المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الحادي والعشرون في سجدة التلاوة
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأول: في بيان صفتها وبين مواضعها، فنقول سجدة التلاوة واجبة عندنا، وعند الشافعي رحمه الله سنّة حجته في ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قرأ آية السجدة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يسجد لها زيد، ولم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «كنت إمامنا لو سجدت سجدنا معك» ، ولو كانت واجبة لما تركها زيد، ولما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبترك زيد.

وحجتنا في ذلك: أن آيات السجدة دالة على الوجوب، فإن في بعضها أمراً بالسجود، وفي بعضها إلحاق الوعيد بتاركه وفي بعضها ما يستدل على إسكات الكفرة إنكار الكفرة عن السجود، والاحتراز عن التشبه بهم واجب، وفي بعضها إخبار عن فعل الملائكة وغيرهم والاقتداء بهم لازم؛ ولأنه يجوز قطع الفعل المفروض لأجلها وهو الخطبة، وهو دليل على كونها واجبة، والحديث محمول على الفور يعني لو سجدت للحال سجدنا معك، فإذا لم يسجد للحال سجدنا في أي وقت نشاء.6
وأما بيان مواضعها فنقول: موضع السجود معلومة في القرآن، والخلاف في موضعين، عندنا سجدة التلاوة في سورة الحج واحدة وهي الأولى، وعند الشافعي رحمه الله فيها سجدتان لحديث عقبة بن عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «في الحج سجدتان أو قال: فضلت الحج لسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأها» ، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه، ومذهبنا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه، قالا: سجدة التلاوة في الحج هي الأولى، والثانية سجدة الصلاة وهو الظاهر، فقد قرنها الله تعالى بالركوع فقال: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا

(2/3)


الخير لعلكم تفلحون} (الحج: 77) وهو تأويل الحديث، «فضلت الحج لسجدتين» أحدهما: سجدة التلاوة والأخرى سجدة الصلاة، وأما سجدة سورة «ص» ، فهي سجدة تلاوة.
وقال الشافعي رحمه الله: هي سجدة الشكر، لما روي أن النبي عليه السلام: «قرأ في خطبته سورة «ص» ، فتشزن الناس السجود، فقال عليه السلام «علام تشزنتم إنها توبة نبي» ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال في السجدة «ص» «سجدها داود صلوات الله عليه للتوبة وخرّو نحن نسجدها شكراً» .

ولنا: ما روي أن رجلاً من الصحابة، قال: «يا رسول الله رأيت ما يرى النائم كأني أكتب سورة «ص» ، فلما انتهيت إلى موضع السجدة سجدت الدواة والقلم فقال عليه السلام نحن أحق بها من الدواة والقلم ما مر حتى تليت في مجلسه وسجدها مع أصحابه» ، وإنما لم يسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي خطبته ليبين لهم أنه يجوز التأخير، وروي «أنه سجدها في خطبته مرة» وهو دليل على أنه سجدها تلاوة، فإن ... عباده بها ... العبد، وجبت قطع الخطبة لأجلها، وما روي أنه سجدها داود عليه السلام توبة، ويخر شكر كونها سجدة تلاوة آلا وفيه معنى الشكر.
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: سببه وجوبها، فنقول لا خلاف أن التلاوة سبب لوجوبها، فإنها تضاف إلى التلاوة ويتكرر بتكررها، وأما السماع هل هو سبب؟ قال بعض المشايخ: إنه سبب، فإن الصحابة رضوان الله عليهم، قالوا: السجدة على من سمعها، كما قالوا: على من تلاها، ولأنه إنما وجبت على التالي؛ لأنه طلب منه بحكم أنه مخالفة للكفرة، وقد فهم من طلب منه فيلزمه، وكذا السامع.
والصحيح: أن السبب هو التلاوة، فإنها تضاف إليها دون السماع لكن السماع شرط، لتعمل التلاوة في حق غير التالي أما، ليس في الحديث بيان السبب فيه بيان الوجوب على السامع.
ولو تلاها بالفارسية، فعليه أن يسجدها وعلى من سمعها على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، سواء فهم أو لم يفهم إذا أخبر له سجدة، وقال أبو يوسف رحمه الله: تجب على من فهم، ولا تجب على من لم يفهم؛ لأن عنده أنها تجوز بالفارسية إذا لم يقدر على العربية، فاعتبر تلاوة القرآن من وجه دون وجه، فأوجبها على من فهم دون من لم يفهم عملاً بالدليلين بقدر الإمكان.

فأما التلاوة بالعربية توجب السجدة على من فهم أو لم يفهم؛ لأنها تلاوة القرآن من

(2/4)


كل وجه، والسبب متى وجد لا يتوقف عمله على الفهم، فهذا أبطل ما قاله أبو يوسف رحمه الله؛ لأنه إن كانت التلاوة بالفارسية تلاوة للقرآن ينبغي أن تجب على كل حال، وإن لم تكن لا تجب على كل حال، أما أن تجب في حال ولا تجب في حال، فهذا ليس من الفقه في شيء.
وإذا تلا آية السجدة ومعه نائم أو مغشياً، عليه فلم يسمعها، فقد اختلف المشايخ في وجوب السجدة عليه، والأصح أنه لا تجب وإذا سمعها من طير لا تجب عليه السجدة، وإذا سمعها من نائم، فقد اختلف المشايخ فيه.
والصحيح: أنها لا تجب، ولو سمعها من الصداى وتقال بالفارسية بجواك لا تجب عليه السجدة، ذكره الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله، ولو تهجى بالقرآن لا تجب عليه السجدة، وكذلك إذا كتب لا تجب عليه السجدة، ولا تجوز بالتيمم مع القدرة على الماء ويبطلها ما يبطل الصلاة من الكلام والحدث والضحك، ولا تبطل الطهارة بالضحك قهقهة في سجدة التلاوة وتبطل بالضحك قهقهة في الصلاة.
نوع آخر في بيان شرائط جوازها

فنقول شرائط جوازها ما هو شرائط جواز الصلاة من طهارة البدن عن الحدث والجنابة وطهارة الثوب عن النجاسة وستر العورة، واستقبال القبلة؛ لأنها ركن من أركان الصلاة، ويكبر عند الانحطاط، والرفع اعتباراً بالسجدة الصلاتية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما: أنه لا يكبر عند الانحطاط؛ لأن تكبير الانتقال من الركن، وعند الانحطاط لا ينتقل من الركن ولم يذكر في «الأصل» أنه ماذا يقول في هذه السجدة، وفي «القدوري» يسبح فيها ولا يسلم، وأما التسبيح اعتباراً بالصلاتية، ولم يذكر أيضاً ماذا يقول في التسبيح (89ب1) ، والأصح أن يقول في هذه السجدة في التسبيح ما يقول في السجدة الصلاتية، وبعض المتأخرين استحبوا أن يقولوا: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، ما يقول فيها وكذلك استحبوا أن يقول ويسجد لقوله تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أُوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سجَّداً} (الإسراء: 107) والخرور هو السقوط من القيام.
وأما عدم السلام، فإن السلام شرع للتحلل عن التحريمة، وليس فيها تحريمة وإن لم يذكر فيها شيء أجزأه؛ لأنها لا تكون أقوى من السجدة الصلاتية، فتلك تجزىء وإن لم يذكر فيها شيئاً فههنا أولى.
وقال القدوري: وإذا وجبت السجدة في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة فسجدها، وفي الأوقات المكروهة لم تجز؛ لأنه التزمها كاملة وأداها ناقصة، فلا تجوز كمن افتتح الصلاة في وقت غير مكروه، وأفسدها وقضاها في وقت مكروه، فإن تلاها في هذه الأوقات وسجدها جاز، فإن لم يسجده في تلك الساعة، فسجدها في وقت آخر مكروه جاز؛ لأنه لا تفاوت بين المؤدى والواجب، هكذا ذكر القدوري؛ وهو نظير ما إذا افتتح

(2/5)


الصلاة في وقت مكروه وأفسدها وقضاها في وقت مكروه، وذلك جائز كذا ها هنا، وذكر في بعض الروايات أنه يومىء عندنا، وكذلك إذا سمعها وهو راكب يجزئه أن يومىء على أنه لا يجوز والله أعلم.

ولو تلاها راكباً أجزأه على الدابة، وإن تلاها أو سمعها ماشياً لم تجزئه أن يومىء لها وهو في ركب يكون خارج المصر، أما الراكب الذي هو في المصر إذا أومأ لتلاوته، فقد جرى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز، وهو قياس مذهبه على التطوع على الدابة في المصر، ولو تلاها على الدابة ثم نزل ثم ركب، فأداها بالإيماء جاز ماشياً إلا على قول زفر رحمه الله، وههنا آخر في نوع المتفرقات في هذا الفصل والله أعلم.
نوع آخر في بيان حكمها
فنقول من حكم هذه السجدة التواجد حتى يكفي في حق التالي سجدة واحدة، وإن اجتمع في حق التلاوة والسماع وشرط الترك حل اتحاد؛ لأنه اتحاد المجلس حتى لو اختلف المجلس واتحدت؛ لأنه لا تتداخل ولو اتحد المجلس واختلفت الآية لا تتداخل، ولها سبب على التداخل، لوجوه:
أحدها: ما حكى القاضي أبو القاسم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله: أنه يعيد مكرر عرفاً، فإن من قرأ أية واحدة في مجلس واحد بالحكمة، وقرأ خطبة واحدة في مجلس واحد مراراً يقال في العرف كرره، وهذا عرف تأيد بالحكمة، فإن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يكون في الإقرار التالي مكرراً ومعيداً، وإذا كان مكرراً ومعيداً عرفاً كان التالي الأول، فلا يكون التالي حكم نفسه، ولا عرف فيما إذا اختلف المجلس أو اختلف، ما حكي عن القاضي أبي عاصم العامري رحمه الله أن المجلس يجمع الكلمات المتفرقة من جنس واحد ويجعلها ككلمة واحدة، ألا ترى أن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يجعل مقراً مرة واحدة، فكذا ههنا يجعل كأنه قرأ مرة واحدة، فأما المجالس المختلفة لا تجمع الكلمات المتفرقة، ولا تجعلها ككلمة واحدة كما لو أقر بالزنا أربع مرات في أربع مجالس لا يجعل معبراً مرة واحدة، فكذا ههنا لا يجعل كأنه قرأ مرة واحدة.

والثالث: ما ذهب إليه مشايخ ما وراء النهر: أن الحاجة إلى تكرار كلام الله تعالى للتعليم والتعلم وليحفظ صاحبه ما بينه فلو أوجبنا بكل مرة سجدة على حدة يقع في الحرج، ولأنه تنقطع عليه القراءة، بخلاف ما إذا اختلفت الآية في مجلس واحد؛ لأنه لا حرج ثم؛ لأن آيات السجدة في القرآن محصورة مضبوطة أما التكرار للتعلم وللحفظ غير محصورة ولا مضبوطة؛ ولأن الإنسان لا يقرأ جميع آيات السجدة في مجلس واحد غالباً، أما تكرار آية واحدة في مجلس واحد، فاللتعليم والتعلم والحفظ غالباً فظهرت التفرقة بينهما.

(2/6)


ولم يذكر في «الأصل» : حكم الصلاة على النبي عليه السلام إذا ذكر في مجلس واحد مراراً، وعلى قول الكرخي رحمه الله: لا يصلي عليه إلا مرة واحدة؛ لأن من مذهبه أنه لا تجب عليه الصلاة إلا مرة واحدة، فإن كان هذا الرجل قد كان عليه صلى مرة واحدة لا يلزمه ههنا شيء، وإن كان لم يصل عليه يلزمه ههنا مرة واحدة لكل مرة، وإن كرر اسمه في مجلس واحد؛ لأن هذا حق الرسول عليه السلام قال عليه السلام: «لا تجفوني بعد موتي» قيل وكيف نجفي بعدك يا رسول الله قال: «إن كان أذكر عند أحدكم، فلا يصلي عليّ» وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
نوع آخر في بيان من تجب عليه هذه السجدة
فنقول التالي لآية السجدة تلزمه السجدة بتلاوته إذا كان أهلاً لوجوب الصلاة عليه، وإن كان منهياً عن القراءة كالجنب؛ لأن النهي عن التصرف لا يمنع اعتباره في حق الحكم كسائر التصرفات المنهي عنها، وكل من لا تجب عليه الصلاة ولا قضاؤها، كالحائض والنفساء والكافر والمجنون والصبي فلا سجود عليه للتلاوة لما ذكرنا، لأن السجدة من أركان الصلاة، فلا تجب على من لا تجب عليه سائر الأركان.

وكذلك الحكم في حق السامع من كان أهلاً لوجوب الصلاة عليه تلزمه السجدة بالسماع، ومن لا يكون أهلاً لوجوب الصلاة عليه نحو الحائض أو الكافر أو الصبي أو المجنون لا تلزمه السجدة بالسماع.

وإن لم يكن التالي أهلاً لوجوب الصلاة عليه، نحو الحائض أو الكافر أو الصبي أو المجنون والسامع أهلاً لوجوب الصلاة تجب على السامع السجدة، أو ليس فيه أكبر من كون التالي منهما منهي عن القراءة المنهي عن التصرف لا يمنع اعتباره الحكم غير أنه إنما يعتبر التصرف في حق الحكم، في حق من هو أهل لذلك، والتالي إن لم يكن أهلاً، فالسامع أهل فتجب عليه السجدة.
وذكر مسألة المجنون في «نوادر الصلاة» : أن الجنون إذا قصر، فكان يوماً وليلة أو أقل تلزمه السجدة بالتلاوة والسماع حالة الجنون فيؤديها بعد الأهلية، إذا قرأ آية السجدة ولم يسجد لها، حتى ارتد والعياذ بالله ثم ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية أنه لا قضاء عليه، والصبي الذي يعقل الصلاة إذا قرأ آية السجدة أمر أن يسجد، وإن لم يسجد لم يكن عليه أيضاً.
والسكران إذا قرأ آية (90أ1) السجدة، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه تلزمه السجدة.
المرأة إذا قرأت آية السجدة في صلاتها، ولم تسجد لها حتى حاضت سقطت عنها السجدة، مصلي التطوع إذا قرأ آية السجدة، وسجد لها ثم فسدت صلاته وجب عليه

(2/7)


قضاؤها، لا تلزمه إعادة تلك السجدة، وإذا قرأ الرجل ومعه قوم سمعوها، فسجد سجدوا معه ولا يرفعوا رؤوسهم قبله.
والأصل في ذلك ما روي «أن شاباً قرأ آية السجدة بين يدي رسول الله ولم يسجد لها، فقال عليه السلام: يا شاب كنت إمامنا لو سجدت سجدنا معك» ، فقد جعل التالي إماماً وعلى المأموم أن يتابع الإمام في السجدة، فلا يرفع رأسه من السجدة قبل رفع التالي جازت سجدته كما في السجدة الصلاتية.
نوع آخر في بيان ما يبطل هذه السجدة وما لا يبطلها

إذا تكلم في السجدة أو ضحك قهقهة أو أحدث متعمداً أو خطأ، فعليه إعادتها اعتباراً بالصلاتية، ولا وضوء عليه في القهقهة؛ لأن الضحك عرف حدثاً بالأمر، والأثر ورد في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، وإن سبقه الحدث توضأ وأعادها؟ قال شيخ الإسلام هذا الجواب مستقيم على قول محمد رحمه الله، فإن عنده تمام السجدة بوضع الجبهة ورفعها، فإذا أحدث فيها أو ضحك فيها أعادها، أما قول أبي يوسف رحمه الله: تمام السجدة بوضع الجبهة لا غير، فإذا وضع الجبهة، فقد تمت السجدة وإن قل، فكيف يتصور القهقهة فيها؟ فإذا ضحك بعد ذلك فقد ضحك بعد تمام السجدة، فلا تلزمه الإعادة.
ومحاذاة المرأة الرجل في سجدة التلاوة لا تفسد صلاة الرجل، وإن نوى إمامتها؛ لأن المحاذاة لها عرفت مفسدة ضرورة وجوب التأخر على الرجل بأمر الشرع، والأمر إنما ورد في الصلاة المطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، فلم تكن المحاذاة فيها مفسدة.
نوع آخر في بيان ما يتعلق به وجوب هذه السجدة
ذكر في «الرقيات» : فيمن قرأ السجدة كلها إلا الحرف الذي في آخرها قال لا يسجد، ولو قرأ الحرف الذي يسجد فيه وحده لم يسجد إلا أن يقرأ أكثر من آية السجدة، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: إذا قرأ حرف السجدة ومعها غيرها قبلها أو بعدها فيه أمر بالسجدة سجد، وإن كان دون ذلك لا يسجد، وفي فوائد الإمام الزاهد السنكريتي رحمه الله: إن من تلا في أول السجدة أكثر من نصف الآية، وترك الحرف الذي فيه السجدة لم يسجد، وإن قرأ الحرف الذي فيه السجدة إن قرأ ما قبله أو بعده أكبر من نصف الآية تجب السجدة، وما لا فلا، وعن أبي علي الدقاق رحمه الله فيمن سمع سجدة من قوم قرأ كل واحد منهم حرفاً ليس عليه أن يسجد، لأنه لم يسمعها من قائلها.

(2/8)


نوع آخر في تكرار آية السجدة

رجل قرأ آية السجدة فسجدها ثم قرأها في مجلسه، فليس عليه أن يسجدها، وإن قرأها فلم يسجدها حتى قرأها ثانية في مجلسه، فعليه سجدة واحدة، وهذا استحسان والقياس أن تجب بكل تلاوة سجدة؛ لأن السجدة حكم التلاوة، والحكم يتكرر بتكرر السبب اعتباراً للسبب، ولا معنى للبدل؛ لأن السجدة عبادة والعبادات يحتاط في إقامتها، ولا يحتال لدرئها بخلاف الحدود، فإنها عقوبات، والأصل في العقوبات إسقاطها لا استيفائها.
وجه الاستحسان ما روي أن جبريل صلوت الله عليه كان ينزل بآية السجدة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان يكرر عليه مراراً، وكان رسول الله عليه السلام يسجد لها سجدة واحدة، وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يعلم الناس القرآن في المسجد بالكوفة، وكان يكرر آية السجدة في مكان واحد.
وفيما كان يخطو خطوة أو خطوتين، وكان يسجد لذلك مرة واحدة، والنص لها ورد في مكان واحد وفي آية واحدة فيما عدا ذلك يبقى على أصل القياس، والمعنى ما ذكرنا من الوجوه الثلاث في صدر هذا الفصل، فإن قرأ فسجد وذهب وعاد وقرأها ثانياً، فعليه سجدة أخرى، وكذلك إن لم يكن سجد للأولى حتى ذهب ثم عاد، فقرأ ثانياً تلزمه سجدتان؛ لأنه اختلف المجلس ولا يمكن إثبات الاتحاد، وهذا إذا ذهب بعيداً، فأما إذا ذهب قريباً تكفيه سجدة واحدة مقدر حد الفاصل، الحد الفاصل بين القريب والبعيد أنه إذا مشى خطوتين أو قلنا بذلك قريب، فإن كان أكثر من ذلك كان بعيداً.
قال محمد رحمه الله: فإن كان نحواً من عرض المسجد وطوله فهو قريب، وهذا إذا كان المجلس مجلس القراءة كما روي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يقرىء الصحابة وهم خلف كبيرة، فأما إذا لم تكن هكذا تلزمه ثانياً، لأن المجلس يختلف والله أعلم.

ولو قرأها قاعداً ثم قام وقرأها ثانية تكفيه سجدة واحدة ولا يجعل المجلس مختلفاً؛ لأن مكان التالي لم يختلف لها إلا اختلاف هيئته، وهذا بخلاف المخيرة إذا قامت من مجلسها حيث يبطل خيارها؛ لأن ذلك ليس لاختلاف المجلس؛ بل للإعراض دلالة؛ لأن من حزبه أمر وهو قائم يقعد إذ القعود أجمع للرأي، وكان قيامها دليل الأعراض، والخيار يبطل بالأعراض صريحاً، ودلالة، أما ها هنا الحكم يتعدد باختلاف المجلس ولم يوجد، وإن أكل بيديه أكلاً طويلاً أو نام مضطجعاً أو أخذ في بيع أو في شراء أو عمل عملاً يعرف أنه قطع لما كان قبله لذلك، ثم قرأ فعليه سجدة أخرى استحساناً.
والقياس: أن تكفيه سجدة واحدة، وجه القياس: أن المجلس ما تبدل حقيقة، فإنه لم ينتقل عنها إلى مكان واحد فكفته سجدة واحدة كما لو كان العمل يسيراً.

(2/9)


وجه الاستحسان: وهو أن المجلس قد يبدل اسماً وحكماً، وإن لم يتبدل حقيقة؛ لأن الفعل إذا كبر يضاف المجلس إليه، ألا ترى أن القوم إذا جلسوا للدرس يقولون أنه مجلس الدرس ثم يشتغلون بالأكل، فيقولون إنه مجلس الأكل ثم يقتتلون، فيصير مجلسهم مجلس القتال وصار تبدل المجلس بهذه الأعمال كتبديله بالذهاب والرجوع.
وإن نام قاعداً أو أكل لقمة أو شرب شربة أو عمل عملاً يسيراً ثم قرأها فليس عليه سجدة أخرى؛ لأن المجلس لم يتبدل لا حقيقة، ولا حكماً، أما حقيقة فلا إشكال فيه؛ لأنه لم ينتقل عنها إلى مكان آخر، وأما حكماً؛ لأنه لا يضاف المجلس إلى الأكل بأكل لقمة، ولا إلى الشرب بشرب شربة، وإلى النوم بالنوم قاعداً ساعة، إذا لم يتبدل المجلس حقيقة، وصار وجود هذا وعدمه سواء.

وفي الذي ... إذا كرر آية سجدة واحدة اختلف المشايخ فيه (90ب1) ، قال بعضهم تكفيه سجدة واحدة، فإن المجلس واحد من حيث الاسم، فإن المجلس يضاف إلى هذا الفعل، والأصح أنه يلزمه بكل مرة سجدة؛ لأن المجلس تبدل حقيقة بتبدل المكان ولو أنه اختلف حقيقة لا يعتبر واحداً باتحاد العمل، كما لو كان راكباً فتلا آية السجدة مراراً والدابة تسير لا تكفيه سجدة واحدة، وإن كان العمل وهو السير واحداً والتي تلاها على ... اختلف المشايخ فيه مثل اختلافهم في تسدية الثوب، وحجتهم ما ذكرنا في تسدية الثوب والتي تلاها على الشجرة على غصن ثم انتقل إلى غصن آخر، وتلا تلك الآية في ظاهر الرواية يلزمه سجدتان، وعن محمد رحمه الله: أنه يكفيه سجدة واحدة محمد رحمه الله، اعتبر أصل الشجرة أنه واحد.
وجه ظاهر الرواية وهو أنه تبدل المكان لاختلاف الغصن، ألا ترى أنه لو سقط يكون الموضع الذي سقط غير ذلك الموضع حتى لو تلاها على الأرض، ثم انتقل مقدار الغصن يلزمه سجدتان، والسابح في الماء إذا تلا السابح في الماء ... الماء شيء يلزمه بكل مرة سجدة على حدة، قالوا إذا كان سبح في حوض أو غدير له حد معلوم تكفيه سجدة واحدة، وعن محمد رحمه الله إذا كان طول الحوض مثل طول المسجد وعرضه تكفيه سجدة واحدة.
ولو قرأها في زوايا المسجد الجامع تكفيه سجدة واحدة كذلك حكم البيت والدار قيل: في الدار إذا كانت كبيرة كدار السلطان فتلا في دار منها ثم تلا في دار أخرى يلزمه سجدة أخرى، وأما في المسجد الجامع إذا تلا في دار ثم تلا في دار أخرى يلزمه يكفيه؛ لأن دور المسجد الجامع، وإن كثرت جعلت كمكان واحد في حق جواز الإقتداء، وكذا في حق حكم السجدة، ولا كذلك دور السلطان، وإذا قرأها مراراً على الدابة والدابة تسير، فإن كان في الصلاة تكفيه سجدة واحدة؛ لأن حرمة الصلاة تجمع الأماكن المختلفة، وإن كان خارج الصلاة يلزمه بكل مرة سجدة.

(2/10)


فرق بين هذا وبين السفينة، وبسفينة تجري يكفيه سجدة واحدة، وفي الدابة يلزمه بكل مرة سجدة، والفرق: هو أن سير السفينة مضاف إلى السفينة، لا إلى راكبها شرعاً وعرفاً، أما شرعاً فلقوله تعالى: {وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} (هود: 42) الله تعالى أضاف الجري إلى السفينة، لا إلى الراكب، وأما عرفاً؛ فلأن الناس يقولون: سارت السفينة كذا كذا مرحلة، وإذا صار مضافاً إلى السفينة، فالمكان يتحد في حق الراكب، وإن اختلف في حق السفينة.
فأما سير الدابة مضاف إلى الراكب عرفاً، فإن الناس يقولون في العرف سرت كذا وكذا فرسخاً اليوم، وإذا صار السير مضافاً إلى الراكب تبدل المكان حقيقة وحكماً بعض مشايخنا قالوا؛ ما ذكر في «الكتاب» إذا قرأ آية السجدة على الدابة مراراً والدابة تسير، فإن كان في الصلاة، فعليه سجدة واحدة محمول على ما إذا قرأها مراراً في ركعة واحدة، فإن كان ذلك في ركعتين يجب أن يكون على الاختلاف الذي يذكر فيما إذا تلاها على الأرض في الصلاة في ركعتين على قول أبي يوسف رحمه الله: يكفيه سجدة واحدة، وعلى قول محمد رحمه الله: يلزمه سجدتان، ومنهم من قال: الجواب في هذه المسألة في الركعتين والركعة الواحدة سواء بالإجماع، ويكفيه سجدة واحدة بالإجماع.

والفرق لمحمد رحمه الله بين المصلي على الأرض، والمصلي على الدابة: أن المصلي على الأرض يصلي بركوع وسجود، وإنه عمل كثير يتخلل بين التلاوتين، والراكب نوى وهو عمل يسير، ولا يتحدد وجوب السجدة في الراكب على الدابة، ويتحدد في المصلي على الأرض، بهذا، وإذا سمع هذا الراكب المصلي آية السجدة من غيره مرتين وهو يسير فعليه سجدتان إذا فرغ من صلاته؛ لأن حرمة الصلاة لها تجمع الأماكن المختلفة في حق أفعال الصلاة، فأما ما ليس من أفعال الصلاة يبقى على الحقيقة، والمكان مختلف حقيقة، وسماعه ذلك الرجل قرأ راكباً ونزل فقرأ ليس من أفعال الصلاة، فلا يثبت اتحاد المكان في حقه، وإذا لم يثبت اتحاد المكان في حقه يلزمه بكل تلاوة سجدة، وإن قرأها راكباً، ثم نزل قبل أن يسير فقرأها فعليه سجدة واحدة استحساناً.
b
وفي القياس: عليه سجدتان وجه القياس: وهو أن المكان اختلف حقيقة؛ لأنه كان على الدابة ... وعلى الأرض، واختلاف المكان بهذا الصدر وإن كان لا يوجب تبدل المجلس، إلا أنه وجد معه عمل آخر وهو النزول وللعمل أثر في قطع المجلس، فإذا اجتمعا أوجب تبدل المجلس، وكان يجب أن تلزمه سجدتان.
وجه الاستحسان: وهو أن النزول عمل قليل وما وجد من اختلاف المكان قليل أيضاً لو ... ولم يوجب ذلك تبدل المجلس، فكذلك مع النزول وإن كان سار ثم نزل، فعليه سجدتان؛ لأن سير الدابة كمشيه فتبدل به المجلس.

(2/11)


وإن قرأها على الأرض ثم ركب فقرأها قبل أن يسير سجدها سجدة واحدة على الأرض، ولو سجدها على الدابة لم يجزئه عن الأولى؛ لأنه إذا سجدها على الدابة فالمؤداة أضعف من الأولى، فأما إذا سجدها على الأرض، فالمؤداة أقوى من الأولى والمكان واحد فينوب المؤدى عنهما، وإن قرأها راكباً ثم نزل ثم ركب، فقرأها وهو على مكانه، فعليه سجدة واحدة وتجزئه على الدابة؛ لأنه التزمها على الدابة، فإذا أداها على الدابة، فقد أداها كما التزم.
وإذا تبدل مجلس التالي، ولم يتبدل مجلس السامع يتكرر الوجوب على السامع عند بعض المشايخ وعند عامة الشايخ لا يتكرر؛ لأن الوجوب على السامع بالسماع ومكان السامع متحد، ولو تبدل مجلس السامع دون التالي تكرر الوجوب، وإن قرأها في غير صلاة وسجد ثم افتتح الصلاة في مكانه، فقرأها فعليه سجدة أخرى؛ لأن التي وجبت بالتلاوة صلاتية، فلا تنوب عنها المؤداة قبل الشروع في الصلاة؛ لأنها أضعف، وإن لم يكن سجد أولاً ثم شرع في الصلاة في مكانه، فقرأها يسجد لهما جميعاً أجزأه عنهما في ظاهر الرواية، وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله وهو إحدى روايتي «نوادر الصلاة» (91أ1) أنه لا يجزئه عنهما، وعليه أن يسجد للتي تلاها خارج الصلاة بعد الفراغ من الصلاة.
وجه هذه الرواية: أنه لا يمكن إدخال الأولى في الثانية؛ لأنه خلاف موضع التداخل، فلا بد من اعتبار كل واحد منهما على حدة، والصلاتية تؤدى في الصلاة وغير الصلاتية، وهي الأولى أن تؤدى بعد الفراغ من الصلاة وجه ظاهر الرواية، وهو أن السبب واحد، فإن المتلو آية واحدة والمكان واحد والمؤداة أكمل من الأولى؛ لأن لها حرمتان، ولو كانت مثل الأولى نابت، فإذا كانت أكمل أولى أن تنوب عنهما، إذا قرأ المصلي آية السجدة وسمعها من أجنبي أيضاً أجزائه سجدة واحدة، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» .

وفي «الجامع الكبير» ، وذكر في «نوادر أبي سليمان» وهو رواية ابن سماعة عن محمد رحمهم الله: أنه لا يكفيه سجدة واحدة ولا تنوب المتلوة عن المسموعة وعليه أن يسجدها للمسموعة إذا فرغ من صلاته، وجه رواية ابن سماعة وهو أن السماعية ليست بصلاتية وجه ظاهر الرواية وهو أنه سمع وتلا في مكان واحد فتدخل المسموعة في المتلوة وتنوب المتلوة عنهما جميعاً؛ لأن المتلوة أقوى من السماعية؛ لأن لها حرمتين حرمة الصلاة وحرمة التلاوة، والمسموعة لها حرمة واحدة، والقوي ينوب عن الضعيف ولو استويا في القوة نابت إحديهما عن الأخرى، فلأن ينوب القوي عن الضعيف أولى.
قال شمس الأئمة رحمه الله: وبين الناس كلام كثير في هذه المسألة، قال بعضهم: إن كان السماع والتلاوة في مقام واحد، ففيه روايتان كما ذكرنا، فأما إذا كانت التلاوة في مقام والسماع في مقام آخر، ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف، عند أبي يوسف رحمه الله يكفيه سجدة واحدة، وعند محمد رحمه الله يلزمه سجدتان، وذكر الفقيه أبو

(2/12)


جعفر أن جواب «الجامع الصغير» عندي فيما إذا كانت تلاوته وسماعه معاً بأن كانا يقرآن معاً هذه السجدة هذا في الصلاة، وذاك خارج الصلاة فههنا تتداخلان، وتنوب المتلوة عن المسموعة؛ لأنها أقوى كما ذكرنا.
فأما إذا كانا على التعاقب بأن كان السماع أولاً ثم التلاوة أو كانت التلاوة أولاً ثم السماع، ففيه روايتان وإن كانا جميعاً في مقام واحد، هذا إذا كانت المتلوة والمسموعة سجدة واحدة، فأما إذا سجد في الصلاة لا يجب عليه أخرى في ظاهر الرواية؛ لأن الباقي أعلى للأولى للاتحاد المجلس سجدة أخرى للمسموعة إذا فرغ من الصلاة وإن سمع المصلي آية السجدة من رجل وسجد لها ثم أحدث وذهب، ثم عاد وسمع من ذلك الرجل مرة أخرى، فإنه يسجد سجدة أخرى، قيل: قرأ في الصلاة وسجد ثم أحدث ورجع وبنا وقرأ تلك الآية هذا على رواية «النوادر» .

وعلى هذا قالوا لو قرأ آية السجدة في الصلاة ثم أحدث وذهب ليتوضأ ثم عاد، وأعادها يسجد سجدة أخرى، ويستوي سماعه وتلاوته مرتين في إيجاب السجدتين، ولو قرأ رجل سجدة في الصلاة، فسجدها ثم سلم وتكلم قرأها ثانية، فعليه إن لم يسجدها وإن كان لم يسجدها يكفيه سجدة واحدة كذا ذكر في «الأصل» .
وذكر في «نوارد أبي سليمان» رحمه الله: إذا قرأ آية السجدة في الصلاة وسجد ثم سلم وقرأها في مقامه ذلك، فلا سجود عليه من مشايخنا رحمهم الله من قال في المسألة اختلاف الروايتين، ومنهم من قال: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع ما ذكر في «النوادر» أنه سلم لا غير ومجرد السلام لا يوجب تبدل المجلس؛ لأنه كلام يسير؛ لأنه كلامان لا غير وموضوع ما ذكر في الصلاة أنه سلم وتكلم به يكثر الكلام؛ لأنه تكلم ثلاث مرات بسلامين وكلام آخر، فيوجب تبدل المجلس، ولو قرأ آية السجدة في الركعة الأولى، فسجد ثم أعادها في الثانية، فلا سجود عليه في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله يسجد استحساناً، وهذا من المسائل التي رجع أبو يوسف رحمه الله فيه من الاستحسان إلى القياس.
وجه الاستحسان: أن القول باتحاد التلاوتين غير ممكن هنا، لأنا لو قلنا: بالاتحاد تفوت القراءة من إحدى الركعتين حكماً والقراءة في كل ركعة ركن، فاعتبرنا كل قراءة تلاوة على حدة.
وللقياس وجوه: أحدها: أن يثبت الاتحاد بقدر ما تتعلق به السجدة لا غير.
والثاني: أن يثبت الاتحاد في حق السجدة لا في حق الصلاة.
والثالث: أن يثبت الاتحاد في حق سببية السجدة لا في حق القراءة، وتفسيره: أن يجعل كلاهما تلاوة واحدة، وإذا سجد للتلاوة وتلا في السجدة آية أخرى لا تلزمه سجدة أخرى، وكذا لو تلا في الركوع ذكر في صلاة الفارسية؛ لأن هذه التلاوة محجور عنها سجد للتلاوة، فقرأ في السجدة أية أخرى.

(2/13)


نوع آخر في سماع المصلي آية سجدة ممن معه في الصلاةأو ممن ليس معه في الصلاة وسماع غير المصليآية السجدة من المصلي ثم اقتداؤه بالمصلي
قال محمد رحمه الله: إذا تلا آية سجدة خلف الإمام يسمعها الإمام والقوم ليس عليهم أن يجسدوها ما داموا في الصلاة، وهذا حكم الثابت بالإجماع؛ لأنه يؤدي إلى قلب الشريعة فإن التالي يتبع في هذه الصلاة وينقلب متبوعاً بسبب السجدة، لأن التالي إمام السامعين، قال عليه السلام للتالي «كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا» ولهذا كانت السنّة أن يتقدم التالي بالسجدة، ويصطفون خلفه فلو ... الأداء في الصلاة انقلب التبع متبوعاً، وذلك باطل، فإن فرغوا من الصلاة لا يسجدونها أيضاً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله يسجدونها؛ لأن التلاوة صحت من أهلها فوجبت السجدة أكثر ما في الباب أن حرمة القراءة على المقتدي خلف الإمام إلى حرمة القراءة لا يكون مانعاً وجوب السجدة كحرمة القراءة على الجنب والحائض والنفساء والكافر، فتلاوة هؤلاء، فإنها لا تمنع وجوب السجدة، فكذلك ها هنا.
ولهما: أن المقتدي محجوب عن القراءة خلف الإمام بدليل يعد أنه قراءة الإمام عليه قال عليه السلام: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ، وذلك دليل الولاية، والولاية دليل حجر المولى عليه وتصرف المحجور عليه لا ينعقد بحكم كسائر تصرفاته، بخلاف قراءة الجنب والحائض؛ لأنهما ليسا بموليين عليهما ولا (91ب1) محجورين، بل كانا منهيين عن التلاوة والتصرفات المنهي عنها ينعقد حكمها.

وفرق بين الحجر وبين النهي، فأثر الحجر في منع اعتبار السببية، وأثر النهي في حرمة الفعل دون مولى الاختيار والفقه فيه: أن النهي ... مصدر المنهي عنه بعد النهي، كما كان قبل النهي بخلاف الحجر على أنا نقول الجنب والحائض ليسا بممنوعين عن قراءة ما دون الآية على ما ذكره الطحاوي رحمه الله، وذلك القدر كافٍ لتعلق الوجوب، فأما المقتدي ممنوع عن قراءة ما دون الآية ومحجور عليه على ما مر.
وأما إذا سمعها من المقتدي رجل ليس معهم في الصلاة ذكر في «نوادر أبي سليمان» رحمه الله: أنه يلزمه نفل هو قول محمد رحمه الله ولئن كان قول الكل بالحجر ثبت في حق المقتدي، فلا يعدوهم إن قرأها رجل ليس معهم في الصلاة يسمعها القوم والإمام، فعليهم أن يسجدوها إذا فرغوا من الصلاة ولا يسجدوها في الصلاة إما تجب

(2/14)


سجدة لصحة التلاوة من غير حجر، ولا يجوز أن يسجد في الصلاة؛ لأنها ليست فيها؛ لأن تلك التلاوة ليست من أفعال الصلاة حتى تكون السجدة صلاتية، فيكون إذا قالها في الصلاة وجبت كاملة، فلا ينادى بالنهي ولكن مع هذا لو سجدوا في الصلاة لا تفسد صلاتهم، لأن السجدة من أفعال الصلاة في ذاتها وفساد الصلاة بما هو من أفعال الصلاة لا يكون، وذكر في «النوادر» أنه تفسد صلاتهم؛ لأنهم تركوا الصلاة حين انتقلوا لها وزادوا في الصلاة ما ليس منها، والصحيح ما قلنا بدئاً؛ لأنهم ما تركوا الصلاة ولا أتوا بما ينقضها.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : إذا قرأ الإمام آية السجدة سمعها رجل ليس معه، ثم دخل الرجل في صلاة الإمام، فهذه المسألة على وجهين.

الأول: أن يكون اقتداؤه قبل أن يسجد الإمام، وفي هذا الوجه عليه أن يسجد مع الإمام؛ لأنه لو لم يكن سمع السجدة من الإمام قبل الاقتداء به كان عليه أن يسجد مع الإمام بحكم المتابعة، فإذا سمعها خارج الصلاة منه أولى أن يسجد معه، وإذا سجد مع الإمام سقط عنه لزمه بحكم سماعه قبل الإمام؛ لأنه لما اقتدى به صارت قراءة الإمام قراءة له، ألا ترى أنه لو أدرك الإمام حالة الركوع نابت عنه قراءة الإمام، وإن لم يكن مع الإمام حال قراءته، وإذا جعل قراءة الإمام قراءة المقتدي صار كأن المقتدي شرع في صلاة نفسه وتلا في صلاته ما سمع ثانياً، ولو كان هكذا سجد في الصلاة وسقط عنه ما وجب خارج الصلاة كذا ها هنا.
الوجه الثاني: إذ اقتدى به بعدما سجد فليس عليه أن يسجدها في الصلاة كيلا يصير مخالفاً للإمام وليس عليه أن يسجدها بعد الفراغ من الصلاة أيضاً، قالوا، وتأويل هذه المسألة إذا أدرك الإمام في آخر تلك الركعة يصير مدركاً للركعة من أولها، فيصير مدركاً بالقراءة وما تعلق بالقراءة من السجدة، فأما إذا أدرك الإمام في الركعة الأخرى كان عليه أن يسجدها بعد الفراغ؛ لأنه إذا أدرك الإمام في الركعة الأخرى لم يصر مدركاً للركعة التي قرأ فيها، فلم يصر مدركاً لتلك القراءة، ولا لما تعلق بتلك القراءة من السجدة فقد جعله مدركاً للسجدة بإدراك تلك الركعة، ونظير هذا ما لو أدرك الإمام في الركوع في الركعة الثالثة من الوتر في شهر رمضان يصير مدركاً للقنوت، حتى لا يأتي بالقنوت في الركعة الأخيرة، هكذا ذكر في «النوادر» .
ولو أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيدين كان عليه أن يأتي بالتكبيرات ولا يصير مدركاً التكبيرات بإدراك تلك الركعة.

والأصل في جنس هذه المسائل: أن كل ما لا يمكنه أن يأتي به من الركعة في الركوع نحو التلاوة وقنوت الوتر، فبإدرك الإمام في الركوع في تلك الركعة يصير مدركاً لذلك، وكل ما يمكنه أن يأتي به من الركعة في الركوع كتكبيرات العيدين، فبإدراك الإمام في الركوع من تلك الركعة لا يصير مدركاً لها.

(2/15)


نوع آخر فيما إذا تلا آية السجدة وأراد أن يقيم ركوع الصلاة مقام السجود
قال في «الأصل» : وإذا قرأ آية السجدة في صلاته وهي في آخر السورة إلا آيات يعني، فإن شاء ركع لها وإن شاء سجد لها، واعلم أن هذه المسألة على أوجه، إما إن كانت السجدة قريبة من آخر السورة، وبعدها آيتان إلى آخر السورة، فالجواب ما ذكرنا أنه بالخيار إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد، بعضهم قالوا: إن شاء سجد لها سجدة على حدة، وإن شاء ركع لها ركوعاً على حدة وبكل ذلك، ورد الأثر؛ وهذا لأن السجدة غير مقصودة بنفسها، إنما المقصود إظهار الخشوع أو مخالفة الكفار، فإنهم استنكفوا عن السجدة لله تعالى قال الله تعالى: {وإذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون} (الإنشقاق: 21) والخشوع والمخالفة كما يحصل بالسجود يحصل بالركوع غير أن السجدة أفضل، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، لوجهين:

أحدهما: في السجود أداء الواجب بصورته ومعناه وفي الركوع بالمعنى دون الصورة، فكان السجود أكمل، ولأنه متى سجد يصير مقيماً صورتين ومتى ركع يصير مقيماً صورة واحدة أولى من ولو سجد يعود إلى القيام؛ لأنه يحتاج إلى الركوع والركوع لها يكون من القيام، ويقرأ بقية السورة ليس ثم يركع إن شاء، كيلا يصير ثان الركوع على السجدة ولو شاء ضم إليها من السورة الأخرى أية حتى يصير ثلاث آيات، قال الحاكم الشهيد: وهو أحب إليّ، وهذه القراءة بعد السجدة بطريق الندب لا بطريق الوجوب حتى أنه لو لم يقرأ جعلها، ويكره غير أن في الركوع يحتاج إلى النية ينوي الركوع للتلاوة وفي السجدة لا يحتاج إلى النية؛ لأن الواجب الأصل السجدة والركوع إن كان موافق السجود صورة يخالفها معنى فمن حيث إنه يوافقها معنى ينادى به ومن حيث إنه يخالفها صورة يحتاج إلى النية بخلاف السجدة؛ لأنها هي الواجب الأصل، فلا يحتاج فيها إلى النية، وبعضهم قالوا: معنى قوله: إن شاء ركع لها وإن شاء سجد وإن شاء أقام ركوع الصلاة مقام سجدة (92أ1) التلاوة وهذا التفسير منقول عن أبي حنيفة رحمه الله نقل عنه أبو يوسف رحمه الله، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما ما يدل على أن سجدة الركعة تنوب عن سجدة التلاوة، فقد روي عنه إن كانت السجدة في آخر السورة مثل الأعراف والنجم أو سائرها من مثل بني إسرائيل وانشقت وركع حتى فرغ من السورة حتى أجزأته سجدة الركعة عن سجدة التلاوة.

وهذا فصل اختلف فيه المشايخ: أنه إذا لم يسجد للتلاوة سجدة على حدة، ولم يركع لها ركوعاً على حدة، وإنما ركع للصلاة وسجد للصلاة والركوع ينوب عن سجدة التلاوة أو السجدة بعده، بعضهم قالوا: الركوع أقرب إلى موضع التلاوة فهو الذي ينوب عن سجدة التلاوة، وقال بعضهم: إن سجدة الصلاة تنوب، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما؛ لأن المجانسة بينهما وبين سجدة التلاوة أظهر؛ ولأن الركوع لا يعرف قربة إلا في الصلاة والسجدة قربة في الصلاة وخارج الصلاة، فكانت

(2/16)


السجدة أولى في كونها قربة فكانت هي أولى؛ ولأن الركوع لافتتاح السجود، والسجدة هي الأصل، ولهذا لا يلزمه الركوع في الصلاة إذا كان عاجزاً عن السجدة، فإنما ينوب ما هو الأصل ثم اختلاف أن ركوع الصلاة لا ينوب بدون النية، وأما سجود الصلاة، هل ينوب بدون النية؟ اختلف المشايخ فيه، قال محمد بن سلمة وجماعة من أئمة بلخ رحمهم الله: لا تنوب ما لم ينو في ركوعه أو بعد ما يستوي قائماً أنه يسجد لصلاته، وتلاوته جميعاً، وغيرهم قالوا: النية فيها ليست بشرط وسجدة الصلاة تقع عن الصلاة والتلاوة بدون النية، وجه قول من قال النية ليست بشرط أنهما من جنس واحد، وإحداهما أقوى ... ومتى سجدة الصلاتية، فتدخل التلاوة فيه وإن لم ينوِ كصوم رمضان تنوب عن صوم الاعتكاف وإحرام الحج ينوب عن إحرام الدخول بمكة، وإن لم يوجد منه النية.
وجه من قال: بأن النية شرط أنهما اختلفا سبباً، فإن سبب الصلاتية الصلاة وسبب الأخرى التلاوة، وهما مختلفان، واختلاف السبب يوجب اختلاف الحكم، ثم قوله: إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد لها قياس.
وفي الاستحسان: لا يجزئه الركوع عن سجدة التلاوة ولا سجدة الصلاة عن سجدة التلاوة نص على القياس والاستحسان في «الأصل» ، قال محمد رحمة الله عليه وبالقياس نأخذ، وجه القياس ما مر.

ووجه الاستحسان: أن السجدة أقوى من الركوع في معنى الخشوع فلا ينوب الركوع عن السجود، وكذا سجدة الصلاة لا تنوب عن سجدة التلاوة استحساناً كما لا تنوب إحدى سجدتي الصلاة عن الأخرى، من أصحابنا من قال هذا غلط من الكاتب والصحيح أنه يجوز استحساناً، لا قياساً، ومن أصحابنا من قال موضع القياس والاستحسان خارج الصلاة، يعني إذا قرأ آية السجدة خارج الصلاة وأراد أن يركع بدلاً عن السجدة يجوز قياساً، ولا يجوز استحساناً. وجه القياس ما مر.
ووجه الاستحسان: أن الركوع خارج الصلاة ليس بقربة والسجدة قربة وغير القربة لا ينوب عن القربة بخلاف الركوع في الصلاة؛ لأنه قربة فينوب عن السجدة قياساً واستحساناً.
الوجه الثاني: إذا كان بعد السجدة ثلاث آيات إلى آخر السورة أو كانت السجدة في آخر السورة وهو الوجه الثالث: أو كانت السجدة في وسط السورة، وهو الوجه الرابع: والحكم في هذه الوجوه كلها ما ذكرنا في الوجه الأول فلو أنه، في هذه الوجوه لم يركع لها ولم يسجد على الفور، ولكن قرأ ما بقي من السورة أو خرج إلى سورة أخرى وقرأ منها شيئاً آخر إن قرأ بعدها أنه ... يجزئة الركوع وسجدة الصلاة عن سجدة التلاوة.
أما إذا قرأ بعدها ثلاث آيات أو كانت السجدة في وسط السورة لم يجز الركوع عن

(2/17)


السجود؛ لأنه إذا قرأ ثلاث آيات بعد آية السجدة، فقد صارت السجدة ديناً في ذمته لفوات محل الأداء؛ لأن وقتها وقت وجوبها، إلا أن وقتها يقدر بأدائها أو، لا بد للتلاوة من وقت مقدر وكأن وقتها مقدر بأدائها، كما في سائر أفعال الصلاة إذا تقدر وقتها بأدائها، فإذا وجد من الفاصل قدر ما يقع به الأداء لو اشتغل بالأداء صارت فائتة، فلا ينوب الركوع والسجدة من التلاوة، وإذا لم يوجد من الفاصل قدر ما يقع به كان وقت الأداء باقياً، فلا تصير فائتة، فينوب الركوع أو السجدة عنها.

وقدرنا وقت الأداء بثلاث آيات؛ لأن وقت أدائها يمضي بآيات كثيرة، ولا يمضي بقراءة آية أو آيتين فقدرنا الكثرة بالثلاث، لأنه أول الجمع الصحيح، فما لم يقرأ ثلاث آيات كان وقت الأداء باقياً وكان وقتها، ولا يعتبر الركوع فاصلاً، فلا يمنع ... السجدة بعد الركوع عن التلاوة وحتى لا تصير السجدة ديناً بالركوع؛ لأن نفس الركوع يتأدى بالانحناء دون الطمأنينة، فإذا لم يصر قراءة آية أو آيتين فاصلاً فهذا أولى، بخلاف ما إذا ركع على الفور؛ لأنها ما صارت ديناً لبقاء محلها، وبخلاف ما إذا قرأ بعد آية السجدة آية أو آيتان؛ لأنها ما صارت ديناً بعد حين لم يقرأ بعدها ما تتم به سنّة القراءة.
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: إنما كره لمعانٍ.
أحدها: أن ترك الآية من بين السورة يقطع النظم وإعجاز القرآن، فأشبه تحريف القرآن عن موضعه، فيكون فيه رعاية على تحريفه قابل ما في الباب أن يكره.
والثاني: أن فيه ترك القراءة سنّة، فإن السنّة أن يقرأ فيها السورة على نحوها قال عليه السلام لبلال: «إذا قرأت سورة، فاقرأها على نحوها» وخلاف السنّة مكروه.
والثالث: أن ترك الآيتين به من بين السورة يؤدي إلى إلغاء القرآن، ومن ألغى في القرآن فقد أجرم فيكره لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) .
والرابع: أنه تركها فراراً من السجدة، فيكره لقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (الفرقان: 60) .
والخامس: أن ترك السجدة من بين السورة يؤدي إلى هجر القرآن، فيكره لقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) وقال النبي عليه السلام: «ليس شيء من القرآن بمهجور» ، فلا ينبغي أن يدع آية السجدة فبعد ذلك

(2/18)


ينظر إن كان التالي وحده (92ب1) يقرأ كيف شاء أو كان معه جماعة قال مشايخنا رحمهم الله: إن كان القوم متهيئين للسجود ويقع في قلبه أنه لا يشق عليهم أداء السجدة، فله أن يقرأ جهراً حتى يسجد القوم معه؛ لأن في هذا حثهم على الطاعة، وإن كانوا محدثين ونظر أنهم يسمعون أو لا يسجدون أو يقع به جملته أنه يشق عليهم بآية السجدة ينبغي أن يقرأها في نفسه، لئلا يكون تاركاً ترتيب القرآن أو نظمها ولا يجهر تحرزاً عن تأثم المسلم، وذلك مندوب إليه، ولا فرق بينها إذا قرأها خارج الصلاة أو في الصلاة.t

قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» : ومن الناس من كره ذلك خارج الصلاة ولم يكرهه في الصلاة، ولكن هذا خلاف الرواية، فإن محمداً قال في «الجامع الصغير» : وأكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة، قال وكان لا يرى بأساً باختصار السجود في غير صلاة، وهو أن يقرأ آية السجدة ... السورة لما فيه من الإقبال على السجود على وجه القربة؛ ولأنه قرأ ما تيسر عليه، وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) وجاء عن النبي عليه السلام «أنه كان يقرأ في خطبته بعض الآي من القرآن لا يقرأ قبلها ولا بعدها من ذلك» ، ثم قال وجب إلا أن يقرأ معها آية أو آيتين؛ لأنه أبلغ في إظهار الإعجاز، وأدل على المعنى وأكمل النظم، ولم يذكر اختصار السجدة في الصلاة، بل قيده بغير حالة الصلاة، قالوا: ويجب أن يكره في حالة الصلاة؛ لأن الاقتصار على آية واحدة في الصلاة مكروه.

وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل قرأ آية السجدة، وهو ليس في الصلاة يسمعها رجل هو في الصلاة فيسجدها التالي ويسجد معه المصلي قال إن أراد ... بعد فسدت صلاته، ويجب عليه إعادة السجدة، وإذا أخر سجدة التلاوة عن وقت القراءة أو عن وقت السماع ثم أداها يكون مؤدياً لا قاضياً عندنا، فأداؤها ليس على الفور عندنا، وهذا يكره تأخيره عن وقت ... القراءة ذكر في بعض المواضع أنه إذا قرأ مكروه عن وقت القراءة، أما في الصلاة فتأخيرها المواضع إن تأخيرها خارج الصلاة لا يكره وذكر الطحاوي مطلقاً أن تأخيرها مكروه.
وإذا قرأ آية السجدة عند طلوع الشمس وسجدها عند استواء النهار أو عند غروب

(2/19)


الشمس أجزأه عند أبي يوسف رحمة الله عليه، ومحمد رحمه الله كذا ذكر في «عيون المسائل» ، وذكر في موضع آخر عن أبي يوسف أنه لا يجوز؛ لأنه كما ارتفع النهار فقد قدر على الأداء كاملاً، فلا يجوز الأداء ناقصاً، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله.
وقيل: لو قرأها عند غروب الشمس وأداها عند طلوع الشمس لا يجوز؛ لأن وقت الغروب أكمل حيث يجوز أداء عصر يومه في ذلك الوقت، ولا يجوز أداء الفجر في وقت طلوع الشمس.
ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ولا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها، وهذا لأنه إذا قرأها يلزمه أن يخر ساجداً لها، فيظن القوم أنه سجد للصلاة ونسي الركوع، فلا يتابعونه فيها، فيكون قد فتن القوم ودون هذا مذكرة للإمام قال عليه السلام: «أفتان أنت يا معاذ» وأشار الحاكم في «شرحه» إلى حرف آخر، قال؛ لأنه إذا تلاها وسجد حسب القوم أنه قد غلط فيلجئهم إلى التسبيح ولا يجيبهم إلى ما يدعونه إليه ولا يتابعه القوم في سجوده، وفي هذا من التسبيح، ما لا يخفى على أحد وهذا الذي بينا جواب الاختيار وأما إذا قرأها فعليه أن يسجد لها، وعليهم أن يتابعونه فيها وهذا لما روينا عن النبي عليه السلام رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه «أنه صلى الظهر وسجد فيها حتى ظنوا أنه قرأ فيها {آلم تنزيل} السجدة» والله أعلم.

وفي «العيون» : إذا افتتح الصلاة وهو راكب، وافتتحها آخر يسير معه، فقرأ أحدهما آية سجدة واحدة مرتين فسمعها صاحبه وقرأ صاحبه آية سجدة أخرى مرة فسمعها الأول يسجد الذي قرأ آية واحدة مرتين، سجدتين سجدة لقراءته؛ لأن تلاوة آية واحدة مرتين في الصلاة لا يوجب على الثاني لا سجدة واحدة، وسجدة إذا فرغ من صلاته لما سمع في صلاته من صاحبه، أما الذي قرأ مرة يسجد سجدة لقراءته؛ لأنه قرأ مرة ويسجد مرتين إذا فرغ من صلاته لما سمع من صاحبه؛ لأنه سمع تلاوته آية واحدة مرتين في مجلسين؛ لأن سماعه تلك التلاوة ليس من الصلاة وفيما ليس من الصلاة يفيد أن المجلس باليسير، وإنما الحد بالتحريمة فيما كان من الصلاة، وكان مجلس التالي متحداً، ومجلس السامع متعدد أو في مثل هذه الصورة يتعدد الوجوب على السامع يوجب عليه سجدتان، وذكر في «مختصر القصاص» أنه يسجد مرة وعليه الفتوى، أما إن نظرنا إلى مكان السامع، فهو واحد وإن نظرنا إلى مكان التالي فمكانه جعل كمكان واحد في حقه، فيجعل كذلك في حق السامع أيضاً؛ لأن السماع ما على التلاوة، المصلي إذا قرأ آية السجدة على الدابة مراراً وخلفه رجل يسوق الدابة سجد المصلي سجدة واحدة والسائق يسجد كذلك.

(2/20)


وإذا قرأ الإمام آية السجدة في صلاة الجمعة، فعليه أن يسجد ويسجد معه أصحابه؛ لأن الجمعة ظهر مقصورة، فيقاس بالظهر الممدودة ولو قرأها في الظهر الممدودة فعليه أن يسجدها ويسجد معه أصحابه، فكذلك إذا قرأها في الجمعة، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، قال مشايخنا المسألة في زماننا، إذا قرأها الإمام في الجمعة أن لا يسجد لها لامتداد الصفوف، وكثرة القوم؛ فإن المكبر إذا كبر لها ظن القوم أنه كبر للركوع، فيركعون وفيه من الفتنة ما لا يخفى، وهكذا في صلاة العيد قال شمس الأئمة هكذا سألت القاضي الإمام الأستاذ رحمه الله هل يكره للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة يوم الجمعة كما يكره في صلاة الظهر؟ قال: ليست فيه رواية وينبغي أن يكره؛ لأن الجمع في حق من لا يسمع قراءة الإمام كصلاة ما يجهر فيها بالقراءة.

الفصل الثاني والعشرون في صلاة السفر
يجب أن يعلم بأن للشروع بالسفر أحكاماً من جملة ذلك قصر (93أ1) الصلاة لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} (النساء: 101) وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم «أنه صلى ركعتين حين ذهب إلى مكة وبمكة، وقال لأهل مكة بعدما سلم على رأس الركعتين «يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر» والله أعلم، وهذا الفصل يشتمل على أنواع.
الأول في معرفة فرض المسافر
قال أصحابنا رحمهم الله: فرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، وقال الشافعي رحمه الله فرضه أربع وركعتان رخصة حتى أن عند علمائنا رحمهم الله إذا صلى المسافر أربعاً ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته، لانشغاله بالنفل قبل إكمال الفرض، وإن كان قعد تمت صلاته وهو مسيء لخروجه عن الفرض ودخوله في النفل لا على وجه المسنون، حجة الشافعي في المسألة قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} (النساء:101) ، وقاس الصلاة بالصوم، فإن السفر أثر في رخصة الإفطار في الصوم، لا في الإسقاط، فكذا في الصلاة.
حجة علمائنا رحمهم الله حديث عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة في الأصل ركعتين إلا المغرب، فإنها وتر ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر» وعن ابن عمر

(2/21)


رضي الله عنهما أنه قال: «صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر» يتكلم على لسان عليه السلام؛ ولأن الشفع الثاني سقط عن المسافر لا إلى بدل، وعلامة الفرض الأداء أو القضاء به، فلأن الصوم ولا قصر، لأن القصر للتخفيف، فلا حاجة إليه في النوافل في ذوات الثلاث والمثنى؛ لأن شرطها ليس بصلاة ولا قصر في النوافل أيضاً؛ لأن له أن لا يفعلها وتكلموا في الأفضل في السفر، فقيل هو الترك ترخصاً، وقيل: هو الفعل معتزماً، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله يقول بالفعل في حالة النزول والترك في حالة السير.
نوع آخر في بيان مدة السفر الذي يتعلق به قصر الصلاة
قال علمائنا رحمهم الله: أدناها مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، والأصل في ذلك قوله عليه السلام: «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ذكر المسافر بلام التعريف ... فقد جوّز لكل مسافر مسح ثلاثة أيام ولياليها ولا يتصور أن يمسح كل مسافر ثلاثة أيام ولياليها إلا وأن تكون أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها.

والمعنى في ذلك: أن القصر في السفر لمكان الحرج والمشقة والحرج والمشقة في أن يحمل رحله من غير أهله، ويحط في غير أهله وذلك لا يتحقق فيما دون الثلاث، لأن في اليوم الأول يحمل من أهله وفي اليوم الثاني يحط في أهله، أما يتحقق في الثلاث؛ لأن في اليوم الثاني يحمل الرحل في غير أهله ويحط في غير أهله، فتحقق معنى الحرج، فلهذا قدر بثلاثة أيام ولياليها.
ثم وصف في «الكتاب» : السير فقال سير الإبل ومشي الأقدام وهو سير الوسط والعام الغالب، وهذا لأن أعجل السير سير البريد وأبطأه سير العجلة، وخير الأمور أوساطها ثم معنى قول علمائنا رحمهم الله أدنى مدة السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها السير الذي يكون في ثلاثة أيام ولياليها مع الاستراحات التي تكون في خلال ذلك، وهذا لأن المسافر لا يمكنه أن يمشي أبداً بل يمشي في بعض الأوقات، وفي بعض الأوقات يستريح ويأكل ويشرب، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه اعتبر ثلاث مراحل، فعلى قياس هذه الرواية من بخارى إلى أرمينة مدة سفر، وكذلك إلى فربر وبه أخذ بعض مشايخ بخارى رحمهم الله.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قدره بيومين، والأكثر من اليوم الثالث مقام كله، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وابن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما ثم على قياس هذه الرواية، إذا قدر بالمراحل عند أبي حنيفة يقدر بالمرحلتين والأكثر من

(2/22)


المرحلة الثالثة، وهو على قياس تقدير أقل مدة الحيض على قول أبي يوسف ولم يعتبر بعض مشايخنا الفراسخ، قالوا: لأن ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهولة والصعوبة والجبال والبر والبحر.
وعامة مشايخنا قدروه بالفراسخ أيضاً، واختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: أحد وعشرين فرسخاً، وبعضهم قالوا: ثمانية عشر فرسخاً أدنى مدة السفر ثمانية عشر فرسخاً، وبعضهم قالوا: خمسة عشر، والفتوى على ثمانية عشر؛ لأنها أوسط الأعداد، وإن كان السفر سفر جبال، فعبارة بعض مشايخنا رحمهم الله أن التقدير فيه بمنزلة ثلاثة أيام ولياليها على حسب ما تبين بحال الجبل، وعبارة الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: أن التقدير فيه بالمراحل لا محالة يقدر ثلاثة مراحل مرحلة الجبل، لا مرحلة السهل.
وإن كان السفر سفر بحر فقد اختلف المشايخ فيه أيضاً، والمختار للفتوى أنه ينظر أن السفينة كم تسير ثلاثة أيام، ولياليها حال استواء الريح، فيجوز ذلك أصلاً ويقصر الصلاة إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام ولياليها على هذه السفينة في البحر، فلو سار في الماء سيراً سريعاً، ويكون ذلك على البرية ثلاثة أيام ولياليها، فقد ذكر الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ... ، وهذا شيء يعرفه الملاحون، فيرجع في ذلك إلى قولهم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا خرج إلى مصر في طريق في ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليه في طريق آخر في يوم واحد قصر، وقال الشافعي إذا كان بغير عرض لم يقصر؛ لأن ما يكون بغير عرض لا يكون معتداً به، فيكون وجوده وعدمه بمنزلة ولا هو له رخصة السفر، وأما بقول أن الحكم متعلق بالسفر دفعاً للحرج، فيتعلق بالسفر دون الغرض ثم سلوكه أحد الطريقين بغير عرض لا يكون أعلى من سفره بغير عرض، ولو سافر بغير عرض تعلق به رخصة السفر كذلك ها هنا.

وفي «نوادر بن سماعة» : في مصر له طريقان؛ وأحدهما: مسيرة يوم والآخر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها إن أخذ في الطريق الذي مسيرة يوم لا يقصر الصلاة، وإن أخذ في الطريق الذي هو مسيرة ثلاثة أيام ولياليها قصر الصلاة، المسافر إذا بكر في اليوم الأول، ومشى إلى وقت الزوال حتى بلغ المرحلة، فينزل فيها للاستراحة وبات فيها ثم بكر في اليوم الثاني ومشى إلى ما بعد الزوال حتى بلغ المرحلة ونزل فيها للاستراحة وبات فيها ثم بكر في اليوم الثالث ومشى حتى بلغ إلى المقصد وقت الزوال هل يصير مسافراً بهذا (93ب1) ، وهل يباح له القصر قال: بعضهم لا؛ لأنه لم يمش في بقية اليوم الثالث، فهذا أقل من ثلاثة أيام ولياليها.
قال شمس الأئمة الحلواني: الوجه الصحيح أن يصير مسافراً، فهذه النية ويقصر الصلاة، لأن المسافر لا بد له من النزول لاستراحة نفسه أو لاستراحة دابته أما أشبهه،

(2/23)


وهل الشرط أن يذهب من الفجر إلى الفجر، لأن الأدميين يطيقون ذلك وكذلك الدابة بل إذا مشى في بعض النهار فذلك يكفي.
نوع آخر في بيان من يثبت القصر في حقه
قال علمائنا رحمهم الله: القصر ثابت في حق كل مسافر سفر الطاعة وسفر المعصية في ذلك سواء، وقال الشافعي رحمه الله: سفر المعصية لا يعتد الرخصة، حجته أن الرخصة لها تثبت في حق المسافر نظراً وتخفيفاً عليه، وهذا لا يليق بالمعصية.
ولنا قوله عليه السلام: «فرض المسافر ركعتان من غير قصر» ، ولأن السفر له صار مرخصاً باعتبار مشقة تلحقه المشي بالأقدام، والغيبة عن الوطن ولا خطر في هذا، ولنا الخطر في مقصوده لا في عين السفر، فيبقى بعين السفر مرخصاً مبيحاً.

وعلى هذا الأصل المرأة إذا حجت من غير محرم، وكذا جواز الصلاة على الراحلة إذا خاف، وكذا جواز أكل الميتة من غير الضرورة، وكذا بجواز استكمال يده المسح على الخفين في السفر، فإن كان السفر معصية ويسوى في ذلك حال قصد الطاعة والمعصية، والمعنى في ذلك ما مر، أنه لا خطر في نفس السفر والقصر من كل مسافر يصلي وحده أو كان إماماً أو مقتدياً بمسافر فأما إذا اقتدى بمقيم متابعة له وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
نوع آخر في بيان المسافر متى يقصر الصلاة
فنقول القصر حكم ثبت في حق المسافر، فلا بد من بيان أن الشخص متى يصير مسافراً بمجرد نية السفر، بل يشترط معه الخروج.
وفرق بين السفر والإقامة، فإن المسافر يصير مقيماً بمجرد النية، إذا كان في موضع يصلح للإقامة، ولم يكن تابعاً لغيره لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
والفرق: أن في السفر الحاجة إلى العقل والفعل ولا يكفيه مجرد النية، أما في الإقامة الحاجة إلى ترك الفعل؛ لأن الأفضل الأصل وهو الإقامة ولهذا يبطل حكمه بالسفر، فيحتاج إلى ترك العارض ليظهر حكم الإقامة، وفي الترك يكفيه مجرد النية.
ونظير هذا: قال في كتاب الزكاة: من كان له عبد الخدمة فنوى أن يكون للتجارة حتى يبيعه وإن كان للتجارة فنوى أن يكون للخدمة خرج من التجارة بالنية، وما افترقا إلا من حيث إن في الفصل الأول الحاجة إلى الفعل وفي الفصل الثاني الحاجة إلى ترك الفعل.

قال محمد رحمه الله: ويقصر حين يخرج من مصره ويخلف دور المصر، وفي

(2/24)


موضع آخر يقول: ويقصر إذا جاوز عمرانات المصر قاصداً مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، وهذا لأنه ما دام في عمران المصر فهو لا يعد مسافراً، والأصل في ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه خرج من البصرة يريد السفر فحان وقت العصر فأتمها ثم نظر إلى خص أمامه، فقال: إنا لو كنا جاوزنا هذا الخص قصرنا، وهكذا إن كانت المحلة منفصلة من المصر وكانت قبل ذلك متصلة بالمصر فإنه لا يقصر حتى يجاوز تلك المتصلة ويخلف دورها لأن تلك المحلة من المصر بخلاف القرية؛ لأن تلك القرية لا تكون من المصر وربما تكون من القرى وربما يترادف القرى ويتعارف المصر إلى فرسخ أو فرسخين المصر، فلو نهى عن القصر حتى يجوز القرية التي..المصر لنهي عن القصر في هذه القرى أيضاً، وهذا بعيد فعرفنا أن الشرط أن يتخلف عن عمران المصر، وبنيانه لا غير.
ثم يعتبر الجانب الذي منه يخرج المسافر من البلدة، ولا تعتبر الجوانب الذي بحذاء البلدة حتى أنه إذا خلف البنيان الذي خرج منه قصر الصلاة، وإن كان بحذاءه بنيان أخرى من جانب آخر من المصر، وهذا كله بهذا الترتيب محفوظ عن محمد رحمه الله، ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية ذكر هذه الجملة شمس الأئمة الحلواني في شرح صلاته.
وذكر الصدر الشهيد عمي رحمة الله عليه في «واقعاته» : أن رجلاً خرج مسافراً من بخارى، فلما بلغ أرض أزبكستان ... أو إلى رباط وليان اختلف المشايخ فيه، والمختار: أنه يقصر الصلاة؛ لأنه جاوز الربض ومتى جاوز الربض فقد جاوز عمران البلدة.

وعن الحسن رحمه الله القرى، إذا كانت متصلة بالمصر في القرى إذا كانت متصلة بالرمض إلى ثلاث فراسخ قال: لا يقصر حتى يجاوز البيوت وإن كان ثلاث فراسخ وإن كان بين البلدة، والقرية مقدار ... لا يكون مجاوزاً وإن كان قدر مائة ذراع كان مجاوزاً، ومن مشايخنا من اعتبر مجاوزة فناء المصر إن كان بين المار وبين فنائه أقل من قدر غلوة ولم يكن بينهما مزرعة، وإن كان بينهما مزرعة أو كانت المسافة بين المصر وفنائه قدر غلوة، ولا يعتبر مجاوزة الفناء، وهذا القائل يقول: إذا كانت القرى متصلة بفناء المصر لا بربض المصر يعتبر مجاوزة الفناء لا غير، بخلاف ما إذا كانت القرى متصلة بربض المصر حتى تعتبر مجاوزة القرى، والصحيح ما ذكرنا أنه يعتبر مجاوزة عمران المصر إلا إذا كان ثمة قرية أو قرى متصلة بربض المصر، فحينئذٍ يعتبر مجاوزة القرى.

(2/25)


نوع آخر في بيان مدة الإقامة
ولا بد من معرفتها؛ السفر يبطل بالإقامة فنقول أدنى مدة السفر الإقامة عندنا خمسة عشر يوماً، وقال الشافعي رحمه الله أربعة أيام حتى لو نوى الإقامة أربعة أيام يتم الصلاة عنده.
وعندنا ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يوماً لا يتم الصلاة.
حجة الشافعي: ما روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه كان يقول: من أقام أربعاً صلى أربعاً، وفي رواية أخرى إذا نوى أن يقيم أربعة أيام صار مقيماً.
حجتنا: حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام دخل مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة وخرج منها في اليوم الثامن من ذي الحجة، وكان يقصر الصلاة حتى قال بعرفات: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» فعلم أنه لا يصير مقيماً بأربعة أيام، ولأن المسافر لا يجد بداً من المقام في المثال أياماً إما لاستراحته وأما لاستراحة دابته أو لطلب الرفقة، وربما تعبت دابته عقر ويحتاج إلى معالجتها أو أخرى ولا يتم ذلك بأربعة أيام، فيحتاج إلى الزيادة عليها.

فقدرنا ذلك بخمسة عشر يوماً، لأن مدة الإقامة في معنى مدة الطهر (94أ1) بأنها تعيد ما كان سقط من الصوم والصلاة ثم أقل مدة الطهر مقدر بخمسة عشر يوماً بأقل مدة الإقامة، يجب أن يقدر بها الأولى، أما قدر أدنى مدة السفر بثلاثة أيام ولياليها اعتباراً بأدنى مدة الحيض من حيث أن مدة السفر نظير مدة الحيض، فإنه تسقط بهما الصلاة والصوم ولو أنه أقام في موضع أياماً ولم ينو الإقامة لا يصير مقيماً عندنا وإن طال إقامته والأصل في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أقام رسول الله عليه السلام بحنين أربعين يوماً وكان يصلي ركعتين» ، وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى ... ، وكان يقصر الصلاة وعن عمر رضي الله عنه: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يصلي ركعتين وعن علي رضي الله عنه: أنه أقام بخوارزم سنتين، وكان يصلي ركعتين، والمعنى في هذه المسألة وهو أن الإقامة ضد السفر، ثم أجمعنا أن المقيم لا يصير مسافراً إلا بالنية، وإن وجد منه حقيقة السفر وهو السير، فإنه إذا كان يسير مرحلة جميع الدنيا ولا ينوي سفراً لا يصير مسافراً، فكذا لا يصير مقيماً، وإن وجد منه حقيقة الإقامة ما لم ينو الإقامة، والله أعلم.

(2/26)


نوع آخر في بيان المواضع التي تصح نية الإقامة فيها والتي لا تصح نية الإقامة فيها
فنقول إنما تصح نية الإقامة إذا كان الإقامة إذا كان الموضع الذي نوى الإقامة فيه محل للإقامة حتى أن أهل العسكر إذا نووا الإقامة في دار الحرب خمسة عشر يوماً أو أكثر، وهم يحاصرون أهل المدينة لا تصح منهم والأصل في ذلك ما روي «أن النبي عليه السلام حاصر أهل الطائف سبعة عشر يوماً، وكان يقصر الصلاة» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً سأله وقال إنا نطيل.
f

.. المقام في أرض الحرب، فقال: «صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك» ؛ ولأن دار الحرب ليس موضع الإقامة في حق المحاربين من المسلمين لأن الغلبة فيها لأهل الحرب والظاهر أنهم يقاتلون المسلمين والمسلمون لا يقاومونهم لقلتهم فينوون نية الإقامة لا يصار محلها، ولا تصح كما لو نوى السفر في غير موضع السفر، وكذلك إذا نزلوا المدينة، وحاصروا أهلها في الحصن لا تصح منهم الإقامة؛ لأنه لا قرار لهم ما داموا محاصرين، وكانت نية الإقامة في غير موضعها، وكذا أهل البغي إذا ابتغوا في دار البغي، فحاصرناهم لا تصح فيه الإقامة، لأن دارهم ليس موضع لنا فيها كدار الحرب.
وقال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» : إذا كان العسكر استولوا على الكفار بذلوا إنسانيتهم وأرواحهم وركبانهم وللمسلمين منعة وشوكة فأجمعوا على الإقامة خمسة عشر يوماً أكملوا الصلاة، وإذا كانوا في عسكر في الأخبية والفساطيط في سفر فأجمعوا على الإقامة خمسة عشر يوماً صلوا ركعتين.
وفرق بين الأبنية وبين الأخبية والفرق: أن البناء موضع الإقامة والطرء دون الصحراء، وإن حاصروا أهل أخبية وفساطيط لم يصيروا مقيمين سواء نزلوا بساحتهم، أو في أخبيتهم وخيامهم فنووا الإقامة فيها بالإجماع؛ لأن هذا لا يعد إقامة، ألا ترى أنهم يحملونها على الدواب حيث ما قصدوا واستخفونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، وإذا هي حمولة وليس بمنازل.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وهكذا عسكر المسلمين إذا قصدوا موضعاً، ومعهم أخبيتهم وخيامهم وفساطيطهم، فنزلوا مفازة في الطريق ونصبوا الأخبية والفساطيط وعزموا فيها على إقامة خمسة عشر يوماً لم يصيروا مقيمين لما بينا، أنها حمولة وليست بمساكن.

واختلف المتأخرون في الذين يسكنون في الخيام والأخبية والفساطيط كالأعراب ... الذين في زماننا منهم من يقول: لا يكونوا مقيمين؛ لأنهم ليسوا في

(2/27)


موضع الإقامة، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أنهم مقيمون؛ لأن الإقامة للمراصد والسفر عارض وهم لا ينوون السفر وإنما ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى، فكانوا مقيمين باعتبار الأصل.
وروي عن أبي يوسف رحمة الله عليه: في الرعاة إذا كانوا يطوفون في المفاوز وينتقلون من كلأ إلى كلأ ومعهم أثقالهم وخيامهم إنهم مسافرون حيث نزلوا أو طافوا إلا في خصلة واحدة، وهي إذا نزلوا في مرعى كثيراً بكلأ والماء وأعدوا الخيام ونصبوا وعزموا على إقامة خمسة عشر يوماً، وكان الكلأ والماء يكفيهم، فإني استحسن أن أجعلهم مقيمين وآمرهم بالإكمال.
وذكر في «المنتقى» : عن الحسن بن أبي مالك عن أبي حنيفة رحمهم الله في الأعراب إذا نزلوا بخيامهم في موضع التمسوا فيه المرعى، ونووا أن يقيموا شهراً أو أكثر للرعي ما يتموا الصلاة لأنه ليس بموضع قيام لهم، قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله يقول: يتمون الصلاة.

وفيه أيضاً: عن أبي حنيفة رحمه الله إذا نوى المسافر الإقامة عند أهل ... ولم يكن ثم بيت، فليس بمقيم، وقال أبو يوسف: يتم الصلاة إذا كان ثمَّ قوم مستوطنون يسكنون بيوت الشهور، وإن نوى المسافر الإقامة في موطنين خمسة عشر يوماً نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة لم يصر مقيماً، لأن نية الإقامة لهما تكون في موضع واحد، فإن الإقامة ضد السفر وهو ضرب في الأرض فلا يكون إقامة، وهذا إذ انوى الإقامة في موضعين فأما إذا عزم على أن يقيم في الليالي بأحد الموضعين، ويخرج في النهار إلى موضع آخر فإذا دخل أولاً الموضع الذي عزم الإقامة فيه بالنهار لا يصير مقيماً، وإن دخل أولاً الموضع الذي عزم فيه الإقامة بالليالي يصير مقيماً، ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافراً لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه.
ألا ترى أنك إذا قلت للسوقي: أين تسكن؟ يقول: في محلة كذا، وإن علم أن يكون في السوق في النهار وكان هو الأصل يوجب اعتباره.
ومما يتصل بهذا النوع
الأسرى من المسلمين، إذا كانوا في دار أهل الحرب فانفلت منهم، وهو مسافر فوطن نفسه على إقامة خمسة عشر يوماً في بخارى، وغيره قصر الصلاة؛ لأنه محارب لهم فلا تكون دار الحرب موضع الإقامة له، وكذلك إذا أسلم الرجل من أهل الحرب في دارهم فعلموا بإسلامه وطلبوه ليقتلوه، فخرج هارباً يريد مسيرة ثلاثة أيام، فهو مسافر، إن أقام في موضع مختفياً (94ب1) شهراً منهم، أو أكثر لأنه صار محارباً لهم حتى طلبوه ليقتلوه وكذلك المستأمن إذا غدروا به وطلبوه ليقتلوه؛ لأنه صار محارباً لهم، وإن كان..... من هو لا مقيماً علانية في دار الحرب، فلما طلبوه ليقتلوه اختفى فيها،

(2/28)


فإنه يتم الصلاة لأنه كان مقيماً بهذه البلدة، فلا يصير مسافراً إن لم يخرج.

وكذلك إن أخرج منها مسيرة يوم أو يومين لأن المقيم لا يصير مسافراً بنية الخروج إلى ما دون مسيرة السفر، وكذلك لو أن أهل مدينة من أهل الحرب أسلموا فقاتلهم أهل الحرب وهم مقيمون في مدينتهم، فإنهم يتمون الصلاة.
وكذلك إن غلبهم أهل الحرب على مدينتهم فخرجوا منها يريدون مسيرة يوم، فإنهم يتمون الصلاة وإن خرجوا يريدون مسيرة ثلاثة أيام قصروا الصلاة، فإن عادوا إلى مدينتهم ولم يكن المشركون عرضوا لها يعني لمدينتهم أتموا فيها الصلاة؛ لأن مدينتهم كانت دار السلام حتى أسلموا فيها فكان موضع إقامة لهم، فما لم يعرض لها المشركون فهي وطن أصلي في حقهم فيتمون الصلاة إذا وصلوا إليها.
وإن كان المشركون غلبوا على مدينتهم فيها ثم إن المسلمين رجعوا إليها وتخلى المشركون عنها، فإن كانوا اتخذوها داراً ومنزلاً لا يبرحونها فصارت دار السلم يتمون فيها الصلاة؛ لأنها صارت في حكم دار الحرب حتى غلب المشركون عليها فحين ظهر المسلمون عليها، وعزموا على المقام فيها فقد صارت دار السلم ونية المسلم للإقامة في دار السلم صحيحة، وإن كانوا لا يريدون أن يتخذوها داراً، ولكن يتمون فيها شهراً ثم يخرجون إلى دار الإسلام يقصرون الصلاة فيها؛ لأن هذا الموضع مرحلة دار الحرب وهم محاربون، فلا يصيروا مقيمين بنية الإقامة فيها.
وكذلك عسكر من المسلمين دخلوا دار الحرب فغلبوا على مدينة فإن اتخذوها داراً، فقد صارت دار السلم يتمون بها الصلاة، وإن لم يتخذوها داراً ولكن أرادوا الإقامة بها شهراً أو أكثر، فإنهم يقصرون الصلاة؛ لأنها دار الحرب وهم محاربون فيها هذه الجملة من «السير» عن أبي يوسف، فيما إذا غلب المسلمون على مدينة في أهل الحرب وقد ذكرنا في أول هذا النوع بخلاف ما ذكرنا في «السير» .
نوع آخر في بيان من لا يصير مقيماً بنية إقامته ويصير مقيماً بنية إقامة غيره

الأصل في هذا أن من يمكنه الإقامة باختياره يصير مقيماً بنية نفسه ومن لا يمكنه الإقامة باختياره لا يصير مقيماً بنية نفسه، حتى أن المرأة إذا كانت مع زوجها في السفر والرقيق مع مولاه والتلميذ مع أستاذه الأجير مع مستأجره، والجندي مع أميره فهم لا يصيرون مقيمين بنية أنفسهم في «ظاهر الرواية» .
وذكر هشام في «نوادره» عن محمد في الرجل يخرج مع قائده، ونوى الرجل المقام ولم ينو قائده قال هذا مقيم ويصير العبد مقيماً بنية المولى، لأنه تبع له والحكم في التبع ثبت بشرط الأصل وكذلك كل من كان تبعاً، كالجندي مع الأمير، ومن أشبهه ممن تقدم ذكره إلا المرأة فإن فيها اختلافاً فإن من أصحابنا من قال: إن المرأة إذا استوفت صداقها فهي بمنزلة العبد تصير مقيمة بإقامة الزوج؛ لأنه ليس لها حق حبس النفس كما في العبد،

(2/29)


وإن لم تستوف الصداق، لكن سلمت نفسها إلى الزوج ودخل بالمرأة إذا سافرت مع زوجها بها، فعلى الخلاف المعروف عند أبي حنيفة رحمه الله لها حق حبس نفسها، وعندها ليس لها حق حبس نفسها، وقيل لا خلاف في هذا الفصل؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان لها حق حبس نفسها ولكن ما لم تحبس نفسها كان تبعاً للزوج، ولم يذكر مثل هذا الاختلاف، فيما إذا نوت المرأة الإقامة بنفسها، ولا فرق بين الصورتين فيجوز أن تكون نية المرأة. على هذا الاختلاف أيضاً.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : رجل حمل رجلاً وذهب ولا يدري أين ذهب به قال: يتم الصلاة حتى يسير ثلاثاً، فإذا سار ثلاثاً قصر، وإن علم أن الباقي بعدها يسير، ولو كان صلى ركعتين من جنس حملة أجرته، فإن سار به لعل من ثبت أعاد ما صلى.
ذكر هو رحمه الله في «المنتقى» أيضاً: ولو أن والياً خرج من كورة إلى كورة، ومعه جنده وهم ينوون الإقامة بإقامته، والسفر بسفره، فقدم ذلك الوالي مصراً دون المصر الذي كان أراده، ونوى الإقامة ولم يدر به بعض من معه من جنده حتى صلوا صلاة سفر ثم علموا، قال: يعيدو صلاتهم.

وفي «نوادر هشام» قال سمعت محمداً: في رجلين مسافرين لأحدهما دين على الآخر حبس رب الدين المديون بدينه في السجن: قال إن كان المحبوس يقدر على الأداء، فالنية نيته في المقام والسفر ويعص ما لم ينو الإقامة، وإن كان لا يقدر على الأداء، فالنية نية الحابس إن نوى أن لا يخرجه خمسة عشر يوماً، فعلى المحبوس أن يتم الصلاة وليس على الحابس أن يتم الصلاة، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف في المسافر إذا حبس بالدين وهو معسر، فإنه يتم الصلاة وكذلك إذا كان موسراً إلا أن يكون قد وطن نفسه على أدائه، فيقصر والله أعلم.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مسافر دخل مصراً وأخذه غريمه وحبسه، فإن كان معسراً صلى صلاة المسافرين؛ لأنه لا يقوم على الإقامة؛ إذ لا يحل للطالب حبسه في هذه الصورة، وإن كان موسراً ... لا يقضي دينه أبداً صلى صلاة المقيمين؛ لأنه عزم على الإقامة أبداً؛ لأنه يحل للطالب حبسه في هذه الصورة أبداً، وإن لم يعتقد ولم ينو أن لا يقضي دينه أبداً، لكن نوى أن لا يقضي دينه مدة غير معينة صلى صلاة المسافرين؛ لأنه وإن عزم على الإقامة ولكن مدة مجهولة.
وقد قال مشايخنا: إن الحجاج إذا وصلوا بغداد شهر رمضان ولم ينووا الإقامة صلوا صلاة المقيمين؛ لأن من عزمهم أن لا يحرموا إلا مع القافلة، ومن هذا الوقت إلى وقت خروج القافلة أكثر من خمسة عشر يوماً، فكأنهم نووا الإقامة خمسة عشر يوماً فتلزمهم صلاة المقيمين.

قال في «السير الكبير» : والأسرى من المسلمين في أيدي أهل الحرب هم له

(2/30)


قاهرون إن أقاموا به في موضع يريدون أن يقيموا به خمسة عشر يوماً فعليه أن يكمل الصلاة وإن كان الأسير لا يريد (95أ1) أن يقيم معهم، وإن كان الأسير يريد أن يقيم في موضع خمسة عشر يوماً وأخرجوه من ذلك الموضع يريدون مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة لأن الأسير مقهور مغلوب في أيديهم، وكان سفره وإقامته بهم، كالعبد مع مولاه والقائد مع الأعمى والتلميذ مع الأستاذ.

وكذلك الرجل يبعث إليه الخليفة، فيؤتى به من بلد إلى بلد كان نية الإقامة، والسفر إلى الشخص لا إليه؛ لأنه مقهور من هذا الشخص، فصار كالأسير بيد الكفار وإذا كان العبد بين موليين في السفر، فنوى أحد الموليين الإقامة دون الآخر، فإن كان مقيماً مهايأة في الخدمة، وإذا خدم المولى الذي لم ينو الإقامة يصلي صلاة السفر.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مسلم أسره العدو وأدخله دار الحرب ينظر إن كان مسيرة العدو ثلاثة أيام، صلى صلاة المسافرين وإن كان دون ذلك صلى صلاة المقيمين، وإن كان لا يعلم بذلك سأل عنهم، فإن سأل عنهم ولم يخبره ... بنى الأمر على ما كان هو في الأصل، وإن كان مسافراً صلى صلاة المسافرين، وإن كان مقيماً صلى صلاة المقيمين لأنه لم يعلم وجود الغير.
وكذلك العبد يخرج مع مولاه إلى وضع، فسأله فإن لم يخبره صلى صلاة المقيمين، وإن صلى أربعاً أربعاً ولم يقعد على رأس الركعتين فلما سار أياماً أخبره مولاه أنه كان قصد مسيرة سفر يعيد الصلاة؛ لأنه صار مسافراً من ذلك الوقت، وقيل: لا يعيد الصلوات ولا تظهر نية المولى في مقر العبد، وستأتي هذه المسألة بعد هذا.
وعلى هذا لو نوى المولى الإقامة ولم يعلم أن العبد بذلك حتى صلى أياماً ركعتين ثم أخبره المولى كان عليه إعادة تلك الصلوات.

وكذلك المرأة إذا أخبرها زوجها بنية الإقامة منذ أيام وقد كانت هي صلت ركعتين لزمها إعادة الصلوات في ظاهر الرواية عن أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله.
العبد إذا أم مولاه في السفر، فنوى المولى الإقامة صحت بنية حتى إذا سلم العبد على رأس الركعتين كانت عليهما إعادة تلك الصلاة، وكذلك العبد إذا كان مع المولى في السفر فباعه مقيماً والعبد كان في الصلاة ينقلب فرضه أربعاً حتى إذا سلم على رأس الركعتين كان عليه الإعادة؛ لأنه سلام عمد، وقد صار العبد مقيماً تبعاً للمشتري.

إذا أم العبد مولاه، ومعهما جماعة من المسافرين، فلما صلى ركعة نوى المولى الإقامة صحت نيته في حقه، وفي حق عبده، ولا تظهر في حق القوم في قول محمد رحمه الله، فصلى العبد ركعتين ويقدر واحداً من المسافرين ليسلم بالقوم ثم يقوم المولى والعبد، ويتم كل واحد منهما صلاته أربعاً.
وهو نظير ما لو صلى مسافر بجماعة مقيمين ومسافرين، فلما صلى ركعة أحدث

(2/31)


الإمام وقدّم مقيماً، فإنه لا ينقلب فرض القوم أربعاً، فكذلك ههنا، ثم بماذا يعلم العبد أن المولى نوى الإقامة، قال بعضهم: يقوم المولى بأن العبد ينصب أصبعه أولاً، ويشير بأصبعه ثم ينصب أربعة أصابع، ويشير بأصابعه الأربع.
الأكابر المسافر إذا سلم ونيته، وبين مقصده أقل من ثلاثة أيام كان حكم المقيم، وكذا الصبي إذا كان في السفر مع أبيه ثم بلغ الصبي وبينه وبين وطنه أقل من ثلاثة أيام كان مقيماً، هكذا قاله الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، وقال غيره من المشايخ إذا بلغ الصبي يصلي أربعاً وإذا أسلم الكافر يصلي ركعتين، وهو اختيار الصدر الشهيد رضي الله عنه؛ لأن نية السفر من الكافر قد صحت، لكونه من أهل النية، فصار مسافراً من ذلك الوقت ونية الصبي لم تصح، لأنه ليس من أهل النية ومن الموضع الذي بلغ فيه إلى المقصد أقل من مسيرة سفر، فلهذا يصلي أربعاً، وقال بعضهم يصليان ركعتين.

وفي «متفرقات» الفقيه أبي جعفر: أنهما يصليان أربعاً، فأما المسلم المسافر إذا ارتد والعياذ بالله، ثم أسلم من ساعته وبين وطنه وبينه أقل من ثلاثة أيام يبقى مسافراً، كمسلم تيمم ثم ارتد، والعياذ بكرم الله ثم أسلم لا يبطل تيممه، فكذا لا يبطل سفره والله أعلم.
نوع آخرمسائله قريبة من مسائل هذا النوع

قال محمد رحمة الله عليه في «السير الكبير» : إذا كان للمسلمين مدينتان بينهما مسيرة يوم واحد وإحداهما أقرب إلى أرض الحرب من الأخرى، فيكتب والي المدينة القريبة إلى والي المدينة البعيدة إن الخليفة، كتب إليّ يأمرني بالغزو إلى أرض الحرب، فأعلم من بذلك، فليقدموا إلي فإني شاخص من مدينتي يوم كذا وكذا، فخرج القوم من المدينة البعيدة يريدون الغزو معه ولا يدرون أين يريد من أرض الحرب، فإن كان بين المدينة القريبة وبين أرض الحرب مسيرة يومين فصاعداً، فإن الذين خرجوا من المدينة البعيدة يقصرون الصلاة حين يخرجون من مدينتهم، وإن كان أقل من مسيرة يومين، فإنهم قصدوا مسيرة ثلاثة أيام وفي الوجه الثاني يقصرون الصلاة؛ لأن في الوجه الأول قصدوا مسيرة أقل من ثلاثة أيام.
فإن قيل: هذا اختيار أول أرض الحرب ويجوز أن يجاوز، ويجوز أن لا يجاوز، فيثبت من المدينة القريبة أول أرض الحرب قدر مسيرة يومين أو ثلاثة أيام أو زيادة على ذلك.
قلنا: قصد الوالي إلى أرض الحرب ليس معلوم يجوز أن يجاوز، ويجوز أن لا يجاوز فيثبت من أهل المدينة البعيدة قصد مجاوزة أول أرض الحرب على أحد الاعتبارين، فكانوا قاصدين مسيرة السفر من وجه دون وجه، فلا يثبت قصد مسيرة السفر بالشك وبدونه لا يثبت إباحة القصر.

(2/32)


فلو أن الوالي حين كتب إليهم أخبرهم أين يريد من دار الحرب أو أخبرهم كم يريدون من المسير، وكان ذلك مسيرة يومين من المدينة القريبة فإن أهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة كما خرجوا من مدينتهم، لأنهم خرجوا قاصدين مسيرة سفر.

فإن قدموا على والي المدينة القريبة، فلم يخرج أياماً فإن أهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة، ما لم يعزموا على الإقامة بالمدينة القريبة خمسة عشر يوماً، فصاعداً، فلو أن أهل المدينة القريبة خرجوا من بلدتهم وعسكروا خارجاً منها ينتظرون خروج الوالي، فقد قصدوا مسيرة ثلاثة أيام (95ب1) ، فمن كان منهم لم يعزم على الرجعة إلى وطنه حتى يخرج الوالي، فإنهم يقصروا الصلاة، وإن أقام في ذلك المكان شهراً، لا يهم بالخروج صاروا مسافرين.
والمسافر يقصر الصلاة وإن كثر مقامه في موضع ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يوماً في موضع يصلح للإقامة، ومن عزم منهم على الرجعة إلى منزله قبل أن يمضي ليقضي فيه ساعة من نهار ثم يرجع إلى عسكره، فإنه يتم الصلاة ما دام في العسكر، وفي منزله حتى يخرج من المدينة راجعاً إلى العسكر؛ لأنه نوى رفض السفر قبل استحكامه، فكما نوى يصير مقيماً.
فلو أن أهل المدينة البعيدة حين خرجوا من مدينتهم قصروا الصلاة، ومن المدينة القريبة إلى المقصد مسيرة يومين فلما انتهوا إلى المدينة القريبة قال لهم الوالي: إن الخليفة كتب إليّ أن لا أغزو أقعد أن يخرح قبل أن يخرجوا من مدينة، فإن الصلاة التي قصروها أي: إن انتهوا إلى المدينة القريبة تامة، وكذلك الصلاة التي بالمدينة القريبة تامة ما لم يسمعوا بهذا الخبر، فإذا سمعوا بهذا الخبر فعليهم أن يتموا الصلاة.

واختلفت عبارة المشايخ في تخريج هذه المسألة بعضهم، قالوا: لأن أهل المدينة البعيدة، فيخرجوا من مدينتهم وهم ليسوا تحت ولائه والي المدينة القريبة ... في أيدي أنفسهم، وفي تدبيرهم، فتعتبر نياتهم وقد نووا الخروج مدة السفر فصاروا مسافرين بمجرد الخروج فقد قصروا صلاتهم وهم مسافرون، فصح القصر ما داموا على سفرهم فإذا وصلوا إلى المدينة القريبة، فقد صاروا تحت سفرهم، وتوقف على سماعهم الخبر فإذا سمعوا ظهر الإتمام في حقهم، فيتمون الصلاة بعد سماع الخبر.

وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمة الله عليه: أن ما ذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة أن الصلاة التي قصروها أهل المدينة البعيدة في الطريق وبعدما انتهوا إلى المدينة القريبة ما لم يسمعوا بهذا الخبر الصحيح فيما إذا كان أهل المدينة البعيدة متطوعين في الغزوتان خيرهم والي المدينة القريبة بين الغزو والسفر وتركه؛ لأنهم إذا كانوا متطوعين في الغزو لم يكونوا تابعين لوالي المدينة القريبة، وقد نووا مسيرة السفر على النيات، فصاروا مسافرين والمسافر يقصر الصلاة ما لم يعزم على ترك السفر، فجاز

(2/33)


قصرهم، وما ذكر أنهم إذا سمعوا هذا الخبر يتمون الصلاة فهذا الجواب لا يصح في حقهم، إلا إذا كان تأويله أنهم عزموا على ترك السفر حين سمعوا هذا الخبر لما ذكرنا أن العبرة لنياتهم متى كانوا متطوعين في الغزو لا لنية الوالي.
فأما إذا كانوا مجبورين على السفر، فما ذكر في الجواب قبل سماع الخبر أن الصلاة التي قصروها تامة لا يصح في حقهم؛ لأنهم لو كانوا مجبورين على السفر كانوا تابعين للوالي والعبرة بحال الأصل، لا بحال التبع، فإذا لم يصر الأصل مسافراً كيف يصير التبع مسافراً.

وصار كالعبد والمرأة إذا أرادا السفر مع المولى والزوج ثم بدا للزوج والمولى، وقد قصر العبد والمرأة، فإنه لا تجزئهما صلاتهما لأنهما تابعين والعبرة لحال الأصل كذا ههنا، وما ذكر أنهم إذا سمعوا الخبر يتمون الصلاة صحيح في حقهم؛ لأن العبرة في حقهم بحال الوالي ولم يصر الوالي مسافراً، وإن سمع هذا الخبر بعضهم ولم يسمع البعض، فعلى من سمع أن يتم صلاته، ومن لم يسمع يقصر الصلاة، لأن ما بني على السماع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل السماع.

قال: ولو أن والي المدينة القريبة كتب إلى أهل المدينة البعيدة من أراد منكم الغزو، فليوافني عند أول دار الحرب في موضع كذا وكذا في دار الحرب، ولم يخبرهم أين يريد وذلك المكان مسيرة يومين من المدينة البعيدة، فخرج أهل المدينة البعيدة من مدينتهم إلى المكان الذي أمرهم الوالي بالموافاة فيه أقل من مدة سفر والوالي لما لم يخبرهم أين يريد، ويحتمل أن لا يجاوز ذلك المكان بل يجعله مسلمة وثغراً لم يثبت قصدهم مسيرة السفر بالشك.
p
ولهذا قال: يتمون الصلاة، قال قاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمة الله عليه: وهذه مسألة تصير رواية في مسألة، لا ذكر لها في «المبسوط» أن العبد إذا كان ينقله المولى من بلده ولا يعلم العبد أن المولى أين يريد ولا يخبره المولى بذلك أنه يكون على نية نفسه لا على نية مولاه حتى لو خرج من المولى، ونوى السفر على ظن أن مولاه على نية السفر يقصر الصلاة، ولم يكن من نية المولى السفر فإن صلاته جائزة.
وكذا الزوج مع الزوجة وعلى قياس ما ذكر شيخ الإسلام، قيل: هذا في العبد والزوجة، ينبغي أن لا تجوز الصلاة للعبد والمرأة في هذه الصورة؛ لأنهما تابعان والعبرة بحال الأصل، وعلى ما ذكر شيخ الإسلام قبل هذا لا تصير هذه المسألة رواية في مسألة العبد؛ لأن أهل المدينة البعيدة في هذه الصورة، متطوعين في الغزو؛ لأن الوالي ما أمرهم بذلك بل فوض إليهم حيث كتب من أراد منكم الغزو، وإذا كانوا متطوعين لا يكونون تبعاً للوالي، فتكون العبرة لنيتهم بخلاف العبد والمرأة؛ لأنهما تبع للزوج والمولى، فكانت العبرة لنية الزوج والمولى؛ فإن انتهوا إلى ذلك المكان، فأخبرهم الوالي أنه يريد مسيرة شهر في دار الحرب، فإنهم يتمون الصلاة في ذلك المكان ما لم يرتحلوا؛ لأنهم نزلوا مقيمين في هذا المكان ومن كان مقيماً في مكان لا يصير مسافراً بمجرد النية ما لم يخرج، فإن قصروا صلاة من صلاتهم في ذلك المكان أعادوها، فإن لم

(2/34)


يعيدوها حتى مضى الوقت وهم في ذلك المكان بعد أعادوها قضاء، وهذا ظاهر؛ لأنهم يقصرون صلاة فاتتهم في حالة الإقامة وهم مقيمون وقت القضاء.
وإن ارتحلوا عن ذلك المكان قبل أن يعيدوها يريدون السفر ثم أرادوا إعادتها، وهم في وقت الصلاة بعد أعادوها ركعتين؛ لأن المؤداة وقعت فاسدة، فكأنهم لم يصلوها حتى ارتحلوا عن مكانهم فأرادوا أن يصلوها وهم في وقت الصلاة بعد صلوا ركعتين؛ لأن العبرة لآخر الوقت وهم مسافرون في آخر الوقت، وإن أرادوا إعادتها بعد خروج الوقت أعادوها أربعاً؛ لأنهم يقضون صلاة فائتة في حالة الإقامة.

قال: ومن دخل دار الحرب بأمان وهو كأنه في دار السلام، إن نوى بموضع منها (96أ1) أن يقيم خمسة عشر يوماً أتم الصلاة؛ لأن أهل الحرب لا يتعرضون له متى دخل بأمان، فصار دار الحرب بعد الأمان، ودار الإسلام سواء، ومن أسلم منهم في دار الحرب، فلم يأسروه بل تركوه على حاله، أو لم يعلموا بإسلامه فهو في صلاته بمنزلة المسلم في دار الإسلام يتم صلاته إذا كان في منزله، فإن خرج من منزله قاصداً مسيرة السفر قصر الصلاة.
نوع آخر في بيان ما يصير المسافر به مقيماً بدون نية الإقامة
المسافر إذا خرج من مصره مسافراً ثم بدا له أن يعود إلى مصره لحاجة وذلك قبل أن يسير مسيرة ثلاثة أيام صلى صلاة المقيمين في مكانه ذلك، وفي انصرافه إلى المصر؛ لأنه فسخ عزيمة السفر بعزم الرجوع إلى وطنه قبل استحكام السفر وتأكده، فانفسخ من ساعته وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام، فيصلي صلاة المقيمين في انصرافه بهذا، ولو كان قد سار مسيرة ثلاثة أيام ثم بدا له أن يعود إلى مصره صلى صلاة المسافرين؛ لأن حكم السفر قد تأتى، وتأكد باستكمال مدته فيبقى حكمه إلى أن ينعدم بالإقامة.
وكذلك لو خرج من مصره مسافراً ثم أحدث وانصرف ليأتي مصره، ويتوضأ وكان ذلك قبل أن يسير ثلاثة أيام ثم علم أن معه ماء، فإنه يتوضأ ويصلي صلاة المقيمين، وكذلك لو انصرف وذهب مكاناً، فوجد الماء خارج المصر يتوضأ، فإنه يصلي صلاة المقيمين لأنه فسخ عزيمة السفر قبل استحكامه على ما مر.

