المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الثامن: في الوقف والوصل والابتداء
إذا وقف في غير موضع الوقف أو ابتدأ من غير موضع الابتداء وإنه على وجهين؛ الأول: أن لا يتغير به المعنى تغيراً فاحشاً، لكن الوقف والابتداء قبيح، نحو إن وقف على الشرط قبل ذكر الجزاء ثم ابتدأ في الجزاء، فقرأ {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ} (البروج: 11) ووقف ثم ابتدأ بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة: 7) ونحو إن فصل بين النعت والمنعوت والصفة والموصوف، فقرأ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا} (الإسراء: 3)

(1/329)


ووقف وابتدأ ب {ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الإسراء: 3) لا تفسد صلاته بالإجماع بين علمائنا رحمهم الله.
الوجه الثاني: أن يتغير به المعنى تغيراً فاحشاً بأن قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ} (آل عمران: 18) ووقف ثم قرأ {إِلاَّ هُوَ} (آل عمران: 18) وقرأ {وَقَالَتِ النَّصَرَى} (البقرة: 113) ، ووقف ثم قال: {الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 17) ... وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته عند علمائنا، وعند بعض العلماء تفسد صلاته، والفتوى على عدم الفساد على كل حال؛ لأن في مراعاة الوقف والوصل والابتداء، إيقاع الناس في الحرج، خصوصاً في حق العوام، والحرج مدفوع شرعاً.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا وصل حرفاً من كلمة بكلمة أخرى بأن قرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، ووصل كاف إياك بنون نعبد، أو أقرأ {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر: 1) ووصل كاف إنا أعطيناك بألف الكوثر، أو {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) ووصل الباء بالعين أو ما أشبه ذلك، فعلى قول بعض العلماء تفسد صلاته، وعلى قول العامة لا تفسد صلاته، لأن القارىء عسى لا يجد بُدّاً عن الوقف في مثل هذا الموضع، أما لانقطاع النفس أو غيره، فلو راعينا ذلك يقع الناس في الحرج، وبعض المشايخ ذكروا في ذلك تفصيلاً، فقالوا: إذا علم أن القرآن كيف هو إلا أنه جرى على لسانه هذا لا تفسد، وإن كان في اعتقاده أن القرآن كذلك، تفسد صلاته. وعلى هذا إذا قرأ {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر: 1) بطريق الاستفهام.

الفصل التاسع في ترك المد والتشديد في موضعهما والإتيان بهما في غير موضعهما
ترك المد والتشديد في موضعهما، والإتيان بهما في غير موضعهما إن كان لا يغير المعنى، ولا يقبح الكلام لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان يغير المعنى، ويقبح الكلام اختلف المشايخ قال بعضهم: لا تفسد صلاته دفعاً للحرج، وقال عامتهم: تفسد صلاته.
مثال الأول: في ترك التشديد إذا قرأ المعوذتين إنما..... أخذوا وقبلوا بغير التشديد؛ لأنه قريب من قوله قبلوا بالتشديد.

مثال الثاني: إذا قرأ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) ذكر الرب من غير تشديد وقرأ {وَمَآ أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53) ذكر الأمارة بغير تشديد، ولو قرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بغير تشديد قال بعضهم تفسد صلاته؛ لأن.... نعبد، وقال عامتهم لا

(1/330)


تفسد؛ لأن هذه قراءة، ولو قرأ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَآءهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَفِرِينَ} (الزمر: 32) شدد الذال في كذب اختلف المشايخ فيه، ولو قرأ {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآء ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون: 7) وشدد الدال تفسد صلاته بلا خلاف.
ومثال الأول: في ترك المدّ إذا قرأ {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ} (الكوثر: 1) بدون المد.
ومثال الثاني: إذا قرأ {سَوَآء عَلَيْهِمْ} (البقرة: 6) بدون المد ونحو إن قرأ {دُعَآء وَنِدَآء} (البقرة: 171) بدون المد اختلف المشايخ فيه، كما في ترك التشديد والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا فرغ المصلي من فاتحة الكتاب، وقال آمين بالمدّ والتشديد فقد قيل تفسد صلاته، وقيل لا تفسد على قول أبي يوسف؛ لأن هذه الكلمة مع المدّ والتشديد منقولة في القرآن، قال الله تعالى {وَلآ ءامّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (المائدة: 2) ، وقيل: لا تفسد على قولهما أيضاً؛ لأن هذه قراءة، وعليه الفتوى.
وينبغي أن يقول آمين بغير مد ولا تشديداً، أو آمين بالمد دون التشديد، وأصله يا آمين استجب لنا، إلا أنه لما سقط عنه ياء النداء أدخل فيه المد، وأقيم المد مقام النداء، ولو قرأ من بالمد وحذف الياء لا تفسد على قول أبي يوسف؛ لأنه مذكور في القرآن، ولو قرأ آمن بترك المد وحذف الياء ينبغي أن تفسد؛ لأن مثله لا يجد في القرآن والله أعلم.

الفصل العاشر في اللحن في الإعراب
إذا لحن في الإعراب لحناً، فهو على وجهين: إما أن يتغير المعنى بأن قرأ {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ} (الحجرات: 2) أو قرأ {إن الذين يفضون أصواتهم} (الحجرات: 3) أو قرأ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} (طه: 5) بنصب الرحمن، وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته بالإجماع. وأما إن غيّر المعنى، بأن قرأ {هو االخالق البارىء المصور} (الحشر: 24) بنصب الواو ورفع الميم، وقرأ {وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ} (طه: 121) بنصب الميم ورفع الباء، أو قرأ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ} (البقرة: 124) برفع إبراهيم ونصب الرب، أو قرأ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس: 6) بنصب الجيم، أو قرأ {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: 43) بكسر الكاف والتاء.
وفي هذا الوجه اختلف المشايخ، قال بعضهم؛ لا تفسد صلاته وهكذا روي عن أصحابنا وهو الأشبه؛ لأن في اعتبار الصواب في الإعراب إيقاع الناس بالحرج، والحرج مرفوع شرعاً.
وروى هشام عن أبي يوسف إذا لحن القارىء في الإعراب، وهو إمام قوم وفتح عليه رجل إن صلاته جائزة، وهذه المسألة دليل على أن أبا يوسف كان لا يقول بفساد

(1/331)


الصلاة بسبب اللحن في الإعراب في المواضع كلها، وعن أبي حنيفة..... فيمن قرأ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ} (البقرة: 124) برفع الميم ونصب الباء أنه لا تفسد صلاته، قال: ومعناه سأل إبراهيم ربه فأجابه...... وابتلاؤه وباختباره السؤال هل يجب أولاً بحيث، وسأله مخبراً..... سواء، لا كما أن الدعاء سؤال، وإن كان بلفظ الدعاء.

وعنه أيضاً إن من قرأ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} بنصب الألف إنه لا تفسد صلاته، ومعناه إنما نجازى على خشية العلماء الله عزّ وجلّ، وهذا كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة: 7) إلى أن يقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} (البينة: 8) .

الفصل الحادي عشر في ترك الإدغام والإتيان به
إذا أتى بالإدغام في موضع لم يدغمه أحد من الناس لبعد مخرج الحرفين، وتقبح العبارة وتخرجه عن معرفة معنى الكلمة، نحو أن يقرأ {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} (آل عمران: 12) أدغم الغين في اللام، وشدد اللام، فقرأ {ستبلون} وأدغم الحَاء في الشين وشدد السين فقرأ وتسرون فسدت صلاته، وإن أتى بالإدغام في موضع لم يدغم أحد إلا أن المعنى لا يتغير به ويفهم ما يفهم مع الإظهار نحو أن يقرأ {قُلْ سِيرُواْ} أدغم اللام في السين وشدد السين لا تفسد صلاته؛ لأن اللام قد تدغم في الشين، أدغم حمزة والكسائي اللام في الشين في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} (يوسف: 18) ، وإذا ترك الإدغام بأن قرأ {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} أو قرأ: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف: 109) أو قرأ: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَدِقِينَ} (البصرة: 4) وأشباه ذلك، وكذلك كلما التقى الحرفان من جنس واحد، والأول ساكن والآخر متحرك، فلم يدغم الأول في الثاني، أو اجتمع ثلاثة أحرف، والأول ساكن، فلم يدغم الأوسط في الثالث نحو أن يقرأ، {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} ، (طه: 37) فأظهر النونات
الثلاث كلها، أو اجتمع ثلاثة أحرف والأول منهما ساكن، فلم يدغم الأول في الثاني، كما في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآء اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (الرعد: 31) ، {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} (آل عمران: 12) وكذلك في نظائره لا تفسد صلاته، لأن فحش من حيث العبارة؛ لأن هذا أراد إلى ما أوجبه أصل موضعها في اللغة، وامتناع عن اختيار التخفيف،

(1/332)


وتحمل المشقة في العبارة، وليس فيه المعنى، ولا يقبحه إنما فيه تثقيل العبارة فقط، فكذلك لا تفسد صلاته.

الفصل الثاني عشر في الإمالة في غير موضعها
إذا قرأ باسم الله بالإمالة أو قرأ مالك يوم الدين بالإمالة أو قرأ ذلك الكتاب بالإمالة أو قرأ حتى أو قرأ كانتا تحت عبدين وما شاكل ذلك لا تفسد صلاته؛ لأنه لم يغير (52أ1) نظم الحروف، ولا غيّر المعنى الذي وضعت العبارة له، وقد جرت هذه في..... العامة المميز منهم وغير المميز، وقد روي عن أبي يوسف أنه قال ليس كل لحن يفسد الصلاة، ولا يعلم لحن أخف من هذا وروي عن أبي صالح أنه كان يعلم الصبيان..... على الإمالة، ولم يرو عن أحد عن فقهاء السلف في وقته مع صلابتهم في أمر الدين، ومعرفتهم بالأحكام وإقدامهم على النهي، واشتهار هذه القراءة في المساجد، والمحاريب بإنكارها وقد روي أنه مكتوب في مصحف عثمان الذي فيه أثر الدم {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ} (النساء: 87) وكذلك في أول الإدغام في قرطاس، فلمسوه. وكذلك مكتوب في أول آل عمران آيات الله، وكذلك مكتوب {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ} (النحل: 51) بالتاء بين اللام والهاء والله أعلم.

الفصل الثالث عشر في حذف ما هو مظهر وإظهار ما هو محذوف
إما إظهار ما هو محذوف نحو أن يقرأ {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} (الفتح: 25) فيحذف من الميم من هم ويظهر الألف من الذين، وكانت الألف محذوفة في الوصل غير مدغمة، بدلالة أنه لم يخلفها إلا التشديد الذي في اللام هو التشديد الذي هو موجود مع إظهار الألف، ونحو أن يقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} (الفاتحة: 2) فأظهر الألف من العالمين وكانت محذوفة، بدليل أنه لم يخلفها تشديد البدل على الإدغام، وهذا لا يفسد الصلاة؛ إذ ليس فيه تغيير المعنى، ولا تغيير النظم إنما ثقل العبارة، وكانت العرب خففوها، ومثل هذا لا يوجب الفساد، وكذلك إذا أظهر حرفين إحداهما محذوفة والآخر مدغمة، نحو أن يقرأ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى} (الليل: 3) أظهر الألف وكانت محذوفة، وأظهر اللام للتخفيف وكانت مدغمة في الذال لأجل التسهيل لا تفسد صلاته؛ لأن هذا رد اللفظ.
t
.... أصل موضوعه وامتناع عن اختيار التخفيف من غير أن يكون فيه تغيير المعنى، فلا تفسد صلاته.

(1/333)


وأما حذف ما هو مظهر نحو أن يقرأ وهم لا يظلمون أفرأيت فحذف الألف من أفرأيت، ووصل نون يظلمون بفاء أفرأيت ونحو أن يقرأ: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} (الكهف: 104) فحذف الألف من أنهم ووصل النون بالنون، وإنه لا يفسد الصلاة؛ لأنه ليس فيه تغيير المعنى، ولا يصبح الحكم، وقد اختلف القرّاء في حذف ألف..... من هذه نحو قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} ، بل أتيناهم من أجل ذلك، وفي مصحف عثمان مكتوب في الصافات {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ} {} (الصافات: 168) بحذف الألف من أن.
ومما يتصل يتصل بهذا الفصل
إذا قرأ ألهاكم، القارعة، الحاقة وحذف اللام، فإنه تفسد صلاته؛ لأن فيه تغيير المعنى الذي مع اللام، ويصير الكلام أفحش من كلام الناس.

الفصل الرابع عشر في ذكر بعض الحروف من الكلمة
إذا ذكر بعض الكلمة وما أتمها، إما لانقطاع النفس، أو لأنه نسي الباقي ثم تذكر، فذكر الثاني نحو أراد أن يقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ} (الفاتحة: 2) ، فلما قال: {أل} انقطع نفسه أو نسي الباقي ثم تذكر، فقال {حمد ا} ولم يذكر الباقي، نحو إن قرأ فاتحة الكتاب، والسورة ثم نسي قراءته، فأراد أن يقرأ فلما قال إن تذكر أنه قد كان قرأ، فترك ذلك وركع أو ذكر بعض الكلمة، وترك تلك الكلمة ثم ذكر كلمة أخرى، وفي هذه الصور كلها وما شاكلها تفسد صلاته عند بعض مشايخنا، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني.
ومن المشايخ من فصّل الجواب تفصيلاً، فقال: إن ذكر شطر كلمة لو ذكر كلها يوجب ذلك فساد الصلاة، فذكر شطرها يوجب فساد الصلاة، وإن ذكر شطر كلمة ذكر كلها لا يوجب فساد الصلاة، فذكر شطرها لا يوجب فساد الصلاة، وذكر الشيخ الإمام نجم الدين النسفي في الخصائل، في فصل زلة القارىء هذه المسألة.
وفرّق بين الاسم وبين الفعل، فقال في الاسم نحو الحمد لا تفسد صلاته إذا ذكر البعض وترك البعض، وفي الفعل إذا ذكر البعض، وترك البعض نحو إن أراد أن يقرأ تشكرون، فقال تش وترك الباقي تفسد صلاته.
والفرق: أن الألف واللام في الأسماء زوائد، وترك الزائد لا يفسد الصلاة، فأما في الأفعال الكل يكون أصلاً، وترك الأصل يوجب الفساد إلا أن هذا الفرق إنما يستقيم فيما إذا قال أل في الحمد وترك الباقي، فأما إذا قال الح وترك الباقي.....، هذا الفرق، فتفسد الصلاة ومن المشايخ من قال إن كان لما ذكر من الشطر وجهاً صحيحاً في

(1/334)


اللغة، ولا يكون لغواً ولا يتغير به المعنى ينبغي أن لا يوجب فساد الصلاة وإن كان الشطر المفرد لا معنى له ويكون لغواً أو إن لم يكن لغواً أو يكون مغير للمعنى يوجب فساد الصلاة وصيانة الصلاة في هذا أكثر، وعامة المشايخ على أنه لا تفسد؛ لأن هذا مما لا يمكن التحرز عنه، فصار كالتنحنح المرفوض في الصلاة.

ومما يتصل بهذا الفصل

إذا خفض صوته ببعض حروف الكلمة والصحيح أنه لا تفسد صلاته، لأن فيه بلوى العامّة.

الفصل الخامس عشر في إدخال التأنيث في أسماء الله
إذا قرأ في صلاته {هل ينظرون إلا أن تأتيهم افي ظلل من الغمام} (البقرة: 210) قال علي بن محمد الأديب الزندواني تفسد صلاته؛ لأن التأنيث لا يجوز إدخاله في أسماء الله تعالى كما لا يجوز قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: 255) وكما لا يجوز في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (الإخلاص: 3) وأشبهها ذلك. وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه لا تفسد صلاته؛ لأن الإتيان فعلى غير الله تعالى، ولا فرق في ذلك بين التذكير والتأنيث، وبعض مشايخنا صححوا ما ذكره الفضل من الجواب، ولكن أشاروا إلى معنى آخر، فقالوا إنما لا تفسد صلاته في هذه الصور بإضمار الكلمة وصار تقديراً؛ لأن {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} (البقرة: 210) كلمة الله كما في وجه القراءة بالياء، ليس المراد إتيان الله، بل المراد إتيان أمر الله، هكذا في القراءة بالياء يكون المراد، إتيان كلمة الله، ويمكن أن يقال أما تقدم ذكر الملائكة في القراءة، ويصير تقديراً،؛ لأنه {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة في ظلل في الغمام} والله والتقديم والتأخير شائع في اللغة والله تعالى أعلم.

الفصل السادس عشر في التغني والألحان
هذا الفصل على وجهين: إن كانت الألحان لا تغير الكلمة عن وصفها، ولا يؤدي إلى تطويل الحروف التي حصل التغني لها، حتى لا يصير الحرف حرفين، بل...... تحسين الصوت ويزيّن القراءة لا يوجب ذلك فساد الصلاة، وذلك مستحب عندنا في الصلاة، وخارج الصلاة، وإن كان يغير الكلمة عن وضعها يوجب فساد الصلاة؛ لأن

(1/335)


ذلك منهي، وإنما يجوز إدخال المد في حروف المد واللين والهوائية، والمعتل نحو الألف والواو والياء والله أعلم.
فصل الركوع

اختلف المشايخ في وقت الركوع؛ عامتهم على أن وقته بعد ما فرغ من القراءة، وبعضهم قالوا: إذا أتم بقية القراءة في حالة للركوع، لا بأس به بعد أن يكون ما بقي من القراءة حرفاً أو كلمة. والأول أصح، لأن القراءة شرعت في القيام المحض، فلا يؤمر بها في حالة الركوع، وإذا ركع يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه؛ لأن هذا أمكن الأخذ، وقد قال عمر رضي الله عنه: أمرنا بالركب، فخذوا بالركب. ولا يطبق عندنا، وكان ابن مسعود وأصحابه يقولون بالتطبيق.
وصورته: أن يضم أحد الكفين إلى الأخرى، ويرسلهما بين فخذيه، حجتنا في ذلك ما روي أن سعد ابن أبي وقاص رأى ابناً له يطبق فيها، فقال: رأيت عبد الله يفعله، فقال سعد رحمه الله أن أم عبد..... أمرنا بهذا ثم نهانا عنه...... أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام كان إذا ركع بسط ظهره حتى لو وضع على ظهره قدح من ماء لاستقر، فلا ينكس رأسه ولا يرفعه.
معناه: فسوى رأسه بعجزه لما روي عن رسول الله عليه السلام، نهى أن يذبح المصلي بذبح الحمار يعني إذا.... البول أو أراد أن يتمرغ، فإذا اطمأن راكعاً رفع رأسه، والطمأنينة (ليست) بفرض عند أبي حنيفة ومحمد حتى لو تركها لا تفسد صلاته، وعند أبي يوسف والشافعي فرض، حتى لو تركها تفسد صلاته.

والحاصل: أن الركنيّة متعلقة بأدنى ما ينطلق عليه اسم الركوع عند أبي حنيفة ومحمد والطمأنينة المفضلة والكمال (52ب1) عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف والشافعي الركنية متعلقة بالطمأنينة، ولم يذكر الخلاف في ظاهر الرواية. ولكن ذكر المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف قال سألت أبا حنيفة: عمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود، وقال: تجزيه صلاته، قال أبو يوسف: وأنا أقول لا تجزيه صلاته.

وفي كتاب «البرامكة» أن رجلاً سأل أبا حنيفة عمن لم يقم صلبه في صلاته، قال: الشيء خير من لا شيء، وفي صلاة.... عن هشام عن محمد مسألة تدل على أن قول محمد مع أبي حنيفة، وسيأتي قبل قول أبي يوسف، ولكن مشايخنا ذكروا قول محمد مع أبي حنيفة، وستأتي الحجج من الجانبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن طأطأ رأسه في الركوع قليلاً ولم يعتدل، ظاهر الجواب عن أبي حنيفة أنه يجوز، وروى الحسن عنه أنه إن كان إلى الركوع أقرب يجوز، وإن كان إلى القيام أقرب لا يجزيه، وقال بعض مشايخنا: إذا كان بحال لو نظر الناظر إليه من بعيد لم يشكل عليه

(1/336)


أنه في الصلاة يجوز. وإن أشكل عليه أنه في الصلاة أو خارج الصلاة لا تجزيه ...
السجود السنّة في السجود أن يسجد على الجبهة، والأنف واليدين والقدمين، وأما فرض السجود يتأدى بوضع الجبهة والأنف والقدمين في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر الأنف، وهو اسم لما صلب من الأنف دليل على أنه لا يكفيه أن يسجد على ما لان من الأنف، وهو الأرنبة، وإنّ عليه إن تمكن بما صلب من آنفه (على) الأرض بقدر الممكن، والسجود على اليدين والركبتين ليس بواجب عندنا، وقال زفر والشافعي: هو واجب.
ولو سجد على كور عمامته جاز ويضع يديه في السجود حذاء أذنيه ويوجه أصابعه نحو القبلة ويعتمد على راحتيه ويبدي ضبعيه والمرأة في السجود تلزق بطنها بفخذيها وعضديها بجسمها؛ لأن ذلك أستر لها، ويعتدل في سجوده، ولا يفترش ذراعيه، وتفسير الاعتدال الطمأنينة، وإنه ليس بفرض عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن لو ترك يكره أشد الكراهة، رأيت في بعض الشروح روي عن أبي حنيفة أنه قال: أخشى أن لا تجوز صلاته، والمرأة تلصق بطنها بركبتيها، ولا تجافي عضدها، وهي في الباقي كالرجل، ثم الاعتدال في الركوع والسجود إذا لم يكن فرضاً عند أبي حنيفة يكون واجباً أو سنة عنده، قال أبو عبد الله الجرجاني هو سنة، لو تركها ساهياً تلزمه سجدة السهو، ولو تركه متعمداً ذكر صدر الإسلام أنه تلزمه الإعادة، وههنا كلمات كثيرة تأتي في فصل ما ينبغي للمصلي أن يفعله في صلاته.
فصل: القعدة الأخيرة
يجب أن يعلم بأن القعدة الأخيرة فرض عندنا، وقدر الفرض فيها مقدار قراءة التشهد، والسنّة في القعدة الأولى والثانية أن يفترش رجله اليسرى، فيقعد عليها وينصب اليمنى نصباً، وتقعد المرأة كأستر ما يكون لها والله تعالى أعلم.
فصل للقومة التي بين الركوع والسجود
والجلسة بين السجدتين ليست بفرض وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: العود إلى القيام والجلسة فرض، وعن أبي حنيفة أن الانتقال فريضة، فأما رفع الرأس من الركوع والعود إلى القيام، فليس بفرض، وهو الصحيح من مذهبه، والصحيح مذهب أبي حنيفة أن المأمور الركوع والسجود، والركوع عبارة عن الميلان وانحناء الظهر، يقال ركعت الشجرة.... إذا مالت.

والسجود عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، وإذا انتقل إلى السجود من الركوع، فقد حصل الميلان، ووضع الجبهة على الأرض مكان..... بالركوع، والسجود

(1/337)


مكان..... بالمأمور به، إلا أن الانتقال إلى السجدة من السجدة بدون رفع الرأس لا يمكن، فيشترط رفع الرأس لتحقق الانتقال، لا؛ لأن رفع الرأس فرض بنفسه، حتى لو تحقق الانتقال من السجدة إلى السجدة من غير رفع الرأس بأن سجد على وسادة، ثم نزعت الوسادة من تحت رأسه وسجد على الأرض يجوز، ولا يشترط رفع الرأس، هكذا ذكر القدوري في كتاب شيخ الإسلام في «شرحه» على رواية التي شرط رفع الرأس من الركوع يكتفي بالتي ما ينطلق عليه اسم الرفع.
وكذلك في السجدة إذا شرطنا رفع الرأس يكتفي بالتي ما ينطلق عليه الاسم، والعود إلى القيام عند رفع الرأس من الركوع، والجلسة بين السجدتين إن لم يكن فرضاً عند أبي حنيفة، فهو سنّة عنده، بلا خلاف، هكذا ذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، والله تعالى أعلم.
فصل الخروج عن الصلاة بفعل المصلي
قال أبو حنيفة الخروج من الصلاة بفعل المصلي فرض، وذلك بأن يبني على صلاته صلاة، إما فرضاً أو نفلاً، أو ضحك قهقهة أو أحدث عمداً، أو تكلم أو يذهب أو يُسلّم، وقالا: ليس بفرض، وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا طلعت الشمس بعد ما قعد قدر التشهد، ولم يسلم ولم يفعل شيئاً مما ذكرنا فسدت صلاته عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وينبني على هذا اثنتا عشرة مسألة.
وأما واجبات الصلاة فالمذكور في شروح المشايخ أنها سنّة.
إحداها: تعديل الأركان عند أبي حنيفة ومحمد.
والثانية: تعيين الفاتحة للقراءة في الأوليين، والاقتصار على قراءتها مرة، وتقديمها على السورة، وتعيين الأوليين لقراءتها وقراءة ثلاث آيات بعدها، وقراءة الفاتحة في الأخريين عندهما في ظاهر الرواية عند الكل في رواية الحسن بن زياد.
والثالثة: القعدة الأولى من ذوات الأربع والثلاث من الفرائض والواجبات.

والرابعة: قراءة التشهد في القعدة الأولى والأخيرة.
والخامسة: قراءة القنوت في الوتر، والسادسة: تكبيرات صلاة العيدين.
وههنا أشياء أخرى من جملة الواجبات.
إحداها: الجهر فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت، والإنصات عند قراءة الإمام للمقتدي، ومتابعة الإمام على أي حال و..... إن لم يكن..... من صلاته، وسجدة التلاوة وسجدتي السهو.
وأما سنن الصلاة فمن جملتها رفع اليدين مقارناً لتكبيرة الافتتاح، وقد ذكرنا المسألة مع فروعها في فصل تكبيرة الافتتاح، ومن جملتها نشر الأصابع عند رفع اليدين وجهر الإمام بالتكبير إعلاماً للناس بالشروع، وتكبير المقتدي في أقل القيام مع الإمام عند

(1/338)


أبي حنيفة، وبعد تكبير الإمام عندهما، وقد مرت المسألة من قبل، والتعوذ و.... والتعوذ لأجل القراءة، عند محمد، فيأتي به من يقرأ وحين يقرأ حتى قال لا يتعوذ المقتدي، والمسبوق، إذا قام إلى قضاء ما سبق يتعوذ وعند أبي يوسف التعوذ يتبع الثناء، فيتعوذ المقتدي، ولا يتعوذ المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق والتسمية و (اثناء) ، والتأمين يأتي بها الإمام والقوم جميعاً.
وكفوفه الاعتماد بيمناه على يساره، ويكون موضع الوضع تحت السرة عندنا، والتكبيرة إذا انحط للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، والتسبيح في الركوع ثلاثاً، وأخذ الركبتين باليدين في الركوع، وتفريج الأصابع، والتكبير إذا خرّ ساجداً، والتسبيح في السجود ثلاثاً وافتراش رجله اليسرى، والقعود عليها وينصب اليمنى نصباً، وقد مرّت المسألة من قبل.
والصلاة على النبي عليه السلام عند القعود، والدعاء بما يشبه ألفاظ القرآن، ولا يشبه كلام الناس.

وقد قيل: رفع سبابة اليد اليمنى في التشهد عند قوله؛ أشهد أن لا إله إلا الله عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي، وقال في ظاهر الأصول: لا يرفعها، وكذا روي عن أبي يوسف، وقد قيل قراءة الفاتحة في الأخريين في الفرائض سنة، والخروج بلفظ السلام والسلام عن يمينه ويساره سنّة.

ومن جملة السنن الأذان ومسائله أنواع نوع في بيان صفته.
فنقول: إنه من سنن الصلاة، وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله قالوا إنه واجب، والصحيح أنه سنّة، وعليه عامة المشايخ إلا أنه سنّة مؤكدة، ثبت ذلك بفعل النبي عليه السلام، وإجماع الصحابة ومن بعدهم وروي عن أبي حنيفة في يوم صلوا في مسجد بغير أذان ولا إقامة أنهم آخطؤوا إلى السنّة لما مرّ أن الأذان سنّة مؤكدة، والإعراض عنه يكون خطاً، وروي عن محمد أنه قال: إذا اجتمع أهل بلدة على ترك الأذان قاتلناهم، ولو ترك واحد ضربته وحبسته، وكذلك سائر السنن (53أ1) .
وقال أبو يوسف: إذا امتنعوا عن إقامة الفرض، نحو صلاة الجمعة وسائر الفرائض وأداء الزكاة يقاتلون، ولو امتنع واحد ضربته، وأما السنن نحو صلاة العيد، وصلاة الجماعة والأذان فإني آمرهم وأضربهم ولا أقاتلهم لتقع التفرقة بين الفرائض والسنن. ومحمد رحمه الله يقول: الأذان وصلاة العيد، ونحو ذلك، وإن كانت من السنن إلا أنها من إعلام الدين، فالإصرار على تركها استخفاف بالدين، فيقاتلوا على ذلك.
لهذا وقد نقل عن مكحول أنه قال: السنّة سنّتان سنّة أحدها: هدي وتركها لا بأس به، وسنّة أحدها: هدي وتركها ضلالة كالأذان والإقامة وصلاة العيد والجماعة، يقاتلون

(1/339)


على الضلالة إلا أن الواحد إذا ترك ذلك يُضرب ويحبس، لتركه سنّة مؤكدة، ولا يقاتل؛ لأن فعله لا يؤدي إلى استخفاف بالدين.
نوع في بيان سبب ثبوت الأذان

وقد تكلموا فيه، قال بعضهم: نزل به جبريل صلوات الله عليه حتى قال كثير بن مرة أذن جبريل في السماء فسمعه عمر بن الخطاب، وعن أبي جعفر محمد بن علي أن النبي عليه السلام حين أسري به إلى المسجد الأقصى، وجمع له النبيون أذن ذلك وأقام، فصلى بهم رسول الله عليه السلام.

والأشهر من ذلك روي أن النبي عليه السلام لمّا قدم المدينة كان يؤخر الصلاة تارة ويعجلها أُخرى، فاستشار الصحابة في علامة يعرفون بها وقت أداء الصلاة، ليكلا تفوتهم الجماعة، فقال بعضهم؛ ننصب راية، فلم يعجبه ذلك، وأشار بعضهم بضرب الناقوس، فكره لأجل النصارى، وبعضهم بالنفخ في الصور فكره لأجل اليهود، وبعضهم بالبُوق فكره؛ لأجل المجوس فتفرقوا قبل أن يجتمعوا على شيء.
قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري رضي الله عنه: فبت لا يأخذني النوم، وكنت بين النائم واليقظان إذ نزل شخص من السماء، وعليه ثوبان أخضران، وفي يده شبه الناقوس، فقلت أتبيعيني هذا؟ فقال ما تصنع به؟ فقلت: نضربه عند صلاتنا، فقال: أنا أدلك على ما هو خير منه فقلت: نعم، فقام إلى هدم حائط مستقبل القبلة، وقال: الله أكبر الله أكبر الأذان المعروف ثم سكت هنيهة، ثم قام فقال مثل مقالته الأولى، وزاد في آخره؛ قد قامت الصلاة مرتين، فأتيت رسول الله عليه السلام، وأخبرته بذلك، فقال عليه السلام: رؤيا صدق أو قال رؤيا حق ألقها على بلال، فإنه أندى صوتاً منك، فألقيتها عليه، فقام على سطح بيت امرأة أرملة بالمدينة وجعل يؤذن، فجاء عمر رضي الله عنه وهو في إزار وهو يهرول، ويقول: لقد طاف بي ما طاف بعبد الله بن زيد إلا أنه سبقني، فقال عليه السلام الحمد لله أنه لا، ورُوي أن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم رؤوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة.
(نوع آخر) في بيان ما يفعل فيه

المستحب للمؤذن أن يستقبل القبلة استقبالاً، هكذا روي عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النازل من السماء، فلأن قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح دعاء إلى الصلاة، وخطاب للناس بالحضور، وما قبله وبعده ثناءً على الله، فما كان ثناءً يستقبل القبلة، وما كان دعاء للناس يحول وجهه يميناً وشمالاً، ليتم سماع جميع الناس ذلك، ومن الناس من يقول إذا كان يصلي وحده لا يحول وجهه؛ لأنه لا حاجة إلى الإعلام، وهو قول شمس الأئمة الحلواني.
والصحيح: أنه يحول على كل حال؛ لأنه صار سنّة الأذان، فيؤتى به على كل

(1/340)


حال، قال حتى قالوا في الذي يؤذن لمولود: ينبغي أن يحول وجهه يمنةً ويسرةً عند هاتين الكلمتين، وإن استدار في الصومعة فحسن؛ لأنه دعاء إلى الصلاة، فيحتاج فيه إلى ذلك لإسماع الجميع، وهذا الأداء لم يستطع سنة الصلاة والفلاح، وهو تحويل الرأس يميناً وشمالاً مع ثبات قدميه لاتساع الصومعة، فأما بغير حاجة، فلا يفعل ذلك، ويؤذن قائماً لما روينا أن النازل من السماء قام على هدم حائط وأذن، ولتوارث الأمة ذلك.
وإن أذن راكباً ففي السفر لا بأس به، ويؤذن حيث كان وجهه، هكذا روي عن أبي يوسف وينزل للإقامة، فأما الأذان والإقامة راكباً في الحضر، فظاهر الرواية أنه يكره أن يؤذن راكباً، وعن أبي يوسف أنه لا بأس به، وإن لم ينزل المسافر للإقامة، وأقام كذلك أجزأه لحصول المقصود، وإن اقتصر المسافر على الإقامة وترك الأذان جاز؛ لأن السفر عذر مسقط شطر الصلاة، فلا يكون مسقطاً أحد الأذانين أولى، وإن تركهما أو ترك الإقامة، فقد أساء.

وذكر في «الجامع الصغير» : جازت صلاته ويكره، ويكون التكبير الأول في الأذان أربعاً الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر وقال مالك مرتين، وهكذا روي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول، وقيل: إنه قول الحسن بن زياد، اعتمادهم على حديث أبي محذورة، قال: علمني رسول الله عليه السلام الأذان، وقال الله أكبر مرتين، وقياساً على الطرف الأخير من الأذان.
ولنا: أن النازل من السماء كرر التكبير الأول أربعاً؛ ولأنه لما شرع في آخره مرتين يجب أن يكون في أوله ضعف ذلك قياساً على التهليل، ويختم الأذان بالتهليل لا إله إلا الله عندنا، وعند مالك بالتكبير لا إله إلا الله والله أكبر، وهو قول أهل المدينة، ومن الناس من قال: إذا قال: لا إله إلا الله يقول بعده محمد رسول الله في نفسه، فيسمع نفسه، فمالك قاس الانتهاء على الابتداء، ونحن اعتمدنا على حديث عبد الله بن زيد، وهو حكى أن النازل من السماء ابتدأ بالتكبير وختم بالتهليل.
ولا يرجّع في الأذان عندنا، وقال مالك والشافعي فيه ترجيع، وذلك أن يبتدىء بالشهادتين يريد به أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله يخفض بهما صوته، ثم يرجع إليهما فيرفع بهما صوته، لهما حديث أبي محذورة أن النبي عليه السلام علمه الأذان تسعة عشر كلمة والإقامة سبعة عشر كلمة، وأن يكون الأذان تسعة عشر كلمة إلا بالترجيع، وروي أنه أمره بالترجيع نصّاً:
t

ولنا: حديث عبد الله بن زيد فهو الأصل في الأذان، وليس فيه ذكر الترجيع؛ ولأنه أحد الأذانين، فلا يسن فيه ترجيع الشهادتين كالإقامة بل أولى؛ لأنه زيد في الإقامة ما ليس في الأذان، فلا يحذف عنهما ما كان مشروعاً في الأذان، وأما حديث أبي محذورة، فقد ترك الخصم الأخذ به في حق الإقامة؛ لأن عند الشافعي الإقامة تكون أحد عشر كلمة، فلا يجوز تعلقه به في حق الأذان، ثم إن ما أمره النبي عليه السلام بذلك؛ لأنه

(1/341)


كان مؤذن مكة وكان في ابتداء إسلامه، فلما انتهى إلى ذكر رسول الله عليه السلام أنه خفض صوته استحياءً من أهل مكة؛ لأنه كان حديث العهد بالإسلام (فأمسك) رسول الله عليه السلام أذنه، وأمره بأن يعود، فيرفع صوته ليكون تأدياً.
قال والأذان والإقامة مثنى مثنى عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: الإقامة فرادى إلا قوله قد قامت الصلاة، فإنها مرتين لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام «أمر بلالاً أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» ؛ ولأن الأذان لإعلام الغائبين، والتكرار فيه أبلغ والإقامة لإقامة الصلاة، والإفراد بها يكون أعجل لإقامة الصلاة، فهي أولى.
ولنا: حديث عبد الله بن زيد فهو الأصل. وقد حكى فيه الإقامة مثل الأذان، ولأن المحض بالإقامة قوله قد قامت الصلاة، ولا إفراد في هذه الكلمة، ففي غيرها أولى، وحديث أنس فمعناه أمر بلالاً أن يؤذن بصوتين ويقيم بصوت واحد والأفضل للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه قال عليه السلام (لبلال) رضي الله عنه: «إذا أذنت فاجعل أصبعيك في أذنيك، فإنه أندى وأرفع لصوتك» ، ولأن المقصود من الأذان الإعلام، وذلك برفع الصوت وجعل الإصبعين في الأذنين يزيد في رفع الصوت، وعن هذا قلنا الأولى أن يؤذن حيث يكون أسمع للجيران، وإن ترك ذلك لم يضره.

وقال في «الجامع الصغير» : فهو حسن، قالوا خلاف السنّة كيف يكون حسناً؟ والجواب أنه ليس بسنّة أصلية؛ أنه ليس في حديث النازل من السماء ذلك، ولكن أمر رسول الله عليه السلام بلالاً بذلك؛ لأن صوته يدخل أذنه، فربما يضعفه فإذا كان ذلك لا يؤثر فيه لا يكون بتركه (53ب1) بأس ولا يجهد نفسه لما روي أن عمراً رضي الله عنه رأى مؤذناً يجهد نفسه في الأذان فقال: أما يخاف أن تنقطع من تطاوللك والتثويب في الفجر حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح بين الأذان والإقامة حسن، ويكره التثويب في سائر الصلوات، هذا هو لفظ «الجامع الصغير» ، وذكر في «الأصل» ولا تثويب إلا في صلاة الفجر عندنا، والأصل فيه قوله عليه السلام لبلال رضي الله عنه «ثوِّب في الفجر، ولا تثوب في غيرها» .
والمعنى في المسألة أن وقت الفجر وقت نوم وغفلة، فاستحسنوا زيادة الإعلام لتنبيه الناس، فيدركون فضيلة الصلاة بالجماعة، أما أوقات سائر الصلوات أوقات انتباه، فلا حاجة إلى التثويب فيها، وقال يعقوب: لا أرى بأساً أن يذهب المؤذن إلى باب الأمير في جميع الصلوات، ويقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حيّ على الصلاة

(1/342)


حيّ على الفلاح الصلاة يرحمك الله؛ لأن له زيادة شغل للنظر في أمور الرّعية، وتسوية أمر الجند مستحب في حقه، وزيادة إعلام، وكذلك كل من اشتغل لمصالح المسلمين كالمفتي والقاضي يُخص بنوع إعلام، والمعنى أنه لو لم يخص بنوع الإعلام لا يعرف هو وقت الحضور فربما يحضر كما يسمع الأذان، ولم يحضر القوم بعد، فيحتاج إلى انتظار القوم، فتتعطّل مصالح المسلمين. ومشايخنا رحمهم الله اليوم لم يروا بالتثويب بأساً في سائر الصلوات في حق جميع الناس فلا بأس لأنه حدث تكاسل في الأمور الدينية، واشتغلوا بأمور زائدة من أمور الدنيا، وتغافلوا عن أداء الصلاة لأوقاتها، فنزل سائر الأوقات في زماننا منزلة صلاة الفجر في زمن رسول الله عليه السلام، ثم على ما اختاره المشايخ من التثويب في سائر الصلوات في زماننا يعتبر في ذلك ما يتعارفه كل قوم، حكي عن محمد بن سلمة أنه كان يتنحنح وكان عادة أهل سمرقند قبل هكذا، واختار مشايخ بخارى الصلاة الصلاة..... قامت قامت.
وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه ينبغي للمؤذن أن يمكث بعد الأذان قدر ما يقرأ الإنسان عشرين آية ثم يثوب ثم يصلي ركعتي الفجر ثم يمكث قليلاً ثم يقيم، وعن أبي يوسف أن التثويب بعد الأذان ساعة، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : التثويب الذي يثوب الناس في الفجر بين الأذان والإقامة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين حسن، وهو التثويب المحدث، ولم يبين التثويب القديم.

وذكر في «الأصل» : أن التثويب الأول في صلاة الفجر بعد الأذان «الصلاة خير من النوم، فأحدث الناس هذا التثويب، وهو حسن، ولم يبين المحدث بعض مشايخنا رحمهم الله، قالوا: أراد محمد رحمه الله بقوله في «الأصل» ، فأحدث الناس هذا التثويب فأحدث الناس مكان التثويب لا نفس التثويب، فإن التثويب الأول في صلاة الفجر «الصلاة خير من النوم» بعد الأذان، فالناس جعلوها في الأذان، ولكن هذا مُشكل، فإن محمداً رحمه الله أضاف الإحداث إلى الناس، وإدخال هذا التثويب في الأذان غير مضاف إلى الناس، بل هو مضاف إلى بلال، فإنه هو الذي أدخل هذا التثويب في الأذان ولكن بأمر رسول الله عليه السلام.
فإنه روي أن بلالاً أتى النبي يؤذنه في الصلاة، فوجده راقداً فقال: الصلاة خير من النوم، فانتبه النبي عليه السلام، وقال: «ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك» ، ومن المشايخ من قال: أراد بقوله، فأحدث هذا التثويب نفس التثويب، فإن التثويب الأول الصلاة خير من النوم، ثم إن التابعين، وأهل الكوفة أحدثوا هذا التثويب، وهو قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة، ولفظ «الجامع الصغير» يدل على هذا.

(1/343)


فإن لفظ «الجامع الصغير» التثويب الذي يثوب الناس في الفجر بين الأذان والإقامة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين حسن، هذا هو التثويب المحدث، وروي عن أبي حنيفة أيضاً ما يدل على صحة هذا القول، فإنه روي عنه أن التثويب الأول كان في صلاة الصبح، ولم يكن في غيرها، وكان «الصلاة خير من النوم» ، فأحدث الناس حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين، وهو حسن.
ومعنى التثويب العود إلى الإعلام بعد الإعلام الأول مشتق من قولهم ثاب إلى المريض نفسه إذا برأ وعاد إلى الصحة، وأصل اللغة ثاب يثوب بمعنى رجع والكعبة تسمى مثابة؛ لأن الناس يرجعون إليها مرة بعد مرة، وإنما سمي هذا التثويب الذي أحدثه الناس حسناً، لأنهم رأوه حسناً، وقد قال عليه السلام «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» قال ويترسّل في الأذان، ويحدر في الإقامة، قال عليه السلام لبلال: «إذا أذنت فترسّل، وإذا أقمت فاحدر» وأن يرسل في الإقامة، ويحدر في الأذان، أو يرسل فيهما أو يحدر فيهما فلا بأس.
(نوع آخر)
في أذان المحدث والجنب وبيان من يكره أذانه ومن لا يكره
قال محمد رحمه الله: في مؤذن أذن على غير وضوء وأقام: أجزأه ولا يعيد، والجنب أحب إليَّ أن يعيد وإن لم يعيد أجزأه. يجب أن يعلم بأن الكلام هنا في فصلين في الكراهة، وفي الإعادة.
أما الكلام في الكراهة، فنقول: ذكر بعض المشايخ في شروحهم تكره الإقامة مع الحدثين باتفاق الروايات؛ لأنه يقع الفعل بين الإقامة والصلاة، وموضوع الإقامة يتصل بها أداء الصلاة، وكذلك يكره الأذان مع الجنابة باتفاق الروايات، وفي كراهته مع الحدث روايتان: فعلى الرواية التي قال: يكره الأذان مع الحدث، قاس الأذان على الإقامة، وجمع بينهما بمعنى جامع، وهو أن الأذان بينهما بالصلاة حتى يقام مستقبل القبلة، إلا أنه ليس بصلاة على الحقيقة، والصلاة بدون الطهارة لا تجوز أصلاً فما كان مشبهاً بالصلاة يجوز مع الكراهة، وعلى الرواية التي لا يكره الأذان مع الحدث.
فرقٌ بين الأذان والإقامة؛ ووجه ذلك: أن كراهة الإقامة مع الحدث، إنما كان لئلا يقع الفصل فيه بين الإقامة والصلاة، وإنه غير مشروع، وهذا المعنى لا يتأتى في الأذان؛ لأن الفصل بين الأذان والصلاة مشروع.

ثم في الأذان فرق بين الجنابة وبين الحدث على إحدى الروايتين فقال: لا يكره الأذان مع الحدث، ويكره مع الجنابة.

ووجه ذلك ما ذكرنا: أن للأذان شبهاً بالصلاة إلا أنه ليس بصلاة على الحقيقة، ولو كان صلاة لا يجوز مع الحدث والجنابة، فإذا كان مشبهاً بالصلاة.
قلنا: يكره مع الجناية اعتباراً لجانب الشبه، ولا يكره مع الحدث اعتباراً لجانب

(1/344)


الحقيقة إلا أنا اعتبرنا جانب الشبه في الجنابة، ولم نعتبر في الحدث؛ لأنا لو اعتبرنا في الحدث يلزمنا اعتباره في الجنابة من طريق الأولى؛ لأن الجنابة أغلظ الحدثين، فحينئذٍ يتعطل جانب الحقيقة، فاعتبرنا جانب الشبه في الجنابة، ولم نعتبره في الحدث لهذا.
وبعض مشايخنا ذكروا في شروحهم عن أبي حنيفة أن أذان المحدث، وإقامته جائزة من غير كراهة، وهو رواية عن أبي يوسف؛ لأن الأذان والإقامة لا يدنوا درجتها على درجة القرآن، ثم المحدث لا يمنع من قراءة القرآن، هكذا لا يمنع من الأذان والإقامة.
وأما الكلام في الإعادة، فأذان المحدث لا يعاد، وكذلك إقامته، وأذان الجنب، وإقامته تعاد على طريق الاستحباب، وفي رواية اختلط حكم الجنابة وجهه حكم الحدث، وفي رواية لا يعاد، قال بعض مشايخنا: والأشبه أن يقال: يعاد أذان الجنب ولا تعاد إقامته؛ لأن تكرار الأذان مشروع في الجملة كما في صلاة الجمعة، فأما تكرار الإقامة، فغير مشروع أصلاً.
ثم إن محمداً رحمه الله، قال: في الجنب أحب إليّ أن يعيد، وإن لم يعد أجزأه، قيل تحتمل أن يكون معنى قوله أجزأه جواز الصلاة بغير أذان، وتحتمل الجواز في أصل الأذان لحصول المقصود.
قال في «الأصل» وليس على النساء أذان ولا إقامة؛ لأن الأذان والإقامة من سنّة الصلاة بجماعة، وليس على النساء الصلاة بجماعة، فلا يكون عليهن أذان ولا إقامة، وإن صلين بجماعة وصلين بغير أذان وإقامة، وإن صلين بأذان وإقامة جازت صلاتهن مع الإساءة.
قال في «الجامع الصغير» والمرأة (54أ1) إذا أذّنت يعاد أذانها، وإن لم يعيدوا جاز، هكذا ذكرنا، وذكر في «الأصل» ويكره أذان المرأة، ولم يذكر أنه هل يعاد؟، ووجه الكراهة: أنه رفع الصوت منها معصية رفعت صوتها تكتب المعصية، وإن لم ترفع صوتها، فقد أخلت بما هو المقصود من الأذان، وهو الإعلام وقوله في «الكتاب» وإن لم يعيدوا أجزأه، فيحتمل جواز الصلاة بغير أذان، ويحتمل الجواز في أصل الأذان على ما مرّ.
ولم يذكر في «الجامع الصغير» حكم أذان الصبي، وذكر القدوري في «شرحه» : وإن آذان الصبي (الذي) لا يعقل أو مجنون يُعاد ذلك؛ لأن ما هو المقصود وهو الإعلام لا يحصل بأذانهما؛ لأن الناس لا يعتبرون كلام غير العاقل، فهو وصوت الطير سواء، ويكره أذان السكران، ويستحب إعادته، وكذلك يكره أذان الفاسق؛ لأنه أمانة شرعية فلا يؤمن الفاسق عليه، ولا يعاد أذانه، لحصول المقصود به، وإن اشترط على الأذان أجزأه، فهو فاسق كذا ذكره في الخصائل، ويجوز أذان العبد والقروي وأهل المفاوز، وولد الزنا والأعمى من غير كراهة، ولكن غير هؤلاء أولى، وكذلك يجوز أذان ... ويؤذن في بعض الصلاة دون البعض بأن كان في السوق نهاراً أو في السكة ليلاً يجوز من غير كراهة وغيره أولى.

(1/345)


وإن أذن رجل فأقام رجل آخر إن غاب الأول جاز من غير كراهة، وإن كان حاضراً ويلحقه الوحشة بإقامة غيره يكره، وإن رضي به لا يكره عندنا، وإن أذن وأقام ولم يصلّ مع القوم يكره؛ لأنه إن كان صلى، فهذا تنفل في الأذان، وإنه غير مشروع، فإن كان لم يصلِ؟ وفارقهم فيكره.
(نوع آخر)
في الفصل بين الأذان والإقامة
قال في «الجامع الصغير» : ويجلس بين الأذان والإقامة إلا في المغرب، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجلس في المغرب أيضاً جلسة خفيفة يجب أن يعلم بأن الفصل بين الأذان والإقامة في سائر الصلوات مستحب.

