أن المتأخرين اختلفوا في هذا الفصل، منهم من قال: تجوز على كل حال؛ لأنه قارىء بالآيتين جميعاً، والآية منفصلة عن الآية بخلاف الكلمة، ومنهم من فصَّله تفصيلاً، فقال: إن وقف على الآية وقفاً تاماً، ثم ابتدأ بآية أخرى لا تفسد. وإن تغيّر المعنى نحو أن يقرأ {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التين: 1) {وَطُورِ سِينِينَ} (التين: 2) {وَهَذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ} (التين: 3) ووقف وقوفاً تاماً، ثم قرأ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِى كَبَدٍ} (البلد: 4) ؛ لأن هذا انتقال من سورة إلى سورة والكل قرآن، فأما إذا لم يقف ووصل الآية بالآية، إن كان لا يتغير المعنى نحو أن يقرأ {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس: 40، 41) ، ولم يقف ثم قرأ {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء: 151) .
l

أو قرأ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم جزاء الحسنى لا تفسد صلاته وأما إذا تغير به المعنى بأن قرأ وجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم المؤمنون حقاً، قال عامة أصحابنا: تفسد صلاته؛ لأن هذا ليس بقرآن؛ لأنه إِخبار بخلاف ما أخبر به الله، وليس بذكر، وبعض أصحابنا قالوا: لا تفسد صلاته؛ لأن في هذا بلوى العامة، فلا يحكم بالفساد، ويجعل كأنه وقف على الآية الأولى ثم انتقل إلى الأخرى والله أعلم.

الفصل الخامس: في حذف حرف من كلمة
فنقول: إن كان الحذف على سبيل الترخيم والإيجاز يكون عين تلك الكلمة، فلا يوجب الفساد وللحذف على وجه الترخيم شرائط ثلاثة.
أحدها: إما أن يكون ذلك في اسم النداء حتى لا يجوز الترخيم في الأفاعيل، ولا في الحروف، ولا في اسم المعرف بالألف واللام، ولا في النعت.

(1/326)


والثاني: أن يكون المنادى معرفاً نحو قوله يا حارث وما أشبه ذلك، ولا يصح في المنكر نحو قوله: يا قاتل يا ضارب إلا في قوله: يا صاحب يا فلان.
والثالث: أن يكون اسم المنادى على أربعة أحرف صحاح أو ما زاد على ذلك أما إذا كان ثلاثة أحرف لا يجوز الترخيم، إلا إذا كان ثالث الحروف الهاء، فأما فيما عدا ذلك، فلا يجوز الترخيم، فإذا وجدت هذه الشرائط، وحذف الحرف الأخير نحو أن يقرأ {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) لا تفسد صلاته؛ لأن الاستعمال قد ورد على هذا الوجه، تقول العرب لعائشة يا عائش، ولفاطمة يا فاطم، وكتب في مصحف ابن مسعود {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) وكذلك لو ترك حرفين من آخر الكلمة والباقي ثلاثة أحرف أو ما زاد على ذلك، فذلك جائز.
والحاصل: أنه ينظر في مثل هذا إلى الباقي إن كان الباقي من اسم النداء ثلاثة أحرف فصاعداً، لا تفسد صلاته، نحو أن يترك من طالوت الواو والتاء، ونحو أن يترك من هاروت وماروت الواو والتاء، ونحو أن يترك من هارون الواو والنون، وبعض مشايخنا قالوا: إذا حذف حرفاً زائداً وأتى بجميع أصول الكلمة، ولم يكن قاصداً لا تفسد صلاته على قول أبي حنيفة وعبد الله ابن المبارك وهو مذهب عبد الله بن مسعود، وذلك نحو أن يقرأ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} بحرف الهاء أو قرأ {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ} (الحجرات: 2) بحذف الميم؛ وهذا لأن المحذوف إذا كان حرفاً زائداً لا يتغير المعنى الأصلي في الكلمة، فلا يوجب الفساد.
ثم اختلف أهل النحو فيما بينهم في فصل أنه إذا ترك حرفاً أو حرفين فالحرف الباقي قبل المتروك هل يبقى على حركته، وأكثر أهل النحو على أنه يبقى على حركته حتى يقال: يا حارِ بكسر الراء * من حارث، ويقال يا عائشَ بنصب الشين من عائشة.