وكذلك إذا دخل وطنه الأصلي أو مصراً صار وطناً له بأن كان اتخذ فيه أهلاً صار مقيماً، وإن لم ينو مصر غيره لا في مصر نفسه؛ لأن مكثه ومقامه في مصر غيره متردد بين أن يكون لإمكان السير وبين أن يكون للمقام فيه، فإن كان لإمكان السير فهو من السفر وإن كان لإمكان المقام فيه، فهو من الأهلية، فاحتيج إلى النية لتعيين المكث، للإقامة لا لإمكان السير أما مكثه في مصره يتعين للإقامة؛ لأن قبل السير كان يمكث للإقامة وعنه هذا المقام يحتاج إلى بيان الأوطان.
فنقول عبارة عامة المشايخ في ذلك: أن الأوطان ثلاثة وطن أصلي وهو مولد

(2/35)


الرجل، والبلد الذي تأهل به ووطن سفر وسمي وطن حادث، وهو البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوماً أو أكثر، ووطن سكنى وهو البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه أقل من خمسة عشر يوماً.
ومن حكم الوطن الأصلي أن ينتقض بالوطن الأصلي، لأنه مثله والشيء ينتقض بما هو مثله حتى لو انتقل من البلد الذي تأهل به بأهله وعياله وتوطن ببلدة أخرى بأهله وعياله لا تبقى البلدة المنتقل عنها وطناً له.
ألا ترى أن مكة كانت وطناً أصلياً لرسول الله عليه السلام ثم لما هاجر منها إلى المدينة بأهله وعياله وتوطن ثم انتقض وطنه بمكة حتى قال عام حجة الوداع: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» .
ولا ينتقض هذا الوطن بوطن السفر ولا بوطن السكنى؛ لأن كل واحد منهما دونه، والشيء لا ينتقض بما هو دونه، وكذا لا ينتقض بإنشاء السفر، ألا ترى أن رسول الله عليه السلام خرح من المدينة إلى الغزوات مراراً، ولم ينتقض وطنه بالمدينة حتى ما يجدد نية الإقامة بعد رجوعه، وإن كان له أهل ببلدة فاستحدث ببلدة أخرى أهلاً فكل واحد منهما وطن أصلي، وروي أنه كان لعثمان أهل بمكة وأهل بالمدينة، وكان يتم الصلاة بهما جميعاً.

ومن حكم وطن السفر أنه ينتقض بالوطن الأصلي لأنه فوقه وينتقض بوطن السفر لأنه مثله وينتقض بإنشاء السفر لأنه ضده ولا ينتقض بالوطن السكنى؛ لأنه دونه.
ومن حكم وطن السكنى أنه ينتقض بكل شيء بالوطن الأصلي، وبوطن السفر وبوطن السكنى وبإنشاء السفر.
وعبارة المحققين من مشايخنا رحمهم الله: أن الوطن وطنان وطن أصلي ووطن سفر ولم يعتبروا وطن السكنى وطناً وهو الصحيح، وهذا لأن المكان إنما يصير وطناً بالإقامة فيه، ولم يثبت حكم الإقامة في الوطن للسفر بل حكم السفر فيه باقٍ لما ذكرنا أن أقل مدة الإقامة خمسة عشر يوماً، وإذا لم يثبت فيه حكم الإقامة لم يعتبر هو وطناً أصلاً فكيف يترتب عليه حكم الانتقاض؟ بيان هذا الأصل من المسائل.

خراساني قدم بغداد، وعزم على الإقامة بها خمسة عشر يوماً ومكي قدم كوفة وعزم على الإقامة بها خمسة عشر يوماً ثم خرج كل واحد منهما من وطنه يريد قصر ابن هبيرة؛ لأنهما كانا متوطنين أحدهما ببغداد والآخر بكوفة ولم يقصدا مسيرة مدة السفر؛ لأن من بغداد إلى الكوفة مسيرة أربع ليال والقصر هو المنتصف، فكان كل واحد منهما قاصداً مسيرة ليلتين، وبهذا لا يصيرا مسافرين، فإن عزما على الإقامة بالقصر خمسة عشر يوماً صار القصر وطن سفر لهما، وانتقض وطن الكوفي بكوفة ووطن الخراساني ببغداد بوطن مثله، فإن خرجا بعد ذلك يريدان الكوفة صليا أربعاً في الطريق، وبالكوفة؛ لأنهما قصدا

(2/36)


مسيرة ليلتين من وطنهما، فلا يكونان مسافرين، فإن دخلا الكوفة وعزما على الإقامة أقل من خمسة عشر يوماً ثم خرجا من الكوفة يريدان بغداد ويمران بالقصر صلى كل واحد منهما أربعاً إلى القصر، وبالقصر ومن القصر إلى بغداد لأن القصر صار وطن سفر لهما، ولم يوجد ما ينقضه من الوطن الأصلي ووطن السفر، وإنشاء السفر، إنما وجد وطن السكنى ووطن السكنى لا ينقض وطن السفر، فيبقى القصر وطن سفر لهما، فهما رجلان خرجا من الكوفة يريدان بغداد والقصر وطنهما، فما لم يجاوزا القصر لا يصيرا مسافرين وبعد المجاوزة لم يبق أي القصد مسيرة سفر، فلهذا يصليان أربعاً.
وعبارة المحققين في هذه المسألة: أن القصر صار وطن سفر لهما، ولم يوجد ما ينقضه من الوطن الأصلي، ووطن السفر، وإنشاء السفر، فيبقى القصر وطناً لهما والتقريب ما مر، ولو لم ينويا المرور على القصر يقصران كما خرجا من الكوفة، ولأنهما نويا مسيرة سفر وقد خرجا مسافرين، لعدم ما يمنع تحقق السفر، فلو كانا حين قدما القصر في الابتداء عزما على الإقامة بالقصر أقل من خمسة عشر يوماً، ثم ذهبا إلى الكوفة ليقيما بها ليلة يصليان أربعاً إلى الكوفة.

فلو خرجا من الكوفة يريدان بغداد يصليان ركعتين؛ لأن القصر صار وطن سكنى لهما، وقد انتقض ذلك بوطن سكنى مثله بالكوفة، فهما رجلان خرجا من الكوفة يريدان بغداد، وليس لهما فيما بين ذلك وطن ومن الكوفة إلى بغداد مسيرة مدة السفر، فصارا مسافرين حين خرجا، فلهذا يصليان ركعتين.
وعبارة المحققين في هذه المسألة: أنهما لما خرجا من الكوفة يريدان بغداد قصدا قصد السفر، وليس في خلال ذلك لهما وطن؛ لأن القصر لم يصر وطناً أصلاً، فيصليان ركعتين إلى بغداد بهذا، وكذلك ببغداد، أما المكي؛ فلأنه ماضٍ على سفره، وأما الخراساني؛ فلأن بغداد كانت وطن سفر له وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر، لأنه حين نوى من الكوفة أن يقدم بغداد فقد نوى السفر وقد انتقض وطنه الذي كان ببغداد.
ولو كان كل واحد منهما في الابتداء حين خرج من وطنه لم ينوِ القصر إنما نوى وطن صاحبه ليلقى به صاحبه الخراساني نوى الكوفة، والمكي نوى بغداد، فالتقيا بالقصر يصليان ركعتين؛ لأن كل واحد منهما قصد مسيرة مدة السفر، فلو ذهبا إلى الكوفة يصليان في الطريق ركعتين، وكذلك بالكوفة، أما الخراساني؛ فلأنه ماضٍ على سفره، وأما المكي، فلأن الكوفة كانت وطن سفر له، وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر وعاد مسافراً بسفره الأصلي، فلو خرجا من الكوفة يريدان بغداد يصليان ركعتين في الطريق وببغداد، أما المكي، فلأنه ماضي على سفره، وأما الخراساني فلأن بغداد كانت وطن سفر له، وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر، فعاد مسافراً بسفره الأصلي ثم تقدم السفر ليس بشرط ليثبت الوطن الأصلي بالإجماع، وهل يشترط لثبوت وطن السفر؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الأصل» .

وذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله في «جامعه» : أن عن محمد (96ب1)

(2/37)


رحمه الله فيه روايتان: في رواية يشترط وفي رواية لا يشترط، مثاله بخاري ذهب من بخارى إلى...... ونوى ... الإقامة بها خمسة عشر يوماً ثم خرج ... من يريد ... فلما دخل ... بدا له أن يرجع إلى بخارى، فعلى الرواية التي يشترط تقدم السفر، لثبوت وطن السفر يصلي ركعتين في الطريق إلى بخارى؛ إذ ليس من بخارى إلى ... مسيرة سفر، فلم تصر وطناً له، فهذا رجل خرج من ... يريد بخارى وليس به فيما بين ذلك وطن ومن..... إلى بخارى مسيرة سفر على أصح الأقاويل، فيصلي ركعتين لهذا.
وعلى الرواية التي ما تشترط تقدم السفر يصلي أربعاً في الطريق؛ لأن..... صار وطناً له ولم يوجد ما ينقضه، فما لم يجاوز لا يصير مسافراً ومن...... إلى بخارى أقل من مدة السفر، فلهذا كان يصلي أربعاً.
وإذا دخل المسافر في صلاة المقيم يلزمه الإتمام سواء في أولها أو في آخرها، لأنه بالاقتداء صار تبعاً للإمام، فأخذت صلاته حكم صلاة الإمام باعتبار التبعية، فإن أفسد الإمام على نفسه كان على المسافر أن يصلي ركعتين، وقال الشافعي رحمه الله: يصلي أربعاً؛ لأن فرضه انقلب أربعاً بالاقتداء، فلا يتغير بعد ذلك.
ولنا أن فرض المسافر ركعتان على ما مر، وإنما لزمه الأربع بحكم المتابعة، فإذا انقطعت ظهر حكم الأصل والله أعلم.
ولو اقتدى المسافر بمسافر فأحدث الإمام فاستخلف مقيماً لم يلزم المسافر الإتمام؛ لأن الثاني إنما انتصب إماماً خلفاً عن الأول، فيلزم المسافر المقتدي من المتابعة بقدر ما التزم مع الأول ولو لم يحدث الأول ولكن نوى الإقامة أتم هو والقوم جميعاً.

والفرق بينهما: وهو أن المقتدي باقتداء الإمام التزم متابعة الإمام فصار تبعاً له وقد تغير فرض الأصل في المسألة الثانية، فتغير فرض المقتدي ضرورة أما في المسألة الأولى: لم يتغير فرض الإمام الأول، والثاني صار إماماً بحكم الخلافة عن الأول لا أصلاً بنفسه، فيعتبر في حق المقتدي فرض الإمام الأول لا فرض الثاني الذي هو خلف عن الأول.
ومما يتصل بهذا الفصل
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : مقيم صلى ركعة من العصر، فغربت الشمس فجاء مسافر واقتدى به في هذه الحالة لا يصح اقتداؤه، ولو أن مسافراً صلى ركعتي العصر فغربت الشمس وجاء مقيم واقتدى به في هذه الحالة صح اقتداؤه، وصار داخلاً في صلاته.
والجملة في ذلك: أن اقتداء المسافر بالمقيم جائز في الوقت وخارج الوقت إذا

(2/38)


اتفق الفرضان، واقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت، فلا يجوز خارج الوقت أما اقتداء المقيم بالمسافر جائز في الوقت، وخارج الوقت، لما روي: أن النبي عليه السلام جمع بين الظهر والعصر بعرفات، وصلى ركعتين ركعتين، فلما فرغ من صلاته قال: «يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر» .
والمعنى منه: أنه ليس في اقتداء المقيم بالمسافر الاقتداء المتنفل بالمفترض في حق القعدة من ذوات الأربع، فإن القعدة على رأس الركعتين نفل في حق المقيم فرض في حق المسافر، إلا أن اقتداء المتنفل بالمفترض جائز في جميع أفعال الصلاة، فلأن يجوز في فعل منها كان أولى، وفي حق هذا المعنى الوقت وخارج الوقت سواء.

وأما اقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت، ولا يجوز خارج الوقت؛ لأن اقتداء المسافر بالمقيم يقتضي تغير الفرض في حق المسافر، إما شرطاً لصحة الاقتداء؛ لأن الاقتداء بالإمام في بعض صلاته لا يجوز، أو لصيرورته مقيماً في حق هذه الصلاة لكونه تبعاً للإمام داخلاً في ولايته وإقامة الأصل توجب إقامة التبع، وإذا ثبت أن اقتداء المسافر بالمقيم يقتضي تغير الفرض في حق المسافر.

بعد هذا اختلفت عبارات المشايخ رحمهم الله بعضهم قالوا: إنما يصح الاقتداء في موضع كان الفرض قابلاً للتغيير، وفي الوقت الفرض للتغير حتى يتغير بنية الإقامة، فيتغير أيضاً بالاقتداء، وإذا كان فرض المسافر يتغير بالاقتداء بالمقيم في الوقت يمكن القول بصحة اقتدائه بالمقيم، فيصح الاقتداء، أما بعد خروج الوقت الفرض غير قابل للتغير، ولهذا لا يتغير بنية الإقامة، مع أنها أبلغ في التغير، فلأن لا يتغير بالاقتداء كان أولى.
وإذا كان فرض المسافر لا يتغير باقتداء المقيم خارج الوقت لا يمكن القول بصحة اقتدائه بالمقيم؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة إن كان الاقتداء في الشفع الأول كما هو موضوع المسألة في «الكتاب» ، وفي حق القراءة إن كان الاقتداء في الشفع الثاني؛ لأن القراءة في الشفع الثاني نفل في حق المقيم وقد ذكرنا أن اقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز.

وبعضهم قالوا: إن سبب وجوب الصلاة جزء قائم في الوقت لا ما مضى من الأجزاء على ما عرف في موضعه، فإذا وجد المغير وهو الاقتداء بالمقيم في الوقت عمل عمله للسبب، وجعل الجزء القائم من الوقت سبباً لوجوب الأربع بعدما كان سبباً لوجوب ركعتين، وإذا عمل في السبب عمل في الحكم لكون الحكم تابعاً للسبب، فيصير في فرضه أربعاً، فيمكن القول بصحة الاقتداء، وأما بعد خروج الوقت المغير لم يعمل في السبب، فلا يعمل في الحكم، فيبقى فرضه ركعتين، فلا يمكن القول بصحة الاقتداء؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة أو في حق القراءة على نحو ما بينا.
فإن قيل: ما ذكرتم من المعنى يشكل بما لو نسي المقيم القراءة في الشفع الأول، فاقتدى المسافر به في الشفع الثاني، وكان ذلك خارج الوقت، فإنه لا يصح اقتداؤه، وهذا اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة؛ لأن القراءة فرض عليهما في هذه الحالة.

(2/39)


قلنا: ليس اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة؛ لأن الشفع الأول يبقى محلاً للقراءة على سبيل الوجوب، والقراءة في الشفع الثاني قضاءً بمحلها، وصار كأنها وجدت في الشفع الأول، فكان هذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة أيضاً، ثم إذا اقتدى المقيم بالمسافر وسلم المسافر يقوم المقيم، ويتم صلاته كما فعل أهل مكة، وهل يقرأ المقيم في ما بين الركعتين؟ فيه اختلاف المشايخ، والأصح أنه لا يقرأ، وإليه مال الكرخي رحمه الله، لأنه لاحق أدرك أول الصلاة وقد تم فرض القراءة.
ومنهم من قال: يقرأ؛ لأنه في ما بين الركعتين ينفرد، ولهذا يلزمه سجود السهو لو سهى فيه، فأشبه المسبوق والمسبوق يقرأ، ولو ترك المسافر القراءة في الركعتين، ثم نوى الإقامة في هذه الصلاة تصح صلاته ويقرأ في الأخرتين استحساناً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد فسدت صلاته؛ لأن الظهر في حق المسافر كالفجر في حق المقيم، والمقيم لو ترك القراءة في الفجر فسدت صلاته فكذلك ههنا.
وهما يقولان: فرض الظهر يحتمل التغيير في حق المسافر بنية الإقامة، فإذا نوى الإقامة صار فرضه أربعاً، وفي ذوات الأربع لا تفرض القراءة في الكل، بل في ركعتين، فمتى أتى بالقراءة في الأخريين فقد أدى ما عليه.
نوع آخر في هذا الفصل في المتفرقات
وإذ سافر أول الوقت أوآخره قصر إذا بقي منه مقدار التحريمة، وهذا مذهبنا؛ لأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت عندنا؛ لأنه في أول الوقت، مخير بين الأداء والتأخير، وإنه يبقى الوجوب، ولهذا لو فات في أول الوقت لقي الله تعالى، ولا شيء عليه فدل أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت وإذا كان هو مسافر في آخر الوقت كان عليه صلاة السفر، وعلى هذا الأصل مسائل أحدها هذه المسألة.
والثانية: إذا أسلم الكافر وقد بقي الوقت مقدار ما يسع فيه التحريمة، فإنه تلزمه الصلاة عندنا.
والثالثة: الصبي إذا بلغ في آخر الوقت.
والرابعة: الحائض إذا طهرت في هذا الوقت.

والخامسة: الطاهرة إذا حاضت في هذا الوقت، وإذا كان مسافراً في أول الوقت، وصلى صلاة السفر ثم أقام في الوقت لا يتغير فرضه، وإن لم يصلِ حتى أقام في آخر الوقت ينقلب فرضه أربعاً، وإن لم يبق من الوقت إلا قدر ما يسع بعض الصلاة.

وإذا أسلم الكافر في سفره وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام أو إذا أدرك الصبي (97أ1) في سفره وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام، فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: الذي أسلم يصلي ركعتين فالذي بلغ يصلي أربعاً وقال بعضهم: يصليان ركعتين.
وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» : فإنهما يصليان أربعاً؛ لأنهما لم يكونا مخاطبين؛

(2/40)


فلا يقصران الصلاة، وأما الحائض إذا طهرت في بعض الطريق قصرت الصلاة؛ لأنها مخاطبة.
وفي «الحاوي» : سئل عن صبي خرج من نوركارايريد بخارى، فلما بلغ كرمة بلغ، قال: يصلي ركعتين إلى بخارى، وكذلك الكافر إذا أسلم فأما الحائض إذا طهرت من حيضها تصلي أربعاً إلى بخارى.
مسافر صلى الظهر ركعتين وسهى، وسلم ثم نوى الإقامة، قال: صلاته تامة وليس عليه سجود السهو ونيته هذه قطعت الصلاة، ألا ترى أنه لو قهقه في هذه الحالة لم يكن عليه وضوء؟ ولو كان في الصلاة لكان عليه الوضوء، ذكر المسألة في رواية أبي حفص مطلقاً من غير ذكر خلاف، وذكر في رواية أبي سليمان خلافاً، فقال لا تصح نيته عند أبي حنيفة، وأبي يوسف ويكون فرضه ركعتين كما كان في الابتداء.

وعند محمد رحمه الله تصح نيته ويصير فرضه أربعاً، وهذا على أصل محمد رحمه الله مستقيم، فإن سلام من عليه السهو لا يخرجه من الصلاة عند محمد وإذا لم يخرجه من الصلاة بقي في حرمة الصلاة، فنية الإقامة ناهية حرمة الصلاة فتصح نيته ويتغير فرضه أربعاً، وأما على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله أن سلام من عليه السهو يخرجه من الصلاة خروجاً موقوفاً، إن عاد إلى سجود السهو تعود حرمة الصلاة، وإلا فلا على ما ذكرنا، فينبغي أن تكون نيته موقوفة إن عاد إلى سجود السهو صحت نيته، فإن لم يعد لا، ومع هذا لا تصح نيته؛ لأن في اعتبار هذه النية إبطالها وكل نية يكون في اعتبارها إبطالها تكون باطلاً.
وبيان هذا أنا لو صححنا هذه النية إنما صححنا بالعود إلى سجود السهو فإذا عاد إلى سجود السهو لا يقع معيداً بهما؛ لأنهما يقعان في وسط الصلاة، فكيف تصح هذه النية بسجدة لا تقع معيدة بها حالاتها كما صحت لغت، وإن سجد لسهوه سجدة أو سجدتين ثم نوى الإقامة، فعليه أن يكمل أربع ركعات ويسجد في آخرها سجدتي السهو بالاتفاق؛ لأنه لما سجد للسهو عاد إلى حرمة الصلاة، فصار كما لو حصلت النية قبل السلام، ولو حصلت النية قبل السلام صحت نيته، وصار فرضه أربعاً كذلك ههنا، والدليل عليه أنه لو قهقه كان عليه الوضوء ولو اقتدى به رجل كان داخلاً في صلاته.
u

مسافر أم قوماً مسافرين ومقيمين، فصلى بهم ركعة وسجدة وترك سجدة ثم أحدث فقدم رجلاً دخل معه في الصلاة ... وهو مسافر، قال: لا ينبغي لذلك الرجل أن يتقدم؛ لأن غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام، وينبغي للإمام أن يقدم من قد أدرك أول الصلاة لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال «من استعمل غيره عملاً، وفيهم من هو أحق منه فقد خان الله ورسوله، وخان جميع المؤمنين» ، فإن تقدم هذا المسافر جاز؛

(2/41)


لأنه شريك الإمام كما ذكرنا وينبغي لهذا الرجل أن يسجد تلك السجدة؛ لأنه خليفة للأول، قائم مقامه، ولو كان الأول قائماً يأتي بهذه السجدة ثم يشتغل بباقي الصلاة.

وكذلك الخليفة فلو أن الخليفة لم يأت بهذه السجدة ولكن قام وصلى بهم ركعة وسجدة وترك سجدة ثم أحدث فقدم رجلاً ثانياً عنه فإنه لا ينبغي له أن يتقدم، ولا للإمام الثاني أن يقدم لما ذكرنا، وإن تقدم جاز لما ذكرنا فيبدأ بالسجدة التي تركها الإمام الأول ثم بالسجدة التي تركها الإمام الثاني؛ لأن الثالث قائم مقام الثاني والثاني يأتي بالأول، فكذلك الثالث، فإن لم يسجدهما حين ذهب الإمام الأول والثاني فتوضأ أو رجعا، قال: يسجد الثالث للأولى لأنه خليفة الإمامين، ويسجدها معه الإمام الأول والقوم؛ لأنهم قد صلوا تلك الركعة وإنما بقي عليهم تلك السجدة، ولا يسجدها الإمام الثاني في ظاهر الرواية.
وفي «نوادر ابن أبي سليمان» : قال: يسجدها معهم، وجه رواية أبي سليمان وهو أن الإمام الثاني كالمقتدي، فالثالث يتابعه فيما يأتي به، وإن لم يكن محسوباً من صلاته كمن أدرك الإمام في السجود.

وجه ظاهر الرواية: وهو أن الإمام الثاني مسبوق في تلك الركعة فعليه إعادتها، فلا يبدأ بالسجدة منها؛ لأن تلك السجدة غير معتد بها ثم يسجد السجدة الأخرى ويسجدها معه الإمام الثاني والقوم؛ لأنهم صلوا هذه الركعة وإنما بقي عليهم سجدة ولا يسجد الإمام الأول هذه السجدة، إلا أن يكون صلى تلك الركعة وانتهى إلى هذه السجدة، فحينئذٍ يسجدها؛ لأنه لاحق، فيبدأ بالأول فالأول.

ولهذا قلنا: يصلي الإمام الأول الركعة الثانية بغير قراءة ثم يتشهد الإمام الثالث ويتأخر ويقدم رجلاً غيره أدرك أول الصلاة من المسافرين، فيسلم بهم لأنه عاجز عن السلام بنفسه، فيستعين بمن يقدر عليه ثم يسجد هو للسهو، ويسجدون معه ولا إشكال فيه؛ لأنه لو وقع فيها سهو واحد لأمر يجبره، فكيف إذا تكرر السهو؟ ولا يسجد الإمام الأول للسهو، لأنه مدرك أول الصلاة، والمدرك يأتي بسجدتي السهو بعد فراغه من الصلاة ثم يقوم الإمام الثاني، فيقضي الركعة التي سبق بها بقراءة ثم يقوم الإمام الثالث ويصلي الركعتين اللتين سبق بهما، ويقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ثم يقوم الإمام الأول فيقضي الركعة الفائتة بغير قراءة؛ لأنه لاحق لأول الصلاة ويكمل المقيمون صلاتهم وحداناً بغير قراءة.
مسافر أم مسافرين يصلي بهم ركعة ثم نوى الإقامة، قال: عليه أن يكمل بهم الصلاة إن نيته استندت إلى أول الصلاة وقد التزموا متابعته، فعليهم ما على الإمام من إتمام الصلاة، فإن أحدث الإمام بعد ما نوى الإقامة، فقدم رجلاً، قال: يتم بهم الصلاة أربع ركعات؛ لأن الثاني قائم مقام الأول.
ولو كان الأول قائماً يصلي أربع ركعات، فكذلك الثاني، فصار بهذا كمسافر اقتدى بالمقيم في الوقت، فإنه تصير صلاته أربع ركعات، فكذلك ههنا، فإن كان الإمام الأول

(2/42)


لم ينوِ الإقامة، ولكن الإمام الثاني ينوي الإقامة لا يتغير فرضهم؛ لأنهم ما التزموا متابعته، وإنما لزمهم ذلك ضرورة إصلاح صلاتهم، ففيما سوى ذلك، فليس عليهم متابعته.

ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في الرجل مسافر صلى بقوم مسافرين ومقيمين ركعتين فلما قعد فيها التشهد قام بعض المسافرين وانصرف إلى منزله وقام بعض المقيمين وأكمل صلاته، وانصرف وقد كان بعض المسافرين مسبوقاً بركعة قام وقضاها، وفرغ منها وانصرف، وقد كان كل ذلك بعد سلام الإمام ثم إن الإمام نوى الإقامة، فصلاتهم تامة.

فإن كان بعض المقيمين قام ليتم صلاته حين نوى الإمام الإقامة، قال: إن كان سجد لركعة سجدة مضى في صلاته، ولم يتابع الإمام، وإن رجع إلى صلاة الإمام فسدت صلاته؛ لأنه لما قيد ركعته بالسجدة، فقد استحكم انفراده؛ لأن الركعة التامة لا تقبل الارتفاع والاقتداء في موضع الانفراد يوجب الفساد، وإن لم يقيد ركعته بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام، وإذا لم يعد فسدت صلاته؛ لأن انفراده لم يستحكم، فصار وجوده وعدمه بمنزلة ولو لم يقم الإتمام صلاته حتى نوى الإمام الإقامة لزمته متابعته كذا ها هنا.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: مسافر تشهد بعد ما صلى ركعتين من الظهر، ثم قام يريد أن يصلي ركعتين تمام أربع ركعات ونوى بها التطوع، فقرأ وركع ثم بدت له الإقامة، قال: ينبغي أن يجلس، فيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقوم للتطوع؛ لأن التحريمة الأولى باقية، وقد ... قابلة للتغير بوجود المغير وقد وجد المغير فتغيرت، فيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقوم للتطوع ليؤدي على الوجه الذي لزمه في إتمامها ثم يقوم، فإن شاء قرأ وإن شاء لم يقرأ لأنه قرأ في الأوليين ثم يركع؛ لأنه لما عاد إلى القعود ارتفض ركوعه؛ لأن ما دون الركعة قابل للرفض.
ذكر الحاكم: رجل صلى بقوم الظهر الركعتين في مدينة ولا يدرون مسافر هو أو مقيم فصلاتهم فاسدة، فإن سألوه فأخبرهم أنه مسافر، فصلاتهم تامة.

ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: مسافر صلى بمسافر الظهر ركعتين وسلم الإمام وعليه (97ب1) سجدتي السهو، فنوى الذي خلفه الإقامة، قال: إن سجد الإمام للسهو تمم هذه الصلاة، وإن لم يسجد لم يكن على هذا أن يتم الصلاة، قال الحاكم أبو الفضل: هذا الجواب غير موافق للمشهور عن محمد في نظائره.
المسافر إذا أحدث، واستخلف مقيماً كان خلفه، وجب على المقيم القعدة على رأس الركعتين، حتى لو تركها تفسد صلاته.

قال في «الأصل» : مسافر صلى بمسافر فأحدث الإمام وخرج من المسجد، ونوى الثاني أن يصلي لنفسه جاز وصار خليفة الأول، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قوله في «الكتاب» : ونوى أن يصلي لنفسه زيادة كلام لا حاجة إليه، لأنه يصير إمام نفسه،

(2/43)


وإن لم ينوِ وقد مر هذا فيما تقدم فلو جاء رجل واقتدى بالثاني جاز؛ لأن الثاني إمام إمام الأول، فإن أحدث الثاني فخرج من المسجد تحولت الإمامة إلى الثالث لأن الثالث مع الثاني كالثاني مع الأول.
فإن أحدث الثالث فخرج من المسجد قبل أن يرجع الأولان، فصلاة الثالث تامة؛ لأنه منفرد في حق نفسه وصلاة الأوليين فاسدة؛ لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد فإن لم يخرج هذا الثالث حتى رجع الأولان ثم خرج قبل أن يتقدم واحد منهما، فصلاته تامة وصلاة الأوليين فاسدة لأن أحدهما لم يتعين للإمامة بعد فبقيا بلا إمام، هذا هو جواب «الأصل» .
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وأورد في «بعض النوادر» أن صلاة الثالث فاسدة أيضاً لأن عليه أن يقدم أحدهما قبل أن يخرج من المسجد، فإذا لم يقدم حتى خرج من المسجد فقد ترك فرضاً من فرائض الصلاة فتفسد صلاته.
قال رحمه الله: والصحيح هو الأول قال في «الأصل» أيضاً: مسافر صلى الظهر ركعتين بغير قراءة ثم نوى الإقامة، قال: عليه أن يصلي ركعتين بقراءة والمسافر، والمقيم فيه سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.

وقال محمد وزفر رحمهما الله: صلاته فاسدة، وهذا بناءً على الأصل الذي تقدم ذكره إن للصلاة جهة واحدة عند محمد رحمه الله فإذا فسدت بترك القراءة خرج من حرمة الصلاة، فلا تصح نية الإقامة في هذه الصلاة، وعندهما للصلاة جهتان فتبطلان جهة الفرضية بترك القراءة يبقى أصل الصلاة، فتصح نية الإقامة.

حجة محمد رحمه الله في هذه المسألة، وهو أن ظهر المسافر كفجر المقيم ثم الفجر في حق المقيم يفسد بترك القراءة فيهما، أو في أحدهما على وجه لا يمكنه إصلاحه إلا بالاستقبال، فكذلك الظهر في حق المسافر، إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة الفساد.
حجتهما: أن نية الإقامة في آخر الصلاة كهي في أولها، ولو كان مقيماً في أول الصلاة لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين، فهذا مثله.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن الحاكم الشهيد زاد نية آخرها، فقال أجمعنا أن نية الإقامة تؤثر في القعدة، فتصيرها نفلاً بعدما كانت فرضاً، فإن المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وقرأ فيها ثم نوى الإقامة في القعدة صحت نيته، فلا خلاف، وصارت قعدته نفلاً بعد ما كانت فرضاً؛ لأنها قعدة الختم في حق المسافر، وقعدة الختم فرض بالإجماع، فلما جاز أن تجعل النية الموجودة في حال القعدة كالموجودة في أول الصلاة في حق القعدة حتى صيرها نفلاً، فكذلك في حق القراءة.
فرق بين هذا وبين الفجر في حق المقيم، والفرق: وهو أن فساد الفجر ما كان لترك القراءة بل لفوات محل القضاء.

ألا ترى أنه لو ترك القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر أو العصر أو العشاء لا تفسد صلاته؛ لأنه لم يفت محل القراءة بهذا الذي

(2/44)


ذكرنا إذا وجدت النية في حالة القعدة، فإن وجدت بعد القيام إلى الثالثة أو بعدما ركع أو بعدما رفع رأسه من الركوع، فكذلك تصح نيته إلا أنه إن كان لم يقرأ في الأوليين يعيد القراءة، وإن كان قرأ في الأوليين يعيد القيام والركوع؛ لأن ما أدى كان نفلاً، فلا ينوب عن الفرض فتلزمه الإعادة لهذا، فإن لم يعد فسدت صلاته.

فإن خرّ ساجداً ثم نوى الإقامة لم تفسد نيته، وعليه أن يستعيد الصلاة؛ لأنا لو أعملنا نيته لألزمناه ركعتين أخريين ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ظهره يصير خمساً ولم يشرع خمساً وفي بعض النسخ إن قيد الثالثة بالسجدة، ثم نوى الإقامة، فصلاته تامة ويضيف إليها أخرى فتكون الركعتان نافلة أورد شمس الأئمة رحمه الله هذه الرواية والله أعلم.
مسافر دخل في صلاة مقيم ثم ذهب الوقت لم تفسد صلاته؛ لأن الإتمام لزمه بالشروع مع الإمام في الوقت، فالتحق بغيره من المقيمين، بخلاف ما إذا اقتدى بعد خروج الوقت، فإن الإتمام لا يلزمه بهذا الاقتداء، فإن أفسد الإمام الصلاة على نفسه، كان على المسافر أن يصلي صلاة السفر؛ لأن وجوب الإتمام عليه لمتابعة الإمام وقد زال ذلك بالإفساد.
فإن قيل: هو كان مقيماً في هذه الصلاة عند خروج الوقت، فبأن صار في حكم المسافر بعد خروج الوقت لا يتغير ذلك الفرض.
قلنا: لم يكن مقيماً في هذه الصلاة، وإنما يلزمه الإتمام بمتابعة الإمام، ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء في الوقت، فإنه يصلي صلاة السفر.
فرق بين هذا وبين ما إذا اقتدى المسافر بالإمام والإمام في الظهر، وهذا الرجل ينوي التطوع حتى لزمه أربع ركعات لو أفسد الإمام الصلاة على نفسه تجب على هذا الرجل، فصار أربع ركعات، وفي مسألتنا يلزمه قضاء ركعتين.

والفرق: أن الشروع يلزم كالنذر إلا أن نذر المسافر أن يصلي الظهر أربع ركعات لا يصح، ونذر المسافر أن يصلي التطوع أربعاً يصح؛ لأن النذر بالتطوع تلزم وبالفرض غير ملزم.
ويخفف القراءة في السفر في الصلوات، فقد صح أن رسول الله عليه السلام قرأ في الفجر في السفر {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 1) و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وأطول القراءة في صلاة الفجر، وأما تسبيحات الركوع والسجود يقولها ثلاثاً أو أكثر ولا ينقص عن الصلاة، وإذا أتم الإمام بمدينة وهو مسافر، فصلى بهم الجمعة أجزأه وأجزأهم، فقد أقام رسول الله عليه السلام الجمعة بمكة، وهو كان مسافراً بها.
وكذلك الأمير يطوف في بلاد عمله فهو مسافر، والإمام هو الخليفة إذا سافر يصلي صلاة المسافرين؛ لأنه مسافر كغير الخليفة كذا ذكر في «النوازل» ، فقيل: إذا طاف الخليفة في ولايته لا يصير مسافراً، ويجوز للمسافر الجمع بين الصلاتين لعذر السفر بأن يؤخر الأول، ويعجل الثاني، وتأخير المغرب مكروه، إلا بعذر السفر.
وإذا قضى في حال سفره صلاة فاتته في حالة الإقامة صلى أربعاً وإن قضى في حال

(2/45)


إقامته صلاة فاتته في حال السفر صلى ركعتين؛ لأن القضاء تمكن الفائت؛ لأنه إذا لما وجب من قبل فيتغير حالة الفوات نية اللاحق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وقد فرغ الإمام من صلاته ساقطة على ظاهر الرواية لا يلزمه الإتمام، بل يصلي ركعتين، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يتمها أربعاً، وهو قول زفر رحمه الله، هكذا روى أبو سليمان في «نوادره» عن محمد.
ووجهه: أن هذا الرجل لا يخلو إما إن كان ملحقاً بالمسبوق أو بالمدرك فإن كان ملحقاً بالمسبوق يصلي أربعاً؛ لأن المسبوق إذا نوى الإقامة فيما يقضي يتعين فرضه أربعاً كذلك ههنا، وإن كان ملحقاً بالمدرك، فكذلك أيضاً؛ لأن المقتدي إذا نوى الإقامة خلف الإمام يتعين فرضه أربعاً كذا ههنا.

وجه ظاهر الرواية في ذلك: أن اللاحق في حكم المقتدي فيكون تبعاً للإمام والإمام لو نوى الإقامة في هذه الحالة بعد الفراغ من الصلاة لم يتغير فرضه، وإن نوى اللاحق الإقامة قبل فراغ الإمام تغير فرضه؛ لأن الإمام لو نوى الإقامة في هذه الحالة تغير فرضه، وإن تكلم اللاحق ثم نوى الإقامة تغير فرضه؛ لأنه خرج من حكم المتابعة وصار أصلاً ونية الإقامة في الوقت ممن هو أصل يكون مغيراً للفرض.
قال في «الكتاب» : وكذلك دخول اللاحق المصر يريد بهذا أنه كان يصلي المصر خلف الإمام والمصر أمامه، فدخل المصر ليتوضأ للعشاء ثم بدا له الإقامة فيها يصلي ركعتين، لأن دخول المصر كالنية خارج المصر، وقد ذكرت أن بنية الإقامة لا يصير مقيماً، فدخوله المصر كذلك.
قال: ونية المسبوق (98أ1) في قضاء ما عليه للإقامة يلزمه الإتمام؛ لأن المسبوق يصلي صلاة نفسه بدليل أنه تجب عليه القراءة وسجود السهو إذا سهى، قال: وكذلك دخول المصر؛ لأنه بمنزلة النية واللاحق أحد الرجلين إما أن يكون قائماً خلف الإمام بعد فراغ الإمام من الصلاة أو يحدث خلف الإمام، فذهب ليتوضأ ثم جاء وقد فرغ من الصلاة.
قال ونية المنفرد الإقامة في صلاة افتتحها في الوقت ثم ذهب وقتها ساقطة وكذلك دخوله المصر؛ لأن بخروج الوقت صارت صلاة السفر ديناً في ذمته فلا يتغير بإقامته، كالمقيم إذا سافر بعد خروج الوقت لا يتغير ما صلى.
قال شمس الأئمة رحمه الله في مسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط» : وهو ما إذا كان مسبوقاً بركعة نائماً في ركعة، فلما قام للقضاء نوى الإقامة صحت نيته الإقامة سواء نوى الإقامة في الركعة التي سبق بها أو في الركعة التي نام فيها؛ لأن عليه أن يبدأ بما نام فيها لو وجدت النية فيها، فإنها تدوم إلى آخر الصلاة، فكأنه نوى فيما سبق به.
قلنا: وإن أخر النية إلى أن قام إلى قضاء ما سبق به، فهذا مسبوق نوى الإقامة فيما يقضي، فتصح نيته والله أعلم.

مسافر صلى ركعة، فجاء مسافر واقتدى به ثم أحدث الإمام، واستخلف هذا الرجل

(2/46)


ثم خرج الإمام الأول ليتوضأ ونوى الإقامة والإمام الثاني نوى الإقامة أيضاً، ثم عاد الإمام الأول إلى الصلاة، ماذا يفعل الإمام الأول والثاني؟
قالوا: يقتدي الإمام الأول بالثاني في الركعة الثانية، وإذا قعد الإمام الثاني قدر التشهد يقوم ويستخلف رجلاً أدرك أول الصلاة ليسلم بالقوم، ثم يقوم الإمام الثاني ويصلي ثلاث ركعات والإمام الأول ركعتين؛ لأنه بنية الإمام الثاني لم يعمل في حق القوم، فإذا صلى ركعة خرج من الإقامة.
مسافر صلى الظهر ركعتين وقام إلى الثالثة ناسياً بعدما قعد قدر التشهد ثم تذكر ذلك في قيام الثالثة أو في ركوعها فإنه يعود ويقعد وإن تذكر بعد أن قيد الثالثة بالسجدة يتم صلاته أربعاً، وكانت الثالثة والرابعة له سنّة الظهر، وإن لم يكن قعد على الركعتين إن تذكر في قيام الثالثة عاد وإن لم يعد حتى قيدها بالسجدة، فسدت صلاته، ولو كان هذا المسافر ترك القراءة في الركعتين الأوليين أو في أحدهما ثم قام إلى الثالثة وقرأ.
وقالوا: في قياس قول أبي حنيفة، وأبي يوسف إذا نوى الإقامة في الثالثة تجوز صلاته ولو قرأ في الثالثة، وركع ثم نوى الإقامة في الركوع، قالوا: تجوز صلاته أيضاً.
مسافر أم قوماً في آخر وقت صلاة العصر، فلما صلى ركعة غربت الشمس ثم جاء رجل واقتدى به، صح اقتداؤه، فإن سبق الإمام الحدث استخلف هذا الرجل الذي اقتدى به، فتذكر الخليفة أنه لم يصل الظهر، فسدت صلاته؛ لأن الوقت ليس بضيق عند شروعه ولو تذكر هذه الفائتة بعد الغروب قبل الشروع لا يصح شروعه، فإذا تذكر في خلال الصلاة تفسد صلاته، وإن تذكر الإمام الأول أنه لم يصلِ الظهر لم تفسد صلاته سبقه الحدث أو لم يسبقه؛ لأن الوقت كان ضيقاً عند شروعه، لو تذكر الفائتة في ذلك الوقت لم يمنعه، هكذا إذا تذكر في خلال الصلاة.

مسافر صلى شهراً جميع الصلوات ركعتين، قال أبو حنيفة رحمه الله: يعيد ثلاثين مغرباً ولا يعيد غيرها، وقال صاحباه: يعيد ثلاثين مغرباً ويعيد صلاة العشاء والفجر والظهر والعصر بعد المغرب الأولى.
مسافر صلى الظهر ركعتين، وقام إلى الثالثة ناسياً أو متعمداً فجاء مسافراً واقتدى به في تلك الحالة، فصلاة الداخل موقوفة إن عاد الإمام إلى القعدة وسلم، فصلاة الداخل ركعتان كصلاة الإمام، وإن لم يعد، فنوى الإقامة في القيام الثالثة ينقلب فرضه وفرض الداخل أربعاً؛ لأنه نوى الإقامة في حرمة الصلاة، فصحت نيته وتغير فرضه أربعاً.
وكذلك فرض الداخل يتغير أربعاً؛ لأن اقتداءه به قد صح؛ لأنه كان في حرمة الصلاة حين اقتدى به، فصح اقتداؤه به وتغير فرضه أربعاً أيضاً، بحكم المتابعة، فيتابعه الداخل في الركعتين ثم يقضي ما فاته، وذلك ركعتان وإذا خرج الأمير مع جيشه لطلب العدو، ولا يعلم أين يدركهم فإنهم يصلون صلاة الإقامة في الذهاب وإن طالت المدة، وكذلك في المكث في ذلك الموضع، وأما في الرجوع، فإن كان إلى مصره مسيرة السفر يقصر الصلاة وإلا فلا.

(2/47)


نوع آخر في بيان اجتماع حكم السفر والإقامة
مقيم صلى الظهر أربعاً ثم سافر في الوقت وقصر العصر وهو مسافر، ثم تذكر في وقت العصر شيئاً نسيه في مصره فعاد إليه ثم علم أنه صلى الظهر والعصر بغير طهارة، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين والعصر أربعاً؛ لأنه ظهر أن الأداء لم يصح وقد خرج وقت الظهر وهو مسافر فصار الظهر في ذمته صلاة السفر، وخرج وقت العصر وهو مقيم، فصار العصر في ذمته صلاة الإقامة وإذا كان مسافراً في أول الصلاة ثم نوى الإقامة فيها في موضع الإقامة، وهو في الوقت، أتم أربعاً.
ولو كان خرج الوقت ثم نوى الإقامة أتمها شفعاً، ولو كان مقيماً في أولها ونوى السفر في وسطها أتمها أربعاً؛ لأن النية بدون الفعل لا تعتبر.

وإن كان شرع فيها وهو في السفينة في المصر فمرت وخرجت من العمران، وهو ينوي السفر صار مسافراً، لكنه يتم الصلاة التي شرع فيها أربعاً؛ لأنه لزمه أربعاً حين شرع فيها فلا يسقط منها شيء بنية السفر.
المسافر إذا أم قوماً مسافرين ومقيمين، فسبقه الحدث واستخلف مقيماً صلى بهم تمام صلاة الإمام، وإذا انتهى إلى موضع التسليم لم يسلم، لأن عليه بعض الصلاة، فيستخلف من يسلم بهؤلاء المسافرين، ويقوم ويتم ما عليه والمقيمون أيضاً يتمون وحداناً، ولا يقرؤون على أصح الأقوال، وقد مر هذا من قبل.
مسافر صلى بقوم مقيمين ومسافرين ركعة، فسبقه الحدث، فأخذ بيد رجل ليقدمه، فنوى الإقامة ثم قدمه صلى هذه الخليفة بهم أربعاً؛ لأنه نوى الإقامة وهو إمامهم؛ لأنه بالحدث لم يخرج من أن يكون إماماً لهم، ولهذا يملك الاستخلاف، ولو لم ينو المحدث الإقامة ولكنه قدم مقيماً فالخليفة يقعد على رأس الركعتين.
ولو لم يقعد فسدت صلاته، وصلاة القوم وإذا أتم هذه القعدة يقدم من يسلم بهم، ويقوم هو ويتم صلاة نفسه ولو أن الخليفة لم يقرأ في فائتة الإمام، فسدت صلاته وصلاة القوم كما لو لم يقرأ الإمام الأول.
مسافر صلى بمسافرين ركعتين، فلما تشهد في الثانية تكلم أو تكلم بعض من خلفه ثم نوى الإمام الإقامة صار فرضه، وفرض من بقي خلفه أربعاً، وصلاة من ذهب جائزة ركعتين، ولم تؤثر نية الإمام الإقامة في حقهم لزوال الاقتداء بالكلام والسلام قبل نية الإمام.

مسافر صلى ركعتين بغير قراءة فظن أنه صلى ركعة فقام وقرأ وركع ثم نوى الإقامة صار فرضه أربعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويعيد القيام والقراءة والركوع، وتجوز لأن الأول وقع نفلاً لا فرضاً؛ لأن فرضه حال كونه مسافراً ركعتان فلو لم يعد حتى قيد الركعة بالسجدة فسدت صلاته؛ لأنه تم انتقاله إلى النفل فلا يمكنه إصلاح الفرض ولو كان قرأ في الأوليين وقعد وقام إلى الثالثة، وقرأ وركع وسجد ثم نوى الإقامة لم يصر أربعاً؛ لأنه خرج من الفرض.

(2/48)


ولو كان لا يقيده بالسجدة صار أربعاً ويعيد القيام والركوع لوقوعهما نفلاً، وليس عليه إعادة القراءة؛ لأنه عليه في الأخريين من الفرض، فإن لم يعد بل مضى فسدت صلاته، لتركه القيام الفرض والركوع الفرض، فإن قام من الثانية إلى الثالثة من غير قعود ناسياً قبل نية الإقامة، فعليه أن يعود إلى القعود، فإن نوى الإقامة لم يعد؛ لأن فرضه صار أربعاً، وإن نوى الإقامة وهو قاعد إن كان تشهد قائماً، ولا يعيد التشهد، وإن لم يكن تشهد، فيتشهد ثم يقوم.
ومما يتصل بهذا الفصلالمقيم والمسافر إذا أمَّ أحدهما صاحبه ثم يشكان فيه
مسافر ومقيم أم أحدهما صاحبه، فشكّا فلم يدريا من الإمام، ومن المقتدي، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إذ شكا بعدما صليا ركعة وإنه على خمسة أقسام:
القسم الأول: إذا شكا قبل الحدث، وفي هذ القسم تفسد صلاتهما، لتعذر المضي بيانه: وهو أن كل واحد (98ب1) ، منهما يحتمل أن كان إماماً في الابتداء ويحتمل أنه كان مقتدياً ومن كان إماماً لا يصلح مقتدياً ومن كان مقتدياً لا يصلح إماماً؛ لأن صلاة الإمام مع صلاة المقتدي غيران حكماً.

ألا ترى أن الإمام تلزمه القراءة وتنوب قراؤته عن قراءة المقتدي، وإذا قرأ آية السجدة يلزمه ومأمومه سجدة التلاوة، وإذا سهى لزمته ومأمومه سجدة السهو وإذ فسدت صلاته فسدت صلاة مأمومه، والمقتدي لا تلزمه القراءة، وإذا قرأ آية السجدة لا يلزمه ولا إمامه سجدة التلاوة، وإذا سهى لا سهو عليه، ولا على الإمام، وإذا فسدت صلاته لا تفسد صلاة الإمام.
وألا ترى أن الإمام إذا كبر في خلال الصلاة ينوي الاقتداء بغيره في تلك الصلاة يصير خارجاً من صلاته، وكذلك إذا كبر ينوي الإقامة يصير خارجاً عن صلاته، بمنزلة من كان في صلاة الظهر فكبر ينوي العصر فثبت أنهما غيران حكماً.
فإذا لم ينويا من الإمام ومن المقتدي لا يدري كل واحد منهما أنه يتم صلاته على الإمامة، أو على الاقتداء، فيعجز كل واحد منهما عن المضي على صلاته ففسدت صلاتهما؛ لهذا بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا أصابتهما آفة وافترقا عن مكانهما، أما إذا كانا في مكانهما نجعل صاحب اليمين مقتدياً وصاحب اليسار إماماً، عملاً بما جاءت به السنّة.
القسم الثاني: إذا لم يشكا حتى أحدث المقيم وخرج من المسجد، ثم أحدث المسافر وخرج ثم توضأ فأقبلا، ثم شكا فصلاة المقيم فاسدة وصلاة المسافر تامة أما صلاة المقيم فاسدة؛ لأنه إن كان مقتدياً فإذا خرج الإمام من المسجد بعده لم يبق له إمام في المسجد، وإن كان إماماً، فإذا خرج من المسجد أولاً تحولت الإمامة إلى المسافر

(2/49)


وصار المقيم مقتدياً به، حتى لو عاد أتم الصلاة خلفه.

فإذا خرج المسافر من المسجد بعد ذلك لم يبق المقيم إماماً في المسجد، وخلو المسجد من الإمام يوجب فساد صلاة المقتدي، فتيقنا بفساد صلاته على كل حال، وصلاة المسافر تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً، فقد تحولت الإمامة إليه حين خرج المقيم عن المسجد، وإذا خرج عن المسجد بعد ذلك لم يبق له مؤتم في المسجد، وخلو المسجد عن المؤتم لا يوجب فساد صلاة الإمام، ولكن على المسافر أن يقرأ في الركعة الثانية ويقعد في الثانية، لاحتمال أنه كان إماماً وكان فرضه هذا ويتم صلاته أربعاً لاحتمال أنه كان مقتدياً، وانقلب فرضه أربعاً.
القسم الثالث: إذا لم يشكا حتى أحدث المسافر وخرج من المسجد ثم أحدث المقيم وخرج ثم توضأ فأقبلا ثم شكا، فصلاة المسافر فاسدة وصلاة المقيم تامة، وصلاة المسافر في هذه المسألة نظير المقيم في المسألة الأولى، والمقيم في هذه المسألة نظير المسافر في المسألة الأولى، وعلى المقيم أن يقرأ في الركعة الثانية، ويقعد على رأس الثانية حتى أنه إذا لم يفعل أحدهما فسدت صلاته، لجواز أنه كان مقتدياً فحين أحدث إمامه وخرج عن المسجد تحولت الإمامة إليه، وافترض عليه ما كان فرضاً على إمامه وكان فرضاً على إمامه القراءة في الثانية والقعدة، فافترض عليه ذلك ثم يقوم ويصلي ركعتين أخريين تمام صلاته وهل يقرأ.
فيه اختلاف المتأخرين، قد ذكرنا قبل هذا أن مقيماً لو اقتدى بمسافر، فلما فرغ الإمام قام المصلي يصلي الركعتين الأخرين، روى الكرخي عن محمد أنه لا يقرأ، وبه أخذ بعض المشايخ، وعن أبي طاهر الدباس: أنه يقرأ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والاحتياط أن يقرأ.