والأصل في ذلك قوله عليه السلام لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرع الأكل من أكله، والشارب من شربه» ، واعتبر الفصل في سائر الصلوات بالصلاة، حتى قلنا: إن في الصلوات التي قبلها تطوع مسنون أو مستحب، فالأولى للمؤذن أن يتطوع بين الأذان الإقامة.
جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَلِحاً} (فصلت: 33) أنه المؤذن يدعوا الناس بأذانه ويتطوع بعده قبل الإقامة، ولم يعتبر الفصل في المغرب بالصلاة؛ لأن الفصل بالصلاة في المغرب يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقته، وتأخير المغرب مكروه، وقال النبي عليه السلام؛ «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» ويؤيده قوله عليه السلام: «بين كل أذانين صلاة إلا المغرب» ، وأراد بالأذانين الأذان والإقامة، وإذا لم يفصل بالصلاة في المغرب يتأدى. بفصل، قال أبو يوسف ومحمد: يفصل بجلسة خفيفة؛ لأن الجلسة صالحة للفصل.
ألا ترى أنها صلحت للفصل بين الخطبتين يوم الجمعة، فهنا كذلك، وقال أبو حنيفة يفصل بالسكوت، لأن لمّا لم يفصل بالصلاة التي هي عبادة، لتكون أقرب إلى الأداء أبعد عن التأخير فلأن لا يفصل ... بعبادة أولى، والفصل يحصل بالسكوت حقيقة، فلا حاجة إلى اعتبار الجلسة للفصل، ثم عند أبي حنيفة مقدار السكتة ما يقرأ ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، وروي عنه أنه قال: مقدار ما يخطو ثلاث خطوات، وعندهما مقدار الجلسة ما جلس الخطيب بين الخطبتين من غير أن يطول، وتمكن مقعده على الأرض.

(1/346)


(نوع آخر) بيان الصلاة التي لها أذان والتي لا أذان لها وفي بيان أنه في أي حال يؤتى به
وليس بغير الصلوات الخمس والجمعة والتطوعات والسنن والوتر، وغيرها أذان ولا إقامة، أما السنن والتطوعات؛ فلأن الأذان والإقامة من سنّة الصلاة بالجماعة والسنن والتطوعات لا تؤدى بجماعة، فلا يشرع فيها أذان ولا إقامة، ولأن الأذان شرع الإعلام للدخول بوقت الصلاة، ولا حاجة للتطوعات إلى ذلك، فإن جميع الأوقات وقت للتطوعات، ولأن التطوعات تبع للسنن، والسنن تبع للفرائض شرع مكملاً للفرائض، فلا حاجة إلى أتباعه للتبع.
وأما الوتر فعندهما الوتر تطوع، ولا أذان ولا إقامة في التطوعات بالإجماع على ما ذكرنا، وأما عند أبي حنيفة، فلأن الوتر إن كان واجباً عنده إلا أنها لا تؤدى بالجماعة إلا في شهر رمضان، وعند أدائها هم مجتمعون، فلا حاجة إلى الإعلام وخارج رمضان لا تؤدى بالجماعة، والأذان سنّة أداء الصلاة بجماعة.
وأما التراويح وإن أَدي بالجماعة لكنه تبع للعشاء، وهم مجتمعون عند أدائها.
وأما العيدين، فلحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صلى رسول الله عليه السلام العيدين بغير أذان ولا إقامة ولم يصل قبلها ولا بعدها» ، هكذا جرى التوارث إلى يومنا هذا، والتوارث كالتواتر، ولأن صلاة العيدين سنّة، وقد ذكرنا أنه لا أذان للسنن.
فأما الجمعة يؤذن لها ويقام؛ لأنها فرض مكتوب وفرضيتها آكد من فريضة الظهر حتى ترك الظهر لأجلها، والأذان والإقامة مشروعان في الظهر، فكذلك في الجمعة؛ ولأن الأذان لها منصوص في القرآن، قال الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اوذروا البيع} (الجمعة: 9) ؛ ولأن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الاجتماع والجمعة أولى بهذا؛ لأنه لا يجوز قضائها خارج الوقت، ولا يجوز أدائها بدون الجماعة، وسائر الصلوات يجوز أداؤها بغير جماعة، ولا يجوز قضاؤها خارج الوقت، ولا يؤذن لصلاة قبل دخول الوقت.

وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: يؤذن لصلاة الفجر في النصف الآخر من الليل، حجتهما في ذلك؛ ما روي أن بلالاً كان يؤذن على عهد رسول الله عليه السلام بالليل.
ولنا: ما روي أن رسول الله عليه السلام قال لبلال: «لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا، ومدّ يده عرضاً» ، ولأن المقصود من الأذان الإعلام بدخول الوقت، فقبل الوقت يكون الأذان تجهيلاً لا إعلاماً، وأما الجواب عن فعل بلال قلنا: إن بلالاً ما كان يؤذن بالليل، لصلاة الفجر، وإنما كان يؤذن لقيام النائم، وإنما كانت صلاة الفجر

(1/347)


بأذان ابن أم مكتوم، كما قال عليه السلام: «لا يغرنكم أذان بلال؛ لأنه يؤذن ليرجع غائبكم ويتسحر صائمكم وينام قائمكم، وكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ، وكان هو أعمى كان لا يؤذن حتى يسمع الناس يقولون: أصبحت، أصبحت وأجمعوا أن الإقامة قبل الوقت لا تجوز؛ لأن الإقامة لإقامة الصلاة ولا يمكنه إقامة الصلاة قبل الوقت، وإن لم يعد الأذان في الوقت جازت صلاته؛ لأنه لو ترك الأذان أصلاً جازت صلاته فها هنا أولى، ولم تذكر الكراهة ههنا لاختلاف العلماء وشبهة الحديث.
(نوع آخر) في تدارك الحد الواقع فيه
إذا غشي على المؤذن ساعة في الأذان أو في الإقامة، قال محمد رحمه الله: أحبّ إليّ أن يقتدي به من أولها؛ لأن لكل واحد منهما شبهاً بالصلاة، ولو غشي عليه في صلاة الأصل ثم أفاق، فإنه سوّى بها ولا شيء، كذا ههنا، فلو لم يقتد بها، وأتمها جازت صلاته؛ لأنه لو تركهما جازت صلاته، فههنا أولى.
وكذلك لو رعف فيها أو أحدث، فذهب وتوضأ ثم جاء، فأحب إليّ أن يقتدي بها من أولها لما ذكرنا أن لها شبهاً في الصلاة ولو أحدث في الصلاة فكان، الأولى أن يقتدي بها، ولو ... عليها يجوز كذا هنا؛ فلأنه ربما يشتبه على الناس أنه يؤذن أو يتعلم كلمات الأذان، قال مشايخنا، والأولى أن يتم الأذان إن أحدث في الأذان، ويتم الإقامة إن أحدث في الإقامة ثم يذهب ويتوضأ ويصلي؛ لأن ابتداء الأذان والإقامة مع الحدث جائز فأما بهما، أولى. ونزول الاشتباه الذي ذكرنا، لهذا إذا كان الأفضل إتمامهما قبل التوضىء، وكذا إذا مات المؤذن في الأذان أو ارتد، فالأولى أن يقتدي غيره؛ لأن بالموت انقطع عمله، وبالردة حبط عمله؛ ولأننا على المنقطع والباطل، وإن لم يقتد غيره وأتمه جاز وإذا أذن بتمامه ثم ارتد، فإن اعتدوا بأذانه وأمروا من يقيم، ويصلي بهم جاز. وإن استعادوا الأذان (54ب1) فذلك أولى؛ لأن بالردة بطل، وصار كأنه لم يؤذن أصلاً، وإذا قدّم المؤذن في أذانه وإقامته بعض الكلمات على البعض، نحو أن يقول أشهد أن محمداً رسول الله قبل قوله أشهد أن لا إله إلا الله، فالأفضل في هذا أن ما سبق أوانه لا يعتد به حتى يعيده في أوانه وموضعه؛ لأن الأذان شرعت متطوعة مرتبة فتؤدى على نظيره وترتيبه إن مضى على ذلك جازت صلاتهم.
ولو افتتح الأذان يظن أنها الإقامة، فأقام في آخرها وصلى بالقوم جازت صلاتهم؛ لأنه ترك آخر الأذان وأتى بأولها، وأتى بآخر الإقامة وترك أولها، ولو ترك الأذان والإقامة أصلاً يجوز، فههنا أولى.
وإن استيقن قبل الشروع في الصلاة بأن علم بعدما قال قد قامت الصلاة، فإنه في الأذان فإنه يتم الأذان ثم يقيم؛ لأنه أتى بأول الأذان على وجهها، إلا أنه غيّر آخرها

(1/348)


فكان عليه أن يصلح ما غير إذا أمكنه الإصلاح، وقد أمكنه الإصلاح إذا استيقن قبل الشروع في الصلاة ثم يستقبل الإقامة؛ لأنه لم يأت بأولها.

فرقٌ بين الإقامة وبين الأذان، فإن في الأذان لم يقل استقبل الأذان، وإنما قال يتم الأذان، وفي الإقامة قال: استقبل الإقامة.
والفرق: أنه أتى بأول الأذان إلا أنه غير آخرها، وأمكنه إصلاح ما غيّر، فلا حاجة إلى الاستقبال، أما في الإقامة لم يأت بأولها، وإنما أتى بآخرها، ولا يمكن بناء الآخر على الأول؛ لأن الأول لم يؤُخر بعده فلهذا قلنا بالاستقبال.
ثم في فصل الأذان قال يتم الأذان، ولم يبين صورة الإتمام.
وقد ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار صورة، فقال؛ يعود إلى قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وإذا ظن الإقامة من أولها أداها وأتمها أذاناً ينبغي أن يعيد الإقامة؛ لأن التغيير في كله، ولو ألحق بأخرها قد قامت الصلاة، فصلى بها جاز ولو أنه حتى فعل في الإقامة بأفعل ظن بأن ذلك لا يجزيه، فاستقبل الأذان من أوله ثم أقام وصلى، فإنه يجوز؛ لأنه أتى باجتهاد وأكملها.
(نوع آخر) فيمن يقضي الفوائت بأذان وإقامة أو بغير أذان وإقامة
ومن فاتته صلاة عن وقتها، فقضاها في وقت آخر أذن لها وأقام واحداً كان أو جماعة لحديث ليلة التعريس حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي وادٍ، فقال: من يكلؤنا الليلة، فقال؛ بلال أو أنس رضي الله عنهما أنا، فغلب رسول الله صلى الله عليه وسلّمالنوم يومئذٍ إلى مؤخر وحمله ونام، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس، وكان عمر رضي الله عنه رابعهم، فاستيقظ ونادى فاستيقظ النبي عليه السلام من صياحه، وأمر بلالاً فأذن، فصلوا ركعتي الفجر ثم أمر بلالاً، فأقام، وصلى بهم الفجر.
وشُغل رسول الله عليه السلام عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهُنّ بعد ... من الليل.
قال ابن مسعود رضي الله عنه أمر بلالاً، فأذن وأقام الأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها، وقال جابر أمره فأذن وأقام لكل صلاة، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أمره بالإقامة لكل صلاة، والمعنى فيه وهو أن القضاء على نية الأداء وسنية الأداء بالأذان، والإقامة بجماعة، فكذلك القضاء، فإن اكتفوا بالإقامة لكل صلاة جائز؛ لأن الأذان لإعلام الناس، ولا حاجة إلى ذلك في القضاء، والإقامة لإقامة الصلاة، وهو محتاج إلى ذلك، ولكن الأحسن أن يؤذن ويقيم لكل صلاة، ليكون القضاء على سنّة الأداء، ولأنه إن لم يكن محتاجاً إلى الإعلام، فهو محتاج إلى أجر الثواب، وقد عرف ثواب الأذان والإقامة ذكره الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي. قال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: والأحسن أن يؤذن ويقيم الأولى، ثم بعد ذلك يقضي كل صلاة

(1/349)


بإقامة بغير أذان؛ لأن المقصود من الأذان هو الإعلام وهم مجتمعون، فلا حاجة إلى الإعلام أما الإقامة للتأهب والتحريم، وهو محتاج إلى ذلك. ذكره الإمام الصفار رحمه الله.
وإن صلوا بغير أذان وإقامة وجماعة يجوز؛ لأن فعل النبي عليه السلام يدل على الجواز، ولا يدل على الوجوب، وفي «الجامع الهاروني» قدّم ذكر، وإفساد صلاة صلوها في غير وقت تلك الصلاة قضوها بأذان وإقامة في غير المسجد الذي صلوا فيه تلك الصلاة مرّة، وإن ذكروها في وقتها صلوها في ذلك المسجد، ولا يعيدون الأذان والإقامة، فإن صلوا بإقامة في ذلك المسجد صلوها وحدانا، والله أعلم.
(نوع آخر) في المتفرقات من هذا الفصل

إذا صلى رجل في بيته واكتفى بأذان الناس وإقامتهم أجزأه من غير كراهة، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى بعلقمة والأسود في بيت، فقيل له: ألا تؤذن وتقيم؟ فقال: أذان الحي يكفينا، ولأن مؤذن الحي نائب عن أهل المحلة في الأذان والإقامة؛ لأنهم هم الذين نصبوه لها، فكان نائباً عنهم، فيكون الأذان والإقامة من المؤذن كأذان الكل بالكل وإقامتهم من حيث الحكم والاعتبار، وإذا جعل أذانه وإقامته من له أذانهم وإقامتهم، فقد وجد الأذان والإقامة منهم من حيث الحكم والاعتبار إن لم يوجد جميعه.
فرق بين هنا وبين المسافر إذا صلى وحده وترك الأذان والإقامة أو ترك الإقامة، فإنه يكره له ذلك. والمقيم إذا صلى وحده بغير أذان ولا إقامة، لا يكره.
والفرق: أن المقيم إن صلى بغير أذان وإقامة حقيقة، ولكنه صلى بأذان وإقامة من حيث الحكم والاعتبار، فأما المسافر فقد صلى بغير أذان وإقامة حقيقية وحكماً، فيكره لهذا.
وإن أذن وأقام وحده فهو أحسن؛ لأن المستفرد مندوب إلى أن يؤدي الصلاة على هيئة الجماعة، ولهذا كان الأفضل أن يخفي بالقراءة في صلاة الجهر، وكذلك إن أقام ولم يؤذن؛ لأن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا، وذلك غير موجود ههنا، والإقامة لإقامة الصلاة وهو يقيمها.
والدليل عليه ما روى طاوس: أنه قال: إذا صلى الرجل وحده إن صلى بإقامته صلى معه ملكاه، وإن صلى بأذان وإقامة صلى من وراءه من الملائكة ما يسد الأفق، قال القاضي الإمام صدر الإسلام؛ إذا لم يؤذن في تلك المحلة يكره له تركهما، ولو ترك الأذان وحده لا يكره.

والقدوري في «شرحه» روى عن أبي حنيفة في الجماعة: إذا صلوا في منزل أو مسجد فنزل بغير أذان ولا إقامة بهم أساؤوا، ولا يكره للواحد؛ لأن أذان الجماعة يقع الأفراد وأما لا يقع لجماعة أخرى ومن سمع الأذان، فعليه أن يجيب، قال عليه السلام: «من لم يجب الأذان فلا صلاة له» قال شمس الأئمة الحلواني تكلم الناس في الإجابة،

(1/350)


قال بعضهم هي الإجابة بالقدم لا باللسان حتى لو أجاب باللسان ولم يمشِ إلى المسجد لا يكون مجيباً ولو كان حاضراً في المسجد حتى سمع الأذان، فليست بالإجابة.
وقوله عليه السلام. «من قال مثل ما يقوله المؤذن، فله من الأجر كذا» فهو كذلك إن قاله نال الثواب الموعود، وإن لم يقل لم ينل الثواب الموعود فأما إني نائم أَوَ يكره له ذلك، فلا وإذا رد الجواب باللسان لنيل الثواب الموعود، فكل ما هو ثناء وشهادة يقول كما قال المؤذن، وعند قوله حيَّ على الصلاة حيّ على الفلاح، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان.
رجل دخل مسجداً صلى فيه أهله، فإنه يصلي وحده من غير أذان وإقامة، ويكره أن يصلي بجماعة بأذان وإقامة، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله خرج ليصلح بين الأنصار، واستخلف عبد الرحمن بن عوف، فرجع بعدما صلى عبد الرحمن فدخل جميع أصحابه وصلى بهم، ولو كان يجوز إعادة الصلاة في المسجد لما ترك الصلاة في المسجد، مع أن الصلاة في المسجد أفضل، وبأن في هذا التعليل الجماعة؛ لأن الجماعة إذا كانت لا تفوتهم لا يعجلون للحضور، فإن كل أحد يعتمد على جماعته، وبه وقع الفرق بين هذا وبينما إذا صلى فيه قوم ليسوا من أهله حيث كان لأهله أن يصلوا فيه بجماعة بأذان وإقامة؛ لأن تكرار الجماعة هنا لا يؤدي إلى تقليل الجماعة.

وروي عن أبي يوسف في الفصل الأول أنه قال: إنما يكره تكرار الجماعة إذا كان القوم كثيراً، أما إذا صلى واحد بواحد أو باثنين بعدما صلى فيه أهله فلا بأس، لما روي أن رسول الله عليه السلام صلى بأصحابه، فدخل أعرابي وقام يصلي فقال عليه السلام: «من يتصدق على هذا فيقوم ويصلي معه» (55أ1) .
فقام أبو بكر وصلى معه، وروي عن محمد أنه لم يرَ بالتكرار بأساً إذا صلوا في زاوية من المسجد على سبيل الخفية إنما يكره على سبيل التداعي والاجتماع.
قال القدوري في «كتابه» : وإن كان المسجد على قارعة الطريق ليس له قوم معينين، فلا بأس بتكرار الجماعة فيه؛ لأن تكرار الجماعة في هذا الفصل لا يؤدي إلى تقليل الجماعة جماعة من أهل المسجد إذا نوى في المسجد على وجه المخافتة بحيث لم يسمع غيرهم، وصلوا ثم حضر قوم من أهل المسجد، ولم يعلموا ما صنع الفريق الأول، وإذا نوى على وجه الجهر والإعلان ثم علموا ما صنع الفريق الأول، فلهم أن يصلوا بالجماعة على وجهها لا غيره بالجماعة الأولى؛ لأنها ما أقيمت على وجه السنّة بإظهار الأذان والإقامة، ولا يبطل حق الباقين.
ولا بأس بالتطريب في الأذان، وهو تحسين الصوت من غير أن يتغير، فإن تغير بلحنه أو ما أشبه ذلك كره، قال شمس الأئمة الحلواني؛ إنما يكره ذلك فيما كان من

(1/351)


الأذكار، أما قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح لا بأس بإدخال المد فيه.
المؤذن إذا لم يكن عالماً بأوقات الصلاة لا يستحق ثواب المؤذنين، ولا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في الأذان والإقامة أو بشيء لما ذكرنا أن لهما شبهاً بالصلاة، وإن تكلم بكلام يسير لا يلزمه الاستقبال، وإذا انتهى المؤذن في الإقامة إلى قوله قد قامت الصلاة، له الخيار إن شاء أتمها في مكانه، وإن شاء مشى إلى مكان الصلاة إماماً كان المؤذن أو لم يكن.

وإذا سلم رجل على المؤذن في أذانه أو عطس رجل؛ روي عن أبي حنيفة أنه يرد السلام في نفسه، ويشمته في قلبه، ولا يلزمه شيء من ذلك إذا فرغ، وعن محمد أنه لا يفعل شيئاً في الأذان، وإذا فرغ من الأذان رد السلام وشمت العاطس إن كان حاضراً، وعن أبي يوسف أنه (لا) يفعل شيئاً من ذلك؛ لا قبل الفراغ من الأذان ولا بعده، وهو الصحيح ولا يؤذن بالفارسية، ولا بلسان آخر غير العربية، وإن علم الناس أنه أذان فقد قيل يجوز.
آداب الصلاة
جئنا إلى بيان آداب الصلاة فنقول: من آداب الصلاة إخراج الكفين من الكمين عند التكبير.
ومنها: أن يكون نظره في قيامه إلى موضع سجوده وفي الركوع إلى أصابع رجليه وفي السجود إلى أرنبة أنفه، وفي القعود إلى حجره، ومنها كظم الفم إذا تثاءب، فإن لم يقدر غطاه بيده أو كُمِّه، قال عليه السلام: «إذا تثاءب أحدكم في صلاته فليغط فاه إن الشيطان يدخل فيه» .
ومنها: دفع السعال عن نفسه ما استطاع، ومنها أن لا يمسح التراب، والعرق عن وجهه بعدما قعد قدر التشهد في آخر الصلاة، هكذا ذكر نجم الدين النسفي في «الخصائل» . واعلم بأن هذه المسألة على وجوه:
أحدها: إذا مسح جبهته بعد السلام وأنه لا بأس به بل يستحب ذلك؛ لأنه قد خرج من الصلاة ونية إزالة الأذى عن نفسه.
والثاني: إذا مسح جبهته بعد الفراغ من أعمال الصلاة قبل السلام، وإنه لا بأس به أيضاً؛ لأن هذا دون الخروج عن الصلاة والذهاب، وقد أُبيح الخروج وأبيح له الذهاب قبل الخروج، حتى لو ذهب ولم يسلم قبلت صلاته فيما دون الخروج والذهاب أو إلى أن يكون ... حاله.

والثالث: إذا مسح جبهته بعد ما رفع رأسه من السجدة. ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا بأس به، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه اختلفت ألفاظ الكتب في هذا

(1/352)


الوجه، ذكره في بعضها لست أكره ذلك، وذكر في بعضها أكره ذلك، وذكر في بعضها لا أكره ذلك بعض مشايخنا قالوا: لا مقطوع عن قوله أكره، فقوله لا، نهي وقوله أكره تأكيد له معناه لا يفعل، فصار هذه اللفظ وقوله ذلك أكره ذلك سواء.
وهذا القائل يستدل بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أربع من الجفاء وذكر من جملتها، وأن تمسح جبهتك قبل أن تفرغ من صلاتك، وقال بعضهم قوله؛ لا متصل بقوله وأكره، فصار هذا اللفظ على قول هذا القائل، وقوله لست أكره ذلك سواء، ويستدل هذا القائل بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «بت في بيت خالتي ميمونة، فقمت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلّم فقمت عن يساره فحوله إلى يمينه، ورأيته يمسح العرق عن جبينه» .
الرابع: إذا مسح جبهته في خلال الصلاة وفي ظاهر الرواية لا بأس به، وقال أبو يوسف؛ أحب إليّ أن يدعه فرّق أبو يوسف بين هذا الوجه، وبينما تقدم من الوجوه.
والفرق: أنّ في هذا الوجه لو مسح جبينه ثانياً وثالثاً، فلا يفيد، ولو فعل ذلك في كل مرة كان عملاً كثيراً لولاء (الحركات) كذلك الوجوه الثلاثة؛ لأنه لا يحتاج إلى السجدة ثانياً في الوجوه الثلاثة، فكان المسح مفيداً.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان الإمام مع القوم في المسجد، فإني أحب لهم أن يقوموا في الصف إذا قال المؤذن حيّ على الفلاح، يجب أن يعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما أن يكون المؤذن غير الإمام أو يكون هو الإمام، فإن كان غير الإمام وكان الإمام مع القوم في المسجد، فإنه يقوم الإمام والقوم إذا قال المؤذن: حيّ على الفلاح عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.

وقال الحسن بن زياد وزفر إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة قاموا في الصف، وإذا قال مرة؟ والصحيح قول علمائنا الثلاثة؛ لأن قوله قد قامت الصلاة إخبار عن حقيقة القيام إلى الصلاة، وإنما يتحقق الإخبار عن حقيقة القيام إلى الصلاة إذا كان القيام سابقاً على قوله قد قامت الصلاة، ومتى سبق القيام على قوله قد قامت الصلاة يحصل القيام عند قوله حيّ على الفلاح؛ ولأنهم يحتاجون إلى إحضار النية؟.... أن يقوموا عند قوله حيّ على الفلاح حتى يمكنهم إحضار النية.
هذا إذا كان المؤذن غير الإمام، والإمام حاضر في المسجد، فأما إذا كان الإمام خارج المسجد، إن دخل المسجد من وراء الصفوف اختلفوا فيه، قال بعضهم: كلما رأوا الإمام يقومون، وقال بعضهم؛ ما لم يأخذ الإمام مكان الصلاة لا يقومون.
وقال بعضهم: إذا اختلط الإمام بالقوم قاموا: وقال بعضهم: كلما جاوز صفاً قام ذلك الصف، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام خواهر زاده

(1/353)


والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه كلما جاوز صفاً صار ذلك الصف بحال لو اقتدوا به صح اقتداؤه، فصار كأنه أخذ مكان الصلاة في ذلك الصف، وإن كان الإمام دخل المسجد يبدأ منهم يقولون كما.....؟ الإمام؛ لأن في تلك الحالة صاروا بحال لو اقتدوا به صح اقتداؤهم، فصار كأنه أخذ مكان الصلاة، فيقومون.
وإن كان الإمام والمؤذن واحد فإن أقام في المسجد فالقوم لا يقومون ما لم يفرغ من الإقامة؛ لأنهم لو قاموا قاموا لأجل الصلاة. ولا وجه إليه؛ لأنهم تابعون لإمامهم وقيام إمامهم في هذه الحالة؛ لأجل الإقامة، لا لأجل الصلاة. وإن أقام خارج المسجد، فلا ذكر. فهذه المسألة في «الأصل» ، ومشايخنا اتفقوا على أنهم لا يقومون ما لم يدخل الإمام في المسجد، لما روي أن النبي عليه السلام كان في حجرة عائشة رضي الله عنها، فلما أقام بلال الصلاة، وخرج رسول الله عليه السلام إلى المسجد، فرأى الناس ينتظرونه، فقال لهم رسول الله عليه السلام: «ما لي أراكم سامدين» أي واقفين مُتحيِّرين، وفي رواية قال: «لا تقوموا في الصف حتى تروني قد خرجت» ؛ ولأنهم لا يقدرون على التكبير ما لم يدخل الإمام المحراب وينتصب للصلاة، فإذا قاموا هنا اشتغلوا بعمل غير مفيد فيكره.
ثم المؤذن هل يتم الإقامة في المكان الذي بدأ، فإن كان الإمام والمؤذن واحد اختلفوا فيه: روي عن أبي يوسف أنه يتمها في المكان الذي بدأ؛ لأن هذا أحد الأذانين، فيعتبر بالآخر ثم الآخر يتمها في المكان الذي بدأ، فكذا هذا. وبه أخذ بعض المشايخ. وقال بعض مشايخنا: إذا انتهى إلى قوله قد قامت الصلاة سكت ويأخذ في المشي فإذا أخذ مكان الصلاة أتمها، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار وشيخ الإسلام خواهر زاده أنه بالخيار إن شاء أتمها في المكان الذي بدأ، وإن شاء أتمها إذا شاء.
وإن كان المؤذن غير الإمام، والإمام حاضر، فيتمها في المكان الذي بدأ ثم الإمام يأتي بالتكبير.

قال أبو حنيفة رحمه الله: يكبر قبل قوله قد قامت الصلاة، هكذا فسر في «النودار» ؛ وظاهر ما ذكر في «الكتاب» وجب أن يكبر (55ب1) بعد فراغه عن قوله قد قامت الصلاة، قال شمس الأئمة الحلواني: والصحيح ما ذكرنا في «النوادر» ، وقال أبو يوسف ينتظر فراغ المؤذن من الإقامة فإذا فرغ منها كبّر، هذا بيان الأفضل، ولو كبّر بعد ما فرغ المؤذن من الإقامة كما قال أبو يوسف جاز عند أبي حنيفة، ولو كبّر قبل قوله قد قامت الصلاة كما قاله أبو حنيفة جاز عند أبي يوسف. وقال أبو يوسف: ليس المراد من قوله قد قامت الصلاة حقيقة الإخبار عن الإقامة، بل المراد الإخبار عن المقاربة يعني قرب

(1/354)


إقامة الصلاة، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل:1) أي قرب إتيان أمر الله وكما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} (الزمر:3) أي قرب، ثم اختلفوا في وقت إدراك فضيلة تكبيرة الافتتاح، ذكر شيخ الإسلام اختلافاً بين أبي حنيفة وصاحبيه، فقال على قول أبي حنيفة: إذا كبّر مقارناً لتكبير الإمام، فيصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح، وما لا فلا، وعندهما إذا أدرك الإمام في الثناء وكبّر يصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح وما لا فلا.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله أن شداد بن الحكيم كان يقول: إن كان الرجل حاضراً وأراد أن يدرك فضيلة تكبيرة الافتتاح ينبغي أن يشرع قبل قراءة سبع آيات، وقال بعضهم: إذا أدرك الإمام في الركعة الأولى يصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح، وهذا أوسع بالناس والله أعلم.
فرع في بيان ما يفعله المصلي بعد الافتتاح

وإذا افتتح وضع يمينه على يساره تحت السرة وقد مرّ هذا، ولم يذكر في «الأصل» موضع وضع اليمين على اليسار، واختلف المشايخ فيه قال: يضع باطن كف اليمين على ظاهر كفه اليسرى، وقال: بعضهم يضع باطن كفه اليمين على ذراعه اليسرى، وقال أكثرهم: يضع كفه اليمنى على مفصل اليسرى وبه أخذ الطحاوي، وفي رواية الأصول قال أبو يوسف يقبض بيده اليمنى رسغه اليسرى، وقال محمد يضع كذلك. وقال الفقيه أبو جعفر قول أبي يوسف؛ أحبُّ إليّ؛ لأن في القبض وضعاً وزيادة، قال الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده كما كبّر يضع يمينه على يساره عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعن محمد في «النوادر» أنه في حالة الثناء يرسل يديه، ولا يعتمد، إنما يعتمد إذا فرغ من الثناء، وأما في صلاة الجنازة وقنوت الوتر وتكبيرات العيد والقومة التي بين الركوع والسجود يرسل، ولا يضع عند محمد.
والحاصل: أن الوضع عنده سنّة قيام فيه قراءة، واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة في قنوت الوتر، قال بعضهم: يرسل وهو قول أبي يوسف، وقال بعضهم: يضع، وأما في القومة التي بين الركوع والسجود ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة أنه يرسل على قولهما كما هو قول محمد. وذكر في مواضع أُخر أن على قولهما يعتمد، ومشايخ ما وراء النهر اختلفوا.
قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص: السنّة في صلاة الجنازة، وفي تكبيرات العيد والقومة التي بين الركوع والسجود الإرسال، وقال أصحاب الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل منهم القاضي الإمام أبو علي النسفي، والحاكم عبد الرحمن بن محمد الكاتب، والشيخ الإمام الزاهد عبد الله.... والشيخ الإمام إسماعيل الزاهد، السنّة

(1/355)


في هذه المواضع الاعتماد والوضع، وقالوا؛ مذهب الروافض الإرسال من أول الصلاة، فنحن نعتمد مخالفة لهم.

وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني يقول كل قيام فيه ذكر مسنون، فالسنّة فيه الاعتماد كما في حالة الثناء والقنوت وصلاة الجنازة، كل قيام ليس فيه ذكر مسنون كما في تكبيرات العيد، فالسنّة فيه الإرسال، وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي والصدر الكبير برهان الأئمة والصدر الشهيد حسام الأئمة رحمهم الله ثم يقول: سبحانك اللهم إلى آخره، ولم يذكر في «الأصل» ولا في «النوادر» وجلّ ثناؤك؛ لأنه لم ينقل في التفاسير وذكر شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي أن محمداً رحمه الله ذكر في كتاب الحجج على أهل المدينة، قال شمس الأئمة الحلواني: قال مشايخنا: إن قال وجلّ ثناؤك لم يمنع عنه، وإن سكت عنه لم يؤمر به، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إذا قال: سبحانك اللهم بحمدك تبارك اسمك بحذف الواو، فقد أصاب وهو جائز، روى محمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام مثل ذلك، وعن أبي يوسف في «الإملاء» أحب إليّ أن يزيد في الافتتاح «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً إلى قوله وأنا أول المسلمين» .
بعد هذا عن أبي يوسف روايتان في رواية قال: يقول وأنا من المسلمين وفي رواية قال يقول، وأنا أول المسلمين، والطحاوي أخذ بهذا إلا أنه يقول: المصلي بالخيار إن شاء قال ذلك قبل الثناء، وإن شاء قال ذلك بعد الثناء، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
وفي رواية أخرى عن أبي يوسف يقول ذلك بعد الثناء، قيل: هو الصحيح من مذهبه، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: وفي ظاهر رواية أصحابنا: لا يقول ذلك بعد افتتاح الصلاة، وهل يقول قبل افتتاح الصلاة؟ فعن المتقدمين لا يقول، وقال المتأخرون يقول، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله، ثم اختلف المتأخرون فيما بينهم أنه يقول؛ وأنا أول المسلمين؛ لأن المنزل في كتاب الله، هكذا فيتبرك بالمنزَّل.

وقال بعضهم: يقول: وأنا من المسلمين، وبه كان يُفتي شمس الأئمة الحلواني؛ لأنه لا يريد تلاوة القرآن، وإنما يريد الثناء فيختار ما هو أقرب إلى الصدق ثم على قول من يقول. وأنا من المسلمين، لو قال: وأنا أول المسلمين في الصلاة هل تفسد صلاته؟ اختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: تفسد، وقال بعضهم لا تفسد وفي قوله: ولا إله غيرك أربع لغات لا إله غيرك لا له غيرك لا إله غيرك لا إله غيرك، لا إله غيرك ولا يقول لا إله خيرك، ولو جرى ذلك على لسانه خطأ هل تفسد صلاته؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه لا تفسد، وبه كان يفتي الشيخ الزاهد الصفار، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في نفسه.
واعلم بأن الكلام في التعوذ في فصول.
أحدها: في أصله قال علماؤنا رحمهم الله: يتعوذ، وقال: لا يتعوذ، حُجته حديث

(1/356)


أنس قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر، وكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» ، ولم يذكر التعوذ، حجتنا حديث أبي الدرداء، فإنه روى أنه قام ليصلي، فقال له رسول الله عليه السلام «تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن» .
والثاني: في وقته ومحله، قال علماؤنا يتعوذ بعد الثناء قبل القراءة، وقال بعض أصحاب الظواهر، يتعوذ بعد القراءة لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ با} (النحل:98) ذكر بحرف الفاء أنه للتعقيب، وإنا نقول التعوذ لدفع وسوسة الشيطان وإنما يحتاج إلى دفع الوسوسة قبل الشروع في القراءة.
k
والثالث: في لفظ التعوذ، وهذا فصل لم يذكره محمد رحمه الله، وقد اختلف فيه القراء قال بعضهم أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقال بعضهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنّ الله هو السميع العليم.

وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه اختار أحد اللفظين أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة، ولا يقول بعد التعوذ: إن الله هو السميع العليم؛ لأن ههنا ثناءً، ومحل الثناء قبل التعوذ لا بعده، ثم إن محمداً رحمه الله قال: يتعوذ في نفسه، فهو إشارة إلى أن السنّة فيه الإخفاء، وهو المذهب عند علمائنا رحمهم الله؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام الجهر به، والذي روى عن عمر أنه جهر بالتعوذ فله تأويلان:
أحدهما: أنه وقع ذلك اتفاقاً لا قصداً.
والثاني: أن قصده كان تعليم السامعين أنه ينبغي للمصلي أن يتعوذ، وكان عطاء يقول: الاستعاذة واجبة عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وإنه مخالف لإجماع السلف والسلف كانوا مجمعين على أنه سنّة. وهذا الذي ذكرنا في الإمام والمنفرد.
وأما المقتدي هل يأتي بالتعوذ؟ على قول أبي يوسف يأتي، وعلى قول محمد لا يأتي، ولم يذكر قول أبي حنيفة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده والشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار في شرح كتاب الصلاة (56أ1) إن قول أبي حنيفة قبل قول محمد ... إلى «الزيادات» ، فطلبنا قول أبي حنيفة في «الزيادات» ، واستقصى في ذلك، فلم يجد قوله ثمة ولا في شيء من الكتب، فلعلّ الخلاف بين أبي يوسف ومحمد، وقد رأيت في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة مثل قول محمد.
ومنشأ الخلاف أن التعوذ يتبع للثناء أو يتبع للقراءة، فوقع عند أبي يوسف أنه تبع

(1/357)


للثناء، والمقتدي يأتي بالثناء يأتي بالتعوذ تبعاً له، ووقع عند محمد أن التعوذ تبع للقراءة، والمقتدي لا يأتي بالقراءة فلا يأتي بالتعوذ، وثمرة الخلاف تظهر في ثلاث مواضع.
أحدها: هذه المسألة.
والثانية: أن في العيدين المصلي يأتي بالتعوذ بعد الثناء قبل تكبيرات العيد عند أبي يوسف، وعند محمد يأتي بالثناء بعد تكبيرات العيد.

والثالث: أن المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق، فعلى قول أبي يوسف لا يأتي بالتعوذ؛ لأنه تعوذ حين شرع في الصلاة، وعن محمد في هذه الصورة روايتان في رواية يتعوذ، وفي رواية لا يتعوذ، هكذا ذكره الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، والقاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله، قال صدر الإسلام قول أبي يوسف رحمه الله أصح، والتعوذ عند افتتاح القراءة في الركعة الأولى لا غير، إلا على قول ابن سيرين، فإنه كان يقول يتعوذ في كل ركعة ثم يفتتح القراءة، ويأتي بالتسمية ويخفيها.....؟ بأن الكلام في التسمية في مواضع: أن التسمية تُتلى هي من القرآن، فعندنا هو من القرآن، وعند مالك ليس من القرآن حجته في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله عليه السلام كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين» .
حجتنا في ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام، وخلف أبي بكر وعمر وكانوا يفتتحون ببسم الله الرحمن الرحيم» ، والدليل عليه أن محمداً أدخل التسمية في القراءة، حيث قال ثم يفتتح القراءة، ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا يدلك على أنها قرآن، والدليل عليه أنها مكتوبة في سورة النمل وسورة النمل قرآن، فما يكون فيها كان قرآناً ضرورة.
والثاني: أنها هل هي من الفاتحة ومن رأس كل سورة أم لا؟ قال أصحابنا رحمهم الله: إنها ليست من الفاتحة ومن رأس كل سورة ولكنها آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وهو اختيار أبي بكر الرازي.
وقال الشافعي: إنها آية من الفاتحة قولاً واحداً، وله في كونها من رأس كل سورة قولان، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» .

وفي «القدوري» قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله لا أعرف هذه المسألة بعينها عن متقدمي أصحابنا، والأمر بالإخفاء دليل على أنها ليست من السورة، وفي شرح شمس الأئمة الحلواني اختلف المشايخ في أن التسمية هل هي آية من الفاتحة؟ أكثرهم على أنها آية من الفاتحة، وبه تصير سبع آيات.
والثالث: أنه هل يجهر بها على قول أصحابنا لا يجهر بها، وقال الشافعي: يجهر.

(1/358)


والرابع: أنه هل تكرر؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: المصلي يُسمي في أول صلاته ثم لا يعيد، وإليه مال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: أنه يأتي بها في أول كل ركعة، وهو قول أبي يوسف وذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة: أنه إذا قرأها مع كل سورة فحسن.
وروى ابن أبي رملة عن محمد أنه يأتي بالتسمية عند افتتاح كل ركعة، وعند افتتاح السورة أيضاً، إلا أنه إذا كان صلاة يجهر فيها بالسورة.
لا يأتي بالتسمية بين الفاتحة والسورة، وعند الشافعي يأتي بالتسمية في كل ركعة، ويأتي بها أيضاً في رأس السورة، سواء كان صلاة يجهر فيها بالقراءة أو يخافت، وذكر أبو علي الدقاق أنه يقرأ قبل فاتحة الكتاب في كل ركعة، قال: وهو قول أصحابنا ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف أحوط؛ لأن العلماء اختلفوا في التسمية أنها هل هي من الفاتحة أم لا؟ وعليه إعادة الفاتحة في كل ركعة، فكان عليه إعادة التسمية في كل ركعة لتكون أبعد عن الاختلاف.
قال صدر الإسلام في «شرحه» : لم يذكر محمد رحمه الله في التسمية خلافاً بين أبي يوسف وبين ... أنها للصلاة، أو للقراءة كما ذكر في التعوذ، وما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يُسمي في الركعة الأولى فحسب، تدل على أنها للصلاة.

وإذا فرغ من الفاتحة قال آمين والسنّة فيه الإخفاء، لقوله عليه السلام: «إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين» فإن الإمام يقولها، ولو كان تأمين الإمام مسموعاً يستغني عن قوله، فإن الإمام يقولها والمقتدي يؤمن في ظاهر الرواية، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يؤمِّن، رواه الحسن وإذا سمع المقتدي من الإمام ولا الضالين في صلاة لا يجهر فيها مثل الظهر والعصر والعشاء هل يؤمن؟ فعن بعض المشايخ أنه لا يؤمن وعن الفقيه أبي جعفر أنه يؤمن، ومن سمع الإمام أمَّن في صلاة الجمعة أمّن هو.
ثم إذا فرغ من القراءة يركع، وقد ذكرنا بعض مسائل الركوع في الفصل المتقدم، قال محمد وإذا أراد أن يركع يكبر، قال بعض مشايخنا ظاهر ما ذكر محمد يدل على أن تكبير الركوع يؤتى به في حال القيام، فإنه قال: وإذا أراد أن يركع يكبّر، وقال بعضهم: يكبّر عند الخرور للركوع، فيكون ابتداء تكبيره عند أول الخرور والفراغ عند الاستواء للركوع؛ لأن هذا تكبير الانتقال، ويؤتى بجميع الانتقال والطحاوي في كتابه يقول يخر راكعاً سكوتاً، وهذا إشارة إلى القول الثاني.
ولا يرفع يديه عندنا لا في حالة الركوع ولا في حالة رفع الرأس من الركوع، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن عند افتتاح الصلاة،

(1/359)


وعند القنوت في الوتر، وعند كل تكبيرة من صلاة العيدين» وذكر الأربعة الأُخرى في المناسك.

ويقول في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه وإن زاد فهو أفضل بعد أن يختم على وتر. فيقول خمساً أو سبعاً، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني وشيخ الإسلام خواهر زاده، هذا في حق المنفرد، وأما الإمام فلا ينبغي له أن يطول على وجه يُمل القوم؛ لأنه يصير سبباً للتغيير، وذلك مكروه، وكان الثوري يقول: ينبغي أن يقول ذلك خمساً حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثاً، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» والطحاوي في كتابه بقوله: إذا كان إماماً، بعضهم قالوا: يقول ثلاثاً، وبعضهم قالوا: يقول أربعاً حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثاً، ثم لم يرد محمد رحمه الله بقوله، وذلك أدناه أدنى الجواز؛ لأن الركوع بدون هذا الذكر جائز في ظاهر الرواية، فإنما أراد به أدنى الفضيلة.
وروي عن محمد رحمه الله في غير رواية «الأصل» أنه إذا ترك التسبيح أصلاً أو أتى مرة واحدة يجوز ويكره، وكان أبو مطيع تلميذ أبي حنيفة يقول: كل فعل هو ركن يستدعي ذكراً فيه كان ركناً كالقيام، فقد أشار إلى أن تسبيح الركوع ركن.
ولكنا نقول: إن النبي عليه السلام علّم الأعرابي الركوع ولم يذكر له شيئاً، ولو كان التسبيح ركناً لبين؛ لأنه بين الأركان، ولو كان الإمام في الركوع فسمع خفق النعال هل ينتظر أم لا؟ قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة وابن أبي ليلى عن ذلك فكرهاه، وقال أبو حنيفة؛ أخشى عليه أمراً عظيماً يعني الشرك، وروى هشام عن محمد أنه كره ذلك، وعن أبي مطيع أنه كان لا يرى به بأساً، وقال الشعبي لا بأس به مقدار التسبيحة والتسبيحتين، وقال بعضهم يطول التسبيحات، ولا يزيد في العدد، وقال أبو القاسم الصفار: إن كان الجائي غنّياً لا يجوز له الانتظار، وإن كان فقيراً جاز له الانتظار.

وقال الفقيه أبو الليث: إن كان الإمام عرف الجائي لا ينتظره؛ لأنه يُشبه الميل إليه، وإن لم يعرفه فلا بأس بذلك؛ لأن في ذلك إعانة على الطاعة، وقال بعضهم: إن أطال الركوع لإدراك الجائي الركوع خاصة، فلا يزيد إطالة الركوع للتقرب إلى الله تعالى، فهذا مكروه؛ لأن أول ركوعه كان يقدر آخر ركوعه للقوم فهذا شرك في صلاته غير الله، فكان أمراً عظيماً إلا أنه لا يكفر؛ لأن إطالة الركوع ما كانت على معنى التذلل والعبادة للقوم، وإنما كان لإدراك الركوع، وعلى هذا يحمل قول أبي حنيفة، وإن أطال الركوع تقرباً إلى الله تعالى كما شرع فيه تقرباً إلى الله لا ليدرك الجائي الركعة، فيكون الركوع من أوله إلى آخره خالصاً له تعالى، فلا بأس به.

(1/360)


ألا ترى أن الإمام يطيل الركعة الأولى في الفجر (56ب1) على الثانية، وإنما يفعل ذلك لإدراك القوم الركعة، فلا يتحقق الإشراك كذا هنا، وعلى هذا يعمل بما نُقل عن أبي مطيع والله أعلم.
ثم يرفع رأسه من الركوع فبعد ذلك لا يخلو إما أن يكون المصلي إماماً أو مقتدياً أو منفرداً.
فإن كان إماماً يقول: سمع الله لمن حمده بالإجماع، وهل يقول ربنا لك الحمد؟ على قول أبي حنيفة: لا يقول وعلى قولهما يقول، حجتهما في ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله عليه السلام إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد» ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: ثلاث يخفيهن الإمام وذكر من جملتها ربنا لك الحمد، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أربع يخفيهن الإمام وذكر من جملتها ربنا لك الحمد ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه السلام: «إنما جعل الإمام إماماً ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، قال فإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا لك الحمد» ، فالنبي عليه السلام قسم هذين الذكرين بين الإمام وبين المقتدي، ومقتضى منطلق الحسن أن لا يشارك أحد.... إن كان قيل كيف؟ لِمَ تقولوا هكذا في حق التأمين، فإن النبي عليه السلام قال: وإذا قال «الإمام ولا الضالين، فقولوا آمين» ، وبالإجماع إذا لم يقول آمين قلنا لو وظاهر القسمة بأن الإمام لا يقول، إلا أنا تركنا هذا الظاهر بدليل، وهو قوله عليه السلام: «إذا أمّن الإمام فأمِّنوا» ، لا دليل فيما تنازعنا فيه، فيعمل فيه بظاهر القسمة كيف.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام يقول آمين، فإن أخذنا بهذه الرواية يسقط السؤال.
فإن قيل قد ثبت رجوع أبي حنيفة رحمه الله عن هذه الرواية بدليل أن محمداً رحمه الله ذكر في صلاة الأصل ثلاث يخفيها الإمام القعود والتشهد وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين، وربنا لك الحمد، وسؤال محمد لا بد أن يكون عن أبي حنيفة.

قلنا: هذا السؤال كما يحتمل أن يكون عن أبي حنيفة، يحتمل أن يكون عن أبي يوسف؛ لأن محمداً قرأ الكتب على أبي يوسف إلا ما فيه اسم الكتب الكبير، فلا يثبت الرجوع عن أبي حنيفة بالشكل، والمعنى في المسألة لأبي حنيفة أن الإمام لو أتى بالتحميد يقع تحميده بعد تحميد المقتدي، وأذكار الصلاة ما ثبتت على هذا، فإن ما

(1/361)


يشترك فيه الإمام، والمقتدي إما أن يأتيا به معاً أو يأتي به؟ ... الإمام أو لا، فأما أن يأتي به المقتدي أو فلا أصل له، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني كان شيخنا القاضي الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يميل إلى قولهما، وكان يجمع بين التسميع والتحميد فيمن كان إماماً، والطحاوي كان يختار قولهما أيضاً، وهكذا نقل عن جماعة من المتأخرين بأنهم اختاروا قولهما، وهو قول المدينة لم يذكر الكتاب لفظين ربنا لك الحمد، واللهم ربنا لك الحمد، والثاني أفضل؛ لأن فيه زيادة ثناء، وهذا لفظ آخر لم يذكر محمد في «الكتاب» ، وهو قوله ربنا ولك الحمد، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه لا فرق بين قوله ربنا لك الحمد وبين قوله ربنا ولك الحمد، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده ذكر في بعض الآثار ربنا ولك الحمد اللهم ربنا ولك الحمد، ولا يزيد على هذا شيئاً في ظاهر مذهب أصحابنا، وإن كان مقتدياً يأتي بالتحميد، ولا يأتي بالتسميع بلا خلاف.
وإن كان منفرداً لا شك على قولهما يأتي بالتسميع والتحميد، وأما على قول أبي حنيفة ذكر الطحاوي؛ إذ لا رواية فيه نصّاً عن أبي حنيفة. واختلف مشايخنا فيه، والأصح أنه يأتي بهما.
وفي القدوري: أن عن أبي حنيفة فيه روايتان، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجمع بينهما وروى المعلى عن أبي يوسف أنه يأتي بالتحميد لا غير، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يأتي بالتسميع لا غير.
قال: والصحيح من مذهبه أنه يأتي بالتحميد لا غير، وبه كان يُفتي شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله؛ وهذا لأن التسميع حث لمن معه على التحميد، وليس هنا معه أحد ليحثه عليه، فلا معنى للإتيان بالتسميع فيأتي بالتحميد لا غير، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أن المنفرد يأتي بالتسميع باتفاق المرويات، وفي التحميد اختلفت الروايات، والصحيح ما قلنا: أنه يأتي بالتحميد لا غير.
وإذا ركع المقتدي قبل الإمام وأدركه الإمام في الركوع أجزأه، وقال زفر لا يجزيه؛ لأن ما أتى به قبل الإمام غير معتد به، والباقي بناءً عليه والبناء على الفاسد فاسد، ولنا أن القدر الذي وجد فيه المشاركة مع الإمام يكفي لجواز الصلاة، فهب أن ما وجد قبله بطل، وصار بمنزلة العدم، فهذا القدر كافي لجواز الصلاة.
يوضحه: إن فعله مع الإمام فقبل القطع عما قبله، فيجعل مقتدياً به لا ثابتاً عليه، فتصح ولكن يكره للمقتدي أن يسبق الإمام، قال عليه السلام: «فلا تختلفوا عليه» .
وإن رفع رأسه قبل أن يركع الإمام لم يجز الركوع لانعدام المشاركة أصلاً وهي

(1/362)


شرط، وهذا كله إذا ركع بعد فراغ الإمام من القراءة، فأما إذا ركع قبل (فراغ) هذا الإمام في القراءة ثم قرأ الإمام وركع والرجل راكع، فقد قال الفقيه أبو محمد أنه لا يجزيه من ركوعه؛ لأنه ركع قبل أوانه باعتبار الإمام وهو تابع الإمام، ولو ركع بعد ما قرأ الإمام ثلاث آيات ثم أتمّ القراءة وأدركه جاز، ولو ركع الإمام بعد قراءة الفاتحة ونسي السورة وركع المقتدي معه ثم عاد الإمام إلى قراءة السورة ثم ركع والمقتدي على ركوعه الأول أجزأه ذلك الركوع، ولو تذكّر الإمام في ركوعه في الركعة الثالثة أنه ترك سجدة من الركعة الثانية وركع للثالثة، والرجل على حالة ركوع لم يجزء المقتدي ذلك الركوع عن سائل الركوع.