وبعضهم على أنه يرفع الحرف الآخر، يقال: يا حارُ برفع الواو يا عائش برفع الشين، هذا إذا كان الحذف على وجه الإيجاز والترخيم، فأما إذا لم يكن على وجه الإيجاز والترخيم إن كان لا يغير المعنى لا تفسد صلاته، نحو أن يقرأ {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِى الاْرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة: 32) بترك التاء من جاءتهم أو يقرأ {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَبَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) ، بترك التاء من جاءتهم أو يقرأ {قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ} (الشعراء: 153، 154) بترك الواو، قبل قوله

(1/327)


ما أنت أو يقرأ {فَسُبْحَنَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 83) بترك الفاء من سبحان، وإن غير المعنى تفسد صلاته عند عامة المشايخ، نحو أن يقرأ {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الإنشقاق: 20) بترك لا أو يقرأ {وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لاَ يَسْجُدُونَ} (الإنشقاق: 21) بترك لا أو يقرأ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ

اسْتَقَمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت: 30) بترك لا، فإنه تفسد صلاته. ألا ترى أنه لو تعمد ذلك مع علمه، ويعتقد ذلك يكفر فإذا كان مخطئاً تفسد به الصلاة.
ومما يتصل بهذا الفصل
إسقاط حرف من الكلمة بآيات.... مكانها إذا قرأ {حَفِظُواْ عَلَى الصَّلَوتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238) وقرأ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 206) وما أشبه ذلك، فعلى قول أبي حنيفة في ظاهر الرواية، وهو قول عبد الله بن المبارك: لا تفسد صلاته، وهو مذهب ابن مسعود، وعلى قول أبي يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة تفسد؛ لأنه قرأ ما ليس في مصحف العامة.
(فصل)
أن تزاد كلمة لا على وجه البدل.
مسائل هذا الفصل على وجهين.
أحدهما: أن تكون الكلمة الزائدة موجودة في القرآن وإنه على قسمين: إن كان لا يغير المعنى لا تفسد صلاته بالإجماع، نحو أن يقرأ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} (الرحمن: 68) ويقرأ كلوا من ثمره إذا أثمر واستحصد، فعند عامة المشايخ لا تفسد صلاته، وزعموا أن هذا قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف تفسد صلاته. وإن كان يغير المعنى نحو أن يقرأ إنما غلي لهم

(1/328)


ليزدادوا إثماً؟...... لا تفسد صلاته بلا خلاف والله أعلم.

الفصل السابع في الخطأ في التقديم والتأخير
وإنه على وجوه: أحدها: أن يقدم بجملة على جملة، ويفهم بالتقديم ما يفهم بالتأخير، نحو أن يقرأ يوم تسود وجوه وتبيض وجوه، أو يقرأ وكتبنا عليهم فيها أن العين بالعين والنفس بالنفس، أو يقرأ العبد بالعبد والحر بالحر، ونحو ذلك لا تفسد صلاته، وإن غير المعنى نحو أن يقرأ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فخافوهم ولا تخافون، تفسد صلاته. وكذلك إذا قرأ إن هذا صراطي مستقيماً، لا تتبعوه واتبعوا السبل.
والثاني: أن يقدم كلمة على كلمة، ولا يغير المعنى بأن يقرأ لهم فيها شهيق وزفير أو يقرأ...... لا تفسد صلاته، وكذلك إذا قرأ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فخافون ولا تخافوهم لا تفسد صلاته، وإن تغير المعنى تفسد صلاته (51ب1) .
في «مجموع النوازل» : إذا قرأ إذ الأعناق في أغلالهم لا تفسد صلاته؛ لأن المعنى لم يتغير لأن الأغلال إذا كانت في الأعناق كانت الأعناق في الأغلال أيضاً.
الثالث: أن يقدم حرفاً على حرف، فنقول: تقديم الحرف أبطل الكلمة لا محالة، فيكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا ذكر كلمة مكان كلمة قالوا: هذا إذا لم يكن من باب المقلوب، فإن كان من باب المقلوب مثل..... و.....، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد لا تفسد صلاته؛ لأن في المقلوب التقديم، والتأخير سواء، وعلى قول أبي يوسف إن كانت الكلمة الثانية في القرآن أن لا تفسد صلاته، وإن لم تكن في القرآن تفسد والله أعلم.