القسم الرابع: إذا لم يشكا حتى أحدثا، وخرجا عن المسجد على التعاقب إلا أنه لا يدرى من الذي خرج أولاً ثم توضأا فأقبلا فشكا، فصلاتهما فاسدة؛ لأن الذي خرج أولاً فسدت صلاته لما ذكرنا، والذي خرج آخراً صلاته صحيحة، وكل واحد منهما يحتمل أنه خرج آخراً، فكانت صلاة كل واحد منها صحيحة من وجه فاسدة من وجه، فكان الحكم الفساد احتياطاً.
القسم الخامس: إذا لم يشكا حتى أحدثا معاً أو على التعاقب إلا أنهما خرجا معاً، وباقي المسألة بحالها صلاتهما فاسدة أيضاً، لأن الإمام منهما بقي على إمامته، لما ذكرنا أن الإمامة لا تتحول لمجرد الحدث وإنما تتحول بالخروج، وقد خرجا معاً فبقي الإمام على إمامته والمقتدي على اقتدائه، فصلاة الإمام تامة وصلاة المقتدي فاسدة، وكل واحد يحتمل أن يكون إماماً ويحتمل أن يكون مقتدياً، فكانت صلاة كل واحد منهما صحيحة من وجه فاسدة من وجه فكان الحكم بالفساد.
الوجه الثاني: إذا شكا بعدما صليا ركعتين وقعدا قدر التشهد، وإنه على خمسة أقسام أيضاً.

(2/50)


القسم الأول: إذا شكا قبل الحدث وفي هذا القسم يقوم المقيم ويصلي ركعتين أخرين ويتبعه المسافر فيها، أما المقيم، فيصلي ركعتين أخريين لأنه إن كان إماماً، فعليه إتمام صلاته، وإن كان مقتدياً فكذلك وأما المسافر فإنه يتبعه فيهما؛ لأنه إن إماماً فقد أتم صلاته والمتابعة في الركعتين الأخرتين لا تضر وأن كان مقتدياً فقد صار فرضه بالاقتداء بالمقيم أربعاً، فتلزمه المتابعة في الركعة، والمتابعة في الأخريين لازمة من وجه دون وجه، فأوجبناها احتياطاً.

القسم الثاني: إذا أحدث المقيم وخرج من المسجد ثم أحدث المسافر، وخرج من المسجد فتوضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المقيم فاسدة وصلاة المسافر تامة، أما صلاة المقيم فاسدة، فلأنه إن كان مقتدياً إن كانت لا تفسد صلاته بخروجه وخروج إمامه بعد ذلك؛ لأن صلاة إمامه قد تمت بأداء الركعتين تفسد صلاته إذا كان إماماً وخرج المسافر بعد خروجه لا بخروجه أولاً تحولت الإمامة إلى المسافر، وصار المقيم مقتدياً به، فإذا خرج المسافر من المسحد لم يبق للمقيم إمامٌ في المسجد، وخلو المسجد عن الإمام يوجب فساد صلاة المقيم، فصلاة المقيم تفسد من وجه، وهو أن يكون إماماً، ولا تفسد من وجه، وهو أن يكون مقتدياً، فحكمنا بالفساد، وصلاة المسافر تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً فقد تحولت الإمامة إليه حين خرج المقيم من المسجد، فإذا خرج عن المسجد بعد ذلك، لم يبق له مؤتم في المسجد، وخلو المسجد عن المؤتم لا يوجب فساد صلاة الإمام، ولكن على المسافر أن يصلي أربعاً؛ لاحتمال أنه كان مقتدياً وانقلب فرضه أربعاً.
القسم الثالث: إذا أحدث المسافر وخرج من المسجد ثم أحدث المقيم وخرج من المسجد، فتوضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المسافر فاسدة لاحتمال أنه كان مقتدياً، وانقلب فرضه أربعاً، فحين خرج المقيم عن المسجد لم يبق للمسافر إمام في المسجد، وهذا يوجب فساد صلاته وصلاة المقيم تامة إن كان إماماً بقي على إمامته وإن كان مقتدياً، فقد جاء أوان الانفراد وخروج المنفرد عن المسجد لا يوجب فساد صلاته.
القسم الرابع: إذا أحدثا وخرجا من المسجد على التعاقب، إلا أنه لا يدرى من الذي خرج أولاً ثم توضأا وأقبلا فشكا، وفي هذا القسم فسدت صلاتهما لما مر في الوجه الأول.

القسم الخامس: إذا أحدثا معاً أو على التعاقب إلا أنهما خرجا معاً، ثم توضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المسافر فاسدة، لاحتمال أنه كان مقتدياً وانقلب فرضه أربعاً فحين خرج المقيم لم يبق الإمام في المسجد، وصلاة المقيم تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً، فحين أتم المسافر صلاته جاء أوان الانفراد في حقه وخروج المنفرد عن المسجد لا يوجب فساد صلاته.
الوجه الثالث: إذا شكا بعدما صليا ثلاث ركعات، فالقياس: أن يكون الجواب في هذا الوجه، والجواب فيما تقدم سواء لمعنى الشك وتردد الحال في حق كل واحد

(2/51)


منهما، وفي الاستحسان الإمام هو المقيم فعليه أن يقوم فيصلي الركعة الرابعة، ويقتدي به المسافر حملاً لأمر المسلم على الصلاح، فإن فعل كل مسلم محمول على الصلاح ما أمكن، ولو جعلنا المقيم إماماً كان حمل أمرهما على الصلاح في الركعة الثالثة.
ولو جعلنا المسافر إماماً كان فيه حمل أمرهما على ما لا يحل شرعاً من خلط النفل بالفرض، والخروج عن الفرض والدخول في النفل لا على وجه المسنون في حق المسافر، ومن اقتداء المفترض بالمتنفل (99أ1) في حق المقيم، فجعلنا المقيم إماماً لهذا.
ونظير هذا من فرغ من صلاته وسلم ثم شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً، فليس عليه شيء ويحمل قوله على الصلاح، وهو الخروج عن الصلاة في وقته فكذا ههنا.
ومعنى آخر أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» : فقال: إن أمور المسلمين محمول على المتعارف والمعتاد فيما بين الناس، والمتعارف المعتاد فيما بين الناس أن المقيم يقوم إلى الثالثة والمسافر لا يقوم إلى الثالثة، إلا إذا كان مقتدياً بالمقيم، استشهد محمد رحمه الله بمن أحرم بشيئين، ثم نسيهما، فلم يدر أحجان أم عمرتان؟ يجعل قارناً بحجة وعمرة ولا يجعل قارناً بحجتين، ولا بعمرتين حملاً لأمره على الصلاح على المعنى الأول فإن الجمع بين الحج والعمرة صحيح مندوب إليه شرعاً والجمع بين الحجتين والعمرتين ممنوع عنه فجعل قارناً حملاً لأمره على الصلاح، وعلى المعنى الثاني يجعل قارناً بحجة وعمرة حملاً لأمره على المتعارف؛ لأن المتعارف فيما بين الناس الجمع بين حجة وعمرة لا الجمع بين حجتين أو عمرتين، فكذا ها هنا.
وكذلك مسافر ومقيم أم أحدهما صاحبه ولم يقعدا في الثانية قدر التشهد، ثم سلما وسجدا سجدتي السهو ثم شكا، فلم يدريا أيهما الإمام؟ يجعل الإمام هو المقيم حملاً لأمرهما على الصلاح.
وكذلك لو كانا تركا القراءة في الأوليين أو في أحدهما، فلما سلما وسجدا للسهو شكا، فإنه يجعل الإمام هو المقيم لما بينا وإذا كان في مسألتنا الإمام هو المقيم يسهل تخريج مسألة الحدث وإن أحدث المقيم أولاً، وخرج من المسجد ثم أحدث المسافر بعد ذلك وخرج من المسجد، فصلاة المقيم فاسدة لتحول الإمامة إلى المسافر فيصير هو مقتدياً فإذا خرج المسافر لم يبق الإمام في المسجد فتفسد صلاته، وصلاة المسافر جائزة تامة.

وإن كان مقتدياً لكن تحولت إمامة المقيم إليه، وخروج الإمام عن المسجد لا تفسد صلاته وإن أحدث المسافر وخرج ثم أحدث المقيم، وخرج، فصلاة المسافر فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد، وإن أحدثا معاً أو متعاقباً لكن خرجا معاً فصلاة المقيم تامة لأنه إمام لم تتحول إمامته إلى غيره وصلاة المسافر فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد، وإن خرجا على التعاقب ولا يدري أيهما خرج أولاً؟ فصلاتها جميعاً فاسدة لما قلنا من قبل والله أعلم.

(2/52)


الفصل الثالث والعشرون في الصلاة على الدابة
قال في «الأصل» : ويصلي المسافر التطوع على دابته بإيماء حيث توجهت به، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله عليه السلام في غزوة إنما يتطوع على دابته بالإيماء، وجهه إلى المشرق» وزاد في آخر الحديث: «وكان إذا أراد الوتر أو المكتوبة نزل» ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام كان يصلي على دابته تطوعاً حيث توجهت به، وقرأ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 115) وكان ينزل للمكتوبة» .

واختلفت الروايات عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الوتر، روي «أنه عليه السلام يوتر على دابته» وروي عنه «أنه كان ينزل للوتر» ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال الحاكم الجليل في «إشاراته» تأويل ما روي «أنه كان يوتر على دابته» أنه كان يفعل ذلك، لعذر المطر والطين، أو كان ذلك قبل تأكد الوتر فأما بعد تأكد الوتر كان ينزل، وجاء في حديث آخر «أن النبي عليه السلام كان يصلي التطوع على حمار متوجهاً إلى خيبر» ، ولأن صلاة التطوع خبر موضوع بدليل الحديث فلو لم تجز على الدابة لغاية، هذا الخبر إذ لا يمكنه النزول في كل ساعة؛ لأنه يخاف على نفسه ودابته، فيجوز لهذا العذر ولو لم يكن له في التطوع على الدابة من المنفعة إلا حفظ اللسان وحفظ النفس عن الوساوس والخواطر الفاسدة كان ذلك كافياً، ويجعل السجود أخفض من الركوع؛ لأنه عجز عن الركوع والسجود كالمريض.
وعلى أي الروايات إن صلى أجزأه لأن الرواية وقعت باسم الدابة واسم الدابة يقع على الكل، ثم إن محمداً رحمه الله وضع المسألة في «الأصل» في المسافر.
وذكر الكرخي في كتابه، ويجوز التطوع على الدابة في الصحراء مسافراً كان أو مقيماً أينما توجهت به، فروى عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله أنه يطلق ذلك للمسافر خاصة؛ لأن الجواز بالإيماء بخلاف القياس، لأجل الضرورة والضرورة إنما تتحقق في السفر لا في الحضر، والصحيح أن المسافر وغير المسافر في ذلك على السواء بعد أن يكون خارج المصر حتى أن من خرج من المصر إلى مساعه، جاز أن يصلي التطوع على الدابة، وإن لم يكن مسافراً إلا أن الكلام بعد هذا في مقدار ما يكون بين المقيم، وبين المصر حتى يجوز له التطوع على الدابة.

وذكر في «الأصل» : إذا خرج فرسخين أو ثلاثة فله أن يصلي على الدابة وهكذا ذكر

(2/53)


الكرخي في كتابه، ومن المشايخ من قدره بفرسخين فصاعداً، فقال: إذا كان بينه وبين المصر فرسخان، فله أن يصلي على الدابة، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز.
وقال بعضهم: إن كان بينه وبين المصر قدر ميل جاز له أن يصلي على الدابة، وإن كان أقل من ذلك فلا، وقال بعضهم: إن كان بينه وبين المصر قدر ما يكون بين المصر وبين مصلى العيد جاز له أن يتطوع على الدابة، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح من الجواب أنه يعتبر فيه مخالطة البنيان ومفارقتهما، فما دام مخالطاً للبنيان لا يتطوع على الدابة وإذا فارق البنيان فقد خرج من المصر، فيجوز له التطوع على الدابة وهو قياس قصر الصلاة للمسافر، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن التطوع على الدابة جائز على المصر من غير فصل بينها إذا كان المكان الذي خرج إليه قريباً أو بعيداً، وإن كان بسرجه قذر لم تفسد صلاته.
وأشار في «الكتاب» : إلى المعنى، وقال: والدابة أبعد من ذلك يريد بذلك أن الدواب ليسوا بطيبين ظاهراً؛ لأنهم يتمعكون في التراب والنجاسات، فالظاهر أنهم لا يخلون عن النجاسات ثم نجاسة الدابة تمنع الجواز، فكذا نجاسة السرج بل أولى؛ لأنها أقل، من أصحابنا من قال: لم يرد محمد بقوله: وإذا كان بسرجه قذر أن يكون على سرجه نجاسة حقيقية، وإنما أراد به قذر الدابة الذي يتلطخ به الثوب، أما إذا كان على سرجه نجاسة حقيقية نحو رجيع الآدمي وما أشبه ذلك، وكانت في موضع الجلوس أو الركابين أكثر من قدر الدرهم تمنع الجواز، وهو قول الفقيه محمد بن مقاتل الرازي والشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمهما الله.

وبعضهم قالوا: إذا كانت النجاسة في الركابين لا بأس به، وإن كان في موضع الجلوس يمنع الجواز، والحاكم الشهيد يشير إلى أن كل ذلك على السواء وشيء منها لا يمنع الجواز؛ لأن هذا أمر بني على الخفة والرخصة وطهارة السرج والركابين نادر، فلا يشترط طهارتها؛ ولأنه قد سقط عنه القيام والسجود وذلك ركن وطهارة المكان شرط والركن أقوى من الشرط، فسقوط الركن يدل على سقوط الشرط من طريق الأولى، ولم يذكر في ظاهر الرواية التطوع على الدابة في المصر.
قال الحاكم في «الكتاب» : قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصلي النافلة على الدابة في المصر، وقال أبو يوسف: لا بأس بذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال في «الكتاب» : لا يصلي النافلة على الدابة في المصر، ولكن لم يذكر أنه لو صلى يجزئه.
وذكر الفقيه أبو جعفر في «غريب الروايات» ، وقال: إني لا أعرف مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «الهارونيات» أنه لا يجوز التطوع على الدابة في المصر عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف لا بأس به، وعند محمد يجوز ويكره.
فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخسي حجة أبي حنيفة رحمه الله، هو أنا جوزنا الصلاة على الدابة بالإيماء بالنص، بخلاف القياس والنص ورد خارج المصر والمصر

(2/54)


ليس في معنى خارج المصر لأن سيره على الدابة في المصر لا يكون مؤبداً عادة فرجعنا فيه إلى أصل القياس، وحكي أن أبا يوسف رحمه الله لما سمع هذا الجواب عن أبي حنيفة رحمه الله، قال: حدثني فلان، وسماه عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام ركب الحمار في المدينة، يقول سعد بن عبادة؛ وكان يصلي وهو راكب، فسكت أبو حنيفة ولم يرفع رأسه.
قيل: إنما لم يرفع رأسه رجوعاً منه.

وقيل: إنما لم يرفع رأسه؛ لأنه عده من شواذ الأخبار، وآحاده، ومثل هذا الخبر لا يكون حجة فيما تعم به البلوى، فأبو يوسف رحمه الله أخذ بهذا الحديث، ومحمد كذلك، إلا أنه كره ذلك في المصر لأن اللفظ (99ب1) يكثر فيها والكثرة ربما تمتلىء بالغلط في القراءة، فلهذا يكره، قيل: اللفظ صور مهمة.
وقيل: الكلام الفاحش ثم يستوي الجواز عندنا بين أن يفتتح الصلاة مستقبل القبلة، وبين أن يفتتحها مستدبر القبلة في الحالين يجزئه؛ لأن جواز التطوع على الدابة بالديار، ولا فرق في الديار بين الابتداء وبين الانتهاء.
ومن الناس من يقول: إنما يجوز التطوع على الدابة إذا توجه إلى القبلة عند افتتاح الصلاة، ثم تركها حتى انحرف عن القبلة، أما ما إذا افتتح الصلاة إلى غير القبلة لا تجوز؛ لأنه لا ضرورة في حالة الابتداء، إنما الضرورة في حالة البقاء إلا أن أصحابنا لم يأخذوا به؛ لأنه لا تفصيل في النص.
ولو أومىء على الدابة وبنى بسير لم يجز إذا قدر أن يقفها، وإن تعذر الوقف جاز؛ لأن سير الدابة مضاف إلى راكبها، ويتحقق بسبب ذلك اختلاف المكان، فلا يتحمل إلا عند تعذر الوقف ولا يصلي المسافر المكتوبة على الدابة إلا في ضرورة فإن المكتوبة في أوقات محصورة لا يشق عليه النزول؛ لأدائها بخلاف التطوع، فإنه ليس مقدر بشيء فلو ألزمناه النزول؛ لأدائها تعذر عليه أداء ما يسقط من التطوعات أو ينقطع سفره.
وكذلك ينزل للوتر عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها واجبة عنده، وعندهما له أن يوتر على الدابة؛ لأنها سنة عندهما، وأما في حالة الضرورة له أن يصلي المكتوبة، والوتر على الدابة لما روي أن رسول الله عليه السلام كان مع أصحابه في سفر فمطروا، «فأمر منادياً حتى نادوا صلوا على رواحلكم» .

ومن الأعذار إن خاف لو نزل عن الدابة على نفسه أو على دابته لصاً أو سبعاً أو كان في طين لا يجد على الأرض مكاناً يابساً أو كانت الدابة حموماً إن نزل عنها لا يمكنه الركوب إلا بمعين أو كان شيخاً كبيراً لا يمكنه أن يركب، ولا يجد من يركبه ففي هذه الأحوال كلها تجوز المكتوبة على الدابة، قال الله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا

(2/55)


فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 239) وعلى قياس ما ذكرنا في أول بيان الأعذار.
لو صلى المكتوبة في البادية على الراحلة والقافلة تسير يجوز؛ لأنه يخاف على نفسه وثيابه لو نزل؛ لأن القافلة لا تنتظره، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ألحق ركعتي الفجر بالمكتوبة، فقال: ينزل لها إلا بعذر، وذكر ابن شجاع: أن ذلك يجوز أن تكون لبيان الأولى يعني أن الأولى أن ينزل لركعتي الفجر ثم ها هنا مسألة لم يذكرها محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا أوردها الحاكم الشهيد في «المختصر» : وهو ما إذا افتتح التطوع على الدابة خارح المصر ثم دخل المصر قبل أن يفرغ منها، وذكر في غير رواية الأصول أنه يتمها، واختلف الناس في معنى هذا، قال بعضهم: يتمها على الدابة، ما لم يبلغ منزله وأهله، لأنه التزمها راكباً، فله أن يتمها راكباً.
H
وقال كثير من أصحابنا رحمهم الله: إنه ينزل ويتمها نازلاً؛ لأنا قد روينا عن أبي حنيفة أنه كان لا يأذن بالصلاة على الدابة في المصر، وهذا لأن النزول عمل يسير لا يحتاج فيه إلى معالجة كثيرة فلهذا تجوز بقية الصلاة نازلاً.

وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: إن صلى ركعة بإيماء ثم دخل المصر لم يمكنه إتمام صلاته نازلاً؛ لأنه بناء الكامل على الناقص؛ لأن أول صلاته بإيماء وآخر صلاته بركوع وسجود. وإن لم يصل ركعة بإيماء نزل وأتمها نازلاً؛ لأنه لم يؤد شيئاً بإيماء، فله أن يكملها نازلاً بركوع وسجود.

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: هذه الرواية على أصل محمد لا تستقيم؛ لأن تحريمة الصلاة وقعت للإيماء فلا يصح إكمالها بركوع وسجود على أصله؛ لأنه بناء القوي على الضعيف، وهو لا يرى ذلك؛ لأن مذهبه فيمن افتتح الصلاة قاعداً لمرض بركوع وسجود، ثم برأ من مرضه، فقام فأتمها قائماً، فإنه لا يجوز؛ لأنه بناء القوي على الضعيف فهذه الرواية تخالف مذهبه، فلا يدرى من أين وقع هذا؟ والله أعلم.
وإذا افتتح التطوع على الأرض، فأتمها راكباً لم تجزئه ولو افتتحها راكباً ثم نزل، فأتمها أجزأته لوجهين:
أحدهما: وهو أن النزول عمل يسير والركوب عمل كثير؛ لأنه يحتاج فيه إلى استعمال اليدين عادة وفي النزول لا يحتاج إلى ذلك ولكن يجعل إليته من جانب، وينزل من غير أن يحتاج إلى معالجة اليدين.
والثاني: وهو أنه افتتح الصلاة على الأرض، فلو أتمها راكباً كان دون ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بركوع وسجود والإيماء دون ذلك، والراكب إذا نزل يؤديها أتم ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بالإيماء، ويؤديها بركوع وسجود.
وعن زفر رحمه الله: أنه يبني فيهما جميعاً؛ لأنه لما جاز الافتتاح على الدابة بالإيماء مع القدرة على النزول، فالإتمام أولى، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يستقبل

(2/56)


فيهما، أما إذا كان نازلاً، فركب لما ذكرنا، وأما إذا كان راكباً فنزل؛ لأنه بناء القوى على الضعيف، وذلك لا يجوز كالمريض الذي يصلي بالإيماء ثم يقدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة، فإنه لا يبني، وإنه لا يبني، لما قلنا.

والفرق بينهما على ظاهر الرواية: أن في المريض ليس له أن يفتتح الصلاة بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود، فكذلك إذا قدر على ذلك في خلال الصلاة لا يبني أما ههنا له أن يفتتح الصلاة بالإيماء على الدابة مع القدرة على الركوع، والسجود فكذلك قدرته على الركوع والسجود بالنزول تمنعه من البناء.

وكذلك إن (نذر) على أن يصلي ركعتين فصلاهما راكباً من غير عذر لم يجزئه؛ لأن القدرة لم تنصرف إلى أتم الوجوه وأكملها، ألا ترى أن من نذر أن يصلي ركعتين، فصلاهما عند طلوع الشمس أو عند غروبها، أو عند زوالها لا يجوز، والمعنى ما ذكرنا كذلك ههنا.
والدليل عليه: أنه إذا نذر أن يعتق رقبة، فأعتق رقبة أعجمي، فإنه لا يجوز؛ لأنه بالنذر التزم الصلاة مطلقاً، والمطلق ينصرف إلى الكامل، فإن صلاهما على الدابة بعذر جاز؛ لأن المكتوبة تؤدى على الدابة بعذر فالمنذورة أولى والله أعلم.
رجلان في محمل واحد، فاقتدى أحدهما بالآخر في التطوع أجزأهما وهذا لا يشكل إذا كان في شق واحد، لأنه ليس بينهما حائل، فأما إذا كانا في شقين، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إن كان أحد الشقين مربوطاً بالآخر يجزئه؛ لأنه إذا كان مربوطاً بالآخر صار بحكم الاتصال كشق واحد أو كسفينتين ربطت أحدهما بالأخرى، فاقتدى أحدهما بصاحبه، فهذا يجوز الاقتداء بالإجماع كذا هنا، وإن لم تكن مربوطاً بالآخر لا يصح اقتداؤهما؛ لأن بينهما دابة تسير، فكان بين الإمام والمقتدي طريق، وإنه مانع جواز الاقتداء، وقال بعضهم: يجزئه كيف ما كان إذا كان على دابة واحدة، كما لو كانا على الأرض وإلى هذا أشار محمد رحمة الله في «الكتاب» .
فإنه جمع في «الكتاب» : بين مسألتين مسألة المحمل ومسألة الدابتين وجوز في المحمل، ولم يجوز في الدابتين بعلة الطريق وفرق بينهما واسم المحمل يقع على الشقين، وعلى شق واحد فلو كان المراد في المحمل الشق الواحد لما احتاج إلى الفرق، ولأنهما إذا كانا في محمل واحد ليس بين الإمام والمقتدي ما يمنع صحة الاقتداء.
قال في «الكتاب» : وأكره أن يأتم إذا كان عن يسار الإمام اعتباراً بما لو كان على الأرض، ولو كان كل واحد منهما على دابة لم تجز صلاة المؤتم؛ لأن بين الدابتين طريق والطريق العظيم بين الإمام والمقتدي يمنع صحة الاقتداء.

وعن محمد رحمه الله قال: أستحسن أن يجوز اقتداؤهم بالإمام إذا كانت دوابهم على القرب من دابة الإمام على وجه لا تكون الفرجة بينه والقوم إلا بقدر العرف، قياساً على الصلاة على الأرض، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قول محمد رحمه الله: كانا في محمل واحد يقع على الشقين جميعاً، وإنما جاز هذا لأن الرباط جمعهما

(2/57)


فكأنهما شق واحد والرباط، كالجسر على النهر ثم الجسر يضم أحد شقي النهر بالآخر في حكم الاقتداء، فرباط المحمل أولى.
وإذا صلى على دابة في المحمل، والدابة واقفة وهو يقدر على النزول، لا يجوز له أن يصلي على الدابة إلا إذا كان المحمل على عيدان على الأرض ولو صلى على عجلة إن كان طرف العجلة على الدابة، وهي تسير أو لا تسير فهو صلاة على الدابة فيجوز في حالة العذر، ولا يجوز في غير حالة العذر (100أ1) وإن لم يكن طرف العجلة على الدابة جاز، وهو بمنزلة الصلاة على السرير.
وفي القدوري: لو صلى على بعير لا يسير لا يجوز، ولو صلى على عجلة لا تسير يجوز من غير فصل والله تعالى أعلم.

الفصل الرابع والعشرون في الصلاة في السفينة
قال محمد رحمه الله: وإذا استطاع الرجل الخروج من السفينة للصلاة، فأحب له أن يخرج ويصلي على الأرض، وإن صلى فيها جاز، أما الجواز: فلحديث ابن سيرين رضي الله عنه قال: صلينا مع أنس بن ملك رضي الله عنه في السفينة قعوداً، ولو شئنا لخرجنا إلى الجمد.
وقال مجاهد: صلينا مع جنادة بن أبي أمية قعوداً، ولو شئنا لقمنا، هكذا روى الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي، وعن مولى عبد الله بن أبي ... أنه قال: صحبت أناساً في السفينة من أصحاب رسول الله عليه السلام، منهم أبو الدرداء أو أبو سعيد الخدري وجابر، وأبو هريرة رضي الله عنهم فحضرت الصلاة، فتقدم إمامهم فصلوا فيها، ولو شئنا لخرجنا إلى الجمد، ولأن السفينة في معنى الأرض؛ لأنه يباح الجلوس عليها للقراءة كما على الأرض فكانت السفينة كالسرير.

ولو صلى على السرير تجوز صلاته، فكذلك ها هنا؛ ولأن الماء في معنى الأرض على معنى أنه يباح الجلوس عليه. للقراءة أي تمكن من الجلوس عليه.
ألا ترى لو انجمد الماء يمكن من الجلوس يجلس عليه للقراءة، فكانت السفينة كالأرض فتجوز فيها الصلاة، بخلاف ما لو صلى على العجلة، فإنه لا يجوز؛ لأن؟ ... ما على الدابة، فكأنه يصلي على ظهر الدابة، فلا يجوز؛ لأنها ليست في معنى الأرض، فإنه لا يباح الجلوس على ظهر الدابة للقراءة، على ما قال عليه السلام: «لا تتخذوا دوابكم كراسي» وإنما يباح الانتقال.

(2/58)


وأما المستحب أن يخرج ويصلي على الأرض لأن الصلاة على الأرض أكمل والصلاة في السفينة أنقص؛ لأن الغالب من حال راكب السفينة دوران الرأس واسوداد العين متى صلى قائماً يحتاج إلى القعود، وله بد من ذلك.
فإن صلى فيها قاعداً وهو يقدر على القيام والخروج أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله استحساناً، لكن الأفضل أن يقوم أو يخرج، وعندهما لا يجزئه قياساً.

وأجمعوا أن السفينة إذا كانت مربوطة بالشط أنه لا يجوز فيها الصلاة قاعداً، وأجمعوا أنه إذا كان بحيث لو قام يدور رأسه تجوز الصلاة فيها قاعداً.
وجه القياس: وهو أن السفينة كالبيت في حق راكب السفينة بدليل أنه يلزمه استقبال القبلة، ولا تجوز صلاة التطوع فيها بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود كما في البيت؛ وهذا لأن سقوط القيام في المكتوبة للعجز والمشقة وهو قد زال لقدرته على القيام أو الخروج.
وجه الاستحسان: وهو أن الغالب من حال راكب السفينة دوران الرأس إذا قام والحكم يبنى على العام، والغالب دون الشاذ النادر.
ألا ترى أن نوم المضطجع جعل حدثاً بناءً على الغالب من حاله أنه يخرج منه شيء لزوال الإمساك، وسكوت البكر جعل رضاً، لأجل الحياء بناءً على الغالب من حال البكر.

وكذلك المترفه في السفر له أن يفطر كصاحب المشقة؛ لأن مبنى أحوالهم على المشقة والشدة، والترفه في السفر نادر، فلم يعتبر ذلك النادر في حق الترخيص بالإفطار، فهذا مثله.
ثم لم يفصل في «الكتاب» على قول أبي حنيفة رحمه الله بين أن تكون السفينة جارية أو ساكنة ماسكة، منهم من قال على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يصلي قاعداً إذا كانت جارية؛ لأن الغالب دوران الرأس واسوداد العين إذا قام، فأما إذا كانت السفينة ساكنة ماسكة لم تجز الصلاة فيها قاعداً.
قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بجواهر زاده رحمه الله: وقد ذكر الحسن بن زياد في كتابه بإسناده عن سويد بن غفلة، قال: سألت أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما عن الصلاة في السفينة، فقالا: إذا كانت جارية يصلي قاعداً وإذا كانت ساكنة يصلي قائماً؛ لأنه يقدر على القيام في هذه الحالة، ولا يجوز للمسافر أن يصلي فيها بالإيماء سواء كانت الصلاة مكتوبة أو نافلة؛ لأنه يمكنه أن يسجد فيها، فلا يعذر في تركه، والإيماء إنما شُرع عند العجز وهذا قادر، فلا يجوز له الإيماء.

فرق بين هذا وبين الدابة والفرق وهو: أن الأثر في بالإيماء، ورد في حق راكب الدابة بخلاف القياس وما ورد في حق راكب السفينة على أصل القياس؛ ولأن راكب الدابة ليس له موضع قرار على الأرض وراكب السفينة له موضع قرار، فالسفينة كالبيت على ما ذكرنا.

(2/59)


ألا ترى أنه لا يجري بها، بل هي تجري به، قال الله تعالى: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يبُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ} (هود: 42) وراكب الدابة يجري بها حتى يملك إيقافها متى شاء، ولهذا جوزنا الصلاة على الدابة حيث كان وجهه.
والذي يوضح الفرق ويؤكده، فصل المخيرة، فإنها إن كانت راكبة الدابة تستوي الدابة وساقتها بطل خيارها، وإن كانت راكبة السفينة ففرق السفينة بها لم يبطل خيارها، وهكذا الجواب في جميع ما يتوقف بالمجلس، وينبغي للمصلي فيها أن يتوجه القبلة كيف ما دارت السفينة سواء كان عند افتتاح الصلاة أو في خلال الصلاة لأنه التوجه إليها فرض عند القدرة وهذا قادر فيتوجه لقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 144) بخلاف راكب الدابة؛ لأنه عاجز عن استقبال القبلة؛ لأنه لو استقبلها حيث ما سارت له الدابة انقطع سير الدابة وفات مقصود راكبها، وفي ذلك حرج عليه، فجعل معذوراً في ترك الاستقبال إليها حتى أن راكب الدابة إن كان يسير نحو القبلة، فانحرفت عن القبلة لم تجز صلاته، كذا ذكر شمس الأئمة فلا يصير مقيماً بنية الإقامة فيها؛ لأن السفينة ليست بموضع قرار، ولا حتى بيت إقامة ولكنه يعد للانتقال والبحر موضع المخاوف قال النبي عليه السلام: «من ركب البحر إذا ارتج أو قال: ألتج أي موج يراوده فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله» ، فلا يكون هذا أقل حالاً من الذي ينوي الإقامة في المفازة وهناك لا يصير مقيماً فها هنا أولى، وكذلك صاحب السفينة، والملاح لا يصير مقيماً لأن محلته للإقامة لا تختلف بين المالك والملاح وغير ذلك.

قال شمس الأئمة والحاكم رحمهما الله في «شرحه» : وهذه المسألة شهدت لأبي حنيفة رحمه الله: فيمن ترك القيام في السفينة وصلى قاعداً تجوز صلاته، فيقول: كما لم يصر صاحب السفينة والملاح مقيماً فيها وإن أمكنه المقام فيها، فكذلك تجوز صلاة القاعد فيها وإن أمكنه القيام.
قال: إلا أن تكون السفينة تقرب من بلده أو قريبة، وأن تكون قريبة على الحد فحينئذٍ يكون مقيماً بإقامته الأصلية، فلا يجزىء أن يأتم رجل من أصل سفينة بإمام في سفينة أخرى لأن بينهما نهراً تجري فيه السفن، ولا خلاف بين أصحابنا أنه إذا كان بين الإمام والقوم نهر تجري فيه السفن لا يصح الاقتداء، إنما الاختلاف في نهر يمكن المشي في بطنه.
فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يمنع صحة الاقتداء، وعلى قول محمد رحمه الله: لا يمنع صحة الاقتداء، فإن كانت السفينتان مقرونتان، فحينئذٍ يصح الاقتداء؛ لأنه ليس

(2/60)


بينهما ما يمنع صحة الاقتداء، فكأنهما في سفينة واحدة؛ لأن في السفينتين المقرونتين في معنى ألواح سفينة واحدة، بخلاف ما إذا كانا على دابتين وإحدى الدابتين مربوطة بالأخرى حيث لا يصح الاقتداء؛ لأنهما لا يصيران كشيء واحد؛ لأن بينها طريق يمنع صحة الاقتداء، ألا ترى أنه لا يمكن تركيب إحدى الدابتين بالأخرى، ويمكن تركيب إحدى السفينتين بالأخرى بالخشب.
وكذلك من اقتدى على الحد بإمام في السفينة أو على العكس، فإنه ينظر إن كان بينهم طريق أو طائفة من النهر لم يجز الاقتداء، وإن كان على العكس يجوز الاقتداء لأن النهر والطريق مانع صحة الاقتداء.
هنا مسألة تركها صاحب «الكتاب» : وهو ما إذا وقف على الأطلال يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه إلا أن يكون أمام الإمام؛ لأن السفينة كالبيت (100ب1) واقتداء الواقف على السطح لمن هو في البيت صحيح، إذا لم يكن أمام الإمام فكذلك ها هنا.

ومن خاف فوت شيء من ماله وبيعه قطع صلاته، وهذا نحوه وإن كان قائماً على الحد يصلي فانقلبت السفينة حتى خاف عليهما الغرق.
ورأى سارقاً يسرق شيئاً من متاعه أو كان نازلاً عن دابته فانقلبت الدابة فخاف عليها الضياع، أو كان راعي غنم فخاف على غنمه من السبع فإن في هذه المواضع كلها له أن يقطع الصلاة، ويسد السفينة ويتبع السارق والدابة والسبع لأن حرمة المال كحرمة النفس، قال النبي عليه السلام: «قاتل دون مالك حتى تقتل أو تقتل، فتكون من شهداء الآخرة» وفي رواية «من شهداء الجنة» وكذلك إذا خاف على نفسه من سبع أو عدو.
وكذلك إذ رأى أعمى في حرف بئر فخاف أن يقع في البئر، فيقطع الصلاة بطريق الأولى؛ لأن حرمة النفس فوق حرمة المال، فلما جاز القطع لأجل المال، فلأجل النفس أولى، ولأن الله تعالى نهانا عن إلقاء النفس في التهلكة وإضاعة المال.
فلو قلنا: فإنه يمضي على صلاته يؤدي إلى إهلاك النفس وإضاعة المال من غير خلف، ولو قلنا بأنه يقطع الصلاة يمكنه قضاء الصلاة ووصل إلى ماله، فالقطع أولى، فإن لم يقطع صلاته، وفعل ذلك الفعل تفسد صلاته إن احتاج إلى عمل كثير، فأما إذا لم يحتج إلى عمل كثير يبني على صلاته، لما روينا من حديث أبي برزة رضي الله عنه أنه كان يصلي في بعض المغازي، فانسل قياد الفرس من يده، فمشى أمامه حتى أخذ قياد فرسه ثم رجع ناكصاً على عقبيه وأتم صلاته وتأويل هذا أنه لم يحتج إلى معالجة ومشي كثير، ثم لم يفصل في «الكتاب» بين المال القليل أو الكثير.

قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني والسرخسي رحمه الله: وأكثر مشايخنا رحمهم الله قدروا ذلك بالدرهم، فصاعداً، وقالوا: ما دون الدرهم حقير فلا يقطع الصلاة لأجله، قال الحسن رحمه الله: لعن الله الدانق ومن دنق الدانق، ولأن اسم

(2/61)


المال لا يقع على الدانق بدليل أنه إذا حلف، وقال بالله مالي مال وله دون الدرهم لا يحنث في يمينه فكذلك لا يقطع الصلاة لأجله.

قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: هذا قول حسن لولا ما ذكر في كتاب الحوالة والكفالة أن للطالب أن يحبس غريمه بالدانق فما فوقه، فلما جاز حبس مسلم بالدانق، فلأن يجوز قطع صلاة يمكنه قضاءها بالدوانق أولى.
قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: هذا إذا كان المال مال غيره فأما إذا كان المال ماله فإنه لا يقطع الصلاة ولا فصل في ظاهر الرواية، وهو الصحيح لما بينا والله تعالى أعلم بالصواب.

الفصل الخامس والعشرون في صلاة الجمعة
هذا الفصل مشتمل على أنواع:
الأولفي تبيين فرضية الجمعة، وفي بيان أصل الفرض يوم الجمعة
فنقول: صلاة الجمعة فريضة بالكتاب والسنّة، وإجماع الأمة، ونوع من المعنى.
أما الكتاب قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) والمراد من الذكر المذكور في الآية هو الخطبة بإجماع أهل التفسير؛ لأنه ليس بعد الأذان ذكر الله تعالى إلا الخطبة، فالاستدلال بالآية من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر للوجوب، وإذا وجب السعي إلى الخطبة التي هي شرط جواز الصلاة، فإن أصل الصلاة أوجب.
والثاني: أن الله تعالى أمر بترك البيع المباح بعد النداء وتحريم المباح لا يكون إلا لأمر واجب.
وأما السنّة حديث جابر رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله عليه السلام يوم الجمعة فقال في خطبته: «أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا» إلى أن قال: «واعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا فريضة واجبة في حياتي وبعد مماتي إلى يوم القيامة فمن تركها عن غير عذر تهاوناً واستخفافاً وله إمام جائر أو عادل ألا فلا بارك الله له ألا فلا جمع الله شمله ألا فلا صلاة له ألا فلا زكاة له ألا فلا صوم له ألا فلا حج له إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه» ، وروي عن النبي عليه السلام أيضاً أنه قال: «من ترك

(2/62)


الجمعة من غير عذر ثلاثاً، فهو منافق» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من ترك أربع جمع متواليات من غير عذر، فقد نبذ الإسلام وراء ظهره» .
وأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على فرضية الجمعة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا.
وأما المعنى فلأنا أمرنا بترك الظهر لإقامة الجمعة، والظهر فريضة ولا يجوز ترك الفرض إلا لفرضٍ هو آكد وأولى منه، فدل وجوب ترك الظهر لإقامة الجمعة على أن الجمعة أوجب وأقوى وآكد من الظهر في الفرضية، هذا بيان فرضيتها.
وأما بيان أصل الفرض في هذا الوقت، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: أصل الفرض الظهر إلا أنه إذا أدى الجمعة يسقط الظهر عنه، وقال بعضهم: أصل الفرض الجمعة، وقال بعضهم: الفرض أحدهما إلا أن الجمعة أفرضهما، وقال بعضهم: على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أصل الفرض في هذا الوقت هو الظهر، وقد أمر بإسقاطه بالجمعة.
وقال محمد رحمه الله: الفرض هو الجمعة وله أن يسقط الجمعة بأداء الظهر، ولمحمد رحمه الله في «النوادر» قول آخر: أن الفرض أحدهما ويتعين بفعل آخر، وقال زفر رحمه الله: الفرض هو الجمعة على اليقين، الظهر بدل عنه إذا فاتت.

وإنما قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله: إن أصل الفرض الظهر؛ لأن أصل الفرض في حق كل أحد ما يتمكن من أدائه بنفسه، وهو إنما يتمكن من أداء الظهر بنفسه، إما ما يتمكن بأداء الجمعة، ولأنا لو جعلنا أصل الفرض الجمعة كان الظهر خلفاً عن الجمعة عند فواتها، وأربع ركعات لا تكون خلفاً عن ركعتين، ولأن الظهر كان مشروعاً في هذا الوقت قبل شروع الجمعة، لو انتسخ شرعيته إنما تنسخ معوضاً بشرعية الجمعة، وليس من ضرورة شرع الجمعة انتساخ الظهر إذا وجمع الشرع بينهما كان مستقيماً، والدليل عليه أنه شرع في حق العبد والمريض والمسافر، حتى لو أدوا الجمعة جاز وبقي الظهر مشروعاً في حقهم، حتى لو صلى الظهر يجوز، فلو كان بينهما منافاة ما اجتمعا.
وثمرة الاختلاف مع زفر تظهر في فصلين:
أحدهما: أنه إذا صلى الظهر قبل أداء الناس الجمعة في منزله لم يعتد به في قول زفر؛ لأن الفرض هو الجمعة والظهر بدل عنها، ولا صحة للبدل مع القدرة على اتحاد الأصل، وعندهما لما كانت فرضية الظهر باقية مشروعة وقع موقعه.
الفصل الثاني: أن المعذور من المريض والمسافر والعبد إذا أدى الظهر في منزله ثم

(2/63)


سعى إلى الجمعة انتقض الظهر، وقال زفر: لا ينتقض؛ لأن فرضية الجمعة لم تظهر في حقه، فوقع الظهر موقع الفرض فسقط الفرض، فلا ينتقض بعد ذلك.
ولنا: أن فرضية الظهر لم تنسخ في حق المعذور، وغير المعذور أمر بإسقاط الفرض بأداء الجمعة، فإذا سعى إلى الجمعة صار ممتثلاً للأمر، فاستدعى انتقاض الظهر فإذا عرفنا هذا في غير المعذور.
نقول: إنما فارق المعذور غير المعذور في حق الترخيص على معنى أنه رخص له لذلك يترك الظهر بأداء الجمعة، فإذا لم يترخص صار هو وغير المعذور سواء، فيستدعي انتقاض الظهر في حقه كما لو حضر قبل أداء الظهر، وأدى الجمعة صار تاركاً للظهر بأداء الجمعة كغير المعذور.
وثمرة الاختلاف الذي ذكرنا مع محمد رحمه الله تظهر في مسألة أخرى، وهي أنه إذا تذكر الفجر في خلال الجمعة وهو يخاف إن اشتغل بأدائها أن تفوته الجمعة ولا تفوته الظهر، قال محمد رحمه الله: يتم الجمعة؛ لأن فرض الوقت هو الجمعة، فإذا خاف فوت فرض الوقت اشتغل به وعندهما فرضية الظهر فيه وأمر بإسقاطه بأداء الجمعة، فإذا لم يخف فوت فرض الوقت تعين مراعاة الترتيب فرضاً عليه.
وهذه المسألة في الحاصل على ثلاثة أوجه: إن كان الوقت بحال لو اشتغل بالفائتة يخرج الوقت مضى في الجمعة عند الكل؛ لأن الترتيب سقط عند ضيق الوقت وإن كان في الوقت سعة، بحيث يعلم أنه لو اشتغل بالفائتة لا تفوته الجمعة بقطع الجمعة في قولهم ويقضي الفائتة.
وإن علم أنه لو اشتغل بالفائتة تفوته لكن يمكنه أداء الظهر، فالمسألة على الخلاف على قول (101أ1) أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله يقطع الجمعة، ويصلي الفائتة ثم يصلي الظهر في آخر الوقت، وقال محمد: يمضي ويصلي في الجمعة والله أعلم.
النوع الثاني في بيان شرائط الجمعة وما يتصل من المسائل بها
فنقول: للجمعة شرائط بعضها في نفس المصلي، وبعضها في غيره، أما الشرائط التي في غير المصلي فستة:
أحدها: المصر وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: المصر ليس بشرط وكل قرية سكنها أربعون من الأحرار البالغين لا يظعنون عنها شتاءً ولا صيفاً تقام لها الجمعة.

حجته في ذلك: قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) من غير فصل وقوله عليه السلام: «الجمعة على من سمع النداء» من غير فصل، وعن ابن عباس

(2/64)


رضي الله عنهما قال: «أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة جمعة جمعت بجواثا» وجواثا قرية من قرى عامر بن القيس بالجرين.

ولنا: حديث علي رضي الله عنه موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» ، وروى سراقة بن مالك عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا جمعة ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» ، ولأن إقامة الجمعة، وهي ركعتان مقام الظهر وهي أربع ركعات أمر عرف شرعاً بخلاف القياس فيراعى فيه جميع الشرائط التي اعتبرها الشرع، والشرع اعتبر المصر، فإن النبي عليه السلام أقامها بمدينة، ولم ينقل أنه أقامها في حوالي مدينة، وفي تسميتها جمعة دليل على أن المصر شرط فإنما تسمى جمعة؛ لأنها جامعة للجماعات حتى وجب بنداء الجماعات يوم الجمعة.
وفي قرية يسكنها أربعون رجلاً لا يتصور جمع الجماعات، فإن جماعتهم واحدة، والآية لا حجة له فيها؛ لأن المكان مضمر فيه بالإجماع حتى لا يجوز إقامة الجمعة في البوادي بالإجماع، فنحن نضمر المصر وهو يضمر القرية، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قلنا: جواثي بلدة كبيرة وتسميتها قرية لا ينافي كونها بلدة؛ لأن اسم القرية ينطلق على البلدة قال الله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَهُمْ فَلاَ نَصِرَ لَهُمْ} (محمد: 13) والمراد مكة وهي بلدة.

وإذا ثبت أن المصر شرط لإقامة الجمعة نحتاج إلى بيان حد المصر الذي تقام فيه الجمعة، وقد تكلموا فيه على أقوال: روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المصر الجامع ما يجتمع فيه مرافق أهلها ديناً ودنياً، وعن أبي يوسف رحمه الله ثلاث روايات، في رواية قال: كل موضع فيه منبر وقاضي ينفذ الأحكام ويقيم الحدود فهو مصر جامع، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه كل موضع أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ذلك فهو مصر جامع، وفي رواية أخرى قال: كل موضع يسكن فيه عشرة آلاف نفر، فهو مصر جامع.
ومن العلماء من قال: المصر الجامع ما يعيش فيه كل صانع لصنعته، ولا يحتاج إلى العود من صنعة إلى صنعة، وعن محمد رحمه الله أنه قال: كل موضع مصر للإمام فهو مصر حتى أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائباً لإقامة الحدود فيهم وقاضياً يقضي بينهم صار ذلك الموضع مصراً، وإذا عزله ودعاه إلى نفسه عادت قرية كما كانت، وقال بعض العلماء: كل مصر بلغت مساحته مصراً جمع فيه رسول الله عليه السلام، فهو مصر جامع.
ومن العلماء من قال: كل موضع كان لأهله من القوة والشوكة، ما لو توجه إليهم

(2/65)


عدو دفعوه عن نفسهم، فهو مصر جامع.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: المصر الجامع ما يعده الناس مصراً عند ذكر الأمصار المطلقة كبخارى أو سمرقند، فعلى هذا القول لا يجوز إقامة الجمعة بكرمينة وكثانية.

قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وظاهر المذهب أن المصر الجامع أن يكون فيه جماعات الناس، وجامع وأسواق للتجارات وسلطان أو قاضي يقيم الحدود، وينفذ الأحكام، ويكون فيه مفتي إذا لم يكن الوالي أو السلطان مفتياً، ثم في كل موضع وقع الشك في كونه مصر أو أقام أهل ذلك الموضع الجمعة بشرائطها، فينبغي لأهل ذلك الموضع أن يصلوا بعد الجمعة أربع ركعات وينوون بها الظهر احتياطاً، حتى أنه لو لم تقع الجمعة موقعها يخرجون عن عهدة فرض الوقت بأداء الظهر بيقين.

ولا بأس بالجمعة في موضعين أو ثلاثة من مصر واحد عند محمد، وأجاز أبو يوسف في موضعين دون الثلاث، وفي رواية «الأمالي» : أجاز في موضعين إذا كان مصراً له جانبان بينهما نهر عظيم حتى يصير في حكم مصرين كبغداد، فإن لم يكن المصر بهذه الصفة فالجمعة لمن سبق منهم بأدائها فإن فعلوا معاً، فسدت صلاتهم جميعاً وكما يجوز إقامة الجمعة في المصر يجوز إقامتها خارج المصر قريباً منه نحو مصلى العيد؛ لأن مصلى العيد أبداً يكون في فناء المصر، وفناء المصر ألحق بالمصر فيما كان من حوائج أهل المصر وأداء الجمعة من حوائج أهل المصر، فيلحق بالمصر في أداء الجمعة، هكذا ذكر المسألة في «شرح القدوري» .
وفي «فتاوى أبي الليث رحمه الله» : شرط الفناء نصاً، فقال: ويجوز إقامة الجمعة خارج المصر إذا كان في فناء المصر، وفي «نوادر الصلاة» لو أن الأمير خرج للاستسقاء يدعو، وخرح معه ناس كثير فحضرت الجمعة فصلى بهم الجمعة في الجبانة على قدر غلوة من المصر أجزأهم، لأنه فناء المصر ولفناء المصر حكم المصر.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: اختلف الناس في تقدير فناء المصر فقدرة محمد في «النوادر» بالغلوة وفارسيته (يك تيربرتاو) ، وقدره بعض المشايخ بفرسخين، وبعضهم بثلاثة أميال كل ميل ثلث فرسخ.

وبعضهم بمنتهى حد الصوت، إذا صاح في المصر إنسان أو أذن مؤذنهم لمنتهى صوته فناء المصر، فيجوز أداء الجمعة فيه، وما وراءه ليس فناء المصر، فلا يجوز أداء الجمعة فيه، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: قدر الفناء بالغلوة اتباعاً لما ذكره محمد في «النوادر» ، وقدر أبو يوسف رحمه الله الفناء بميل أو ميلين، فإنه روي عنه: لو أن إماماً خرج من المصر مع أهل المصر لحاجة له قدر ميل أو ميلين، فحضرته الجمعة فصلى بهم الجمعة أجزأه، وهذا بخلاف ما لو خرج المسافر عن عمران المصر حيث يقصر الصلاة؛ لأن فناء المصر إنما يلحق بالمصر فيما كان من حوائج أهل

(2/66)


المصر، وقصر الصلاة ليس من حوائج أهل المصر، فلا يلحق الفناء بالمصر في حق هذا الحكم.
وذكر في «فتاوى أبي الليث» : أن على قول أبي بكر لا تجوز الجمعة خارج المصر إذا كان ذلك الموضع منقطعاً عن العمران، وكان الفقيه أبو الليث يقول: بالجواز في فناء المصر، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقد قال بعضهم: يجب أن يكون على الاختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إقامة الجمعة في فناء المصر وعلى قول محمد: لا يجوز بناءً على اختلافهم في الجمعة بمنى ويجوز أن يكون هذا بلا خلاف بينهم من قبل أن محمداً إنما لم يجوز الجمعة بمنى؛ لأنه قرية ليس له حكم المصر فأما لفناء المصر حكم المصر.
وقيل: إنما يجوز إقامة الجمعة في فناء المصر إذا لم يكن بينه مزارع، فعلى قول هذا القائل لا يجوز إقامة الجمعة ببخارى في مصلى العيد، وقد وقعت هذه المسألة مرة وأفتى بعض المفتين بعدم الجواز، ولكن هذا ليس بصواب فإن أحداً من الأئمة لم يقل بعدم جواز صلاة العيد في مصلى العيد ببخارى لا من المتقدمين، ولا من المتأخرين وكما أن المصر أو فنائه شرط جواز الجمعة، فهو شرط جواز صلاة العيد ويجوز إقامة الجمعة بمنى في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله.