جئنا إلى السجود: قال ثم يخر ساجداً ويكبّر في حالة الخرور وذكر لفظ الخرور في «النوادر» وفي «الأصل» ذكر ثم ينحط ويكبّر، ويسجد مكانه.... لفظة الخرور اتباعاً «للكتاب» ، وإخبار لفظة الانحطاط اتباعاً للسنّة، ويقول في سجوده سبحان ربي الأعلى: ثلاثاً، وذلك أدناه، وإن زاد فهو أفضل والكلام في تسبيحات السجود نظير الكلام في تسبيحات الركوع ثم يرفع رأسه، ويكبّر حتى يطمئن، ثم يكبّر وينحط للسجدة الثانية ويسبح فيها مثل ما يُسبح في السجدة الأولى، وإذا سجد ورفع رأسه قليلاً ثم سجد أخرى إن كان إلى السجود أقرب لا يجزيه عن السجدتين؛ لأنه يعد ساجداً وإن كان إلى الجلوس أقرب يجزيه عن السجدتين، هكذا ذكر في «العيون» ؛ لأنه يعتد بالبناء.
وبعض مشايخنا قالوا؛ إذا أرسل جبهته عن الأرض، ثم أعادها جاز ذلك عن السجدتين، وعن الحسن بن زياد؛ هو قريب من هذا، فإنه قال إذا رفع رأسه بقدر ما يجري فيه الريح يجوز، وقال محمد بن سلمة: لا يكون عنهما ما لم يرفع جبهته مقدار ما يقع عند الناظر أنه رفع رأسه ليسجد أخرى، فإن فعل ذلك جاز عن السجدتين، وإلا يكون عن سجدة واحدة وهو قريب كما ذكر في «العيون» . وفي القدوري بأنه يكتفي بأدنى ما ينطلق عليه اسم الرفع، وقد مرّ شيء من هذا في الفصل الثاني.

وفصل الطمأنينة في الركوع والسجود والفرجة التي بين الركوع والسجود، فالجلسة بين السجدتين مرّ في الفصل الثاني أيضاً، وإذا سجد قبل الإمام، وأدركه الإمام فيها جاز على قول علمائنا الثلاثة، ولكن يكره للمقتدي أن يقول ذلك، وقال زفر: لا يجوز، والكلام فيه نظير الكلام في الركوع، وإذا سجد قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أو سجد للثانية قبل رفع الإمام رأسه من السجدة الأولى، ثم شاركه الإمام فيها، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وإذا رفع المقتدي رأسه من السجدة الأولى، فرأى الإمام ساجداً، فظن أنه في السجدة الثانية وهو في السجدة الأولى تفسد، فالمسألة على ستة أوجه:

(1/363)


في الجمعة يصير ساجداً السجدة الأولى منها إذا لم ينوِ شيئاً حملاً لأمره على الصواب، وتلو المتابعة.
والثانية: إذا نوى الأولى.
والثالثة: إذا نوى المتابعة.
والرابعة: إذا نوى الأولى والمتابعة، والجواب فيها أظهر.
والخامسة: إذا نوى الثانية والمتابعة؛ لأنه تقع المعارضة بين الثنتين، فصلى كأنه لم ينوِ أو يترجح بما هو الصواب.

والسادسة: إذا نوى الثانية فحسب وههنا يصير ساجداً عن الثانية؛ لأن هذه ثانية باعتبار فعله، فالسنة صادفت محلها، ولم توجد في معارضته نيّة أخرى (57أ1) ثم إذا صار ساجداً عن الثانية، فرفع الإمام رأسه عن السجدة الأولى وأدركه في هذه السجدة قد ذكرنا رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وروي عن أبي يوسف أنه يجوز، وعن محمد روايتان؛ فإن أطال المقتدي السجدة الأولى وسجد الإمام الثانية، ثم رفع المقتدي رأسه، فرأى الإمام ساجداً وظن أنه في السجدة الأولى فسجد فالمسألة أيضاً على ستة أوجه، وفي الوجوه كلها يصير ساجداً عن الثانية، أما إذا لم تحضره النية؛ لأن هذه ثانية باعتبار حاله، وقال الإمام: وأما إذا نوى الثانية أو نوى المتابعة أو نوى المتابعة والثانية فظاهر، وأما إذا نوى المتابعة والأولى فلما ذكرنا، وأما إذا نوى الأولى فحسب؛ لأن النية لم تصادف محلها لا باعتبار حاله ولا باعتبار حال الإمام، فتلغوا والله أعلم.
أجمع أصحابنا رحمهم الله على أن فرض السجود يتأدى بوضع الجبهة، وإذا لم يكن بالأنف عذر، وهل يتأدى بوضع الأنف؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: يتأدى وإن لم يكن بجبهته عذر، قالا: لا تتأدى إلا إذا كان بجبهته عذر فأبو حنيفة يقول: سجد على بعض ما تعين محلاً للسجدة، فيجوز كما لو سجد على الجبهة لا غير.
بيانه: ما أجمعنا على أنه لو كان بجبهته عذر، فسجد على الأنف لا غير يجوز، ولو لم يكن الأنف مسجداً لما صار مسجداً بالعذر كالخدّ والذقن سئل نصير عمن يضع جبهته على حجر صغير، قال: إذا وضع أكثر الجبهة على الأرض يجوز، وإلا فلا يقبل إن وقع مقدار الأنف على الأرض لم لا يجوز على قول أبي حنيفة قال: لأن الأنف عضو كامل، وهذا القدر من الجبهة ليس بعضو كامل، ولا بأكثره فلا يجوز.

وسئل الفقيه عبد الكريم عمن وضع جبهته على الكف ليسجد قال: لا يجوز، وقال غيره من أصحابنا يجوز كما لو كان منفصلاً عنه، وقال بعضهم: لا يجوز لأن كمه تبع له، واستدل هذا القائل ما ذكر في كتاب الأيمان إذا حلف لا يجلس على الأرض فجلس على زيله يحنث؛ لأن زيله تبع له كذا ها هنا، وإذا سجد على ظهر غيره بسبب الزحام، ذكر في «الأصل» أنه يجوز.
وقال الحسن بن زياد والشافعي: لا يجوز، حجتهما قوله عليه السلام: «تمكن جبهتك من الأرض» .

(1/364)


حجتنا حديث عمر رضي الله عنه، فإنه قال: «هذا المسجد بناه رسول الله عليه السلام، ويحضر فيه المهاجرون والأنصار فمن وجد فيه موضعاً سجد فيه ومن لم يجد فيه موضعاً سجد على ظهر أخيه» ، فلأن فيه ضرورة؛ لأن الزحام أصل في أداء الصلوات بالجماعات، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إنما يجوز إذا سجد على ظهر المصلي، أما إذا سجد على ظهر غير المصلي لا يجوز؛ لأن الجواز بحكم الضرورة، والضرورة لا تتحقق في حق غير المصلي؛ لأن غير المصلي لا يمكن في المسجد، وذكر المسألة في «العيون» على نحو ما روى الحسن، وذلك مرّ.... ولو سجد على فخذه إن كان بغير عذر، فالمختار أنه لا يجوز؛ لأن الساجد يجب أن يكون غير محل السجود، وإن كان بعذر فالمختار أنه يجوز، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رضي الله عنه.
ولو سجد على ركبتيه لا يجوز بعذر أو بغير عذر، وإذا لم يضع المصلي ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزيه هكذا اختاره الفقيه أبي الليث؛ لأنا أمرنا أن نسجد على سبعة أعضاء، وفتوى مشايخنا على أنه يجوز؛ لأنه لو كان موضع الركبتين نجساً يجوز، هكذا ذكر القدوري في «كتابه» ، والفقيه أبي الليث لم يصحح هذه الرواية أنه لو كان موضع الركبتين نجساً أنه يجوز، وإذا بسط كُمه وسجد عليه أن.... يُبقي التراب عن وجهه يكره، ذلك؛ لأن هذا نوع يبقي التراب عن ثيابه ويسجد عليه لا يكره؛ لأن هذا ليس مكره.

وفي أول كراهية «النوازل» : رجل يصلي على الأرض ويسجد على حرفها وضعها بين يديه يبقى به الحر لا بأس به، وذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه فعل ذلك، فمرّ به رجل وقال ما يُسبح لا تفعل مثل هذا، فإنه مكروه، فقال له أبو حنيفة: من أين أنت، فقال: من خوارزم، فقال أبو حنيفة: الله أكبر ما التكبير ... من الصف الآخر، ومراده إن علم الشريعة يحمل من ههنا إلى خوارزم، لا من خوارزم إلى ههنا والله أعلم.
ثم قال أبو حنيفة: في مساجدكم حشيش، فقال: نعم، فقال له أبو حنيفة: فيجوز السجدة على الحشيش ولا يجوز على الخرقة وإذا سجد رفع أصابع رجليه على الأرض لا يجوز، كذا ذكر الكرخي في «كتابه» والجصاص في «مختصره» .
وفي «النوازل» : إذا سجد على أرض الثلج إن لبد جاز؛ لأنه بمنزلة الأرض، وإذا لم يلبد وكان تغيّب وجهه فيه، فلا يجد حجمه لم يجز؛ لأنه بمنزلة الساجد على الهواء، وعلى هذا إذا لقي في المسجد حشيش كثير، فسجد عليه إن وجد حجمه يجوز وإلا فلا حجمه وإذا صلى على التبن أو القطن المحلوج، وسجد عليه إن استقر جبهته وأنفه على ذلك ووجد الحجم يجوز وإن لم تستقر جبهته لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول هو في معنى الأرض، وفي الوجه الثاني لا.
وإذا سجد على ظهر ميت إن كان على الميت لبد، ولا يجد حجم الميت يجوز؛

(1/365)


لأنه سجد على اللبد، وإن وجد حجم الميت لا يجوز؛ لأنه سجد على الميت، وإن كان موضع السجود أرفع من موضع القدمين...... ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح كتاب الصلاة» أنه إن كان التفاوت بمقدار لبنة أو لبنتين يجوز، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز، وأراد باللبة اللبنة المنصوبة دون المفروشة، ثم إذا فرغ من السجدة ينهض على صدور قدميه ولا يقعد. وقال الشافعي؛ يجلس ثم يقوم.

حجتنا ما روى وائل بن حجر أن رسول الله عليه السلام كان إذا رفع رأسه من السجود الثاني قام كأنه على الرصيف، أي: على الحجارة المحراة، وفي قوله ينهض على صدور قدميه إشارة إلى أنه لا يعتمد على الأرض بيده عند قيامه، وإنما يعتمد على يديه، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وقال الشافعي: يعتمد بيده على الأرض، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله الخلاف في الأفضل حتى لو فعل كما هو مذهبنا لا بأس به عند الشافعي رحمه الله، ولو فعل كما هو مذهبه لا بأس به عندنا، ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى من القيام والقراءة والركوع والسجود.
وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الثانية يقعد قدر التشهد في ذوات الأربع والثلاث من الفرائض، وهذه القعدة سنّة لو تركها لا تفسد صلاته، ولكن يكره تركها متعمداً وقد مرّ هذا من قبل، وصفة القعدة مرّت من قبل أيضاً، وإذا قعد يضع يديه على ركبتيه أو على فخذيه.
والتشهد أن يقول: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» ، ولا يزيد على هذا في القعدة الأولى، فإن زاد فصلى على النبي ودعا لنفسه ولوالديه، فإن كان عامداً كان ذلك مكروهاً، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإن كان ساهياً: روي عن أبي حنيفة أنه يلزمه سجدتا السهو، وعن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يلزمه سجدتا السهو حالاً؛ لأنه لو لزم ذلك لزمه بالصلاة على النبي، وإنه يسبح وأبو حنيفة يقول سجود السهو لا يلزمه بالصلاة على النبي، وإنما تلزمه بتأخير الركن، فإذا فرغ من قراءة التشهد قام.

ولا بأس بأن يعتمد بيده على الأرض، هكذا ذكر الطحاوي، وإذا قام فعل في الشفع الثاني مثل ما فعل في الشفع الأول من القراءة والركوع والسجود، غير أنه في القراءة بالخيار: إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت، وقد ذكرنا هذا في فضل القراءة، وإذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة من الشفع الثاني فقعد وهذه القعدة فرض، وقد مرّ هذا فيما تقدم، ويتشهد في هذه القعدة أيضاً، وقراءة التشهد فيها ليست بفرض حتى لو تركها لا تفسد صلاته عندنا، وإن قرأ بعض التشهد وقرأ البعض في ظاهر الرواية تجوز صلاته أيضاً؛ لأنه لو ترك الكل تجوز صلاته، فإذا ترك البعض أولى.
وذكر في بعض الروايات فيما إذا قعد قدر التشهد، وقرأ بعض التشهد اختلاف بين

(1/366)


أبي يوسف ومحمد: على قول أبي يوسف تجوز صلاته كما لو ترك الكل، وعلى قول محمد: لا تجوز صلاته؛ لأنه إذا شرع في القراءة افترض عليه الإتمام، فإذا تركها، فقد ترك الفرض فتفسد صلاته، قال: وهو نظير من سلّم (57ب1) ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو ذهب ولم يسجد لها، فصلاته ثابتة، ولو خرّ ساجداً ثم رفع رأسه وذهب، ولم يعد القعدة فسدت صلاته، كذا في مسألتنا.
فإذا فرغ من التشهد يصلي على النبي عليه السلام، ويدعو للمؤمنين وللمؤمنات ولنفسه ولوالديه إن كانا مسلمين هكذا ذكر الطحاوي، ولم يذكر محمد الصلاة على النبي هنا في «الأصل» ، والصحيح ما ذكره الطحاوي ثم يدعو بما شاء مما أشبه ألفاظ القرآن، ولا يدعو بما يشبه كلام الناس، والصلاة على النبي في هذه القعدة ليست من الواجبات، وقال الشافعي هي واجبة هكذا ذكره القدوري.

وقال أبو الحسن الكرخي: الصلاة على النبي واجبة على الإنسان في العمر مرّة، إن شاء فعلها في الصلاة أو في غيرها، وعن الطحاوي: أنه يجب عليه الصلاة كلما ذكر، قال شمس الأئمة السرخسي: وما ذكر الطحاوي مخالف الإجماع فعامة العلماء قالوا: إن الصلاة على النبي كلما ذكر مستحبة، وليست بواجبة. وقال أبو عبد الله الجرجاني: الصلاة على النبي ليست بفرض أصلاً.
بقي الكلام بعد هذا في كيفية الصلاة على النبي، ذكر عيسى بن أبان في كتاب الحج على أهل المدينة أن محمداً سئل عن الصلاة على النبي فقال: على النبي نقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وإنه خرج موافقاً لحديث كعب بن عجرة أنه قال: يا رسول الله عرفنا السلام عليك كيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: «اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد» إلى آخره كما ذكرنا، وتكلم أصحاب رسول الله عليه السلام في كيفية الصلاة على النبي عليه السلام، وكان ابن عباس وأبو هريرة يصليان عليه على نحو ما بيّنا إلا أنهما كانا يزيدان، وارحم محمداً وآل محمد كما رحمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وحكي عن محمد بن عبد الله: أنه يكره قول المصلي وارحم محمداً وآل محمد وكان يقول هذا نوع ظن بتقصير الإنسان فإن أحداً لا يستحق الرحمة لا بإتيان ما يُلام عليه، ونحن أمرنا بتعظيم الأنبياء وبتوقيرهم، وإذا ذكر النبي لا يقال: رحمه الله، ولكن يصلى عليه وكذا إذا ذكرت الصحابة لا يقال رحمهم الله ولكن يقال رضي الله عنهم هكذا

(1/367)


(ذكر) شيخ الإسلام خواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي ذكر بأنه لا بأس به؛ لأن الأثر ورد به من طريق أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما ولا عيب على من اتبع الأثر، ولأن أحداً لا به يستغني عن رحمة الله.

واختلفت الآثار في قوله على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، يذكر في بعضها إبراهيم، ولم يذكر آل وذكر في بعضها الآل ولم يذكر نفس إبراهيم، وفي بعضها جمع بينهما، وكان الفقيه أبي جعفر يقول: وأما أنا أقول: وارحم محمداً وآل محمد، واعتمادي عليه للتوارث الذي وجدته في أهل بلدي وبلدان المسلمين، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن رحمه الله يقول: لا بأس به، وكان يقول: معنى قولنا: ارحم محمداً؛ ارحم أُمّة محمد فهو راجع إلى الأمة، هذا كمن حيّ وللجائي أب شيخ كبير، وأراد أن تقيموا العقوبة على الجائي فالناس يقولون للذي بحاجة ارحم هذا الشيخ الكبير، وذلك الرحم راجع إلى الابن الجائي حقيقة، ويكون معناه ارحم هذا الشيخ الكبير بالرحمة على ابنه الجائي، كذا ههنا الرحمة راجعة إلى الأمة، والله أعلم.
وينبغي أن يهتم بالتكبيرات كلها تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة الركوع والسجود لحديث إبراهيم النخعي موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام: «الأذان جزم والتكبير جزم» فلأن أكثر على وزن أفعل، وكل ما كان على هذا الوزن لا يحتمل المد.
واعلم بأن المد في التكبير لا يخلو، إما أن يكون في الله وفي أكبر، فإن كان في الله لا يخلوا إما أن يكون في أوله أو أوسطه أو آخره، فإن كان في أوله كان خطأ، ولكن لا تفسد الصلاة، وقال بعض مشايخنا يوهم الكفر، وقال الإمام الزاهد الصفار: لا يوهم. فإن كان في أوسطه فهو الصحيح، وهو المختار. وإن في آخره فهو خطأ، ولكن لا تفسد الصلاة أيضاً.

أما إذا كان المد في أكبر، فإنه تفسد الصلاة سواء كان في أوله أو أوسطه أو آخره، وإذا تعمد ذلك في وسطه يكفر؛ لأن الإكبار اسم الشيطان، وإن لم يتعمد لا يكفر ويستغفر ويتوب، وينبغي أن يقول: الله برفع الهاء ولا يقول بجزم الهاء وفي قوله أكبر هو بالخيار إن شاء ذكره بالرفع وإن شاء ذكره بالجزم وإن كرر التكبير مراراً ذكر الله بالرفع في كل مرة وذكر أكبر، فيما عدا المرة الأخيرة بالرفع وفي المرة الأخيرة هو بالخيار، إن شاء ذكر بالرفع، وإن شاء ذكره بالجزم.
قال محمد في «الأصل» : ويكون انتهى نظر المصلي في صلاته إلى موضع سجوده، لحديث أبي قتادة، أن رسول الله عليه السلام إذا صلى رمى ببصره إلى السماء، فلما نزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238) رمى ببصره إلى موضع سجوده، وقال أبو طلحة لرسول الله عليه السلام حيث نزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ} (المؤمنون: 1، 2) (فقال كيف) الخشوع: يا رسول الله؟ فقال عليه السلام:

(1/368)


«أن يكون منتهى بصر المصلي إلى موضع سجوده» ، قال أبو طلحة؛ ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال إذاً في المكتوبة» ، فهذا يدلك على أن الأمر في التطوع أسهل، ولم يزد محمد على ذكرنا.
وذكر الطحاوي والكرخي: ينبغي أن يكون منتهى بصره في قيامه إلى موضع سجوده، قال الطحاوي: وفي الركوع إلى ظهر قدميه، وفي السجود إلى أرنبة أنفه، وفي قعوده إلى حجره، وزاد بعضهم: وعند التسليمة الأولى إلى كتفه الأيمن، وعند التسليمة الثانية إلى كتفه الأيسر، ومن الناس من يقول: يكون بصره أمامه، كمن يناجي غيره وهو بين يديه يكون بصره أمامه، وما ذكر الطحاوي بيان الاستحباب لا بيان الوجوب حتى لو نظر في حالة القيام أمامه، وفي حالة الركوع والسجود على الأرض لا بأس به، فلا يأثم إذا أخذ في التشهد، وانتهى إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله، هل يشير بإصبعته السبابة من اليد اليمنى؟ لم يذكر محمد هذه المسألة في «الأصل» .
وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا يشير؛ لأن مبنى الصلاة على السكينة والوقار، ومنهم من قال: يشير، وذكر محمد في غير رواية الأصول حديثاً عن النبي عليه السلام أنه كان يشير، قال محمد: يصنع بصنع النبي عليه السلام، ثم قال هذا قولي وقول أبي حنيفة.
ثم كيف يصنع عند الإشارة؟ حكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: يعقد الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى مع الإبهام ويشير بسبابته، وروي ذلك عن النبي عليه السلام، ثم إذا فرغ من التشهد وصلى على النبي دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، فسلم بتسليمتين تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن شماله، ويحول في التسليمة الأولى وجهه عن يمينه وفي التسليمة الثانية عن يساره، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام «كان يحول وجهه في التسليمة الأولى حتى يرى بياض خده الأيمن، وكان يسلم عن شقه الأيسر حتى يرى بياض خده الأيسر» ثم من الناس من يقول في السلام: سلام عليكم ورحمة الله بحذف الألف واللام، وعندنا يقول: السلام بالألف واللام ولا يقول في هذا السلام في آخره وبركاته عندنا.

والسنّة في السلام: أن تكون التسليمة الثانية أخفض من الأولى، ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وعن محمد في «النوادر» أن التسليمة الثانية تحية للحاضرين والتسليمة الأولى للتحية والخروج؛ لأن من يحرم للصلاة، فكأنه غاب عن الناس لا يكلمهم ولا يكلمونه، وعند التحليل كأنه يرجع إليهم فيسلم، فإن سلّم أولاً عن يساره يسلم عن يمينه، ولا يعيد عن يساره، وإذا سلّم تلقاء وجهه يعيد ذلك عن يساره، هكذا روي عن أبي حنيفة، وينوي

(1/369)


بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء، وبالتسليمة الثانية من عن يساره منهم، هكذا ذكر محمد في «الكتاب» ، ولم يذكر كيفية النيّة.
واختلف المشايخ فيه منهم من قال في نيّة الحفظة نوى الكرام الكاتبين، وهما ملكان مكرمان مع الآدمي يكون أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، ويكون الآخر عن يساره يكتب السيئات، ومنهم من قال: ينوي جميع من معه من مؤمن الملائكة؛ لأنه اختلف الإحصاء، وعددهم في بعضها إن مع كل مؤمن خمس منهم واحد عن يمينه، وواحد عن يساره، ويكتبان أعماله كما ذكرنا، وواحد أمامه يلقيّه الخيرات، وواحد وراءه يدفع عنه المكاره، وواحد على ناصيته يكتب (58أ1) ما يصلي على النبي، ويلقنه النية ما يصلي عليه، وقال بعضهم: مع كل مؤمن ستون ملكاً، وقال بعضهم مائة وستون.
وفي نية الرجال والنساء واختلاف المشايخ أيضاً، منهم من قال: ينوي من كان معه في الصلاة؛ لأن التسليم خطاب والخطاب للحاضرين، فعلى هذا القول في زماننا لا ينوي النساء، ومنهم من قال: ينوي بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحضر؛ ولأنه لا ... ، وفي الثانية ينوي جميع عباد الله الصالحين؛ لأنه دعى كما في قولنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ينوي جميع عباد الله الصالحين من الملائكة والإِنس. روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قال هذا فقد أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض» ، ولكن هذا القول بخلاف ما روينا عن محمد، فقد روينا عن محمد أن التسليمة الثانية تحية للحاضرين والتسليمة الأولى للتحية، وللخروج، ومنهم من قال في التسليمتين جميعاً: ينوي جميع المؤمنين، وإليه أشار الحاكم في «مختصره» ؛ لأن المصلي غيب عن الناس كلهم بالتحريمة لا يكلمونه ولا يكلموهم، فإذا سلّم الناس فكأنه قال..... كواحد منكم في أمور الدنيا فيكلمون، وهذا الذي ذكرنا في حق الإمام، والمقتدي يحتاج إلى نية الإمام مع نية من ذكرنا، فإن كان الإمام في جانب الأيمن نواه فيهم، وإن كان في جانب الأيسر نواه فيهم وإن كان بجانبه نواه في الجانب الأيمن عند أبي يوسف ترجيحاً لجانب الأيمن، وعند محمد ينويه فيهما الإمكان الجمع عند التعارض ذكر الخلاف على نحو ما ذكر شمس الأئمة السرخسي، وذكر شيخ الإسلام أن على رواية الحسن بن زياد ينويه بالتسليمتين، ولم يذكر قول محمد.

وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار: أن على رواية الحسن ينويه في الجانب الأيمن، ولم يذكر قول محمد، والمنفرد لا ينوي إلا الحفظة عند بعض المشايخ، فإن غير الحفظة ليسوا بحضور وخطاب غير الحاضر لغو، ومنهم من يقول: ينوي جميع من يتم على يمينه

(1/370)


من الرجال والنساء، وجميع من يتم على يساره من الرجال والنساء، ثم قدم الحفظة على بني آدم في الذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» قدم بني آدم على الحفظة في الذكر.
فمن المشايخ من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب بل تقتضي مطلق الجمع، فينويهم من غير ترتيب كما لو سلّم على جماعة فهم الشيوخ والشبان، لا ترتيب في التسليم بل يجمعهم.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان؛ لأن الواو إن كانت لا تقتضي الترتيب إلا أن البداية بالذكر دليل الترجح وزيادة الاهتمام به.
ومنهم من جعل هذه المسألة بناءً على مسألة أخرى أن الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فحين صنف محمد كتاب الصلاة كان من رأيه تفضيل الملائكة، وحين صنف «الجامع الصغير» كان من رأيه تفضيل بني آدم، ولكن مع هذا بعيد لأنهم كانوا قليل الخوض في الكلام، والمذهب الصحيح أن خواصّ البشر أفضل من جملة الملائكة، وخواصّ الملائكة أفضل من أوساط البشر، وأوساط البشر أفضل من أوساط الملائكة، وكأن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يحكي عن استملاء الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أنه قال: من غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عَقله فهو شرّ من البهيمة، فكأنه أراد به الغلبة من كل وجه حتى يكفر أما المؤمن الفاسق لا يكون شراً من البهيمة.
ثم المقتدي متى يسلّم؟ فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية يسلم مع الإمام فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق بين التسليم وبين التكبير، وفي رواية يسلم بعد الإمام فعلى هذه الرواية يحتاج إلى الفرق بين التسليم وبين التكبير.

والفرق: أن في مقارنة التكبير شرعة إلى العبادة فيكون أولى وفي مقارنة التسليم شرعة إلى الخروج عن العبادة، والاشتغال بأمور الدنيا، ولأنه ينقل في حرمة الصلاة حين (من أن) يخرج عن حرمة الصلاة، وعلى قولهما يسلم بعد الإمام كما يكبّر بعد الإمام، وبعض مشايخنا قالوا: عند محمد يسلم مقارناً للإمام.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله أن عطاء وإبراهيم يقولان: المقتدي بالخيار، إن شاء سلّم بعد فراغ الإمام، وإن شاء سلّم مع الإمام، وقال محمد بن سلمة: إذا سلّم الإمام عن يمينه بعده، وإذا سلّم الإمام عن يساره فيسلم المقتدي بعده عن يساره، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: يسلم المقتدي مع الإمام حتى يصير خارجاً سلام نفسه، فذهب الفقيه أبو جعفر إلى أن المقتدي يصير خارجاً عن الصلاة بسلام الإمام، فيشترط أن يسلّم مع الإمام، حتى يصير خارجاً بسلام نفسه، فيكون مقيماً السنّة، وعن أبي حنيفة رحمه الله في هذا روايتان: في رواية يصير المقتدي خارجاً عن حرمة الصلاة بسلام الإمام، وفي رواية لا يصير خارجاً، فمال الفقيه أبو جعفر إلى الرواية التي تصير خارجاً عن حرمة الصلاة بسلام الإمام، وإضافة لفظة السلام واجبة عندنا، وليست بفرض حتى لو خرج عن الصلاة بكلام أو يُفعل بناءً في الصلاة يجوز، ولا يلزمه الإعادة، وعند الشافعي تلزمه الإعادة.

(1/371)


وإذا فرغ الإمام من التسبيحات قبل فراغ المأموم فالمأموم يتابع الإمام، ولا يتم التسبيحات، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هو الأشبه بمذهب أصحابنا رحمهم الله، وعلى قياس قول أبي مطيع البلخي يتم التسبيحات؛ لأن التسبيحات عنده فريضة حتى قال بفساد الصلاة بتركها كُلاً أو بعضاً، والاشتغال بإتمام الفرض أولى من الاشتغال بالواجب، فإذا فرغ الإمام من التشهد، والمؤتم لم يفرغ بعد من القعدة الأولى لا يتابع الإمام ما لم يتمم التشهد، وفي القعدة الأخيرة يتابع الإمام ويُسلم معه، والله أعلم.6
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا انتهى إلى الإمام وقد سبقه الإمام بشيء من صلاته، هل يأتي بالثناء؟ فهذا على وجوه:
الأول: إذا أدركه في حالة القيام في الركعة المسبوقة هل يأتي بالثناء إذا فرغ في الصلاة أو في الركعة الثانية؟ وفي هذا الوجه كان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن استملاء الشيخ الإمام أنه كان يقول: لا يأتي بالثناء، قال: وقال غيره من أصحابنا رحمهم الله يأتي، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أنه إن كانت الصلاة صلاة يخافت فيها بالقراءة يأتي بالثناء لا محالة؛ لأنه لو لم يأته بالثناء إنما لا يأتي، كيلا يفوته الاستماع، فإذا كانت الصلاة مما يخافت فيها بالقراءة لا يلزمه الاستماع والثناء ذكر مقصود بنفسه، فيأتي به.
فإن قيل: بأن كان لا يفوته الاستماع متى يشتغل بالثناء، فإنه يفوت فريضة الإنصات.
قلنا: الإنصات إنما يفرض حالة اشتغال القراءة؛ لأن الاستماع إنما يتحقق بالإنصات، والاستماع فرض فما لا يتحقق الاستماع إلا به يصير فرضاً تبعاً له، فأما في حالة غير الاستماع فالإنصات إنما شرع بنفسه تعظيماً لا من القراءة بقدر الإمكان لا سنّة مقصودة بنفسها، والثناء ذكر مقصود بنفسه فكان مراعاة الثناء أهم من مراعاة الإنصات.

فإن قيل: الإنصات فرض، وإن كان لا يستمع القراءة حتى سقطت عن المقتدى القراءة التي هي ركن في الصلاة لأجل الإنصات.
قلنا: القراءة ما سقطت عن المقتدي لمكان الإنصات، لكن إنما سقطت لأن بقراءة الإمام جُعلت قراءة له متى شارك الإمام في القيام الذي هو محل قراءة الإمام.
ألا ترى أنه متى أدركه في حالة الركوع صار مدركاً معتد بالركعة، وإن لم يوجد منه إنصات لقراءة الإمام؛ لأنه شاركه في القيام، فجعل قراءة الإمام له قراءة لمشاركته في القيام، فأما ثناء الإمام لم يجعل ثناء من المقتدي، فإذا لم يشتغل بالثناء يفوته الثناء أصلاً، وأما إذا كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة إن أدرك الإمام في الركعتين الأخريين، فكذلك الجواب يشتغل بالثناء؛ لأن الإمام يخافت بالقراءة في الأخريين.
وإن كان في الركعتين الأوليين، فقد اختلف فيه المشايخ، منهم من يقول: يشتغل

(1/372)


بالثناء، ومنهم من يقول: لا يشتغل بالثناء، بل يستمع القراءة، وإليه كان يميل الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل وهو الأصح، ومنهم من يقول: ينتظر مواضع سكتات الإمام ويأتي بالثناء فيما بينهما حرفاً حرفاً، أما من قال بأنه يشتغل بالثناء ذهب في ذلك إلى أن الاستماع إن فاته بسبب الاشتغال بالثناء ذهب في ذلك إلى أن الاستماع إن فاته (58ب1) بسبب الاشتغال بالثناء في البعض، والثناء يفوته أصلاً لو لم يشتغل بالثناء، فكان الاشتغال بالثناء أولى، وأما من يقول لا يشتغل بالثناء يقول بأنه لو اشتغل بالثناء، فإنه يفوته الاستماع وأنه فرض مقصود بنفسه، والثناء سُنُّة فكان ترك السنّة أولى من ترك الفرض بخلاف الإنصات؛ لأنه بانفراده ليس بفرض، وإنما يفترض حالة الاستماع.

ألا ترى أن الأمر به على الانفراد لم يرد، وإنما ورد مع الأمر بالاستماع، فيكون فرضاً حالة الاستماع سنّة على الانفراد، وإذا كانت سُنّة في هذه الحالة كان الاشتغال بالثناء أولى من الوجه الذي بيّنا، وأما من يقول يأتي بالثناء في سكتات الإمام ذهب في ذلك إلى أنه يمكنه إقامة هذه السنّة من غير أن يفوته فرض الاستماع بأن يأتي بها في سكتات الإمام، وكان عليه أن يأتي بالثناء في سكتات الإمام، وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر إذا جاء المسبوق إلى الإمام والإمام في الفاتحة في صلاة يجهر فيها بالاتفاق.
وإذا جاء الإمام في السورة في صلاة يجهر بها قال أبو يوسف رحمه الله يثني المسبوق وقال محمد رحمه الله: لا يثني وفي صلاة العيد والجمعة إذا كان المسبوق بعيداً من الإمام لا يسمع قراءته، هل يثني بعد تكبيرة الافتتاح؟ قال الفضلي: لا يثني؛ لأنه على يقين أنه يقرأ فيدخل تحت قوله تعالى: {فَاسْتَمِعُواْ} (الأعراف: 204) وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن الفضل: يثني؛ لأنه لا يسمع فصار كما لو أدرك الإمام في الأوليين في صلاة لا يجهر فيها وهناك يثني، وإن تيقن أن الإمام في القراءة كذا ههنا، هذا الذي ذكرنا: إذا أدرك الإمام في حالة القيام، فأما إذا أدركه في حالة الركوع، وكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً هل يأتي بالثناء قائماً يتحرى فيه؟ إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى به قائماً يدرك الإمام في شيء من الركوع، فإنه يأتي به؛ لأن موضع الثناء أدرك الإمام فيه ليس بموضع القراءة للإمام، وإتيان الثناء لا يؤدي إلى تفويت هذه الركعة إذا كان يدركها فقد أمكنه إدراك الأمرين، والجمع بين الأمرين وإحرازهما، فلا تترك واحدة منهما، وإن كان أكثر رأيه أنه لو اشتغل بالثناء لا يدرك الإمام في شيء من الركوع لا يأتي بالثناء، بل يتابع الإمام في الركوع؛ وذلك لأنه لو أتى بالثناء فاتته الركعة مع الإمام، وإدراك الركعة أتمّ من إتيان الثناء.

فإن قيل: الركعة لو فاتته تفوته إلى خلف، فإنه يقضي بعد فراغ الإمام من الصلاة والثناء يفوته أصلاً، فإنه لا يأتي به بعد ذلك.
قلنا: الركعة تفوته إلى خلف إلا أن نية الجماعة في هذه الركعة تفوته أصلاً، ومراعاة سنّة الجماعة أولى من مراعاة سنّة الثناء.
ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في صلاة الفجر، فإن كان أكثر رأيه أنه لا يدرك الإمام في الركعة الثانية، فإنه لا يشتغل بركعتي الفجر، وقد ورد في ركعتي الفجر من ما لم تؤدَ

(1/373)


في غيره، ولكن لما كان الاشتغال بركعتي الفجر يؤدي إلى تفويت سنّة الجماعة في الركعة الثانية كان إقامته سنّة الجماعة أولى، فكذلك هنا، فإن أدركه بعدما رفع رأسه من الركوع يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى بالثناء يدرك الإمام في السجدة، وكذا لو أدرك في السجدة الأولى يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى به يدرك الإمام في هذه السجدة.
وكذلك لو أدركه بعدما رفع رأسه من السجدة الأولى يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه أدرك الإمام في السجدة الثانية ثم يسجد، ولا يأتي بالركوع والسجدتين، ولو أتى بهما تفسد صلاته؛ لأنه صار منفرداً بركعة تامة بعدما شرع في صلاة الإمام، فتفسد صلاته.
وأما إذا أدركه في القعدة الأخيرة، فإنه يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ثم يقعد ويتابعه في التشهد، فلا يأتي بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد عند بعض المشايخ، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف خواهر زاده؛ لأن الدعاء مشروع في آخر الصلاة، لا في وسطها.

وبعضهم قالوا: لو أتى بها متابعة للإمام، وهكذا رواه أبو عبد الله البلخي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه كان يفتي عبد الله بن الفضل؛ هذا لأن المصلي إنما لا يشتغل بالدعاء في وسط الصلاة لما فيه تأخير الأركان، وهذا المعنى لا يوجد ههنا؛ لأنه لا يأتي بشيء من الأركان قبل سلام الإمام، ثم على قول من لا يأتي بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد ماذا يصنع؟ اختلفوا فيما بينهم: قال بعضهم: يكرر التشهد، وقال بعضهم: يصلي على النبي عليه السلام، وقال بعضهم يأتي بالدعوات التي في القرآن {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ} (البقرة: 286) وقال بعضهم: يسكت، وقال بعضهم: هو بالخيار إن شاء أتى بالدعوات المذكورة في القرآن، وإن شاء صلى على النبي عليه السلام.

ولا ينبغي للمسبوق أن يقوم إلى قضاء ما سُبقَ به قبل سلام الإمام، فإن قام قبل أن يفرغ الإمام من التشهد، فالمسألة على وجوه: إما أن يكون مسبوقاً بركعة أو ركعتين أو ثلاث، فإن كان مسبوقاً بركعة، فإن وقع من قراءته بعد فراغه من التشهد مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته لو مضى على ذلك، وإن لم تقع من قراءته ذلك المقدار بعدما فرغ الإمام من التشهد لا تجوز صلاته، لأن قيامه وقراءته قبل فراغ الإمام من التشهد لم يَقع معتبراً، فإذا مضى على ذلك فقد ترك من صلاته ركعة، فلا يجوز، وكذلك لو كان مسبوقاً بركعتين؛ لأنه ترك القراءة في أحديهما، ولو كان مسبوقاً بثلاث كان عليه فرض القراءة في ركعتين وفرض القيام في ركعة، فينظر إن كان قام بعد فراغ الإمام من التشهد أدى قومة، وقرأ في الأخريين ما تجوز به الصلاة جازت صلاته، وإن ركع في الأولى قبل فراغ الإمام من التشهد، ومضى على ذلك فسدت صلاته.

(1/374)


وفي «الأصل» : إذا افتتح الصلاة، وركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه، وقرأ وركع، فالمعتبر هنا الركوع الثاني، حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع يصير مدركاً للركعة؛ لأنه مأمور بالقراءة بعد الركوع الأول؛ لأنه لم يأت بالقراءة، فمتى أتى بها ومحل القراءة قبل الركوع يرتفض الركوع الأول تقع القراءة في محلها، وكذلك إذا لم تتم القراءة وركع بأن قرأ الفاتحة ولم يقرأ السورة أو قرأ السورة ولم يقرأ الفاتحة وركع ثم رفع رأسه وأتم القراءة وركع كان المعتبر هو الركوع الثاني؛ لأن ضم السورة إلى الفاتحة من واجبات الصلاة، ولم يأت به فكان مأموراً بالإتيان به، وإذا أتى به ومحل القراءة على وجه التمام قبل الركوع لا بُدّ وأن يرتفض الركوع الأول لتقع القراءة في محله، فأما إذا أتم القراءة وركع ثم رفع رأسه من الركوع وقرأ ثانياً وقرأ، ذكر في باب الحدث: أن المعتبر هو الركوع الأول حتى لو جاء إنسان واقتدى به في الركوع الثاني لا يصير مدركاً للركعة؛ لأن الركوع الأول حصل في أدائه؛ لأنه حصل بعد تمام القراءة فوقع مقتدياً به فلا يصح الثاني، حتى لا يصير تكراراً؛ لأنه لا تكرار في الركوع في ركعة واحدة.
وذكر في باب السهو: أن المعتبر هو الركوع الثاني.
ووجه ذلك: أن الركوعين جميعاً وُجدا بعد القراءة؛ لأن القراءة الثانية إن لم تعتبر بالقراءة الأولى معتبرة إلا أن الثاني متصل بالسجود والأول غير متصل بالسجود والركوع إنما يعتبر باتصال السجود به فكان العبرة للركوع الثاني فلو أن هذا الإمام ركع ولم يقرأ فلما رفع رأسه من الركوع الأول سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ هذا الرجل الخليفة وركع فجاء رجل واقتدى يصير مدركاً للركعة، وكذلك إذا قرأ الإمام الأول الفاتحة ولم يقرأ السورة وركع سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ الرجل الخليفة السورة وركع فجاء رجل واقتدى به، فإن الرجل يصير مدركاً للركعة.

وكذلك لو قرأ الأول السورة ولم يقرأ الفاتحة وباقي المسألة بحالها يصير مدركاً للركعة، فلو أن الإمام الأول قرأ وركع فلما رفع رأسه من الركوع سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ بهما الخليفة وركع فجاء رجل واقتدى به فعلى الرواية التي ذكر في باب الحدث يصير مدركاً للركعة، والمعنى في ذلك أن الخليفة قام مقام الأول فحاله كحال الإمام الأول، والجواب في حق الإمام الأول على هذا التفصيل فكذا في حق الخليفة والله أعلم.
فرعفي بيان ما يكره للمصلي أن يفعل في صلاته وما لا يكره للمصلي
(يكره) أن يغطي فمه في الصلاة لما روى أبو هريرة أن رسول الله عليه السلام «نهى أن يغطي المصلي فاه في الصلاة» ، وهذا الذي ذكرنا في غير (59أ1) حالة العذر بأن

(1/375)


غلبه التثاؤب، فلا بأس (بأن) يضع يده على فمه قال عليه السلام: «إذا تثاءب أحدكم فليغطّ فاه فإن الشيطان يدخل فاه» أو قال فيه أو قال فمه.
ويكره أن يصلي معتجراً لنهي النبي عليه السلام عن ذلك، وتكلموا في تفسير الاعتجار: قال بعضهم: أن يشد العمامة حول رأسه بالمنديل ويبدي هامته كما يفعله الشطارون، وقال بعضهم: أن يشد بعض العمامة على رأسه واليدين على بدنه، وعن محمد أنه قال: لا يكون الاعتجار إلا مع منتعب وهو أن يلف العمامة على رأسه، ويجعل طرفاً منه شبه المعتجر للنساء يلف حول وجهه، وإنه مكروه لما فيه من تغطية الفم والأنف ويكره أن يصلي وهو عاقص.... شعره لحديث أبي رافع أن رسول الله عليه السلام «نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص» والعقص هو الإحكام والشد والمراد من المسألة أن يجمع شعره على هامِتِهِ ويشده بشمع أو غيره ... عند بعض المشايخ، وعند بعضهم أن يلف ذوائبه حول رأسه كما تفعله النساء في بعض الأوقات وعند بعضهم أن يجمع الشعر كلّه من قبل القفار يحيط وخرقه كيلا يصيب الأرض إذا سجد، ويكره أن يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه إذا انحط للسجود. وإذا قام رفع يديه قبل ركبتيه، ويجوز أن يفعل خلافه حالة العذر، والأصل فيه ما روى وائل بن حجر أن النبي عليه السلام «كان يضع ركبتيه قبل يديه» ، وعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام «نهى أن يبرك المصلي بروك الإبل» ، وفي رواية بروك الجمل، وقال ليضع ركبتيه قبل يديه.
ويكره أن ينقر نقر الديك، وأن يقعي إقعاء الكلب، وتفسيره: أن يضع أليتيه على الأرض وينصب فخذيه، وقيل: تفسيره: أن يضع أليته على الأرض وينصب يديه أمامه نصباً، وأن يفترش ذراعيه افتراش الثعلب، لحديث أبي هريرة قال: «نهاني خليلي عن ثلاثة أن أنقر نقر الديك، وأن أقعي إقعاء الكلب، وأن أفترش إفتراش الثعلب.
ويكره أن يرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع لحديث جابر بن سمرة قال كنا نرفع أيدينا عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع. فخرج النبي صلى الله عليه وسلّموقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة» .

ويكره السدل في الصلاة لنهي النبي عليه السلام عن ذلك.

(1/376)


قال في «الأصل» وتفسيره: أن يضع ثوبه على كتفيه ويرسل طرفيه، وفي القدوري يقول في تفسيره أن يجعل ثوبه على رأسه وكتفيه ثم يرسل أطرافه من جوانبه، ومن صلى في فناء أو في مطرف أو في....... ينبغي أن يدخل يديه في كميه ويشد القباء بالمنطقة احترازاً عن السَّدل، وعن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول إذا صلى مع القباء وهو غير مشدود الوسط، فهو سيء وكان يقول كان فقيهاً يقول يخاف أن يدخل في الكراهة ويكره لبسه ... ، وذلك أن يجمع طرفي ثوبه، ويخرجهما تحت إحدى ثوبيه ويضعهما على كتفه الأخرى إذا لم يكن عليه سراويل.
وكذلك يكره له أن يضع ثوبه على رأسه ويلف به جميع بدنه بحيث لا يبقى له فُرْجَه؛ لأن فيه تغطية الفم، وإنها مكروهة، وكذلك يكره أن يلف ... أو يرفعها لئلا؛ لأن فيه نوع تجبر، ويكره للمصلى ما هو من أخلاق الجبابرة، وكذلك تكره الصلاة في إزارٍ واحد بخلاف الصلاة في ثوب واحد متوشحاً به. وقدمت المسألة من قبل، وتكره الصلاة حاسراً رأسه تكاسلاً، ولا بأس إذا فعله تذللاً خشوعاً بل هو حسن، هكذا حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي رحمه الله.
قال نجم الدين في «كتاب الخصائل» : قلت لشيخ الإسلام: إن محمداً يقول في «الكتاب» لا بأس بأن يصلي في ثوب واحد متوشحاً به، وقال: مراد محمد أن يكون ثوباً طويلاً يتوشح به فيجعل بعضه على رأسه وبعضه على منكبيه، وعلى كل موضع من بدنه أما ليس فيه تنصيص على إعراء الرأس والمنكبين، وقد روي أن أصحاب رسول الله عليه السلام كانوا يكرهون إعراء المناكب في الصلاة، وكذلك يتكره الصلاة في ثياب البذلة روي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً فعل ذلك، فقال: أرأيت لو كنت أرسلتك إلى بعض الناس أكنت تمر في ثيابك هذه، فقال: لا، فقال عمر: الله أحق أن تتزين له، وكذلك تكره الصلاة في ثوب فيه تصاوير.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: والمستحب للرجل أن يصلي في ثلاثة أثواب، قميص وإزار وعمامة.
والمستحبُّ للمرأة أن تصلي في قميص وخمار ومقنعة، ولا يرفع رأسه، ولا يطأطئه ولا يعبث بشيء من جسده أو ثيابه. قال عليه السلام: «إن الله تعالى كره لكم ثلاثاً العبث في الصلاة والرفث في الصوم والضحك في المقابر» ولا يفرقع أصابعه، قال عليه السلام لعليّ «لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي» .
ولا يُشبك بين أصابعه، ولا يجعل يده على خاصرته. قيل: أنه استراحة أهل النار، ولا يقلب الحصى إلا أن لا يمكنه من السجود فيسوي موضع سجوده مرة أو مرتين، فلا بأس به.

