المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل التاسع والعشرون في صلاة الكسوف
اعلم بأن صلاة الكسوف مشروعة ثبتت شرعيتها بالكتاب والسنّة.

أما الكتاب قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ وَءاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59) والكسوف آية من آيات الله المخوفة، أما أنه من آيات الله؛ لأن الخلق عاجزون عن ذلك وأنه من آيات الله المخوفة؛ لأنها مبدلة لنعمة النور إلى الظلمة، وتبديل النعمة إلى ضدها تخويف؛ ولأن القلوب تفزع بذلك طبعاً، فكانت من آيات الله المخوفة، والله تعالى إنما يخوف عباده ليتركوا المعاصي، ويرجعون إلى طاعة الله تعالى التي فيها فوزهم، وأقرب أحوال العبد في الرجوع إلى ربه حالة الصلاة.
وأما السنّة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إذا رأيتم من هذه الأفزع شيئاً فافزعوا إلى الصلاة» . بعد هذا يحتاج إلى أربعة أشياء: إلى معرفة سبب شرعيتها، وشرط جوازها، وصفتها، وكيفية أدائها.

(2/133)


أما سبب شرعيتها: الكسوف؛ لأنها تضاف إليه، وتتكرر بتكرره.
وشرط جوازها: ما يشترط لسائر الصلوات.
وصفتها: أنها ليست بواجبة؛ لأنها ليست من شعار الإسلام، فإنه يوجد تعارض، ولكنها سنّة؛ لأنه واظب رسول الله عليه السلام على ذلك.
وأما كيفية أدائها: أجمعوا أنه تؤدى بجماعة لكن اختلفوا في صفة أدائها.
قال علماؤنا رحمهم الله: يصلي ركعتين كل ركعة بركوع وسجدتين كسائر الصلوت، إن شاء طولها وإن شاء قصرها، ويقرأ فيها ما أحب كما في سائر الصلاة المعهودة، ولا يوقت فيه شيء من القراءة، ثم الدعاء حتى تنجلي الشمس.
وقال الشافعي رحمه الله: يصلي ركعتين كل ركعة بركوعين وسجدتين.

وصورته: يقوم في الركعة الأولى ويقرأ فيه بفاتحة الكتاب وسورة البقرة (112ب1) إن كان يحفظها، وإن كان لا يحفظها يقرأ غير ذلك مما يعدلها، ثم يركع، ويمكث في ركوعه مثل ما يمكث في قيامه، ثم يرفع رأسه ويقوم، ويقرأ سورة آل عمران إن كان يحفظها عن ظهر القلب، وإن كان لا يحفظها عن ظهر القلب يقرأ غيرها مما يعدلها ثم يركع ثانياً، ويمكث في ركوعه مثل ما يمكث في قيامه هذا، ثم يرفع رأسه ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم، فيمكث في قيامه ويقرأ فيه مقدار ما قرأ في القيام الثاني في الركعة الأولى، ثم يركع ويمكث في ركوعه مثل مكثه في هذا القيام، ثم يقوم ويمكث في قيامه مثل ما مكث في الركوع أو نحوه، ثم يرفع رأسه ويقوم مثل ثلثي قيامه في القيام الأول من هذه الركعة الثانية هكذا يفعل، ثم يسجد سجدتين ويتم الصلاة.
احتج الشافعي رحمه الله بحديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام صلى صلاة الكسوف ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات» ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام صلى بالناس صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعين» .
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بحديث عبد الله بن عمر، والنعمان بن بشير، وأبي بكرة، وسمرة بن جندب بألفاظ مختلفة «أن النبي عليه السلام صلى في كسوف الشمس ركعتين كأطول الصلاة كان يصليها فانجلت الشمس مع فراغه منها» وفي «الكتاب» ذكر حديث إبراهيم أن النبي عليه السلام «صلى ركعتين في الكسوف ثم كان الدعاء حتى انجلت الشمس» ، وهو كان مقدماً في علم الأخبار، وكان ذا احتياط وثبت وثقة، فكان