وقال محمد رحمه الله: لا جمعة بمنى أجمع العلماء على أنه لا جمعة بعرفات لأنه مفازة وليست بمصر، وليست من أفنية المصر؛ لأن بينها وبين مكة أربع فراسخ، وإنما تقام الجمعة إما في المصر أو في فناء المصر، وأما بمنى محمد رحمه الله يقول: فإنه ليس بمصر والمصر شرط، وهما يقولان: إن منى مصر في أيام الموسم، فإن لها أبنية.
قيل: إنه ثلاث سكك وتنقل إليها الأسواق في أيام الموسم، فيصير مصراً، أكثر ما في الباب أنه لا يبقى مصراً بعد ذلك لكن بناؤه مصراً ليس بشرط بخلاف عرفات، فإنه ليس بمصر فإنه لا أبنية له، ومن المشايخ من قال: إن عندهما إنما يجوز أداء الجمعة بمنى؛ لأنها من أفنية مكة وهذا فاسد، إلا على قول من يقدر فناء المصر بفرسخين؛ لأن بينهما فرسخان.
وقال محمد رحمه الله (101ب1) في «الأصل» : إذا نوى الإقامة بمكة وبمنى خمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً، فعلم أنهما موضعان إنما الصحيح ما قلنا: لا يصلي بمنى صلاة العيد بالاتفاق، لا لعدم المصرية بل لاشتغال الحاج بأعمال المناسك في ذلك اليوم، فوضع عنهم صلاة العيد بخلاف الجمعة؛ لأنه لا يتفق كل سنة في يوم الجمعة في إقامة الرمي بمنى بخلاف صلاة العيد؛ لأنها لو شرعت كانت في كل سنة، وإنما تجوز الجمعة بمنى عندهما إذا كان فيها أمير مكة أو أمير الحجاز أو الخليفة، أو أمير الموسم فإن استعمل على مكة يقيم الجمعة بمنى عندهما أيضاً، وإن لم يستعمل على مكة إنما استعمل على الموسم لا غير، فإن كان من أهل مكة يقيم الجمعة بمنى عندهما أيضاً، وإن لم يكن من أهل مكة لا يقيم الجمعة عندهما أيضاً.

وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله قال على مذهب أبي حنيفة رحمه الله: إذا

(2/67)


جمع أمير الموسم بهم وهو مسافر بمكة قال يجزئه، وإن صلى بهم بمنى لا يجزئه ليس له حق إقامة الجمعة، ثم في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله لا يذهب شهود الجمعة، إلا على من يسكن المصر والأرباض المتصلة بالمصر حتى لا تجب على أهل السواد أن يشهدوا الجمعة سواء كان السواد قريباً من المصر أو بعيداً عنه.
وعن محمد رحمه الله: أنه إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال، فعليه الجمعة وإن كان أكثر من ذلك، فلا جمعة عليه وعنه في رواية «نوادر» أخرى أنه إذا كان بينه وبين أهل المصر أقل من فرسخين فعليه أن يشهد الجمعة، وإن كان أكثر من ذلك فلا، وعنه في رواية أخرى أن في كل موضع لو خرح الإمام إلى ذلك الموضع وأقام الجمعة فيه جاز جمعته، وعد مجمعاً في المصر فعلى أهل ذلك الموضع الرواح إلى الجمعة، وكل موضع لو خرج الإمام إليه وجمع فيه لم يعد مجمعاً في المصر، فلا جمعة عليه.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا كان بينه وبين المصر فرسخ أو فرسخان، فعليه أن يشهد الجمعة، وعنه أيضاً: أنه إذا كان بحيث لو غدا وشهد الجمعة أمكنه الرجوع إلى منزله قبل أن يؤتيه الليل، لزمه أن يشهد الجمعة، وكثير من المشايخ أخذوا بهذه الرواية.
وجه ما ذكر في هذه ظاهر الرواية أن النبي عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين كانوا لا يأمرون أهل السواد القريبة بالحضور إلى الجمعة؛ إذ لو أمروا لاشتهر واستفاض، والمعنى فيه أن المسافر الذي في المصر لا يجب عليه حضور الجمعة لاشتغاله بأمور السفر نفياً للحرج، والحرج الذي يلحق القروي بدخول المصر أكبر من حرج المسافر فيسقط عن القروي بطريق الأولى.

وروى الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أن من كان مقيماً في عمران المصر وأطرافه، وليس بين مكانه وبين المصر فرجة فعليه الجمعة، ولو كان بين ذلك الموضع وبين عمران المصر فرجة من المزارع والمراعي لا جمعة على أهل ذلك الموضع، وإن كان النداء يبلغهم، والغلوة والميل والأميال ليست بشيء. هذا جملة ما روى الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، وبه كان يفتي شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وكان يقول: لا جمعة على أهل القلع ببخارى.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: لو أن أهل مدينة حضرهم جند من أهل الشرك، فأحاطوا بالمدينة، فخرجوا إليهم من مدينتهم وعسكروا على ميلين أو ثلاثة لا يريدون سفراً فعليهم الجمعة في عسكرهم، وكأنه أعط للمكان الذي نزلوا فيه وهو على قدر ميلين أو ثلاثة حكم المصر.
والشرط الثاني: السلطان، أو نائبه من الأمير أو القاضي، هذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: السلطان ليس بشرط، حجته في ذلك ما روي: أن عثمان رضي الله عنه حين كان محصوراً صلى علي رضي الله عنه الجمعة بالناس ولم يرو أنه صلى بأمر عثمان رضي الله عنه؛ ولأنها مكتوبة كسائر الصلوات، فلا يشترط لإقامتها السلطان كسائر الصلوت.

(2/68)


ولنا: قوله عليه السلام: «أربع إلى الولاة» وذكر من جملتها «الجمعة والعيدين» ، وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: «من تركها استخفافاً بها والإمام عادل أو جائر» ألحق الوعيد الشديد بترك الجمعة بشرط أن يكون له إمام، والمراد به السلطان؛ لأنه وصفه بالعدل أو الجور، وذا إنما يتحقق من السلطان، ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرف شرعاً بخلاف القياس فيراعى جميع ما ورد به النص والنص ورد بإقامتها من السلطان؛ ولأن الناس يتركون الجماعة هذا اليوم لإقامة الجمعة.

فلو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع، فيقيمونها لفرض لهم وتفوت على غيرهم وفيه من الفتنة ما لا يخفى، فيجعل مفوضاً إلى الإمام الذي فوض إليه أحوال الناس والعدل بينهم؛ لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة والاحتجاج بحديث علي رضي الله عنه لا يصح لأنه يحتمل أنه فعل ذلك بإذن عثمان رضي الله عنه، فلا يصح الاحتجاج به مع الاحتمال أو إن فعل بغير إذنه وإنما يفعل أن الناس اجتمعوا عليه وعند ذلك يجوز لما نبين إن شاء الله تعالى.
وقوله: بأن هذه صلاة مكتوبة كسائر الصلوات، قلنا: نعم هذه مكتوبة إما ليست كسائر الصلوات فإنه يشترط لها من الشرائط ما لا يشترط كسائر الصلوات، بل هي صلاة عرف لها من النص فتعرف شرائطها من النص، لا في سائر المكتوبات.
وإذا ثبت أن السلطان شرط يتفرع على هذا مسائل:
أحدها: ما ذكر في «الأصل» : أن رجلاً من عرض الناس لو صلى الجمعة بالناس بغير إذن الإمام أو خليفته أو صاحب شرطة أو القاضي لا يجزئهم لفوات شرطها فقد جمع في هذه المسألة بين الإمام وخليفته وصاحب شرطة والقاضي، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة بناءً على عرف زمانهم، فإن في زمنهم صاحب شرطة والقاضي كل واحد منهما كان مولياً أمر السياسة وإقامة الجمعة، أما في زماننا القاضي وصاحب الشرطة لا يوليان ذلك.
وفي «نوادر بشر» أبي يوسف رحمهما الله: أن لصاحب الشرطة أن يصلي الجمعة بالقوم وإن لم يخرج الأمير، ولا يصلي بهم القاضي إذا لم يخرج الأمير، وعن أبي يوسف أيضاً أنه قال: أما القوم، فالقاضي يصلي بهم الجمعة؛ لأن الخلفاء يأمرون القضاة أن يصلوا بالناس الجمعة.
قيل: أراد بهذا قاضي القضاة الذي يشهد له أنه قاضي الشرق والغرب كأبي يوسف في وقته، فأما في زماننا القاضي، وصاحب الشرطة لا يوليان ذلك.

والي مصر مات، ولم يبلغ موته الخليفة حتى مضت بهم جمع، فإن صلى بهم خليفة الميت أو صاحب الشرطة أو القاضي جاز؛ لأنه فوض إليهم أمر العامة، هكذا ذكر في

(2/69)


«العيون» ، وهذا الجواب في حق القاضي وصاحب الشرطة بناءً على عرف زمانهم على ما بينا.
ولو اجتمعت العامة على أن يقدموا رجلاً مع قيام واحد من هؤلاء الذين ذكرنا من غير أمرهم لم يجز؛ لأنه لم يفوض إليهم أمورهم إلا إذا لم يكن ثمة قاضي ولا خليفة الميت بأن كان الكل هو الميت حينئذٍ، جاز لضرورة.
ألا ترى أن علياً رضي الله عنه صلى بالناس يوم الجمعة وعثمان رضي الله عنه محصور؛ لأن الناس اجتمعوا على علي رضي الله عنه، فقد جمع في هذه المسألة أيضاً بين القاضي وخليفة الميت، والجواب في حق القاضي بناءً على عرف زمانهم على ما ذكرنا.
إبراهيم عن محمد رحمهما الله، أنه إذا خطب الأمير ثم أحدث ولم يقدم أحداً فتقدم عامل له لم يجز، ولا يجوز أن يقدم أحداً إلا أحد هؤلاء الثلاثة صاحب الشرطة أو القاضي أو الذي ولاه القاضي.
والحاصل: أن حق التقدم في إقامة الجمعة حق الخليفة إلا أنه لا يقدر على إقامة هذا الحق بنفسه، في كل الأمصار، فيقيمها غيره بنيابته، والسابق في هذه النيابة في كل بلدة الأمير الذي ولي على تلك البلدة ثم الشرطي ثم القاضي ويريد به قاضي القضاة، ثم الذي ولاه قاضي القضاة، وتجوز صلاة الجمعة خلف المتغلب الذي لا عهد له أي لا منشور له من الخليفة إذا كانت سيرته في رعيته حسنه، لأمر الحكم فيما بين رعيته بحكم الولاية؛ لأن بهذه ثبتت السلطنة، فيتحقق الشرط.

الشرط الثالث: الوقت يعني به وقت الظهر، حتى لا يجوز تقديمها على الزوال ولا بعد خروج الوقت، والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام لما بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة قبل هجرته قال له: «إذا مالت الشمس، فصل بالناس الجمعة» وكتب إلى سعد بن زرارة «إذا زالت الشمس من اليوم الذي تتجهز فيه اليهود لسبتها، فازدلف إلى الله تعالى بركعتين» ، ولأن الجمعة أقيمت مقام الظهر، فيشترط أداؤها في وقت الظهر، حتى لو خرج وقت الظهر في خلال الصلاة تفسد الجمعة، وإن خرج بعد ما قعد قدر التشهد، فكذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا تفسد ولو خرج بعد السلام لا تفسد بالإجماع، ثم إذا خرج وقت الظهر في خلال الصلاة حتى فسدت الجمعة يبقى أصل الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وعند محمد رحمه الله: تبطل التحريمة، ولا يبقى أصل الصلاة، وهذا بناءً على أصل معروف تقدم ذكره أن للصلاة جهتان عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله الفرضية وأصل الصلاة، فإذا بطلت صفة الفرضية يبقى أصل الصلاة، وعند محمد

(2/70)


رحمه الله للصلاة جهة واحدة وهو الفرضية، فإذا بطلت الفرضية بطل أصل الصلاة.
وفي «فتاوى الفضلي» : المقتدي إذا نام في صلاة الجمعة ولم ينتبه حتى خرج الوقت، فسدت صلاته؛ لأنه لو أتمها كان قضاء، وقضاء الجمعة لا يجوز، ولو انتبه بعد فراغ الإمام والوقت قائم أتمها جمعة؛ لأنه يصير مؤدياً الفرض في الوقت.
الشرط الرابع: الجماعة؛ لظاهر قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) فهذا خطاب للجماعة، ولأنها سميت جمعة وفي هذا الاسم ما يدل على اعتبار الجماعة فيها.
ثم إن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيما بينهم في تقدير الجماعة، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يتم بثلاثة نفر سوى الإمام، وعن أبي يوسف رحمه الله: في غير رواية الأصول اثنان سوى الإمام، وقال الشافعي رحمه الله: لا تنعقد الجمعة إلا بأربعين رجلاً من الأحرار المقيمين سوى الإمام.
حجة الشافعي: ما روي أن أول جمعة أقيمت في الإسلام كانوا أربعين رجلاً، وكان رسول الله عليه السلام ينتظر اجتماع الأربعين فلو كانت تنعقد بدون الأربعين لكان لا ينتظر اجتماع الأربعين، ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر أمر عرف بخلاف القياس، فلا يقوم مقامها إلا بالشرائط التي ورد بها النص، ولم ينقل أن النبي عليه السلام أقام الجمعة بثلاثة نفر من الرجال وقد نقل أنه أقامها بأكثر من ثلاثة نفر فقدرنا الأكثر بأربعين بما روينا من الحديث.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: للمثنى حكم الجماعة حقيقة وحكماً، أما حقيقة، فلأن الجماعة مشتقة من الاجتماع وذلك يتحقق بالمثنى وأما حكماً، فلأن الجماعة الإمام يتقدم عليهما، وذلك من أحكام الجماعة وربما كان يقول إذا كان سوى الإمام إثنان يكون مع الإمام ثلاثة، والثلاث جمع متفق عليه.

ولنا: قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) الآية، فالمنادي كأنه خارج عن خطاب الشرع كذلك الذاكر، وهو الإمام خارج عن خطاب السعي أيضاً، فيكون قوله: «فاسعوا» خطاب جمع الذين يسمعون النداء، فتناول هذا الخطاب كل جمع، وأقل الجمع المتفق عليه الثلاثة، فإذا أجاب المنادي ثلاثة من الناس وسعوا إلى الجمعة، وأقاموها جاز لظاهر الآية، وما قاله الشافعي: باطل لما روي أنه لما نفر الناس في اليوم الذي دخل فيه العير المدينة، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ} (الجمعة: 11) ، بقي مع رسول الله عليه السلام إثني عشر رجلاً، فصلى بهم الجمعة وقد روى الزهري: أن النبي عليه السلام بعث مصعب بن عمير أميراً إلى المدينة ثم كتب إليه أن أقم بهم الجمعة، فأقام بهم الجمعة وكانوا اثني عشر نفساً ولا حجة له في الحديث الذي روي إذ فيه أنه أقام

(2/71)


بأربعين وما دونه مسكوتٌ عنه على أنه روي أنهم كانوا أقل من أربعين.
وقول أبي يوسف رحمه الله: إن للمثنى حكم الجماعة فاسد؛ لأن ما دون الثلاث ليس بجمع مطلق بدليل أن أهل اللغة، فصلوا بين التثنية والجمع، والجمع والشرط هو الجماعة المطلقة، وقوله الثاني أنه إذا كان مع الإمام إثنان كان مع الإمام جماعة فاسد؛ لأن الإمام شرط للجواز سوى الجماعة، فإن كل واحد منهما شرط على حدة، ولا يعتبر الإمام مع القوم في الجماعة بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الإمام في سائر الصلوات ليس بشرط.

وكذلك الجماعة، فأمكننا أن نعد الإمام من القوم ثم يشترط في الثلاثة أن يكونوا بحيث يصلحون للإمامة في صلاة الجمعة، حتى أن نصاب الجمعة لا يتم بالنساء والصبيان، ويتم بالعبيد والمسافرين؛ لأنهم يصلحون للإمامة، ولا شك أن درجة الإمامة أعلى من درجة الاقتداء، فإذا لم يشترط الحرية والإقامة في الإمامة الذي هو أعلى، فلأن لا يشترط في الاقتداء الذي هو أدنى وفي كونه مؤتماً كان ذلك أولى وأحرى وهذا مذهبنا.
وقال زفر رحمه الله: لا تجوز إمامة العبد والمسافر في صلاة الجمعة لأنه لا تفترض عليهما الجمعة وإنما تصح منهما الأداء بطريق التبعية، فلا يجوز أن يكون أصيلاً بالإمامة وصار كالمرأة والصبي.
ولنا: أن العبد والمسافر صلحاً إمامين في سائر الصلوات فكذا في الجمعة وامتناع الفرضية ليس لعدم الأهلية، بل لعذر رخص الشرع الترك لأجله على ما مر، فإذا حضر وأدى وقع عن الفرض، وبه فارق الصبي والمرأة فإن الصبي ليس بأهل لأداء الفرض وكذا المرأة ليست بأهل للأداء بهذا الفرض؛ لأن مبناها على الاستتار، وفيما بني على الاستتار المرأة لم تؤهل، فإذا ظهر الكلام في جواز إمامتها، ففي انعقاد الجمعة باقتدائهما يكون أظهر، وقد صح أن رسول الله عليه السلام أقام الجمعة بمكة، وهو مسافر حتى قال: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر» .
ومما يتصل بهذا الشرط من المسائل
ما ذكر في «الجامع الصغير» : فقال: إذا نفر الناس بعدما خطب الإمام فهذا على وجهين: إما أن ينفروا قبل الشروع في الصلاة أو بعد الشرع فيها.

فإن نفروا قبل الشروع فيها إن نفر الكل فالإمام يصلي بهم الظهر؛ لأن الجماعة شرط ولم تبق الجماعة وقت افتتاح الصلاة وإن نفر البعض إن كان الباقي سوى الإمام ثلاثة صلى الجمعة عندنا؛ خلافاً للشافعي؛ وإن كان الباقي اثنان سوى الإمام صلى الظهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصول» :

(2/72)


أنه يصلي الجمعة؛ لأنا نجعل من ذهب من القوم كأنه لم يحضر من الابتداء غير هؤلاء كان الجواب كما قلنا، فهنا كذلك، وإن لم يبق مع الإمام إلا عبيد ومسافرون صلى بهم الجمعة عند علمائنا رحمهم الله على ما مر.
وإن نفروا بعد الشروع في الصلاة إن صلى الإمام من الجمعة ركعة أتم الجمعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر يصلي الظهر، وإن لم يقيد الركعة بالسجدة حتى نفروا صلى الظهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يتم الجمعة.
فالأصل عند زفر: أن الجماعة شرط من أول الجمعة إلى آخرها كالطهارة والوقت، وهو القياس؛ لأن شرط الشيء يعتبر من أوله إلى آخره، وإنه ليس بصحيح، لأن شرط الشيء ما في وسع الإنسان، وإمكانه وليس في وسع الإمام وإمكانه إبقاء الجمع مع نفسه في جميع الصلاة، فلا يشترط ذلك.
والأصل عندهما: أن الجماعة شرط وقت الشروع في الصلاة؛ لأن الجماعة إذا وجدت حالة الشروع تنعقد التحريمة للجمعة بوصف الصحة، فجاز أن يتمها جمعة كما إذا نفروا بعدما قيد الركعة بالسجدة، وليس كما إذا نفروا قبل الشروع؛ لأن هناك تحريمته لم تنعقد للجمعة، فكيف يتمها جمعة.

والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله: أن الجماعة شرط في ركعة تامة؛ لأن ما دون الركعة معتبر من وجه دون وجه، معتبره من وجه، فإنه إذا تحرم ثم قطع يلزمه القضاء، وغير معتبرة من وجه، فإنه إذا أدرك الإمام في السجود لا يصير مدركاً للركعة وإذا حلف لا يصلي، فافتتح الصلاة وقرأ وركع ثم قطع لا يحنث في يمينه، وصلاة الجمعة تغيرت من الظهر إلى الجمعة، فلا يتغير إلا بيقين ولا يقين إلا وأن توجد ركعة معتبرة من جميع الوجوه.
وإذا كبر الإمام للجمعة والقوم حضور لم يشرعوا معه ثم شرعوا بعد ذلك، ذكر في «الأصل» : أنهم إذا كبروا قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع صحت الجمعة، وإلا استقبلها ولم يذكر في الأصل خلافاً، وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله جعل هذا قول محمد وذكر، وقال أبو حنيفة: إن كبر قبل أن يقرأ الإمام آية قصيرة صحت الجمعة وإلا استقبلها.
وقال أبو يوسف: إن كبروا قبل أن يقرأ الإمام ثلاث آيات قصار أو آية طويلة صحت الجمعة وإلا استقبلها، وإن كبروا قبل أن يشرع الإمام في القراءة صحت الجمعة بالاتفاق، ولو خطب والقوم حضور وشرعوا في الصلاة (102ب1) ثم أحدث القوم فخرجوا فدخل آخرون لم يسمعوا الخطبة، ودخلوا في صلاته جاز؛ لأن الخطبة والافتتاح حصل مع الجمع، ولو ظهر أن الأولون لم يكونوا على وضوء فكبر الإمام ثم دخل آخرون هم على الوضوء استقبل بهم التكبير؛ لأن الشروع ما حصل مع الجمع والله أعلم.
والشرط الخامس: الخطبة حتى لو صلوا من غير خطبة أو خطب الإمام قبل الوقت لا يجوز، والأصل فيه قول الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ

(2/73)


فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) والمراد منه الخطبة، فقد أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر بالسعي إليها دليل على وجوبها؛ ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرفت شرعاً بخلاف القياس، والشرع ما جاء بها إلا مقيداً بالخطبة، فإن النبي عليه السلام ما أقامها في عجزه من غير خطبة.
وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: الخطبة تقوم مقام ركعتين، ولهذا لا يجوز إلا بعد دخول وقت الجمعة، وفي حديث ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، «إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة» دليل على أن الخطبة شطر الصلاة، وهذا ليس بصحيح بدليل أن الإمام لا يستقبل القبلة عند الخطبة، ولا يقطعها الكلام ويعتد بها إذا أداها وهو محدث أو جنب على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
وإذا ثبت أن الخطبة شرط يتفرع على هذا مسائل؛ إذا خطب الخطيب وحده جاز على قول أبي حنيفة وعلى قولهما لا يجوز، ذكر الخلاف على هذا الوجه في «متفرقات الفقيه أبي جعفر» ، ورأيت في موضع آخر أن عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل روايتان.
وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف إذا خطب يوم الجمعة ونفر الناس عنه، ثم رجعوا صلى بهم الجمعة، ولو لم يرجعوا وجاء قوم آخرون لا يصلي بهم الجمعة إلا أن يعيد الخطبة، وفي ظاهر الرواية يصلي بهم الجمعة من غير أن يعيد الخطبة.
ولو خطب والقوم حضور إلا أنهم محدثون، أو كانوا جنباً فذهبوا وتوضؤوا ثم رجعوا وصلى بهم الجمعة جاز، ولو خطب وهناك رجال من بعيد لم يسمعوا الخطبة جاز، ولو خطب بالفارسية جاز عند أبي حنيفة على كل حال.

وروى بشر عن أبي يوسف: أنه إذا خطب بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزئه إلا أن يكون ذكر الله في ذلك العربية في حرف أو أكثر من قبل أنه يجزىء في الخطبة ذكر الله، وما زاد فهو فضل.
قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف قوله المشهور، وإذا خطب الإمام في الجمعة قبل الزوال وصلى بعد الزوال لا يجوز، فإنه شرعت الخطبة شرطاً للجواز، والشرائط تكون مقدمة على المشروط إلا أنها شرط بمنزلة الركعتين وهو الشفع الثاني، وكما لا يجوز إقامة الشفع الثاني قبل الخطبة فكذا الخطبة، ولو خطب صبي يوم الجمعة وله منشور الوالي، وصلى بالناس بالغ جاز.
وفي «فتاوى خوارزم» : قال محمد رحمه الله: ويخطب الإمام قائماً يوم الجمعة؛ لما روي أن رجلاً سأل ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائماً أو قاعداً، قالا: أليس يتلو قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ} (الجمعة: 11) كان رسول الله عليه السلام يخطب قائماً حين انفض عنه الناس بدخول العير المدينة، وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والذي روي أن عثمان

(2/74)


رضي الله عنه كان يخطب قاعداً، إنما فعل ذلك لمرض أو لكبر سن في آخر عمره، وفي حديث جابر بن سمرة «أن النبي عليه السلام كان يخطب قائماً خطبة واحدة فلما أسن وكبر جعلها خطبتين وجلس بينهما جلسة» ويستقبل القوم بوجهه مستدبراً القبلة، به جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر.
ثم السنّة أن يخطب خطبتين ويجلس جلسة خفيفة بينهما يحمد الله تعالى في الأولى، ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي عليه السلام، ويعظ الناس ويذكرهم، وفي الثانية يفعل كذلك إلا أنه يدعو مكان الوعظ، كذا جرى التوارث.
قال شمس الأئمة السرخسي في تقدير الجلسة بين الخطبتين: إنه إذا تمكن في موضع جلوسه، واستقر كل عضو منه في موضعه قام من غير مكث ولبث، وكان ابن أبي ليلى يقول: إذا مس الأرض موضع جلوسه أدنى مسه قام إلى الخطبة الأخرى.
وينبغي أن تكون الخطبة الثانية ما يخطب بها الخطباء في بلدنا اليوم: الحمد لله نحمده ونستعينه لا يبدل هذا بحال ولا يغيره، وله أن يبدل الأولى ويغيرها، فقد صح أن النبي عليه السلام كان لا يترك هذه الخطبة بحال، ولو خطب خطبة واحدة قائماً أو قاعداً أو خطب خطبتين قاعداً أو إحداهما قائماً، والأخرى قاعداً أجزأه إلا أنه يصير مسيئاً إن فعل ذلك من غير عذر.
وكذلك إذا خطب متكئاً على عصا أو على قوس جاز، إلا أنه يكره، لأنه خلاف السنّة وإذ خطب مستقبل القبلة مولياً ظهره إلى الناس جاز، ولكن يكره؛ لأنه خلاف السنّة، ويقرأ في خطبته سورة من القرآن أو آية، فالأخبار قد توافرت أن النبي عليه السلام كان يقرأ القرآن في خطبته، وأن خطبته لا تخلوا عن سورة أو آي من القرآن، روي أنه قرأ في خطبته: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (البقرة: 281) وروي أنه قرأ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} (الأحزاب: 70) وروي أنه قرأ: {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) وروي أنه قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) .

وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يقول: يستحب للإمام أن يقرأ في كل جمعة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 30) الآية.
إلا أنه إذا أراد أن يقرأ سورة، فإنه يتعوذ في أولها ويسمي وإن قرأ آية من القرآن اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يتعوذ ويسمي وأكثرهم قالوا: يتعوذ ولا يسمي، ولهذا تعارف الخطباء في زماننا ترك التسمية احتياطاً، والأمان بالتعوذ على كل حال يقولون: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقد يسمون وقد لا يسمون، وأصل الاختلاف في القراءة في غير الخطبة إذا أراد أن يقرأ سورة يتعوذ ويسمي، وإذا أراد أن

(2/75)


يقرأ آية هل يسمي؟ فعلى الاختلاف.
وإذا قرأ الإمام على المنبر آية السجدة سجدها، وسجد معه من سمعها، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ينزل من المنبر ويسجد على الأرض، ثم قال رحمه الله: قال مشايخنا: إذا تلا الإمام آية السجدة في صلاة الجمعة لا يسجد لها؛ لأنه إذا خر للسجود كبر المكبرون، فيظن الناس أنه للركوع فيفتننون، فيكون تركها أولى ولا يطول الخطبة، جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: طولوا الصلاة وقصروا الخطبة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: طول الصلاة وقصر الخطبة مئينة في فقه الرجل.
قال القدوري في «كتابه» : ويكون قدر الخطبتين مقدار سورة من طوال المفصل ويستقبل الإمام بوجههم حالة الخطبة؛ لأن الخطيب يعظهم بالخطبة ويخاطبهم فالإعراض عنهم يكون تهاوناً وجفاءً.

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من كان أمام الإمام استقبله بوجهه، ومن كان عن يمين الإمام أو عن يساره انحرف إلى الإمام، فقد صح أن رسول الله عليه السلام كان إذا خطب استقبله أصحابه، فمن كان أمامه أقبل بوجهه إليه ومن كان عن يمينه أو عن يساره انحرف إليه، قال شمس الأئمة الحلواني السرخسي: والرسم في زماننا استقبال القوم القبلة، وترك استقبالهم الخطيب ما يلحقهم من الحرج بتسوية الصفوف بعدما فرغ الخطيب من الخطبة، لكثرة الزحام، قال: وهذا أحسن.
ويجزىء في الخطبة قليل الذكر، نحو قوله الحمد لله، ونحو قوله: لا إله إلا الله، ونحو قوله: سبحان الله، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إلا إذا كان كلاماً به يسمى خطبة عادة، وقال الشافعي رحمه الله: لا بد من خطبتين الشافعي يحتج بالتوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، والمتوارث كالمتواتر.
وأبو يوسف، ومحمد رحمهما الله، قالا: بأن الشرط هو الخطبة والتكبيرة الواحدة لا تسمى خطبة، ولا يقال لقائلها خطيباً عرفاً وعادة، وإن كانت خطبة حقيقة، فكانت خطبة من وجه دون وجه، وقع الشك في جواز الجمعة، فلا يحكم بالجواز.
وأبو حنيفة رحمه الله يحتج بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) (103أ1) أمر بمطلق الذكر، فمن قيده فقد نسخ المطلق، وعن رسول الله عليه السلام أنه كتب إلى مصعب بن عمير «إذا مالت الشمس من اليوم الذي تتجهز اليهود لسبتها، فاجمع من قبلك من المسلمين، وذكرهم بالله» من غير فصل بين ذكر وذكر.

وعن عثمان رضي الله عنه: أنه لما صعد المنبر في أول جمعة ولي قال: الحمد لله فأرتج عليه، فقال: «إن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يعدان لهذا المكان حقه، ألا

(2/76)


وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وسيأتي الخطب من بعد الله أكبر ما شاء فعل» ونزل، وصلى معه خيار الصحابة من غير نكير منكر ومراده من قوله: وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال أن الخطباء الذين يأتون بعد الخلفاء الراشدين يكونون على كثرة المقال مع قبح الفعال، وأنا لم أكن قوالاً مثلهم فأنا على الخير دون الشر فأما أن يريد بهذه المقالة تفضيل نفسه على الشيخين فلا، ثم قوله: الحمد لله، كلمة وجيزة تحتها معاني جمة تشتمل على قدر الخطبة وزيادة، فالمتكلم بقوله: الحمد لله كالذاكر بجملة ذلك، فيكون ذلك منه خطبة لكنها وجيزة. وقصر الخطبة مندوب إليه على ما مر.
وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: عن أستاذه الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله كان يقول: التسبيحة الواحدة والتكبيرة الواحدة في مثل هذا المكان، في مثل هذه الحالة من مثل هذا الخطيب خطبة، وإن كانت لا تكون خطبة من غيره؛ لأن المكان أعد للخطبة والوقت وقت خطبة والخطيب هيأ نفسه لذلك، فإذا جاء بالذكر وإن قل يكون خطبة ولا يبعد أن يختلف الكلام باختلاف المحل.
ألا ترى أن من اعتاد التكلم بنعم في خلال الكلام كان نعم منه في خلال الكلام كفواً، وهدراً، وإذا قال له غيره: لي عليك كذا وكذا، فقال: نعم كان ذلك منه إقراراً ملزماً للمال، واختلف الكلام لاختلاف المحل كذا هنا.
وقال الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» : إن هذه المسألة، فرع مسألة أخرى: أن أبا حنيفة رحمه الله يعتبر في شروط جواز الصلاة أدناها حتى قال: لو حنى ظهره للركوع ولم يعتدل جاز، وإذا سجد بأنفه دون جبهته وإن رفع رأسه بين السجدتين أدنى الرفع جاز ووقع الفصل.

وإن قرأ في صلاته آية قصيرة جاز عنده، فجعل هذا أصلاً من أصول أبي حنيفة وخرج المسائل عليه، وعد هذه المسألة من جملتها، وقاس الخطبة بالصلاة بأدنى الأذكار والأركان، فالخطبة أولى.
وعن أبي يوسف رحمه الله أن الإمام إذا عطس على المنبر، وقال: الحمد لله، ثم نزل وصلى بالناس جازت صلاته، وكان حمده خطبة، ثم رجع، وقال: لا يكون خطبة، ومن المشايخ من قال: إذا عطس على المنبر وحمد الله تعالى، إذا نوى به الخطبة كان خطبة، وإذا نوى حمد العاطس لا يكون خطبة، وكذا فيما إذا أتى بتسبيحة إنما تجزئه عن الخطبة إذا نوى به الخطبة.
وهو نظير من حمد الله تعالى عند الذبح أجزأه عن الذبح إذا نوى به التسمية، وإن لم ينو به التسمية لا يجزئه، ولو خطب وهو جنب أو محدث ثم اغتسل أو توضأ وصلى بهم الجمعة أجزأه وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله بناءً على أن عند الشافعي الخطبة تقوم مقام ركعتين من الصلاة، وعندنا ليس كذلك بدليل ما ذكرنا من الأحكام.

(2/77)


والمعنى في المسألة: أن الخطبة ذكر الله تعالى، والجنب والمحدث لا يمنعان عن ذكر الله تعالى جاء في الحديث «أن النبي عليه السلام كان لا تحجره الجنابة عن شيء إلا عن قراءة القرآن» ، إلا أنه لو تعمد ذلك يصير مسيئاً لدخوله المسجد من غير طهارة، ولأن الخطبة وإن لم تكن صلاة حقيقة إلا أنها تشبه الصلاة، ولهذا لا تجوز الجمعة بدونها، ولو كانت صلاة حقيقة لا تجوز بدون الطهارة، فإذا كانت تشبه الصلاة.h
قلنا: تكره مع الحدث والجنابة ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه هل تعاد الخطبة؟ وذكر في «النودار» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا تعاد، والأذان جنباً يعاد ولكل واحد منها شبهاً بالصلاة إلا أن الأذان أشبه بالصلاة من الخطبة فإن الأذان يؤدى مستقبل القبلة والخطبة تؤدى مستدبر القبلة.

وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الإعادة فيهما جميعاً وإن خطب وهو طاهر، ثم أحدث وأمر رجلاً بالصلاة فإن كان الرجل المأمور قد شهد الخطبة أو بعضها أجزأه، لأنه ينشىء تحريمة الجمعة وقد وجد شرط افتتاح الجمعة في حقه وهو الخطبة؛ فيجوز، وإن لم يشهد المأمور الخطبة لا يجزئه، إلا أنه يريد أن ينشىء تحريمة الجمعة من غير شرطها، وهو الخطبة، فلا تجزئه كما إذا لم يخطب الأولى، وأراد أن يصلي بالناس الجمعة.
ولو أن الإمام الأول أحدث بعد الشروع في الجمعة، فأمر رجلاً لم يشهد الخطبة حتى يصلي بهم الجمعة يجوز؛ لأنه لا ينشىء التحريمة، بل يبني على صلاة الإمام والخطبة شرط افتتاح الجمعة، لا شرط البناء.
فإن قيل: ما ذكرتم من العذر ليس بصحيح، بدليل أن الثاني لو أفسد صلاته ثم افتتح بهم أجزأه، وهو مفتتح في هذه الحالة.
قلنا: نعم ولكن لما صح شروعه في الجمعة وصار خليفة للأول التحق بمن شهد الخطبة حكماً، فهلذا أجاز له الافتتاح بعد الإفساد.
إذا خطب الإمام يوم الجمعة ثم قدم أمير آخر إن صلى القادم بخطبة الأول صلى أربعاً، لأن الخطبة شرط افتتاح الجمعة، وإنه غير موجود في حق القادم وإن خطب خطبة جديدة صلى ركعتين وإن صلى الأول الجمعة بالناس، فإن لم يعلم بقدوم الثاني أجزأهم؛ لأنه لا ينعزل ما لم يعلم بقدوم الثاني، وإن علم بقدوم الثاني لا يجزئهم؛ إلا أن يكون القادم أمر الأول بإقامتها، فحينئذٍ يجوز؛ لأنه يستجمع شرائط الجمعة.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وقد قيل: لا يجزئهم؛ لأن الثاني لما لم يملك إقامتها لعدم الخطبة يصح أمره الأول بها.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إمام خطب الناس يوم الجمعة ثم قدم عليه أمير آخر مكانه بعدما فرغ من الخطبة، فأمر هذا القادم رجلاً ممن شهد الخطبة فصلى بالناس

(2/78)


الجمعة يجزئهم من قبل أن خطبة الأول قد انتقضت حين عزل، ولو أن القادم شهد الخطبة ولم يعزل الأول، ولكنه أمر رجلاً أن يصلي الجمعة بالناس، فصلى جاز؛ لأنه لما شهد الخطبة، فكأنه خطب بنفسه، ولو أن القادم شهد خطبة الأول، وسكت عنه حتى صلى بالناس، وهو يعلم بقدومه فصلاته جائزة؛ لأنه على ولايته لم يظهر العزل.
وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: في الإمام الذي له حق إقامة الجمعة إذا عزل وصلى بالناس الجمعة قبل أن يأته الكتاب بعزله أي: قبل أن يعلم بعزله جاز وإن صلى بعدما علم بعزله لا يجوز، وإن صلى صاحب شرطة جاز؛ لأن عمالهم على حالهم بعد العزل، وإذا افتتح الإمام الجمعة ثم حضر والي آخر يمضي على صلاته؛ لأن افتتاحه قد صح فصار كرجل أمره الإمام أن يصلي بالناس الجمعة ثم حجر عليه، إن حجر عليه قبل الشروع في الصلاة عمل حجره؛ وإن حجر عليه بعد الشروع لا يعمل حجره؛ وكذا ها هنا.
ولو أن الإمام سبقه الحدث قبل الشروع في الصلاة، فأمر جنباً قد شهد الخطبة حتى صلى بالناس، وأمر المأمور طاهراً قد شهد الخطبة، فصلى بهم جاز كما لو أمر الإمام الأول؛ وهذا لأن أمر الإمام الأول قد صح؛ لأنه فوض الجمعة إلى من هو من أهل الجمعة، فإن الجنب أهل للجمعة لكنه عاجز عن أدائها، لفقد الشرط وهو الطهارة، وإذا صح التفويض إلى الأول، لكونه أهلاً قام الثاني مقام الأول، فصار أمر الثاني كأمر الأول.

بخلاف ما إذا أمر الأول صبياً لو محترماً، فأمر الصبي رجلاً قد شهد الخطبة لا يجوز الثاني أن يصلي الجمعة؛ لأن التفويض إلى الصبي لم تصح لعدم أهلية الجمعة، وإذا لم يصح التفويض إليه لم يقم مقام الأول ليصير أمره كأمر الأول، وبخلاف ما إذا أمر الأول امرأة، فأمرت المرأة رجلاً قد شهد الخطبة لا يجوز لهذا الرجل أن يصلي بهم الجمعة لما ذكرنا، في حق الصبي.
وذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : أن إماماً لو سبقه الحدث في الصلاة، فذهب وقدم امرأة، فإنه ينظر إن قامت مقامه فسدت صلاته، وإن قدمت رجلاً مكانها جازت صلاة الكل.
بعض مشايخنا ظنوا (103ب1) أن الاستخلاف من المرأة والصبي جائز في سائر الصلوات غير حائز في الجمعة، وليس الأمر كما ظنوا، بل الاستخلاف منها لا يجوز في الصلوات كلها؛ لأن تفويض الإمامة إلى الصبي، والمرأة لم تصح في سائر الصلوات، فلا يصح منها الاستخلاف، وإذا لم يصح استخلافهما جعل وجود الاستخلاف منهما وعدمه بمنزلة وجعل كأن خليفة الصبي، والمرأة تقدم بنفسه من غير استخلافهما إلا أنه لو تقدم بنفسه في سائر الصلوات يصير إماماً، ويجوز له أن يصلي بهم ولو تقدم بنفسه في الجمعة لا يصير إماماً فلا يجوز له أن يصلي الجمعة بهم؛ لأنه أقامها بغير إذن الإمام كذا ها هنا.

(2/79)


الإمام إذا خطب ثم أحدث وأمر من لم يشهد الخطبة أن يصلي بالناس، وأمر ذلك الرجل من شهد الخطبة فصلى بهم ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا يجوز، وهكذا ذكر الحاكم في «المختصر» .
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : أنه يجوز؛ لأن الذي لم يشهد الخطبة من أهل الصلاة فصح التفويض لكن عجز عن الأداء، لفقد شرطه وهو سماع الخطبة، فيملك التفويض إلى الغير ولو كان الثاني ذمياً ولم يعلم الإمام به، فأمر الذمي مسلماً حتى يصلي بهم فصلى لم يجز؛ لأن التفويض إلى الذمي لم يصح؛ لأنه ليس من أهل الصلاة فلا يصح منه التفويض إلى المسلم.

وكذا لو أن الأول أمر مريضاً يصلي بإيماء أو أخرساً أو أمياً، فأمر هؤلاء غيرهم حتى يصلي لم يجز، وفيه فإن كان التفويض إلى هؤلاء قبل الجمعة بأيام فبرأ المريض والأخرس وتعلم الأمي، فصلى بهم الجمعة أو أمروا غيرهم جاز؛ لأن التفويض ليس بلازم، وما ليس بلازم كان لبقائه حكم الابتداء فصار كأنه فوض إليهم للحال، وهم في الحال من أهل الصلاة، فإن كان الإمام دخل في الصلاة ثم أحدث، فقدم ذمياً وقدم الذمي غيره لا يجوز، فإن أسلم الذمي بعدما قدمه إن خطب بهم وصلى الجمعة من الابتداء أو أمر غيره بأن يخطب ويصلي بهم الجمعة، بعدما أسلم جاز، وإن بنى على تلك الصلاة لم يجز لما قلنا.
وإذا أحدث الإمام قبل الشروع في الصلاة فلم يأمر أحداً فتقدم صاحب شرطة أو القاضي أو أمر رجلاً قد شهد الخطبة، فتقدم وصلى بهم الجمعة أجزأهم، واختلفت عبارة المشايخ في علة المسألة.
بعضهم قالوا: إقامة الجمعة من أمور العامة وقد فوض إلى القاضي وصاحب الشرطة، ما هو أمور العامة، فينزلا فيها منزلة الإمام في الإمامة بأنفسهما وبالاستخلاف.
وبعضهم قالوا: القاضي وصاحب الشرطة خلفاً للإمام فيما هو من السياسة والديانة، وإقامة الجمعة وتفويضهما إلى غيرهما من الديانة، فقاما فيهما مقام الإمام وقد مر شيء من ذلك في أول الفصل.
وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف في إمام خطب ونزل وافتتح التطوع ركعتين خفيفتين، وأتمهما أو أفسدهما أو شرع في الجمعة ثم علم أن عليه صلاة الغداة، فقضاها فإني آمره بإعادة الخطبة، وإن لم يعدها أجزأه، وكذلك لو خطب، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ أو قعد أو فعل شبه ذلك، ثم رجع وصلى جاز.
وفي «المنتقى» : إمام خطب يوم الجمعة وأحدث، وانصرف وتوضأ، ثم جاء وصلى أجزأه؛ لأن هذا من عمل الصلاة.

ولو تغدى أو جامع فاغتسل ثم جاء استقبل الخطبة، وذكر الطحاوي رحمه الله في «شرح الأثار» ، فلا ينبغي أن يكون للإمام في صلاة الجمعة غير الخطيب؛ لأن صلاة الجمعة مع الخطبة كشيء واحد من حيث المعنى؛ لأن صلاة الجمعة إنما قصرت؛ لأجل

(2/80)


الخطبة؛ فلا ينبغي أن يقيمها اثنان ولا ينبغي للخطيب أن يتكلم في خطبته بما هو كلام الناس؛ إما لأن الخطبة تشبه الصلاة على ما بينا؛ ولا ينبغي للمصلي أن يتكلم في صلاته بما يشبه كلام الناس، أو لأن الخطبة كلمات منظومة شرعت قبل الصلاة، فأشبهت الأذان، ولا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في أذانه بما يشبه كلام الناس، ولا بأس بأن يتكلم بما يشبه الأمر بالمعروف.
وقد صح أن رسول الله عليه السلام كان يخطب، فدخل سليك الغطفاني، وجلس، فقال عليه السلام: «أركعت ركعتين» فقال سليك: لا، فقال عليه السلام: «قم واركع ركعتين ثم اجلس» ، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل عثمان رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه: أية ساعة المجيء هذه، فقال عثمان: ما زدت حين سمعت النداء على أن توضأت، فقال عمر: «أتوضؤ أيضاً» ، ورسول الله عليه السلام كان يأمر بالاغتسال يوم الجمعة.
ولأن ما يشبه الأمر بالمعروف خطبة من حيث المعنى، وإن لم يكن خطبة من حيث النظم؛ لأن الخطبة في الحقيقة وعظ وأمر بالمعروف.
ثم فرق بين الإمام والقوم فحرم على القوم التكلم في وقت الخطبة بجميع الكلام ما يشبه بكلام الناس، وما يشبه الأمر بالمعروف، وفي حق الإمام فرق بينهما.
والفرق: أن المفروض على الإمام الخطبة والأمر بالمعروف والوعظ لا يقطعها معنى، والمفروض على القوم الاستماع والإنصات، والكلام يقطع ذلك أي كلام كان.

من العلماء من قال: السكوت على القوم كان لازماً في زمن رسول الله عليه السلام؛ لأنه كان يعرض عليهم في خطبته ما نزل عليه من القرآن فكان يلزمهم السكوت والاستجماع، ليأخذوا ويقبلوا منه ويصدقوه في ذلك، فأما اليوم، فالسكوت غير لازم لأنه قد يكون في القوم من هو أعلم من الإمام، وأورع منه، فلا يؤمر باستماع وعظ من هو دونه.
ومنهم من قال ما دام في حمد الله تعالى والثناء عليه والوعظ للناس، فعليهم أن يستمعوا، وإذا أخذ في مدح الظلمة والدعاء لهم، فلا بأس بالكلام؛ لأن مدحهم لا يخلو عن كذب فالإعراض عنه أولى، وهذا ما روي عن بعض السلف أنه كان يقلب الحصى في ذلك الوقت إنما كان يفعل ذلك، ليصير ذلك مانعاً دخول ذلك في سمعه.
وكان الطحاوي رحمه الله يقول: على القوم أن يستمعوا وينصتوا إلا أن يبلغ الخطيب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) ، فحينئذٍ يجب عليهم أن يصلوا على النبي عليه السلام ويسلموا؛ لأن الخطيب حكى عن...... الله تعالى وملائكته أنهم يصلون وحكى أمر

(2/81)


الله تعالى بالصلاة عليه وامتثال أمر الله تعالى واجب، فيجب عليهم في هذه الحالة، والذي عليه عامة مشايخنا: أن على القوم أن يستمعوا الخطبة وينصتوا من أول الخطبة إلى آخرها.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204) نزلت الآية في الخطبة على ما ذكرنا، والله تعالى أمر باستماع الخطبة مطلقاً فيتناول الخطبة من أولها إلى آخرها.

وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ذكر الله والرسول في الخطبة استمعوا، ولم يذكروا الله تعالى والثناء عليه ولم يصلوا على النبي عليه السلام، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يصلي الناس عليه في نفوسهم وهذا كله في حق من كان قريباً من الإمام بحيث يسمع ما يقوله الإمام.
أما من كان بعيداً من الإمام لا يسمع ما يقوله الإمام ماذا يصنع؟ لا رواية في هذا الفصل، قال محمد بن سلمة رحمه الله: يسكت، وهكذا ذكر المعلى في «كتاب الصلاة» عن أبي يوسف رحمه الله.
وروي عن نصير بن يحيى رحمه الله: أنه إذا كان بعيداً من الإمام يقرأ القرآن، وروي عنه أنه كان يحرك بسيفه ويقرأ القرآن، وروى حماد عن إبراهيم أنه قال: إني لأقرأ جزأين يوم الجمعة والإمام يخطب وجه هذا القول أن المقصود من الإنصات الاستماع لما فيها من قراءة القرآن والوعظ، فإذا لم يستمع يقرأ حتى يحصل ما هو المقصود بقراءة القرآن.
ووجه ما روي عن محمد بن سلمة حديث عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: إن أجر المنصت الذي لا يسمع مثل أجر المنصت السامع، ولأنه مأمور بشيئين بالاستماع والإنصات فمن قرب من الإمام، فقد قدر عليهما ومن بعد من الإمام فقد قدر على أحدهما وهو الإنصات فيأتي بما قدر عليه، ويترك ما عجز عنه.
فأما دراسة الفقه والنظر في كتب الفقه وكتابته فمن أصحابنا رحمهم الله من كره ذلك، ومنهم من قال: لا بأس به، وهكذا روي عن أبي يوسف (104أ1) .
وروي أن الحكم بن زهير كان أبلغ في الفطنة من أبي يوسف حتى روى عن أبي يوسف أنه كان يقول: ما رأيت رجلاً أذكى ولا أفصح ولا أصبح وجهاً من الحكم بن زهير، وقال الحسن بن زياد رحمه الله: ما دخل العراق أحد أفقه من الحكم بن زهير، وإن الحكم كان يجلس مع أبي يوسف يوم الجمعة وكان ينظر في كتابه ويصححه بالقلم وقت الخطبة.

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هنا فصل آخر اختلف فيه المشايخ أيضاً: أنه إذا لم يتكلم بلسانه، ولكنه أشار برأسه أو بيده أو بعينه نحو إن رأى منكراً من إنسان، فنها بيده أو أخبر بخبر فأشار برأسه هل يكره ذلك، أم لا؟ فمن أصحابنا رحمهم الله من كره ذلك، وسوى بين الإشارة بالرأس وبين التكلم باللسان، والصحيح أنه لا بأس به، فإنه روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلّميوم الجمعة وهو

(2/82)


يخطب، فرد عليه بالإشارة» ، والدليل عليه ما روي «أن أبا ذر رضي الله عنه كان جالساً إلى جنب أبي بن كعب ورسول الله عليه السلام كان يخطب يوم الجمعة فقرأ في خطبته آية من القرآن، فقال أبو ذر لأبي رضي الله عنهما: متى نزلت هذه الآية؟ ولم يجبه وغمزه ليسكت» دل أن الإشارة، لا بأس بها.
قال شمس الأئمة: وهنا فصل آخر وهو أن الدنو من الإمام أولى أو التباعد عنه، قال كثير من العلماء: التباعد أولى، كيلا يسمع مدح الظلمة ودعاؤهم، والصحيح من الجواب عن مشايخنا رحمهم الله أن الدنو منه أفضل.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا تشمتوا العاطس، ولا ترد السلام يعني وقت الخطبة، ولم يذكر فيه خلافاً وروى محمد عن أبي يوسف في صلاة الأثر أنهم يردون السلام ويشمتون العاطس، ويتبين بما ذكر في صلاة الأثر أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد.
والخلاف بين أبي يوسف، ومحمد في هذا بناءً على أنه إذ لم يرد السلام في الحال بل رده بعد ما فرغ الإمام من الخطبة على قول محمد يرد، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يرد، فلما كان مذهب محمد الرد بعد فراغ الإمام من الخطبة كان الاستماع والإنصات أولى؛ لأنه لو رد يفوت الإنصات والاستماع، ولو استمع لا يفوت رد السلام بل يتأخر والتأخير أولى من التفويت.