(1/377)


ويكره مسح جبهته من التراب أثناء الصلاة وقد مرت المسألة من قبل. ويكره عد الآي والتسبيح في الصلاة، وكذلك عد السور يريد بالأصابع، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد لا بأس به.
وجه قولهما: أن المصلي قد يضطر إلى هذا لمراعاة سنّة القراءة، والصلاة والعمل بما جاءت به السنّة في صلاة التسابيح ونحوها، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن هذا عمل ليس من أعمال الصلاة ولا حاجة إليه لمراعاة سنّة القراءة؛ لأنه يمكنه أن ينظر فيما يريد أن يقرأ قبل الشروع في الصلاة، ولو احتاج إليها كما في صلاة التسابيح عدّها إشارة أو فلا حاجة إلى العد بأصابعه، ثم من مشايخنا من قال لا خلاف في التطوع أنه لا يكره ذلك، وإنما الخلاف في المكتوبة، ومنهم من قال: لا خلاف في المكتوبة أنه يكره ذلك، وإنما الخلاف في النوافل. قال الفقيه أبو جعفر؛ وجدت رواية عن أصحابنا أنه يكره فيهما.
وفي «نوادر المعلّى» عن أبي يوسف؛ لا أرى بعدّ الآي في المكتوبة ... ولا في التطوع، قال: وأراد بهذا العدّ العدّ بالقلب دون اللسان.
المصلي إذا مرّ بآية فيها ذكر النار أو ذكر الموت فوقف عندها وتعوِّذ من النار واستغفر، أو مر بآية فيها ذكر الرحمة فوقف عندها، وسأل الله تعالى الرحمة فهنا ثلاث مسائل.

مسألة في المتفرد، والجواب فيها أنه إن كان في التطوع فهو حسن لحديث حذيفة، قال: «صليت مع رسول الله عليه السلام صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف؛ وسأل الله تعالى الجنة، وما مرّ بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوّذ بالله من النار، وما مر بآية فيها مَثَل إلا وقف عليها وتأمل وتفكر» ، فإن كان في الفرض يكره؛ وذلك لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك، ولا عن الأئمة بعده فكان محدثاً وشر الأمور محدثاتها.
ومسألة في الإمام: والجواب فيها أنه لا يفعل ذلك في التطوع والفرض؛ لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله عليه السلام ولا عن الأئمة العابدين بعده؛ ولأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وأنه مكروه.
ومسألة في المقتدي: والجواب فيها أنه يستمع وينصت ولا يشتغل بالدعاء. قال الله تعالى {وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204) أمر بالإنصات والاستماع والأمر للوجوب والدعاء يُخلّ بالاستماع والإنصات فيخلّ بالواجب فلا يجوز، وعن هذا سقطت القراءة عن المقتدي، وعن هذا قال بعض مشايخنا: تكره قراءة القرآن جملة.
ويكره له أن ينظر إلى السماء، وقد كان رسول الله عليه السلام يفضل ذلك ندباً،

(1/378)


فنزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ} (المؤمنوه: 1، 2) يومي ببصره إلى الأرض ولا يلتفت يميناً وشمالاً. قال عليه السلام: «لو علم المصلي من يناجي ما التفت» . ومراده من المسألة؛ إذا حول بعض وجهه عن القبلة، فإما أن ينظر بموفق عينيه ولا يحول بعض وجهه لا يكره، ويكره أن يسجد على كور عمامته، ويكره له التنحنح قصداً يعني عن اختيار إذا كان صوتاً لا حروف إلا أنه إذا صار له حروفاً كان في كونه مفسداً اختلافاً لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما السعال الذي هو مدفوع إليه فلا يكره، ويكره التنخم قصداً، ولا يصلي، وفي..... ولا يمنعه (59ب1) عن القراءة وإنْ منعه عن القراءة لم تجز الصلاة، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في موضع آخر إن منعه عن أداء الحروف أفسد الصلاة، وإن لم يمنعه عن عين القراءة وإنما يمنعه عن سنّة القراءة لا تفسد صلاته، ولكن يكره ذلك، وإن لم يمنعه عن شيء فلا بأس به.
ويكره النفخ في الصلاة ومراده نفخ لا يسمع؛ لأن في كون النفخ المسموع كلام يأتي بعد هذا في فصل المفسدات.
d
ويكره له أن يبتلع ما بين أسنانه إذا كان قليلاً، ويكره الجهر بالتسمية في صلاة الجهر، والجهر بالتأمين، وكذا يكره له إتمام القراءة في الركوع، وكذا يكره تحصل الأركان المشروعة في الإساءات بعد تمام الانتقال، وفيه ... لأن تركها في موضعه وتحصيلها في غير موضعه.
ويكره الاتكاء على البناء، ونحوه من غير عذر في الفرائض؛ لأنه يخل بالقيام ويزيل اليد إليه عن موضع السنّة في الوضع، ويكره ذلك في التطوع، هكذا قيل، وقيل: يكره ذلك في التطوع أيضاً، وكذا يكره إمساك شيء من ثوب أو دراهم بيده؛ لأنه يشغله عن الصلاة ويمنعه عن وضع اليد موضع السنّة، فإن كان لا يشغله عن الصلاة، ولا يمنعه عن وضع اليد على موضع السنّة، فلا بأس به، وكذا يكره حمل الصبي في حالة الصلاة؛ لأنه يشغله عن الصلاة، ويكره أن يخطو خطوات من غير عذر ووقف بعد كل خطوة لأنه لو والاها قطعت الصلاة على ما يأتي بيانه بعد هذا، وإن كان بعذر لا يكره.
ويكره التمايل على يمناه مرة وعلى يسراه أخرى، فقد صح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله عليه السلام: يقول: «إذا صلى أحدكم فليسكت أطرافه ولا يتمايل تمايل اليهود» ، ويكره التربع من غير عذر، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنه نهى ابنه عن ذلك، فقال له ابنه إنك تفعل هكذا فقال له عمر إن رجلاي لا تحملاني اعتذر بالضعف.

(1/379)


ولا بأس بقتل العقرب والحية في الصلاة بعد الأعذار الخمسة وغير الخمسة في ذلك على السواء، قالوا: هذا إذا لم يحتج إلى المشي والمعالجة، فأما إذا احتاج إلى المشي والمعالجة، تفسد صلاته، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا في فصل المفسدات.
وإن وجد قملة في الصلاة كره له أن يقتلها، لكن يدفنها تحت الحصا، وهذا قول أبي حنيفة وروي عنه أيضاً، لو أخذ قملة أو برغوثاً وقتله أو دفنه، فقد أساء، وعن محمد أنه يقتلها وقتلها أحب إليّ من دفنها، وأي ذلك فعل فلا بأس به، وقال أبو يوسف يكره قتلها ودفنها في الصلاة، ويكره أن يتوق في الصلاة وكذا يكره ترك الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو أن لا يقيم صلبة، ولا بأس بالصلاة على الطنافس واللبود وسائر الفرش والصلاة على الأرض، وعلى ما ... الأرض أفضل، ويكره أن يطول الركعة الأولى في التطوع، ويكره تطويل الثانية على الأولى في جميع الصلوات ويكره نزع القميص والقلنسوة ولبسهما وخلع الخف لعمل يسير.
ويكره أن يشم طيباً أو ريحاناً وأن يرّوح بثوبه أو عرقه مرة أو مرتين ولا تفسد صلاته وكثير من مسائل هذا الفصل تأتي في كتاب الكراهية والاستحسان إن شاء الله تعالى.
ومما يتصل بهذا الفصل
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد ورأسه في السجود في الطاق، ويكره أن يقوم في الطاق.
أما إذا قام في الطاق، فيكره إما؛ لأنه خص لنفسه مكاناً، وذلك مكروه لما روي عن عمار بن ياسر: أنه قام بالمدائن على الدكان يصلي بأصحابه، فجذبه حذيفة فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: أما علمت أن رسول الله عليه السلام كان ينهى عن ذلك فقال عمار: لقد تذكرت ذلك حين مددتني معنى وهو أن هذا بسبب بأهل الكتاب والتشبه بهم مكروه؛ وأما لأنه إذا قام في الطاق يشتبه على القوم حاله وإنما قدم الإمام على القوم حتى يظهر لهم حاله ولا يشتبه فما يوجب اشتباه حال الإمام عليهم يكون مكروهاً وإن كان المحراب مشبكاً وقام الإمام في الطاق هل يكره على أحد الطريقين، وهو طريق تخصيص المكان وعلى الطريق الآخر وهو طريق الاشتباه حال الإمام لا يكره.
ثم إن محمداً رحمه الله اعتبر العدم في هذه المسألة فجعل الإمام كالخارج عن الطاق إذا كان قدماه خارج الطاق، وإن كان رأسه عند السجود في الطاق، وأنه يوافق أصول أصحابنا رحمهم الله، فإنهم قالوا فيمن حلف لا يدخل دار فلان فأدخل رجليه في دار فلان يحنث في يمينه، وإن كان جميع أعضائه خارج الدار.

(1/380)


ولو أدخل جميع أعضائه في دار فلان ورجلاه خارج الدار لا يحنث، فكذا الصيد إذا كان قدماه في الحرم ورأسه خارج الحرم كان صيد الحرم، ولو كان على العكس لا يكون صيد الحرم، وكذلك المصلي إذا كان قدماه على مكان نجس لا تجوز صلاته، ولو كان قدماه على مكان طاهر وركبتاه ويداه على مكان نجس يجوز.
وكذلك قالوا في المأموم إذا كان أطول من الإمام وصلى بجنبه وهو بحال لو سجد يقع رأسه قبل رأس الإمام فصلاته جائزة، فقد اعتبروا العدم في هذه المسائل فكذا في مسألة «الكتاب» .

ونظير مسألة «الكتاب» : ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» إذا كان الإمام على الدكان والقوم على الأرض أو كان الإمام على الأرض والقوم على الدكان، ففي الفصل الأول يكره رواية واحدة وفي الفصل الثاني روايتان في رواية «الأصل» يكره، وذكر الطحاوي في «مختصره» أنه لا يكره فقال بعض مشايخنا رحمهم الله: وإنما يكره.
أن يكون الإمام وحده على الدكان أو وجد على الأرض، أما إذا كان بعض القوم مع الإمام فلا بأس، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله فيما إذا كان القوم على الدكان إنما يكره على رواية «الأصل» إذا لم يكن للقوم فيه عذر أما عند العذر، فلا يكره كما في الجمعة، فإن القوم يقومون على الرفوف والإمام على الأرض ولم ينكر عليهم أحد من الأئمة لضيق المكان.
وحكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله نظير هذا، فإنه كان يقول: الصلاة على الرفوف في المسجد الجامع من غير ضرورة مكروه وعند الضرورة بأن امتلأ المسجد، ولم يجد موضعاً يصلي فيه فلا بأس به، وهكذا حكي عن الفقيه أبي الليث رحمه الله في مسألة الطاق، فإنه كان يقول: إذا تحققت الضرورة بأن ضاق المسجد على القوم، والإمام يقوم في الطاق لا يكره، ولم يذكر محمد في «الأصل» الدكان تقديراً، وذكر شيخ الإسلام عن الطحاوي أنه قال: إن كان دون قامة الرجل لا يكره....، وإن كان مثل قامة الرجل إن كان الإمام على الدكان يكره رواية واحدة، وإن كان القوم على الدكان ففيه روايتان على ما مرّ.
قال رحمه الله: وهكذا روي عن أبي يوسف أنه قدّر الدكان بهذا، وذكر شمس الأئمة الحلواني عن الطحاوي قال رحمه الله: إن الكراهة فيما إذا جاوزت الدكان قدر القامة الوسط وإن كان دون ذلك لا يكره، قال رحمه الله: وقد قال بعض مشايخنا: إذا كان قدر ذراع يكره وإن كان دون ذلك لا يكره.
ويكره للمقتدي إذا كان وحده أن يقوم على يسار الإمام وخلفه، فإن السنّة أن يقوم على يمينه وكذا يكره للمنفرد أن يصلي أن بقوم في خلال صفوف الجماعة فخالفهم في القيام والقعود وكذا يكره للمقتدي أن يقوم خلف الصفوف وحده إذا وجد فرجة في

(1/381)


الصفوف، وإن لم يجد فرجة في الصفوف، روى محمد بن شجاع والحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه لا يكره فإن جر أحداً من الصف إلى نفسه وقام معه، فذلك أولى، وتكره الصلاة في طرق العامة، وكذا تكره الصلاة في الصحراء من غير سترة، ومقدار السترة تأتي بعد هذا في فصل على حِدَة.
ويكره للرجل أن يأم قوماً هم له كارهون، وكذا يكره له أن يتنقل على قولهم بالتطويل وكذا يكره له أن يخفف عليهم على وجهٍ يعجلهم عن إكمال سننهما، وكذا يكره له أن (يحيج) القوم إلى الفتح عليه، ويقرأها ... فيه بأن عرض له شيء انتقل إلى غيره أو ركع إن قرأها تكفيه، وكذا يكره له أن يمكث في مكانه بعدما سلم طويلاً. فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام «كان لا يمكث في مكان صلاته (60أ1) بعدما سلم. ممقدار أن يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والكرام» ، فبعد ذلك ينظر إن كان في صلاة يتنقل بعدها يباشر وينتقل وإن كان في صلاة لا يتنفل بعدها انحرف واستقبل القوم إن لم يخلو من يصلي، فإنه لو حادى من يصلي يكره ذلك. والأصل فيما روى ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلاً يصلي وآخر يواجهه فعلاهما بالدرة. والأولى للقوم أن ينحرفوا عن أمكنتهم، فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: «أيعجز أحدكم إذا فرغ من صلاته أن يتقدم أو يتأخر» والله أعلم.
فصل: في بيان ما يفسد الصلاة وما لا يفسد
يجب أن يعلم بأن ما يفسد الصلاة نوعان: قول وفعل.

فنبدأ بالقول، فنقول: إذا تكلم في صلاته ناسياً أو عامداً أو خطأً أو قاصداً قليلاً أو كثيراً تكلم لإصلاح صلاته بأن قام الإمام في موضع بالقعود، فقال اقعد أو قعد والإمام في موضع القيام، فقال له، المقتدي، قم أولاً لإصلاح صلاته ويكون الكلام من كلام الناس استقبل الصلاة عندنا لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام قال: «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» وهذا قد تكلم فلا شيء في ظاهر هذا الحديث.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قدم من الحبشة فوجد رسول الله عليه السلام في الصلاة فسلم عليه فلم يرد عليه الصلاة والسلام فقال ابن مسعود فأخذني ما قرب وما بعد. فلما فرغ عليه الصلاة والسلام قال لي: «يا ابن مسعود إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن من جملة ما أحدث أن لا يتكلم في صلاتنا، وهذا إذا

(1/382)


تكلم على وجه يسمع منه، فأما إذا تكلم على وجه لا يسمع منه إن كان بحيث يسمع نفسه تفسد صلاته، وإن كان بحيث لا يسمع نفسه إن لم يصحح الحروف لا يضره، وإن صحح الحروف.
حكي عن الكرخي: أنه تفسد صلاته، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه لا تفسد صلاته، والاختلاف في هذه المسألة نظير الاختلاف فيما إذا قرأ في صلاته ولم يسمع نفسه هل تجوز صلاته؟.
وفي «النوازل» إذا تكلم في الصلاة وهو في النوم تفسد صلاته هو المختار؛ لأن الكلام قاطع للصلاة مطلقاً. قال عليه السلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» .
وإذا عطس رجل فقال له رجل في الصلاة: يرحمك الله فسدت صلاته، ذكر المسألة في «الجامع الصغير» من غير ذكر خلاف، وذكر في موضع آخر، وقال أبو يوسف: لا تفسد صلاته، وجه قول أبي يوسف: أنه لم يدخل في الصلاة ما ليس منها، لأنه دعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا مما يوجد في الصلاة.

وجه قول أبي حنيفة ومحمد: حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: «قدمت من الحبشة فعطس رجل بجنبي في الصلاة فقلت يرحمك الله فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة قال: «إن صلاتنا هذه لا تصلح لكلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» .
وفي «فتاوى الفضلي» : إذا عطس الرجل فقال رجل في الصلاة الحمد لله لا تفسد صلاته، وإن أراد به الجواب؛ لأن جواب غير العاطس للعاطس ليس هو التحميد فلم يأتِ بما يصير به مجيباً للعاطس فلم يكن جواباً.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا عطس الرجل في الصلاة حمد الله تعالى، فإن كان وجد ما يباشر به وحرك لسانه وإن شاء أعلن وإن كان خلف إمام أسر به وحرك لسانه، وقال أبو يوسف بعد ذلك: إن كان يصلي وحده أو خلف الإمام فعطس فليحمد الله في نفسه ولا يتكلم فيه، وقال أبو حنيفة: يصمت، وعن أبي حنيفة في العاطس يحمد الله تعالى في نفسه ولا يحرك لسانه فلو حرك تفسد صلاته، وعن بعض المشايخ: إن المصلي إذا عطس وقال لنفسه يرحمك الله يعني لا تفسد صلاته؛ لأن هذا ليس بكلام؛ لأن الإنسان لا يتكلم مع نفسه فصار كأنه قال: يرحمني الله أو قال الحمد لله، وهناك لا تفسد صلاته كذا ههنا، ولو عطس رجل في الصلاة فقال له رجل في الصلاة يرحمك الله، فقال العاطس آمين فسدت صلاته؛ لأنه إجابة.

(1/383)


وإذا أخبر المصلي بخبر يسوؤه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وأراد جوابه بأن قال له: مات أبوك أو قيل له ماتت أمك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا يقطع الصلاة، وإن لم يرد جوابه لا تقطع الصلاة وذكر المسألة من غير ذلك وخلاف.

ولو أخبر بخبر يسوؤه بأن قيل له قدم أبوك، فقال: الحمد لله وأراد جوابه قطع الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا تقطع، وعلى الاختلاف إذا أُخبر بما يعجبه فقال: سبحان الله أو قال: لا إله إلا الله وأراد جوابه فمن مشايخنا من قال مسألة الاسترجاع على الخلاف أيضاً، وهذا القائل لا يحتاج إلى الفرق بين مسألة الاسترجاع وبين تباين المسألتين.
ومنهم من قال: مسألة الاسترجاع على الوفاق وهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف، والفرق له أن الاسترجاع لإظهار المصيبة الصلاة لأجله، والتحميد لإظهار الشكر والصلاة شرعت لأجله، ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن الجواب منتظم الكلام فيصير كأنه قال: الحمد لله على قدوم أبي وأشباه ذلك، ولو صرح بذلك أليس إنه تفسد صلاته كذا ههنا، أو يقول: الكلام ينبني على قصد المتكلم، فمتى قصد بما قال المتعجب يجعل متعجباً لا مُسبِّحاً كأنه قال: سبحان الله على قصد التعجب كان متعجباً لا مسبحاً.
ألا ترى أن من رأى رجلاً اسمه يحيى وبين يديه كتاب موضوع قال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد خطابه لا يشكل على أَحَدٍ أنه متكلم وليس بقارىء، وكذا إذا كان الرجل في سفينة؛ لأنه خارج السفينة قال يا بني إركب معنا وأراد خطابه يُجعل متكلماً لا قارئاً وكذا إذا كان تحت المصلي رجل اسمه موسى وفي يديه عصا قال: وما تلك بيمينك يا موسى وأراد خطابه يجعل متكلماً لا قارئاً.
وكذلك لو قال رجل للمصلي بأي موضع مررت فقال بئر معطلة وقصر مشيد وأراد جوابه يجعل متكلماً لا قارئاً.

وكذلك إذا أنشد شعراً فيه ذكر الله تعالى نحو قوله: تبارك ذو العلى والكبر ... يجعل متكلماً حتى تفسد صلاته في هذه الوجوه كذا في مسألتنا، وكذلك إذا قرع الباب على المصلي ونوى من الخارج فقال: ومن دخله كان آمناً وأراد به الجواب والإذن بالدخول تفسد صلاته، وإن أراد قراءة القرآن في هذه السور كلها لا تفسد صلاته، وفي القدوري يقول: وإذا عرض للمصلي شيء في صلاته فذكر الله تعالى يريد به خطاب الغير نحو أن يزجره عن فعل أو أَمَرهُ به فسدت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف لا تفسد صلاته.
وإن عرض للإمام فسبح له، فلا بأس به، وكذا إذا سبح يَعْلَمُ غيره أنه في الصلاة لا تفسد صلاته، ولا يسبح الإمام إذا قام للأخريين، وإذا دعا في صلاته فسأل الله تعالى

(1/384)


الرزق والعافية لا تفسد صلاته، واعلم بأن الدعاء في الصلاة مندوب إليه، قال عليه السلام: «وأما في سجودك فاجتهد في الدعاء، فإنه أرجى أن يستجاب لك بعدها» .
قال في «الأصل» إذا دعا بما يشبه في القرآن ولا يشبه كلام الناس لا تفسد صلاته؛ لأنه ذِكْرٌ وذكر الله تعالى لا يكون مفسداً للصلاة، وإن دعا بما يشبه كلام الناس تفسد صلاته لحديث معاوية بن الحكم السلمي أنه أجاب العاطس في الصلاة وقال: يرحمك الله، فلما فرغ رسول الله عليه السلام من صلاته قال لمعاوية؛ «إن صلاتنا هذه لا تصلح لشيء من كلام الناس إنما هي التهليل والتسبيح وقراءة القرآن» فقد جعل رسول الله عليه السلام قوله يرحمك الله من كلام الناس.

والفرق فيما يشبه ما في القرآن وبين ما يشبه كلام الناس أن كل ما يسأل به الله تعالى ولا يسأل به غيره فهذا مما يشبه ما في القرآن، وذلك نحو قوله: اللهم اغفر لي، اللهم أدخلني الجنة؛ لأنّ المغفرة والإدخال في الجنة لا يسأل إلا من الله تعالى، وكل ما يسأل به الله تعالى ويسأل به غيره فهذا من جملة ما يشبه كلام الناس فيفسد الصلاة، وذلك نحو قوله: اللهم زوجني فلانة، اللهم اكسُني ثوباً، اللهم اقضِ ديني؛ لأن هذا كما يسأل به من الله تعالى لا يُسأل به مَنْ غيره يقول الرجل لغيره: زوجني ابنتك، اكسني ثوبك، اقضِ ديني، والذي يؤيد ما قلنا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (60ب1) أنه قال لرسول الله عليه السلام: «علمني يا رسول الله دعاء أدعو به في صلاتي فقال: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» .
وذكر في «الجامع الصغير» : ادع في الصلاة بكل شيء في القرآن وبنحوه، نُقل عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله، فإنه كان يقول: كل دعاء في القرآن إذا دعا المصلي بذلك الدعاء لا تفسد صلاته، وكان يقول: إذا قال: اللهم اغفر لوالدي لا تفسد صلاته؛ لأنه في القرآن، وكذلك إذا قال: اللهم اغفر لأبي، ولو قال: اللهم اغفر لأخي تفسد صلاته، ولو قال: اللهم إغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات لا تفسد صلاته؛ لأنه في القرآن ولو قال: اللهم إغفر لزيد أو قال لعمرو تفسد صلاته؛ لأنه ليس في القرآن ولو قال اللهم ارزقني من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها لا تفسد صلاته؛ لأن عينه في القرآن، ولو قال: اللهم ارزقني بقلاً وقثّاء وعدساً وبصلاً؛ لأن عين هذا اللفظ ليس في القرآن.

وقول محمد في «الأصل» : إذا دعا بما يشبه ما في القرآن لم يرد به حقيقة..؛ لأن

(1/385)


الدعاء كلام العباد. والقرآن كلام الله وكلام العباد لا يشبه كلام الله، ولكن أراد به إذا دعا بدعوات يكون معناها الدعوات المذكورة في القرآن، ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أنه إذا دعا بالدعوات التي ذكرها محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: اللهم أكرمني، اللهم أنعِم عليّ، اللهم عافني من النار، اللهم أصلح أمري، اللهم سددني ووفقني، اللهم اصرف عني شَرَّ كل ذي شر، أعوذ بالله من شر الجن والإنس، اللهم ارزقني حج بيتك وجهاداً في سبيلك، اللهم استعملني في طاعتك وطاعة رسولك، اللهم اجعلنا عابدين حامدين شاكرين، اللهم ارزقنا وأنت خير الرازقين فهذا كلّه حسن ولا يقطع الصلاة.
وإذا نفخ التراب من موضع سجوده فعلى وجهين:
إن كان نفخاً لا يسمع لا تفسد صلاته؛ لأن هذا نَفَسٌ لا بُدّ للحي منه. وإن كان نفخاً يسمع تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، فظن مشايخنا أن النفخ المسموع ما يكون له حروفاً مهجأة نحو قوله أف تف ثف وغير المسموع ما لا يكون له حروفاً مهجأة وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وبعض مشايخنا لم يشترط، والنفخ المسموع أن يكون له حروفاً مهجأة وإليه ذهب شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده.
ووجه ذلك: أن الكلام ما يكون له حروفاً مهجأة بصوت مسموع فالصوت: شطر الكلام كالحروف من حيث إنه لا يحصل الإفهام إلا بهما، ثم إقامة الحروف باللسان بدون الصوت مفسد فكذا الصوت المسموع الخارج من مخرج الكلام يجب أن يكون مفسداً، أو كأنه قال إلى قول الكرخي فيما إذا صحح الحروف بلسانه ولم يسمع نفسه، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: لا تفسد صلاته إلا إذا أراد به التأفيف يريد به لغة العرب أُفْ كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (الإسراء: 23) وقال القائل: إذا..... إن.... مالت الريح هكذا، وكذا مال مع الريح إن مالت فأما إذا أراد.... موضع سجوده عن التراب لا يقطع صلاته ثم رجع وقال لا تفسد صلاته. وإن أراد به التأفيف لغة العرب.
ووجه هذا القول ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في صلاة الكسوف «أف أف ثم قال رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم» وتقدم وتأخر ومضى على صلاته وقاسه بالتنحنح والعطاس، فإنه لا يقطع الصلاة، وإن كان مسموعاً وله حروف مهجأة، حجة أبي حنيفة ومحمد رحمه الله: أن رسول الله عليه السلام مرّ بمولى يقال له رباح وهو ينفخ التراب، فقال: أما علمت أن من نفخ في صلاته فقد تكلّم.
فلأن قوله أف من جنس كلام الناس؛ لأنها حروف مهجأة تذكر لمقصود.

(1/386)


قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (الإسراء: 23) والكلام قاطع للصلاة. قال الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله ذكر النفخ في «الكتاب» ولم يذكر تفسيره، قال رحمه الله: وتفسير أف توقف.
والعطاس لا يقطع الصلاة على كل؛ لأنه مما لا يمكن دفعة عنه، فكان عفواً، والتنحنح إن كان مدفوعاً إليه لا يقطع الصلاة على كل حال أيضاً؛ لأنه مما لا يمكن الامتناع عنه، وإن لم يكن مدفوعاً إليه إلا أنه لإصلاح إلحاق ليتمكن من القراءة إن ظهر له حروف نحو قوله أح أح وتكلف لذلك كان الفقيه إسماعيل الزاهد يقول: تقطع الصلاة عندهما؛ لأنها حروف مهجأة وقال غيره من المشايخ: لا تقطع وإن لم تظهر له حروف مهجأة لا تقطع الصلاة عندهما على قياس ما ذكره شمس الأئمة، وإذا ساق الدابة بقوله هرا وساق الكلب فقال سر تقطع عندهما أيضاً؛ لأن له حروف مهجأة، وإن ساقها بما ليس له حروف مهجات لا تقطع عندهما على ما ذكره شمس الأئمة، وكذا إذا دعى الهرة بما له حروف مهجأة تقطع الصلاة عندهما، وإن دعاها بما ليس له حروف مهجأة لا تقطع.
وكذلك إذا يغيرها بما له حروف مهجأة قطع عندهما، وإذا تجشّأ ولم يكن معفواً به وحصل به حروف مهجاة تقطع الصلاة عندهما، وإن لم يكن معفواً به أو كان؛ إلا أنه لم يحصل به حروف لا تقطع الصلاة عندهما.

ولو أَنّ في صلاته أو تأَوّه أو بكى وارتفع بكاؤه، وإن كان من ذكر الجنة والنار فصلاته تامّة، وإن كان ذلك من وجع أو مصيبة، فسدت صلاته عند أبي حنيفة ومحمد وتفسير الأنين أن يقول آه آه، وتفسير التأوه إن يقول أوه. ولهما كان الجواب كما قلنا لحديث عائشة فإنها.. في صلاته فقالت إن كان لخشية الله تعالى لا تفسد صلاته، وإن كان لألم فسدت صلاته وهنا من ما كان من ذكر الجنة والتأوه فهو لخشية الله فيكون في معنى التسبيح؛ لأنه لتعظيم الله تعالى فَعَلَ ما فعل فكان له حكم التسبيح وقد قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:114) وكان إبراهيم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.
فأما ما كان من وجع أو مصيبة فهو جزع فيصير من جملة كلام الناس لوجود أحدهما فتقطع الصلاة، وعن أبي يوسف أنه إذا كان يمكن الامتناع تقطع الصلاة، وإذا كان لا يمكن لا تقطع الصلاة، وعن محمد ما هو قريب منه، فإنه قال: إذا كان المرض خفيفاً تقطع الصلاة وإن كان ثقيلاً لا تقطع الصلاة؛ لأنه لا يمكنه القعود والقيام إلا بالأنين.
وسئل محمد بن سلمة عن ذلك فقال: لا تقطع الصلاة وعلّل فقال: لأن هذا ما يبتلي به له المريض إذا اشتدّ عليه المرض لا يمكنه الامتناع عنه والمشهور عن أبي يوسف روايتان.
أحدهما: أن الأنين يوجب قطع الصلاة سواء كان من وجع أو ذكر الجنة، بعض

(1/387)


مشايخنا قالوا في «شرح الجامع الصغير» : الاختلاف في هذه المسألة بناءً على اختلافهم في التسبيح في الصلاة. عند أبي حنيفة ومحمد تقطع الصلاة وعند أبي يوسف لا تقطع.
الرواية الثانية: إذا كان الأنين بحرفين نحو آه آه لا تفسد الصلاة، وإذا كان بثلاثة أحرف نحو قوله أوه تفسد الصلاة عنده وعند بعض المشايخ سواء كان من وجع أو ذكر النار هذا بناءً على أن كل كلمة اشتملت على حرفين زائدين أو أحدها أصلية والأخرى زائدة لا تقطع الصلاة عند أبي يوسف وعند محمد تقطع.

وكل كلمة اشتملت على ثلاثة أحرف وما زاد عليها، ففي الزيادة على الثلاث تفسد الصلاة عند أبي يوسف بلا خلاف بين المشايخ، وفي الثلاث اختلاف المشايخ على قوله والحروف الزوائد عشرة جمعها البغداديون في قوله: «اليوم تنساها» وقوله أوه يتولد منه أربعة أحرف؛ لأن التشديد يقوم مقام حرف واحد، وأوه بدون التشديد يتولد منه ثلاثة أحرف فيكون في أوه بدون التشديد خلاف المشايخ، قول أبي يوسف: وفي أوه مع التشديد اتفاقاً بين المشايخ، فأبو يوسف يقول: مبنى كلام العرب على ثلاثة أحرف.
أحدها: ليبتدأ به.
والثاني: ليحسن به الكلام.
والثالث: ليست عليه، إلا أنه إذا تكلم بحرفين أصيلين (61أ1) .
وحد أكثر ما يبنى عليه كلام العرب فأقيم مقام كله، وبه فارق ما إذا كان أحدهما زائداً لأن بالنظر إلى ما يبنى عليه الكلام حد الأحرف واحد، والكلام لا يقوم بحرف واحد.
والجواب عن هذا أن الزوائد من الحروف لو كانت تلغى لكان لا تفسد صلاته إذا قال أوه؛ لأن جمعها زوائد، وحكي عن الشيخ الإمام أبي حفص الكبير رحمه الله أنه كان يقول: إذا تأوه في صلاته لا تفسد صلاته وأنه خلاف الرواية، وإن جرى على لسانه حرف واحد لا تفسد صلاته عند الكل، هكذا ذكر المشايخ في شروحهم.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في «شرحه» : أن على قول أبي حنيفة ومحمد تفسد الصلاة بالصوت المسموع بحرف واحد أولى، عن هذه المسألة تصريح على مسألة النفخ فرعا أنه المصلي إذا قال: أف مخففاً لا تفسد صلاته عند أبي يوسف بلا خلاف بين المشايخ وإذا قال: أف مشدداً ينبغي أن يكون فيه اختلاف المشايخ، وعندهما تفسد الصلاة في المخفف والمشدد جميعاً والله أعلم.

قال محمد رحمه الله: في الرجل يستفتحه الرجل وهو في الصلاة فيفتح، قال هنا كلام أصح علم بأن فتح المصلي لا يخلو من ثلاثة أحرف، إما أن يكون على إمامه أو على رجل ليس هو في الصلاة أصلاً، أو على رجل هو في صلاة غير صلاة الفاتح، فإن كان الفتح على إمامه لا تفسد صلاته لقوله عليه السلام: «إذا استطعمك الإمام فأطعمه»

(1/388)


أي: إذا استفتح منك فافتح عليه، وعن عمر رضي الله عنه» أنه قرأ سورة النجم وسجد فلما عاد إلى القيام ارتج عليه فلُقِّنَ إذا زلزلت فقرأها» ولم يُنكر عليه؛ فلأنه يبتغي إصلاح صلاته؛ لأنه لو لم يفتح عليه ربما يجري على لسانه شيء تفسد صلاته، وفي إصلاح صلاة الإمام صلاح صلاة نفسه، وما يرجع إلى إصلاح صلاة المصلي لا تفسد الصلاة وإنْ كَثُر.
ألا ترى أنه إذا سبقه الحدث فذهب وتوضأ لا تفسد صلاته كذا ههنا، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا كان فيه إصلاح صلاته بأن أُرْتج على الإمام قبل أن يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة أو بعد ما قرأ إلا أنه لم ينتقل إلى آية أُخرى، أما إذا لم يكن فيه إصلاح صلاته بأن قرأ الإمام مقدار ما تجوز به الصلاة أو انتقل إلى آية أخرى تفسد صلاته؛ لأنه تعليم في غير موضع الحاجة.
وبعضهم قالوا: لا تفسد صلاته على أي حال؛ لأنه يحتاج إليه لإصلاح صلاته؛ لأنه ربما يقرأ ما يفسد صلاته لما اشتبه عليه الصواب فكان بمنزلة الفتح في موضع الاستفتاح عند الحاجة ولو أخذ الإمام من الفاتح بعدما انتقل إلى آية أخرى هل تفسد صلاة الإمام حكي عن القاضي الإمام أبي بكر.... أنه قال: تفسد وغيره من المشايخ قالوا: لا تفسد.
ولا ينبغي للإمام أن يلجأ القوم إلى الفتح؛ لأنه يلجئهم إلى القراءة خلفه وأنه مكروه، ولكن إن قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة يركع، وإن لم يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة ينتقل إلى آية أخرى؛ لأن الواجب قراءة القرآن مطلقاً والكل قرآن.

ولا ينبغي للمقتدي أن يفتح على الإمام من ساعته؛ لأنه ربما يتذكر الإنسان من ساعته فتكون قراءته خلفه قراءة من غير حاجة.
وإن كان الفتح على رجل ليس هو في الصلاة فهو على وجهين: إن أراد التعليم تفسد صلاته وإن لم يرد به التعليم وإنما أراد به قراءة القرآن لا تفسد صلاته.
أما إذا أراد به التعليم؛ لأنه أدخل في الصلاة ما ليس من الصلاة في الصلاة يوجب فساد الصلاة؛ فلأن هذا من كلام الناس؛ لأن معنى المسألة إن غير المصلي استفتح من المصلي فيصير فتح المصلي جواباً عرفاً فيصير من كلام الناس حقيقة هذين المعنيين بأن تفسد صلاته إذا فتح على إمامه، لكن سقط اعتبار التعليم على المعنى الأول وسقط اعتبار الجواب على المعنى الثاني بالأحاديث ولمكان الحاجة إلى إصلاح صلاة نفسه، ولا نصّ في هذه الصورة ولا حاجة إلى إصلاح صلاة نفسه فيُعمل بقضيّة القياس.
وأما إذا أراد به قراءة القرآن لا تفسد صلاته، أما على المعنى الأول: فلأنه انتصب معلماً في الصلاة.
وأما على المعنى الثاني: فلأنه ليس من كلام الناس بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر

(1/389)


من الجواب فيما أراد به التعليم يجب أن يكون قول أبي حنيفة ومحمد، أما على قول أبي يوسف: ينبغي أن لا تفسد؛ لأنه قرآن فلا يتغير لقصد القارىء، وأراد أصل المسألة إذا أجاب رجلاً في الصلاة بلا إله إلا الله.
وإن كان الفتح على رجل هو في صلاة الإمام فهو على هذين الوجهين أيضاً إن أراد به التعليم تفسد صلاته إلا على قول أبي يوسف رحمه الله على ما ذكره بعض المشايخ.

وإن أراد به قراءة القرآن لا تفسد، وهل تفسد صلاة المستفتح في هذه الصورة وهو ما إذا لم يكن في صلاة واحدة لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في شيء من الكتب، وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار في «شرح كتاب الصلاة» : أنها تفسد؛ لأنه انتصب متعلماً لأن المستفتح كأنه يقول لغيره ماذا فذكرني، ألا ترى أنه أفسد صلاة الفاتح لانتصابه معلماً، وذكر القدوري في «شرحه» : إذا فتح على غير الإمام فسدت صلاته من غير فصل.
ثم لم يشترط في «الجامع الصغير» للتكرار في الفتح، وشرط في «الأصل» فقال: إذا فتح غير مرة فما ذكر في «الأصل» يدل على أن بالفتح مرة لا يفسد الصلاة، والمعنى الثاني يؤيد ما ذكر في «الجامع الصغير» ؛ لأن الكلام يضاد الصلاة، والشيء يبطل بضده قلّ أو كثر.
والمعنى الأول: يؤيد ما ذكر في «الأصل» ؛ لأنه إذا قال ما ليس من الصلاة في الصلاة إنما يوجب فساد الصلاة إذاً، أما إذا قلّ فلا، والله أعلم.
وإذا أذّن في الصلاة وأراد به الأذان فسدت صلاته في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: لا تفسد حتى يقول: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، وكذلك إذا سمع المصلي وقال مثل ما قال المؤذن وأراد به جواب المؤذن فسدت صلاته في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: لا تفسد حتى يقول حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح.

وإذا جرى على لسان المصلي نعم، فإن كان ذلك يجري على لسانه في غير الصلاة فسدت صلاته؛ لأنه من كلامه، وإن لم يكن ذلك عادة له لا تفسد صلاته؛ لأنه قرآن وإن قال بالفارسية أرى هو بمنزلة قوله نعم، إن كان ذلك عادة له تفسد صلاته وإلا فلا، وكان الفقيه أبو الليث يقول: ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف الذي عرف فيما إذا قرأ القرآن بالفارسية، والصحيح ما ذكرنا؛ لأن ... إذا جُعلت من القرآن صار كأنه قرأ القرآن بالفارسية وثمة لا تفسد بالإجماع، إنما الاختلاف في الاعتبار به، المصلي إذا وسوسه الشيطان، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إن كان ذلك في أمر الآخرة لا تفسد صلاته، وإن كان في أمر الصلاة تفسد صلاته، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال المصلي في صلاته صلى الله على محمد إن لم يكن مجيباً لأحد لا تفسد صلاته؛ لأنه دعا بصيغته ولم يقل جواباً حتى يغيّر والله أعلم.

(1/390)


وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا سمع اسم النبي فصلى عليه وهو في الصلاة فسدت صلاته لأن هذه إجابة.
ولو صلى عليه ولم يُسمع اسمه، فهذا ليس بإجابة فلا تفسد صلاته، وإذا قرأ المصلي من المصحف فسدت صلاته، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد؛ لا تفسد.
حجتهما: أن عائشة أمرت ذكوان بإمامتها وكان ذكوان يقرأ من المصحف، ولأبي حنيفة وجهان:
أحدها: إن حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه والتفكر ليفهم ما فيه فيقرأ عمل كثير، والعمل الكثير مفسد لما نبيّن بعد هذا، وعلى هذا الطريق يفرق الحال بينهما إذا كان المصحف في يديه أو بين يديه أو قرأ من المحراب والله أعلم.

الوجه الثاني: إنه تلقّن من مصحف فكأنه تلقن من معلم آخر، وذلك يُفسِد الصلاة فهذا كذلك، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله يقول (61ب1) . في التعليل لأبي حنيفة: أجمعنا على أن الرجل إذا كان يمكنه أن يقرأ من المصحف ولا يمكنه أن يقرأ عن ظهر قلبه أنه لو صلى بغير قراءة أنه يجد به، ولو كانت القراءة من المصحف جائزة لما أبيح له الصلاة بغير قراءة، لكن الظاهر أنهما لا يسلّمان هذه المسألة وبه قال بعض المشايخ، وتأويل حديث ذكوان أنه كان ينظر في المصحف ويتلقن ثم يقوم ويصلي يدل عليه أن هذا مكروه عندهما ولا يظن بعائشة أنها كانت ترضى بالمكروه، وإذا كان المكتوب على المحراب غير القرآن بأن كان المكتوب عليه كن في صلاتك خاشعاً، فنظر المصلي في ذلك وتأمل حتى فهم.
قال بعض مشايخنا على قياس قول أبي يوسف: لا تفسد وعلى قياس قول محمد: تفسد، وبناء بنوا هذه المسألة على مسألة اليمين، فإن من حَلَفَ لا يقرأ كتاب فلان فوصل إليه كتاب فلان ... ونظر فيه حتى فهم، ولم يقرأ بلسانه: قال أبو يوسف: لا يحنث في يمينه؛ لأنه لم يقرأ حقيقة، وقال محمد: يحنث؛ لأنه وجد معنى القراءة وهو يفهم ما في الكتاب وهو المقصود من اليمين، فعلى تلك المسألة يجعل قارئاً هنا عند محمد خلافاً لأبي يوسف، وعلى قياس هذا ينبغي للفقيه أن لا يضَّيع جزء، وتعليقه بين يديه في الصلاة؛ لأنه ربما يقع نظره على ما في الجزء ويفهم ذلك فيدخل فيه شبهة الاختلاف.
ومن المشايخ من قال على قول محمد: لا تفسد صلاته، وإن فهم ما في المصحف وما على المحراب، وروي ذلك عن محمد نصّاً، وقد روي هذا القائل عن محمد عقيب هذا القول: إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر وعلم ما فيه لا يحنث في يمينه بخلاف قراءة الكتاب.
والفرق: أن المقصود من قراءة الكتاب لفلان يفهم ما فيه، وهو معنى القراءة لا نفس القرآن، فانصرف يمينه إليه أما نفس قراءة القرآن مقصود من غير أن يفهم ويعلم نفس

(1/391)


القرآن فانصرف اليمين إلى القراءة باللسان ولم توجد القراءة باللسان، وهذا إذا نظر مستفهماً، فأما إذا نظر غير مستفهم وفهم لا تفسد صلاته بلا خلاف ثم لم يفصّل في «الكتاب» في هذه المسألة، بينما لو قرأ قليلاً أو كثيراً.
قال بعض مشايخنا: إذا قرأ مقدار آية تامة تفسد صلاته عند أبي حنيفة وفيما دون ذلك لا تفسد، وقال بعضهم: إذا قرأ مقدار الفاتحة تفسد صلاته، وفيما دون ذلك لا تفسد وكذلك لم يفصّل في «الكتاب» بين ما إذا لم يكن حافظاً للقرآن وبينما إذا كان حافظاً للقرآن.
قال الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: إذا كان حافظاً للقرآن، ومع هذا نظر في المصحف أو في الكتاب المكتوب على المحراب، وقرأ جازت صلاته؛ لأن هذه القراءة مضافة إلى حفظه لا إلى تلقّيه من المصحف، وإن نظر إلى شيء مكتوب وفهم ما فيه، وإن نظر غير مستفهم لكنه فهم لا تفسد، وإن نظر مستفهماً وفهم تفسد عند محمد، وبه أخذ الشيخ أبو الليث، ولا تفسد عند أبي يوسف، وبه أخذ بعض مشايخنا، وعلى هذا الطريق لا يعرف الحال بين ما إذا كان المصحف في يديه أو بين يديه أو قرأ من المحراب.
وفي «العيون» : المصلي إذا سلم على أحد أو ردّ السلام على غيره فسدت صلاته، فرأيت في موضع آخر إذا أراد المصلي أن يسلم على غيره...... السلام يذكر أنه لا ينبغي أن يسلم وهو في الصلاة فيسكت تفسد صلاته والله أعلم.
النوع الثاني
في بيان الأفعال المفسدة

ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» روى ابن ثعلبة عن الأزرق بن قيس أنه رأى أبا برزة يصلي آخذاً بقياد فرسه حتى صلى ركعتين، ثم انسل قياد فرسه من يده، فمضى الفرس على القبلة فتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياده ثم رجع ناكصاً على عقيبه حتى صلى الركعتين الباقيتين.

قال محمد في «السير الكبير» : وبهذا نأخذ الصلاة تجري مع ما صنع لا يفسدها الذي صنع؛ لأنه رجع على عقيبه ولم يستدبر القبلة بوجهه أو.... حتى جعلها خلف ظهره فسدت صلاته ثم ليس في الحديث فضل بين المشي القليل والكثير فهذا يبين لك أن المشي في الصلاة مستقبل القبلة لا يوجب فساد الصلاة وإن كثر.
بعض مشايخنا أوَّلوا هذا الحديث واختلفوا فيما بينهم في التأويل فمنهم من قال: تأويله أنه لم يجاوز الصفوف أو لم يجاوز مع سجوده، أما إذا جاوز ذلك، فإن صلاته تفسد؛ لأن موضع سجوده في الفضاء مصلاه، وكذلك موضع الصفوف كالمسجد وخطأه في مصلاه عفوٌ كما قالوا في المصلي: إذا ظن أنه رعف في صلاته قدمت للبناء مستقبل

(1/392)


القبلة ثم علم أنه ما رعف قبل، إن لم يخرج من المسجد ثم عاد إلى مكانه لا تفسد صلاته، ولو خرج من المسجد ثم عاد تفسد صلاته، وكذلك إذا كان في الفضاء فإن جاوز الصفوف أو موضع سجوده فسدت صلاته وإن لم يجاوز لا تفسد.
وكذلك إذا رأى سواداً في صلاته فظن أنه عدو ثم ظهر أنه سواد نَفَرٍ، فإن جاوز الصفوف أو موضع سجوده تفسد صلاته، وإن لم يجاوز لا تفسد صلاته.
ومنهم من قال: تأويله أنّ مشيه لم يكن مبتدأ حقاً بل مشى خطوة وسكن ثم مشى خطوة وذلك قليل، وإنه لا يوجب فساد الصلاة، فأما إذا كان المشي ميلاً حقاً تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة؛ لأنه كثر العمل، ومنهم من قال: حديث أبو برزة محمول على أنه مشى مقدار ما يكون بين الصفّين ولا يستدبر القبلة لا تفسد الصلاة. وهذا كما قالوا في رجل كان في الصف الثاني فرأى فُرجةً في الصف الأول فمشى إليها فَسَدَّها لم تفسد صلاته؛ لأنه مأمور بالموافقة في الصفوف قال عليه السلام: «تراصّوا في الصفوف» فلم يوجب ذلك فساد صلاته لما كان المشي مقدار ما بين الصفين. ولو كان في الصف الثالث، فرأى فرجة في الصف الأول فمشى إلى الصف الأول وسدّ تلك الفرجة تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة، ومن المشايخ من أخذ بظاهر هذا الحديث ولم يقل بالفساد قلّ المشي أو اكثر استحساناً.
والقياس: أن تفسد صلاته إذا كثر المشي كما لو انسلّ قياد الفرس من يده فمشى مشياً كثيراً، فإنّ هناك تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة إلا أنا تركنا القياس بحديث أبي برزة وإنه خص ماله العذر، ففي غير حالة العذر يعمل بقضية القياس، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي يحكي عن أستاذه أنه كان يقول بجواز الصلاة وإن مشى مستقبل القبلة بعد أن يكون غازياً، وهكذا الجواب في كل حاج أو مسافر كان سفره العبادة. وهذا كله إذا لم يستدبر القبلة.
فأما إذا استدبر القبلة فسدت صلاته، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا بأس بقتل العقرب في الصلاة، وذكر في «الأصل» وذكر في صلاة «الأصل» : قتل العقرب والحية في «الأصل» لا يفسدها، ولم يذكر في صلاة «الأصل» هل يُباح ذلك، ونص على الإباحة في «الجامع الصغير» في قتل العقرب ولم يذكر الحية.
واعلم بأن ها هنا حكمان: إباحة القتل، وفساد الصلاة.

فأما حكم الإباحة فمن مشايخنا من سوّى بين قتل العقرب والحية في حكم الإباحة وقال: كما يحل قتل العقرب في الصلاة يحل قتل الحية الخبيثة هي أن تكون بيضاء تمشي مستوياً، أو غير الخبيثة وهي إن تكون سوداء تمشي ملتوية في ذلك سواء وإليه مال الطحاوي في كتابه.
والأصل فيه قوله عليه السلام: «اقتلوا الأسودين الحية والعقرب ولو كنتم في

(1/393)


الصلاة» مطلقاً من غير فصل بين حية وحية، ومن مشايخنا من بين الحية والعقرب فقال: يحل قتل العقرب في الصلاة ولا يحل قتل الحية في الصلاة الجني وغير الجني في ذلك على السواء؛ لأن قتل العقرب يتأتى بعمل قليل بوضع النعل عليه وبغمزه كما فعل رسول الله عليه السلام، فإنه روي عن رسول الله عليه السلام كان يصلي فارغة عقرب فوضع نعله عليه وغمزه حتى قتله، وقتل الحية لا يتأتى إلا بمعالجة وعمل كثير فلا يفعل ذلك من غير ضرورة ومن المشايخ من يقول: يحل قتل غير الجني ولا يحل الجني و «الأصل» فيه قوله عليه السلام: «إياكم والحية البيضاء فإنها من الجن» وهذا القائل هكذا يقول في غير حالة الصلاة أنه يحل قتل غير الجني ولا يحل قتل الجني إلا بعد الإنذار والإعذار وهو أن يقول لها: خلي طريق المسلمين.