(2/134)


لا يأخذ ولا يروي إلا ما كان يصح عنده.
والمعنى فيه: أن صلاة الكسوف لا تخلو إما أن تكون معتبرة بالنوافل أو بالفرائض أو الواجبات وبأيها اعتبرنا لا يجوز أن يجتمع في ركعة منها ركوعان وقومتان.
وتأويل حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم ما أشار الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» : أن النبي عليه السلام إنما ركع ركوعين على وجه الصورة لا على وجه التحقيق؛ لأنه في تلك الصلاة قربت إليه الجنة والنار، وكان في تلك الصلاة يتقي شرها بيده ويتقدم ويتأخر، وقد قال في تلك الصلاة مراراً «ألم تعدني أن لا أعذبهم وأنا فيهم» ، فلما فرغ منها قال: «أدنيت مني النار حتى كنت أتقي شررها بيدي، وقربت مني الجنة حتى لو كدت أن آخذ ثمارها لفعلت» . وفي رواية «حتى لو كدت أن أقطف عنبها لفعلت قائماً» رفع رسول الله عليه السلام رأسه من الركوع فزعاً حين قربت منه النار فكان ذلك رفعاً على وجه الصورة لا على وجه الحقيقة، ثم عاد إلى الركوع حيث أمن منها جبراً للركع الأول وإتماماً له لا أن يكون ركوعاً ثانياً، فلم يركع في كل قيام إلا ركوعاً واحداً كما في الصلاة المعهودة، وإنما مثال هذا من كان في الركوع في صلاته، فتذكر سجدة تركها قبل الركوع، فإنه يرفع رأسه من الركوع ويحولها ساجداً، ثم يعود إلى الركوع جبراً وإتماماً له لا أن يكون ركوعاً على حدة.
قال شمس الأئمة الحلواني: وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يذكر جواباً آخر وهو الذي يعتمد عليه أن النبي عليه السلام طول الركوع فيها للمعنى الذي ذكرنا فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم وظن من خلفهم أن النبي عليه السلام رفع رأسه، ورفعوا رؤوسهم، ثم عاد الصف الأول إلى الركوع اتباعاً لرسول الله عليه السلام فركع من خلفهم وظنوا أنه ركع ركوعين في كل ركعة.

ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، وعائشة كانت واقفة في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فلهذا نقلا كما وقع عندهما، وإن كان هذا صحيحاً، فكان أمراً بخلاف المعهود، فينقله الكبار من الصحابة الذين كانوا يأتون رسول الله عليه السلام، وحيث لم ينقله أحد دل أن الأمر كما قلنا: وهو تأويل حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ولا يصلي هذه الصلاة بجماعة إلا الإمام الذي يصلي الجمعة، فأما أن يصلي الناس في مساجدهم جماعة فإني لا أحب ذلك، وليصلوا وحداناً، هكذا قال في «الكتاب» : قال شيخ الإمام خواهر زاده: يريد به أن يصلي في موضع واحد كما يصلي الجمعة.
وروي عن أبي حنيفة في غير رواية «الأصول» : أن لكل إمام مسجد أن يصلي في مسجده، وجه رواية أبي حنيفة رحمه الله وهو أن هذه صلاة تؤدى بجماعة لا يشترط

(2/135)


لإقامتها المصر، فلا يشترط السلطان قياساً على سائر الصلوات.
وجه ظاهر الرواية: وهو أن عليه السلام صلى صلاة الكسوف بجمع واحد وهو كان إمام الأئمة، فلا يجوز أداؤها إلا على ذلك الوجه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: فإن عدم الإمام الذي يصلي الجمعة فإنهم يصلون وحداناً في مساجدهم إلا إذا كان الإمام الأعظم الذي يصلي الجمعة والعيدين أمرهم بذلك، فحينئذٍ يجوز أن يصلوا بجماعة ويؤمهم فيها إمام حيهم في مسجدهم.
ولا يجهر بالقراءة في صلاة الجماعة في كسوف الشمس في قول أبي حنيفة رحمه الله، ويجهر بها عند أبي يوسف، وقول محمد فيه مضطرب، وقول الشافعي مثل قول أبي يوسف.
وجه قول أبي يوسف والشافعي: حديث علي رضي الله عنه أنه جهر بالقراءة في صلاة الكسوف؛ ولأنها صلاة مخصوصة تقام بجمع عظيم، فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة والعيدين.

وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: حديث ابن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم: أن النبي عليه السلام: «لم يسمع منه حرف من قراءته في صلاة الكسوف» ؛ ولأنها صلاة النهار، وفي الحديث: «صلاة النهار عجماء» أي ليس فيها قراءة مسموعة، وتأويل حديث علي رضي الله عنه أنه وقع اتفاقاً لا قصداً، أو تعليماً للناس أن القراءة فيها مشروعة.
قال شمس الأئمة رحمه الله: والظاهر أن محمداً رحمه الله مع أبي حنيفة رحمه الله، والحاكم الشهيد ذكر قول محمد مع أبي يوسف.
وفي القدوري: ولا يصلي في الكسوف في الأوقات المنهية عنها؛ لأنها تطوع كسائر التطوعات، ثم إذا فرغوا من الصلاة فالإمام يدعو؛ لأن الصلاة للدعاء، فإذا فرغوا منها يشتغلون بالدعاء، ثم الإمام في هذا الدعاء بالخيار إن شاء جلس مستقبل القبلة ودعا، وإن شاء قام ودعا، وإن شاء استقبل الناس بوجهه ودعا، ويؤمن القوم، قال شمس الأئمة الحلواني: وهذا أحسن، ولو قام واعتمد على عصا له، أو على قوس له، ودعا كان ذلك حسناً أيضاً. وليس في هذه الصلاة خطبة وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يخطب خطبتين بعد الصلاة كما في العيدين. احتج الشافعي بما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام، فصلى رسول الله عليه السلام ثم خطب حمد الله وأثنى عليه» ، وهكذا روى سمرة بن جندب رحمه الله: أن النبي عليه السلام صلى ركعتين ثم حمد الله

(2/136)


تعالى وأثنى عليه» ولأنها صلاة تطوع تقام بجمع عظيم، فيكون من سننها الخطبة قياساً على صلاة العيد.

وأصحابنا رحمهم الله احتجوا بما روى جابر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذ رأيتم من ذلك شيئاً فصلوا حتى تنجلي» فقد أمر بالصلاة ولم يأمر بالخطبة، وكذلك روي عن النبي عليه السلام قال: «إنه إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئاً فافزعوا إلى الدعاء» ؛ ولأن الخطبة مشروعة لأحد أمرين: إما شرطاً للجواز كما في صلاة الجمعة، أو للتعليم كما في صلاة العيدين، فإنه يحتاج فيهما إلى تعليم صدقة الفطر والأضحية، وهنا الخطبة ليست بشرط للجواز بالإجماع، ولا يجوز أن تكون مشروعة للتعليم؛ لأنه لا حاجة إلى التعليم في صلاة الكسوف؛ لأن التعليم حصل من حيث الفعل.
ألا ترى أن في خطبة العيدين؛ لا يسن تعليم صلاة العيدين لأن التعليم حاصل بالفعل، وإنما يسن تعليم صدقة الفطر والأضحية، فأما حديث عائشة رضي الله عنها، قلنا: الحديث محمول على أن النبي عليه السلام احتاج إلى الخطبة بعد صلاة الكسوف؛ لأن الناس كانوا يقولون: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم (113أ1) ولد النبي عليه السلام فخطب لكي يرد عليهم ذلك، أو نقول: معنى قوله خطب أي: دعا فإن الدعاء يسمى خطبة. والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصلالصلاة في خسوف القمر
قال محمد رحمه الله: والصلاة في كسوف القمر وخسوفه حسن وحداناً، وكذلك في الظلمة والريح والفزع لقوله عليه السلام: «إذا رأيتم من هذه الأهوال» أو قال: «من هذه الأفزاع شيئاً فأفزعوا إلى الصلاة» .
k