وعند أبي يوسف رحمه الله لما كان لا يمكنه رد السلام ولا يشمت العاطس بعد فراغ الإمام من الخطبة، فلو رد لا يفوت الاستماع أصلاً بل يفوت البعض، ولو لم يرد يفوت الرد أصلاً وتفويت البعض دون البعض أولى من تفويت الكل، وإنما لا يمكنه رد السلام بعد الفراغ من الخطبة عند أبي يوسف؛ لأن رد السلام جواب الخطاب وجواب الخطاب ما يكون على غرار الخطاب، أما إذا تأخر يكون كلاماً مبتدءاً ولا يكون جواباً، ومحمد رحمه الله يقول: يمكنه الرد؛ لأن المجلس واحد، فيجعل الموجود في آخر المجلس كالموجود في أوله، كما في البيع.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول» : أنه يرد بقلبه ولا يرد بلسانه؛ لأنه إن عجز عن رده بلسانه، فإنه لم يعجز عن رده بقلبه، يقوم الرد بالقلب مقام الرد باللسان كما قام الإيماء بالرأس في حق المريض مقام الركوع والسجود، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن العاطس هل يحمد الله؟ وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أن العاطس وقت الخطبة يحمد الله تعالى في نفسه، ولا يجهر، وهذا صحيح؛ لأن ذلك لا يشغله عن الاستماع.

(2/83)


وعن محمد رحمه الله: أن العاطس يحمد الله تعالى بقلبه فلا يحرك شفتيه، وإذا فرغ الإمام من الخطبة يحمد الله تعالى بلسانه، وهذا كالمتغوط إذا سمع الأذان يجيبه بقلبه، وإذا فرغ من التغوط يجيبه بلسانه، فلا ينبغي لهم أن يشربوا أو يأكلو والإمام يخطب لما ذكرنا أن صلاة الجمعة مع الخطبة كشيء واحد.
ثم لا ينبغي لهم أن يأكلوا ويشربوا والإمام في الصلاة فكذا إذا كان في الخطبة، وفي بعض الكتب ما يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة، وهو إشارة إلى ما قلنا.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله يكره الكلام من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة للخطبة، وكذلك الصلاة.
وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا بأس بأن يتكلم قبل الخطبة وبعدها ما لم يدخل الإمام في الصلاة.

وأما الكلام عند الجلسة الخفيفة، من مشايخنا رحمهم الله من قال: بأنه على هذا الخلاف، ومنهم من قال: بلا خلاف يكره، حجتهما ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام كان إذا نزل عن المنبر أمر ببعض حوائجه، وكان يسأل الناس عن حوائجهم وعن أسعار السوق ثم يصلي، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام، ولم يجعل خروجه قاطعاً للكلام.
وروي عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما كانا إذا صعدا المنبر أنهما يسألان الناس عن أسعار السوق، وحوائجهم؛ ولأن التكلم بما لا إثم فيه إنما حرم لأجل الاستماع ولا استماع في باقي الحال، بخلاف الصلاة؛ لأنها تمتد إلى وقت الخطبة أو إلى وقت الشروع في الصلاة.
حجة أبي حنيفة رحمه الله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول، فالأول» الحديث إلى أن قال: «فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمتعون الذكر» وإنما يطوون الصحف إذا طوى الناس الكلام فأما إذا كانوا يتكلمون فهم يكتبون عليهم قال الله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18) وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال: إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ» فلأن الخطبة في معنى شطر الصلاة، فالمتكلم في الخطبة كالمتكلم في وسط الصلاة من وجه، فيكره وأما حديث رسول الله عليه السلام.
قلنا: إن رسول الله عليه السلام كان إماماً، ولا بأس للإمام أن يتكلم، ألا ترى أنه يخطب والخطبة من أولها إلى آخرها كلام، وجواب آخر أن نقول: يحتمل أن رسول الله

(2/84)


عليه السلام فعل ذلك لعذر وضرورة، ويحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين كان الكلام مباحاً في الصلاة، فيكون مباحاً في حالة الخطبة بطريق الأولى، وهو الجواب عن حديث عمر رضي الله عنه.

وإن افتتح الصلاة بعدما خرج الإمام خففها، وأتمها، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أيهم الجواب في «الأصل» وفسره في «النوادر» قال: إن كان صلى ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، وإن كان نوى أربعاً عند التكبير وإن قيد الثالثة بالسجدة أضاف إليها الرابعة وسلم وخفف القراءة فيها، فيقرأ بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة، وإن كان له ورد في القراءة ترك الورد في هذه الصورة، وإذا لم يقيد الثالثة بالسجدة، ماذا يصنع؟ لم يذكر هذا الفصل في «النوادر» ، المتأخرون في هذا على قولين، منهم من قال: يمضي فيها ويتمها أربعاً ويخفف القراءة، ومنهم من قال: يعود إلى القعدة، وكأن هذا القائل قاس هذه المسألة بمسألة باب الحدث.
وصورة تلك المسألة: إذا شرع الرجل في فريضة في المسجد، ثم أقيم لها وقد كان قام إلى الثالثة، وإن لم يقيد الثالثة بالسجدة عاد إلى التشهد وسلم، وإن قيد الثالثة بالسجدة أتمها أربعاً، ويدخل في صلاة الإمام.
والشرط السادس: الإذن العام، وهو أن تفتتح أبواب الجامع، ويؤذن للناس كافة حتى أن جماعة لو اجتمعوا في الجامع وأغلقوا الأبواب على أنفسهم وجمعوا لم يجزئهم ذلك وكذلك إذا أراد السلطان أن يجمع بحشمه في داره، فإن فتح باب الدار، وأذن للناس إذناً عاماً جازت صلاته، شهدها العامة أو لم يشهدوها، وإن لم يفتح باب الدار وأغلق الأبواب كلها، وأجلس عليها البوابين ليمنعوا الناس عن الدخول لم تجزئهم الجمعة؛ لأن اشتراط السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس، ولا يحصل ذلك إلا بالإذن العام وكما يحتاج العام إلى السلطان لإقامة الجمعة والسلطان أيضاً يحتاج إلى العام بأن يأذن لهم إذناً عاماً حتى تجور صلاة الكل بهذا النظر من الجانبين.
n
وأما الشرائط التي في المصلي: فسبعة:
أحدها: الإسلام وإنه ظاهر.
والثاني: البلوغ.
والثالث: العقل، وإنه ظاهر أيضاً؛ لأن الصبي والمجنون لا يخاطبان بشيء من العبادات.

والرابع: الإقامة؛ لأن المسافر تلحقه المشقة في دخول المصر (104ب1) وحضور الجمعة، وربما لا يجد من يحفظ رحله وينقطع عن أصحابه.
الخامس: الصحة؛ لأن المريض تلحقه المشقة أيضاً في حضور الجمعة، وانتظار الإمام.
والسادس: الحرية؛ لأن العبد مشغول بخدمة المولى، فيتضرر المولى بترك خدمته،

(2/85)


وشهود الجمعة وانتظاره الإمام وأما الذكورة؛ فلأن المرأة مشغولة بخدمة الزوج، فيتضرر الزوج بترك خدمته، فلدفع الضرر والحرج أسقط الشرع الجمعة عن هؤلاء.
والأصل فيه قوله عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مسافر أو مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» غير أن الإسلام والبلوغ والعقل شرائط الوجوب، والصحة والإقامة والحرية والذكورة شرائط الأداء، حتى أن المسافر والمملوك والمريض إذا حضروا الجمعة وأدوها جازت، وكانت فريضة؛ لأن سقوط فرض السعي منهم للضرر والحرج، فإذا تحملوها التحقوا في الأداء بغيرهم.
ومما يتصل بهذه الشروط من المسائل
روى إبراهيم عن محمد في نصراني استعمل على مصر أو استقضي، ثم أسلم ليس له أن يصلي بالناس الجمعة، ولا أن يحكم حتى يؤمر بعد إسلامه، وكذلك الصبي، ولو قال الخليفة للنصراني: إذا أسلمت تصلي بالناس الجمعة، لو قال للصبي: إذا أدركت تصلي بهم الجمعة، ثم أسلم النصراني وأدرك الصبي، وصلى بهم الجمعة جاز.
وقد ذكرنا بعد هذا عن «فتاوى أهل سمرقند» : أن الإمام إذا أمر الصبي أو النصراني على بلدة وفوض إليه أمر الجمعة، ثم أسلم النصراني، وأدرك الصبي صلى بهم الجمعة جاز، وهذه الرواية بخلاف ما ذكرنا ثمة.
وفي «النوازل» : العبد إذا ظهر على ناحية، فصلى بهم الجمعة جاز، ولكن لا تجوز الأنكحة بتزويجة كالقضاء، وليس على المقعد الجمعة بالإجماع وكذلك لا جمعة على الأعمى وإن وجد قائداً، عند أبي حنيفة، وعندهما عليه الجمعة إذا وجد قائداً.

والفرق لهما بين المقعد والأعمى: أن الأعمى قادر على السعي إلا أنه لا يهتدي، فإذا وجد قائداً فقد وجد من يهتدي به، فهو بمنزلة الصحيح إذا ضل الطريق، فأما المقعد فغير قادر عليه أصلاً.
وفي «نوادر هشام» : عن محمد أنه لا جمعة على الأعمى، وإن وجد قائداً، والشيخ الكبير الذي ضعف، وعجز عن السعي لا تلزمه الجمعة كالمريض، وعلى المكاتب الجمعة، وكذلك على معتق البعض إذا كان يسعى فلا جمعة على العبد المأذون، وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة.
قال في «الأصل» : وللمولى أن يمنع عبده من حضور الجمعة، ولا يكره له التخلف عنها؛ لأنه لم تكتب عليه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا لم يأذن له المولى، أما إذا أذن له المولى، فتخلف عنها يكره كما في الحر.
قال رحمه الله: وهذا موضع اختلاف، وقد تكلم الناس فيه، قال بعضهم: له أن يتخلف عنها وإذا أذن له المولى بها.

(2/86)


وقال بعضهم: ليس له أن يتخلف عنها؛ لأن المولى لو أمره بخدمة نفسه يلزمه طاعته، فإذا أمره بخدمة الله تعالى أولى.
وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : إذا أذن المولى للعبد في حضور الجمعة كان له أن يشهد الجمعة؛ لأن المنع كان حق المولى، وقد أبطل المولى حقه بالإذن، فكان له أن يشهدها، ولكن لا يجب عليه ذلك؛ لأن منافع العبد لم تصر مملوكة للعبد بإذن المولى فالحال بعد الإذن كالحال قبله.
قال في «الأصل» أيضاً: ولا ينبغي له أن يصلي الجمعة بغير إذن مولاه، قال بعض مشايخنا: إنما لا يصلي الجمعة بغير إذن مولاه إذا علم أنه لو استأذن منه في ذلك كره، أما إذا علم أنه لو استأذن منه في ذلك رضي له وأذن له لا يتخلف عنها.

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهكذا قالوا في المرأة إذا أرادت أن تصوم تطوعاً بغير إذن زوجها إن علمت أنها لو استأذنت منه أذن لها، ولم يكره تصوم، وإن علمت أنها لو استأذنت منه يكره ولا يرضى، فلا تصوم، وذكر شمس الأئمة الحلواني السرخسي رحمه الله اختلاف المشايخ في العبد يحضر مع مولاه المسجد الجامع ليحفظ دابته على باب الجامع، هل له أن يصلي الجمعة؟ قال رحمه الله: والأصح أن له ذلك إذا كان لا يخل بحق مولاه في إمساك دابته، وروي عن محمد أن له أن لا يصلي الجمعة، وإن تمكن من ذلك، وأذن له السيد في أدائها، وإذا قدم المسافر المصر يوم الجمعة على عزم أن لا يخرج يوم الجمعة لا تلزمه الجمعة ما لم ينوِ الإقامة خمسة عشر يوماً.
ومما يتصل بهذه المسائل
ما حكي عن الشيخ الإمام أبي حفص الكبير رحمه الله: أن للمستأجر أن يمنع الأجير من حضور الجمعة، وكان الفقيه أبو علي الدقاق رحمه الله يقول: ليس له أن يمنع الأجير في المصر من حضور الجمعة لكن يسقط عنه الأجر بقدر اشتغاله بالصلاة بذلك إن كان بعيداً، وإن كان قريباً لا يحط عنه شيء من الأجر وإن كان بعيداً، واشتغل قدر ربع النهار حط ربع الأجر، وليس للآجر أن يطالبه من الربع المحطوط بمقدار اشتغاله بالصلاة.
الإمام إذ منع أهل مصر أن يجمعوا، حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه إذا نهاهم مجتهداً بسبب من الأسباب، أو أراد أن يخرج ذلك الموضع من أن يكون مصراً لم يجمعوا، فأما إذا نهاهم متعنتاً، أو إضراراً بهم، فلهم أن يجتمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة، ولو أن إمام مصر مصلٍ ثم نفر الناس عنه لخوف عدو وما أشبه ذلك ثم عادوا إليه، فإنهم لا يجمعون إلا بإذن مستأنف من الإمام.

القروي إذا دخل المصر يوم الجمعة تلزمه الجمعة، وإن نوى أن يخرج من المصر في يومه ذلك قبل دخول وقت الصلاة أو بعد دخول وقت الصلاة، فلا جمعة عليه؛ لأن في الوجه الأول صار كواحد من أهل المصر، وفي الوجه الثاني لا، والله أعلم بالصواب.

(2/87)


نوع آخر في الرجل يصلي الظهر يوم الجمعة يتوجه إلى الجمعة أو لا يتوجه
يجب أن نعلم أن الكلام ههنا في فصول:
أحدها: في جواز الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة.
والثاني: في الكراهة.
والثالث: في الانتقاض إذا خرج يريد الجمعة، أما الكلام في الجواز فنقول: بجواز أداء الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأن أصل الفرض الظهر لما مر قبل هذا، وأما الكلام في الكراهة فنقول: يكره أداء الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأنه مأمور بأداء الجمعة وبإسقاط الظهر بالجمعة، فإذا صلى الظهر قبل فراغ الإمام، فقد خالف أمر الشرع فلهذا يكره، وهذا بخلاف ما بعد فراغ الإمام من الجمعة، فإن بعد فراغ الإمام من الجمعة سقط عنه الأمر بإقامة الجمعة ولزمه أداء الظهر فكان في أداء الظهر موافقاً أمر الشرع لا مخالفاً.
قال في «الأصل» : وإن كان مريضاً يستحب له أن يؤخر الظهر إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة، ولو لم يؤخر لا يكره، والصحيح المقيم يؤخر ولو لم يؤخر يكره.
والفرق: أن المريض مأمور بأداء الجمعة لكن استحب التأخير؛ لأنه يرجى على إقامة الجمعة بزوال المرض ساعة فساعة فلا يصير بأداء الظهر مخالفاً أمر الشرع، ولا كذلك الصحيح.
وأما الكلام في انتقاض الظهر إذا خرج يريد الجمعة به، فاعلم بأن هذا الفصل على وجهين: إما إن أدرك الجمعة مع الإمام، أو لم يدرك، فإن أدركها مع الإمام ينتقض ظهره عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، المعذور نحو العبد والمسافر والمريض، وغير المعذور في ذلك على السواء، حتى لو بطلت الجمعة بوجه ما كان عليه إعادة الظهر.

وقال زفر رحمه الله في المعذور: لا ينتقض ظهره هو يقول: بأن فرض المعذور الظهر، وقد صح حين أداه في وقته فلا ينتقض بغيره.
وجه قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: أن المعذور إنما فارق غير المعذور في حق الترخيص بترك السعي إلى الجمعة فإذا سعى التحق بغير المعذور، وأما إذا لم يدرك الجمعة مع الإمام فهذه المسألة على وجهين:
إما إن خرج من بيته والإمام قد فرغ من الجمعة أو خرج من بيته والإمام في الجمعة، فقبل أن يصل إلى الإمام فرغ الإمام من الجمعة، ففي الفصل الأول لا ينتقض ظهره بالإجماع، وفي الفصل الثاني اختلاف.
قال أبو حنيفة رحمه الله: ينتقض ظهره، وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينتقض، وهو المذكور في «الجامع الصغير» ، وعلى هذا الخلاف: إذا وصل الإمام والإمام في الجمعة إلا أنه لم يحرم للجمعة حتى سلم الإمام، ولو خرج لا يريد الجمعة لا ينتقض ظهره بالإجماع.

(2/88)


حجتهما: أن في المسألة المختلفة أنه مأمور بنقض ظهره ضرورة أداء الجمعة لا مقصوداً؛ لأن نقض العبادات مقصوداً حرام؛ فإن وجه الأداء (105أ1) ينتقض الظهر، وما لا فلا، ولا يمكن أن يجعل السعي إلى الجمعة كمباشرة الجمعة في حق نقض الظهر.
ألا ترى أن من أحرم بالحج والعمرة يؤمر بتقديم أعمال العمرة، فلو أنه قدم أعمال الحج، ووقف بعرفة يصير رافضاً لعمرته، ولو سار إلى عرفات لا يصير بمجرد السير رافضاً لعمرته.
ألا ترى أنه لم يجعل السعي إلى الوقوف بعرفات بمنزلة الوقوف في حق رفض العمرة كذا في مسألتنا، ولأبي حنيفة أن الأمر كما قالا: إنه مأمور بنقض الظهر، ضرورة أداء الجمعة، إلا أن السعي من خصائص الجمعة، ألا ترى أنه أمر به في الجمعة دون سائر الصلوات؟ فيقام مقام أداء الجمعة في موضع الاحتياط، وإعادة ما صلى من باب الاحتياط.

وأما مسألة القارن فقد قيل: إنه قولهما، فأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فالجواب في المسألتين هو أنه تنتقض العمرة بالسعي إلى الوقوف كما ينتقض الظهر هنا.

وقيل: في مسألة القارن القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله: ترتفض عمرته، وفي الاستحسان: لا ترتفض، ووجه الفرق على جواز الاستحسان على قول هذا القائل أن السعي إلى عرفات قبل أعمال العمرة منهي عنه؛ لأن بالوقوف بعرفات يصير رافضاً لعمرته، ورفض العمرة منهي عنه، فلا يقام السعي إلى عرفات مقام الوقوف إعلاماً للنهي، أما السعي إلى الجمعة ليس منهي عنه، بل هو مأمور به، وإنه من خصائص الجمعة، فجاز أن يقام مقام أداء الجمعة في حق نقض الظهر احتياطاً والله أعلم.
نوع آخر في الرجل يريد السفر يوم الجمعة
وإنه على وجهين: إن كان الخروج قبل الزوال فلا بأس به بلا خلاف؛ لأن الجمعة لا تجب قبل الزوال فلا يصير بالخروج تاركاً فرضاً، وصار الخروج قبل الزوال، وليس فيه ترك فرض، نظير الخروج يوم الخميس، وإن كان الخروج بعد الزوال، فإن كان يمكنه أن يخرج من مصره قبل خروج وقت الظهر، فإنه لا بأس به بالخروج قبل إقامة الجمعة، وإن كان لا يمكنه أن يخرج من مصره قبل خروج وقت الجمعة، فلا ينبغي له أن يخرج، بل يشهد الجمعة ثم يخرج.
وهذه المسألة لا توجد بهذا التفصيل إلا في «السير» : وهذا بناءً إلى أصل معروف لنا أن وجوب الصلاة وسقوطها يتعلق بآخر الوقت، فمتى كان لا يخرج وقت الظهر قبل خروجه من المصر، فهو صار مسافراً في آخر الوقت ولا جمعة على المسافر، ولا يصير تارك فرض وإذا كان يخرج وقت الظهر قبل خروجه من مصره كان مقيماً في آخر الوقت،

(2/89)


وهو في المصر وكان عليه إقامة الجمعة، فيصير بالخروج تاركاً فرضاً، فلا يباح له الخروج.

قال مشايخنا رحمهم الله: وعلى قياس هذه المسألة يجب أن يكون الجواب على التفصيل متى لم يخرج للسفر، ولكن خرج بعد الزوال قبل إقامة الجمعة إلى موضع لا يجب على أهل ذلك الموضع الجمعة، هل يباح له ذلك؟ إن كان يخرج وقت الظهر قبل أن ينتهي إلى ذلك الموضع لا يباح له ذلك؛ لأنه يكون تاركاً فرضاً، وإن كان لا يخرج وقت الظهر إلا بعد أن ينتهي إلى ذلك الموضع يباح له ذلك؛ لأنه لا يصير تارك فرض؛ لأن العبرة لآخر الوقت.
حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنه كان يقول عندي في جواب أصل المسألة إشكال، وجهه: أن اعتبار آخر الوقت إنما يكون فيما ينفرد هو بأدائه وهو سائر الصلوات، فأما الجمعة لا ينفرد هو بأدائها، وإنما يؤديها مع الإمام والناس، فينبغي أن يعتبر وقت أدائهم حتى إذا كان لا يخرج من المصر قبل أداء الناس الجمعة ينبغي أن يلزمه شهود الجمعة.
الرستاقي إذا سعى يوم الجمعة إلى المصر يريد إقامة الجمعة، وإقامة حوائج له في المصر ومعظم مقصوده إقامة الجمعة ينال ثواب السعي، إلى الجمعة، وإذا كان قصده إقامة الحوائج لا غير أو كان معظم مقصوده إقامة الحوائج لا ينال ثواب السعي إلى الجمعة، إذا أدرك الإمام في الجمعة بعدما قعد قدر التشهد، فعن محمد وزفر: أنه يصلي أربعاً بتحريمة الجمعة، ولا يستقبل التكبير بخلاف الإمام، إذا دخل عليه وقت العصر وهو في الجمعة، فإنه يستقبل التكبير للظهر، قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص رحمة الله عليه: قلت لمحمد رحمه الله: يصير مؤدياً الظهر بتحريمة الجمعة؟ فقال: ما تصنع وقد جاءت به الآثار.
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات

إذا تذكر يوم الجمعة والإمام في الخطبة أنه لم يصل الفجر، فإنه يقوم يصلي الفجر، ولا يستمع الخطبة؛ لأنه لو استمع وقضى الفجر بعدها تفوت الجمعة، إذا صلى السنّة التي بعد الجمعة بنية الظهر، ينبغي أن يقرأ في جميع الركعات، وإذا صلى الإمام ركعة من الجمعة ثم أحدث خرج من المسجد، ولم يقدم أحداً، فقدم الناس رجلاً قبل أن يخرج الإمام من المسجد، جاز ضرورة إصلاح صلاتهم، فإن تكلم المقدم أو ضحك قهقهة، فأمر غيره أن يجمع بهم لا يجوز، لأن الإمام لم يفوض إليه لكن استحسنا أن يبني على صلاة الإمام، ضرورة إصلاح صلاتهم فإذا خرج عن صلاة الإمام لم يبق إماماً.

(2/90)


ولو اقتدى رجل بالإمام يوم الجمعة ونوى صلاة الإمام إلا أنه يحسب أنه يصلي الجمعة، فإذا هو يصلي الظهر جاز ظهره معه وإن اقتدى به ونوى عند التكبير أن يصلي معه الجمعة، فإذا هو يصلي الظهر لا يجزئه الظهر معه؛ لأن في الوجه الأول نوى صلاة الإمام وحسب أنها جمعة، فصحت نيته الصلاة معه وبطل بالحسبان، أما في الوجه الثاني نوى أن يصلي الجمعة فإذا تبين أن الإمام يصلي الظهر تبين أنه لم يصح الاقتداء.
إذا حضر الرجل يوم الجمعة والمسجد ملآن يتخطى يؤذي الناس لم يتخط، وإن كان لا يؤذي أحداً بأن لا يطأ ثوباً ولا جسداً لا بأس بأن يتخطى ويدنو من الإمام، وذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا بأس بالتخطي ما لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويكره إذا أخذ؛ لأن للمسلم أن يتقدم ويدنو من المحراب إذا لم يكن الإمام في الخطبة، ليتسع المكان على من يجيء بعده، وينال فضل القرب من الإمام، فإذا لم يفعل الأول فقد ضيع ذلك المكان من غير عذر، فكان للذي جاء بعده أن يأخذ ذلك المكان.
أما من جاء والإمام يخطب فعليه أن يستقر في موضعه من المسجد؛ لأن مشيه وتقدمه عمل في حالة الخطبة، وروى هشام عن أبي يوسف أنه للناس بالتخطي ما لم يخرج الإمام، أو يؤذ أحداً.

رجل لم يستطع يوم الجمعة أن يسجد على الأرض من الزحام فإنه ينتظر حتى يقوم الناس فإذا رأى فرجة سجد، وإن سجد على ظهر رجل أجزأه، وإن وجد فرجة فسجد على ظهر رجل لم يجز، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله.
وقال الحسن رحمه الله: لا يسجد على ظهر الرجال على كل حال.
رجل ركع ركوعين مع الإمام في الجمعة ولم يسجد لكثرة الزحام، حتى صلى الإمام ثم رأى فرجة، قال أبو حنيفة: يسجد سجدتين للركعة الأولى، وتلغى ركعته الثانية التي ركعها مع الإمام فلا يعتد به ثم يقوم، فيركع بعدما تمكن قائماً، ولا يقرأ ويسجد سجدتين، وإن نوى حين يسجد للركعة الثانية، بطلت نيته وكانت السجدة للأولى، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا على إحدى الروايتين عن علمائنا رحمهم الله.
فأما على الرواية الأخرى: السجدتان للثانية، وقال أبو حنيفة: إن ركع مع الإمام في الأولى ولم يسجد وركع معه في الثانية وسجد معه، فالثانية تامة ويقضي الأولى بركوع وسجود، ولو كان سجد مع الإمام في الركعة الأولى سجدة أجزأته الركعتان جميعاً؛ لأنه قيد الأولى بسجدة فيسجد للأولى سجدة أخرى ويسجد للثانية سجدتين ويتشهد، وإن لم يقدر على السجود مع الإمام في واحدة من الركعتين، فلما فرغ الإمام من سجدتي الركعة الثانية، وقعد سجد الرجل سجدتين يريد بهما اتباع الإمام في سجدتي الركعة الثانية، ثم تشهد الإمام وسلم، فإن نية الرجل باطلة والسجدتان للركعة الأولى، فتمت الأولى (105ب1) ، وبطلت الركعة الثانية، فليقم وليصل الركعة الثانية، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في «الرقيات» .

(2/91)


وفي «النوادر» عن محمد: رجل ركع مع الإمام في صلاة الجمعة ولم يستطع أن يسجد لكثرة الزحام، حتى قام الإمام إلى الثانية وقرأ وركع، فركع هذا الرجل معه يريد اتباعه في الثانية وسجد معه، قال: هذا السجود للثانية ولا يقعد مع الإمام، فيقوم ويقضي الأولى بركوع وإن لم يركع مع الإمام في الثانية، ولكنه سجد معه ينوي اتباعه، لا تجزئه هذه السجدة من الركعتين، فإن انحط فسجد قبله ينوي اتباعه ثم أدرك الإمام فيها فهي للأولى، وكذلك إذا سجد بعدما رفع الإمام رأسه ينوي اتباعه في الثانية، وإن سجد مع الإمام في الثانية ينوي الأولى فهي للأولى وروى ابن سماعة عن أبي يوسف، نحو هذا.
قال محمد رحمه الله: ويكره أن يصلي الظهر يوم الجمعة في المصر بجماعة في سجن وغير سجن، هكذا روي عن علي رضي الله عنه، والمعنى فيه: أن المأمور به في حق من يسكن المصر في هذا الوقت شيآن، ترك الجماعة وشهود الجمعة، فأصحاب السجون قدروا على أحدها وهو ترك الجماعة، فيأتون بذلك ولو جوزنا للمعذور إقامة الظهر بالجماعة ربما يقتدي بهم غير المعذور، وفيه تقليل الناس في الجامع.
بخلاف القرى حيث يصلي أهلها الظهر بالجماعة؛ لأنه ليس على من يسكنها شهود الجمعة، فكان هذا اليوم في حقهم كسائر الأيام، والمسافرون إذا حضروا يوم الجمعة في مصر يصلون فرادى، وكذلك أهل المصر إذا فاتتهم الجمعة، وأهل السجن والمرضى تكره لهم الجماعة والمريض الذي لا يستطيع أن يشهد الجمعة، إذا صلى الظهر في بيته بغير أذان وإقامة أجزأه، وإن صلاها بأذان وإقامة فهو حسن؛ لأن هذا اليوم في حق المريض كسائر الأيام، من صلى الظهر في بيته إن صلاها بغير أذان وإقامة، فهو جائز وإن صلاها بأذن وإقامة فحسن كذا ها هنا.

وفي القدوري ومن فاتته الجمعة صلى الظهر بغير أذان ولا إقامة، وكذلك أهل السجن والمرضى والعبيد والمسافرون، ذكر الحاكم في المسافر مثلاً مسافر أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى أربعاً بالتكبير الذي دخل به معه.
الغسل يوم الجمعة سنّة بالإجماع، والأصل فيه ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من السنّة الغسل يوم الجمعة» ، واختلفوا في أن الغسل للصلاة أو للوقت ذكر الفضلي في «فتاويه» ، عن أبي يوسف أن الغسل لليوم.
وفي «الأصل» و «الطحاوي» و «القدوري» : أن الغسل عند أبي يوسف للصلاة، وعند الحسن لليوم وفي «العصام» : أن الغسل على قول أبي يوسف لليوم، وعلى قول محمد للصلاة.
قال الفضلي في «كتابه» : الاغتسال للصلاة لا لليوم؛ لإجماعهم على أنه لو اغتسل بعد الصلاة، لا يكون مقيماً للسنّة، ولو كان الغسل لليوم، لصار مقيماً للسنّة ولكن هذا ليس بصواب، فقد ذكر في «شرح الإسبيجابي» أن الغسل يقع سنة على قول من يقول: بأن الغسل سنّة اليوم، وإذا اغتسل بعد طلوع الفجر ثم أحدث وتوضأ، وصلى لم تكن صلاة بغسل، وإن لم يحدث حتى صلى كان صلاة بغسل، وهذا على قول من يقول بأن الغسل سنّة الصلاة.

(2/92)


الأذان المعتبر الذي يجب السعي عنده، ويحرم البيع للأذان عند الخطبة لا للأذان قبله؛ لأن ذلك لم يكن في زمن النبي عليه السلام، هكذا ذكر في «النوازل» : وفي «شرح الطحاوي» وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن الصحيح أن المعتبر هو الأذان الأول بعد دخول الوقت، وبه كان يفتي الفقيه أبو القاسم البلخي رحمه الله، وقال الحسن بن زياد: الأذان على المنارة هو الأصل، قال صاحب «شرح الطحاوي» : الأذان قبل التطوع وعلى المنارة محدث، وزيادة إعلام لمصلحة الناس.k

وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل جالس على الغداء يوم الجمعة، فسمع النداء إن خاف أن تفوته الجمعة، فليحضرها بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الجمعة تفوت على الوقت أصلاً وسائر الصلوات لا، وزان مسألتنا من سائر الصلوات إذا خاف ذهاب الوقت في سائر الصلوات، وهناك يترك الطعام ويصلي في وقتها كذا ها هنا.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : مرسلاً أمير أمر إنساناً أن يصلي بالناس الجمعة في المسجد الجامع وانطلق إلى حاجة له، ثم دخل المصر ودخل بعض المساجد وصلى الجمعة لا يجزئه إلا أن يكون علم الناس بذلك كله، فهذا كالجمعة في موضعين وإنه جائز به ورد الأثر عن علي رضي الله عنه، وإن خرج الإمام يوم الجمعة للاستسقاء، وخرج معه ناس كثير وخلف إنساناً يصلي بهم الجمعة في المسجد الجامع، فلما حضرت الصلاة صلى بهم الجمعة في الجبانة، وهو على غلوة من المصر وصلى خليفته في المسجد الجامع يجزئهما، ودلت المسألة على أن الجمعة في الجبانة جائزة.
ويقرأ في الجمعة بأي سورة شاء ولا يقصد سورة بعينها يديم قراءتها، والكلام في الجمعة نظير الكلام في سائر الصلوات، وفي أي حال أدرك الإمام، دخل معه، وأجزأه عن الجمعة وكذا إذا أدركه في سجدتي السهو وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
وقال محمد: لا تجزئه الجمعة حتى يدرك ركعة كاملة، لما روي عن رسول الله عليه السلام، أنه قال: «من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدركها» ، ومن أدرك ما دونها صلى أربعاً ولهما قوله عليه السلام: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» وهذا عام في الصلوات كلها، ومذهبهما مثل مذهب ابن مسعود، ومعاذ، ثم عند محمد إذا لم تجز الجمعة يصلي أربعاً يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، وهل تجب عليه القعدة الأولى؟ حكى الطحاوي عنه وجوب القعدة الأولى؛ لوجوبها على الإمام، وحكى عنه المعلى أنها لا تجب؛ لأنه يصلي الظهر في حالة البداء والله أعلم بالصواب.

(2/93)


الفصل السادس والعشرون في صلاة العيدين
الأصل في صلاة العيد قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) جاء في التفسير: أن المراد منه صلاة العيد، والآثار قد اتفقت، وتواترت أن رسول الله عليه السلام كان يصلي صلاة العيد، وروى أنس بن مالك «أن رسول الله عليه السلام قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما» ، فقال عليه السلام: «لقد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما الفطر، والأضحى» والأمة أجمعت على إقامتها من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر.
وهذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منهافي بيان صفتها
فنقول: روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: وتجب صلاة العيدين على من تجب الجمعة، فهذا يدل على وجوبها.
وذكر في «الجامع الصغير» : في العيدين اجتمعا في يوم فالأولى سنّة والثانية فريضة، وأراد بالأول صلاة العيد وبالثاني صلاة الجمعة، فقد سمّى صلاة العيد ها هنا سنّة، وقال محمد رحمه الله في «كتاب الصلاة» : لا يقام شيء من التطوع بجماعة ما خلا التراويح في رمضان، وكسوف الشمس، وصلاة العيدين تؤدى بجماعة لو كان صلاة العيد تطوعاً لقال ما خلا التراويح في رمضان وكسوف الشمس وصلاة العيدين.

فمن مشايخنا من قال: في المسألة روايتان في إحدى الروايتين هي واجبة، وفي إحدى الروايتين هي سنّة، وجه الرواية التي قال بأنها سنة قوله عليه السلام: «ثلاث كتبت عليّ وهي لكم سنّة الوتر، والضحى، والأضحى» وصلاة العيد وصلاة الضحى؛ لأنها تقام عند الضحى؛ فتكون سنّة؛ ولأنها لو كانت واجبة لشرع فيها الأذان والإقامة كسائر الصلوات الواجبات.

(2/94)


وجه الرواية التي قال: بأنها واجبة قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) والمراد منه صلاة العيد، فقد أمر الله تعالى به، والأمر للوجوب، ولا حجة له في الحديث الذي روى؛ لأن الضحى متى أطلق يريد به صلاة الضحى لا صلاة العيد، وصلاة الضحى في سائر الأيام سنّة عندنا.
وقوله: ليس فيها أذان، ولا إقامة، قلنا: هذا لا يدل على عدم الوجوب، ألا ترى أنه لا أذان للوتر ولا إقامة، وإنها واجبة عند أبي حنيفة رحمه الله على أصح الروايات، وكذلك صلاة الجنازة ليس لها أذان ولا إقامة، وإنها واجبة وعامة المشايخ على أن المذهب أنها واجبة.
وتأويل ما ذكر في «الجامع الصغير» : أنها سنّة أن وجوبها ثبت بالسنّة لا بالكتاب، وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب الصلاة» أن الأظهر أنها سنّة، لكنها من معالم الدين أخذها هدى وتركها ضلالة.

وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف صلاة العيد سنّة واجبة، فقد جمع بين صفة الوجوب والسنّة، واختلفوا في بيانه، بعضهم قالوا: أراد (106أ1) بالسنّة الطريقة، فمعناه وجوب صلاة العيد طريقة مستقيمة ظاهرة، وبعضهم قالوا: أراد بيان الطريق الذي عرفنا وجوبه، فإن وجوب صلاة العيد ما عرف إلا بالسنّة.
نوع آخر في بيان وقتها
فنقول: أول وقتها من حين تبيض الشمس، وانتهاؤها من حين تزول الشمس، أما أول وقتها فلما روي «أن النبي عليه السلام كان يصلي العيد والشمس على قدر رمح أو رمحين» ، وأما آخر وقتها فلما روي «أن قوماً شهدوا عند رسول الله عليه السلام برؤية الهلال في آخر يوم من رمضان، فأمر رسول الله عليه السلام بالخروج إلى المصلى من الغد للصلاة» ولو جاز الأداء بعد الزوال لم يكن للتأخير معنى، فإن تركها في اليوم الأول في عيد الفطر لغير عذر حتى زالت الشمس لم يصل من الغد، وإن كان لعذر صلى من الغد فإن ترك من الغد لم يصل بعده.
والقياس: أنها إذا فاتت عن وقتها لا تقضى كما في الجمعة، وإنما ترك القياس بالنص، والنص إنما ورد في التأخير إلى اليوم الثاني بسبب العذر، فما عداه يرد إلى ما

(2/95)


يقتضيه القياس، وأما في الأضحى إن تركها في اليوم الأول لعذر أو لغير عذر صلى في اليوم الثاني، فإن لم يفعل ففي اليوم الثالث، فإن لم يفعل فقد فات، ولا يفعل بعد ذلك؛ لأن هذه صلاة عيد الأضحى، فتكون مؤقتة بأيام الأضحى وأيام الأضحى ثلاثة.
نوع آخر في بيان كيفيتها
قال أصحابنا رحمهم الله: في ظاهر الرواية التكبيرات في الفطر والأضحى سواء يكبر الإمام في كل صلاة تسع تكبيرات، ثلاث أصليات: تكبيرة الافتتاح وتكبيرتا الركوع، وست زوائد ثلاث في الأولى، وثلاث في الثانية، ويقدم التكبيرات على القراءة في الركعة الأولى ويقدم القراءة على التكبيرات في الركعة الثانية، وهذا قول عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمر الجهني، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وأبي مسعود الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين.
وعن علي رضي الله عنه ثلاث روايات في رواية إحدى عشر تكبيرة في العيدين جميعاً ثلاث أصليات كما بينا، وثمان زوائد أربع في الركعة الأولى، وأربع في الثانية في كل عيد، وفي رواية ثمان تكبيرات ثلاث أصليات، وخمس زوائد: ثلاث في الركعة الأولى واثنتان في الركعة الثانية في العيدين جميعاً.
وفي الرواية الثالثة: وهو المشهور عنه فرق بين عيد الفطر، والأضحى، فقال: في عيد الفطر يكبر إحدى عشر تكبيرة في الركعتين، ثلاث أصليات، وثمان زوائد أربع في الأولى وأربع في الثانية، وفي عيد الأضحى يكبر خمس تكبيرات في الركعتين ثلاث أصليات واثنتان زائدتان واحدة في الركعة الأولى، وواحدة في الركعة الثانية ومن مذهبه أنه يقدم القراءة على التكبيرات في الركعتين في العيدين جميعاً.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما خمس روايات: في رواية سبع تكبيرات ثلاث أصليات، وأربع زوائد في كل ركعة تكبيرتين في العيدين جميعاً، وفي رواية كما قال ابن مسعود رضي الله عنه والمشهور عنه روايتان في رواية ثلاث عشر تكبيرة ثلاث أصليات، وعشر زوائد خمس في الركعة الأولى وخمس في الثانية وعليه عمل الناس اليوم في عيد الفطر.

وفي رواية اثنتا عشر تكبيرة ثلاث أصليات وتسع زوائد خمس في الركعة الأولى وأربع في الثانية، وهو قول الشافعي رحمه الله ورواية عن أبي يوسف وعليه عمل الناس اليوم في عيد الأضحى، ويقدم التكبيرات على القراءة في الروايتين المشهورتين عنه.
وعن أبي بكر الصديق رحمه الله: أنه يكبر خمسة عشرة تكبيرة في كل صلاة ثلاث أصليات وثنتي عشرة زوائد ست في الأولى، وست في الثانية وهي الرواية المشهورة عن عمر رضي الله عنه، وفي رواية شاذة عن أبي بكر رضي الله عنه يكبر في كل صلاة ست

(2/96)


عشر تكبيرة ثلاث أصليات وثلاث عشر زوائد سبع في الأولى، وست في الثانية، فقد اختلفوا في عدد التكبيرات.
وموضعها، على نحو ما بينا فيحمل اختلافهم على اختلاف فعل رسول الله عليه السلام في صلاة العيد، لأن المقادير في العبادات لا تثبت قياساً كأصلها وإنما تثبت توقيفاً وسماعاً، فحمل ما روي عن واحد منهم على أنه رأى رسول الله عليه السلام فعل ذلك، ولم يثبت عنده نسخ ذلك، فصار المروي عنهم كالمروي عن رسول الله عليه السلام، فيجب ترجيح بعض الأقوال على البعض، لما جهل التاريخ.
فالشافعي رحمه الله رجح ما اشتهر عن أبي بكر، وابن عباس رضي الله عنهم أخذاً بالأكثر احتياطاً.
وأصحابنا رجحوا قول ابن مسعود رضي الله عنه في العدد، وفي الموضع أما في العدد؛ لأنه لا تردد في قوله، ولا اضطراب، فإنه قال قولاً واحداً وفي أقوال غيره تعارض واضطراب، فكان قوله أثبت؛ ولأن قوله ينفي الزيادة على التسع، وأقوال غيره تثبت والنفي موافق القياس؛ إذ القياس ينفي إدخال زيادة للأذكار في الصلاة، قياساً على غيرها من الصلوات، والإثبات مخالف للقياس.
ولا شك أن الأخذ بالموافق للقياس أولى، ولأن الجهر بالتكبير وهو ذكر مخالف للمنصوص والأصول، فالأخذ بما اتفقت الأقاويل عليه، وهو متيقن أولى؛ ولأن ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه أشهر، فإنه عمل به جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على نحو ما بينا، فكان الأخذ به أولى، وإذا وجب ترجيح قول ابن مسعود رضي الله عنه في العدد وجب ترجيحه في الموضع؛ لأن الرواية واحدة إلا أن الناس يعملون اليوم على مذهب ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن الخلافة لأولاده وهم أخذوا على الولاة وكتبوا في مناشيرهم أن يصلوا صلاة العيد على مذهب جدهم.
وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قدم بغداد، فصلى بالناس صلاة العيد، وخلفه هارون الرشيد، فكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا روي عن محمد رحمه الله أنه فعل ذلك فتأويله أن هارون أخذ عليهما، وأمرهما أن يكبرا تكبيرة جده، ففعلا ذلك امتثالاً لأمره، وإظهاراً لمتابعته لا مذهباً واعتقاداً، ثم عملوا برواية الزيادة في عيد الفطر وبرواية النقصان في عيد الأضحى، ليكون عملاً بالروايتين، وإنما اختاروا رواية النقصان لعيد الأضحى لاشتغال الناس بالقرابين فيه.
ويقدم الثناء على تكبيرات العيد في ظاهر الرواية، وروى ابن كاس عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقدم تكبيرات العيد على الثناء.
وجه هذه الرواية: أن سبيل تكبيرات العيد في الركعة الأولى أن تكون مضمومة إلى

(2/97)


تكبيرة الافتتاح، وهذا أوجب تقديم التكبيرات على القراءة، كيلا تصير القراءة فاصلة بين تكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيد، وإنما تصير مضمومة، إلى تكبيرة الافتتاح إذا قدمنا التكبيرات على الثناء.

وجه ظاهر الرواية: أن لو قدمنا التكبيرات على الثناء يفوت الثناء عن محله أصلاً؛ لأن محله عقيب تكبيرة الافتتاح، بلا فصل كما في سائر الصلوات، ولو قدمنا الثناء على التكبيرات لا يفرق التكبيرات عن محلها، لأن ما بعد تكبيرة الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع محل التكبيرات العيد.
ألا ترى أن المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع فإنه يأتي بتكبيرات العيد في الركوع، وبعد ما رفع رأسه من الركوع لا يأتي به؟ فدل على أن ما بعد تكبيرة الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من

(2/98)


الركوع محل التكبيرات العيد، فلو قدمنا الثناء على التكبيرات لا تفوت التكبيرات عن محلها، ولو قدمنا التكبيرات على الثناء فات الثناء عن محله، فكان تقديم الثناء أولى.
قوله: فإنه يفوت الضم في حق التكبيرات، قلنا: كما يفوت الضم في حق التكبيرات يفوت قي حق الثناء إذا قدم التكبيرات على الثناء؛ لأن سبيل الثناء أن يكون مضموماً إلى تكبيرة الافتتاح، فإذا هو يستويان في حق تفويت الضم، ثم بتقدم الثناء على التكبيرات، لا يفوت التكبيرات عن محلها ووقتها كما ذكرنا، وبتقديم التكبيرات على الثناء يفوت الثناء عن محلها فصار تقديم الثناء أولى.
قال أبو يوسف رحمه الله: يكبر تكبيرة الافتتاح ثم يأتي بالثناء ثم يتعوذ ثم يكبر تكبيرات العيد، وقال محمد رحمه الله: (106ب1) يتعوذ بعد تكبيرات العيد، وبه قال الشافعي رحمه الله ذكر الاختلاف في «الزيادات» ولم يذكر هناك قول أبي حنيفة رحمه الله وروى ابن كاس عن أبي حنيفة، وزفر مثل قول أبي يوسف، وهذا الاختلاف إنما يتأتى على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية يقدم الثناء على تكبيرات العيد، أما على رواية ابن كاس يقدم تكبيرات العيد على الثناء، فيقع التعوذ بعد الثناء عند أبي يوسف رحمه الله.
ثم هذه المسألة بناءً على أصل أن التعوذ شرع للصلاة أم للقراءة؟ عند محمد رحمه الله شرع للقراءة، فلا جرم يأتي به وقت القراءة، ووقت القراءة بعد تكبيرات العيد، وعند أبي يوسف رحمه الله شرع للصلاة فلا جرم يأتي به بعد الثناء قبل تكبيرات العيد احتج محمد رحمه الله بالنص، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) الله تعالى أمر بالتعوذ حال إرادة القراءة متصلاً بالقراءة؛ لأنه ذكر بحرف الفاء وحرف الفاء للوصل، وإذا أخر التعوذ عن التكبيرات يحصل الوصل بالقراءة، وإذا قدم على التكبيرات يفوت الوصل، فوجب أن يؤخر التعوذ عن التكبيرات حتى لا يفوت الوصل.
وأبو حنيفة، وأبو يوسف رحمهما الله؛ قالا: إن محل التعوذ عقيب الثناء، بلا فصل كما في سائر الصلوات، ومحل التكبيرات بعد الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع، فلو قدمنا التكبيرات على التعوذ يفوت التعوذ عن محله، ولو قدمنا التعوذ على التكبيرات لا تفوت التكبيرت عن محلها، ولا التعوذ عن محله، فكان تقديم التعوذ وتأخير التكبيرات أولى، قوله سبيل التعوذ أن يكون متصلاً بالقراءة.
قلنا: وسبيله أن يكون متصلاً بالثناء أيضاً، فلو أخر التعوذ عن التكبيرات كما يفوت الاتصال بالقراءة يفوت الاتصال بالثناء، فكان تقديم التعوذ كيلا يفوت واحد منهم عن محله أولى من تقديم التكبيرات على التعوذ.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : يستحب المكث بين كل تكبيرتين مقدار ما يسبح ثلاث تسبيحات، وهذا؛ لأن صلاة العيد تقام بجمع عظيم وتوالي بين التكبيرات يشتبه على من كان نائباً عن الإمام، والاشتباه يزول بهذا القدر من المكث، وليس بين التكبيرات ذكر مسنون عندنا؛ إذ لو كان بينهما ذكر مسنون، لكان أتى به النبي عليه السلام، ولو أتى به لوصل إلينا ولم ينقل.

ويرفع يديه في تكبيرات الزوائد في العيدين، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يرفع لحديث ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا في تكبيرة الافتتاح» .
وجه قولهما قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، وذكر منها العيدين» ؛ ولأن رفع اليدين في تكبيرة الافتتاح إنما شرع ليتم الإعلام؛ لأن الإعلام لا يتم بالجهر وحده؛ لأن خلفه أصم وأعمى، فالأعمى إن كان يعلم بجهر التكبير فالأصم لا يعلم إلا برفع اليدين.
فالشرع شرع رفع اليدين حتى يقع الإعلام على العموم، فكذا في تكبيرات العيد لا يقع الإعلام على العموم إلا بالجهر والرفع جميعاً بخلاف تكبيرات الركوع والسجود؛ لأن الإعلام على العموم يقع بالجهر، والانتقال من القيام إلى الركوع، فلا حاجة إلى رفع اليدين ليتم الإعلام وبخلاف تكبيرات الجنازة؛ لأنه شرع بين كل تكبيرتين ذكر مقدر، فإذا فرغ منها يعلم أنه جاء أوان الآخر، فلا حاجة إلى رفع اليدين كما في تكبيرات الركوع.
أما هنا ليس بين التكبيرتين ذكر مسنون مقدر حتى يعلم بالفراغ منه أنه جاء أوان الآخر، فيحتاج إلى رفع اليدين هنا ليتم الإعلام، وما قال الحسن أنه يسبح بين كل تكبيرتين مقدار ثلاث تسبيحات ليس بمقدر لازم، بل يتفاوت بكثرة القوم وبقلته لأن المقصود إزالة الاشتباه عن القوم، وذلك يختلف بكثرة القوم وقلتهم، وإذا صلى العيد خلف إمام لا يرى رفع اليدين عند تكبيرات الزوائد فقد قيل يرفع هو.

(2/99)


نوع آخر في بيان شرائطها
قال القدوري في «كتابه» : تصح صلاة العيدين بما تصح به صلاة الجمعة إلا الخطبة، فإنها في العيد تفعل بعد الصلاة، وفي الجمعة قبل الصلاة، وقوله: وتصح صلاة العيدين بما تصح به الجمعة إشارة إلى اشتراط المصر والسلطان، والأصل فيه قول النبي عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر، ولا أضحى إلا في مصر جامع» ، وروي عن النبي عليه السلام «أنه فتح مكة في رمضان وخرج منها إلى هوازن، فاتفق له العيد في سفره ولم يصل» ولو جاز إقامتها خارج المصر ما تركها، والمعنى الذي أوجب اعتبار السلطان في الجمعة من دفع الفتنة الموهومة، وقطع المنازعة موجود في العيد.
ثم قال: إلا الخطبة فإنها في العيد بعد الصلاة، وفي الجمعة قبل الصلاة، هكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، وإن خطب في العيد أولاً ثم صلى أجزأه.
والأصل في ذلك ما روي: أن عمر رضي الله عنه ربما كان يخطب في العيد قبل الصلاة كيلا يذهب الناس، فيفوتهم ثواب الخطبة ومروان بن الحكم فعل كذلك، وصلى معه نفر من أصحاب رسول الله عليه السلام.
فرق بين العيد وبين الجمعة، فإن في الجمعة لو خطب آخراً لا يجوز، والفرق: إنما يصير التغيير بالترك في الموضعين جميعاً، إلا أنه لو ترك الخطبة في صلاة الجمعة لا يجوز، فكذا إذا غير عن موضعها، ولو ترك الخطبة في صلاة العيد تجوز صلاة العيد، فكذا إذا غير عن موضعها والخطبة في العيدين كهي في الجمعة، يخطب خطبتين بينهما جلسة خفيفة كما في صلاة الجمعة، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ويقرأ فيها بسورة من القرآن ويستمع لها القوم؛ لأن الخطبة في العيد إنما شرعت؛ لتعليم ما يجب إقامته في هذا اليوم من صدقة الفطر، أو الأضحية، وإنما يحصل التعليم بالاستماع والإنصات، والخروج إلى الجبانة لصلاة العيد سنّة، وإن كان يسعهم المسجد الجامع على هذا عامة المشايخ.