فإن أتى حينئذٍ يحل قتله. ومن يقول بحل قتل الجني وغير الجني في الصلاة كذلك يقول خارج الصلاة وهو الصحيح من المذهب (62أ1) لقوله عليه السلام: «اقتلوا الأسودين» من غير فصل، ولأن رسول الله عليه السلام عاهد الجن أن لا يدخلوا بيوت أمته وإذا دخلوا لم يظهروا لهم وإذا فعلوا ذلك لا ذمة لهم، فالذي يظهر نفسه لأمة رسول الله عليه السلام فقد نقض العهد، فيستحق القتل لذلك، قالوا: وإنما يباح قتل الحية والعقرب في الصلاة إذا مرّا بين يديه وخاف أن يؤذيه، فأما إذا كان لا يخاف الأذى يكره، وهكذا روي عن أبي حنيفة، ذكر الحسن بن زياد في كتاب الصلاة والمذكور ثمة عن أبي حنيفة وأكره قتل الحية والعقرب في الصلاة إلا أن يخاف أن يؤذيه، فيحمل ما ذكر هنا على هذه الحالة.
وأما حكم فساد الصلاة بالقتل فمن مشايخنا من قال: إنْ احتاج في القتل إلى المشي وإلى الضربات تفسد صلاته؛ لأن هذا عمل كثير والعمل الكثير مفسد للصلاة، وإن لم يحتج إلى للمشي والضربات الكثيرة بل وطئها برجله أو وضع نعله عليها وغمزها أو ضربها بحجرة ضربة واحدة لا تفسد؛ لأن هذا عمل يسير والعمل اليسير لا يفسد الصلاة.
ومن المشايخ من أطلق الجواب إطلاقاً كما أطلق محمد في «الأصل» ؛ لأن هذا عمل رخّص للمصلي فيه فهو كالمشي بعد الحدث والاستقبال من السير والتوضىء، وذلك في «الأصل» .
إذا رمى طائراً بحجر وهو في الصلاة أكره له ذلك وصلاته تامة، أم الكراهة فلأنه وليس من أعمال الصلاة وله بدٌّ منه وأما صلاته تامة؛ لأن هذا عمل قليل والعمل القليل لا

(1/394)


يفسد، ألا ترى أنه لو رمى إلى حية أو عقرب لا تفسد صلاته وإنما لا تفسد؛ لأنه عمل قليل كذا هنا إلا أنه ذكر الكراهية ها هنا ولم يذكر في قتل الحية والعقرب؛ لأنَّ الحية والعقرب مما يشغلان قلب المصلي عن صلاته فكان في قتلهما إصلاح صلاته فكان من أعمال صلاته فليس مكروهاً.

أما الطير لا يشغل قلب المصلي عن صلاته فلم يكن في قتله إصلاح صلاته وله منه بدّ فيكره قتل هذا إذا كان الحجر في يده ما إذا أخذ الحجر من الأرض ورمى به طيراً تفسد صلاته ولكن هذا خلاف رواية «الأصل» ، فإن محمداً رحمه الله في «الأصل» قال: وصلاته تامة ولم يفصل بينهما إذا كان الحجر في يده أو أخذه من الأرض.
وفي «الأصل» أيضاً: فإذا أخذ قوساً ورمى بها تفسد صلاته، قالوا وهذا إذا أخذ السهم ووضعه على الوَتَر ومدّ حتى رمى؛ لأنه يصير عملاً كثيراً، فأما إذا رمى بالقوس لا تفسد صلاته؛ لأنه عمل يسير كما لو رمى بالحجر، وكذلك لو كان القوس في يده والسهم على الوتر لا تفسد صلاته إذا رمى؛ لأنه عمل قليل.
ثم اختلف المشايخ في الحد الفاصل بين العمل اليسير وبين العمل الكثير، بعضهم قالوا: العمل الكثير اشتمل على عدد الثلاث، واستدل هذا القائل بما روى الحسن عن أبي حنيفة إذا تروَّح المصلي بمروحة مرة أو مرتين لا تفسد صلاته، وإن زادت على ذلك فسدت صلاته، وبعضهم قالوا: العمل الكثير عمل يكون مقصوداً للفاعل إن تفرّد له مجلس على حدة.
وهذا القائل يستدل بامرأة صلت فلمسها زوجها أو قبلها بشهوة تفسد صلاتها، وكذا إذا مص صبي ثديها وخرج اللبن تفسد صلاتها، وبعضهم قالوا: كل عمل لا يمكن إقامته إلا باليدين فهو كثير حتى قالوا: لو شدّ الإزار فسدت صلاته وكذلك إذا ... ، وكل عمل يمكن صنعه بيد واحدة فهو يسير ما لم يتكرر، حتى قالوا شد الرجل الإ زار لا تفسد صلاته.
وكذلك إذا كان عليه عمامة وانتقض منها كور فسوّاه لا تفسد صلاته، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا فتح باباً أو أغلقه بدفعة بيده ... لا تفسد صلاته، وإن عالجه بمفتاح غلق أو قفل فسدت صلاته.

وقال بعضهم: كل عمل يشك الناظر في عامله أنه في الصلاة أو ليس في الصلاة فهو عمل يسير وكل عمل لا يشك الناظر أنه ليس في الصلاة فهو كثير قال الصدر الشهيد: وهكذا روى البلخي عن أصحابنا وهو اختيار الفضلي، وقال بعضهم؛ نفوض ذلك إلى رأي المبتلى به وهو المصلي إن استقبحه واستكثره فهو كثير وما لا فلا. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا القول أقرب إلى مذهب أبي حنيفة؛ لأنه في جنس هذه المسائل لا تقدر تقديراً بل يفوض ذلك إلى رأي المبتلى به.

(1/395)


وإذا ادّهن أو سرّج دابته أو حملت المرأة صبيها وأرضعته أو قاتل رجلاً أو قطع ثوباً أو خاطه فهذا كله عمل كثير، وهو يخرج على الأقوال كلها.
وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله: إذا صلت ومعها صبي ترضعه، فإن مصّ الثدي ولم ينزل منه اللبن لا تفسد صلاتها وإن نزل منها اللبن فصلاتها فاسدة، وإذا تروح بمروحة فسدت صلاته وإذا تروح بكمه لا تفسد صلاته وهذا إشارة إلى القول الرابع.
وسئل أبو نصر: عن رجل نتف شعره في الصلاة قال: إن نتف ثلاثاً فسدت صلاته وإنه يرجع إلى القول الأول، وعن الحسن رحمه الله في المصلي على الدابة إذا ضربها لاستخراج السير فسدت صلاته وإن حرك رجليه لا تفسد صلاته وبعض مشايخنا قالوا؛ لأنه ضرب مرة أو مرتين لا تفسد؛ لأن الضرب يقام بيد واحدة، وإن ضربها ثلاثاً في ركعة واحدة تفسد صلاته يريد به إذا كان على الولاء، ولو كان في صلاة الظهر أو في أربع من النفل فضربها في كل ركعة مرة لا تفسد صلاته، ولو ضربها ثلاث مرات في ركعة واحدة تفسد يريد به إذا كان على الولاء.
وبعض مشايخنا قالوا: إذا كان معه سوط فهيبها به ونخسها لا تفسد صلاته وإن اهوى به وضربها تفسد صلاته، وإن حرك رِجْلاً واحداً لا تفسد صلاته، وإن حرك رجليه تفسد صلاته، واعتبر هذا القائل العمل بالرجلين بالعمل باليدين والعمل برجل واحدة بالعمل بيد واحدة.

وقال بعضهم: إن حرك رجليه قليلاً لا تفسد صلاته، وإن فعل ذلك كثيراً تفسد صلاته، ولو أكل أو شرب عامداً أو ناسياً فسدت صلاته؛ لأن هذا ليس من أعمال الصلاة وهو كثير عمل اليد والفم والأسنان.
وفي «الأصل» ؛ إن كان بين أسنانه شيء فابتلعه لا تفسد صلاته؛ لأن ما بين أسنانه تبع لريقه، ولهذا لا يفسد به الصوم.
قالوا: وهذا إذا كان ما بين أسنانه قليلاً دون الحمصة؛ لأنه يبقى بين الأسنان، فأما إذا كان أكثر من ذلك تفسد صلاته، وسوى هذا القائل بين الصلاة والصوم. وقال بعض المشايخ: لا تفسد صلاته بما دون الفم.
وفرّق هذا القائل بين الصلاة والصوم وفي أول باب الحديث من «شرح الطحاوي» : إذا بقي بين أسنانه شيء فابتلعه في الصوم؛ إن كان شيئاً يفسد به الصوم وهو قدر حمصة خمضفه تفسد به صلاته وما لا فلا، وهكذا رأينا في غريب الرواية للفقيه أبي جعفر رحمه الله.
وفي «أجناس الناطفي» إذا ابتلع المصلي ما بين أسنانه أو فضل طعام ثم أكله أو شراب قد شربه قبل الصلاة....... ولم يذكر المقدار، وهذه الرواية توافق قول محمد في باب الحديث، فإن محمداً لم يذكر المقدار ثمة.
وعن أبي يوسف رحمه الله في المصلي إذا مضغ العلك إن صلاته فاسدة، وعنه

(1/396)


أيضاً إذا كان في فيه.... فلاكها فسدت صلاته، ولو دخل منها شيء ولم يلوكها لا تفسد صلاته إلا إذا كثر ذلك..... إذا تناول شيئاً أو ناول شيئاً صلاته تامة ما لم يكثر ذلك أو يكون حملاً ثقيلاً يتكلف بأعضائه أن يأخذه.
وعنه أيضاً: في امرأة تصلي فباشرها رجل قليل المباشرة لا تفسد بقليلها وفي كثير المباشرة تفسد، وكذا القبلة، قال الفقيه أبو جعفر: إن كان بشهوة فسدت صلاتها على كل حال وإن كان من غير شهوة فالقليل يخالف الكثير.

وإن عبث بلحيته حك جسده لا تفسد صلاته، قيل: هذا إذا فعل ذلك مرة أو مرتين وكذلك إذا فعل ذلك مراراً ولكن بين المرتين فرجه، فأما إذا فعل ذلك مراراً متواليات لا تفسد صلاته، ألا ترى أنه لو نتف شعرة مرة أو مرتين لا تفسد ولو نتف ثلاث مرات على الولاء تفسد، وعلى هذا قيل..... وعن الفقيه أبي جعفر سئل عن المصلي يُقبّل قبلة (62ب1) في صلاته قال: لا تفسد صلاته، قيل: فإن قبل اثنتين أو ثلاثة قال: إن كان ... ذلك لا تفسد وإن قبل مرة بعد مرة، وإن كان يقبل على طلبه تفسد صلاته والله أعلم.
ثم في كل عمل يحتاج فيه إلى اليدين لإقامته أو أقام ذلك العمل بيد واحدة هل تفسد على قول من يعتبر لفساد الصلاة كون العمل بحال يحتاج لإقامته إلى اليدين، وذكر نجم الدين النسفي أنه لا تفسد فإنه قال: لو تعمم بيد واحدة لا تفسد ولو تعمم بيدين تفسد، ولو رفع العمامة من الرأس ووضعها على الأرض أو رفع العمامة عن الأرض ووضعها على الرأس لا تفسد صلاته أنه يحصل بيد واحدة من غير تكرار.
ولو نزع القميص لا تفسد صلاته، ولو لبس القميص تفسد صلاته، ولو تنعّل أو خلع نعليه لا تفسد؛ لأنه لا يحتاج إلى اليدين ولا إلى المعالجة، ولو لبس الخفين تفسد صلاته لأنه يحتاج فيه إلى اليدين، وإذا صافح إنساناً يريد بذلك التسليم عليه فسدت صلاته؛ لأنه يقوم باليدين غالباً، وكذلك كل من رآه يحسب أنه ليس في الصلاة فكان عملاً كثيراً، وارتكب في صلاته خطأ مستيقناً لا تفسد صلاته إلا أن يطول فيصير عملاً كثيراً فحينئذٍ تفسد صلاته. وحد الطول أن يزيد على ثلاث كلمات ذكره في «مجموع النوازل» ، ولو كتب على يده أو على الهواء شيئاً لا يستبين لا تفسد صلاته وإن كثروا.
وإذا صبّ الدهن على رأسه بيد واحدة لم تفسد، وإن أخذ وعاء الدهن بيد ودهن رأسه بيد أخرى فسدت صلاته؛ لأنه عمل كثير.

وإذا جعل ماء الورد على نفسه فهو على التفصيل الذي ذكرنا، ولو أغلق الباب لا تفسد صلاته، لو فتح الباب المغلق تفسد صلاته واختلفوا في تخريج المسألة بعضهم؛ لأن إغلاق الباب يقام بيد واحدة على ما عليه الغالب وفتح الباب المغلق غالباً لا يقام إلا بيدين، وبعضهم قالوا:؛ كلا الفعلين يقام بيد واحدة إلا أنّ في الغلق لا يكثر العمل؛ لأن

(1/397)


الحاجة هناك إلى إدخال اليد في المغلاق ثم شد المغلاق، وفي الفتح يكثر العمل؛ لأن الحاجة هناك إلى إدخال اليد في المغلاق ثم تحريك المغلاق وقت الفتح ثم إخراج الغلق من موضع السد، وقد ذكرنا قبل هذا رواية أبي يوسف فيما إذا فتح باباً أو أغلقه بدفعه بيده أنه لا تفسد، وتأويل تلك الرواية كساده وفراز كرده وأبا ركرددنا زكرده لا رار كرد.
وتأويل هذه الرواية كرده وافرار كرد ومغلق برست درته على بسته وابكشاده ولو ركب دابة فسدت صلاته؛ لأن ركوب الدابة على ما عليه الغالب لا يقوم إلا باليدين، ولو نزل من الدابة لا تفسد صلاته؛ لأن النزول ممكن بدون استعمال اليدين قبل هذا بشكل منها.
إذا حمله غيره ووضعه على السرج؛ فإن هناك تفسد صلاته، وإن كان هذا أمر يحتاج فيه إلى اليد أصلاً فضلاً من اليدين، قلنا: الجواب عنه من وجهين.
أحدهما: أن الحكم ينبني على الغالب والغالب ركوب الإنسان بنفسه أما إركاب غيره فليس بغالب، وركوبه بنفسه لا يقوم إلا باليدين.
والثاني: أن غيره لا يركبه عادة إلا بأمره وفعل الغير بأمره ينتقل إليه فكأنه ركب بنفسه.
ولو تقلّد سيفاً أو نزعه لا تفسد صلاته ولو ضرب إنساناً بسوط أو يد فسدت صلاته، وهذا الجواب يوافق رواية الحسن في ضرب الدابة، وعلى قياس قول بعض المشايخ في تلك المسألة ينبغي أن يقال: إذا نخسه أن لا تفسد صلاته، وإن آهوى به وضربه تفسد صلاته.

وإذا أحدث في صلاته من بول أو غائط أو ريح أو رعاف متعمداً فسدت صلاته، وإن سبق الحدث ولم يتعمد إن كان موجبه الغسل، فكذلك وذلك نحو إن احتلم أو نظر إلى امرأة، فأنزلها وتفكر فأنزل، وإن كان موجبه الوضوء فإن كان بفعل الآدمي، فكذلك الجواب تفسد، وإن لم تكن بفعل الآدمي لا تفسد الصلاة، بل يتوضأ ويبني وإذا كان على يديه دمل أو جراجة أو سرة فغمزها بيده غمزاً فسال منه الدم، فسدت صلاته؛ لأنه تعمد الحدث، وإن لم يغمزها لكنها انشقت بإصابة الداء والثوب في الركوع والسجود، وسال منها الدم فسدت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد، وهو بمنزلة ما لو رماه إنسان ببندقة أو حجر، وهناك تفسد صلاته عند أبي حنيفة، وكذلك لو سقط من السقف حجرٌ أو خشبٌ على المصلي.... إنسان ناداه.
وكذلك لو دخل الشوك في رِجل المصلي أو وضع جبهته على الأرض في السجود فسال منه الدم من غير قصده فسدت صلاته عندهما، وقيل: تفسد عند الكل؛ لأن الاحتراز عنه ممكن، فإذا لم يحترز صار كأنه تعمد ذلك، وكذلك لو كان تحت شجرة يسقط منها تمرة فجرحته.
وإذا قاء في صلاته فها هنا فصلان: فصل في القيء، وفصل في التقيء.

(1/398)


أما فصل القيء فنقول: لا تفسد صلاته بالقيء إذا كان أقل من ملىء الفم، فإن عاد إلى جوفه وهو لا يقدر على إمساكه لا تفسد صلاته أيضاً، وإن ابتلعه وهو قادر على أن يمجه يجب أن يكون على قياس الصوم عند أبي يوسف لا تفسد صلاته كما لا يفسد صومه.
وعند محمد المسألة تكون على روايتين كما في الصوم، وفي «فتاوى الفضلي» ذكر روايتان عن أبي يوسف لا عن محمد، وإن قاء ملىء الفم تنتقض طهارته ولكن لا تفسد صلاته؛ لأنه ليس بحدث عمد فيتوضأ ويغسل فمه ويبني على صلاته، فإن ابتلعه بعدما قاء وهو قادر على أن يمجه فسدت صلاته؛ لأنه عمل كثير.

وأما فصل التقيء، فإن كان أقل من ملىء الفم لم تفسد صلاته، وإن (كان) ملأ الفم فسدت صلاته؛ لأنه حدث عمد، وإذا ابتلع دماً خرج من بين أسنانه لا تفسد صلاته؛ إذا لم يكن ملىء الفم.
المصلي إذا نظر إلى فرج امرأته المطلقة طلاقاً رجعياً بشهوة يصير مراجعاً، وهل تفسد صلاته؟ حكى الناطفي في «أجناسه» : أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: تفسد صلاته، وهكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده والصدر الشهيد رحمه الله في شرح كتاب الصلاة قبيل باب افتتاح الصلاة، وأجاب الفقيه أبو القاسم الصفار بالفساد مطلقاً حكى عند ذلك في «النوازل» . وفي «الجامع الصغير» قال ابن شجاع: إذا نظر المصلي إلى فرج امرأة بشهوة ينبغي أن تفسد صلاته في قياس قول أبي حنيفة؛ لأنه استمتع بها، ألا ترى أنه تحرّم عليه أمها وأختها وابنتها.
ثم قال صاحب «الجامع الصغير» : ولنا في قياسه هذا نظر؛ لأن النظر إلى الفرج إنما جعل بمنزلة الاستمتاع في حق التحريم لا في حق شيء آخر فلا يظهر ذلك في حق فساد الصلاة فهذا شيء حكمي فيجوز أن يظهر في حق حكم دون حكم فهذا طعن (من) صاحب «الجامع الصغير» ، وقد تأيّد هذا الطعن ما ذكره ابن رستم في «نوادره» فقد ذكر ثمة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: المصلي إذا نظر إلى فرج المرأة بشهوة لا تفسد صلاته ويحرم عليه أمها وابنتها وهو قول محمد، وقال أبو يوسف في صلاة ... لا تفسد صلاته، وهو رجعة لو حصل ذلك في المطلقة الرجعية، وهكذا حكى الفقيه أبو الليث في «نوادره» جواب نصر بن يحيى قال: وهو القياس، وهذا ذكر في «الواقعات» ، فلو كان المذكور في «الجامع الصغير» قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، فهذا القياس مطعون بما مرّ من المعنى والرواية أيضاً، ولو كان المذكور في «الجامع الصغير» قول أبي حنيفة وأبي يوسف في المسألة روايتان.

رفع اليدين لا يفسد الصلاة منصوص عليه في باب صلاة العيدين من «الجامع» ، وذكر الصدر الشهيد في شرح «الجامع الصغير» رواية مكحول عن أبي حنيفة أنه تفسد.

(1/399)


وإذا سلّم إنسان على المصلي فرد السلام بالإشارة باليد أو بالرأس أو بالأصبع لا تفسد صلاته، ولو طلب من المصلي إنسان شيئاً فأومأ برأسه أن نعم أو أراه إنسان درهماً وقال ... رأسه أي نعم لا تفسد صلاته، ولو تفكر في صلاته فتذكر حديثاً أو شِعراً أو كلاماً مرتباً ولم يذكر ذلك بلسانه لم تفسد صلاته والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا قهقه في صلاته فسدت صلاته وهذا بلا خلاف (63أ1) وإنما خالفنا الشافعي رحمه الله في كونه حدثاً وجد. القهقهة ما يكون مسموعاً له ولجيرانه. والتبسم وهو ما لا يكون مسموعاً له لا ينقض الصلاة هكذا ذكر شيخ الإسلام، وذكر شيح شمس الأئمة الحلواني ما فوق التبسم دون القهقهة لا ذكر له في «المبسوط» ، كان القاضي الإمام يحكي عن أستاذه الشيخ الإمام أنه كان يقول: إذا ضحك حتى بدت نواجذه ومنعه عن القراءة والتسبيح نقض الصلاة، وغيره من المشايخ على أنه حتى يسمع صوته وإن قلّ. وإذا قهقه الإمام بعدما قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فصلاته تامة، وإن لم يكُ بلفظ السلام؛ لأن الخروج بلفظ السلام ليس بفرض عندنا. إنما الفرض على قول أبي حنيفة: الخروج بصنع المصلي وقد وجد صنع المصلي صحت صلاته وعليه الوضوء لصلاة أخرى عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر.
فرق زفر بين هذا وبينما إذا حدثت القهقهة في وسط الصلاة.
والفرق: أن القهقهة جعلت ناقض الوضوء شرعاً بخلاف القياس في موضع يوجب فساد الصلاة، والقهقهة ها هنا لا توجب فساد الصلاة فلا يوجب انتقاض الوضوء، ولا كذلك القهقهة في وسط الصلاة، ولعلمائنا الثلاثة أن القهقهة لاقت حرمة الصلاة بعده.

ألا ترى لو اقتدى رجل به في هذه الحالة يصح اقتداؤه فيوجب انتقاض الطهارة كما وجدت في وسط الصلاة إلا أنه لم تنتقض صلاته؛ لأنه ليس عليه ركن من أركان الصلاة ولا واجب من واجباته، وأما صلاة القوم، فإن كانوا لاحقين أدركوا أول الصلاة فصلاتهم تامة وإن كانوا مسبوقين فصلاتهم فاسدة في قول أبي حنيفة وفي قول أبي حنيفة، وفي قولهما صلاتهم تامة.
حجتهم: أنه لم يوجد من المقتدي ما يوجب فساد صلاتهم ولو فسدت صلاتهم إنما تفسد بفساد صلاة الإمام ولم تفسد صلاة الإمام ها هنا.
حجة أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمر بن العاص عن رسول الله عليه السلام: أنه قال: «إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة وقعد قدر التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته وصلاة من كان بمثل حاله» ولولا أنّ صلاة من ليس بمثل حاله فاسدة وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة.

(1/400)


والمعنى في ذلك: أن الإمام لما قهقهة فسد ذلك الجزء والذي لاقته القهقهة، وذلك الجزء مشترك بينه وبين القوم فيفسد مشتركاً إلا أن الإمام لم يبق عليه البناء فمضت صلاته على الصحة والقوم بقي عليهم البناء، وتعذر بناء ما بقي على هذا الجزء الفاسد، ففسدت صلاتهم، وهذا بخلاف ما لو سلّم الإمام أو تكلم أو خرج عن المسجد بعدما قعد قدر التشهد حيث لا تفسد صلاة المسبوقين بل يقومون ويقضون ما بقي من صلاتهم.
والفرق: أن السلام منتهي؛ لأنه من موجبات التحريمة فتنتهي به التحريمة والكلام قاطع لا يفسد؛ لأنه لا يفوت شرط الصلاة وهو الطهارة فلم يؤثر ذلك في حق المسبوق، فأما القهقهة والحدث العمد مفسد للصلاة لا قاطع؛ لأنه لا يفوت به شرط، ولهذا لو تكلم الإمام وسلم بعدما قعد قدر التشهد فعلى القوم أن يسلِّموا، ولو أحدث الإمام متعمداً أو قهقهة لم يسلم الإمام، بل يقومون ويذهبون، دلّ أن الكلام قاطع وليس بمفسد فلا يمنع جواز البناء.

وكذلك الخروج من المسجد بمنزلة الكلام لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال لابن مسعود: «إذا قلت هذا أو هذا فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد» . وإذا تمت صلاة الإمام يقوم المسبوق، ويقضي ما عليه، وإن قهقهة الإمام والقوم جميعاً، فإن كان قهقهة الإمام أولاً فعلى الإمام إعادة الوضوء والصلاة، وليس على القوم ذلك؛ لأن القوم صاروا خارجين من الصلاة، فضحكهم لم يصادف حرمة الصلاة، وهذا ظاهر إذا لم يتقدمها ما يوجب خروج القوم عن حرمة الصلاة، وكذلك قهقهة الإمام لا يخرج عن الصلاة بخروج القوم عن الصلاة.
وكذلك إن قهقهوا معاً؛ لأن قهقهة الكل صادفت حرمة الصلاة، أما قهقهة الإمام فظاهر، فكذلك قهقهة القوم لما اقترنت قهقهتهم بقهقهة الإمام أو تكلم الإمام بعدما قعد قدر التشهد ثم ضحك القوم لا وضوء عليهم؛ لأنهم صاروا خارجين من الصلاة بكلام الإمام، فضحكهم لم يصادف حرمة صلاتهم فلا تنتقض طهارتهم.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إمام تشهد ثم ضحك قبل أن يسلّم فضحك بعدُه مَن خلفه فعليهم الوضوء.
علّل، فقال:.... أَمَرَهم أن يسلِّموا، أشار إلى أن القوم لا يخرجون عن حرمة الصلاة بضحك الإمام، قال الحاكم أبو الفضيل رحمه الله وقد روى عن محمد رحمه الله أنه قال: آمُرُهُم أن يسلموا أشار إلى أن ضحك الإمام يخرج القوم عن حرمة الصلاة فلا يحتاجون إلى التسليم؛ لأن التسليم للتحلل.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : في إمام قعد في آخر صلاته قدر التشهد ولم يتشهد القوم على مثل حاله فضحك الإمام ثم ضحك من خلفه؛ قال: أما في قول أبي حنيفة فعلى

(1/401)


الإمام الوضوء ولا وضوء على القوم من قبل الإمام قد أفسد عليهم ما بقي من صلاتهم، وقال أبو يوسف: عليهم الوضوء من قبل أنهم لو لم يضحكوا كان عليهم أن يتشهدوا ويسلموا، فلم يفسد الإمام عليهم شيئاً.

ولو كان الإمام والقوم تشهدوا ثم سلّم الإمام ثم ضحك القوم قبل أن يسلموا فعليهم الوضوء عندنا؛ لأن سلام الإمام لا يفسد عليهم ما بقي، وكذلك الكلام، فأما الحدث متعمداً والضحك يُفسد عليهم ما بقي، وكذلك عند محمد لا وضوء على القوم في هذه الصورة وهو ما إذا ضحكوا بعد ما سلم الإمام؛ لأن عنده بسلام الإمام يخرج المقتدي عن حرمة الصلاة، فالضحك منه لم يصادف حرمة الصلاة فلا يوجب الوضوء، وعن محمد في عين هذه الصورة أنه ليس على القوم الوضوء، وذكر في بعض «النوادر» أنه لا تنتقض طهارته في هذه الصورة ولم ينسب هذا القول إلى أحد، والقهقهة في سجدتي السهو تنقض الوضوء ولا تفسد الصلاة لأن العود إليهما بدفع السلام دون القعدة فكأنه قهقه بعد القعدة قبل السلام فلا تفسد الصلاة.
وعن أبي يوسف رواية شاذة أن العود إلى سجدتي السهو بدفع القعدة كالعود إلى سجدتي التلاوة، فعلى تلك الرواية تلزمه إعادة الصلاة كما يلزمه إعادة الوضوء.
إمام أحدث فقدّم رجلاً قد فاتته ركعة فعليه أن يصلي بهم بقية صلاة الإمام؛ لأن المسبوق شريك الإمام في التحريمة وصحة الاستخلاف بوجود المشاركة في التحريمة، والحاجة ماسة إلى إصلاح صلاته، فيجوز تسليمه ويتم ما بقي على الأول، وإذا قالوا إنالتسليم تأخر وقدّم رجلاً من المدركين ليسلم بهم ثم يقوم هذا المسبوق ويقضي ما سبق به.
فإن قهقه الإمام الثاني وقد بقي عليه ركعة أو ركعتان، فإن صلاته وصلاة الإمام الأول وصلاة من خلفه فاسدة، أما فساد صلاته؛ من قهقهته لا في حرمة الصلاة فتفسد صلاته، وإذا فسدت صلاته تفسد صلاة من خلفه؛ لأن صلاة المقتدي بناءً على صلاة الإمام صحة وفساداً؛ فإذا فسدت صلاة الإمام تفسد صلاة المقتدي.
n

وأما فساد صلاة الإمام الأول؛ لأن الأول لما استخلف الثاني تحولت الإمامة إلى الثاني وصار الأول مقتدياً بالثاني وتعلَّقت صلاته بصلاة الثاني صحة وفساداً كما في سائر المقتدين وقد فسدت صلاة الثاني فتفسد صلاة الأول ضرورة، ولا وضوء على القوم، ولا على الإمام الأول؛ لأن القهقهة وجدت من الثاني لا منهم، فإن لم يضحك الثاني حتى توضأ الأول والإمام الثاني في الصلاة مع القوم يتابعه الإمام الأول.
ذكرنا أن الإمام الأول صار مقتدياً به فيكون حكمه كحكم سائر المقتدين، والمقتدي يتابع الإمام فكذلك ها هنا. فإن أراد الإمام الأول أن يصلي في نيّته يُنظر إن صلى بعدما فرغ الإمام الثاني من بقيّة صلاته، فصلاته تامة، وستأتي المسألة بعد هذا في فصل الاستخلاف إن شاء الله تعالى.
وإن قعد الإمام الثاني في الركعة قدر التشهد وهي له الثالثة ثم قهقة أعاد الوضوء والصلاة؛ لأنه بقي عليه ركعة، فضحكه حصل في خلال الصلاة فتفسد صلاته وطهارته،

(1/402)


وأما صلاة من خلفه إن كان مسبوقاً، فكذلك فاسدة أيضاً؛ لأنهم خرجوا عن حرمة الصلاة، فضحك الإمام وقد بقي عليهم ركن ولا وضوء عليهم لصلاة أُخرى (63ب1) .
لأن القهقهة وجدت من الإمام لا منهم، فلا تنتقض طهارتهم، كما لو أحدث الإمام حدثاً آخر، وصلاة المدركين تامة؛ لأنهم خرجوا عن حرمة الصلاة، ولم يبق عليهم ركن من أركان الصلاة، ولا تفسد صلاتهم كما لو خرجوا بضحك أنفسهم.
وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني في غريب الروايات أن أبا يوسف رحمه الله قال في «الأمالي» : صلاة المدركين فاسدة أيضاً، كصلاة المسبوقين؛ لأن صلاتهم مربوطة بصلاة الإمام، فمتى فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة القوم، إلا أن ظاهر الجواب ما قلنا؛ لأن صلاة القوم وإن كانت مربوطة بصلاة الإمام لكن لم يبق عليهم شيء، فمضت صلاتهم على الصحة، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار وأما صلاة الإمام الأول، فإن كان فرغ من صلاته خلف الإمام الثاني مع القوم فصلاته تامة بلا خلاف..... المدركين، وإن كان في بيته لم يدخل مع الإمام الثاني في الصلاة، اختلفت الروايات فيه في رواية أبي سليمان تفسد صلاته، وهو الأشبه بالصواب، هكذا ذكر الحاكم الجليل في «مختصره» ، وفي رواية أبي حفص رحمه الله: صلاة ثلاثة لأنه لأول الصلاة إلى آخره فكأنه خلف الإمام من أول الصلاة إلى آخرها من حيث الحكم والاعتبار، ولو كان خلفه حقيقة لم تفسد صلاته، فكذلك إذا كان خلفه حكماً واعتباراً.
وجه رواية أبي سليمان: أنه وإن كان مدركاً لأول الصلاة فقد بقي عليه شيء من صلاته بعد ما ضحك الإمام الثاني، وقد ذكرنا أن ضحك الإمام يوجب خروج المقتدي عن حرمة الصلاة، فقد خرج عليه شيء من صلاته، لأن الكلام فيما إذا بقي ركعة أو ركعتين فتفسد صلاته كما لو خرج بضحك نفسه. والإمام أبو نصر الصفار ومشايخ العراق صححوا رواية أبي حفص رحمه الله والله أعلم.
وإذا زاد في صلاته ركوعاً أو سجوداً ذكر في ظاهر الرواية: أنه لا تفسد صلاته هذا ظاهر، فإن من اقتدى بالإمام والإمام ساجد كان عليه أن يسجد معه، وكانت السجدة له زيادة وكذلك لو تلا آية السجدة في الصلاة لزمه سجدة التلاوة، وهذه السجدة ليست من موجبات تحريمته، فثبت أن زيادة السجدة في الصلاة لا تفسد الصلاة، وكذلك إن زاد سجدتين أو أكثر لا تفسد صلاته؛ لأن الجنس واحد، فهيَ وإن كثرت كأنها سجدة واحدة.

والدليل عليها: أن من ختم القرآن في صلاته تلزمه أربعة عشر سجدة وهي كلها زوائد في الحقيقة؛ لأنها ليست من موجبَات تحريمة الصلاة؛ ولأن ما شرع في الصلاة مثنى فللواحد حكم المثنى، فإن الركعة تنعقد بالسجدة الواحدة عندنا كما تنعقد بسجدتين، وكذلك التحلل يحصل بالسلام الواحد كما يحصل بالمثنى، فثبت أن ما شرع في

(1/403)


الصلاة مثنى حكمه حكم الواحد ثم الصلاة لا تفسد بالسجدة الواحدة فكذا في المثنى، والذي هنا في السجود، كذلك في الركوع الزائد، وكذلك الركوعان وما زاد على ذلك.
فإن قيل: أليس أن المسبوق لو تابع الإمام في سجود السهو ثم تبين أنه ليس على الإمام سهو فصلاة المسبوق فاسدة وما زاد إلا سجدتين.
قلنا: فساد الصلاة هناك ليس لزيادة السجدة؛ بل لأنه اقتدى في موضع كان عليه الانفراد فيه وذلك مفسد للصلاة.
وروي عن محمد أنه قال: في السجود الزائد تفسد صلاته، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه عن أبي حنيفة، وجه هذه الرواية: أن السجدة عمدة الصلاة، ألا ترى أن الركعة يُتعَبَد بها؛ ولأنها قربة بنفسها دليل سجدة التلاوة، وإذا كانت قربة في نفسها أشبهت الركعة التامة، ولو زاد فيها ركعة تامة قبل إتمام صلاته فسدت صلاته، وكذا إذا زاد سجدة ثم فرق محمد على هذه الرواية بين السجدة وبين الركوع، فقال: بزيادة السجدة تفسد الصلاة وبزيادة الركوع لا تفسد.
والفرق: أن السجدة قربة بنفسها والركوع ليس بقربة في نفسه والركوع يتعبَد بالسجدة وما يتعبد بالركوع فدل أن للسجدة من القوة ما ليس للركوع، فجاز أن تفسد الصلاة بزيادة السجدة ولا يفسد بزيادة الركوع، وإذا جاء إلى الإمام وقد رفع الإمام رأسه من الركوع، فدخل في صلاته وركع وسجد معه السجدتين لا يصير مدركاً للركعة، ولا تفسد صلاته، وكذلك لو أدرك الإمام في السجدة الأولى فركع هذا الرجل وسجد سجدتين لا تفسد صلاته.
فرق بين هذا وبينما إذا ركع الإمام وسجد سجدة ورفع رأسه منها، فجاء رجل ودخل معه وركع وسجد سجدتين، فإنه لا تفسد صلاته، والفرق: أن في المسألة الأولى لم يدخل فيها إلا زيادة ركوع؛ لأنه وجب عليه متابعة الإمام في السجدتين، وذا لا يفسد الصلاة، أما هنا أدخل زيادة ركعة وهو الركوع والسجود وأنه يفسد الصلاة والله أعلم.
وبعض مشايخنا قالوا: إذا زاد في الركوع أو في السجود، إن كانت الزيادة عن سهو بأن ركع ركوعاً زائداً أو سجد سجوداً زائداً تفسد صلاته بالإجماع، وأما إذا تعمد ذلك يجب أن تكون المسألة على الاختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا تفسد صلاته، وعلى قول محمد: تفسد بناءً على اختلافهم في سجدة الشكر، وكان الفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقول بالفساد في صورة العمد، والله أعلم.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل دخل (مع) الإمام في أول صلاته، ثم قام ثانية وقد سجد الإمام سجدة التلاوة، فظن هذا الرجل أنه قد ركع، وسجد.....؟ لرجل ويسجد يريد، اتباع الإمام، قال: لا تفسد عليه صلاته؛ لأنه متبع الإمام فيها وهي التلاوة، فإن سجد أخرى فسدت صلاته؛ لأنه قد زاد في صلاته ركعة وسجدة، فلا تكون

(1/404)


سجدة التلاوة فصلاً بين الركعة والسجدة الثانية والله أعلم.
(فصل) في بيان من هو أحق بالإمامة وفي بيان من يصح إماماً لغيره، ومن لا يصح، وفي بيان تفسير حال المصلي إماماً كان أو منفرداً أو مقتدياً وفي بيان ما يمنع صحة الاقتداء وما لا يمنع

أما الكلام في بيان من هو أحق بالإمامة، نقول: الأولى بالتقديم الأعلم بالسنّة إذا كان يحسن من القراءة ما يجوز بها الصلاة؛ لأن القراءة يحتاج إليها في ركن واحد والعلم بالسُنّة يحتاج إليه من أول الصلاة إلى آخرها؛ فكان الأعلم بالسنّة أولى، والذي روي أن النبي عليه السلام قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا سواء، فأعلمهم بالسنّة» فإنما قال ذلك في ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا يتلقنون القرآن بأحكامه فالأقرأ فيهم كان أعلم، فأما في زماننا فيكون الرجل ماهراً في القراءة ولا حظ له من العلم، فالعلم بالسنّة أولى، قال: فإذا تساووا فأكثرهم ورعاً للحديث، فإذا تساووا فأسنهم عمراً فالقوله عليه السلام «من صلى خلف عالم تقي، فكأنما صلى خلف نبي» ؛ ولأن رغبة الناس في الإقتداء بالأورع....، وفي الحديث الذي روينا قدم أقدمهم هجرة على الأورع؛ لأن الهجرة كانت فريضة يومئذٍ ثم انتسخ لقوله «لا هجرة بعد الفتح» ؛ ولأن أقدمهم هجرة كان أعلمهم؛ لأنهم كانوا يهاجرون لتعلم الأحكام، فإن كانوا سواء فأكبرهم سنّاً لقوله عليه السلام «الكبر الكبر» ، ولأن أكبرهم سناً يكون أعظم حرمة عادة، ورغبة الناس في الاقتداء به أكثر، والعالم بالسنّة أولى بالتقديم إذا كان تجنب الفواحش الظاهرة، وإن كان غيره أورع منه؛ لأنه أقدر على حفظ هذه الأمانة.

وقال أبو يوسف رحمه الله: أكره أن يكون الإمام صاحب بدعة، ويكره الرجل أن يصلي خلفه، وهذا لأن الناس قلما يرغبون في الاقتداء به، فيؤدي إلى تقليل الجماعة، ولو أن رجلين هما في الفقه والصلاح سواء، إلا أن أحدهما أقرأ فقدم القوم الآخر ولم يقدموا أقرأهمها، فقد أساؤا فلا يأتمون، قال: وأما الفاسق فتجوز الصلاة خلفه لقوله عليه السلام: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ؛ ولأن الصحابة والتابعين لم يمنعوا عن الجمعة خلف الحجاج مع أنه كان أفسق أهل زمانه، حتى قال الحسن........

(1/405)


ولكن مع هذا يكره تسليمه لما فيه من تقليل الجماعة، فقل ما رغب الناس في الاقتداء بالفاسق.
وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الصلاة» : في الصلاة خلف أهل الأهواء وقال: حاصل الجواب فيه، إن كان من كان من أهل قبلتنا، ولم يقل في هواه حتى لم يحكم بكونه كافراً ولا بكونه ماجناً بتأويل فاسد تجوز الصلاة خلفه، وإن كان هواه يكفر أهلها، كالجهمي والقدري الذي قال بخلق القرآن، والروافض المغالي الذي ينكر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لا يجوز.
وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف من انتحل من هذه الأهواء شيئاً (64أ1) ، فهو صاحب بدعة، ولا ينبغي للقوم أن يؤمهم صاحب بدعة.
وعن الشيخ الفقيه الزاهد أبي محمد إسماعيل بن الحسن رحمه الله أنه قال: روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الصلاة خلف أهل الأهواء لا تجوز.
وفي «نوادر ابن سماعة» وهشام عن محمد أنه لا يصحُ خلف أهل الأهواء، وقال أبو يوسف: لا تجوز الصلاة خلف من يستثني في إيمانه؛ لأنهم شاكون في أصل دينهم.

وأما الصلاة خلف شافعي المذهب: ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن من كان منهم يميل عن القبلة، أو يعلم يقيناً أنه احتجم ولم يتوضأ، أو خرج منه شيء من غير السبيلين ولم يتوضأ، أو أصاب ثوبه مني أكثر من قدر الدرهم ولم يغسله لا يجوز، وإن كان لا يميل عن القبلة، ولم يتيقن بالأشياء التي ذكرنا يجوز، وقال أبو يوسف لا تجوز الصلاة خلف المتكلم وإن تكلم بحق؛ لأنه بدعة فلا تجوز الصلاة خلف المبتدع، وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد أنه سئل هل يصلى خلف شارب الخمر؟، قال: لا ولا كرامته معنى قول محمد.... ينبغي، فأما الصلاة خلفهُ جائرة.
وفي «نوادر المعلى» المعلا عن أبي يوسف: معتوه يفيق أحياناً إلا أنه ليس لإفاقته وقت معلوم إن كان في أكثر حالاته معتوهاً، فهو في جميع حالاته بمنزلة المطبق عليه، فإن صلى في حال إفاقته بقوم أعادوا الصلاة، وإن لإفاقته وقتاً معلوماً فهو في حال إفاقته بمنزلة الصحيح، قال ولا بأس بأن يؤم الأعمى، لما روي أن النبي عليه السلام أمر ابن أم مكتوم على المدينة مرة وعتبان بن مالك وكانا أعميين والبصير أولى؛ لأن الأعمى لا يتوقى النجاسات.
وتكره إمامة العبد وولد الزنا، أما ولد الزنا؛ فلأنه لم يكن له أب يفقهه فكان الجهل عليه غالباً، والعبد مشغول بخدمة المولى فكان الجهل عليه غالباً أيضاً، قال: فأما الأعرابي: فإن كان عالماً بالسنّة فهو كغيره، إلا أن غيره أولى؛ لأن الجهل عليهم غالب والتقوى نادر، قال: فلا تجوز إمامة الصبي في صلاة الفرض، وقال الشافعي: تجوز؛ لأن العمل يصح من الصبي نفلاً لا فرضاً، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز عندنا

(1/406)


على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وأما اقتداء البالغ بالصبي في التطوع، فقد جوزه محمد بن مقاتل..... إليه خصوصاً في ليالي رمضان في التراويح، وبه قال مشايخ بلخ والأصح عندنا أنه لا يجوز؛ لأن نفل الصبي دون نفل البالغ حتى لا يلزم الصبي القضاء بالإفساد بخلاف البالغ، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، كيف وقد قال النبي: عليه السلام؛ «الإمام ضامن» والصبي لا يصح منه ضمان فليس، فكيف يَصح منه ضمان صلاة المقتدي «و (في) نوادر الصلاة» إذا افتتح الصلاة خلف غلام لم يحتلم ثم قهقه لا تنتقض طهارته؛ لأنه لم يصر شارعاً في الصلاة أصلاً، ولم يفصل بين الفرض والنفل، فعلم أن الصحيح أن إمامة الصبي كما لا تجوز في الفرض لا تجوز في النفل، أو يجوز الاقتداء لمن كان معروفاً بأكل الربا، ولكن يكره روي عن أبي حنيفة نصاً وعن أبي يوسف لا ينبغي للقوم أن يؤمهم صاحب خصومة في الدين.
وإن صلى رجل خلفه جاز قال الفقيه أبو جعفر الوزان: يكون مراد أبي يوسف الدين يناظر في دقائق الكلام، ومن صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرزاً ثواب الجماعة، قال عليه السلام: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ، أما لا ينال ثواب من يصلي خلف تقي المذكور في قوله عليه السلام: «من صلى خلف تقي عالم فكأنما صلى خلف نبي» ، الفاسق إذا كان يؤم ويعجز القوم عن منعه تكلموا: قال بعضهم: في صلاة الجمعة يقتدى به، ولا تترك الجمعة بإمامته أما في غير الجمعة من المكتوبات لا بأس أن يتحول إلى مسجد آخر، فلا يصلي خلفه، ولا يأثم بذلك؛ لأن قصده الصلاة خلف تقي، ومن أم قوم وهم له كارهون، إن كانت الكراهة لفساد فيه، أو لأنهم أحق بالإمامة منه كره له ذلك، وإن كان هو أحق بالإمامة لم يكره: لأن الفاسق والجاهل يكره العالم والصالح.
أبو سليمان عن محمد في «نوادره» : رجل أم قوماً شهراً ثم قال كنت على غير وضوء، وقال كان في ثوبي قذر، قال: يعيدون صلاتهم إلا أن يكون ماجناً، فحينئذٍ لا يلتفت إلى قوله ولا يعيدون الصلاة،، وقد فسر بعض المتقدمين الماجن...... إلى النرد واللعب في هذه الصورة والله أعلم.
وأما في بيان من يصلح إماماً لغيره، ومن لا يصلح
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا يؤم القاعد الذي يومي قوماً قياماً يركعون ويسجدون، فلا قوماً قعوداً يركعون ويسجدون، والأصل في هذا أن يقال بأن

(1/407)


صلاة المقتدي مبني على صلاة الإمام فكان كالبيع له والشيء يستتبع ما هو دونه أو ما هو مثله، ولا يستتبع ما هو فوقه كأن كان حال الإمام مثل حال المقتدي أو فوقه جاز صلاة الكل، وإن كان حال الإمام دون حال المقتدي صحت صلاة الإمام، ولا تصح صلاة المقتدي.
بيان هذا الأصل في المسائل: إذا كان الإمام يصلي قائماً بركوع وسجود وخلفه قوم يصلون قياماً بركوع وسجود أو قوم يصلون قعوداً بركوع وسجود أو قوم يصلون بالإيماء مستلقياً على قفاهم، فصلاة الكل جائزة؛ لأن حال الإمام مثل حال البعض وأقوى من حال البعض.
وإن كان الإمام يصلي قاعداً بركوع وسجود وخلفه قوم يصلون قياماً بركوع وسجود.

القياس: أن لا تجوز صلاة القوم، وبه أخذ محمد رحمه الله؛ لأن إحرام القوم انعقد للقيام، وإحرام الإمام لم ينعقد له، فلا تتحقق...... وحال القوم أقوى من حال الإمام، وفي الاستحسان تجوز صلاة القوم وهو قولهما فقد صح أن النبي عليه السلام صلى في آخر عمره قاعداً، والناس خلفه قيام، ولنا في رسول الله عليه السلام أسوة، لو كان القوم يصلون قعوداً بركوع وسجود كالإمام، أو يصلون قعوداً بالإيماء، فلا يقدرون على السجود، أو يصلون قياماً بالإيماء بأن كانوا لا يقدرون على القعود، فصلاة كلهم جائرة؛ لأن حال الإمام مثل حال البعض وفوق حال البعض، فإن الصلاة قاعداً بركوع وسجود أقوى من الصلاة قاعداً أو قائماً بالإيماء، ولو كان الإمام يصلي قاعداً بالإيماء لا يقدر على السجود وخلفه قوم يصلون قعوداً بإيماء أيضاً يجوز؛ لأن حال الإمام مثل حال القوم، فإن كان خلفه قوم قيام يركعون ويسجدون، أو قوم قعود يركعون ويسجدون لا تجوز صلاة القوم، وعند زفر رحمه الله يجوز؛ لأن الكل صلاة.
ولنا: أن الاقتداء بناء والبناء على المعدوم لا يتحقق وإحرام الإمام لا ينعقد للركوع، فرع في «نوادر» الصلاة على هذا الأصل فقال: إذا كان الإمام مستلقياً يومي وخلفه من يومي مستلقياً ومن يومي قاعداً، تجوز صلاته، وصلاة من هو في مثل حاله، فلا تجوز صلاة القاعد لما فيه من بناء القوي على الضعيف، فإن حال المستلقي في الإيماء دون حال القاعد.
ألا ترى أنه لا تجوز صلاة التطوع بالإيماء مستلقياً إذا كان قادراً على القعود وبهذا فرق أبو حنيفة وأبو يوسف بين هذا، وبين اقتداء القائم بالقاعد الذي يركع ويسجد؛ لأن حال الإمام هناك قريب من حال المقتدي، حتى يجوز أداء التطوع قاعداً مع القدرة على القيام، وها هنا بخلافه والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: عن أبي حنيفة في أمي صلى بقوم

(1/408)


أميين، وبقوم قارئين فصلاتهم جميعاً فاسدة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله،: صلاة الإمام ومن هو بمثل حاله تامة، يجب أن يعلم أن الأمي إذا أم قوماً أميين أن صلاتهم جميعاً جائزة بلا خلاف؛ لأن الحالة مستوية فهو كالقاريء إذا أم قوماً عراة، وكصاحب الجرح السائل إذا أم قوماً جرحى، والأمي إذا أم قوماً قارئين فصلاة الكل فاسدة، بلا خلاف، وإنما فسدت صلاة الإمام؛ لأنه ترك القراءة في صلاة مع القدرة عليها؛ لأن القارىء إذا كان يصلي معه كان يمكنه أن يقتدي به حتى تصير صلاة بقراءة؛ لأن قراءة الإمام جعلت قراءة للمقتدي، فإذا ترك الاقتداء مع القدرة عليها؛ فقد ترك القراءة مع القدرة عليها، وإذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المقتدي ضرورة، وكان أبو الحسن الكرخي يقول اقتداء القارىء بالأمي صحيح في «الأصل» ولكن (64ب1) إذا جاء أوان القراءة تفسد صلاته، وكان أبو جعفر الطحاوي يقول: لا يصح اقتداء القارىء بالأمي أصلاً، والقارىء إذا أم قوماً قارئين فصلاتهم جميعاً جائزة، وهذا ظاهر.
وكذلك القارىء إذا أم قوماً أميين، فصلاة الكل جائزة بلا خلاف؛ لأن الإمام أعلى حالاً من المقتدي، وإنه لا يمنع صحة الاقتداء كالمتنفل إذا اقتدى بالمفترض، وكالمومي إذا اقتدى بمن يركع ويسجد، وأما الأمي إذا أم قوماً أميين وقوماً قارئين، فصلاة الكل فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد صلاة الإمام، ومن هو بمثل حاله من الأميين جحائزة، وصلاة القارئين فاسدة.
وفي مسألة «الجامع الصغير» : والأخرس إذا أم قوماً خرساً فصلاة الكل جائزة، وأما إذا أم أمياً ذكر في بعض المواضع: قال بعض مشايخنا: لا يجوز؛ لأن الأخرس لا يأتي بالتحريمة، وهي فرض، والأمي يأتي بها فصار كاقتداء القارىء بالأمي، وذكر في بعض المواضع لا يجوز عند علمائنا.

وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الصلاة» : أن الأخرس مع الأمي إذا أراد الصلاة كان الأمي أولى بالإمامة فهذا دليل على جواز اقتداء الأمي بالأخرس، والأمي إذا أم الأخرس فصلاتهما جائزة بلا خلاف وأما الأخرس إذا أم قوماً خرساً وقوماً قارئين، فصلاة الكل فاسدة عند أبي حنيفة، وعندهما صلاة الإمام ومن هو أخرس جائزة.
حجة أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه اقتدى هذا الإمام من هو بمثل حاله قياساً على القارىء إذا أم قوماً كساة وعراة وقياساً على صاحب الجرح السائل إذا أم قوماً صحاحاً وجرحى، وقياساً على المومي إذا أم قوماً مومين وقوماً قارئين، فإن في هذه الصورة تجوز صلاة الإمام ومن وبمثل حاله بلا خلاف كذا هنا.
حجة أبي حنيفة: أن الإمام ترك القراءة مع القدرة عليها، فإنه قادر على أن يجعل صلاته بقراءة بالاقتداء بالقارىء على نحو ما بينا فهو معنى قولنا ترك القراءة مع القدرة عليها فتفسد صلاته، وإذا فسدت صلاته فسدت صلاة القوم ضرورة.
وعلى هذه الطريقة: يقول: إذا كان بجنب الأمي رجل قارىء يصلي، والأمي يعلم أن صلاته موافق لصلاة الإمام فصلى الأمي وحده لا تجوز صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا، وفي هذا الفصل كلمات تأتي عند تمام المسألة إن شاء الله تعالى.

(1/409)


بخلاف القارىء إذا صلى بقوم عراة وكساة، لأن القارىء غير قادر على أن يحصل صلاته بكسوة بالاقتداء بالكاسي؛ لأن كسوة الإمام لم تجعل كسوة للمقتدي حتى يقال إذا لم يقتد فقد ترك الكسوة مع القدرة عليها.
وبخلاف صاحب الجرح السائل غير قادر على أن يجعل صلاة بطهارة بالاقتداء بالصحيح؛ لأن طهارة الإمام لم تجعل طهارة للمقتدي حتى يقال إذا لم يقتد، فقد ترك الطهارة مع القدرة عليها، وهذا هو تخريج المومي إذا أم قوماً مومين وقادرين، ورأيت مسألة الأمي إذا كان يصلي وحده، وهناك قارىء يصلي وحده، في بعض النسخ أن القارىء إذا كان على باب المسجد وبجوار المسجد، والأمي في المسجد يصلي وحدهُ أن صلاة الأمي جائزة بلا خلاف، وكذلك إذا كان القارىء في صلاة غير صلاة الأمي جاز للأمي أن يصلي وحده ولا ينتظر فراغ القارىء من الصلاة بالاتفاق، وأما إذا كان القارىء في ناحية من المسجد والأمي في ناحية أخرى، وصلاتهما موافقة.
s
فقد ذكر أبو حازم: أن على قياس قول أبي حنيفة: لا يجوز وهو قول مالك، ولئن سلمنا أنه يجوز فوجه تخريجه تحريمه أنه لم يظهر من القارىء رغبة في أداء الصلاة بالجماعة، فلا يعتبر وجود القارىء في حق الأمي، وذكر الفقيه أبو عبد الله الجرجاني عن القاضي أبي حازم رحمه الله في مسألة الأخرس إذا صلى بقوم خرساً وبقوم قارئين.
وفي مسألة الأمي إذا صلى بقوم أميين وبقوم قارئين إنما تفسد صلاة الأمي، والأخرس عند أبي حنيفة إذا علم أن حوله قارىء، أما إذا لم يعلم لا تفسد صلاته، كما قالا، إلا أن في ظاهر الرواية لا فصل بين حال العلم وبين حالة الجهل.

ووجه ذلك: أن القراءة فرض وما يتعلق بالفرائض لا يختلف بين العلم والجهل، ألا ترى أنه لو ترك القراءة ناسياً أو جاهلاً أو عامداً لا يجوز، وطريقهم ما قلنا، وإلى هذا كان يميل الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وروى هشام عن محمد أنه قال: عَامة أصحابنا إذا أم الأخرس الأميين، فصلاة الأخرس تامة وصلاة الأميين فاسدة، وإن أم الأمي الأخرس فصلاتهما تامة، قال الفقيه أبو جعفر أراد محمد بقوله: قال عامة أصحابنا من كان معه من المتعلمين، أما لم يرد به أبا حنيفة؛ لأنه يخالفهم في ذلك، ثم إن محمداً رحمه الله لم يذكر في «الجامع الصغير» : أن القارىء إذا اقتدى بالأمي هل يصير شارعاً في الصلاة؟ وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يصير شارعاً حتى لو كان في التطوع.... وبعضهم قالوا: يصير شارعاً ثم تفسد حتى لو كان في التطوع يجب القضاء، والصحيح هو الأول، نص عليه محمد في «الأصل» .
وذكر القدوري في «شرحه» : أن القارىء إذا دخل في صلاة الأمي متطوعاً ثم أفسد ما لم يلزمه القضاء عند زفر رحمه الله، قال: ولا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل، وإنما يلزمه القضاء؛ لأن الشروع بمنزلة النذر، ولو نذر القارىء أن يصلي بغير قراءة لا تلزمه، فكذا إذا شرع.

(1/410)


وكل جواب عرفته في القارىء إذا اقتدى بالأمي ثم أفسده على نفسه، فهو الجواب في الرجل يقتدي بالمرأة والصبي والمحدث والجنب، ثم أفسده على نفسه، فلا يؤم المومي من يركع ويسجد، وقال زفر رحمه الله: يجوز، لأن الركوع والسجود هنا سقط إلى بدل والمتاوي بالبدل كالمتاوي بالأصل، ولهذا قلنا: إن المتيم يؤم المتوضئين، وبه فارق ما تقدم؛ لأن هناك الفرض سقط لا إلى بدل، فلم يمكن إلبنا عليه قلنا: إن الإيماء ليس ببدل عن الركوع؛ لأنه بعضه وبعض الشيء لا يكون بدلاً عنه، ومتى كان بعض الأصل، لو جاز الاقتداء لكان مقتدياً في بعض الصلاة ولا البعض، وكذلك لا يجوز قال: فلا تؤم المرأة الرجل كان الرجل إن قام خلفاً، فهو منهي عنه، ضرورة الأمر بالتأخير وإن قام بحزاءها لا تجوز لهذه العلة، ولعلة المحاذاة، فإنها تفسد صلاة الرجل، ويؤم الماسح الغاسل؛ لأنه صاحب بدل صحيح.
والبدل الصحيح حكمه عند العجز عن الأصل حكم الأصل، بخلاف صاحب الجرح السائل، فإنه ليس بصاحب بدل صحيح، ويؤم القاعد الذي يركع ويسجد قوماً قياماً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يؤم لقوله عليه السلام: «لا يؤمنّ أحد بعدي جالساً» ، ولأن المقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، وإنما يتحقق بناء الموجود على الموجود للبناء لموجود على المعدوم، واقتداء القائم بالقاعد بناء الموجود على المعدوم في حق القيام، ولهما ما روي أن النبي عليه السلام في مرضه صلى بالناس وهو جالس، ولأن بين القيام والقعود تفاوت، فإن القائم كلا النصفين منه، مستوي وأحد النصفين من القاعد مثني، وبينهما تقارب، والتقارب في وصف الكمال لا يمنع الاقتداء كاقتداء القائم بالراكع.
ويؤم الأحدب القائم كما يؤم القاعد، ولا يؤم الراكب النازل، والألثغ إذا أم غير الألثغ، ذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل أنه لا يجوز؛ لأن ما يقول صار لغة له، وقال غيره لا تجوز إمامته.

والمفتصد إذا أم غيره إن كان يأمن خروج الدم يجوز، أمي اقتدى بقارىء بعد ما صلى ركعة فلما فرغ الإمام قام الأمي لقضاء ما عليه فصلاته فاسدة في القياس، وقيل: هذا قول أبي حنيفة، وفي الاستحسان يجزيه، وهو قولهما.
وجه القياس: وهو أنه لما اقتدى بالقارىء صارت صلاته بقراءة؛ لأن قراءة الإمام له قراءة كما روينا من الحديث،، وإن كان قراءة الإمام له قراءة صار كأنه كان قارئاً في الابتداء، ولو كان قارئاً في الابتداء ثم قام إلى قضاء ما سبق به، وعجز عن القراءة بأن نسي القرآن لا تجوز صلاته لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فكذلك هنا.

(1/411)


وجه الاستحسان، وهو: أنه إنما تلزم القراءة ضمن الاقتداء، وهو مقتدي فيما بقي على الإمام لا فيما سبق به.
يوضحه: أنه لو بنى كان مؤدياً بعض الصلاة بقراءة، وبعضها بغير قراءة.... مستقبل كان مؤدياً جميع الصلاة بغير قراءة، ولا شك إن أداء بعض الصلاة بقراءة أولى من أداء جميع الصلاة بغير قراءة، وهذا كرجل افتتح صلاة العصر مع تذكره أن الظهر عليه، فلما صلى ركعتين فغربت بالشمس فمضى على صلاته؛ لأنه لو استقبل كان مؤدياً جميع الصلاة خارج الوقت، ولا شك أن أداء بعض الصلاة في الوقت (65أ1) ، وبعضها خارج الوقت أولى من إذا جمع الصلاة خارج الوقت، بخلاف ما إذا نسي القراءة حيث تفسد صلاته عند أبي حنيفة؛ لأنه لو استقبل كان مؤدياً جميع الصلاة بقراءة، فإن قارئاً حتى يذكره، فيتذكر فتصير جميع الصلاة قراءة، أما ها هنا لو أمرنا بالاستقبال صار مؤدياً جميع الصلاة بغير قراءة، وكذلك الجواب في الأخريين.

وفي «الأصل» : الأمي إذا افتتح الصلاة بقوم بعضهم أميين وبعضهم قارئين فأحدث قبل أن يصلي شيئاً، فانصرف وقدم رجلاً من القارئين، فإن صلاتهم فاسدة، وخص قول أبي حنيفة في «الكتاب» ، وأنه قولهم جميعاً أما على مذهب أبي حنيفة؛ فلأن صلاة الإمام فاسدة من الابتداء، فالاستخلاف من الأمي إنما حصل في صلاة فاسدة والاستخلاف في صلاة فاسدة فاسد.
وأما على مذهبهما؛ فلأن صلاة القارىء كانت فاسدة، فهذا قد استخلف من ليس له صلاة، فلا يصح الاستخلاف كما لو استخلف صبياً أو محدثاً أو رجلاً جانباً عنده ولم يشرع في صلاة الإمام كان الاستخلاف باطلاً؛ لأنه استخلاف من لا صلاة له كذا هنا إلا أن الذي..... إذا كبر ينوي الدخول في صلاة الإمام تجوز الخلافة؛ لأن الذي سبقه الحدث إمام ويصلح لإمامته، وفي مسألتنا القارىء وإن كبر بانياً ونوى الشروع في صلاة الإمام لا تصح الخلافة أيضاً، لأنه حصل مقتدياً بالأمي، والأمي لا يصلح إماماً للقارىء قبل سبق الحدث فبعد سبق الحدث أولى.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : قرأ في الأوليين فسبقه الحدث ثم قدم أمياً في الأخريين فسدت صلاتهم، وكذلك إن قدمه في التشهد وهو قول أبي يوسف في غير رواية «الأصول» أنه لا تفسد صلاتهم؛ لأن فرض القراءة صار مؤدى فصار الأمي والقارىء سواء في الركعتين الأخريين، ولظاهر الرواية وجهان.
أحدهما: أن تحريمة هذا الخليفة لم تنعقد للقراءة؛ لأنه لا قراءة عليه متى كان أمياً، وإذا لم تنعقد تحريمته للقراءة، لا يمكنه أن يبني على صلاة انعقدت بقراءة، ألا ترى أن الأمي إذا تعلم في وسط الصلاة فسدت صلاته لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، وإنما فسدت صلاته لما قلنا.

(1/412)


الوجه الثاني: أنه استخلف من لا يصلح إماماً له، ولهم فتفسد صلاته وصلاتهم كما لو قدم صبياً أو امرأة؛ وهذا لأن الاستخلاف عمل كثير إلا أنه يحمل لأجل الحاجة إلى إصلاح الصلاة وليس في تقديم من لا يصلح إماماً فتفسد.

وبيانه: أنه عاجز عن القراءة ولا صلاة في حق القارىء الإجزاء، فمن لا يقرأ لا تجوز صلاته لعدم الركن للضرورة لهذا الدليل، والفقه في ذلك أن القراءة شرط في جميع هذه العبادة، قال عليه السلام: «لا صلاة إلا بقراءة» ، واسم الصلاة اشتملت جميع هذه العبادة فينبغي أن يؤخر القراءة مشتملة على كلها غير أنه لا يمكن تحصيل ذلك تحقيقاً فجعل الحاصل في البعض موجوداً في الكل تقديراً، وإنما يمكن إثبات الشيء تقديراً ممن يكون له أهليه تحصيله فعند استخلاف الأمي تفوت القراءة في الأخريين تقديراً وتحقيقاً فتفسد، وأما إذا صلى ركعة ثم سبقه الحدث ثم استخلف أمياً لم يصح هذا الاستخلاف بلا خلاف؛ لأن القراءة فرض في الركعة الثانية، وقد تركها الخليفة فتفسد صلاتهم، كما لو استخلف قارئاً فلم يقرأ، وكان الأول في مكانه وترك القراءة، وأما بيان تعيين حال المصلي قال محمد رحمه الله.
في «الأصل» : أمي صلى بقوم بعض صلاته ثم تعلم سورة وقرأها فيما بقي، فإنه لا تجزئه صلاته، وصلاة من خلفه بمنزلة الأخرس بزوال من الخرس في حال صلاته، وهذا قول علمائنا الثلاثة؛ لأنه يريد أن يبني صلاته بقراءة على تحريمة لم تنعقد القراءة، فلا يصح هذا البناء قياساً على القارىء إذا اقتدى بالأمي، فإنه لا يصح اقتداؤه، وإنما لا يصح لوجهين، أحدهما: ما مر قبل هذا، والثاني: أن المقتدي يريد أن يبني صلاته بقراءة على تحريمة لم ينعقد لها، وكذا القادر على الركوع والسجود إذا اقتدى بالمومي لا يصح اقتداؤه، وإنما لا يصح اقتداؤه لما قلنا.

بيان ما قلنا: أنه بعد ما تعلم سورة لزمته القراءة وتحريمته لم تنعقد لها في الابتداء، لكونه عاجزاً عن القراءة عند التحريمة هذا لو كان إماماً وتعلم سورة في وسط الصلاة، وكذلك الجواب فيما إذا كان منفرداً وتعلم سورة في وسط الصلاة، فأما إذا كان مقتدياً بالقارىء وتعلم سورة في وسط الصلاة لا ذكر لهذه المسألة في الكتب المشهورة وقد اختلف المشايخ كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: لا تفسد صلاته؛ لأنه كان قارئاً محكماً في أول صلاته من حيث إن قراءة الإمام جعل له قراءة فانعقد تحريمته للقراءة، فإذا تعلم سورة، فإنما يبني صلاته بقراءة على تحريمة انعقدت لها فلا تفسد صلاته، كالقارىء إذا تعلم سورة.
وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد وعامة المشايخ يقول: تفسد صلاته؛ لأن تحريمة المقتدي لم تنعقد للقراءة حقيقة؛ لأنه لم يكن قادراً على القراءة حقيقة إلا أنه اعتبر...... حكمنا من حيث إن قراءة الإمام جعلت قراءة له، وحين تعلم السورة

(1/413)


فقد قرأ على القراءة حقيقة، فلا يمكنه البناء على تحريمة انعقدت للقراءة من حيث الحكم؛ لأن ما لزمه فوق ذلك.
القارىء إن صلى بعض صلاته ثم نسي القراءة وصار أمياً فسدت صلاته عند أبي حنيفة ويستقبلها، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا تفسد صلاته ويبني عليها استحساناً، وهو قول زفر.
حجتهم في ذلك: أن فرض القراءة في الركعتين، ألا ترى أن القارىء لو ترك القراءة في الأوليين وقرأ في الأخريين أجزأه، فإن كان قارئاً في الابتداء وقرأ في الركعتين فقد أدى فرض القراءة فعجز عن ذلك كتركه القراءة مع القدرة.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا كان قارئاً في الابتداء فقد التزم إذاً جميع الصلاة بقراءة، ثم عجز عن الوفاء بما التزم الاستقبال.

القارىء إذا صلى بقوم وقرأ في الركعتين الأوليين ثم أحدث واستخلف أمياً فسدت صلاتهم إلا على قول زفر، فإنه يقول: الإمام الأول أدى فرض القراءة، وهي القراءة في الركعتين ولم تبق القراءة فرضاً في الركعتين الأخريين.
فاستخلاف القارىء والأمي فيه سواء، وإنا نقول القراءة فرض جميع الصلاة لصفة القراءة، والأمي عاجز عن ذلك، فلا يصح خليفة له، واشتغال الإمام باستخلاف من لا يصلح خليفة له تفسد صلاة الإمام، كما لو استخلف صبياً أو امرأة وعلى هذا إذا رفع الإمام رأسه من أحد السجدة فسبقه الحدث فاستخلف أمياً، فسدت صلاته وصلاة القوم عندنا، فإن كان قعد مقدار التشهد، ثم سبقه الحدث واستخلف فهو على الاختلاف المعروف بين أبي حنيفة وصاحبيه، عند أبي حنيفة تفسد، وعندهما لا ويبني مرحلة الاثني عشرية، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي وأبو عبد الله الجرجاني، وذكر الفقيه أبو جعفر في «كشف الغوامض» أن على قول أبي حنيفة لا تفسد صلاته؛ لأن هذا الفعل ليس من أفعال الصلاة، فيخرجه عن الصلاة، كما لو تكلم أو خرج من المسجد.
وفي «الأصل» : الأمي إذا افتتح صلاة الظهر فقعد قدر التشهد وسلم، ثم تعلم سورة، ثم تذكر أن عليه سجدتي السهو، فإنه لا يعود وصلاته جائزة عند الكل، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلأنه يصير خارجاً بالسلام إذا كان عليه سهو، وإنما تعود الحرمة متى أمكنه العود إلى السجود وبعدما تعلم السورة لا يمكنه العود إلى السجود؛ لأنه متى عاد لا يكون محسوباً من السهو، لأنه يؤدي سجدتي السهو بتحريمة لم تنعقد بقراءة بعدما صار قارئاً فلا يمكنه ذلك، كما لو تعلم سورة وقد بقيت عليه سجدة أصلية، أو قعدة؛ فإنه لا يمكنه إتيان الباقي بعد ما تعلم السورة، وإنما لا يمكنه لما قلنا كذا هنا، فإذا تعذر عليه العود بقي خارجاً بالسلام السابق فتعلم السورة يحصل بعد الخروج فلا تفسد صلاته.

نظير هذا ما لو كان مسافراً فنوى الإمامة بعد السلام، وكان عليه سجدتي السهو، فإنه يصير خارجاً بالسلام؛ لأن العود تعذر بسبب الإقامة، كذا هنا، وعلى قول محمد: لا يخرج بالسلام لذا كان عليه السهو (65ب1) فكأنه تعلم السورة قبل السلام ولو تعلم

(1/414)


قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد تجزيه صلاته؛ لأنه لم يبق عليه واجب كذا ها هنا.
وأما إذا عاد إلى سجدتي السهو فلما سجد سجدة تعلم السورة، فإن صلاته تفسد على قول أبي حنيفة وعلى قولهما: لا تفسد؛ لأنه عاد إلى الحرمة حين سجد فصار كما لو تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد فتصير المسألة اثني عشرية.
وأما إذا سلم ثم تعلم سورة، ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو قراءة؟ فتشهد لم يذكر هذا في «الكتاب» ويجب أن تكون المسألة اثنا عشرية؛ لأنه سلام ساهي فيجعل وجوده كعدمه، فكأنه تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد فيكون على الاختلاف، وأما إذا سلم ثم تعلم سورة ثم تذكر أن عليه سجدة قال: صلاته تفسد عندهم جميعاً؛ لأنه تعلم سورة وعليه ركن من أركان الصلاة، وأما بيان ما يمنع صحة الاقتداء وما لا يمنع، وإذا كان بين الإمام وبين المقتدي حائط أجر صلاته أطلق الجواب في «الأصل» إطلاقاً قالوا: وهذا إذا كان الحائط ذليلاً قصيراً أما إذا كان بخلافه منع صحة الاقتداء، ونص على هذا: الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» ، فإنه قال: وبينه وبين الإمام حائط ذليل قصير وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه إذا كان بهذه الصفة حائلاً، واختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القصير الذليل وغيره.
حكي عن القاضي أبي طاهر الدباس رحمه الله أنه كان يقول: الذليل الذي يصعد عليه من غير كلفة ولا مشقة يخطو خطوة ويضع قدمه عليه، وعن محمد بن سلمة رحمه الله أنه قال: الذليل الذي لا تشتبه على المقتدي حال الإمام بسببه، وغير الذليل الذي يشتبه عليه حال الإمام بسببه.

وذكر الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أن الذليل الذي لا يمنع المقتدي عن الوصول إلى الإمام لو قصد الوصول إليه مثل حائط؛ لأنه إذا لم يمنع الوصول إلى الإمام لم يكن حائلاً بينه وبين الإمام، والمانع من صحة الاقتداء هو الحائل، وإن كان الحائط عريضاً طويلاً بحيث يمنعه عن الوصول إلى الإمام لو أراد الوصول إليه.
ذكر في بعض المواضع أنه يمنع صحة الاقتداء اشتبه عليه حال الإمام أو لم يشتبه، وإن كان على هذا الحائط العريض الطويل نقب إن كان لا يمنعه عن الوصول إلى الإمام لا يمنع صحة الاقتداء، وإن كان النقب صغيراً يمنعه عن الوصول إلى الإمام، ولكن لا يشتبه عليه حال الإمام سماعاً أو رؤية، فمن مشايخنا من قال: يمنع صحة الاقتداء؛ لأنه إذا لم يمكنه الوصول إلى الإمام فقد اختلف المكان، ومنهم من قال لا يمنع؛ لأن الحائط إنما يصير مانعاً لاشتباه حال الإمام عليه لا لاختلاف المكان؛ لأن القدر الذي هو مشغول بالحائط لو كان فارغاً لا يختلف المكان، وهذا هو الصحيح.
وإن كان على هذا الحائط باب إن كان الباب مفتوحاً لا يعتبر حائلاً، لأنه لا يشتبه عليه حال الإمام ولا يمنعه من الوصول إلى الإمام، فلا يمنع صحة الاقتداء، وإن كان الباب مسدوداً، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: يعتبر حائلاً ويمنع صحة الاقتداء؛ لأنه ي

(1/415)


منع الوصول إلى الإمام لو قصده، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: لا يمنع صحة الاقتداء؛ لأن الباب وضع للوصول والنفاذ فيكون على ما عليه وضع الباب كالمفتوح، وإن كان الحائط طويلاً إلا أنه مشبك، فمن اعتبر الوصول إلى الإمام يجعله حائلاً، ومن اعتبر عدم اشتباه حال الإمام لا يجعله حائلاً.

وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه إذا لم يكن على الحائط العريض باب ولا خوخة ولا نقب، ففيه روايتان: في رواية يمنع الاقتداء؛ لأنه يشتبه عليه حال الإمام، وفي رواية لا يمنع، قال: وعليه عمل الناس بمكة، فإن الإمام يقف في مقام إبراهيم وبعض الناس يقفون وراء الكعبة من الجانب الآخر وبينهم وبين الإمام الكعبة ولم يمنعهم أحد من ذلك، ولو كان بينه وبين الإمام طريق عظيم أو نهر عظيم لا يجوز الاقتداء عندنا لقوله عليه السلام: «ليس مع الإمام من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق من....» ؛ فلأنه يحلل بينهما ليس بمكان للصلاة حقيقة وحكماً، واختلاف المكان يمنع صحة الاقتداء.
وتكلم المشايخ في مقدار الطريق الذي يمنع الاقتداء، قال بعضهم؛ أن يكون ما تمر فيه العجلة أو جمل بغيره وقال بعضهم؛ إذا كان طريقاً متطرفاً ما تمر فيه العامة يكون عظيماً يمنع الاقتداء، وإن كان طريقاً لا تمر فيه العامة، وإنما يمر فيه الواحد والإثنين لا يمنع الاقتداء، وهذا إذا لم تكن الصفوف متصلة، فأما إذا اتصلت الصفوف على الطريق الذي لا يمنع الاقتداء؛ لأن الكل بحكم اتصال الصفوف فصار مكان الصلاة، وإن كان على الطريق واحد لا يثبت الاتصال، وبالثلاث يثبت الاتصال بالاتفاق، وبالمثنى خلاف: على قول أبي يوسف يثبت وعلى قول محمد: لا يثبت، وكذلك اختلفوا في مقدار النهر العظيم الذي يمنع صحة الاقتداء، وقال بعضهم: النهر العظيم ما تجري فيه السفن والزوارق، وهكذا ذكر الحاكم الشهيد.
في «المنتقى» : عن أبي حنيفة وهو الصحيح؛ لأنه إذا كان هكذا يصير حائلاً، ولكن ألا يصح الاقتداء في هذه الصورة إذا كان الناس يمرون فيه، وإن كانوا لا يمرون فيه لا تمنع الاقتداء، هذه الزيادة في متفرقات الفقيه أبي جعفر وعن أبي يوسف أنه إذا كان بحيث يمكن الشيء في بطنه كان عظيماً ومن المشايخ من قال إذا كان لا يمكن الرجل القوي أن يجتازه بوثبة فهو عظيم مانع صحة الاقتداء، وإن كان على النهر جسر وعليه صفوف متصلة لا تمنع صحة الاقتداء وللثلاثة حكم الصف بالإجماع، وليس للواحد حكم الصف بالإجماع وفي المثنى اختلاف على ما مر في الطريق، فإن كان بينه وبين الإمام بركة أو حوض إن كان بحال لو وقعت النجاسة في جانب تنجس الجانب الآخر لا يمنع

(1/416)


الاقتداء، وإن كان لا يتنجس يمنع الاقتداء، ويكون كثيراً كذا ذكره الإمام الزاهد الصفار، وسيأتي بعد هذا بخلافه.
وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل يصلي بقوم في فلاة كم مقدار ما ينبغي أن يكون بينه وبين القوم حتى لا تجوز صلاتهم حكي عن الفقيه أبي القاسم: أنه قال: مقدار ما يمكن أن يصطف فيه القوم، وغيره من المشايخ قال: مقدار ما يسع فيه الصفَّان.
فرق بين هذا وبين ما إذا صلى الإمام في مصلى العيد يوم العيد حيث يجوز، وإن كان بين الصفوف فصل، والفرق: أن مصلى العيد بمنزلة المسجد في حق الصلاة بالاتفاق، وإن اختلفوا فيما عدا الصلاة؛ لأن ذلك كله جعل للصلاة ولا كذلك الفلاة.
وفي «الفتاوى» : إمام صلى بقوم على الطريق فاصطف الناس في الطريق على طول قال: إذا لم يكن بين الإمام وبين القوم مقدار ما يمر منه الجمل جازت صلاتهم وإلا فلا، وكذلك بين الصف الأول وبين الصف الثاني؛ لأن المانع من الاقتداء ها هنا هو الطريق لأن..... بكون الطريق...... وقدرنا الطريق المانع بهذا لما قلنا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن المانع ثمة مجرد الانفصال، فقدرناه بالصف أو بالصفين.

رجلان أم أحدهما صاحبه في فلاة من الأرض جاء ثالث، ودخل في صلاتهما، فتقدم الإمام حتى جاوز موضع سجوده مقدار ما يكون بين الصف الأول وبين الإمام لا تفسد صلاته، وإن جاوز موضع سجوده؛ لأن في الابتداء لو كانوا ثلاثة وكان بينه وبينهم هذا القدر جاز، فكذا إذا تقدم هذا القدر.
x
وفي «فتاوى الفضلي» : رجل يصلي في الصحراء فأخر عن موضع قيامه مقدار سجوده لا تفسد صلاته ويعتبر مقدار سجوده من خلفه وعن يمينه وعن يساره، ويعطى لهذا القدر حكم المسجد، كما في وجه القبلة، فما لم يتأخر عن هذا الموضع لم يتأخر عن المسجد، فلا تفسد صلاته، ولا يعتبر الخط في هذا الباب حتى لو خط حوله خطاً ولم يخرج عن الخط، ولكن تأخر عما ذكرنا من المواضع فسدت صلاته.
وفي هذا الموضع أيضاً، قوم يصلون خارج المسجد أو في صحراء ووسط الصفوف موضع لم يقم فيها أحد مقدار حوض أو...... تجوز صلاة من وراء ذلك الموضع إذا كانت الصفوف متصلة حوالي ذلك الموضع؛ لأن الصفوف إذا كانت متصلة حوالي ذلك الموضع صار الكل في حكم المسجد (66أ1) وقد مر قبل هذا (في) مسألة الحوض والبركة، بخلاف هذا، وهذه المسألة تؤيد قول من يقول بجواز الاقتداء خارج المسجد إذا كانت الصفوف متصلة بصفوف المسجد، وإن لم يكن المسجد ملأناً أو في باب الجمعة في صلاة «الأصل» مسألة تدل على هذا القول.
وصورتها: إذا صلى الرجل في سوق الصيارفة صلاة الجمعة مقتدياً بإمام في

(1/417)


المسجد جاز إذا كانت الصفوف متصلة بصفوف المسجد اعتبر اتصال الصفوف ولم يعتبر كون المسجد ملأناً.
وإذا صلى في المئذنة مقتدياً بإمام في المسجد تجوز صلاته، وكذا لو صلى على سطح المسجد مقتدياً بإمام في المسجد تجوز صلاته، هكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك؛ فلأن غالب حال سطح المسجد أن لا يخلو عن كوة ومنفذ، فصار كحائط بينه وبين الإمام عليه باب، وهذا إذا كان مقامه خلف الإمام أو على يمينه أو على يساره، فأما إذا كان أمام الإمام أو بإذائه فوق رأسه لا يجوز، هذا المنقول عن أصحابنا، ذكر هذه الجملة شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» ، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده هذه المسألة، وجعل الجواب فيها كالجواب في الحائط إن كان عليه نقب أو باب مفتوح أو مسدود إلى آخره، هذا إذا صلى على سطح المسجد.
فإن صلى على سطح بيت وسطح بيته متصل بالمسجد، ذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» أنه يجوز، وعلل فقال: لأن سطح بيته إذا كان متصلاً بالمسجد لا يكون أشد حالاً من منزل يكون بجنب المسجد بينه وبين المسجد حائط.
ولو صلى رجل في مثل هذا المنزل مقتدياً بإمام في المسجد وهو يسمع التكبير من الإمام أو من المكبّر تجوز صلاته، فالقيام على السطح يكون كذلك، وذكر القاضي الإمام علاء الدين في «شرح المختلفات» هذه المسألة، وقال: لا يجوز الاقتداء وعلل فقال: الحائط حائل كما لو كان على أرض تلك الدار.

ووجه التوفيق بين القولين يظهر لمن تأمل في المسألة المتقدمة، وإذا قام على رأس الحائط يريد به الحائط الذي بين المسجد ومنزله، وذكر علاء الدين رحمه الله في «شرح المختلفات» ، قالوا: بجوز الاقتداء؛ لأنه لا حائل هنا، وذكر علاء الدين أيضاً: إذا كان على رأس الحائط صف وصف على سطح المنزل فصحة اقتداء الذي على سطح المنزل على الخلاف فيما إذا قامت الصفوف خارج المسجد، وهناك إن كان المسجد ملأناً يصح الاقتداء، وإن لم يكن المسجد ملأناً، قال بعض المشايخ: لا يجوز الاقتداء، وقال بعضهم: يجوز، وهو الصحيح. وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فناء المسجد له حكم المسجد حتى لو قام في فناء المسجد، واقتدى بالإمام صح اقتداؤه، وإن لم تكن الصفوف متصلة ولا المسجد ملأناً وإليه أشار محمد في باب صلاة الجمعة، فقال يصح الاقتداء في الطاقات بالكوفة، وإن لم تكن الصفوف متصلة فلا يصح في دار الصيارفة، إلا إذا كانت الصفوف متصلة؛ لأن الطاقات بالكوفة متصلة بالمسجد ليس بينها وبين المسجد طريق، فلا يشترط فيها اتصال الصفوف، فأما دارُ الصيارفة، فمنفصلة عن المسجد بينها وبين المسجد طريق، فيشترط فيها اتصال الصفوف، فعلى هذا يصح الاقتداء لمن قام على الدكان الذي يكون على باب المسجد؛ لأنها من فناء المسجد متصلة بالمسجد.

وفي «فتاوى أبي الليث» : إمام صلى بالناس في المسجد الجامع في غير يوم

(1/418)


الجمعة، فقام صف خلف الإمام عند المقصورة وقام صف آخر في آخر المسجد، تكلموا منهم من قال: تجوز، ومنهم من قال: لا تجوز، قال الصدر الشهيد: الأعدل من الأقاويل أن الإمام إذا كان بالمقصورة والقوم..... خاصة يجوز، وكذا إذا كان الإمام بمسجد..... والقوم.... خاصة يجوز، فإن كان الإمام بمقصورة والقوم بمسجد منارة لا يجوز، واتحاد الصلاتين شرط لصحة الاقتداء، حتى لم يصح اقتداء مصلي الظهر لمصلي العصر لا من يصلي ظهراً لمن يصلي ظهر يوم غير ذلك، ولا اقتداء المفترض بالمتنفل، ويصح اقتداء المتنفل بالمفترض.
وقال الشافعي: يصح الاقتداء في جميع ذلك، ثم إذا لم يصح الاقتداء في هذه المسائل عندنا، ولم يصر شارعاً في الفرض، هل يصير متطوعاً شارعاً في الصلاة، ذكر في باب الحدث أنه لا يصير شارعاً، وذكر في باب الأذان أنه يصير شارعاً.
فمن المشايخ من قال: في المسألة روايتان، ومنهم من قال ما ذكر في باب الحدث، قول محمد وما ذكر في باب الأذان قولهما بناءً على أن الفريضة إذا بطلت هل تنقلب تطوعاً.
وذكر في «زيادات الزيادات» : إذا اختلف الفرضان قام أحدهما صاحبه لا تجوز صلاة المأموم، وإن قهقه فيها لم يكن عليه وضوء، وهذا يدل على أنه لم يصر شارعاً في الصلاة، وذكر في باب افتتاح الصلاة إذا وقع تكبير المقتدي قبل تكبير الإمام حتى لم يصر شارعاً في صلاة الإمام هل يصير شارعاً في صلاة..... تفسد، اختلفوا فيه قال بعضهم: يصير شارعاً، وإليه أشار محمد في هذا الباب حيث قال في تعليل المسألة؛ لأنه دخل في صلاة غير صلاة الإمام.

وذكر في «نوادر أبي سليمان» وأشار إلى أنه لا يصير شارعاً، والأصح أن في المسألة روايتان: قال الصدر الشهيد: والاعتماد على أنه لا يصير شارعاً ثَمَّ بين المشايخ اختلاف في اقتداء المفترض بالمتنفل قال بعضهم: اقتداء المفترض بالمتنفل كما لا تجوز في جميع أفعال الصلاة لا تجوز في فعل واحد؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل؛ لأن الاقتداء بناءً على سبيل المشاركة، وإنما يصح بناء الموجود على الموجود لا بناء الموجود على المعدوم، واقتداء المفترض بالمتنفل بناء الموجود على المعدوم في حق صفة الفرضية، وفي حق هذا المعنى جميع أفعال الصلاة والفعل الواحد على السواء.
وبعض مشايخنا قالوا: اقتداء المفترض بالمتنفل إنما لا يجوز في جميع أفعال الصلاة أما يجوز في فعل واحد، ألا ترى إلى ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن الإمام إذا رفع رأسه من الركوع وجاء إنسان واقتدى به فقبل أن يسجد السجدتين سبق الإمام الحدث، فاستخلف هذا الرجل الذي اقتدى به ساعتئذٍ صح الاستخلاف، ويأتي الخليفة بالسجدتين، وتكون هاتان السجدتان فعل الخليفة حتى يعيدها بعد ذلك فرضاً في

(1/419)


حق من أدرك أول الصلاة، ومع هذا صح الاقتداء، وكذلك المتنفل إذا اقتدى بالمفترض في الشفع الأخير يجوز، وهذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة، ومع هذا صح وعامة المشايخ على أن اقتداء المفترض بالمتنفل، كما لا تجوز في جميع أفعال الصلاة لا تجوز في فعل واحد؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل على ما مر، وأما ما ذكر من المسألتين، أما المسألة الأولى قلنا؛ نحن لا نقول بأن السجدتين نفل في حق الخليفة بل هي فرض لوجود حد الفرض، فإن حد الفرض إنه إذا لم يؤده في محله يؤمر بالإعادة إذا أمكنه.

وإذا عجز عن الصلاة بأن جنح عن حرمة الصلاة تفسد صلاته، وقد وجد هذا الحد في مسألتنا؛ وهذا لأن الخليفة قائم مقام الأول فكان الأول في مكانه ولو كان الأول في مكانه كانت السجدتان فرضاً في حقه، فكذا في حق الخليفة إلا أنه لا يعتد بها في صلاته، وكم من فرض لا يعتد به، فعدم الاعتداد لا يدل على عدم الفرضية.
وأما المسألة الثانية قلنا: صلاة المقتدي أخذت حكم الفرض بسبب الاقتداء، ولهذا لزمه قضاء ما لم يدرك مع الإمام من الشفع الأول، وكذلك لو أفسد المقتدي الصلاة على نفسه يلزمه قضاء أربع ركعات، وإذا أخذت صلاة المقتدي حكم الفرض كانت القراءة نفلاً في حقه كما في حق الإمام، فكان هذا اقتداء المتنفل بالمتنفل في حق القراءة، وإذا اقتدى أحد الناذرين بصاحبه لم يجز؛ لأن سببهما مختلف واختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام، فصار كاختلاف الفرضين، وكذا من أفسد صلاة فقضاها مقتدياً بالمتنفل لا يجوز؛ لأن القضاء لزمه بالفساد، فصار كاقتداء المفترض بالمتنفل.
ولو نذر رجل أن يصلي ركعتين فقال رجل آخر لله عليّ أن أصلي تلك المنذورة ثم اقتدى أحدهما بالآخر جاز، وإذا نذر رجل أن يصلي ركعتين وحلف آخر، وقال والله لأصلين ركعتين جاز اقتداء الحالف بالناذر، فلا يجوز اقتداء (66ب1) الناذر بالحالف.
ولو حلف رجلان كل واحد أن يصلي ركعتين فاقتداء أحدهما بالآخر جاز بمنزلة اقتداء المتطوع بالمتطوع، ولو أن رجلين طاف كل واحد منهما أسبوعاً واقتدى أحدهما بالآخر في ركعتي الطوف لا يصح اقتداؤه بمنزلة اقتداء الناذر بالناذر.
ولو أن حنفي المذهب اقتدى في الوتر بمن يرى مذهب أبي يوسف ومحمد، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: يصح اقتداؤه؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى نية الوتر، فلم تختلف نياتهما ولو اشتركا في نافلة فأفسداها ثم اقتدى أحدهما بالآخر في القضاء صح، ولا يجوز اقتداء المسبوق في قضاء ما سبق بمثله، وكذا اقتداء اللاحق بمثله.

وفي «النوادر» عن محمد: في رجلين صليا معاً صلاة واحدة ونوى كل واحد منهما إمامة صاحبه جاز؛ لأن كل واحد منهما منفرد في حق نفسه، ولو اقتدى كل واحد منها

(1/420)


بصاحبه، فإن صلاتهما فاسدة؛ لأن صلاة المقتدي متعلقة بصلاة الإمام، وليس ها هنا إمام.
وإذا كان صف تام من النساء خلف الإمام ووراءهن صفوف من الرجال فسدت صلاة تلك الصفوف كلها استحساناً، وفي القياس تفسد صلاة صف واحد خلف صف النساء؛ لأن المحاذاة وجدت في حقهم، فصار كالمرأة الواحدة وهناك تفسد صلاة رجل واحد خلف المرأة، فكذلك ها هنا.
وجه الاستحسان: حديث عمر رضي الله عنه موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام: «من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له» ولأن الصف من النساء بمنزلة الحائط بين الإمام والمقتدي، ووجود الحائط الكبير الذي ليس عليه فرجة بين الإمام والمقتدي يمنع صحة الاقتداء، فكذلك الصف من النساء على الاختلاف الذي مر، فإن كن ثلاثاً وقفن في الصف تفسد صلاة واحد على يمينهن وواحد على شمالهن وثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف، لأن الثلاث جمع متفق عليه، هذا هو جواب ظاهر الرواية، وذكر في «واقعات الناطقي» : وجعل الثلاث صفاً تاماً حتى قال بفساد تلك الصفوف إلى آخرها.
فإن كانتا امرأتين فالمروي عند محمد: أن المرأتين تفسدان صلاة أربعة نفر واحد عن يمينهما، وواحد عن يسارها، واثنان خلفهما بحذائهما؛ لأن المثنى ليس بجمع تام فها هنا قياس الواحدة لا تفسدان الصلاة من خلفهما، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية جعل الثلاث كالاثنين وقال: لا تفسدان صلاة خمسة نفر واحد عن يمينهن وواحد عن يسارهن، وثلاث خلفهن بحذائهن؛ لأن الأثر جاء في صف تام والثلاث ليس بصف تام.

وفي رواية أخرى جعل المثنى كالثلاث وقال: امرأتان تفسدان صلاة واحد عن يمينها، وواحد عن يسارهما، وصلاة رجلين خلفهما إلى آخر الصفوف؛ لأن المثنى حكم الثلاث في الاصطفاف حتى يصطف خلف الإمام، وقال عليه السلام: «الاثنان فما فوقهما جماعة» .
ابن سماعة عن محمد في قوم وقفوا على ظهر ظلة والمسجد تحتهم والنساء قدامهم لا تجوز صلاتهم، قال: وكذلك الطريق قال: فإن كان الرجال الذين فوق الظلة بحذائهم من تحتهم نساء أجزأتهم بمنزلة امرأة بحذاء رجل بينها وبينه حائط، وهكذا ذكر في «واقعات الناطقي» .
وفي «فوائد الرستغفني» : إذا كان في المسجد رف وعلى الرف صف من النساء اقتدين بالإمام وتحت الرف صفوف الرجال هل تفسد صلاة من وقف خلف صف النساء،

(1/421)


قال: لا تفسد وإن قام ثلاث نسوة خلف الإمام أفسدن على من قام بحذائهن خلفهن إلى آخر الصفوف، ومن لم يكن بحذائهن من أهل الصفوف فصلاتهم تامة.
بشر عن أبي يوسف في إمام صلى برجال ونساء بصف النساء بحذاء صف الرجال، قال: تفسد صلاة رجل واحد الذي بين النساء والرجال وصار ذلك الرجل كسترة أو حائط بينهم وبينهن.
ألا ترى أنه لو كان بين صف النساء وبين صف الرجال سترة قدر مؤخر الرجل إن ذلك سترة للرجال، ولا تفسد صلاة أحد منهم، وكذلك لو كان بينهم حائط وكان الحائط قدر الذراع كانت سترة، وإن كان أقل من ذلك لا تكون سترة فإن كان النساء من فوق ذلك الحائط يعني الذي هو قدر الذراع فليس بسترة، وإن كان الحائط قدر قامة أو أطول، فهو سترة بأن كان على الأرض من الرجال ولا يكون سترة لمن كان على الحائط، وإن قام الرجل على الحائط والنساء على الأرض، فهذا وما لو قامت النساء على الحائط والرجال على الأرض سواء والله أعلم.

الفصل السابع عشر في بيان مقام الإمام والمأموم
وإذا كان مع الإمام رجل واحد وصبي يعقل الصلاة قام عن يمينه لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: بت عند خالتي ميمونة، لأراقب صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، فانتبه وقال: «نامت العيون، وغارت النجوم، وبقي الحي القيّوم» ، ثم قرأ آخر آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ} (آل عمران: 19) ثم قام إلى ستر معلق، فتوضأ وافتتح الصلاة فقمت وتوضأت ووقفت عن يساره، فأخذ بأذي وأدارني خلفه حتى أقامني عن يمينه، فعدت إلى مكاني، فأعادني ثانياً وثالثاً، فلما فرغ قال: ما منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك، فقلت أنت يا رسول الله، ولا ينبغي لأحد أن يشاركك في الموقف، فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ، فأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلّمإياه إلى الجانب الأيمن، دليل على أنه هو المختار إذا كان مع الإمام رجل واحد، ثم في ظاهر الرواية لا يتأخر المقتدي عن الإمام.
وعن محمد قال: ينبغي أن يكون أصابع المقتدي عند كعب الإمام، وهو الذي وقع عند العوام، ولو قام خلف الإمام لا يكره هكذا ذكر في متفرقات الفقيه أبي جعفر، ولو صلى خلف الصف ولم يلحق بالصف فالمنقول عن الشيخ أبي بكر أنه لا يكره، وذكر محمد بن شجاع في كتاب تصحيح الآثار على قول أبي حنيفة يكره.
قال: وإذا كان معه إثنان قاما خلفه؛ لأن للمثنى حكم الجماعة على ما مر قبل

(1/422)


هذا، ويقدم الإمام من..... إذا الصلاة بالجماعة، وكذلك إن كان أحدهما صبياً لحديث أنس: «أن جدته مليكة دعت رسول الله عليه السلام إلى طعام فقال قوموا لأصلي بكم فأقاماني واليتيم من ورائه وأمي أم سليم وراءنا» .

قال وإن كان معه رجل وامرأة أقام الرجل عن يمينه والمرأة خلفه، لأن رسول الله عليه السلام في حديث أنس: أقام المرأة وراء الكل» ، ولأن المحاذاة مفسدة للصلاة على ما نبين فتؤخذ المرأة صيانة للصلاة، قال: وإن كان رجلان وامرأة أقام الرجلين خلفه والمرأة وراءهما لما مر أن في هذه المسألة يقوم الرجلان خلف الإمام؛ لأن لهما حكم الجماعة بخلاف المسألة الأولى، وإن كان معه رجلان وقام الإمام وسطهما فصلاتهم جائزة ولم يذكر الإساءة لأن للمثنى حكم الجماعة في حق بعض الأحكام عند بعضهم حتى قال ابن عباس: إذا هلك الرجل وترك ابنتين فلهما نصف المال وهذا حكم الواحدة.... هذا القول لم يذكر الإساءة إذا لم يقمها خلفه قال: وأفضل مكان المأموم حيث يكون أقرب إلى الإمام لقوله عليه السلام: خير صفوف الرجال أولها، قال: وإذا تساوت المواضع فعن يمين الإمام أولى؛ لأن النبي عليه السلام «كان يحب التيامن في كل شيء» ، وقال بعض مشايخنا: عن يسار الإمام أولى، والأول أحسن، قال: وإذا قاموا في الصفوف تراصوا وسووا من مناكبهم، لقوله عليه السلام: «تراصوا وألصقوا المناكب» .
قال: وينبغي أن يجيء إلى الصلاة بالسكينة والوقار، كذا إذا أدرك الإمام في الركوع لقوله عليه السلام: «إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون عليكم بالسكينة الوقار، ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» .
رجلان صليا في الصحراء، وأتم أحدهما بالآخر، وقام على يمين الإمام، فجاء ثالث وجذب المؤتم إلى نفسه قبل أن يكبّر الافتتاح حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر بن طرفان أنه لا تفسد صلاة المؤتم جذبه الثالث إلى نفسه قبل التكبير أو بعده؛ لأن الثالث لما توجه إلى الصلاة وقام في مكان الصلاة (67أ1) صار ذلك الموضع مسجداً لهم، ويكون الثالث كالداخل في صلاتهما، وقال غيره من المشايخ: إذا جاء الثالث، لا ينبغي

(1/423)


أن يجذب المؤتم إلى نفسه لكن يتقدم الإمام ويقوم في موضع سجوده، فيصير الثالث مع من كان على يمين الإمام خلف الإمام؛ لأن الإمام ما لم يجاوز موضع سجوده لا تفسد صلاته، وعن الفقيه أبي بكر الأعمش في رجلين أم أحدهما صاحبه، وموضع سجود المؤتم قبل الإمام وموضع قدمه وراء قدم الإمام أو بحذائه، قال: تجوز صلاته؛ لأن العبرة لموضع القدم لا لموضع السجود، ألا ترى إلى ما ذكر في «الجامع الصغير» الإمام إذا كان يصلي وهو يسجد في الطاق وقدماه في غير الطاق أنه لا يكره، ولو كان قيامه وقدميه في الطاق يكره واعتبر القدم دون موضع السجود كذا ها هنا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل صلى لم ينوِ أن يؤم النساء فجاءت امرأة فدخلت في صلاته خلفه ثم قامت إلى جنبه لم تفسد صلاته عليه، ولم تجزءها صلاتها.