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وعاب بعض أهل اللغة والأدب على محمد رحمه الله في هذا اللفظ، وقال: إنما يستعمل في القمر لفظ الخسوف، قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (القيامة: 7، 8) والجواب عن هذا أن نقول: الخسوف ذهاب دائرته، والكسوف ذهاب ضوئه دون دائرته، ومراد محمد رحمه الله من هذا ذهاب ضوئه لا ذهاب دائرته، فلهذا ذكر الكسوف.
ثم الصلاة فيها فرادى عندنا، وعند الشافعي يصلي بجماعة، احتج الشافعي بما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «أنه صلى بهم في خسوف القمر، وقال: صليت كما رأيت رسول الله عليه السلام صلى» ؛ ولأنه كسوف يصلى لأجله، فيكون

(2/137)


من سنته الجماعة قياساً على كسوف الشمس.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: بأن كسوف القمر يكون بالليل، فيشق على الناس الاجتماع بالليل، وربما تخاف الفتنة؛ ولأن كسوف القمر كان على عهد رسول الله عليه السلام ككسوف الشمس بل أكثر، فلو كان صلى بجماعة لنقل ذلك نقلاً مستفيضاً كما نقل في كسوف الشمس، ولأن الأصل في التطوعات ترك الجماعة فيها ما خلا قيام رمضان لاتفاق الصحابة عليه، وكسوف الشمس لورود الأثر به.
وهكذا قال في «الكتاب» : ويكره في صلاة التطوع جماعة ما خلا قيام رمضان، وصلاة كسوف الشمس، ولهذا قال عليه السلام: «أفضل صلاة الرجل صلاته في بيته إلا المكتوبة» . ألا ترى أن ما يؤدى بالجماعة من الصلوات يؤذن لها ويقام ولا يؤذن للتطوعات ولا يقام؟ فدل أنها لا تؤدى بالجماعة.
وأما حديث عبد الله بن عباس، فلا يصح لما بينا: أن النبي عليه السلام لو كان صلى صلاة الخسوف بجماعة لنقل عنه نقلاً مستفيضاً، وأما اعتباره بصلاة كسوف الشمس لا يصح؛ لأنا عرفنا ذلك بالأثر، وهذا ليس في معناه، فالأثر الوارد ثم لا يكون وارداً ههنا. والله أعلم.

الفصل الثلاثون في الاستسقاء
ولا صلاة في الاستسقاء إنما فيه الدعاء في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يصلي فيها ركعتين بجماعة كصلاة العيد إلا أنه ليس فيها تكبيرات، وقال الشافعي رحمه الله: يصلي ركعتين كما قال محمد رحمه الله إلا أنه قال: يكبر فيها كما في صلاة العيد، يكبر سبعاً في الركعة الأولى، وخمساً في الركعة الثانية.
حجة محمد، والشافعي رحمهما الله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام: «صلى ركعتين فيها كصلاة العيد» وحجة أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} (نوح: 10) فإنما أمر بالاستغفار في الاستسقاء بدليل قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَآء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} (نوح: 11) وما أمر بالصلاة، وفي حديث أنس رضي الله عنه «أن الأعرابي لما سأل رسول الله عليه السلام أن يستسقي وهو على المنبر وقال: أجدبت الأرض وهلكت المواشي فاستسق لنا يا رسول الله، فرفع رسول الله عليه السلام يديه إلى السماء ودعا» قال الراوي: فما نزل عن المنبر حتى نشأت سحابة، فمطرنا إلى الجمعة القابلة الحديث إلى آخره، ولم يرد أنه صلى.
وإن عمر رضي الله عنه خرج للاستسقاء فما زاد على الدعاء، وروي أنه خرج بالعباس عم النبي عليه السلام، فأجلسه على المنبر، ووقف بجنبه يدعو ويقول: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك ودعا بدعاء طويل، فما نزل عن