وبعضهم قالوا: الخروج إلى الجبانة ليس سنّة، وإنما تعارف الناس ذلك لضيق المسجد، والصحيح ما عليه عامة المشايخ: أنهم لا يخرجون عن المصر، بل يقيمونها في فناء المصر؛ لأن المصر شرط جواز هذه الصلاة وفناء المصر من المصر.
ألا ترى أن أفنية البيوت كأجوافها فكذا فناء المصر كجوفه، أما ما زاد على فناء المصر ليس من المصر، فلهذا قال يقيمونها في فناء المصر ثم إذا خرج الإمام إلى الجبانة، لصلاة العيد وإن استخلف رجلاً يصلي بالضعفة في الجامع، فحسن كما فعل

(2/100)


علي رضي الله عنه، فإنه روي أنه لما قدم الكوفة استخلف أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ليصلي بالضعفة صلاة العيد في الجامع، وخرج إلى الجبانة مع خمسين شيخاً يمشي ويمشون، ولأنه راعى حق الأقوياء، فيراعي حق الضعفاء بأن يستخلف عليهم من يصلي بهم في الجامع كيلا تفوتهم صلاة العيد، وإن لم يفعل ذلك فلا شيء عليه؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك.
وتجوز إقامة صلاة العيد في موضعين نص على هذا في «الأصل» ، وهذا لما ذكرنا أن السنّة في صلاة العيد أن تقام خارج المصر بالجبانة، ولا يمكن للضعفاء الخروج إليها إلا بحرج عظيم، فجوزنا الإقامة في موضعين دفعاً للحرج.
وأما إقامتها في ثلاث مواضع، فعلى قول محمد يجوز وعلى قول أبي يوسف لا يجوز، ولا يخرج المنبر في العيدين؛ لأنه لم يخرج على عهد رسول الله عليه السلام ولا على عهد من بعده من الخلفاء، وأول من أخرج المنبر مروان، وقد أنكر عليه بعض الصحابة وروي أن النبي عليه السلام خطب على ناقته العضا، ووجهه إلى المسلمين.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من خطب على الدابة يكون قاعداً ففيه دليل على أن الخطبة قاعداً تجوز، وروي أنه عليه السلام خطب متكئاً على عنزته، وهو قائم وليس في هذا كله إخراج المنبر.
قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: وأما في زماننا إخراج المنبر لا بأس به؛ لأنه رآه المسلمون حسناً وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إخراج المنبر يوم العيد حسن.
واختلف الناس في بناء المنبر في الجبانة في المصلى قال بعضهم: يكره ويخطب الإمام قائماً على الأرض أو على دابته كما فعل رسول الله عليه السلام، وقال بعضهم: لا يكره.
ويجهر بالقراءة في العيدين هكذا روى نعمان البشير وأبو واقد الليثي وزيد بن أرقم عن رسول الله عليه السلام، وجرى التوارث هكذا فالتوارث حجة. وليس في العيدين أذان ولا إقامة هكذا جرى التوارث (107أ1) من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.
نوع آخر في بيان من يجب عليه الخروج في العيدين
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والخروج في العيدين على أهل الأمصار والمدائن لا على أهل القرى والسواد. قال ثمة أيضاً: وليس على النساء خروج العيدين وكان ترخص لهن في ذلك قال: وقال أبو حنيفة: فأما اليوم فإني أكره لهن ذلك وأكره لهن شهود الجمعة وصلاة المكتوبة وإنما أرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر والعيدين.

وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: يرخص للعجوز في حضور الصلوات كلها

(2/101)


وفي الكسوف والاستسقاء. واعلم بأن النساء أمرن بالقران في البيوت قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) ونهين عن الخروج قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) الآية. أبيح لهن الخروج في الابتداء إلى الجماعات لقوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات» أي غير متطيبات، ثم منعهن بعد ذلك لما في خروجهن من الفتنة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ} (الحجر: 24) المتأخرين قيل في التفسير: الآية نزلت في شأن النسوة كان المنافقون يتأخرون حتى يطلعون على عورات النساء فمنعن بعد ذلك، وقال عليه السلام: «صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في دارها» ، وعن عمر رضي الله عنه: أنه نهى النساء عن الخروج إلى المساجد فشكون إلى عائشة رضي الله عنها فقالت عائشة رضي الله عنها: لو علم النبي عليه السلام ما علم عمر ما أذن لكم في الخروج.

ثم تكلموا أن في زماننا هل يرخص لهن في الخروج أم لا؟ أما الصواب فلا يرخص لهن في الخروج في شيء من الصلوات عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: يباح لهن الخروج واحتج بقوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . واحتج أصحابنا رحمه الله بنهي عمر رضي الله عنه عن الخروج لما رأى من الفتنة.
وأما العجائز من النساء يرخص لهن الخروج إلى صلاة الفجر، والمغرب، والعشاء والعيدين، ولا يرخص لهن الخروج إلى صلاة الظهر، والعصر، والجمعة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرخص لهن في الصلوات كلها، وفي الكسوف والاستسقاء، هما احتجا وقالا: ليس في خروج العجائز فتنة فالناس قل ما يرغبون فيهن وقد كن خرجن إلى الجهاد مع رسول الله عليه السلام يداوين المرضى ويسقين الماء ويطبخن، ولهذا جاز للرجال مصافحتهن، ولهذا يرخص لهن الخروج إلى صلاة الفجر والمغرب والعيدين.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله وقال: وقت الظهر والعصر وقت يكثر فيهما الفساق فالحريص منهم يرغب في العجائز، فيصير خروجهن سبباً للوقوع في الفتنة بخلاف الفجر، والمغرب، والعشاء، فإنه لا يكثر فيها الفساق بل الصلحاء يحضرون في هذه الصلوات؛ ولأن في صلاة الفجر والمغرب، والعشاء ظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليهن

(2/102)


فلا يصير الخروج في هذه الحالة سبباً للوقوع في الفتنة.

بخلاف الظهر والعصر؛ لأنهما يؤديان في ضوء النهار فيقع بصر الرجال عليها، وبخلاف الجمعة فإنها تؤدى في المصر بجمع عظيم، ولكثرة ربما تصدم وتصتدم وفي ذلك فتنة؛ لأن العجوز إن كان لا يشتهيها شاب يشتهيها شيخ مثلها وربما تحمل فرط الشبق بالشاب على أن يشتهيها ويقصد أن يصدمها، فأما صلاة العيد تؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كيلا تصدم. ثم إذا خرجن في العيد هل يصلين؟ روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: يصلين؛ لأن المقصود من الخروج الصلاة، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يصلين وإنما خروجهن لتكثير سواد المسلمين، جاء في حديث أم عطية: «كن النساء يخرجن مع رسول الله عليه السلام في العيدين حتى ذات الحيض» ومعلوم أن الحائض لا تصلي فعلمنا أن خروجهن لتكثير سواد المسلمين.
قال في «الأصل» : وللمولى منع عبده من حضور العيدين، ولا يكره في العبد التخلف عنها؛ لأنها لم تكتب عليه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا لم يأذن المولى، فأما إذا أذن له المولى فتخلف عنها يكره كما في الحر.
قال رحمه الله: وهذا موضع اختلاف وقد تكلموا فيه، قال بعض مشايخنا: له أن يتخلف عنه وإن أذن له المولى، وقال بعضهم: ليس له أن يتخلف عنه لأن المولى لو أمره بخدمة نفسه كان عليه طاعته لا يسعه التخلف فإذا أمره بخدمة الله تعالى أولى.
وفي شرح شيخ الإسلام رحمه الله: إذا أذن المولى للعبد أن يشهد العيدين كان له أن يشهدها؛ لأن المنع كان لحق المولى وقد أبطل المولى حق نفسه لما أذن له أن يشهدها، ولكن لا يجب عليه؛ لأن منافع العبد لم تصر مملوكة له بالإذن فالحال بعد الأذن كالحال قبله، قال: فلا ينبغي أن يشهد العيدين بغير إذن مولاه.

قال بعض مشايخنا: إنما لا يشهد العيدين بغير إذن مولاه إذا علم أنه لو استأذن رضي بذلك وهو لا يتخلف عنها، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله اختلاف المشايخ في العيد: إذا حضر مصلى العيد مع مولاه ليحفظ دابته هل له أن يصلي صلاة العيد بغير إذن المولى؟ قال رحمه الله:.....
مولاه في إمساك دابته، وروي عن محمد رحمه الله: أن له أن لا يصلي العيد وإن تمكن من ذلك وأذن له السيد بأدائها. والله أعلم بالصواب، وبه ختم النوع.

(2/103)


نوع آخر
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا أدرك الرجل الإمام في الركوع في صلاة العيد فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح قائماً؛ لأن الافتتاح شرع في القيام المحض والركوع ليس بقيام محض بل هو قيام من وجه دون وجه فيأتي بكبيرة الافتتاح في محلها وهو القيام لا في الركوع كما في سائر الصلوات، ثم يأتي بتكبيرات العيد قائماً إذا كان غالب رأيه أنه يدرك شيئاً من الركوع مع الإمام لأن المحل الأصلي للتكبيرات القيام المحض، والركوع ليس بقيام محض، فإذا كان يرجو إدراك شيء من الركوع لو أتى بالتكبيرات قائماً فقد أمكنه الإتيان بالتكبيرات في محلها الأصلي من غير فوات الركوع فيأتي بها.
فإن قيل: متى أتى بها في حالة القيام تفوته المتابعة في بعض الركوع ومتى أتى بها في الركوع لا تفوته المتابعة في بعض الركوع ولا التكبيرات، فكان الإتيان بها في حالة الركوع أولى.
قلنا: لو لم يأت بها في حالة القيام تفوته التكبيرات أصلاً عند بعض العلماء وهو أبو يوسف والشافعي رحمه الله؛ لأن عندهما لا يأتى بتكبيرات العيد في حالة الركوع على ما نبين بعد هذا إن شاء الله.
ولو أتى بها في حالة القيام لا تفوته المتابعة في الركوع أصلاً بالإجماع، فكان هذا أولى، وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله، ومحمد رحمه الله يقول: لو أتى بالتكبيرات في حالة القيام تفوته المتابعة في بعض الركوع دون البعض، ولو أتى بها في حالة الركوع تفوت جميع التكبيرات عن محلها من كل وجه، فكان ما قلناه أولى.
فإن قيل: ينبغي أن لا يأتي بتكبيرات العيد هنا، لا في حالة القيام، ولا في حالة الركوع لأنه مسبوق في حق التكبيرات، لأنه حين أتى بها الإمام لم يكن هو في تحريمة الإمام، والمسبوق منهي عن قضاء ما سبق قبل فراغ الإمام.
قلنا: الشريعة القديمة أن يأتي المسبوق بقضاء ما سبق أولاً، ثم يتابع الإمام بعد ذلك إلى أن دخل معاذ على رسول الله عليه السلام، فوجده في الصلاة وقد سبقه بشيء منها وتابعه فيما أدركه، ثم قام بعدما فرغ رسول الله عليه السلام وقضى ما سبق به، فسأله النبي عليه السلام عن ذلك، فقال: كرهت أن أصادقك على حال ولا أبايعك، فقال عليه السلام: «سن لكم معاذ سنّة حسنة فاستنوا بها ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» فانتسخ الاشتغال بقضاء ما سبق أولاً بهذا الحديث، وهذا الحديث في فائت يجب أداؤه لو أدركه مع الإمام، ولو فاته مع الإمام يجب قضاؤه، ألا ترى أنه قال: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» .

والتكبيرات إن كان يجب أداؤها لو أدركها مع الإمام لا يجب قضاؤها لو فاتت مع الإمام، لأنه لو قضاها إما أن يقضيه مع الركعة (107ب1) أم بدون الركعة، لا وجه إلى

(2/104)


الأول؛ لأن فيه إدخال الزيادة في الصلاة، ولا وجه إلى الثاني؛ لأنها شرعت في قيام الركعة فلا يثبت الانتساخ في حق التكبيرات، فبقي الأمر في التكبيرات على الشريعة القديمة، هذا إذا كان يرجو إدراك شيء من الركوع مع الإمام لو أتى بتكبيرات العيد قائماً، فأما إذا كان لا يرجو إدراك شيء من الركوع مع الإمام لو أتى شيئاً قائماً، لا يأتي بتكبيرات العيد قائماً لأن في الإتيان بها قائماً؛ لأنه إذا أتى بها يرفع الإمام رأسه من الركوع فتفوته الركعة، ولا يجتزىء بهذه التكبيرات بل يجب عليه قضاء الركعة مع التكبيرات، فلا يأتي بها بل يركع حتى لا تفوته الركعة.
فإذا ركع يأتي بالتكبيرات في الركوع، ولا يأتي بالتسبيحات في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قياس قول أبي يوسف لا يأتي بالتكبيرات بل يأتي بالتسبيحات. ذكر الخلاف على هذا الوجه في «المنتقى» ، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن هذا سنّة فاتت عن محلها؛ لأن محلها القيام، والركوع ليس بقيام؛ لأن القيام هو الاستواء، والركوع انحناء، وبين الاستواء والانحناء تنافي، والسنّة إذا فاتت عن محلها لا تقضى، ألا ترى لو أدركت الإمام في الركوع لا يأتي بالقراءة.

وكذا إذا أدرك الإمام في الركوع في الوتر لا يأتي بالقنوت، وطريقه ما قلنا؛ ولأن الركوع محل للتسبيحات، فلو اشتغل فيه بالتكبيرات تفوته التسبيحات، فكان الاشتغال بالتسبيحات والركوع جعل محلاً لها أولى. ولأبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» : إذ الركوع له حكم القيام، يريد بهذا والله أعلم أن الركوع أعطي له حكم القيام شرعاً حتى صار إدراك الركوع سبباً لإدراك القيام، قال عليه السلام: «من أدرك الإمام في الركوع فقد أدركها» أي أدرك الركعة، والركعة اسم للقيام والركوع والسجود علمنا أنه أعطي للركوع حكم القيام حتى صار إدراك الركوع سبباً لإدراك القيام.
ثم تكبيرات العيد يؤتى بها في حالة القيام، فكذا في حال ماله حكم القيام، بخلاف القراءة والقنوت وتكبيرة الركوع والثناء، فإنه لا يؤتى بها في الركوع؛ لأن الركوع ليس بقيام حقيقة؛ لأن القيام حقيقة هو الاستواء والركوع انحناء إلا أنه أعطي له حكم القيام شرعاً على ما مر.
فعملنا بالحكم في حق تكبيرات العيد، وعملنا بالحقيقة في حق غيرها لتكون عملاً بالحقيقة والحكم بقدر الإمكان، وإنما عملنا على هذا الوجه، ولم نعمل على العكس، لأنا لو عملنا بالحكم في حق القراءة، وقد نهينا عن القراءة في الركوع.
قال علي رضي الله عنه: «نهاني خليلي أن أقرأ في الركوع وأن أعتد بسجدة ما لم يتقدمها ركوع» . فلزمنا العمل بالحكم في حق التكبيرات من طريق الأولى، لأن

(2/105)


التكبيرات ليست بقراءة ولا لها شبهاً بالقراءة فتعطل العمل بالحقيقة، وكذلك متى عملنا بالحكم في حق الثناء وتكبيرة الركوع وهما سنّتان فلزمنا العمل بالحكم في حق تكبيرات العيد وهي واجبة من طريق الأولى على أنه لا رواية في الثناء عن محمد رحمه الله.

وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم على أنه يأتي بالثناء في حالة الركوع؛ لأن محل الثناء وهو القيام باقي، والثناء سنّة وتسبيحات الركوع أيضاً سنّة، فكان له أن يأتي بأيهما شاء، وكذلك متى عملنا بالحكم في حق القنوت.
والشرع نهانا عن القراءة في الركوع وللقنوت شبهاً بالقرآن، فإنه ذكر مؤلف منظوم كالقرآن، ولهذا اختلف الصحابة فيه، فأبي بن كعب كان يجعله من القرآن وكان يسميه ... وكتب في مصحفه بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعيك إلى قوله: ونترك من يفجرك ثم كتب بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد إلى آخره، فلزمنا العمل بالحكم في حق التكبيرات؛ لأنها ليست بقراءة ولا لها شبهاً بالقراءة فتعطل العمل بالحقيقة، فعملنا على الوجه الذي قلنا: ليمكننا العمل بالحكم والحقيقة، وقوله: إن هذه سنّة فاتت عن محلها.
قلنا: لا نسلم بأنها فاتت عن محلها؛ وهذا لأن محلها عنده القيام والركوع، ولا نقول: بأن هذا قضاء بل هو أداء لما كان الركوع محلاً له، وقوله: بأن الركوع محل للتسبيحات فلو اشتغل بالتكبيرات تفوته التسبيحات.
قلنا: ولو اشتغل بالتسبيحات تفوته التكبيرات أيضاً إلا أن التكبير من أخص الأذكار بهذه الصلاة وليس للتسبيح هذه الخصوصية، فكان الاشتغال بالتكبير أولى، فلو أنه اشتغل بالتكبيرات في الركوع فلما كبر تكبيرة أو تكبيرتين رفع الإمام رأسه من الركوع رفع هو رأسه، وسقط عنه ما بقي من التكبيرات؛ لأنه لو أتى بها لا أن يأتي في الركوع أو بعدما رفع رأسه عن الركوع لا وجه إلى الأول؛ لأن الركوع بعدما رفع الإمام رأسه ليس بقيام حكماً لأنه إنما صار قياماً حكماً لكونه سبباً لإدراك الركعة أنه يصير سبباً، لإدراك الركعة بشرط المشاركة وقد انقطعت المشاركة فلا يبقى قياماً حكماً، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن القومة التي بين الركوع والسجود ليس بمحل للتكبيرات.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولو أن رجلاً دخل مع الإمام في صلاة العيد في الركعة الأولى بعدما كبر الإمام تكبير ابن عباس رضي الله عنه ست تكبيرات، فدخل الرجل معه وهو في القراءة، والرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه يكبر برأي نفسه في هذه الركعة وفي الركعة الثانية يتبع رأي الإمام.
والجملة في ذلك أن نقول: بأن المنفرد يتبع رأي نفسه، والمقتدي يتبع رأي الإمام ما لم يظهر خطأ الإمام بقين؛ وهذا لأن كل مجتهد مأمور بأن يعمل باجتهاده؛ لأن اجتهاده صواب عنده، واجتهاد غيره خطأ عنده، وكل مجتهد مأمور بأن يعمل ما هو

(2/106)


صواب عنده، فيعمل برأي نفسه إلا إذا حكم غيره على نفسه، فينفذ حكم الحاكم عليه، فحينئذٍ يسقط اعتبار رأيه ويعمل برأي الحاكم إلا إذا ظهر خطأ الحاكم بيقين.
إذا ثبت هذا فنقول: المسبوق فيما سبق لم يحكم على نفسه أحداً هو منفرد، فيتبع رأي نفسه وفيما بقي مقتدي حكم الإمام على نفسه، فيعمل برأي الإمام إلا إذا ظهر خطأ الإمام بيقين وهذا الداخل في صلاة الإمام في الركعة الأولى، وقد كان كبر الإمام مسبوق بالتكبيرات التي أتى بها الإمام؛ لأنه حين كبر لم يكن هذا الرجل في تحريمته وهذا هو المسبوق، فكان منفرداً في تكبيرات الركعة الأولى، فيتبع رأي نفسه.
ثم يقول محمد رحمه الله في هذه المسألة: إن الداخل يكبر حال ما يقرأ الإمام، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا كان بعيداً عن الإمام لا يسمع قراءته؛ لأنه يأتي بالثناء في هذه الصورة مع أن الثناء سنّة؛ فلأن يأتي بالتكبيرات وإنها واجبة أولى.
وكذلك لا يشكل فيما إذا كان قريباً من الإمام على قول من يقول: بأن الداخل في صلاة الإمام يأتي بالثناء في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة إذا كان الإمام في القراءة وإنه يشكل على قول من يقول: فإنه لا يأتي بالثناء.

والفرق على قول هذا القائل: أن الثناء سنّة فمتى أتى به يفوته الاستماع أو يتمكن الخلل مما هو المقصود من الاستماع وهو التأمل، والاستماع واجب، وترك السنّة أهون من ترك الواجب ومن إيقاع الخلل فيما هو المقصود من الواجب، فإن تكبيرات العيد واجبة كما أن الاستماع واجب وإذ استويا في الوجوب رجحنا التكبيرات؛ لأن التكبيرات تفوته أصلاً والاستماع لا يفوته أصلاً بل يتمكن الخلل فيما هو المقصود منه وهو التأمل وإن كان لا يفوته أصلاً ولكن يفوته في البعض دون البعض فكان الترجيح للتكبيرات من هذا الوجه.
كذلك لو كان الإمام صلى الركعة الأولى وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، فدخل الرجل معه في الركعة الثانية فلما سلم الإمام قام الرجل يقضي الركعة الأولى، وهو يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، يكبر تكبير ابن مسعود؛ لأنه مسبوق في الركعة الأولى، فكان منفرداً فيتبع رأي نفسه.
واستشهد في «الكتاب» : لبيان أنه يعتبر في حق المسبوق فيما سبق حاله لا حال الإمام بمسائل.
منها: إذا قرأ الرجل آية السجدة في ركعة فسجدها، ثم دخل رجل في الصلاة وقد فاتته الركعة الأولى التي قرأ الإمام فيها آية السجدة ثم قام يقضي تلك الركعة، فإنه لا يأتي بتلك السجدة التي أتى بها الإمام وإن كان يأتي بها لو كان مع الإمام؛ لهذا إنه مسبوق في تلك الركعة (108أ1) يتغير حاله لا حال الإمام.
ومنها: رجل صلى الظهر ولم يقعد على رأس الركعتين واستوى قائماً، ومضى على صلاته ثم دخل رجل في صلاته، فلما فرغ الإمام قام الرجل الداخل إلى قضاء ما سبق، فإنه يقعد على رأس الركعتين، وإن كان لا يقعد لو كان مع الإمام لهذا إنه مسبوق فى

(2/107)


الركعتين، فيعتبر حاله لا حال الإمام.

ومنها: أن الرجل إذا دخل مع الإمام في صلاة الوتر وهو في التشهد، وكان قنت في الركوع، وكان ذلك من رأيه فلما فرغ الإمام من صلاته قام الرجل للقضاء فكان من رأيه القنوت قبل الركوع يقنت قبل الركوع، وإن كان يقنت بعد الركوع لو كان مع الإمام؛ لهذا إنه مسبوق في القنوت، فيعتبر فيه حاله لا حال الإمام، فكذا في مسألتنا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا دخل الرجل مع الإمام في صلاة العيد وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فكبر الإمام غير ذلك اتبع الإمام إلا إذا كبر الإمام تكبيراً لم يكبره أحد من الفقهاء؛ فحينئذٍ لا يتابعه.
وأراد بقوله: لم يكبره أحد من الفقهاء أحد من الصحابة، وهذا لأنه بالاقتداء بالإمام حكّمه على نفسه، فيتعين حكمه عليه ما لم يخرج عن حد الاجتهاد، وإذا كبر تكبيراً كبره أحد من الصحابة لم يخرج حكمه عن حد الاجتهاد فينفذ عليه.
وإذا كبر تكبيراً لم يكبره أحد من الصحابة، فإن زاد على ستة عشر يعد خرج حكمه عن حد الاجتهاد فلا ينفذ عليه.
فإن قيل: أليس لو كان الإمام يرى القنوت في صلاة الفجر والمأموم لا يرى ذلك لا يتابعه ولم يخرج حكمه عن حد الاجتهاد.
قلنا: هناك خرج حكمه عن حد الاجتهاد؛ لأن القنوت في صلاة الفجر منسوخ عام لنا دلالة النسخ وبعد ما ثبت النسخ لا يبقى محلاً للاجتهاد.
d
وأما في تكبيرات العيد لم يعم دلالة النسخ بعض أقوال الصحابة رضون الله عليهم أجمعين فهو محل الاجتهاد، وهذا إذا كان الرجل يسمع تكبير الإمام، فإن لم يكن يسمع تكبير الإمام ولكن كبر الناس فكبر هو بتكبير الناس، فإنه يكبر ما كبر الناس، وإن زاد على ستة عشر؛ لأن الزيادة تحتمل أن من الإمام فيكون خطأ ويحتمل أن يكون من الناس بأن سبق تكبيرهم تكبير الإمام فتكون الزيادة واجبة، فدارت الزيادة بين أن تكون خطأ وبين أن تكون واجبة.

والأصل: ما دار بين البدعة والواجب كان الإتيان به أولى من تركه، وكل ما دار بين البدعة والسنّة كان تركه أولى من الإتيان به. وقد قال مشايخنا: إن الرجل إذا كبر بتكبير الناس دون الإمام والأحوط له أن ينوي الافتتاح عند كل تكبيرة حتى أنهم إذا كبروا قبل تكبير الإمام ظناً منهم أن الإمام قد كبر ولم يكن كبر بعد يصير شارعاً في صلاة الإمام بالتكبيرة الثانية، وإن كان شارعاً في التكبيرة الأولى فنية الافتتاح لا تضره لأنه نوى الشروع في الصلاة التي هو فيها.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: وإذا افتتح الرجل صلاة العيد مع الإمام ثم نام حين افتتح ثم استيقظ وقد فرغ من الصلاة وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فقام ليقضي صلاته فإنه يكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه مدرك أول الصلاة فيجعل في الحكم كأنه خلف الإمام

(2/108)


على ما مر، ولو كان خلف الإمام حقيقة يكبر تكبير ابن عباس فكذا إذا جعل في الحكم كأنه خلف الإمام.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: ولو أن رجلاً فاتته ركعة في صلاة العيد مع الإمام، وقد كبر الإمام تكبير ابن مسعود رضي الله عنه ووالى بين القراءتين، وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود أيضاً، فلما سلم الإمام وقام الرجل يقضي ما فاته، فإنه يبدأ بالقراءة ثم بالتكبير، هكذا ذكر في عامة الروايات.
وذكر في «نوادر الصلاة» لأبي سليمان رحمة الله عليه: أنه يبدأ بالتكبير ثم يقرأ، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: ما ذكر في عامة الروايات جواب الاستحسان، وما ذكر في «النوادر» جواب القياس.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان. وقال الكرخي رحمه الله: ما ذكر في عامة الروايات جواب الاستحسان قول محمد رحمه الله، وما ذكر في «النوادر» قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، بناءً على أن ما أدرك المسبوق مع الإمام أول صلاته عند محمد وما يقضيه آخر صلاته.

وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ما أدرك المسبوق مع الإمام آخر صلاته وما يقضيه أول صلاته وأنكر بعض مشايخنا رحمهم الله هذا الخلاف، وقالوا: لا رواية عن أصحابنا على هذا الوجه، وإنما نصب الكرخي الخلاف على هذا الوجه مقتضى ما ذكره محمد رحمه الله من المسائل، والمسائل متعارضة، ولكن هذا ليس بصحيح.
فالخلاف على هذا الوجه منصوص في «النوادر» ، ولأجل هذا الخلاف وضع المسألة فيما إذا كان الإمام والمقتدي يريان تكبير ابن مسعود رضي الله عنه ولا تكبير ابن عباس رضي الله عنهما ولا تكبير علي رضي الله عنه، حتى يختلف الجواب متى اعتبر ما يقضي أول صلاته أو آخر صلاته؛ لأن ابن مسعود يقدم التكبيرات في أول الصلاة ويؤخرها في آخر الصلاة، وابن عباس رضي الله عنهما يقدم التكبيرات في الركعتين فيبدأ بالتكبير بالإجماع اعتبر ذلك أول صلاته أو آخر صلاته، وعلي رضي الله عنه يؤخر التكبيرات عن القراءة في الركعتين فيبدأ بالقراءة بالإجماع اعتبر ذلك أول صلاته أو آخر صلاته.
فإن كانت المسألة المذكورة هنا على الاختلاف الذي ذكره الكرخي رحمه الله فتخريجها ظاهر؛ لأن عند محمد رحمه الله ما يقضي المسبوق آخر صلاته، ومن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه البداية في القراءة في آخر الصلاة.
وعندهما ما يقضي المسبوق أول صلاته، ومن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه البداية بالتكبير في أول الصلاة.
وإن كانت المسألة على الروايتين كما ذهب إليه بعض المشايخ القياس والاستحسان كما ذهب إليه بعض المشايخ.

فوجه القياس: وهو إحدى الروايتين أن ما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً وآخر صلاته حقيقة؛ لأن ما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة وآخر صلاته حكماً من حيث إن الأول اسم لفرد سابق فيكون ما أدرك مع الإمام أولاً في حقه حقيقة، ومن حيث إنه آخر في حق الإمام؛ لأن الآخر اسم لفرد لاحق، فيكون آخراً في حقه حكماً تحقيقاً للتبعية وتصحيحاً للاقتداء؛ لأن بين أول الصلاة وآخرها مغايرة من حيث الحكم، فإن القراءة فرض في الأوليين نفل في الأخريين.
والمغايرة تمنع صحة الاقتداء، ولما صح الاقتداء علمنا أن ما أدرك اعتبر آخراً في حقه حكماً إن كان أولاً حقيقة، وإذا كان ما أدرك مع الإمام آخراً في حقه حكماً أولاً حقيقة كان ما يقضي أولاً في حقه حكماً آخراً حقيقة والعمل بالحقيقة والحكم في حق التكبيرات متعذر لما بينهما من التنافي فلا بد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر.
فنقول: اعتبار الحكم أولى؛ لأن الحكم قاضي على الحقيقة فسقط اعتبار الحقيقة شرعاً، ولهذا اعتبر الحكم في حق القنوت حتى لو قنت مع الإمام فيما أدرك يكون معتداً به حتى لا يقنت فيا يقضي.
وجه الاستحسان: أن الأمر كما قلتم إنما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً وآخر

(2/109)


صلاته حقيقة، وما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة، وآخر صلاته حكماً، إلا أنه تعتبر الحقيقة فيما أدرك وفيما يقضي في حق الثناء حتى يقع في محله، وهو ما قبل أداء الأركان، ويعتبر الحكم فيما أدرك وفيما يقضي في حق القراءة، فجعلنا ما أدرك آخر صلاته وما يقضي أول صلاته فأوجبنا القراءة فيما يقضي؛ لأن القراءة ركن لا تجوز الصلاة بدونها فيعتبر الحكم في حق القراءة حتى يخرج من عهدة ما عليه بيقين، وفي حق القنوت يعتبر الحكم فيما أدرك وفيما يقضي فلا يأتي بالقنوت فيما يقضي كيلا يؤدي إلى تكرار القنوت الذي هو ليس بمشروع.

وفي حق القعدة تعتبر الحقيقة فيما أدرك وفيما يقضي فألزمناه القعدة متى فرغ مما يقضي؛ لأن قعدة الختم ركن لا تجوز الصلاة بدونها، فاعتبرنا الحقيقة في حق القعدة فأوجبنا عليه القعدة متى فرغ مما يقضي حتى يخرج عن العهدة بيقين.
وفي حق التكبيرات اعتبرنا الحقيقة فيما يقضي؛ لأن اعتبار (108ب1) الحكم يؤدي إلى مخالفة إجماع الصحابة، فإن الصحابة أجمعوا على عدم الموالاة بين التكبيرات، وفي اعتبار الحكم موالاة بين التكبيرات، فإنه آخر التكبيرات عن القراءة في الركعة التي أدركها مع الإمام فلو قدم التكبيرات فيما يقضي تقع الموالاة بين التكبيرات، أما لو اعتبرنا الحقيقة وبدأ بالقراءة يصير عاملاً بقول علي رضي الله عنه، فلا يؤدي إلى مخالفة إجماع الصحابة، فكان اعتبار الحقيقة في حق التكبيرات أولى.
قال السيد الإمام أبو شجاع رحمه الله: وهذا ضعيف، فإن الموالاة بين التكبيرات جائز، ألا ترى أن الإمام لو افتتح الصلاة على مذهب علي رضي الله عنه حين قدم القراءة على التكبير، فلما صلى ركعة تحول رأيه إلى رأي ابن عباس رضي الله عنهما حتى قدم التكبير على القراءة في الركعة الثانية جاز ذلك، وهذا موالاة بين التكبيرات على أنا

(2/110)


نقول: هذا من حيث الصورة يترأى أنه موالاة بين التكبيرات، وأما من حيث المعنى فليس كذلك؛ لأن الركعة الثانية قضاء، والقضاء يلحق بمحل الأداء.
والوجه الصحيح في ذلك أن يقال: اعتبار الحكم في حق التكبيرات يؤدي إلى أمر غير مشروع عند ابن مسعود رضي الله عنه، فإن من مذهب ابن مسعود أنه لا يشتغل بالتكبيرات الزوائد إلا بعد أداء ركن من أركان الصلاة في الركعتين جميعاً، فإن في الركعة الأولى يؤتى بتكبيرات العيد بعد تكبيرة الافتتاح، وإنها ركن أو فرض على ما عرف، وفي الركعة الثانية يؤتى بالتكبيرات الزوائد بعد القراءة والقراءة في الركعتين فرض.
إذا ثبت هذا فنقول: لو اعتبرنا الحكم في حق التكبيرات يأتي بالتكبيرات في هذه الركعة أولاً، فيصير إتياناً بالتكبيرات الزوائد قبل أداء ركن في هذه الركعة، وإنه غير مشروع على مذهبه.
ووجه آخر في المسألة أيضاً: أن ابن مسعود رضي الله عنه إنما لا يقدم التكبيرات في الركعة الأولى لا لكونها أولاً وتؤخر في الركعة الثانية لا لكونها ثانية، بل لأن السنّة في تكبيرات العيد الجمع بينهما، وإليه وقعت الإشارة في قوله عليه السلام حين صلى صلاة العيد وكبر فيها، كما هو مذهب ابن مسعود رضي الله عنه: لا تنسوا أربع كأربع الجنائز إلا أن في الركعة الأولى وقعت المعارضة بين تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع فإنهما عدتا من تكبيرات العيد، فكان الضم إلى تكبيرة الافتتاح أولى؛ لأنها أشبه بتكبيرات العيد، فإنها تؤدى في حالة القيام المحض كتكبيرات العيد.
وترفع الأيدي عندهما كما ترفع عند تكبيرات العيد. وفي الركعة الثانية لم توجد تكبيرة الافتتاح فيجب الضم إلى تكبيرة الركوع.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا قام إلى قضاء ما سبق به فهذا وإن كان أول صلاته حكماً، إلا أن هذا أول ليس له تكبيرة الافتتاح فيضم التكبيرات الزوائد إلى تكبيرة الركوع ضرورة، فلهذا يقدم القراءة على التكبيرات في هذه الركعة. والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وليس قبل العيدين صلاة يريد به أنه لا يتطوع قبل صلاة العيدين، والأصل فيه حديث جابر قال: كنت آخر الناس إسلاماً فحفظت من رسول الله عليه السلام «أن لا صلاة في العيدين قبل الإمام» ، ولأنه لو تطوع قبل الإمام ربما يدخل الإمام في الصلاة، فإما أن يقطع ويتابع الإمام، أو يتم ويترك المتابعة وكل ذلك لا يجوز. قال: وإن شاء تطوع بعد الفراغ من الخطبة لحديث علي رضي الله عنه:

(2/111)


«من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله تعالى له بكل نبت وبكل ورقة حسنة» .

قال القاضي الإمام أبو جعفر الإسترسي: كان شيخنا أبو بكر الرازي رحمه الله يفتى بقول أصحابنا رحمهم الله: وليس قبل العيدين صلاة ليس قبل العيدين صلاة مسنونة؛ لأن الصلاة قبل العيدين مكروه، إلا أن الكرخي نص على الكراهة فإنه قال: ويكره لمن حضر المصلى يوم العيد التنفل قبل الصلاة. والله أعلم.
وقال بعض الناس: لا يكره التطوع قبل العيد ولا بعدها، لا في حق القوم ولا في حق الإمام. وقال الشافعي: يكره في حق الإمام، ولا يكره في حق القوم.
ذكر في «نوادر الصلاة» : ولا شيء على من فاتته صلاة العيد مع الإمام، وقال الشافعي: يصلي وحده كما يصلي مع الإمام، وهذا بناءً على أن المنفرد هل يصلي صلاة العيد؟ عندنا لا يصلي، وعنده يصلي؛ لأن الجماعة والسلطان ليس بشرط عنده، فكان له أن يصلي وحده، فإذا فاتته مع الإمام لم يعجز عن قضائها.
فقال بالقضاء كالتراويح إذا فاتت بالجماعة في رمضان يقضيها وحده؛ لأنه قادر على قضائها، لأنه يجوز الأداء منفرداً كما يجوز بجماعة كذا ههنا. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: لا يجوز إقامتها إلا بشرائط مخصوصة منها الإمام، فإذا فاتت مع الإمام فقد عجز عن قضائها، فلا يلزمه القضاء.

فإن قيل: صلاة العيد قائمة مقام صلاة الضحى، ولهذا تكره صلاة الضحى قبل صلاة العيد، وإذا قامت مقام صلاة الضحى، وهو قادر على صلاة الضحى إن عجز عن إقامة صلاة العيد وجب أن تلزمه صلاة الضحى لتقوم مقام صلاة العيد، كما إذا فاتته الجمعة يلزمه إقامة الظهر، وإنما تلزمه لما قلنا.
قلنا: نعم صلاة العيد أقيمت مقام صلاة الضحى، فإذا عجز عن إقامة صلاة العيد لفوات الشرائط عاد الأمر إلى الأصل وهي صلاة الضحى، وصلاة الضحى غير واجبة في الأصل بل يتخير في ذلك.
وفي أداء الجمعة لما عجز عن أداء الجمعة لفوات الشرائط سقطت عنه الجمعة، وعاد الأمر إلى ما كان قبل الجمعة، وقبل الجمعة كان يلزمه أداء الظهر، ولا يتخير في أدائه، فكذلك بعدها، فإن أحب أن يصلي صلى إن شاء ركعتين، وإن شاء أربعاً، ويكون ذلك صلاة الضحى والأفضل أن يصلي أربع ركعات، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات، يقرأ في الركعة الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} (الشمس: 1) ، وفي الثالثة: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) ، وفي الرابعة: {وَالضُّحَى} (الضحى: 1) . وروي في ذلك عن النبي عليه السلام وعداً جميلاً وثواباً جزيلاً.

(2/112)


وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: لا بأس بصلاة الضحى قبل الخروج إلى الجبانة، إنما كره ذلك في الجبانة، وكان يقول: لا بأس للمرأة أن تصلي صلاة الضحى يوم العيد قبل أن يصلي الإمام صلاة العيد.
وعامة المشايخ على الكراهة قبل الخروج إلى الجبانة وفي الجبانة، وعلى قول العامة: إذا أرادت المرأة أن تصلي صلاة الضحى يوم العيد تصلي بعدما صلى الإمام.

وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيد يشتغل بالتسبيحات دون الثناء، فقد قدم التسبيحات على الثناء، وفيما إذا أدرك الإمام في الركوع، وخاف أنه لو أتى بتكبيرات العيد قائماً لا يدرك شيئاً من الركوع يأتي بتكبيرات العيد دون التسبيحات عند أبي حنيفة ومحمد وقدم تكبيرات العيد على التسبيحات؛ لأن التسبيحات سنّة والتكبيرات تسبيحات في محلها والثناء لا.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : من أدرك الإمام في ركوع صلاة العيد تابعه في الركوع، فعلى قياس ما ذكرنا أنه يكبر في الركوع تكبيرات العيد ينبغي أن يرفع اليدين؛ لأنه سنّة في تكبيرات العيد.

وفي «النوازل» : إمام صلى بالناس صلاة العيد ثم علم أنه على غير وضوء، إن علم قبل الزوال يعيد في العيدين؛ لأن الوقت باقي، وإن علم بعد الزوال يخرج في العيدين من الغد لأنه تأخير بعذر، وإن علم في الغد بعد الزوال ففي الأضحى يخرج في اليوم الثالث، لأن الوقت باقي، وفي عيد الفطر لا، لأن الوقت لم يبق، فإن علم في اليوم الأول بعد الزوال، وكان عيد الأضحى وقد كان ذبح الناس يجزىء من ذبح.
وأي سورة قرأ في صلاة العيد جاز، بلغنا عن أبي بكر رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام: «قرأ في صلاة العيد سورة البقرة» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قرأ فيها {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} » ، وعن نعمان بن بشير رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام: «كان يقرأ في العيدين: « {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى غُثَآء (1) هوَ الَّذِى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} » ، وروي أنه كان يقرأ سورة «الجمعة» و {إِذَا جَآءكَ الْمُنَفِقُونَ} ، فاختلاف يدل على أنه ليس فيها شيء مؤقت.

والمعنى فيه: وهو أن هذه صلاة شرعت فيها القراءة، فلا يتعين فيها قراءة سورة من القرآن سوى الفاتحة قياساً (109أ1) على سائر الصلوات، وهذا لأن في تعيين سورة هجر الباقي، وليس شيء من القرآن بمهجور.
وإذا أدرك الإمام في صلاة العيد بعدما تشهد الإمام قبل أن يسلم أو بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو أو بعدما سجد للسهو فدخل معه، ثم سلم الإمام فإنه يقوم فيقضي صلاة العيد لأنه شارك الإمام في الصلاة فيلزمه القضاء.
من مشايخنا من قال: المذكور قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، فأما قول

(2/113)


محمد رحمه الله: لا يصير مدركاً لصلاة العيد كما قال في الجمعة: إذا أدرك الإمام في هذه الحالة لا يصير مدركاً للجمعة عنده، حتى يصلي أربعاً عنده فكذلك ها هنا.
ومنهم من قال: هذا بلا خلاف وهو الأصح، فإن صح الخلاف لمحمد في صلاة العيد كما في الجمعة فلا حاجة لمحمد رحمه الله إلى الفرق بين صلاة الجمعة وصلاة العيد، وإن لم يصح الخلاف يحتاج محمد إلى الفرق بين صلاة العيد وبين صلاة الجمعة.
فإنه قال: في صلاة الجمعة لا يصير مدركاً للجمعة، ويصلي أربعاً، وفي صلاة العيد قال: يصير مدركاً لصلاة العيد، ويصلي صلاة العيد وحده.
ووجه الفرق لمحمد رحمه الله وهو: أن القياس ما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في الجمعة، إلا أنه ترك القياس بالأثر، والأثر ورد في الجمعة، وما ورد في العيد، وترد صلاة العيد إلى أصل القياس، ولأن محمد رحمه الله جعله مدركاً للجمعة في تلك المسألة بدليل أنه لو ترك القعدة على رأس الركعتين لا تجزئه صلاته، كما إذا صلى الجمعة وترك القعدة على رأس الركعتين، وإذا خرج وقت الظهر فسدت صلاته إلا أنه أمر بزيادة ركعتين احتياطاً لتقوم مقام الظهر، وليس في صلاة العيد زيادة نأمره بها احتياطاً.

ثم إذا سلم الإمام وقام هو إلى القضاء كيف يصنع؟ قال الشيخ الإمام الزاهد المعروف بخواهر زاده رحمه الله: يقوم فيكبر ثلاث تكبيرات، ثم يقرأ؛ لأن ما يقضي أول صلاته في هذه الحالة بالإجماع، لأنه مسبوق بركعتين، والتكبير مقدم على القراءة الأولى ومؤخر في الثانية عندنا، فكذلك ههنا.
قال في «الأصل» : والسهو في العيدين والجمعة والمكتوبة والتطوع سواء لأن الجمعة والعيدين ساوت سائر الصلوات فيما يوجب الفساد فتساويها فيما يوجب الجبر، إلا أن مشايخنا قالوا: لا يسجدون للسهو في الجمعة والعيدين كيلا يقع الناس في الفتنة. ولا تجوز صلاة العيد راكباً كالجمعة، ولا بأس بالركوب في الجمعة والعيدين، والمشي أفضل في حق من يقدر عليه.

«في غريب الرواية» : وإذا قرأ الإمام السجدة في خطبة العيد سجدها وسجد معه من سمعها، كما في الخطبة الجمعة، وكذلك إذا قرأها في الصلاة سجدها وسجد القوم معه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: لا يسجدون، والكلام في العيد نظير الكلام في الجمعة.
وإذا أحدث رجل في الجبانة وخاف أنه إن رجع إلى الكوفة ليتوضأ تفوته الصلاة، وهو لا يجد الماء، فإن كان قبل الشروع في الصلاة يتيمم ويصلي مع الناس. من أصحابنا من قال: هذا في جبانة الكوفة لأن الماء بعيد، أما في ديارنا الماء محيط بالمصلى فينبغي أن لا يجوز التيمم.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أنه متى خاف الفوت يجوز له التيمم في أي موضع كان، وكذلك إذا أحدث بعدما دخل في الصلاة تيمم وصلى، وإن لم يتيمم وانصرف إلى الكوفة وتوضأ، ثم عاد إلى المصلى وصلى جاز.

(2/114)


وقال أبو يوسف، ومحمد: إذا أحدث بعدما دخل في الصلاة لم يجز له التيمم، وهذا الذي ذكرنا في حق المقتدي وكذلك الحكم في حق الإمام.

وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه ليس للإمام أن يتيمم، لأنه لا يخاف الفوت فإنه لا يجوز للناس أن يصلوا بدون الإمام، وجه ظاهر الرواية أنه يخاف الفوت بخروج الوقت فربما تزول الشمس قبل فراغه من الوضوء، ومن تكلم في صلاة العيد بعدما صلى ركعة فلا قضاء عليه.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا على قول أبي حنيفة، فأما على قولهما: عليه القضاء بناءً على المسألة المتقدمة، وهو ما إذا أحدث في صلاة العيد ولم يجد ماء وهو يخاف الفوت إن توضأ فعلى قول أبي حنيفة يتيمم؛ لأن على قوله لا يمكنه القضاء لو لم يجز له التيمم تفوته الصلاة أصلاً، وعلى قولهما: لا يتيمم؛ لأنه يمكنه القضاء لو لم يجز له التيمم لا تفوته الصلاة أصلاً.

الفصل السابع والعشرون في تكبير أيام التشريق
تكبير التشريق سنّة: أجمع أهل العلم على العمل بها، والأصل فيه قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) جاء في التفسير: أن المراد منه أيام العشر، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام قال: «وأفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبل يوم عرفة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام: «صلى الفجر يوم عرفة وقال: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في ابتدائه وانتهائه.
أما الاختلاف في ابتدائه فكبار الصحابة عمر، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم قالوا: يبدأ بالتكبير من صلاة الغداة يوم عرفة، وبه أخذ علماؤنا في ظاهر الرواية، وهو أحد أقوال الشافعي رحمه الله.
v

وصغار الصحابة كعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين قالوا: يبدأ بالتكبير من صلاة الظهر من يوم النحر، وهو المشهور من أقوال الشافعي رحمه الله، وهو مروي عن أبي يوسف رحمه الله، وللشافعي رحمه الله قول ثالث أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الفجر من يوم النحر.

(2/115)


وأما الاختلاف في انتهائه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: يكبر في صلاة العصر من أول يوم النحر ويقطع فتكون الجملة عنده ثمان صلوات، وبقوله أخذ أبو حنيفة رحمه الله، وقال علي رضي الله عنه: يكبر في صلاة العصر من آخر أيام التشريق ويقطع، فتكون الجملة ثلاثاً وعشرون صلاة، وبه أخذ أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله، وعن عمر رضي الله عنه روايتان، في رواية كما قال علي رضي الله عنه وفي رواية قال: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يكبر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق.
وقال زيد بن ثابت في رواية كما قال علي رضي الله عنه: وفي رواية قال: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشرق.
وللشافعي رحمه الله للقطع ثلاثة أقوال أيضاً قال في قول: يكبر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، وقال في قول: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق، وقال في قول: يكبر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. نتكلم أولاً في ابتدائه حجة صغار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَآءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} (البقرة: 200) والفاء للتعقيب، والمراد به التكبير؛ لأنه لا يجب ذكر آخر عقيب قضاء المناسك إلا التكبير، وقضاء المناسك إنما يتم وقت الضحوة من يوم النحر فينبغي أن يكون التكبير عقيبه فيقع ابتداء التكبير من صلاة الظهر.

حجتنا قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) روي عن جماعة من الصحابة أن المراد به أيام العشر، ومنهم من قال: المراد منه يوم النحر ويومان بعده، فاتفقوا على أن يوم النحر مراد بظاهره يقتضي أنه كلما طلع الفجر من يوم النحر يكبر وعنده لا يكبر في صلاة الفجر، وحديث جابر، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم على ما روينا دليل على صحة مذهبنا.
وروى أبو الطفيل عن علي، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما «أنهما سمعا رسول الله عليه السلام يكبر في دبر الصلوات المكتوبات من صلاة الغداة يوم عرفة إلى صلاة العصر من أخر أيام التشريق حتى يسلم من المكتوبات» . أما الجواب عن التعليق بالآية
قلنا: أراد به ذكر الله تعالى في الأوقات كلها لا التكبير في أوقات مخصوصة ألا ترى أنه قال: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَآءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} (البقرة: 200) وهم كانوا يذكرون آبائهم في الأوقات كلها على سبيل التفاخر وأمرهم الله تعالى بذكره في الأوقات كلها مقام ذكر آبائهم.

(2/116)


وحاصل الاختلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله على ما هو المشهور من قوله راجع إلى أن التكبير في أول يوم النحر بأي علةٍ شرعت فإن التكبير في أول يوم النحر مشروع بالإجماع.
فعند علمائنا رحمهم الله شرع؛ لأنه يوم اختص بركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة فإنه يجوز فيه ولا يجوز قبله (109ب1) ، فشرع التكبير فيه ليكون علماً على أنه وقت ركن من أركان الحج.

وعند الشافعي شرع فيه؛ لأنه يوم اختص بتبع من توابع الحج وهو الرمي فإن رمي جمرة العقبة مشروع فيه، وليس بمشروع قبله، فشرع التكبير فيه ليكون علماً على أنه وقت رمي الجمر، فنحن عللنا بما عللناه إلى يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة يوم اختص بركن من أركان الحج، وهو الوقوف بعرفة وهو عدل بما علل إلى ثلاثة أيام التشريق؛ لأنه اختص هذه الأيام بتبع من توابع الحج وهو الرمي، فرجح الشافعي علته وقال: التكبير تبع من توابع الحج، وليس من أركان الحج فكان جعله علماً على ما شرع تبعاً من توابع الحج أولى من جعله علماً على ما شرع ركناً من أركان الحج.
وعلماؤنا رحمهم الله رجحوا عليتهم فقالوا: متى عللنا بما قلنا فقد علقنا التكبير بما علقه الشرع به بيقين، ومتى عللنا بما قاله الشافعي رحمه الله فما علقنا التكبير بما علقه الشرع به بيقين.
بيانه: أن في الركن تبع وزيادة لأن الركن يستتبع التبع أما التبع لا يستتبع الركن فمتى علقنا التكبير بالركن والتبع موجود فيه فقد علقناه بما علقه الشرع به بيقين ومتى علقناه بالتبع والركن لا يوجد في التبع فما علقناه بما علقه الشرع به بيقين لأنه يحتمل أن الشرع علقه بالركن والركن لم يوجد في التبع فكان ما قلناه أولى. وقد صح عن رسول الله عليه السلام برواية جابر رضي الله عنه «أنه صلى الفجر يوم عرفة وكبر» فصار تعليلنا مؤيداً بخبر رسول الله عليه السلام فكان أولى، هذا هو الكلام في البداية.