يجب أن يعلم أن نية الإمام إمامة المرأة شرط لصحة اقتدائها به، لأصل معروف أن محاذاة المرأة الرجل في صلاة مطلقة مشتركة، توجب فساد صلاة الرجل استحساناً، ولا توجب فساد صلاة المرأة استحساناً، فلو صح اقتداؤها به لوقع الإمام في الضرر، فإنها تقوم بحذائه فتفسد صلاته وليست لها ولاية الإضرار به فيتوقف ذلك على التزامه، وذلك بالنية، فإذا لم توجد النية لا يصح الاقتداء، وإذا لم يصح الاقتداء لا تفسد صلاة الرجل بالمحاذاة، لأن المحاذاة إنما جعلت مفسدة في صلاة مشتركة ولا تصح صلاتها؛ لأن صلاتها مع الإمام تخالف صلاتها وحدها فإذا لم تصح...... لا تصح اقتداء، أو نقول بأن الإمام باقتداءها تلزمه فرضاً كان لا يلزم قبل الاقتداء وهو مراعاة الترتيب في المقام فلا تلزمه هذه الزيادة إلا بالقصد والإرادة كالمقتدي لما كان يلزمه مراعاة الترتيب في المقام بسبب الاقتداء وتلحق صلاته فساداً من جهته بسبب ذلك تلزمه هذه الزيادة إلا بالقصد والإرادة، بخلاف صلاة الجمعة؛ لأن الجمعة لا تتأدى إلا بالجماعة.
والجماعة تتناول الرجال والنساء فإذا نوى إمامة الجماعة فقد نوى إمامة النساء، ولم يلزم القارىء إذا اقتدى بالأمي يصح بدون نية إمامته وتلحق صلاته فساد من جهته عند أبي حنيفة؛ لأنا نقول مذهب الكرخي أنه لا تصح بدون النية وإن سلمنا فنقول بمن لا يلحقه الفساد بسبب الاقتداء، فإن القارىء لو صلى وحده والأمي وحده فصلاته لا تجوز، دل أن الإفساد ليس سبب الاقتداء حتى يدفع الفساد عن نفسه بترك النية.
ثم لا بد لمعرفة هذه المسألة من معرفة المحاذاة ومعرفة المرأة والصلاة المطلقة المشتركة، فنقول وبالله التوفيق.

معنى المحاذاة: أن تقوم المرأة بحذاء الرجل في مكان متحد من أن يكون بينهما حائل، حتى لو كان الرجل على الدكان، والمرأة على الأرض والدكان مثل قامة الرجل لا تفسد صلاة الرجل لاختلاف المكان، ولو كان في مكان متحد بأن كانا على الأرض أو على

(1/424)


الدكان إلا أن بينهما أسطوانة أو ما أشبهها لا تفسد صلاة الرجل أيضاً لمكان الحائل، ونوى بالمرأة أن تكون من تصح منها الصلاة وهي بالغة أو صبية مشهاة، حتى إن المجنونة إذا حاذت الرجل لا تفسد صلاة الرجل، وإن كانت بالغة مشتهاة؛ لأنه لا تصح منها الصلاة، والصبية التي تعقل الصلاة إذا كانت لا تشتهى، فحاذت الرجل لا تفسد صلاة الرجل.
ونوى بالصلاة المطلقة الصلاة المعهودة، حتى إن المحاذاة في صلاة الجنازة لا تفسد صلاة الرجل، ونوى المشتركة أن يكونا شريكين بتحريمة وأداء، ويعني بالشركة تحريمة أن يكونا ناويين تحريمتهما على تحريمة الإمام ونعني بالشركة أن يكون لهم إماماً فما يؤديان.
v
.... حقيقة أو تقديراً، فإذا استجمعت المحاذاة هذه الشرائط، أو حدث فساد صلاة الرجل، ولا يوجب فساد صلاة المرأة استحساناً، وإنما أوجبت بفساد صلاة الرجل؛ لأن الرجل ترك فرضاً من فروض المقام؛ لأنه مأمور بتأخير المرأة قال عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، والمراد من الحديث الصلاة المطلقة بدليل سياقه، وهو قوله عليه السلام: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» ، فإذا لم تؤخرها، فقد ترك فرضاً من فروض المقام، فأوجبت فساد صلاته كالمقتدي إذا تقدم على الإمام تفسد صلاة المقتدي، وإنما تفسد لتركه فرضاً من فروض المقام.
فإن قيل: الأمر بالتأخير في حق الرجل عرف بهذا الخبر وأنه من أخبار الأحادد، وجواز الصلاة بدون التأخير عرف بالنص المقطوع به والخبر الواحد لا يصلح ناسخاً لما ثبت بالنص المقطوع به.

قلنا: هذا ليس ينسخ بالخبر الواحد؛ لأن النسخ بالخبر إنما يكون أن لو كان الحكم مقصوراً على الخبر، والحكم هنا وهو وجوب التأخير على الرجل غير مقصود على الخبر، فإنه وهو أن تأخير النساء إنما وجب إما تفضيلاً للرجال، فإن في تأخير النساء عن الرجال إظهار كمال الرجال ونقصان مالهن، غير أن التفضيل إنما يتحقق بتأخير المرأة في مكان واحد، وفي حرمة واحدة، وتفضيل الرجال على النساء ثابت بنص مقطوع، وهو قوله تعالى: {وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) وإنما وجب تأخير النساء صيانة لصلاة الرجل عن الفساد.
فإن المرأة من فوقها إلى قدمها عورة، فربما تشوش الأمر على الرجل فيكون ذلك سبباً، لفساد صلاة الرجل فصيانة الصلاة عن الفساد واجبة بالنص المقطوع به، جاء الخبر الواحد مثبتاً لما ثبت بالنص المقطوع به لا أن يكون الحكم مقصوراً على الخبر الواحد،

(1/425)


وهذا الكلام في صلاة الرجل.
وأما الكلام في صلاة المرأة فنقول: صلاة المرأة لا تفسد بالمحاذاة استحساناً، وكان ينبغي أن تفسد؛ لأنها تركت فرضاً من فروض المقام أيضاً؛ لأن الرجل كما صار مأموراً بالتأخير، فالمرأة صارت مأمورة بالتأخير؛ لأنه لا يمكن للرجل تأخيرها إلا بتأخرها، فصارت مأمورة بالتأخر ضرورة، فإذا لم تتأخر فقد تركت فرضاً من فروض الإمام.
والجواب في قول بأن الحديث لظاهرة أمر الرجال بالتأخير وليس يأمر للنساء بالتأخير ولو صارت مأمورة بالتأخر لصارت مأمورة ضرورة على الوجه الذي قلتم ولا ضرورة؛ لأنه يمكن للرجال تأخيرهم بدون تأخرها، بأن يتقدم عليها خطوة أو خطوتين، فلا ضرورة إلى إثبات الأمر في حقها.

وجوابٌ آخر: أن يقول بلى صارت مأمورة بالتأخر لكن لا قصداً، إلا أن الأمر بالتأخر غير ثابت في حقها قصداً أو صريحاً بل بطريق الضرورة على ما قلتم غير أن الثابت ضرورة يحفظ...... عن الثابت مقصوداً، فأظهرنا الأمر بالتأخر في حقها في حق لحوق الإثم بالترك لا في حق فساد الصلاة بالترك إظهاراً للتفرقة بين الثابت ضرورة وبين الثابت مقصوداً.
وحكى عن مشايخ العراق صورة في المحاذاة تفسد صلاة المرأة، ولا تفسد صلاة الرجل.
بيانها: إذا جاءت المرأة وشرعت في الصلاة بعدما شرع الرجل في الصلاة ناوياً إمامة النساء وقامت بحذاءه؛ وهذا لأن فساد صلاة الرجل بسبب المحاذاة لتركه فرضاً من فروض المقام، فإن الرجل مأمور بتأخير المرأة لقوله عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، فإذا لم يؤخرها فقد ترك فرضاً من فروض المقام، فأما المرأة ما تركت فرضاً من فروض المقام وإن صارت مأمورة بالتأخر؛ لأن المرأة ما صارت مأمورة بالتأخير نصاً وإنما تصير مأمورة بالتأخير إذا وجد التأخير من الرجل، ليقع تأخير الرجل مفيداً.
فإذا كانت المرأة حاضرة حين شرع الرجل في الصلاة فصلت بحذاءه أمكنه التأخير بالتقدم عليها خطوة أو خطوتين لأن ذلك مكروه في الصلاة، وإنما تأخيرها بالإشارة لو بالنداء، أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك فقد وجد منه التأخير فيلزمها التأخر فإذا لم تتأخر فقد تركت فرضاً من فروض المقام فتفسد صلاتها، وهذه مسألة عجيبة، وإذا قامت المرأة بحذاء الإمام واقتدت به ونوى الإمام إمامتها فسدت صلاة الإمام والقوم كلهم (67ب1) أما فساد صلاة الإمام؛ لأنه وجد في حقه المحاذاة في صلاة مشتركة، وأما فساد صلاة القوم لأن صلاتهم مربوطة متعلقة بصلاة الإمام على ما ذكرنا غير مرة.

(1/426)


وكان محمد بن مقاتل رحمه الله يقول: لا يصح اقتداؤها؛ لأن المحاذاة اقترنت بشروعها في الصلاة، ولو طرأ كان مفسداً صلاتها، فإذا اقترنت منع صحة الاقتداء، وهذا فاسد؛ لأن المحاذاة غير مؤثرة في صلاتها، وإنما تفسد صلاتها بفساد صلاة الإمام، ولا تفسد صلاة الإمام إلا بعد صحة شروعها، من المحاذاة ما لم تكن في صلاة مشتركة لا أثر لها في الإفساد، حتى أن الرجل والمرأة إذا وقفا في مكان واحد يصلي كل واحد منهما وحده لا تفسد صلاة الرجل؛ لأن الترتيب في المقام إنما يلزمه عند المشاركة، كالترتيب بين الإمام والمقتدي، والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله عليه السلام يصلي بالليل وأنا نائمة بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة، فكان إذا سجد خنست أرجلي، وإذا قام مددتها، وأما إذا لم ينوِ الإمام إمامتها لم تكن داخلة في صلاته.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا صلى الرجل برجال ونساء صلاة مكتوبة فأحدث رجل وامرأة ممن خلفه وذهبا يتوضئان ثم جاءا وقد صلى الإمام، فقاما يقضيان صلاتهما، فقامت المرأة بحذاء الرجل في مكان واحد فصلاة الرجل فاسدة وصلاة المرأة تامة، ولو كانا مسبوقين بأن دخلا في صلاة الإمام بعدما سبقهما الإمام بشيء من الصلاة، فلما فرغ الإمام قاما يقضيان ما سبقها به الإمام، فقامت المرأة بحذاء الرجل في مكان واحد، فصليا فصلاتها تامة، وهذا بناءً على ما ذكرنا أن محاذاة المرأة الرجل في الصلاة المطلقة المشتركة يوجب فساد صلاة الرجل دون المرأة إذا استجمعت المحاذاة شرائطها، وقد استجمعت المحاذاة شرائطها في المسألة الأولى دون الثانية، لأن المكان متحد ولا حائل والمرأة ممن تصح منها الصلاة وهي بالغة أو صبية مشتهاة والصلاة معهودة، والشركة........... تحريمتهما على تحريمة الإمام.

وأما إذا كان لهما إماماً فيما يؤديان تقديراً واعتباراً؛ لأنهما الأداء مع الإمام...... الخروج عن عهدة ما التزما كما التزما، فيجعل كأنهما خلف الإمام لتمكنهما الخروج عن عهدة ما التزما، أو يقول بعبارة أخرى: أن لهما إماماً فيما يؤديان تقديراً واعتباراً؛ لأنهما يقضيان ما فاتهما مع الإمام لعذر الحدث مع أنهما أدركا أول الصلاة، والقضاء يقوم مقام الأداء تقديراً واعتباراً.
ولو وقع الأداء في هذه الصورة حقيقة كان الأداء مع الإمام حقيقة، فإذا جاء وجد الأداء تقديراً كان الأداء مع الإمام تقديراً، ولهذا لا قراءة عليهما ولا سهو.
أما في المسألة الثانية وهي مسألة المسبوقين، لم توجد الشركة في الأداء، بل هما منفردان في الأداء إذا قاما إلى القضاء؛ لأنه ليس لهما إمام فيما يؤديان لا حقيقة ولا تقديراً، أما حقيقة فظاهر، وأما تقديراً أما على العبارة الأولى؛ لأنهما ما التزما الأداء مع الإمام فيما فات حتى يجعل كأنهما خلف الإمام فلهما الخروج عن عهدة ما التزما كما

(1/427)


التزما، أما على العبارة الثانية لأنهما لا يقضيان ما فاتهما مع الإمام حتى يجعل الإمام الموجود حالة الأداء، كالموجود حالة القضاء تقديراً؛ لأنهما لم يدركا ما يقضيان مع الإمام، بل هما منفردان في الأداء إذا قاما إلى القضاء، ولهذا كانت عليهما القراءة والسهو، وكان الشيخ الإمام أبو عبد الله..... يقول: أصحابنا جعلوا المسبوق فيما يقضي كالمنفرد إلا في ثلاث مسائل.
إحداها: أنه إذا قام إلى قضاء ما سبق به فجاء إنسان واقتدى به لا يصح اقتداؤه، ولو كان كالمنفرد يصح اقتداؤه، كما لو كان منفرداً حقيقة.
الثانية: إذا قام إلى قضاء ما سبق به فكبّر ونوى استئناف تلك الصلاة وقطعها يصير مسابقاً وقاطعاً، ولو كان كالمنفرد لما صار مسابقاً وقاطعاً، كما لو كان منفرداً حقيقة.

الثالثة: إذا قام إلى قضاء ما سبق وعلى الإمام سجدتا السهو فعليه أن يتابعه ولو لم يتابعه حتى فرغ من صلاته كان عليه أن يسجد سجدتي السهو، ولو كان كالمنفرد لكان لما تلزمه سجدتا السهو، بسهو سهاه الإمام.
ثم إن محمداً رحمه الله وضع المسألة في «الكتاب» : فيما إذا تحاذيا بعد العود وفرق بين المدركين وبين المسبوقين، ولم يذكر إذا تحاذيا في الطريق، قال مشايخنا: ينبغي أن لا تفسد صلاة الرجل استحساناً سواء كانا مدركين أو مسبوقين؛ لأنهما غير مؤدين للصلاة أو مسبوقين؛ لأنهما غير مؤدين للصلاة إذ لو جعلا مؤدين للصلاة حصل الأداء مع الحدث، وفي أماكن مختلفة، وكل ذلك مانع من الأداء والمحاذاة إنما أوجبت فساد صلاة الرجل لتركه فرضاً من فروض القيام وذلك مختص بحالة الأداء، وحكي عن الشيخ الزاهد أبي الحسن علي بن محمد البزدوي رحمه الله أن القهقهة في هذه الحالة لا تكون حدثاً استحساناً، ولكن تقطع الصلاة، والله أعلم.
(فصل) في الحث على الجماعة
الجماعة سنّة لا يجوز لأحد التأخر عنها إلا بعذر، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس وأنظر إلى أقوام تخلفوا عن الجماعة فأحرق بيوتهم» ، ومثل هذا الوعيد إنما يلحق تارك الواجب أو تارك السنّة المؤكدة، والجماعة ليست بواجبة فعلم أنها سنّة مؤكدة؛ ولأنها من أعلام الدين، فكان إقامتها هدى وتركها ضلالة إلا من عذر؛ لأن العذر أثراً في إسقاط الفرائض وفي إسقاط السنن أولى.

وقد ذكرنا في باب الأذان أن أهل بلدة لو اجتمعوا على ترك الصلاة بجماعة إنا نضربهم ولا نعاملهم، والأعمى إذا وجد قائداً يقوده إلى الجمعة لا يجب عليه الجمعة عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وقال محمد: لا يجب على المقود ومقطوع اليد والرجل من

(1/428)


خلاف، ومقطوع الرجلين والشيخ الكبير الذي لا يقدر على المشي، لأنهم لا يقدرون عليها إلا بمشقة زائدة على المشي المعتاد، فصاروا كالمريض: قال؛ وإذا زاد على واحد فهي جماعة في غير جمعة لا لقوله عليه السلام: «الإثنان فما فوقهما جماعة» ؛ ولأن الجماعة مأخوذة من معنى الاجتماع، وذلك حاصل بالمثنى وإن كان معه صبي يعقل كانت جماعة وهو إشارة إلى أن صلاة الصبي صلاة معتبرة، وإن لم تكن فرضاً ولو فاتته الجماعة جمع بأهله في منزله لما روينا أن النبي عليه السلام «جمع بأهله في منزله حين انصرف من صلح بعدما فرغ الناس من الصلاة» ، وإن صلى وحده جاز لما بينا أن الجماعة سنّة ولهذا لا تجب الجماعة في القضاء، وترك السنّة لا تمنع الجواز.
قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الأمصار ... أنأتي فيها المساجد أو نصلي في المنازل قال: ما أحب أن تتركوا حضور المساجد قال أبو يوسف: هذا أحسن ما سمعنا، في ابن سماعة قال: سأل رجل محمداً فقال: إن لنا مسجداً.... على الطريق أذن فيه وأقيم ولا يجتمع فيه أحد إلا أنا وابن عمي وربما كنت وحدي وبقربي مسجد يجتمع فيه جمع عظيم أترى أن أعطل هذا المسجد، وأصلي في المسجد الكبير الجماعة قال: لا تعطله ما قدرت عليه، الحسن عن أبي حنيفة في رجل جاء إلى مسجد وقد صلى فيه فسمع الإقامة في مسجد آخر قال: إن دخل فيه فلا يخرج منه حتى يصلي هنا الصلاة التي صلاها.
بشر عن عن أبي يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن النساء هل يرخص لهن في حضور المساجد قال: العجوز تخرج للعشاء....، ولا تخرج لغيرها، والشابة لا تخرج في شيء من ذلك وقال أبو يوسف: العجوز تخرج في الصلوت كلها.

الفصل التاسع عشر في المرور بين يدي المصلي وفي دفع المصلي المارّ، واتخاذ السترة ومسائلها
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في امرأة تريد أن تمر بين يدي رجل وهو يصلي قال: يدرأها وإن مرت لا تقطع صلاته.
اعلم أن الكلام في هذه المسألة في مواضع: إحدها: أن المرور بين يدي المصلي لا تقطع الصلاة أي شيء كان المار، وهذا مذهبنا، وقال بعض الناس: بأن مرور المرأة والحِمار والكلب تقطع الصلاة (68أ1) وهو قول بعض الصحابة، واحتج هذا القائل بما روى عبد الله بن الزبير عن النبي عليه السلام: أنه قال: «تقطع الصلاة مرور ثلاثة المرأة

(1/429)


والحمار والكلب الأسود» فقيل ما بال الأسود من الأبيض فقال: «إن الأسود شيطان» ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا يقطع مرور شيء الصلاة إلا ثلاث: الكلب والحمار والمرأة» ، ولنا ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرؤا ما استطعتم» ، وروي أن رسول الله عليه السلام؛ صلى في بيت أم سلمة، فأراد عمر بن أم سلمة أن يمر بين يدي رسول الله، فأشار إليه النبي عليه السلام أن قف فتوقف، ثم أرادت زينبُ بنت أم سلمة رضي الله عنها أن تمر بين يدي النبي عليه السلام، فأشار إليها النبي صلى الله عليه وسلّمأن قفي فلم تقف، ومرت بين يدي رسول الله عليه السلام، ورسول الله عليه السلام مضى على صلاته.

وروي عن عبد الله بن عباس والفضل بن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: «أتينا رسول الله عليه السلام على أتانٍ، فوجدناه يصلي فتركنا الأتان ودخلنا في صلاته، فكانت الأتان تتردد بين يدي رسول الله ورسول الله عليه السلام مضى على صلاته» ، وعن أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما أنه قال صلى الله عليه السلام: الجمعة فلما قعد أراد كلب أن يمر بين يديه فقلت سبحانك لا إله إلا أنت يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اقتل هذا الكلب فخر الكلب ميتاً قبل أن يضع رجله موضع يديه فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة قال: «من الداعي على الكلب فقلت: أنا، فقال دعيت عليه في ساعة لو دعوت على أهل الأرض أن يهلكوا لهلكوا، ثم قال ما حملك على هذا الدعاء فقلت: خشيت أن يمر بين يديك فيقطع صلاتك فقال عليه السلام: «لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرؤوا ما استطعتم، وما روى من الحديث روي أن عائشة رضي الله عنها لما بلغها هذا الحديث قالت: يا أهل العراق بئس ما قرنتمونا بالكلاب والحمير، كان رسول الله عليه السلام يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة وكان إذا سجد غمز رجلي» ، ولا شك أن هذا أكثر من المرور أو كان ذلك في بدء الإسلام ثم انتسخ بما روينا من الأحاديث.
والثاني: أن المصلي هل يدرء المار وكيف يدرءه فنقول المصلي يدرء المار لما

(1/430)


روينا من حديث ولدي أم سلمة وحديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي ذر وحديث أبي الدرداء رضي الله عنهم والأمر بالدرء في هذه الأحاديث بطريق الرخصة، والإباحة، كالأمر بقتل الأسودين في الصلاة.
واختلف المشايخ في كيفية الدرأ منهم من قال: يدرء بالإشارة لحديث ولدي أم سلمة على ما روينا، ومنهم من قال يدرء بالتسبيح؛ لأن هذه نائبة وقعت للمصلي، وقد قال عليه السلام: «إذا وقعت لأحدكم نائبة في الصلاة فليسبح» ، وذكر في «الأصل» إذا سبح وأشار بإصبعه ليصرفه عن نفسه لم تقطع صلاته، وأحب إليّ أن لا تفعل.

اختلف المشايخ في معنى قوله أحب إليّ أن لا تفعل، قال بعضهم: لأنه جمع بين الإشارة والتسبيح، وكان يكفي أحدهما، وقال بعضهم: لأنه نسخ والنص ورد بالإشارة، وقال بعضهم يحتمل أن يكون معناه أن ترك الإشارة والتسبيح للدرأ أولى؛ لأن الكراهية في المرور ثابتة من غيره وهذا ثابت بفعله، وفعل النبي عليه السلام محمول على الابتداء حين كان يجوز إدخال ما ليس من الصلاة في الصلاة، ثم أشار أو سبح أو جمع بينهما ولم يمتنع المار عن المرور، لا يزيد على ذلك، ولا يشتمل بالمعالجة، هذا هو مذهب علمائنا رحمهم الله، ومن العلماء من أطلق للمصلي أن يأخذ ببعض ثيابه أو ببعض ببدنه، فيدرأ لظاهر قوله عليه السلام: «وادرؤوا ما استطعتم» ، ومن العلماء من أطلق أن يضربه ضرباً، وجعلوا أن يقابله، فإن النبي عليه السلام قال في آخر حديث أبي سعيد الخدري «ادرؤوا ما استطعتم فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان» ، وعندنا لا يزيد على الإشارة والحديث محمول على الابتداء حين كان العمل في الصلاة مباحاً.
الثالث: أن المرور بين يدي المصلي مكروه والمار آثم، لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لو علم المار بين يدي المصلي ما عليه لوقف أربعين، قال أبو أيوب لا أدري أراد بقوله أربعين، أربعين عاماً أو شهراً أو يوماً» .

الرابع: في مقدار ما يجب أن يكون بين يدي المصلي وبين المار حتى لا يكره المرور، وهذا فصل لا ذكر له في «الأصل» وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم: قالوا خمسون ذراعاً، وبعضهم قالوا: موضع صلاته وهو موضع قدمه إلى سجوده، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: إذا مر في موضع يقع بصر المصلي عليه وبصره إلى موضع سجوده، فذلك مكروه، وما زاد على ذلك فليس بمكروه.

وقال الفقيه أبو القاسم الصفار: إذا كان بينه وبين المار مقدار ما بين صف الأول إلى حائط القبلة فمر وراءه لم يضره، وهذا إذا كان في الصحراء أو لم يكن له سترة، فإن

(1/431)


كان له سترة فمر بينه وبين السترة فهو مكروه، فإن مر وراء السترة فهو ليس بمكروه، وكذلك لا يدرأه المصلي إذا مر من وراء السترة.
قال بعض مشايخنا: فإنما يكره المرور بين المصلي وبين السترة إذا كان بين المصلي والمار أقل من مقدار الصفين، أما إذا كان مقدار الصفين فصاعداً فلا يكره، وإن كان يصلي في المسجد، فإن كان بينه وبين المار أسطوانة أو إنسان قائم أو قاعد لا يكره؛ لأن به وقعت الحيلولة بين المار وبين المصلي، وإن لم يكن بينهما حائل إن كان المسجد صغيراً يكره في أي موضع يمر وإلى هذا أشار محمد في «الأصل» ، فإنه قال في الإمام إذا فرغ من صلاته، فإن كانت صلاة لا تطوع بعدها فهو بالخيار، إن شاء انحرف عن يمينه وشماله، وإن شاء قام وذهب، وإن شاء استقبل الناس بوجهه إذا لم يكن بحذائه رجل يصلي ولم يفصل بين ما إذا كان المصلي في الصف الأول، أو في الصف الآخر وهذا هو ظاهر المذهب؛ لأنه إذا كان وجهه مقابل وجه الإمام في حال قيامه يكره ذلك، وإن كان بينهما صفوف.

ووجه الاستدلال بهذه المسألة: أن محمداً رحمه الله جعل جلوس الإمام في محرابه وهو مستقبل له بمنزلة جلوسه بين يديه وموضع سجوده، فكذا مرور المار في أي موضع يكون من المسجد يجعل بمنزلة مروره بين يديه، وفي موضع سجوده، وإن كان المسجد كبيراً مثل مسجد الجامع، قال بعض المشايخ: هو بمنزلة المسجد الصغير، فكره المرور في جميع الأماكن، وقال بعضهم؛ هو بمنزلة الصحراء فيكون الجواب فيه كالجواب في الصحراء ومن المشايخ من قال: الحد في المسجد قدر ثلاثة أذرع، ويترك ذلك القدر فيما وراء ذلك الأمر واسع عليه.
وإن كان الرجل يصلي على الدكان أو على السطح، فمر إنسان بين يديه على الأرض، فقد مر بين يديه إن كان السطح والدكان على أقل من قامة الرجل، هكذا ذكر بعض المشايخ في شرح «الأصل» .
وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» : إن كان بحيث يحاذي أعضاء المار أعضاء المصلي يكره، وما لا فلا ولو مر رجلان بين يدي المصلي متحاذيين فالذي يليه هو المار بين يديه، ولو مر بين يدي المصلي خلف الدابة، فليس بمار بين يديه.
وقال محمد رحمه الله: رجل يصلي في الصحراء يستحب له أن يكون بين يديه شيء مثل العصا ونحوه، وإن كان لا يجد العصا ليستتر بحائط أو سارية أو شجرة، والكلام هنا في مواضع.
أحدها: في أصل السترة وأنه مستحب، والأصل فيه؛ ما روي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت رسول الله عليه السلام يصلي إليها والناس يمرون من ورائها» ، وقال عليه السلام: «من كان يصلي في الصحراء فليضع بين يديه

(1/432)


مثل مؤخرة رحله أو واسطة رجل ثم لا يضره مرور شيء بين يديه.
والثاني: أن السنّة فيها الفرز لما روينا من حديث بلال.

والثالث: ينبغي أن يكون مقدار طولها ذراع، لأن العبرة قدر ذراع ولم يذكر في «الأصل» قدرها عرضاً، قيل: وينبغي أن يكون في غلظ إصبع (68ب1) هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وأنه موفق لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يجزىء من السترة السهم، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : قال محمد رحمه الله في «السير» : بلغنا أن رسول الله عليه السلام قال: «تجزىء من السترة السهم» بفتح الياء معناه يكفي، قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة: 48) ، قال: وطول السهم قدر ذراع وغلظه قدر إصبع، وقال عليه السلام: «إذا صلى أحدكم وبين يديه أجرة الرجل أو واسطة الرجل فليصلِ إليها ولا يبالي ما مر به من كل كلب أو حمار» ، وأجرة الرجل وواسطته يبلغ قدر ذراع، وأما إذا كان طول السترة أقل من ذراع ففيه اختلاف المشايخ.
k
قال شيخ الإسلام خواهر زاده: فعلى هذا إذا وضع قباه أو حقيبته بين يديه إن كان ارتفع قدر ذراع يصير بلا خلاف وإن كان دون ذلك يكون فيه خلافاً.
والرابع: سترة الإمام تجزىء أصحابه، فقد صح أن رسول الله عليه السلام صلى إلى العنزة بالبطحاء؛ ولم يكن للقوم سترة.
والخامس: ينبغي للمصلي أن يقرب إلى السترة، قال عليه السلام: «من صلى إلى سترة فليدن منها» .
والسادس: ينبغي أن يجعل السترة على أحد جانبيه إما الأيمن أو الأيسر، والأفضل أن يجعلها على جانبه الأيمن، قال في «الكتاب» ؛ لأن النبي عليه السلام لم يصل إلى شجرة ولا إلى عمود إلا جعله على جانبه الأيمن.
والسابع: إذا تعذر غرز السترة أيضاً به الأرض أو للحجر لا يضعها بين يديه عند بعض المشايخ، وعند بعضهم؛ يضع؛ لأن الشرع كما ورد بالغرز ورد بالوضع، ولكن يضع طولاً؛ لأنه لو أمكنه الغرز غرز طولاً ففي الوضع يكون كذلك.

والثامن: لا بأس بترك السترة إذا أمن المرور ولم يواجه الطريق؛ لأن الداعي إلى السترة قد زال، وقد فصل محمد رحمه الله في طريق مكة ذلك غير مرة.
والتاسع: إذا لم يكن معه خشبة أو شيء يغرز أو يضع بين يديه هل يخط خطاً

(1/433)


بين يديه، عامة المشايخ على أنه لا يخط، وهو رواية عن محمد، وقال بعض مشايخنا: يخط، وهو قول الشافعي، وهو رواية عن محمد أيضاً والذين قالوا بالخط، اختلفوا فيما بينهم في كيفية الخط: قال بعضهم: يخط طولاً، وقال بعضهم: يخط كالمحراب، والله أعلم.

الفصل العشرون في صلاة التطوع
رجل افتتح التطوع، فنوى أربع ركعات ثم تكلم فعليه قضاء ركعتين في قول أبي حنيفة ومحمد، وعن أبي يوسف ثلاث روايات، في رواية ابن سماعة عنه: أنه يلزمه أربع ركعات، ولا يلزمه أكثر من ذلك، وإن نواها، وفي رواية بشر بن الزهري عنه: أنه يلزمه ما نوى، وإن نوى مئة ركعة.
وفي رواية أخرى عنه: إن كان شروعه في الأربع قبل الظهر، والأربع قبل العصر، والأربع قبل الجمعة وبعدها، يلزمه أربع ركعات، وإن كان في غير ذلك لا يلزمه إلا ركعتين، وبعض المتأخرين من أصحابنا اختاروا هذا القول، والصحيح من مذهبه أنه رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وحاصل الكلام راجع إلى أن بالشروع في التطوع لم يلزم في ظاهر الرواية لا يلزم أكثر من ركعتين، وإن نوى أكثر من ذلك، وعند أبي يوسف يلزمه، واتفق أصحابنا أن الشرع في التطوع بمطلق النية لا يلزمه أكثر من ركعتين، إنما الاختلاف فيما إذا نوى أربع ركعات، هكذا ذكر الإمام الصفار رحمه الله.
وجه قول أبي يوسف على الرواية التي قال يلزمه وإن نوى بمئة ركعة: أن الشروع يلزم كالنذر، فنيته عند الشروع، كتسميته عند النذر فيلزمه ما نوى.

ووجه روايته التي قال تلزمه أربع ركعات ولا يلزمه أكثر من ذلك، وهو أن نية الأربع قارن سبب الوجوب فلزمه الأربع قياساً على النذر، فإنه إذا قال: لله عليّ صلاة ونوى أربع ركعات، وإنما قلنا النية قارنت سبب الوجوب؛ لأن الأربع قارنت الشروع، والشروع سبب كالنذر.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد: وهو أن العلماء اختلفوا في وجوب قضاء ركعتين، فعند أهل العراق: يجب، وعند أهل الحجاز: لا يجب، فاختلافهم في قضاء ركعتين اتفاق منهم على أن الأربع لا يجب؛ وهذا لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا يفسد الأول، فلا يصير شارعاً في الشفع الثاني، ما لم يفرغ من الأول، وبدون الشروع أو النذر لا يلزمه شيء.
بخلاف ما لو قال: لله عليّ صلاة، ونوى أربع ركعات حيث يلزمه أربع ركعات؛ لأن النية هناك قرنت سبب الوجوب من حيث اللفظ وهو النذر، وهنا لم يوجد النذر، لو وجب إنما يجب بالشروع، ولم يوجد الشروع في الشفع الثاني على ما بينا فلا يلزمه.

(1/434)


وفي «متفرقات» الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن معنى قول أصحابنا: إذا شرع الرجل في التطوع، ونوى أكثر من ركعتين، لا تلزمه أكثر من ركعتين: إن ذلك في غير السنن، فأما في السنن مثل الأربع قبل الظهر، والأربع قبل العشاء الآخرة، فإنه يلزمه أربع ركعات، ولا يلزمه أكثر من ذلك، ويلزمه في كل ركعتين من القراءة والذكر والفعل ما يلزمه في صلاة الفرض، وقالوا إذا قام إلى الثالثة يستفتح كما يستفتح في الابتداء، لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة على ما مر. وإذا ترك القعدة الأولى فالقياس: أن تفسد صلاته وهو قول محمد رحمه الله، كما لو تركها من آخر الفرض، وفي الاستحسان لا تفسد، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.

وجه ذلك: أنه لما أدى أربعاً بتحريمة واحدة صارت هذه الصلاة بمنزلة الفرض في حق القعدة الأولى الفقهٍ، وهو أن القعدة الثانية ليست من جملة الأركان على ما مر، قبل هذا، ولكنها مفروضة شرعت للختم، وختم المفروض فرض، لهذا لم تكن القعدة الأولى فرضاً، لأنها ليست بحالة الختم، فإذا قام إلى الثالثة هنا حتى صارت الصلاة من ذوات الأربع، لم تكن حالة القعدة الأولى حالة الختم، فلم يبق فرضاً كما في الفرض، وما كان مسنوناً في الفرض، فهو مسنون في التطوع إلا أن يصلي قاعداً وهو يقدر على القيام، أو يصلي التطوع على الراحلة، فإن ذلك يجزئه، ولا يجزئه في الفرض على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن أفسد شيئاً من ذلك قضاه، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب القضاء؛ لأنه متبرع وذلك ينافي الوجوب والإلزام وقد قال عليه السلام: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء لم يصم» ، والخلاف في الصلاة والصوم واحد.
ولنا: أن ما أدى عمل لله تعالى، لأنه إمساك لله تعالى بأمره وبدنه، فيجب صيانته عن البطلان، وذلك بالإتمام ولزمه القضاء عند الإبطال بقدر ما أدى، وإذا لزمه القضاء بقدر ما عمل لله تعالى، صار الحال في القضاء كالحال في الأداء، على معنى أن يلزمه الإتمام صيانة لما أدى، كما لزمه في الأداء.
قال: وكل ركعتين أفسدهما فعليه قضاؤهما دونما قبلهما، لما مر أن كل شفع صلاة على حدة، فلا يفسد الشفع الأول لفساد الشفع الثاني، وإذا افتتح التطوع قائماً أراد أن يقعد من غير عذر فله ذلك عند أبي حنيفة استحساناً، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجزئه وهو القياس.
وجه القياس: وهو الشروع يلزم كالنذر بدليل أنه لو أفسدها يلزم القضاء، ومن نذر أن يصلي ركعتين قائماً لم يجز أن يقعد فيهما من غير عذر، فكذلك إذا شرع قائماً.

وجه الاستحسان: وهو أن القعود في التطوع من غير عذر، كالقعود في الفرض بعذر، ثم هناك لا فرق بين الابتداء والبقاء فكذلك هنا؛ وهذا لأنه في الابتداء كان مخير

(1/435)


بين القيام والقعود، فكذا في البقاء، لأن البقاء أسهل من الابتداء، فلما جاز افتتاحها بالقعود فالبقاء أجوز، بخلاف النذر فهو التزام بالتسمية، وقد نص على القيام فلزمه، أما هنا لم يلزم اللفظ شيئاً لو التزم إنما يلتزم بالشروع والمباشرة وإجزاء الذي باشره قائماً وشرع فيه وأداه قائماً، آما سائر الأجزاء لما باشرها قائماً فلا يلزمه (إلا) قائماً، فإن قيل: ينبغي أن لا يجب عليه القضاء إذا أفسدها على هذه القضية؛ لأن بإجزاء الذي باشره قد أدى سائر الأجزاء (التي) لم تباشر، فلا يلزمه القضاء (69أ1) .
قلنا: هو شرع فيما يسمى صلاة....... وإسمية الصلاة ألزمناه الأجر الآخر، أما ها هنا ليس من ضرورة استحقاق بهذا الجزاء واسمية الصلاة إلى انضمام إجراء آخر ما ضرورة استحقاق هذا.........، واسمية الصلاة التزام صفة القيام، لأن الصلاة تجوز بدون صفة القيام، لأن القيام صفة زائدة، والدليل على الفرق بين النذر، والشروع أيضاً أنه لو نذر أن يصلي ركعتين قائماً فقعد وصلى قاعداً من عذر لا يجزيه، وفي الشروع لا يلزمه الاستقبال، دل على التفرقة بينهما، إلا أن القيام أفضل بالإجماع، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ، ولأن الصلاة قائماً أشق على البدن، وقال عليه السلام: «أفضل العبادات أحمزها» .

ولو نذر أن يصلي صلاة ولم يقل قائماً أو قاعداً، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا رواية لهذه المسألة، واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم؛ هو بالخيار، إن شاء صلى قائماً، وإن شاء صلى قاعداً، إلا أن القيام زيادة وصف في التطوع، بدليل أنه تجوز الصلاة بدون القيام، فلا يلزم إلا بالشرط كالتتابع في الصوم، وقال بعضهم: يلزمه قائماً، لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وما أوجبه الله تعالى أوجبه قائماً، فكذا ما أوجبه العبد، بخلاف الصوم، لأنه أوجب متتابعاً وغير متتابع، فلا يلزمه التتابع إلا بالشرط، وعلى بعضهم على الاختلاف قياساً على الاختلاف الذي بينا في الشروع، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً وأدى بعضها قاعداً ثم بدا له أن يقوم فقام فصلى بعضها قائماً وبعضها قاعداً أجزأه عندهم جميعاً، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يشكل، لأن عندهما التحريمة المنعقد للقعود منعقدة للقيام، بدليل أن المريض إذا افتتح المكتوبة قاعداً ثم قدر على القيام، فإن له أن يقوم ويصلي بقية الصلاة قائماً، لهذا المعنى أن التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام، وإنما يشكل هنا على مذهب محمد رحمه الله، لأن عنده التحريمة المنعقدة للقعود لا يكون منعقدة للقيام، حتى أن المريض إذا قدر على القيام في وسط الصلاة فسدت صلاته عنده إلا أنه قال هنا: تجوز صلاته، وفي المريض لا تجوز.
والفرق لمحمد رحمه الله: أن في المريض كان قادراً على القيام وقت الشروع في

(1/436)


الصلاة فما انعقدت تحريمته للقيام، فأما هنا في صلاة التطوع كان قادراً على القيام، فانعقدت تحريمته للقيام، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً، وكلما جاء أوان الركوع قام وقرأ ما بقي وركع جاز، وهكذا ينبغي أن يفعل إذا صلى التطوع قاعداً، لما روي عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي عليه السلام كان يفتتح التطوع قاعداً فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام، ومن القيام إلى القعود، فدل أن ذلك جائز في التطوع.
وإذا افتتح التطوع على غير وضوء وفي ثوب نجس، لم يكن داخلاً في صلاته، لأن الطهارة عن النجاسة الحقيقية شرط لجواز الصلاة، ولم يوجد فلا يصح شروعه فيها، وإذا لم يصح شروعه في الصلاة لا يلزمها القضاء، لأن القضاء يبنى على الأداء، وإن افتتحها نصف النهار، أو حين تحمر الشمس، أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس، أو عند طلوع الشمس، فصلى فقد أساء على ما مر قبل هذا، ولا شيء عليه، لأنه أداها كما التزم، فلا يبقى عليه شيء، كمن نذر أن يصوم يوم النحر وصام، فإنه لا يبقى عليه شيء، والمعنى ما ذكرنا، كذلك هنا، وإن قطعها فعليه القضاء عندنا، وعند زفر لا قضاء عليه، زفر رحمه الله قاس الشروع في الصلاة في الأوقات المكروهة بالشروع في الصوم يوم النحر، لعلة أنه مرتكب للنهي.

والفرق لأصحابنا وهو أن بالشروع هناك يصير قائماً مرتكباً للنهي، وهنا بنفس الشروع لا يصير مصلياً مرتكباً للنهي ما لم يقيد الركعة السجدة، بدليل أنه إذا حلف لا يصلي فصلى ما دون الركعة لا يحنث، ولو حلف لا يصوم فصام ساعة يحنث، وإذا كان مرتكباً للنهي بنفس الشروع في الصوم كان النهي مقارناً للشروع، فلا يجب إتمامه، فلا يلزمه القضاء بالإفساد، ولما لم يكن مرتكباً للمنهي بنفس الشروع في الصلاة ما لم يقيد الركعة بالسجدة، لم يكن المنهي مقارناً للشروع، فصح ما أدى، وإذا صح ما أدى وجب إبقاؤها إلا أنه أمر بالقطع كيلا يقع في المنهي، لا لأن ما أدى وجب إبقاؤها إلا أنه أمر بالقطع كيلا يقع في المنهي لما تناوله المنهي ثم إن أصحابنا فرقوا بينها إذا افتتح التطوع على غير وضوء أو في ثوب نجس حدث لا يلزمه القضاء، وإذا افتتح التطوع في الأوقات المكروهة، وقطعها فعليه القضاء عندنا، خلافاً لزفر.
والفرق: أن الشروع يلزم كالنذر، والنذر بالصلاة في الأوقات المكروهة صحيحة، ولزمه المنذور به، فكذا بالشروع لزمه ما شرع فيه، فيلزمه القضاء بتركه، أما في النذر بالصلاة بغير وضوء لا يصح، فلا يلزمه النذور به، فكذا لا يلزمه بالشروع، فإذا لم يلزمه بالشروع كيف يلزمه القضاء بإفساده؟.
ثم ها هنا مسائل: إذا نذر أن يصلي ركعتين بغير وضوء، أو بغير قراءة، أو عرياناً، فعلى قول أبي يوسف في المواضع كلها يلزمه ما سمى من الصلاة الصحيحة وما زاد في

(1/437)


كلامه فهو لغو، وعلى قول زفر: لا يلزمه شيء في الأحوال كلها، وعند محمد: إذا سمى ما لا يجوز أداء الصلاة معه بحال كالصلاة بغير طهارة لا يلزمه شيء، وإذا سمى ما يجوز معه الأداء في بعض الأحوال كالصلاة بغير قراءة يلزمه، والله أعلم.
وطول القيام أفضل في التطوع، لما روي «أن النبي عليه السلام سئل عن أفضل الصلاة فقال: «طول القنوت» يعني: القيام، ولأنه أشق على البدن وقال عليه السلام، «أفضل الأعمال أدومها» أي: أشقها وروي عن أبي يوسف: إذا كان له ورد من القرآن فالأفضل أن يكثر عدد الركعات؛ لأن القيام لا يختلف ويضم إليه زيادة الركوع والسجود وإذا لم يكن له ورد فطول القيام أفضل ولا يصلي تطوع بجماعة إلا قيام رمضان فقد استثني عن النهي قيام رمضان، وكما أن قيام رمضان مستثنى عن النهي فصلاة الكسوف يجوز أداؤها بالجماعة مع أنها تطوع ذكر محمد في «الأصل» وحكى عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي دقيقة في كراهة أداء التطوع بالجماعة، وسيأتي بيانها في مسائل التراويح في نوع المتفرقات إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله: رجل صلى أربع ركعات ولم يقرأ فيهن شيئاً يقضي ركعتين وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يقضي أربع ركعات، واعلم بأن هنا ثمان مسائل:
إحداهما: هذه المسألة.
الثانية: إذا قرأ في إحدى الأولين وإحدى الأخريين.
والثالثة: إذا قرأ في الأولين.
والرابعة: إذا قرأ في الأخريين.
والخامسة: إذا قرأ في الثلاث الأول.
والسادسة: إذا قرأ في الثلاث الأواخر.
والسابعة: إذا قرأ في ركعة من الأوليين.
والثامنة: إذا قرأ في ركعة من الآخريين، والأصل في جملتها أن يترك القراءة في الشفع الأول من الركعتين أو في إحداهما لا ترتفع التحريمة، ولا تنقطع عند أبي يوسف فصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول بتلك التحريمة، إن قرأ في الشفع الثاني في الركعتين صح هذا الشفع وعليه قضاء الشفع الأول لا غير، وإن ترك القراءة في الشفع الثاني في الركعتين أو في إحداهما فسد هذا الشفع وكان عليه قضاء الشفعين.

(1/438)


وعند محمد رحمه الله: ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين أو في إحداهما رفع التحريمة وقطعها فلا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الثاني، ولا يلزمه قضاؤه، وعلى قول أبي حنيفة: ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين يقطع التحريمة كما هو قول محمد باتفاق الروايات، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني عنده ولا يلزمه قضاؤه، واختلفت الروايات عنه في ترك القراءة في الشفع الأول في إحدى الركعتين روى محمد عنه أنه لا يقطع التحريمة كما هو مذهب أبي يوسف، فيصح الشروع في الشفع الثاني، ويلزمه قضاء الأربع كذا ذكر في كتاب الصلاة.
وفي «الجامع الصغير» : وروى بشر بن الوليد وعلي بن جعفر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقطع التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني ولا يلزمه قضاؤه، قال مشايخنا في المسألة قياس، واستحسان، فرواية محمد عنه استحسان ورواية أبي يوسف عنه قياس وجه قول محمد: إن كل شفع من التطوع صلاة على حده، به ورد الحديث قال عليه السلام: «صلاة الليل مثنى» ، وأراد به التطوع كانت القراءة في الركعتين فرضاً كما في صلاة الفجر، فإذا ترك القراءة في أحدهما فقد فات الفرض على وجه لا يمكن إصلاحه كما لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فيفسد الأداء، وإذا فسد الأداء فسدت التحريمة؛ لأن التحريمة للأداء ومتى (69ب1) فسدت التحريمة لم يصح بناء الآخرين عليها، فلم يلزمه قضاؤها إن ترك القراءة فيهما أو في إحداهما.
حجة أبي يوسف: أن فساد الأداء لا يكون....... من عدم الأداء، وعدم الأداء لا يفسد التحريمة ففساد الأداء أن لا تفسد التحريمة إذ بالفساد لا تنعدم إلا صفة الجواز والفقه: أن التحريمة شرط للأداء، فلا تفسد بفساد الأداء، وإذا لم تفسد بفساد الأداء صح بناء الآخرين على التحريمة.

حجة أبي حنيفة فيما إذا ترك القراءة في الأوليين ما قلنا لمحمد، وإن ترك القراءة في إحدى الأوليين، وجه القياس على قول أبي حنيفة ما قلنا لمحمد رحمه الله والاستحسان على قوله وجهان:
أحدهما: أن التحريمة شرط الأدء، قال أبو يوسف: إلا أنه مشروعة للأداء لا تقبل الفصل عن الأداء والأداء ثم بركعة واحدة؛ لأن أركان الصلاة كلها تتم بركعة واحدة فإذا قرأ في الركعة الأولى فقد وجد فعل الأداء صحيحاً فاستحكمت التحريمة، وانتهت في الصحة بها بناء فلم تفسد بترك القراءة في الركعة الثانية، وإذا لم تفسد صح بناء الآخرين عليها بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين؛ لأن التحريمة وإن صحت في الابتداء فما صحت إلا للأداء على سبيل التمام ولم يوجد ففسد الأداء لفوات بعضه ففسدت التحريمة التي يراد منها الأداء.

(1/439)


الوجه الثاني: أن فساد الشفع الأول يترك القراءة في الركعتين مقطوع به؛ لأن القراءة في ركعة واحدة ثبت بدليل مقطوع به، ومن الكتاب قال الله تعالى: {فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ} (المزمّل: 20) فجاز أن يؤثر في فساد التحريمة، أما فساد الشفع الأول بترك القراءة في ركعة واحدة ليس بمقطوع به، بل هو مجتهد فيه، فإن من الناس من قال الفرض القراءة في إحدى الركعتين؛ وهذا لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، لكن أوجبنا القراءة في الركعة الثانية احتياطاً؛ لأن الركعة الثانية تكرار للأول على ما سبق، والاحتياط هنا في أن لا يجعل القراءة فرضاً في الثانية في حق إبقاء التحريمة حتى نحكم بصحة الشروع في الشفع الثاني، فيجب عليه إتمام الشفع الثاني، ولا يحكم بصحة الأداء احتياطاً أيضاً. وأخذنا في كل حكم بالاحتياط.