(2/138)


المنبر حتى سقوا.
قال في «الكتاب» : عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله لم يبلغنا في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به. اختلفت النقلة والرواة أنه لأي معنى سمي شاذاً، منهم من قال: إنما سمي شاذاً؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يصل في الاستسقاء، وعلي رضي الله عنه كذلك، ولو كانت بهذا سنّة مشهورة لما خفيت عليهما، ولا خير في سنّة خفيت على عمر، وعلي رضي الله عنهما.

ومنهم من قال: إنما سمي شاذاً؛ لأنه ورد ونقل في بلية عامة، والواحد إذا روى حديثاً في بلية عامة يعد ذلك شاذاً ومستنكراً منه، ثم عند محمد رحمه الله يخطب الإمام بعد الصلاة نحو الخطبة في صلاة العيدين، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يخطب خطبة واحدة؛ لأن المقصود الدعاء، فلا يقطعها بالجلسة، وقد ورد بكل واحد منهما أثر عن رسول الله عليه السلام.
وكان الزهري يقول: يخطب قبل الصلاة وهو قول مالك، وقد ورد به حديث ولكنه شاذ. قال محمد رحمه الله: أرى أن يصلي الإمام في الاستسقاء نحواً من صلاة العيد، ولا يكبر فيها كما يكبر في العيد، ويقلب الإمام رداءه إذا مضى صدر من خطبته.
وصفته أنه إذا كان مربعاً جعل أعلاه أسفله، وإن كان مدوراً جعل الجانب الأيسر على الأيمن، والأيمن على الأيسر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يقلب رداءه.
حجة محمد ما روي عن النبي عليه السلام أنه «خرج مستسقياً عليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها فلما ثقل عليه قلبها على عاتقه فحول اليمين إلى الشمال والشمال إلى اليمين» .
وأبو حنيفة، وأبو يوسف رحمهما الله احتجا بما روي أن النبي عليه السلام استسقى يوم الجمعة ولم يقلب الرداء، والمعنى فيه أنه دعاء مشروع حالة الخوف فلا يسن فيه تقليب الرداء قياساً على كسوف الشمس، ولا تأويل في تقليب الرداء سوى أنه يقال بتغيير الهيئة يتغير الهوى ولا بأس بأن يعتمد في خطبته على عصا وأن يتنكب قوساً ورد به الأثر، وهذا لأن خطبته تطول فيستعين بالاعتماد على عصا. وإذا قلب الإمام رداءه فالقوم

(2/139)


لا يقلبون أرديتهم، وإنما يتبع في هذه السنّة والأثار المعروفة.
وقال مالك: يقلب القوم أرديتهم كما فعل الإمام، وعن أبي يوسف رحمه الله قال: إن شاء رفع يديه في الدعاء، وإن شاء أشار بأصبعه؛ لأن رفع اليدين في الدعاء سنّة جاء في الحديث «أن النبي عليه السلام كان يدعو بعرفات باسطاً يديه كالمتضرع المسكين» .