وأما الكلام في القطع والنهاية فأبو حنيفة رحمه الله رجح قول ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن شرعية التكبير في أول يوم النحر لكونه مختصاً بركن من الحج ولم توجد هذه العلة في اليوم الثاني من يوم النحر، وهما رجحا قول علي رضي الله عنه فقالا: تعليل الأصل كما يجوز بعلة واحدة فيجوز بعلتين، فنحن نقول شرعية التكبير في أول يوم النحر معلولة بما قلنا وبما قاله الشافعي رحمه الله، وإحدى العلتين موجودة في هذه الأيام بعد يوم النحر فصحت التعدية.
ومحمد رحمه الله ذكر في «الكتاب» : ليرجح قولهما فقال: لما اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في التكبيرات عقيب الصلوات كان الأخذ بقول علي رضي الله عنه، وفيه زيادة تكبير أولى؛ لأنه إن كان كبر وليس عليه ذلك أولى من أن يترك وعليه

(2/117)


ذلك، فمن المشايخ من ناقض محمداً في هذا فقال: أليس لم يأخذ محمد رحمه الله بتكبير ابن عباس رضي الله عنه في صلاة العيد مع أن فيه زيادة تكبير.
ومحمد رحمه الله يفرق ويقول: تكبيرات العيد يؤتى بها في الصلاة والأصل صيانة الصلاة عن إدخال الزوائد فيها كما في سائر الصلوات، إلا أن فيما اتفقت عليه الأقاويل هو الأقل عدلنا عن الأصل. وفيما اختلفت فيه الأقاويل عدنا إلى الأصل، أما تكبيرات التشريق يؤتى بها عقيب الصلوات، وهو موضع الدعاء والذكر والإكثار في الأذكار في موضعها أفضل قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب: 41) بعد هذا يحتاج إلى بيان كيفية هذ التكبير وإلى بيان ما يجب عليه هذا التكبير.
أما الكلام في كيفيته فنقول: التكبير عندنا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

وقال الشافعي رحمه الله: التكبير أن يقول: الله أكبر ثلاث مرات، أو خمس مرات، أو سبع مرات، أو تسع مرات، حجته في ذلك أن المنصوص عليه في الكتاب هو التكبير لا غير قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) والتكبير قول: الله أكبر وقوله: لا إله إلا الله، تهليل وقوله: ولله الحمد تحميد، فمن شرط ذلك فقد زاد على الكتاب.
حجتنا في ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنه وحديث جابر على نحو ما روينا في ابتداء المسألة، والأمة توارثوا التكبير من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من الوجه الذي بينا، والتوارث حجة.
وقيل: إن مأخذ التكبير من جبريل، وإبراهيم، وإسماعيل صلوات الله عليهم، فإن إبراهيم لما أضجع إسماعيل للذبح أمر الله عزّ وجلّ جبريل عليه السلام حتى يذهب إليه بالفداء فلما رأى جبريل أنه أضجعه للذبح فقال: الله أكبر الله أكبر كيلا يعجل بالذبح، فلما سمع إبراهيم صوت جبريل عليه السلام وقع عنده أنه يأتيه باللسان.
فهلل الله تعالى وذكره بالوحدانية فقال: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما سمع إسماعيل كلامهما وقع عنده أنه فدي، فحمد الله تعالى وشكره فقال: الله أكبر ولله الحمد، فثبوته على هذا الوجه بهولاء الأجلاء فلا يجوز أن يأتي بالبعض ويترك البعض.

وأما الكلام فيمن يجب عليه هذا التكبير فنقول: على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجب هذه التكبيرات مقصوداً إلا على الرجال المقيمين في الأمصار عقيب الصلوات المكتوبات بالجماعة، وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: يجب على كل من تجب عليه الصلاة المكتوبة في أيام التشريق، الرستاقي والبلدي والمسافر والمقيم والذي يصلي وحده والذي يصلي بجماعة سواء، وهو قول إبراهيم، وعامر.

(2/118)


فوجه قولهما: أن التكبير تبع للمكتوبة فيجب على كل من تجب عليه المكتوبة بطريق التبعية.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: قوله عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» والمراد من التشريق تكبير أيام التشريق هكذا قاله النضر بن شميل، والخليل بن أحمد وهما كانا من أئمة اللغة، ولأن التشريق حقيقته تقديد اللحم؛ لأنه تفعيل من شرق تشريقاً إذا قطع وأظهر للشمس سمي تقديد اللحم تشريقاً؛ لأن في ذلك تقطيعه وإظهاره للشمس والحقيقة وهو التقديد ليس بمراد؛ لأنه لا يختص بالمصر وله مجاز أن الصلاة والتكبير في أدبار الصلوات لأن في ذلك إظهار شعار الإسلام فإن أمكن حمله عليهما يحمل عليهما ويكون هذا تبعاً للصلاة والتكبير إلا في مصر جامع، وإن لم يمكن حمله عليهما يحمل على التكبير لأن نفي صلاة العيد إلا في المصر استفيد برواية أخرى، وهو قوله عليه السلام والتحية: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» والمراد من الفطر والأضحى صلاة الفطر والأضحى فلو حمل التشريق المذكور في هذه الرواية على الصلاة كان تكراراً ومهما أمكن حمل اللفظ على فائدة جديدة لا يحمل على التكرار، وإذا ثبت أن المصر شرط وجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة كما في الجمعة وصلاة العيدين.

فإن قيل: هذه التكبيرات شرعت تبعاً ولا يجوز أن يشترط التبع ما لا يشترط الأصل قلنا: نعم إلا أن هذه التبعية عرفت شرعاً بخلاف القياس فإنه لم يشرع في غير هذه الأيام فيراعى لهذه التبعية جميع الشرائط التي ورد بها، والنص جعل من إحدى شرائط إقامته المصر وجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة كما في الجمعة والعيد، واختلاف المشايخ على قول أبي حنيفة رحمه الله: أن الحرية هل هي شرط لوجوب هذه التكبيرات.

(2/119)


وفائدة الخلاف إنما تظهر فيما إذا أم العبد قوماً صلاة مكتوبة في هذه الأيام هل يجب عليه التكبير لمن شرط الحرية قال: فإن الذكورة والمصر شرط لإقامته مقصوداً فكذا الحرية قياساً على الجمعة وصلاة العيد.
ومن لم يشترط الحرية قال: لم يشترط لإقامته السلطان فلا يشترط الحرية كسائر الصلوات وإنما لم يشترط لإقامته السلطان عند أبي حنيفة رحمه الله لما حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أن التكبير يشبه صلاة العيد وصلاة الجمعة من حيث إنه شرط لإقامته المصر بالنص كما شرط الإقامة للجمعة والعيد ويشبه سائر الصلوات من حيث إنه يقام في يوم واحد خمس مرات، فكان له حظاً من الخصوص والعموم، فأشبه بالخصوص شرطنا القوم الخاص والجماعة وأشبه بالعموم لم يشترط السلطان توفيراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا صلى النساء والمسافرون مع الرجال المقيمين في مصر جماعة وجب عليهم التكبير بالإجماع إذا كان الإمام مقيماً؛ لأنهم بالاقتداء به صاروا أتباعاً له في الصلاة، فكذا في التكبير؛ لأن التكبير من توابع الصلاة وقد يثبت الشيء تبعاً، وإن كان لا يثبت مقصوداً، ألا ترى أن الزكاة (110أ1) لا تجب في الجملان والفصلان مقصوداً عند أبي حنيفة رحمه الله وتجب تبعاً لغيرهن بأن كانت معهن مسنة.

وأما المسافرون إذا صلوا جماعة في مصر ففيهم روايتان في رواية الحسن: عليهم التكبير، وفي رواية أخرى لا تكبير عليهم؛ لأن السفر للفرض مسقط للتكبير ثم لا فرق في تغير الفرض أن يصلوا في المصر وبين أن يصلوا خارج المصر فكذا في التكبير ولا يكبر في شيء من النوافل لأن الجهر بالتكبير عرف قربة شرعاً بخلاف القياس والشرع إنما ورد به في المكتوبات، ففي غير المكتوبات يبقى على أصل القياس.
ولا يكبر في صلاة العيد؛ لأنها تطوع فأشبه سائر التطوعات ولا في الوتر. أما عندهما؛ فلأنه سنّة وتطوع، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه وإن كان فرضاً إلا أنه يؤدى بجماعة إلا في شهر رمضان والجماعة عند أبي حنيفة رحمه الله شرط.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: ولو أن رجلاً صلى بقوم صلاة في أيام التشريق، فنسي التكبير، ثم تذكر بعدما خرج من المسجد، أو تكلم لم يكن عليه تكبير.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن ما يمنع بناء بعض الصلاة على البعض يمنع التكبير، وما لا يمنع بناء بعض الصلاة على البعض لا يمنع التكبير؛ لأن التكبير شرع متصلاً بالصلاة كأفعال الصلاة شرعت متصلة بعضها ببعض.

قلنا: وكلام الناس والخروج عن المسجد لا لإصلاح الصلاة لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الظن يمنع البناء فيمنع التكبير، فأما إذا تحول من مكانه إلا أنه في المسجد بعد، ولم يتكلم فتذكر فإنه يأت بالتكبير أستدبر القبلة أو لم يستدبر، إن لم يستدبر فظاهر، لأن المسجد مع تباين أطرافه جعل كمكان واحد في حق الصلاة، ألا ترى أنه جاز اقتداء

(2/120)


من كان تأخر وانصرف بالإمام، فكذا في حق التكبير فصار كأنه في مكان صلاته حقيقة مستقبل القبلة، وقد سهى عن التكبير، ثم تذكر، وهناك يأتي بالتكبير فهنا كذلك، وأما إذا استدبر القبلة، فكذلك الجواب، وكان ينبغي أن لا يأتي بالتكبير لأن الاستدبار ما كان لإصلاح الصلاة هنا؛ لأنه أتم الصلاة، والاستدبار إذا لم يكن لإصلاح الصلاة يمنع البناء.

ألا ترى أنه لو ظن أنه مسح رأسه فاستدبر القبلة ثم تذكر أنه مسح رأسه، وهو في المسجد بعد لا يمكنه البناء، فينبغي أن لا يأتي بالتكبيرات هنا أيضاً. والجواب وهو الفرق بين المسألتين: أن استدبار القبلة في تلك المسألة لا يمنع البناء؛ لأنه ما كان لإصلاح الصلاة بل لأنه كان للرفض والترك حقيقة، وهذا يمنع البناء؛ لأنه يقطع حرمة الصلاة وهنا الاستدبار لم يكن للترك والرفض؛ لأنه أتم الصلاة فشبه من هذا الوجه استدبار القبلة في مسألة الرعاف بأن سال من أنفه ماء فظن أنه رعاف فاستدبر القبلة ثم تبين أنه ماء وهو في المسجد بعد وهناك يبني؛ لأن الاستدبار ما كان للترك والرفض.

وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله أنه كان يقول: ما ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» يصير رواية، فيمن سلم على ظن أنه أتم الصلاة واستدبر القبلة، ثم تذكر أنه لم يتم الصلاة وهو في المسجد بعد، ولم يتكلم بكلام الناس أنه يأتي بما بقي عليه، وكان يقول: لا يعرف لهذه المسألة رواية إلا في «الجامع» ، وكان يقول أيضاً: وذكر الكرخي رحمه الله في «الجامع الصغير» : أن من سلم على ظن أنه أتم صلاته ثم تذكر بعدما استدبر القبلة أنه لم يتم، وهو في المسجد بعد، لا يكون ذلك قاطعاً لصلاته عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله يكون قاطعاً. فعلى قياس ما ذكر الكرخي ينبغي أن لا يأتي بالتكبير هنا عند محمد؛ لأن هذا يمنع البناء عنده فيمنع التكبير أيضاً عنده.
قال: والحدث العمد يمنع التكبير لأنه يمنع البناء، والحدث ساهياً لا يمنع التكبير؛ لأنه لا يمنع البناء إلا أن هناك يلزمه الذهاب لتجديد الوضوء وهنا لا يلزمه؛ لأن التكبير ليس من أفعال الصلاة، ولا يؤدي في حرمة الصلاة، فلا يشترط له الوضوء ولكن لو ذهب وتوضأ كان أفضل؛ لأن ذكر الله تعالى مع الطهارة تكون أفضل.

قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل صلى بقوم في أيام التشريق فسلم ولم يكبر ساهياً حتى خرج من المسجد، فعلى القوم أن يكبروا، والمسألة لو كان على الإمام سجود السهو لم يكن على القوم أن يسجدوا.
والفرق: أن سجود السهو من أفعال الصلاة، فإنها تؤدى في حرمة الصلاة؛ ولهذا لو أدرك الإمام في سجود السهو يصير مدركاً للصلاة، ولو قهقه في هذه الحالة يكون حدثاً وما كان من أفعال الصلاة، متى سقط عن الإمام سقط عن القوم كالقعدة على رأس الركعتين، وسجدة التلاوة واجبة في الصلاة.
فأما تكبيرات التشريق ليست من أفعال الصلاة، وإنها تؤدى خارج الصلاة بدليل

(2/121)


عكس ما ذكرنا من الأحكام، فسقوطه عن الإمام لا يوجب سقوطه عن القوم.
يوضحه: أن المقتدي بالاقتداء صار تابعاً للإمام فيما هو من أفعال الصلاة، لا فيما ليس من أفعال الصلاة، وحكم التبع لا يخالف حكم الأصل فيما هو من أفعال الصلاة متى سقط عن الإمام فسقط عن المقتدي بطريق التبعية، ولا كذلك ما ليس من أفعال الصلاة.
فإن قيل: كان ينبغي أن لا يأتون بالتكبير عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الجماعة عنده شرط الوجوب يجب أن يكون شرط الأداء كما في الجمعة، والجماعة إنما تتحقق بالإمام والقوم، فإذا ذهب الإمام فقد انعدمت الجماعة على ما ذكرنا.
قلنا: التكبير يشبه الجمعة ويشبه سائر الصلوات، فلشبهه بالجمعة يشترط لوجوبه الجماعة، ولشبهه بسائر الصلوات لا يشترط لأدائه الجماعة عملاً بالشبهين بقدر الإمكان. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: إذا فاتته الصلاة في غير أيام التشريق فأراد أن يقضيها في أيام التشريق فهنا أربع مسائل:

إحداها: هذه والحكم فيها أن يقضيها من غير تكبير وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضيها بتكبير، وجه هذه الرواية قوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» جعل وقت التذكر وقت الأداء، ووقت التذكر وقت التكبير، وجه ظاهر الرواية: أنه إن في القضاء تعتبر حالة الفوات في حق بعض الأحكام فإن من قضى الفجر في غير وقته يجهر بالقراءة فيها، ومن قضى الظهر والعصر في غير وقتها يخافت بالقراءة فيها، ومن قضى الفائتة في حالة السفر في حالة الإقامة، فصار ركعتين في ذوات الأربع ومن قضى الفائتة في حالة الإقامة في حالة السفر قضاها أربعاً.

وفي حق بعض الأحكام تعتبر حالة القضاء، ألا ترى أن المريض إذا فاتته صلاة قائماً فقضاها بعدما قدر على الركوع والسجود فقضاها بركوع وسجود ولو فاتته صلاة بركوع وسجود، فأراد أن يقضيها حال ما لا يقدر على الركوع والسجود قضاها قائماً، فباعتبار حالة القضاء إن كان يجب التكبير، فباعتبار حالة الأداء لا يجب التكبير.
والجهر بالتكبير عرف شرعاً بخلاف الأصل، فإن الأصل في الأذكار والأدعية الخفية فإذا وجب من وجه دون وجه لا يجب على اعتبار حالة الفوات راجح، لأنه هو المعتبر في عامة الأحكام، وإنما اعتبر حالة القضاء في المريض خاصة وإبداء العبرة للراجح. والحديث لا حجة له فيه؛ لأن الحديث يقتضي أن يكون وقت التذكر وقت الصلاة الفائتة، فكان هذا الوقت من حيث التقدير، كأنه ذلك الوقت، وذلك الوقت ليس وقت التكبير.
المسألة الثانية: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، وقضاها في غير أيام التشريق، فقضاها من غير تكبير، وعند الشافعي رحمه الله قضاها بتكبير وجه قوله: أن الفائت إنما

(2/122)


يقضى على الوجه الذي فات كما في الجهر والمخافتة على ما مر.

وجه قولنا: أن الفائت إنما يقضى على الوجه الذي فات إذا أمكن، وهنا لا إمكان؛ لأن الجهر بالتكبير إنما عرف قربة في زمان مخصوص بالنص بخلاف القياس، فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان، فعجز عن القضاء بالتكبير فسقط.
v
ألا ترى: أن التضحية إذا فاتت عن وقتها لا تقضى، وكذا رمي الجمار إذا فاتت عن وقته لا تقضى؛ لأن التضحية عرف قربة في زمان مخصوص بالنص بخلاف القياس (110ب1) ، فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان فعجز عن القضاء بالتكبير فسقط.
ألا ترى: أن التضحية لما كانت تثبت في الحقيقة فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان فعجز عن القضاء فسقط كذا ههنا.
المسألة الثالثة: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق من عامه ذلك فقضاها بتكبير؛ لأن وقت التكبير باقي؛ لأن جميع أيام التشريق وقت التكبير.

ألا ترى: أن التكبيرات تضاف إلى جميع أيام التشريق إلا أنه فات الوقت المستحب، فإن الوقت المستحب أن يأتي بها عقيب الصلوات في أوقاتها، ولكن فوات الوقت المستحب لا يوجب سقوط العبادة إذا بقي أصل الوقت. ألا ترى لو ترك رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق ثم رمى فإنه يجزىء وكذا ههنا.
المسألة الرابعة: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق فقضاها في الأيام التشريق من العام القابل قضاها من غير تكبير في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضيها بتكبير؛ لأنا إن اعتبرنا وقت الفوات فهو وقت التكبير، وإن اعتبرنا وقت القضاء فهو وقت التكبير فقد قدر على القضاء بالتكبير فيلزمه ذلك.

وجه ظاهر الرواية: أن اعتبار وقت الفوات إن كان يوجب التكبير فاعتبار وقت القضاء لا يوجب التكبير؛ لأن وقت القضاء وقت التكبير عقيب الصلوات المشروعة فيه قضاء، فدار التكبير بين أن يجب وبين أن لا يجب، وهو بدعة في الأصل، فلا يجب عند التردد بخلاف ما إذا أراد أن يقضيها في أيام التشريق من عامه ذلك؛ لأن التكبير مشروع في الصلوات المشروعة في هذه الأيام، والفائت صلاة هذه الأيام، أما هنا فيخالفه.
ويبدأ الإمام إذا فرغ من صلاته بسجود السهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية إن كان محرماً، أما تقديم سجود السهو على التكبير؛ لأن سجود السهو يؤدى في حرمة الصلاة والتكبير يؤدى في فور الصلاة لا في حرمتها، ولهذا صح الاقتداء بالإمام في سجود السهو، ولا يصح الاقتداء به في التكبير. وأما تقديم التكبير على التلبية؛ فلأن التكبير يؤدى في فور الصلاة والتكبير لا يختص أداؤه بحال في فور الصلاة، والتكبير من خصائص الصلاة، والتلبية ليست من خصائص الصلاة، فإنه يلبي كلما هبط وادياً أو علا شرفاً وبالأسحار.
يجهر بالتكبير في عيد الأضحى في طريق المصلى بلا خلاف، وإذا انتهى إلى المصلى يقطع، وفي رواية لا يقطع ما لم يفتتح الإمام الصلاة.

وفي عيد الفطر هل يجهر بالتكبير في طريق المصلى؟ روى المعلى عن أبي يوسف

(2/123)


عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجهر، وروى الطحاوي عن أستاذه أبي عمر بن العلاء عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يجهر وهو قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله. احتجوا بما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي عليه السلام: «كان يكبر في الفطر والأضحى إذا خرج من بيته رافعاً صوته بالتكبير» ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما مر في يوم الفطر ومعه قائد فسمع الناس يكبرون فقال: أكبر الإمام، فقال: لا، قال: أفجن الناس؛ ولأن هذا وقت اختص بركن من أركان الحج فلا يشرع فيه التكبير قياساً على رمضان؛ وهذا لأن التكبير شرع علماً على وقت أركان الحج.
فإن قيل: كلما دخل شوال دخل وقت بعض أفعال الحج فإنه لو أحرم في شوال وسعى لها يجوز، والسعي من أفعال الحج.
قلنا: هذا من واجبات الحج لا من أركانه والواجبات تقع للأذكار فشرع التكبيرات علماً على الأركان، وإنها أصول لا يدل على شرعها علماً على الواجبات وإنها توابع. وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه قال: سمعت أن مشايخنا كانوا يرون التكبير في الأيام العشر بدعة في الأسواق. والله تعالى أعلم.

الفصل الثامن والعشرون في صلاة الخوف
يجب أن نعلم بأن صلاة الخوف بقيت مشروعة بعد الرسول صلى الله عليه وسلّمفي ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنها لم تبق مشروعة حتى لو صلى الإمام صلاة الخوف في زماننا على الوجه الذي صلاها رسول الله عليه السلام جاز في ظاهر رواية أصحابنا. وفي رواية الحسن عن أبي يوسف أنه لا يجوز وهذا ذكره محمد في الأثر عن أبي يوسف قال محمد: هذا قولي لولا الأثر أشار إلى أن القياس ما قاله أبو يوسف، لكن ترك القياس بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وجه رواية أبي يوسف: أن القياس أبى جواز صلاة الخوف لما فيه من المشي واستدبار القبلة، لكن عرفنا الجواز في زمن رسول الله عليه السلام بالنص وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وحِدَةً وَلاَ

(2/124)


جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء: 102) لإدراك الناس فضيلة الصلاة خلف رسول الله عليه السلام، وليس للصلاة خلف غير الرسول من الفضيلة بالصلاة خلف الرسول، فردت صلاة الخوف في زماننا إلى أصل القياس.
وجه ظاهر الرواية: أن الصحابة صلوا صلاة الخوف بعد رسول الله عليه السلام، روي عن سعيد بن أبي العاص أنه حارب المجوس بطبرستان ومعه الحسن بن علي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال: أيكم شهد صلاة الخوف مع رسول الله عليه السلام، فقال حذيفة: أنا، فقام وصلى بهم صلاة الخوف، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه صلى صلاة الخوف..... ولم ينكر عليهما أحد فحل محل الإجماع.

والذي قال: بأن صلاة الخوف إنما شرعت في زمن رسول الله عليه السلام لإدراك الناس فضيلة الصلاة خلف رسول الله فاسد؛ لأن ترك المشي والاستدبار في الصلاة فريضة، والصلاة خلف النبي عليه السلام فضيلة وسنّة؛ لأنه تجوز الصلاة خلف غيره، ولا يجوز ترك الفرض لإحراز الفضيلة، فلا يحال بجواز صلاة الخوف على ما قلتم، وإنما يحال على نفس الخوف؛ لأن للخوف أثراً في إسقاط الفرض، والخوف متحقق في زماننا حسب تحققه في زمن الرسول عليه السلام، فتثبت الشرعية في زماننا حسب ثبوتها في زمن الرسول عليه السلام.
وكيفية صلاة الخوف: أن يجعل الإمام الناس طائفتين طائفة بإزاء العدو، وطائفة يفتتح الصلاة بهم ويصلي بهم، ويصلي بكل طائفة شطر الصلاة، فإن كانت الصلاة من ذوات الأربع كالظهر والعصر والعشاء في حق المقيم يصلي بالطائفة التي معه ركعتين، وتتشهد وتنصرف هذه الطائفة من غير سلام، ويقفون بإزاء العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم بقية الصلاة، ويتشهد ثم يسلم الإمام؛ لأنه تمت صلاته وتنصرف هذه الطائفة بغير سلام، ويقفون بإزاء العدو، ثم تعود الطائفة الأولى، فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة؛ لأنهم مدركون أول الصلاة، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة؛ لأنهم مسبوقون، ويتشهدون ويسلمون، وإن كانت الصلاة من ذوات المثنى نحو الفجر في حق الكل، والعصر والعشاء في حق المسافر صلى بكل طائفة ركعة على نحو ما بينا.
وإن كانت الصلاة من ذوات الثلاث نحو المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة على نحو ما بينا؛ لأن حظ كل طائفة من صلاة الخوف الشطر وشطر المغرب ركعتان بدليل أن القعدة المشروعة عقيب الشطر شرعت في الغرب عقيب الركعتين؛ ولأن للطائفة الأولى حظاً من الركعة الثانية، والركعة الواحدة مما لا يتجزأ فرجحنا الطائفة الأولى بحكم السبق.

(2/125)


ثم الحال لا يخلو من وجهين: إما أن يكون العدو مستدبر القبلة، أو مستقبل القبلة وكل وجه على خمسة أوجه: إما أن يكون الإمام والقوم مسافرين، أو الكل مقيمين، أو كان الإمام مقيماً والقوم مسافرون، أو كان الإمام مسافراً والقوم مقيمون، أو كان بعض القوم مقيماً وبعض القوم مسافراً، والإمام مقيم أو مسافر، فإن كان العدو مستدبر القبلة، والإمام والقوم مسافرون، وأرادوا أن يصلوا صلاة الخوف، إن لم يتنازع القوم في الصلاة خلفه، فإن الأفضل للإمام أن يجعل القوم طائفتين، فيأمر طائفة ليقيموا بإزاء العدو، ويصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة، ثم يأمر رجلاً من الطائفة التي بإزاء العدو حتى يصلي بهم تمام صلاتهم أيضاً، والطائفة التي صلت مع الإمام الأول يقومون بإزاء العدو (111أ1) وإن تنازع كل طائفة فقالوا: إنا نصلي معك، فإنه يجعل القوم طائفتين تقف إحداهما بإزاء العدو ويراقبون العدو، والطائفة الأخرى يقيمون الصلاة مع الإمام، فيصلي بهم ركعة، فإذا صلى بهم ركعة ذهبت هذه الطائفة التي مع الإمام، وقاموا بإزاء العدو ويراقبون العدو، ثم جاءت الطائفة التي كانت بإزاء العدو والإمام قاعد ينتظرهم، فيصلي بهم الركعة الأخرى ثم يتشهد ويسلم، ولا يسلم معه من كان خلفه، ولكن يقومون ويذهبون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى مكان صلاتهم فيصلون ركعة بغير قراءة؛ لأنهم مدركون أول الصلاة مع الإمام فصار كأنهم خلف الإمام، فإذا صلوا ركعة فقد قرأ قدر التشهد ويسلمون، ويذهبون ويقفون بإزاء العدو ويراقبونهم، ثم تجيء الطائفة الأخرى مكان صلاتهم، فيقضون ركعة بقراءة؛ لأنهم مسبوقون والمسبوق فيما يقضي يقضي بقراءة فيصلون صلاة الخوف على هذا الوجه عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله.
وللشافعي في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول مثل قول أبي حنيفة، ومحمد.

والقول الثاني: قال: يصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة، ثم تذهب الطائفة التي صلت مع الإمام تمام صلاتهم، ويقفون بإزاء العدو، وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم مرة أخرى ويجزئهم ذلك، وإن كان هذا من اقتداء المفترض بالمتنفل، ولكن اقتداء المفترض بالمتنفل جائزة عنده.
والقول الثالث: وهو المشهور أنه يجعل القوم طائفتين طائفة تقوم بإزاء العدو وطائفة يفتتح الصلاة مع الإمام، فيصلي بالطائفة التي معه ركعة، فإذا صلى ركعة قام الإمام ووقف قائماً، ولا يقرأ حتى تصلي هذه الطائفة التي معه تمام صلاتهم، ويذهبون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو فيصلي الإمام بهم ركعة ولا يسلم بل يمكث قاعداً حتى تصلي هذه الطائفة الثانية تمام صلاتهم، ثم يسلم الإمام مع القوم.
فإن كان العدو مستقبل القبلة، فالخوف منه كالخوف فيما إذا كان العدو مستدبر القبلة عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: إن كان العدو مستقبل القبلة، وكانوا في أرض مستوية لا يسترهم شيء، ولا يخافون الكمين من جهة العدو، فإنه يفتتح الصلاة بالقوم كلهم، ثم يركع ويركع معه كل القوم ثم يسجد ويسجد معه الصف الثاني، ولا يسجد

(2/126)


الصف الأول، بل يحرسون الصف الثاني، ثم يمكث الإمام قاعداً حتى يسجد الصف الأول السجدة الأولى، فإذا سجدوا السجدة الأولى سجد الإمام سجدة أخرى، ويسجد معه الصف الأول، ولا يسجد الصف الثاني، بل يحرسون الصف الأول حتى يحصل لكل طائفة سجدة مع الإمام، فيستويان، ثم يمكث حتى تسجد الطائفة الثانية السجدة الأخرى، ثم يدركون الإمام ثم يصلي بهم الركعة الأخرى على هذا الوجه إلا أنه في الركعة الثانية إن شاء تقدم الصف الثاني، وقام مقام الصف الأول حتى يستويان، وإن شاء يتقدم، وذلك أفضل وهو قول ابن أبي ليلى.
فإن كان الإمام والقوم مقيمين والصلاة من ذوات الأربع فإنه تقوم طائفة بإزاء العدو، ثم يفتتح الصلاة بالطائفة التي معه، فيصلي بهم ركعتين، ويقعد قدر التشهد؛ فإنه تذهب هذه الطائفة بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو مكان صلاتهم، والإمام قاعد منتظر مجيئهم، فيصلي بهم ركعتين، ثم يتشهد ويسلم، ولا تسلم معه الطائفة الثانية، بل يقومون فيذهبون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى مكان صلاتهم فيصلون ركعتين بغير قراءة، ويسلمون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الثانية مكان صلاتهم، ويصلون ركعتين بقراءة على نحو ما بينا.
وإن كان الإمام مقيماً والقوم مسافرون فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الكل مقيمين؛ لأن القوم صاروا مقيمين في حق هذه الصلاة حين اقتدوا بالمقيم.
فإن كان الإمام مسافراً، والقوم مقيمين صلى بالطائفة التي معه ركعة، ثم انصرفوا بإزاء العدو، وصلى بالطائفة الثانية ركعة وسلم، ثم تجيء الطائفة الأولى فيصلون ثلاث ركعات بغير قراءة، نص على هذا في «الكتاب» ، وهذا الجواب في الركعة الثانية لا يشكل؛ لأنهم في الركعة الثانية كأنهم خلف الإمام من حيث الحكم؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة، إنما الإشكال في الركعتين الأخريين، لأنهم يؤدون الأخريين على سبيل الانفراد؛ لأن تحريمتهم هكذا انعقدت مع هذا قال: يقضيهما بغير قراءة.
وذكر الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : أنه يقضيها بقراءة. وإن كان الإمام مسافراً والقوم مقيمون ومسافرون صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة، فمن كان مسافراً خلف الإمام بقي إلى تمام صلاته ركعة ومن كان مقيماً بقي إلى تمام صلاته ثلاث ركعات، ثم ينصرفون بإزاء العدو، وترجع الطائفة الأولى إلى مكان الإمام، فمن كان مسافراً يصلي ركعة بغير قراءة؛ لأنه مدرك أول الصلاة، ومن كان مقيماً يصلي ثلاث ركعات بغير قراءة في ظاهر الرواية.

وفي رواية الحسن: يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وفي الركعة الأولى لا يقرأ فإذا تمت الطائفة الأولى صلاتهم ينصرفون بإزاء العدو وتجيء الطائفة الثانية إلى مكان صلاتهم فمن كان مسافراً يصلي ركعة بقراءة؛ لأنه مسبوق ومن كان مقيماً يصلي ثلاث ركعات الأولى بفاتحة الكتاب وسورة؛ لأنه كان مسبوقاً فيها، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب على الروايات كلها.
وإن كان الإمام مقيماً، والقوم مقيمون ومسافرون، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا

(2/127)


كان الكل مقيمون؛ لأن المسافرين يصيرون مقيمين بالاقتداء وإن لم تقرأ الطائفة الثانية فيما يقصرون لم يجزئهم لأنهم مسبوقون، وإن اقتدى أحدهما بصاحبه فيما يقضي فسدت صلاة المقتدي، وصلاة الإمام تامة، وإذا سهى الإمام في صلاة الخوف وجب عليه سجدتا السهو.
ومن قاتل منهم في صلاته فسدت صلاته عندنا، ولو فعلوا كذلك وقال: لا تفسد صلاته وهو قول الشافعي رحمه الله، ولا يصلون وهم يقاتلون وإن ذهب الوقت لو فعلوا كذلك لا تجوز صلاتهم.
وكذلك من ركب منهم في صلاته عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته، ولا يصلون جماعة ركباناً إلا أن يكون الإمام والمقتدي على دابة فيصح اقتداء المقتدي به، وروي عن محمد رحمه الله: أنه جوز لهم في الخوف أن يصلوا ركباناً بالجماعة وقال: أستحسن ذلك لينالوا فضيلة الجماعة.
عن محمد رحمه الله أنه قال: إذا كان الرجل في السفر فأمطرت السماء، فلم يجد مكاناً يابساً ينزل للصلاة، فإنه يقف على دابته مستقبل القبلة، فإنه يصلي مستدبر القبلة بالإيماء فعل هذا إذا كان يخاف النزول عن الدابة فيصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة وإن لم يمكنه إيقاف الدابة، مستقبل القبلة فإنه يصلي راكباً مستقبل القبلة، بالإيماء إن أمكنه، وإن لم يمكنه صلى مستدبر القبلة، ثم إنما يجزئه ذلك إذا كانت الدابة تسير بسير نفسها، فأما إذا كان يسيرها صاحبها لا تجزئه، فإن كان ماشياً هارباً من العدو، فحضرت الصلاة، ولم يمكنه الوقوف ليصلي، فإنه لا يصلي ماشياً عندنا بل يؤخر.
وعند الشافعي يصلي في تلك الحالة بالإيماء ثم يعيد، وإن صلوا صلاة الخوف من غير أن يعاينوا العدو جازت صلاة الإمام، ولم تجز صلاة القوم إذا صلوها بصفة الذهاب والمجيء، ولو رأوا سواداً وظنوا أنهم العدو، فصلوا صلاة الخوف، فإن تبين أنه كان سواد العدو فقد ظهر أن سبب الترخيص كان متقرراً، فتجزئهم صلاتهم.
وإن ظهر أن السواد سواد إبل أو بقر أو غنم فقد ظهر أن سبب الترخيص لم يكن متقرراً فلا تجزئهم صلاتهم والخوف من سبع يعاينوه كالخوف من العدو؛ لأن الرخصة لدفع سبب الخوف عنهم، ولا فرق في هذا بين السبع والعدو.
والراكب إذا أمكنه أن يصلي راكباً، ولم يمكنه النزول يصلي قائماً، وإذا صلى بالإيماء لم تلزمه الإعادة بعد زوال العذر في الوقت وخارج الوقت، والراجل يومىء إذا لم يقدر على الركوع والسجود، والراكب (111ب1) إذا كان طالباً لا يصلي على الدابة، وإن كان مطلوباً لا بأس بأن يصلي على الدابة. والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل
ينبني على ثلاثة أصول:

أحدها: أن الانحراف عن القبلة في خلال الصلاة في غير موضعه وأوانه مفسدة

(2/128)


للصلاة، وترك الانحراف عن القبلة والثبات عليها في موضعه وفي غير موضعه غير مفسدة للصلاة؛ وهذا لأن نص الأصل الفساد بالانحراف مطلقاً في عموم الأحوال وإنما ترك نص هذا الأصل في صلاة الخوف مقيداً بأوانه، وقد بينا أوان الانحرف لكل واحد من الطائفتين، فبقي ما عداه على نص الأصل، أما ترك الانحراف عن القبلة والثبات عليها في موضع الانحراف عمل بالأصل وتمسك بما هو عزيمة، فلا يصلح مفسداً لكن يوجب الانتباه لمخالفة الجماعة أو السنّة.
الأصل الثاني: أن من أدرك الشطر الأول فهو من الطائفة الأولى، ومن أدرك الشطر الثاني فهو من الطائفة الثانية؛ لأن صلاة الخوف تقام بطائفتين لكل طائفة شطر من الصلاة، وللصلاة شطران، والتي يقام بها الشطر الأول يجعل من الطائفة الأولى، والتي يقام بها الشطر الثاني يجعل من الطائفة الثانية.
والأصل الثالث: أن المقتدي يتبع رأي الإمام لا رأي نفسه؛ لأنه بالاقتداء به ألزم متابعته، فيترك رأيه برأي الإمام إلا إذا تيقن بخطأ الإمام على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، والمنفرد يتبع رأي نفسه؛ لأنه أصل بنفسه، ولم يلتزم متابعة غيره، والمسبوق فيما يقضي منفرد واللاحق كأنه خلف الإمام.
إذا عرفنا هذه الأصول جئنا إلى المسائل: قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا صلى الإمام المغرب صلاة الخوف جعل الناس طائفتين، وصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة على ما بينا، فلو أنه أخطأ وصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعتين ظناً منه أن المعتبر قسمة القراءة، ثم سلم الإمام وذهبت الطائفة الثانية، وجاءت الطائفة الأولى، فصلاة الإمام تامة؛ لأنه لم ينزح عن مكانه حتى أتم صلاته.
وصلاة الطائفتين فاسدة، أما الطائفة الأولى، فلأنهم انحرفوا بعد الركعة الأولى، وهذا ليس أوان انحرافهم، وأما الطائفة الثانية فهو من الطائفة الأولى؛ لأنهم أدركوا شيئاً من الشطر الأول إلا أنهم مسبوقون بركعة، فكان ينبغي لهم أن ينحرفوا عقيب الركعة الثانية غير أن ترك الانحراف والثبات على القبلة لا تفسد الصلاة وإن كان في غير موضعه إلا أنهم انحرفوا عن القبلة بعد سلام الإمام. وهذا أوان انصرافهم إلى القبلة لا أوان انحرافهم ففسدت صلاتهم، حتى لو لم ينحرفوا لا تفسد صلاتهم.
فإن صلى بالطائفة الأولى ركعة فانحرفوا، ثم جاءت الطائفة الثانية، فصلى بهم ركعة ثم انحرفوا ثم عادت الطائفة الأولى، فصلى بهم الركعة الثالثة، ثم انحرفوا، ثم عادت الطائفة الثانية، فقضوا الركعتين ثم جاءت الطائفة الأولى، فصلاة الإمام تامة لما ذكرنا.
وصلاة الطائفة الأولى فاسدة، لأنهم انحرفوا عن القبلة في غير أوانه وهو ما بعد الركعة الأولى، ففسدت صلاتهم فحين جاؤوا وصلوا مع الإمام الركعة الثالثة، فقد بنوا تلك الركعة على تحريمة فاسدة، والبناء على الفاسد فاسد.
وصلاة الطائفة الثانية جائزة؛ لأنهم من الطائفة الأولى، وقد انحرفوا في أوانه وهو ما بعد الركعة الثانية، فصحت صلاتهم، وعليهم أن يقضوا الركعة الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم مدركون الثالثة، ثم يقضون الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون في حق الأولى، فلو أن الطائفة الأولى حين انصرفوا للركعة الثالثة جددوا التكبير والتحريمة، وصلوا الركعة الثالثة جازت صلاتهم؛ لأنهم الطائفة الثانية في الحقيقة، وقد انحرفوا في أوانه، فإذا رجعوا فعليهم أن يصلوا ركعتين بقرءاة؛ لأنهم مسبوقون فيهما. [

فإن جعل الإمام الناس ثلاث طوائف، وصلى بتلك الطائفة ركعة، ثم عادت الطائفة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فصلاة الإمام تامة لما مر، صلاة الطائفة الأولى فاسدة لما قلنا، صلاة الطائفتين جائزة، أما الطائفة الثانية، فلأنهم الطائفة الأولى في الحقيقة، وقد انحرفوا في أوانه، ويقضون الركعة الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم مدركون لها، ويقضون الركعة الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها، وأما الطائفة الثالثة فإنهم في الحقيقة هم الطائفة الثانية، وقد انحرفوا في أوانه، وهو

(2/129)


ما بعد الثالثة ويقضون الركعتين بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيهما.
قال محمد رحمه الله: وإذا صلى الإمام صلاة الظهر في المصر أو في فنائه مواقعين للعدو جعل الناس طائفتين فصلى بكل طائفة ركعتين لما ذكرنا، فإن أخطأ الإمام وظن أنه يقسم القراءة بين طائفتين، وصلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية بقية الصلاة فسدت صلاة الطائفتين جميعاً لوجود الانحراف في غير أوانه من الطائفتين، أما الطائفة الأولى؛ فلأنهم انصرفوا قبل القعدة الأولى، وأما الطائفة الثانية؛ فلأنهم من الطائفة الأولى؛ لأنهم أدركوا شيئاً من الشطر الأول، وقد انصرفوا بعد سلام الإمام، وهذا أوان عودهم لا أوان انصرافهم.
قال: ولو أن الإمام صلى بالطائفة الأولى ركعة وانصرفت، وبالطائفة الثانية ركعة وانصرفت، ثم صلى بالطائفة الأولى الركعة الثالثة، ثم بالطائفة الثانية الركعة الرابعة وانصرفوا، فصلاة الإمام تامة وصلاة الطائفة الأولى والطائفة الثانية فاسدة، أما صلاة الإمام فلما حلت غير مرة.

وأما صلاة الطائفة الأولى، فلأنهم انصرفوا في غير أوانه ففسدت صلاتهم، فلما عادوا وصلوا مع الإمام الركعة الثالثة إن لم يجددوا التحريمة فهذا بناءٌ على الفاسد، وإن جددوا التحريمة صح شروعهم، وكانوا من الطائفة الثانية في الحقيقة فلما انصرفوا بعد الركعة الثالثة كان هذا انصرافاً في غير أوانه، فإن أوان انصراف الطائفة الثانية ما بعد فراغ الإمام، فإذا انصرفوا قبل ذلك فسدت صلاتهم.
وأما الطائفة الثانية؛ فلأنهم من الطائفة الأولى لإدراكهم الركعة الثانية مع الإمام، وقد انصرفوا في أوانه، فلما جاؤوا وصلوا مع الإمام الركعة الرابعة فهذا المجيء منهم، وإن كان في غير أوانه إلا أنه لا يكون مفسداً لصلاتهم لما مر في أصل الباب، ولكن لما سلم الإمام، وانصرفوا فسدت صلاتهم؛ لأنهم من جملة الطائفة الأولى، وليس هذا أوان الانصراف من الصلاة للطائفة الأولى، ففسدت صلاتهم، حتى لو لم تنصرف الطائفة

(2/130)


الثانية بعد الفراغ من الرابعة لا تفسد صلاته، وعليهم أن يقضوا ركعتين الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم لاحقون فيها، ثم الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها.
قال: ولو أن الإمام جعل الناس على أربع طوائف وصلى بكل طائفة ركعة فصلاة الإمام تامة، وصلاة الطائفة الأولى والثالثة فاسدة.
أما الطائفة الأولى: فلأنهم انصرفوا في غير أوان الانصراف لما مر غير مرة.
أما الطائفة الثالثة: فلأنهم في الحقيقة الطائفة الثانية وقد انصرفوا في غير أوان انصراف الطائفة الثانية وهو ما بعد الركعة الثالثة.

وأما صلاة الطائفة الثانية والرابعة فجائزة، أما صلاة الطائفة الثانية؛ فلأنهم من جملة الطائفة الأولى لكنهم مسبوقون بركعة، وقد انصرفوا في أوان انصراف الطائفة الأولى فجازت صلاتهم، ثم إذا جاؤوا يتمون صلاتهم فعليهم أن يصلوا ركعتين بغير قراءة وهي الثالثة والرابعة؛ لأنهم لاحقون فيهما، ثم ركعة بقراءة وهي الركعة الأولى، لأنهم مسبوقون فيهما.

وأما الطائفة الرابعة: فلأنهم من جملة الطائفة الثانية؛ لأنهم أدركوا شيئاً من وظيفة الطائفة الثانية، وانصرفوا في أوان انصراف الثانية وهو ما بعد فراغ الإمام، فجازت صلاتهم، ولكنهم مسبوقون بثلاث ركعات فعليهم أن يصلوا ركعتن بقراءة الفاتحة والسورة، وفي الثالثة بالخيار، وإن شاؤوا قرأوا الفاتحة، وإن شاؤوا سبحوا، وإن شاؤوا سكتوا كما هو الحكم في المسبوق بثلاث ركعات.
قال محمد رحمه الله: وإذا قاتل الإمام العدو يوم العيد في المصر، فأراد أن يصلي بالناس صلاة الخوف جاز لوجود العلة كما في غيرها من الصلوات (112أ1) فيجعل الناس طائفتين ويصلي بكل طائفة ركعة، فإن كان الإمام يرى مذهب ابن مسعود، وأتى بتسع تكبيرات في الركعتين ثلاث منها أصليات وست زوائد، ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية، بدأ بالتكبير في الركعة الأولى، وبالقراءة في الركعة الثانية تابعته الطائفة الأولى في الركعة الأولى، وتابعته الطائفة الثانية في الركعة الثانية، وإن كان رأي كل واحدة من الطائفين خلاف رأي الإمام؛ لأن على المقتدي متابعة رأي الإمام على ما مر إلا إذا تيقن بخطأ الإمام بأن فعل ما لم يقل به واحد من الصحابة ولم يوجد ذلك هنا.

فإذا فرغ الإمام من صلاته انحرفت الطائفة الثانية وجاءت الطائفة الأولى يقضون الركعة الثانية بغير قراءة، فيقومون قدر قراءة الإمام، أو أقل أو أكثر، ثم يكبرون الزوائد، ويركعون بالرابعة كما فعله الإمام؛ لأنهم لاحقون في ذلك، فكانوا في حكم المقتدين، وإذا أتموا انحرفوا، وجاءت الطائفة الثانية يقضون الركعة الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها يبدؤون بالقراءة ثم بالتكبير في رواية «الزيادات» و «الجامع» و «السير الكبير» وإحدى روايتي «النوادر» ، وهو الاستحسان، وفي إحدى روايتي «النوادر» يبدؤون بالتكبير وهو القياس، وقد ذكرنا نظير هذا في فصل صلاة العيد.

قال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: إمام صلى الظهر بالناس صلاة الخوف،

(2/131)


وهم مقيمون فلما صلى بطائفة ركعتين انحرفوا إلا واحداً منهم لم تفسد صلاته؛ لأنه لم يوجد منه إلا ترك الانحراف، والثبات على القبلة، وكل ذلك لا يفسد الصلاة، ولكن لا يستحب له ذلك: لأنه التزم الذهاب مع أصحابه ليكونوا رصداً للطائفة الثانية، فإذا لم يذهب، فقد ضيعهم وترك الوفاء بما التزم فيكره له ذلك.
لهذا فإن صلى مع الإمام الركعة الثالثة، فعلم أنه أساء فيما صنع، فانحرف بعد الثالثة أو بعد الرابعة قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد، فصلاته صحيحة؛ لأنه من الطائفة الأولى، وما بعد الشطر الأول إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة أوان الانحراف للطائفة الأولى.

وإذا انحرف، فقد تدارك ما ترك في أوانه، وكذلك لو انحرف بعدما قعد مع الإمام قدر التشهد قبل السلام، فصلاته تامة، وإن كان هذا انحرافاً في غير أوانه، لأنه من الطائفة الأولى، وهذا أوان انصراف الطائفة الأولى إلى الصلاة إلا أنه إنما لم تفسد لانتهاء أركانها، فإن الصلاة بعد انتهاء أركانها لا تقبل الفساد حتى لو بقي عليه شيء من الأركان بأن بقي هذا الرجل بعد أداء الشطر الأول نائماً أو قائماً خلف الإمام، ولم يصل معه، وانحرف بعدما قعد الإمام قدر التشهد، أو كان مسبوقاً بركعة تفسد صلاته، ثم إذا لم تفسد صلاته بالانحراف بعدما قعد الإمام قدر التشهد لا يجب عليه أن ينصرف مع أصحابه، ليسلم؛ لأنه قد تمت صلاته وقد انحرف على وجه الرفض؛ لأنه انحرف ليشتغل بأمر العدو، والانحراف بعد تمام الصلاة على قصد الرفض يوجب رفض ما بقي، فلا يجب عليه العود بخلاف ما إذا أحدث بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلم، وانصرف ليتوضأ ويبني، فإن عليه أن يعود ليجلس ويسلم؛ لأن هناك ما انحرف على وجه الرفض بل على وجه البناء، فلم يرفض ما بقي وقد بقي عليه سنّة، وهي الخروج بلفظة التسليم، فكان عليه أن يعود لإقامة السنّة، أما ههنا بخلافه.
وإذا لم يكن العدو حاضراً ولكن خاف الإمام حضور العدو لا ينبغي له أن يصلي صلاة الخوف؛ لأن صلاة الخوف إنما جازت باعتبار الضرورة، فلا تجوز قبل تحققها.
فإن افتتح الإمام صلاة الظهر، وهم مسافرون، فلما صلى ركعة أقبل العدو، فانحرفت طائفة من المصلين، ووقفوا بإزاء العدو، وبقيت طائفة مع الإمام حتى أتموا صلاتهم، فصلاتهم تامة، أما صلاة من بقي مع الإمام فظاهر، وأما صلاة من انحرف؛ فلأن هذا انحراف في أوانه والضرورة متحققة عند الانصراف، وكانت العبرة لحالة الانصراف لا لحالة الشروع؛ لأن الرخصة في الانصراف، فيعتبر قيام الرخصة وقت الانصراف.

ولو افتتح الإمام بهم صلاة الظهر وهم مقيمون، فأقبل العدو، وانحرفت طائفة من المصلين بعد الركعتين لم تفسد صلاتهم، لأنهم لو انحرفوا حال حضور العدو بعد الركعتين لا تفسد صلاتهم، لأنه أوان الانحراف كذا هنا.
وإن انحرفوا بعدما صلوا ركعة فسدت صلاتهم؛ لأن هذا ليس أوان الانحراف، ولهذا لو كان العدو حاضراً، وانحرفوا بعد الركعة الأولى تفسد صلاتهم، ولو حضر

(2/132)


العدو بعدما صلى الظهر ثلاث ركعات، وانصرفت طائفة منهم ليقفوا بإزاء العدو، لا ذكر لهذا الفصل في «الكتاب» .
وقد اختلف المشايخ، قال بعضهم: لا تفسد صلاتهم؛ لأن بعد أداء الشطر إلى أن يفرغ الإمام أوان الانحراف للطائفة الأولى. وبعضهم قالوا: تفسد صلاتهم لأن الخوف تحقق في الشفع الثاني، فكان حكمهم حكم الطائفة الثانية، وليس هذا أوان الانحراف في حق الطائفة الثانية.
فلو أن الإمام قال لأصحابه: لتقف طائفة منكم في موضع كذا ينتظرون العدو ... حضور العدو وصلى بطائفة أخرى جاز له ذلك، هكذا ينبغي للإمام أن يفعل؛ لأن العدو إذا لم يكن حاضراً لا يجوز له صلاة الخوف، وربما يحضر العدو في حال لا يمكنهم الانحراف، فكان النظر في هذا، فإن أقبل العدو فاستقبلهم الطائفة الواقفون وانحرف طائفة من المصلين مع الإمام، إن كان الانحراف بعد الركعة الأولى تفسد صلاتهم، وإن كان الانحراف بعد الركعة الثانية لا تفسد صلاتهم لما مر.
فإن افتتح الإمام الصلاة بطائفة والعدو حاضر، ثم ذهب العدو بعدما صلوا شطر الصلاة لا ينبغي لهم أن ينحرفوا ولكن الطائفة الثانية يأتون فيصلون بقية الصلاة، فإن انحرفت الطائفة الأولى تفسد صلاتهم، لأن الانحراف مفسد للصلاة بنصية «الأصل» ، وإنما رخص بالشرع لأجل الضرورة، فإذا زالت الضررة يرد إلى الأصل.