وإذا عرفنا هذا «الأصل» جئنا إلى تخريج المسائل فنقول: إذا ترك القراءة أصلاً فعلى قول أبي يوسف: يجب عليه قضاء الأربع؛ لأن التحريمة عنده بقيت على الصحة، فصح الشروع في الشفع الثاني، وعند أبي حنيفة ومحمد عليه قضاء ركعتين؛ لأن التحريمة قد انقطعت عندهما بترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في إحدى الأوليين، وفي إحدى الأخريين يعني قرأ في الركعة الأولى والثالثة، فعليه قضاء أربع ركعات عند أبي يوسف، وكذلك عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه بترك القراءة في إحدى الأوليين لا تبطل التحريمة، فيصح بناء الشفع الثاني عليه، فيلزمه قضاء أربع ركعات وعند محمد يلزمه قضاء ركعتين؛ لأن عنده بترك القراءة في إحدى الأوليين تبطل التحريمة، فلا يصح بناء الثاني عليهما، فيلزمه قضاء ركعتين، وإذا قرأ في الأوليين إن كان قعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء ركعتين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تنقطع بالإجماع، فيصح بناء الشفع الثاني عليها بالإجماع أنه بترك القراءة في الأخريين أفسد الشفع الثاني، وفساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول.
إذا قعد في الشفع الأول كما إذا أحدث متعمداً، وإن لم يقعد على رأس الركعتين فعليه قضاء الأربع بالإجماع؛ لأن الشفع الثاني قد لزمه، وقد أفسدها بترك القراءة قبل أن يقعد على رأس الركعتين، فيؤثر في الشفع الأول.
كما لو أحدث متعمداً في الشفع الثاني قبل أن يقعد في الشفع الأول، وإذا قرأ في الأخريين فعليه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع في الشفع الأول صحيح، والأداء قد فسد لعدم القراءة فيلزمه قضاؤه.

وأما الشفع الثاني، فعند محمد رحمه الله لم يصح الشروع فيه، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، فلا يلزمه القضاء، وعند أبي يوسف صح الشروع فيه وصح الأداء لوجود القراءة، فلا يلزمه القضاء فإذا اتحد الجواب مع اختلاف التخريج، وإذا قرأ في الثلاث الأوائل، فإن كان قعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء الشفع الثاني بالإجماع؛ لأن الشفع الأول قد صح لوجود القراءة فيه، فيصح بناء الشفع الثاني عليه وقد فسد الشفع

(1/440)


الثاني لترك القراءة في إحدى الركعتين، فيلزمه قضاؤه.
وإن لم يقعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء الأربع بالإجماع.
والجواب في هذا الفصل كالجواب فيما إذا قرأ في الأوليين فقط، وإذا قرأ في الثلاث الأواخر، فعليه قضاء ركعتين عند محمد؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى انقطعت التحريمة، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاء الشفع الثاني ولكن يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع فيه قد صح، وفسد الأداء، وعند أبي يوسف يلزمه قضاء أربع ركعات؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى لا تنقطع التحريمة، فصح الشروع في الشفع الثاني وفسد الأول؛ لأن الشفع الأول قد فسد، والثاني بناءً عليه والبناء على الفاسد فاسد.
وكذلك الجواب عند أبي حنيفة في رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عند التحريمة لا تنقطع بترك القراءة في إحدى الركعتين الأوليين فصح الشروع في الشفع الثاني، والتقريب ما ذكرنا.
وإذا قرأ في إحدى الأوليين، فعند محمد رحمه الله قضاء الشفعين، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله على رواية محمد رحمه الله لما ذكرنا، وإذا قرأ في إحدى الأخريين، فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير؛ لأن الشروع في الشفع الثاني لا يصح عنده.

وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله: لا يصح الشروع في الشفع الثاني؛ لانقطاع التحريمة عنده بترك القراءة في الشفع الأول أصلاً، وعند أبي يوسف رحمه الله قضاء الأربع لصحة الشروع في الشفع الثاني عنده، فإن صلى أربع ركعات، ولم يقرأ في الأوليين وقرأ في الأخريين ينوي قضاء الأوليين لا يكون قضاء عن الأوليين؛ لأنه بنى بناءً على تحريم واحدة والتحريمة الواحدة لا يتسع فيها القضاء والأداء، فإن ترك القراءة في الأوليين ثم اقتدى رجل في الأخريين، فصلاهما معه فعليه قضاء الأوليين كما يقضي الإمام، لأنه لما شارك الإمام في التحريمة فقد التزم ما التزم الإمام بعد التحريمة.
وهذا إنما يستقيم على قول أبي يوسف وعلى قول أبي حنيفة على ما روى عنه محمد؛ لأن التحريمة لا تنحل بترك القراءة عندهما، فأما عند محمد رحمه الله التحريمة انحلت بترك القراءة وصار الإمام خارجاً من الصلاة، فلم يصح اقتداء الرجل بالإمام، فلا يجب عليه قضاء شيء، فإن دخل معه رجل في الأوليين، فلما فرغ منهما تكلم الرجل ومضى الإمام في صلاته حتى صلى أربع ركعات، فعلى الرجل المقتدي قضاء ركعتين الأوليين فقط؛ لأن المقتدي خرج من صلاة الإمام بالكلام قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني، وإنما يلزم الإمام الشفع الثاني بالقيام إليها، فإذا خرج المقتدي من صلاته قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني لم يلزمه شيء من هذا الشفع، وإنما يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأنه كان شارعاً فيه وقد أفسد الإمام بترك القراءة، فيلزمه قضاؤه.
وذكر الحاكم الجليل رحمه الله في «مختصره» ، وإن كانت الصلاة كلها صحيحة لم يكن على الرجل إلا قضاء الركعتين قيد بالركعتين الأوليين؛ لأنه بالكلام خرج الإمام عن

(1/441)


كونه إماماً له قبل أن يدخل في الأخريين، ثم قال الحاكم الجليل أيضاً، إنما يصح هذا الجواب إذا أفسد الرجل الركعتين على نفسه قبل أن يفرغ منها والله أعلم.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: صلاة الليل إن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعاً، وإن شئت ستاً، وذكر في كتاب صلاة «الأصل» وإن شئت ثماناً، وليس في المسألة اختلاف الروايتين، لكن في «الجامع الصغير» ، والحال في كتاب الصلاة، واعلم بأن التطوع بالليل حسن لقوله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء: 79) ، وبعض العلماء قالوا ركعتان في كل ليلة، كمن قرأ القرآن سنّة، وقال بعضهم فريضة، وعندنا قيام ليس بسنّة ولا فريضة، ولكنه مستحب قال عليه السلام: «خصصت بصلاة الليل» .
قال: وصلاة النهار ركعتان ركعتان أو أربع أربع، ويكره أن يزيد على ذلك وإن زاد لزمه، واعلم بأن هنا أحكام ثلاثة الجواز والكراهية والأفضلية، أما الكراهية، فالزيادة على الثمان في صلاة الليل بتسليمة مكروه، والزيادة على الأربع في صلاة النهار بتسليمة مكروه؛ لأن السنّة في صلاة الليل وردت إلى الثمان، وفي صلاة النهار إلى الأربع وما وردت بالزيادة، فيكره الزيادة على ذلك لعدم ورود السنّة.

فإن قيل: وردت السنّة في صلاة الليل بالزيادة على الثمان، فإنه روي (70أ1) «أنه كان يصلي بتسليمة واحدة تسعاً» ، وروي إحدى عشر وروي ثلاثة عشر، قلنا: ما روي أنه عليه السلام صلى تسعاً بتسليمة، فتأويله أن الثلاث كان وتراً وست ركعات، لصلاة الليل وما روي أنه عليه السلام أنه صلى إحدى عشر ركعة، فثلاث منها كان وتراً وثمان ركعات لصلاة الليل وما روي أنه عليه السلام كان يصلي ثلاث عشر، ثلاث منها كان وتراً وركعتان للفجر وثمان ركعات للتطوع قال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله هذا التفسير، منقول عن النبي عليه السلام غير مستخرج من تلقاء أنفسنا؛ وهذا لأن في ابتداء الأمر كان النبي عليه السلام يوصل صلاة الليل بالوتر والوتر بركعتي الفجر صار الوتر واجباً، فصل من صلاة الليل والوتر وبين الوتر وركعتي الفجر، فاستقرت الشريعة على ثمان ركعات بتسليمة واحدة في صلاة الليل، فنكره الزيادة عليها؛ لأنه خلاف السنّة، لكن لو صلى يجوز لأن الكراهية لا تمنع الجواز كالصلاة في الأوقات المكروهة، فأما الكلام في الأفضلية، أما في صلاة الليل قال أبو حنيفة رحمه الله: الأفضل أربع ركعات بتحريمة واحدة. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي؛ الأفضل مثنى مثنى، ثم احتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال النبي عليه السلام «صلاة الليل مثنى مثنى» ، وفي كل ركعتين، فسلم ولأنها تطوع الليل، فيكون مثنى مثنى قياساً على التراويح في ليالي رمضان، فإن الصحابة أتفقوا على أن كل ركعتين من التراويح بتسليمة، فدل أن ذلك

(1/442)


أفضل؛ وهذا لأن الفصل بين الركعتين بالسلام يؤدي إلى زيادة تحريمة وزيادة تسليمة ودعاء لا يوجد ذلك إذا وصل أحدهما بالآخر، وكان الفصل بتسليمة أفضل.

وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي عن عائشة رضي الله عنه أنها سئلت عن قيام رسول الله عليه السلام في ليالي رمضان، فقالت: «كان قيامه في رمضان وغيرها سواء كان يصلي بعد العشاء أربع ركعات، لا تسل عن حسنهن وطولهن ثم أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم كان يوتر بثلاث» ، ولأن في الأربع بتسليمة واحدة معنى الوصل والتتابع في العبادة فهو أفضل، ولأن التطوع نظير الفرض، والفرض من صلاة الليل العشاء وهي أربع ركعات بتسليمة، فكذلك لك النفل.
وقوله في كل ركعتين فسلم أي فتشهد، فالتشهد يسمى سلاماً لما فيه من السلام، وأما التراويح إنما جعلوا ركعتين بتسليمة، ليكون أرواح على البدن وما يشترك فيه العامة مبني على اليسر، فأما الأفضل فما هن أشق على البدن، وأما بعد الفراغ عن التراويح لو أراد أن يصلي في بيته، فإنه يصلي أربعاً بتحريمة واحدة، وإنه أفضل الأربع أدوم إحراماً، وقال عليه السلام: «أفضل الأعمال أدومها» ، وأما ما روي عن الحديث، وهو قوله عليه السلام؛ «صلاة الليل مثنى مثنى» قلنا: ما روي في رواية أربعاً أربعاً، فكليهما جائز والأربع أفضل؛ لأنه أدوم والدليل عليه أنه لو نذر أن يصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة، فصلى بتسليمتين لا يخرج عن عهدة النذر، وحيث لا يخرج دل أن الأربع بتسليمة واحدة أفضل، وأما في صلاة النهار، فالأفضل أربع ركعات بتسليمة واحدة عندنا.
وعند الشافعي بتسليمة واحدة، لما فيها من زيادة التكبير والتسليم، وحجتنا حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام «كان يواظب في صلاة الضحى على أربع ركعات» ؛ ولأن التطوع نظير الفرائض وفرائض النهار أربع ركعات كالظهر والعصر، فكذلك التطوع.
فالحاصل: أن عند أبي حنيفة في تطوع الليل والنهار أربع ركعات أفضل، وعند الشافعي رحمه الله ركعتان فيهما أفضل وعندهما، وهو قول ابن أبي ليلى صلاة الليل مثنى أفضل، فصلاة النهار أربع أفضل، وإذا شرع في التطوع، وأراد أن يصلي ركعتين ثم بدا له أن يصلي أربعاً بتسليمة واحدة يستحب له ذلك؛ لأنه زاد خيراً.
وعن أبي يوسف في «الأمالي» إذا قال الرجل: لله عليّ أن أصلي أربع ركعات، فصلى ركعتين بتسليمة ثم ركعتين بتسليمة لا يجوز، ولو نذر أن يصلي ركعتين وركعتين، فصلى أربعاً بتسليمة واحدة جاز والله أعلم.

(1/443)


الفصل الحادي والعشرون في التطوع قبل الفرض وبعده وفواته عن وقته وتركه بعذر وبغير عذر
يجب أن يعلم أن التطوع قبل الفجر ركعتان اتفقت الآثار عليهما، وإنها من أقوى السنن، قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله عليه السلام: «ركعتا الفحر خير من الدنيا، وما فيها» والتطوع قبل الظهر أربع ركعات لا فصل بينهن إلا بالتشهد، يريد به أنه يصليها بتسليمة واحدة وتحريمة واحدة، ولو أدها بتحريمتين لا يكون معتداً بها عندنا، والأصل منه حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلي بعد الزوال أربع ركعات، يطيل فيهن القراءة، فقلت له ما هذه الصلاة التي تدوم عليها يا رسول الله، فقال: «هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء وما من شيء إلا وهو يسبح الله تعالى في هذه الساعة، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح» ، فقلت أفي كلهن قراءة، فقال: «نعم» فقلنا بتسليمتين أم بتسليمة واحدة، فقال: «بتسليمة واحدة» ، وبعد الظهر ركعتان لحديث عائشة رضي الله عنها، وأما قبل العصر، فإن تطوع بأربع ركعات فحسن خيره بين أن يفعل وبين أن لا يفعل؛ لأن رسول الله عليه السلام كان يفعله تارة ويتركه أخرى.

والسنّة ما واظب عليها رسول الله عليه السلام، لكن لو فعل، فحسن لحديث أم حبيبة بروايتين روى شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن رسول الله عليه السلام قال: «من صلى قبل العصر أربع ركعات كانت له جنة من النار» ، وروى شيخ الإسلام الشيخ الإمام أبو نصر الصفار: أن رسول الله عليه السلام، قال: «من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله تعالى لحمه ودمه على النار» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله تعالى له حتماً» ، ولا تطوع بعدها، والذي روي أن النبي عليه السلام صلى بعد العصر في بيت أم سلمة ركعتين، فقد سألته أم سلمة عنهما، فقال عليه السلام: «ركعتان بعد الظهر شغلني الوفد عنهما، فقضيتهما» فقالت أنقضيها نحن، فقال عليه السلام: «لا» .

(1/444)


والتطوع بعد المغرب ركعتان، بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله عليه السلام يصلي ركعتين بعد المغرب يطول فيهما القراءة، حتى يتفرق الناس» ، وعن سعيد بن جبير أنه قال: لو تركت ركعتي المغرب خشيت أن لا يغفر لي؛ ولأنه واظب عليها رسول الله عليه السلام، فكان سنّة.
وأما التطوع قبل العشاء، فإن تطوع قبلها بأربع ركعات فحسن، والتطوع بعدها ركعتان وروى عمر وعائشة رضي الله عنهما، وإن تطوع بأربع بعدها، فهو أفضل لحديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام «من صلى بعد العشاء أربع ركعات كن كثمان من ليلة القدر» وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده، والإمام الزاهد أبو نصر الصفار؛ لأن التطوع بعد العشاء حسن، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لم ينقل إلينا أن رسول الله عليه السلام واظب عليه، والسنّة ما واظب عليه رسول الله عليه السلام.

من مشايخنا من قال ما ذكر في «الكتاب» : أنه يتطوع بعد العشاء بركعتين قول أبي يوسف ومحمد، فأما على قول أبي حنيفة فالأفضل أن يصلي أربعاً، وجعل هذا القائل هذه المسألة.
فرع مسألة أخرى
أن صلاة الليل مثنى بتسليمة واحدة أفضل أو أربع، فعن أبي حنيفة أربع وعنهما مثنى والتطوع قبل الجمعة أربع ركعات، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام «كان يتطوع قبل الجمعة أربع ركعات» ، وقد اختلفوا في التطوع بعدها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنها أربع، وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد، وعن علي رضي الله عنه أنه يصلي بعدها ستاً ركعتين ثم أربعاً، وروى عنه رواية أخرى أنه صلى ستاً أربعاً ثم ركعتين، وبه أخذ أبو يوسف والطحاوي، وكثير من المشايخ على هذا، قال شمس الأئمة الحلواني: الأفضل أن يصلي أربعاً ثم ركعتين، فقد أشار إلى أنه تخير بين تقديم الأربع وبين تقديم المثنى، ولكن الأفضل تقديم الأربع كيلا يصير متطوعاً بعد الفرض مثلها، وأما التطوع قبل صلاة العيد وبعدها سيأتي في باب صلاة العيد إن شاء لله تعالى.

وأما سنة الضحى فقد ورد في الترغيب فيها أحاديث من ركعتين إلى إثني عشر ركعة، وفي «فتاوى الفضلي» أوكد السنن ركعتا الفجر، وهي آكد من الأربع قبل الظهر والأربع قبل الظهر آكد من ركعتي العشاء قال وركعتي الفجر، وركعتي المغرب أثر في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَرَ السُّجُودِ} (ق: 40) ، جاء في التفسير أنها ركعتا المغرب اتفق أصحابنا على أن ركعتي الفجر إذا فاتتا وحدها، بأن جاء

(1/445)


رجل ووجد الإمام في صلاة الفجر، فدخل مع الإمام في صلاته، ولم يشتغل بركعتي الفجر أنها لا تقضى قبل طلوع الشمس، وإذا ارتفعت الشمس لا تقضى قياساً، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وتقضى استحساناً إلى وقت الزوال، وهو (قول) محمد وإذا فاتتا مع الفرض تقضى مع الفرض إلى وقت الزوال وإذا زالت الشمس، يُقضى الفرض، ولا تقضى السنّة، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: لا خلاف في الحقيقة، لأن عند محمد لو لم تقضَ لا شيء (70ب1) ، وعندهما لو قضى يكون حسناً.

ومنهم من حقق الخلاف، وقال: الخلاف في أنه إذا قضى يكون فعلاً حسناً أو سنّة. وجه قول محمد رحمه الله: أن النبي عليه السلام قضى الفجر غداة ليلة التعريس بعد طلوع الشمس، ولهما أن السنّة إحياء طريقة رسول الله عليه السلام، والنبي عليه السلام قضاها مع الفرض، في ليلة التعريس لا بدون الفرض، فلا يكون في قضائها بدون الفرض إحياء طريقة رسول الله عليه السلام.

وأما الأداء قبل الظهر، إذا فاتته وحدها بأن شرع في صلاة الإمام، ولم يشتغل بالأربع هل يقضيها بعد الفراغ من الظهر ما دام وقت الظهر باقياً؟ فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا يقضهما وعامتهم على أنه يقضيها، وهكذا روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وهو الصحيح، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام «كان إذا فاته الأربع قبل الظهر» ، فقضاها بعد الظهر ثم اختلفت العامة، فيما بينهم، إن هذا يكون سنّة أو نفلاً مبتدأً، وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبعضهم قالوا: يكون سنّة، وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وهو قول إبراهيم النخعي وهو الأظهر، فإن عائشة رضي الله عنها أطلقت عليه اسم القضاء حيث قالت: قضاها بعد الظهر.
ثم كيف يأتي بها قبل الركعتين أو بعد الركعتين، فعلى قياس قول من يقول بأن الأربع نفل مبتدأ، يقول يأتي بها بعد الركعتين؛ لأنه لو أتى قبل الركعتين تفوته الركعتان عن وقتها، وعلى قياس من يقول بأنها سنّة، يقول بأنه يأتي بها قبل الركعتين؛ لأن كل واحد منهما سنّة إلا أن إحداهما فائتة والأخرى وقتية، ولو كان عليه قضاءان وأحدهما فائت والآخر وقتي بدأ بالفائت أولاً، كذا ها هنا، وسائر النوافل إذا فاتت عن وقتها لا تقضى بالإجماع سواء فاتت مع الفرض أو بدون الفرض، هذا هو المذكور في ظاهر الرواية. وكان الفقيه أو جعفر الهندواني يقول في ركعتي المغرب أن يقضيها، ذكره في «غريب الرواية» .
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل ترك سنن الصلوات الخمس إن لم ير السنن حقاً فقد كفر، وإن رأى السنن حقاً منهم من قال لا يأثم، والصحيح أنه يأثم.
وفي «النوازل» إذا ترك السنن إن تركها بعذر فهو معذور وإن تركها بغير عذر لا يكون معذوراً ويسأله الله تعالى عن تركها، والله أعلم.

(1/446)


ومما يتصل بهذا الفصل
بيان الأماكن التي يؤتى فيها بالسنن.

يجب أن يعلم بأن السنّة في ركعتي الفجر أن يأتي بهما الرجل في بيته، فإن لم يفعل، فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي في المسجد، فإن لم يمكنه ذلك، ففي المسجد الخارج إن كان الإمام في الداخل، وفي الداخل إن كان الإمام في الخارج، وإن كان المسجد واحداً، فخلف أسطوانة أو نحو ذلك، ويكره أن يصلي خلف الصفوف بلا حائل، وأشدها كراهة أن يصلي في الصف مخالطاً للقوم، وهذا كله، إذا كان الإمام والقوم في الصلاة، فأما قبل الشروع في الصلاة إذا أتى بها في المسجد في أي موضع شاء لا بأس به.
فأما السنن التي بعد الفرائض، فلا بأس بالإتيان بها في المسجد في المكان الذي يصلي فيه الفريضة، والأولى أن يتنحى خطوة أو خطوتين والإمام ينأى عن المكان الذي يصلي فيه الفريضة لا محالة.
وفي «الجامع الصغير» : إذا صلى الرجل المغرب في المسجد بالجماعة يصلي ركعتي المغرب في المسجد إن كان يخاف أنه لو رجع إلى بيته يشتغل بشيء، وإن كان لا يخاف، فالأفضل أن يصلي في بيته لقوله عليه السلام: «خير صلاة الرجل في المنزل إلا المكتوبة» .
وفي «شرح الآثار» للطحاوي أن الركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب يؤتى بهما في المسجد، فأما ما سواهما، فلا ينبغي أن يصلي في المسجد، وهذا قول البعض والبعض يقولون التطوع في المساجد حسن، وفي البيت أفضل، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر، وكان يتمسك بقوله عليه السلام: «نوروا بيوتكم بالصلاة، فلا تجعلوها قبوراً» ، وكان يقول كانت جميع السنن والوتر لرسول الله عليه السلام في بيته.

وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» إن من فرغ من الفريضة في المسجد في الظهر والمغرب والعشاء، فإن شاء صلى التطوع في المسجد وإن شاء رجع فتطوع في منزله.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً

إذا صلى ركعتين في آخر الليل ينوي بهما ركعتي الفجر، فإذا تبين أن الفجر لم يطلع لم يجزئه عن ركعتي الفجر، وكذلك إذا وقع الشك في طلوع الفجر في الركعتين أو وقع الشك في إحدى الركعتين أنها وقعت قبل طلوع الفجر لم يجزئه ذلك عن ركعتي الفجر، ولو صلى بعد طلوع الفجر ركعتين بنية التطوع كان ذلك عن ركعتي الفجر، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر.

(1/447)


وذكر الحسن في كتاب الصلاة أنه لا يكون عن ركعتي الفجر، ولو صلى ركعتين بنية التطوع وهو يظن أن الليل باقٍ، فإذا تبين أن الفجر قد كان طلع ذكر القاضي الإمام علاء الدين محمود المفتي في «شرح المخلفات» أنه لا رواية في هذه المسألة، وقال المتأخرون تجزئه عن ركعتي الفجر، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» : ظاهر الجواب أنه يجزئه عن ركعتي الفجر؛ لأن الأداء أصل في الوقت، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بهذا، وهذه الرواية تشهد أن السنّة تحتاج إلى النية، وفي بعض الروايات أن على قول أبي حنيفة: لا يجزئه عن ركعتي الفجر، وعلى قولهما تجزئة.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل دخل مسجداً قد صلى فيه، فلا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة ما بدا له في الوقت يريد بهذا إذا كان الوقت متسعاً، وإذا ضاق تركه، من مشايخنا من قال أراد بقوله. لا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة التطوع قبل العصر والعشاء، دون الفجر والظهر؛ لأن سنّة الفجر واجبة، وفي سنّة الظهر وعيد معروف قال عليه السلام: «من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي» .
ومنهم من قال؛ لا بل أراد به الكل، فالإنسان متى صلى صلاة المكتوبة، وحده عن غير جماعة لا بأس بأن يأتي سنة الفجر والظهر، فلا بأس بأن يتركهما؛ لأن النبي عليه السلام لم يأت بهما إلا عند أداء المكتوبة بالجماعة، فإذا أتى بهما إذا صلى وحده لم يكن أتى بسنّة رسول الله، وعن الحسن بن زياد أنه قال فيمن تفوته الجمعة، فصلى في مسجد بيته إنه يبدأ بالمكتوبة ولا يتطوع، وهو إشارة إلى ما قلنا، والقول الأول أظهر، والأخذ به أحوط.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً
رجل انتهى إلى الإمام والناس في صلاة الفجر إن خشي أن تفوته ركعة من الفجر بالجماعة، ويدرك ركعة صلى سنّة الفجر ركعتين عند باب المسجد، ثم دخل المسجد فيصلي مع القوم، وإن خاف أن تفوته الركعتان جميعاً دخل مع القوم في صلاتهم.
g

الأصل في هذا أن تكبيرة الافتتاح خير من الدنيا وما فيها، وكذلك سنّة الفجر لهما فضيلة عظيمة، قال عليه السلام: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» ، والمراد سنّة الفجر، وقال عليه السلام في ركعتي الفجر: «صلوهما فإن فيهما الرغائب» ، ومهما أمكن الجمع بين الفضيلتين لا يترك أحدها، فإذا كان يدرك ركعة من الفجر مع الإمام أمكنه إجزاء الفضيلتين، فإنه إذا صلى ركعتي الفجر، فقد أحرز فضيلتهما، وإذا أدرك مع

(1/448)


الإمام ركعة، فقد أدرك ركعة واحدة مع الإمام حقيقة وأدرك الركعة الأخرى، فعنى قال عليه السلام: «من أدرك ركعة من الفجر، فقد أدركها» فدل أنه أمكن الجمع بين الفضيلتين، فلا يترك إحداهما أو يقول لو ترك ركعتي الفجر، فاتته فضيلتها أصلاً، ولو اشتغل بهما ثم دخل مع الإمام ينال ثواب أصل الصلاة بالجماعة أنها تفوته كماله، فكان هذا أولى، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «خرج إلى حيين من أحياء العرب ليصلح منهم لشيء بلغه منهم، واستخلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فلما رجع وجده في الصلاة، فدخل منزله وصلى ركعتي الفجر ثم خرج وصلى معه» ، عبد الله بن مسعود دخل المسجد، فوجد الإمام في صلاة الفجر، فقام خلف سارية وصلى ركعتي الفجر، ثم صلى مع الإمام.
وإذا خاف أن تفوته الركعتان جميعاً لو اشتغل بالسنّة دخل مع القوم في صلاتهم؛ لأنه تعذر إحراز الفضيلتين، فيجوز أهمهما، وإحراز فضيلة الجماعة أهم من إحراز فضيلة ركعتي الفجر؛ لأنه إن ورد في ركعتي الفجر، وعد الثواب على الإتيان بها لم يرد الوعيد على قولهما، وورد الوعيد على ترك الجماعة، فكان إحراز فضيلة الجماعة أولى.

ثم فرَّق بين صلاة الفجر وبين صلاة الظهر، فقال في صلاة الفجر: إذا كان يدرك ركعة من صلاة الإمام يصلي ركعتي الفجر، وفي صلاة الظهر قال شرع في صلاة الإمام على كل حال، وإنما كان كذلك؛ إذ ليس الأربع قبل الظهر من الفضيلة بالجماعة، فيشتغل بالجماعة إحرازاً لأهم الفضيلتين، فأما لركعتي الفجر من الفضيلة ماللجماعة (71أ1) ، فقلت بأنه يأتي بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك الركعة مع الإمام إحرازاً للفضيلتين.
ثم ذكر في الكتاب إذا كان يرجو إدراك ركعة من الفجر مع الإمام يأتي بركعتي الفجر، ولم يذكر ما إذا كان يرجو إدراك القعدة مع الإمام صريحاً، هل يشتغل بركعتي الفجر؟ وأشار إلى أنه يدخل مع الإمام، فإنه قال: إذا خشي أن تفوته الركعتان مع الإمام دخل في صلاة الإمام، وبه أخذ بعض المشايخ.
بخلاف ما إذا كان يرجو إدراك ركعة من الفجر مع الإمام؛ لأن هناك بإدراك ركعة من الفجر يصير مدركاً للفجر حكماً؛ فإن رسول الله عليه السلام قال: «من أدرك ركعة من الفجر فقد أدركها» ولم يقل: من أدرك الإمام في القعدة، فقد أدركها، فلا يصير بإدراك القعدة مدركاً للفجر حكماً، ومنهم من قال على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجب أن يشتغل بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك الإمام في التشهد، وعلى قياس قول محمد يدخل في صلاة الإمام، ولا يشتغل بركعتي الفجر.
أصل المسألة إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد يصير مدركاً للجمعة عندهما،

(1/449)


وعند محمد رحمه الله لا يصير مدركاً لها، فأبو حنيفة وأبو يوسف جعلا هناك إدرك الإمام في التشهد كإدراك الركعة في حق إدراك الجمعة، فكذلك في حق هذا، ومحمد رحمه الله لم يجعل هناك إدراك الإمام في التشهد كإدراكه في حالة القيام في حق إدراك الجمعة، كذلك في هذا.

ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الجامع الصغير» إذا انتهى الرجال إلى الإمام، والإمام في صلاة الفجر إن خشي أن تفوته ركعة، ويدرك ركعة من الفجر يصلي ركعتي الفجر ويدخل مع القوم في صلاتهم وذكر في كتاب الصلاة إذا انتهى إلى الإمام والإمام يريد أن يأخذ في الإقامة، وقد اختلفوا فيه قال بعضهم هذا، وذلك سواء، ويشتغل بركعتي الفجر في الحالين إذا كان يرجو إدراك ركعة مع الإمام، وقال بعضهم: إذا انتهى إلى الإمام، والإمام في الصلاة يشتغل بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك ركعة مع الإمام، وأما إذا أراد الإمام أن يأخذ في الإقامة، يدخل في صلاة الإمام؛ لأن في الصورة الأولى تكبيرة الافتتاح فاتته حقيقة، وفي الصورة الثانية تكبيرة الافتتاح ما فاتته حقيقة، فلو دخل في صلاة الإمام يحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح حقيقة، وفضيلة الجماعة، فكان هذا أولى، ومن سوى بين الحالين يقول في الصورة الثانية إن كان يحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح حقيقة تقوم فضيلة ركعتي الفجر، وإذا اشتغل بركعتي الفجر يحرز فضيلة ركعتي الفجر، ويحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح معنى وكان هذا أولى، والله أعلم.
(فصل في الرجل يشرع في صلاة ثم أقيمت تلك الصلاة أو يشرع في النفل ثم أقيمت الفرض
أو يدخل في مسجد قد أذن فيه إذا صلى رجل ركعة من الظهر ثم أقيمت الظهر في ذلك المسجد يقطعها، ويدخل مع القوم.

يجب أن يعلم بأن نقض العبادات مقصوداً بغير عذر حرام، النقض لأداء ما هو فوقه جائز؛ لأنه ليس بنقض معنى، بل هو إكمال، فيجوز كهدم المسجد للإصلاح، وكنقص الظهر يوم الجمعة لأداء الجمعة، قلنا: والصلاة بجماعة ضرب مزية على الصلاة منفرداً، قال عليه السلام: «صلاة الرجل بجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة» ، وفي رواية «بسبع وعشرين درجة» ، فيجوز نقض الصلاة منفرداً لإحراز الجماعة؛ لأن هذا النقص وسيلة إلى ما فوقه، ولكن هذا إذا لم تثبت شبهة الفراغ عن صلاة منفرداً، فأما إذا ثبت شبهة الفراغ لا ينقضها؛ لأن العبادة بعد الفراغ عنها لا تقبل البطلان إلا بالردة.

(1/450)


إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة التي ذكرناها، والجواب فيها ما ذكرنا، وإنما يقطعها ويدخل مع القوم إحرازاً لفضيلة الجماعة، ولكن يضيف إليها ركعة أخرى؛ لأنه يمكنه إحراز الجماعة مع إحراز النفل بإضافة ركعة أخرى إلى الركعة الأولى حتى تصير شفعاً، فإن التطوع شرع شفعاً لا وتراً، ومهما أمكن إحراز العبادتين لا يصار إلى إبطال إحداهما، وإن كان في الركعة الأولى قائماً لم يتمها بعد حتى أقيمت الظهر ماذا يصنع؟ يمضي في صلاته أو يقطع للحال، هذا الفصل في «الكتاب» وقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يقطعها للحال؛ لأن هذا القدر ليس له حكم فعل الصلاة، ألا ترى أن من حلف لا يصلي لم يحنث بهذا القدر، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي، فإن فعل ما أدى، إن لم يكن له حكم فعل الصلاة، فهو قربة، وفي القطع إبطال القربة والجماعة سنّة، فلم يكن إبطال القربة أولى من مراعاة السنّة؟
توضيحه: أنه لو شرع في التطوع فأقيمت الظهر، وهو قائم في الركعة الأولى، فهنا كذلك يجب، قلنا: هذا إبطال صورة، لكنه وسيلة إلى ما هو أكمل منه فيكون حكمه حكم الكمال، كمن صلى وسهى فيها وكان ذلك أول ما سهى يقطعها ويستقبل الصلاة؛ لأنه يقطعها ليؤدي أكمل منه، فكذلك هنا.
بخلاف النفل؛ لأن ذلك القطع ليس للتكميل، فلا يجوز، وقال بعضهم: لا يقطع، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم الميداني إذا سئل عن هذه المسألة تارة يفتي بالمضي، وتارة يفتي بالقطع، فقيل له لم لا يثبت الشيخ على قول واحد، فقال: إن قلبي لا يثبت على شيء واحد فكيف يثبت قولي، وإذا لم يقطع على قول هؤلاء ماذا يصنع؟ اختلفوا فيما بينهم.
قال بعضهم: يخفف إذا شرع المؤذن في الإقامة، ويتم الصلاة، وقال بعضهم: يصلي ركعتين ثم يقطع، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإن كان قد صلى من الظهر ركعتين، وقام إلى الثالثة ثم أقيمت الظهر فإن لم يقيد الثالثة بالسجدة قطعها ولم يسجد؛ لأنه لو سجد لا يمكنه النقض بعد ذلك لما نبين (بعد هذا) إن شاء الله تعالى.
ثم اختلف المشايخ بعد ذلك، قال بعضهم هو بالخيار إن شاء عاد فقعد وسلم ودخل في صلاة الإمام، وإن شاء كبّر قائماً ينوي الدخول في صلاة الإمام.

وبعضهم قالوا يعود إلى التشهد لا محالة ويسلم، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه أراد بالخروج عن صلاة معتد بها والخروج عن صلاة معتد بها لم يشرع إلا بالقعدة، ثم إذا عاد إلى القعدة على قول من يقول اختلفوا فيما بينهم أنه هل يقرأ التشهد ثانياً أم لا، بعضهم، قالوا يقرأ؛ لأن القعدة الأولى لم تكن قعدة ختم، وقال بعضهم يكفيه التشهد الأول؛ لأن بالعود إلى القعدة يرتفض القيام؛ لأن ما دون الركعة محل الرفض فحين عاد إلى القعدة ارتفضت هذه الركعة، وجعلت، كأنها لم توجد أصلاً، فكانت هذه القعدة غير القعدة الأولى، وقد تشهد فيها، فلا يتشهد مرة أخرى ثم يسلم تسليمتين عند بعض المشايخ؛ لأنه تحلل من التحريمة، فيكون بتسليمتين، وعند بعضهم

(1/451)


يسلم تسليمة واحدة؛ لأن التسليمة الثانية للتحلل، وهذا قطع من وجه؛ لأن التحلل في ذات الأربع لم يشرع على رأس الركعتين، وبعضهم قالوا: لا يعود إلى التشهد لا محالة؛ لأن القعدة شرط التحلل، وهذا قطع وليس بتحلل؛ لأن التحلل في الظهر لا يكون على رأس الركعتين، لكن يقطع بالسلام قائماً.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح هذا الكتاب في هذا الفصل: أنه لو لم يعد إلى القعدة وسلم قائماً تفسد صلاته، قال رحمه الله: وهكذا فسر في «النوادر» وإن كان قد قيد الثالثة بالسجدة أتمها؛ لأن الثلاث أكثر الصلاة وللأكثر حكم الكل، فالآتي بها كالآتي بكل الصلاة، فثبتت شبهة الفراغ، ولو ثبتت حقيقة الفراغ لا يقبل البعض، فكذا إذا وجدت شبهة الفراغ، فإذا أتمها إن شاء دخل مع الإمام بنية التطوع.
وإن شاء لم يدخل؛ لأن ما يؤدي مع الإمام تطوع له، والناس في التطوعات بالخيار، ولكن الأفضل أن يدخل في صلاة الإمام، ويكون ما صلى مع الإمام تطوعاً؛ وهذا لأن التطوع بعد الظهر مشروع لو خرج من المسجد، ولم يصل مع الإمام ربما يتهم أنه ممن لا يرى الجماعة، فلهذا يدخل مع الإمام.

وقد ورد في عين هذه الصورة نص، وهو ما روي أن رسول الله عليه السلام فرغ من الظهر، فرأى رجلين في أخريات الصفوف، لم يصليا معه، فسألهما عن ذلك فقالا كنا صلينا في رحالنا، فقال: عليه السلام: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما صلاة قوم، فصليا معهم، واجعلا صلاتكما معهم سبحة» ، أي: نافلة، وإن أراد أن يكون فرضه أصلياً مع الإمام، فالحيلة له أن لا يقعد في الرابعة من صلاته التي أداها وحده، ويصلي الخامسة والسادسة فيصير ذلك نفلاً له، ويكون فرضه ما صلى مع الإمام، وكذلك الحكم في صلاة العشاء؛ لأن التنفل بعد العشاء مشروع.
فإن قيل: أليس إن أدى النفل بجماعة خارج رمضان مكروه.
قلنا: نعم، ولكن إذا كان (71ب1) الإمام والقوم مؤدّون النفل أما إذا أدى الإمام الفرض والقوم النفل لا بأس به بدليل ما روينا من الحديث وأما في العصر لا يدخل في صلاة الإمام بعدما أتم صلاته؛ لأن النفل بعد العصر مكروه، وفيما عدا هذا الحكم العصر نظير العشاء، ونظير الظهر.
ولو كان في صلاة الفجر، وقد صلى ركعة منها ثم أقيمت الفجر في ذلك المسجد قطعها إحرازاً لفضيلة الجماعة، كذلك إذا قام إلى الثانية، ولم يقيدها بسجدة قطعها؛ لأنه لو قيد بالسجدة، لا يمكنه القطع بعد ذلك؛ لأنه يصير....... وثبتت شبهة الفراغ منها، فلو كان في المغرب وقد صلى ركعة منها ثم أقيمت في ذلك المسجد قطعها،

(1/452)


وكذلك إذا قام (إلى) الثانية ولم يقيدها بسجدة قطعها؛ لأنه لو قيدها بالسجدة لا يمكنه القطع بعد ذلك؛ لأنه يصير...... لأكثر. وإن قيدها الثانية بالسجدة أتمها، فلا يشرع في صلاة الإمام بعدما أتمها؛ لأنه لو شرع لا يخلو إما أن يسلم على رأس الركعتين أو يسلم مع الإمام على رأس الثالثة أو يقوم، فيضيف إليها ركعة أخرى حتى يصير أربعاً لا وجه أن يسلم على رأس الركعتين؛ لأنه يصير مخالفاً لإمامه ومخالفة الإمام مكروه، قال عليه السلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» ولا وجه أن يسلم مع الإمام على رأس الثالثة؛ لأنه يصير متنفلاً بثلاث ركعات غير مشروع، ولا وجه إلى أن نضيف إليها ركعة أخرى لتصير أربعاً؛ لأنه يصير متنفلاً بأربع ركعات، وقد قعد على رأس الثالثة، وإنه مكروه. وعن أبي يوسف له قال الأحسن أن يدخل مع الإمام، ويصلي أربعاً يصلي ثلاث ركعات مع الإمام.
وإذا فرغ الإمام قام وأتم الرابعة أكثر ما فيه أن فيهن نوع تغيير إلا أن هذا التغيير، إنما وقع بسبب الاقتداء، والتغيير بسبب الاقتداء لا بأس به، كمن أدرك الإمام في السجدة، فإنه يتابعه فيها، والسجود قبل الركوع غير مشروع، وكمن أدرك الإمام في القعدة، فإنه يتابعه فيها، والقعدة قبل أداء الأركان ليس بمشروع، فعلم أن التغيير إذا وقع بسبب الاقتداء لا بأس به، وعندنا إن دخل في صلاة الإمام فعل كما قال أبو يوسف.

وعن أبي يوسف نظرية أخرى أنه يدخل في صلاة الإمام، ويسلم على رأس الثالثة مع الإمام؛ لأن هذا تغير وقع في التطوع بسبب الاقتداء، فلا يكون به بأس كما إذا صلى الظهر وحده أولاً، ثم يدخل في هذا الظهر مع الإمام، وترك الإمام للقراءة في الأخريين، فإنه يجوز صلاة المقتدي وهذه الصلاة تطوع في حق المقتدي، وإذا تطوع منفرداً على هذا الوجه لا يجوز، ولكن لما كان هذا تغيير بسبب الاقتداء لم يكن به بأس.
وإذا صلى الظهر في بيته يوم الجمعة ثم صلى الجمعة مع الإمام فالجمعة فريضة، ويصير الظهر نفلاً له، فهذا؛ لأنه مأمور بالسعي إلى الجمعة، قال الله تعالى: {فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9) ، ويعد أداء الظهر في بيته هذا الأمر؟ وكان مفترضاً في أداء الجمعة لا متطوعاً، ولا يجتمع فرضان في وقت واحد، فمن ضرورة كون الجمعة فرضاً ينقلب ما أداها قبلها تطوعاً، بخلاف سائر الأيام، فإن في سائر الأيام لو صلى الظهر في بيته، ثم شرع فيها مع الإمام، فإن الأولى تكون فرضاً، والثانية تطوعاً؛ لأن بعد أداء الظهر في سائر الأيام في بيته لا يبقى مخاطباً بشهود الجمعة في تلك الصلاة، فإذا شهد ما كان متنفلاً بها.
يوضح الفرق بينهما: أن الجمعة عبادة مقصودة بنفسها، وليست بتبع للظهر، فلا تسقط بأداء الفرض، فأما الجمعة تبع للظهر؛ لأنه وصف للظهر، فإذا سقط الأصل سقط التبع ضرورة، وأما إذا شرع في النفل ثم أقيمت الفريضة وهو قائم في الركعة الأولى لا يقطع بالاتباع، ولكن يتم ذلك بالشفع، ويدخل في الفرض.

(1/453)


وإن كان في الأربع قبل الظهر، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: الجواب فيها كالجواب في الظهر من أولها إلى آخرها؛ لأن حرمته لا تكون فوق حرمة الظهر، وقال بعضهم يتمها أربعاً؛ لأنه بمنزلة صلاة واحدة، حتى إن الشفيع إذا انتقل إلى الشفع الثاني بعدما أخبر بالبيع لا يبطل خياره، فعلم أنها بمنزلة صلاة واحدة، وبمنزلة شفع واحد.
والفرق بين الظهر وبين هذه ظاهر؛ لأن القطع في الظهر إنما شرع ليؤديها على أكمل الوجوه، وها هنا لو قطعها لا يعيدها على أكمل الوجوه؛ لأنها فائت من وقتها، فلا يكون الثاني مثل الأول فضلاً عن الزيادة، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: كنت أفتي زماناً أنه يتم الأربع هنا حتى وجدت رواية عن أبي يوسف أنه يسلم على رأس الركعتين، فرجعت عن ذلك، فإن قطعها قضى على ركعتين عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قياس قول أبي يوسف يقضيها أربعاً كما في سائر التطوعات إذا شرع فيها ينوي أربع ركعات، وأفسدها يلزمه قضاء ركعتين عندهما، وعند أبي يوسف يلزمه قضاء الأربع، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله يفتي في سنّة الظهر أنه يقضيها أربعاً متى قطعها في أي حال قطعها، وكان يقول في سائر التطوعات عندهما: إنما تقضى بركعتين؛ لأن كل شفع من التطوع في حكم صلاة على حدة.
ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول، فلا يعتبر شارعاً في الشفع الأول قبل الفراغ من الشفع الأول، ووجوب القضاء حالة الإفساد لصيانة ما أدى، وإلا لم يصر شارعاً في الشفع الثاني قبل الفراغ من الشفع الأول، وكان الإفساد في حق الشفع الثاني امتناعاً لا إفساداً ولا يلزمه قضاء الشفع الثاني، وهذا المعنى للثاني في سنّة الظهر؛ لأنها بمنزلة صلاة واحدة بدليل ما ذكرنا من مسألة الشفعة، وخيار المخيرة، ألا ترى أن في سائر التطوعات تبطل الشفعة، والخيار بالانتقال إلى الشفع الثاني بعد العلم بالبيع والخيار، وفي سنّة الظهر لا تبطل، فعلم أنها بمنزلة واحدة، والتقريب ما ذكرنا، وكذلك إذا شرع في الأربع قبل الجمعة.

ثم افتتح الخطيب الخطبة، هل يقطع؟ فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال يصلي ركعتين ويقطع، ومنهم من قال يتم أربعاً، وبه كان يفتي الصدر الشهيد برهان الأئمة رحمه الله، قال محمد رحمه الله في رجل دخل مسجداً قد أذن فيه كره له أن يخرج حتى يصلي.
اعلم بأن هذه المسألة على وجهين: أما إن كان هذا الرجل قد صلى تلك الصلاة أو لم يصل؛ فإن لم يصل، وكان هذا المسجد مسجد حيه، لقوله عليه السلام: «لا يخرج من المسجد أحد إلا منافق أو رجل يخرج لحاجة يريد الرجعة» ، ولأنه دعي إلى صلاة عليه فيلزمه طاعة الله تعالى عند سماع النداء بالإجابة.
توضيحه: أنه إذ خرج من المسجد يلزم الدخول ثانياً، لأداء الصلاة بالجماعة، فلا يفيد الخروج من المسجد، وما لا يفيد لا يرد الشرع به، ولأنه يتهم بترك الصلاة، وقد

(1/454)


قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقفن مواقف التهم» وأما إذا كان المسجد مسجداً آخر، فإن كان أهل مسجده قد صلوا في مسجده لا ينبغي له أن يخرج أيضاً لما روينا من الحديث، فإنه مطلق، ولما ذكرنا من المعنى، فإنه لا يجب الفصل بين مسجد ومسجد.

وإن كان أهل مسجده لم يصلوا فيه فقد اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: إن خرج ليصلي في مسجد حيه، فلا بأس فيه؛ لأن لمسجد حيه عليه حقاً، وإن صلى في ذلك فلا بأس به، والأفضل أن يصلي في ذلك المسجد لما ذكرنا، وبعضهم قالوا: إن كان هذا الرجل يقوم بأمر الجماعة في مسجده كإمام أو مؤذن وتتفرق الجماعة بسبب غيبته لم يكره له الخروج استحساناً، صيانة للجمع في مسجد حيه، هذا إذا لم يصل الرجل تلك الصلاة، وإن كان صلى تلك الصلاة لا بأس بأن يخرج قبل أن يأخذ المؤذن في الإقامة؛ لأن الأذان دعاء لمن لم يصلِ، فلا يعمل في حق من صلى، فإذا أخذ المؤذن في الإقامة، ففي الظهر والعشاء لا يخرج، وشرع في صلاة الإمام، فيجعلها تطوعاً؛ لأن التطوع بعدهما مشروع، وفي العصر والفجر يخرج، ولا يشرع في صلاة الإمام؛ لأن التطوع بعدهما ليس بمشروع، وكذلك في المغرب لا يدخل في صلاة الإمام لما ذكرنا من المعنى، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل
رجل له مسجد في محلته أراد أن يحضر المسجد الجامع لكثرة جمعه لا ينبغي له أن يحضر، الصلاة في مسجده أفضل قل أهل مسجده أو كثر لأن لمسجده حقاً عليه، وليس لذلك المسجد عليه حق ليترجح كثرة الجمع، ومنها أن المؤذن إذا لم يكن حاضراً لا ينبغي للقوم أن يذهبوا إلى مسجد آخر، بل يؤذن بعض القوم ويصلي، وإن كان واحداً؛ لأن لمسجده عليه حقاً، فلا يجوز تركه من غير ضرورة.
ومنه مسجد إن أراد الرجل أن يصلي في أحدهما صلى في أقدمهما بناءً؛ لأن له زيادة حرمة، فإن كانا منزلة منهما ويصلي في أقربهما، وإن استويا فهو مخير؛ لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وإن كان قدم أحدهما أكثر، فإن كان هو فقيهاً يذهب إلى الذين قومه أقل ليكثر جمعه بسببه، وإن لم يكن فقيهاً يذهب حيث أحب ذكر الصدر الشهيد هذه المسائل في «واقعاته» .

قال في «الجامع الصغير» : في تحية المسجد بركعتين: إنها ليست بواجبة، وهذا مذهب علمائنا، وقال الشافعي، إنها واجبة، حجته: قوله عليه السلام: «من دخل مسجداً، فليحيه بركعتين» والأمر للوجوب، وإن قول النبي عليه السلام كما أمر، فقد ذكر التحية، وإنه يدل على عدم الوجوب، فيحمل الأمر على الندب ليكون عملاً بلفظة الأمر، والتحية جميعاً، والله تعالى أعلم (72أ1) .

(1/455)