وإنما يخرجون في الاستسقاء ثلاثة أيام لم ينقل أكثر من ذلك، ولا يخرج أهل الذمة في ذلك مع أهل الإسلام، وقال مالك: إن خرجوا لم يمنعوا من ذلك.
حجتنا في ذلك: أنه إنما يخرج الناس للدعاء وما دعاء الكافرين إلا في ضلال؛ ولأنهم بالخروج يستنزلون الرحمة، وإنما تنزل على الكفار اللعنة والسخط وقد أمر رسول الله عليه السلام بتبعيد المشركين بقوله عليه السلام: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك ألا لا تراءى ناراهما» فلهذا لا يمكنون من الخروج مع المسلمين وينصت القوم لخطبة الاستسقاء؛ لأنه يعظهم فيها، وفائدة الوعظ تحصل بالإنصات، ولا يخرج فيه المنبر لما بينا في صلاة العيد.
وليس فيها أذان ولا إقامة أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله فلا يشكل؛ لأنه ليس فيها صلاة بالجماعة إنما فيها الدعاء، وإن شاؤوا صلوا فرادى، وذلك في معنى الدعاء. وأما عند محمد رحمه الله، وإن كان فيها صلاة بالجماعة ولكنها تطوع فلا يكون فيها أذان ولا إقامة كصلاة العيد.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تفسير قول محمد رحمه الله: أن الناس يخرجون إلى الاستسقاء مشاة لا على ظهورهم ودوابهم في ثياب خلقة أو غسيل أو مرقع متذللين خاضعين متواضعين ناكسي رؤوسهم في كل يوم يقدمون الصدقة قبل الخروج، ثم يخرجون هذا تفسير قول محمد رحمه الله. وإنما يكون الاستسقاء في موضع لا يكون لهم أودية وأنهار وآبار يشربون منها، ويسقون مواشيهم وزروعهم (113ب1) أو يكون ولا يكفي لهم ذلك. فأما إذا كانت لهم أودية وأنهار وآبار فإن الناس لا يخرجون إلى الاستسقاء؛ لأن الاستسقاء إنما يكون عند شدة الضرورة والحاجة. والله أعلم بالصواب.

الفصل الحادي والثلاثون في صلاة المريض
الأصل في هذا الفصل: أن المريض إذا قدر على الصلاة قائماً بركوع وسجود، فإنه يصلي المكتوبة قائماً بركوع وسجود ولا يجزئه غير ذلك؛ لأنه لما قدر على القيام

(2/140)


والركوع والسجود كان بمنزلة الصحيح، والصحيح لا يجزئه أن يصلي المكتوبة إلا قائماً بركوع وسجود كذلك هذا.
وإن عجز عن القيام وقدر على القعود، فإنه يصلي المكتوبة قاعداً بركوع وسجود، ولا يجزئه غير ذلك؛ لأنه عجز عن نصف القيام، وقدر على النصف، فما قدر عليه لزمه، وما عجز عنه سقط.
وإن عجز عن الركوع والسجود وقدر على القعود فإنه يصلي قاعداً بإيماء، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن القعود صلى مستلقياً على ظهره، وإن لم يقدر إلا مضطجعاً استقبل القبلة، وصلى مضطجعاً يومىء بإيماء.
والأصل في هذا كله قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 191) قال الضحاك في تفسيرها: هذا بيان حال المريض في أداء الصلاة بحسب الطاقة، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: المراد من هذا الذكر في الصلاة، وقال عليه السلام لعمران بن حصين رضي الله عنه حين عاده وهو مريض: «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى الجنب تومىء إيماءً» والمعنى في ذلك أن الطاعة بحسب الطاقة.

وقوله: فإن عجز عن القيام وقدر على القعود يصلي المكتوبة قاعداً، لم يرد بهذا العجز العجز أصلاً لا محالة بحيث لا يمكنه القيام بأن يصير مقعداً، بل إذا عجز عنه أصلاً، أو قدر عليه إلا أنه يضعفه ذلك ضعفاً شديداً حتى تزيد علته لذلك، أو يجد وجعاً لذلك، أو يخاف إبطاء البرء، فها هنا وما لو عجز عنه أصلاً سواء.
وإذا كان قادراً على بعض القيام دون تمامه كيف يصنع؟ لا ذكر لهذا الفصل في شيء من الكتب، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يؤمر بأن يقوم مقدار ما يقدر، فإذا عجز قعد حتى إنه إذا كان قادراً على أن يكبر قائماً، ولا يقدر على القيام للقراءة، أو كان يقدر على القيام ببعض القراءة دون تمامها، فإنه يؤمر بأن يكبر قائماً، ويقرأ ما يقدر عليه قائماً، ثم يقعد إذا عجز، وبه أخذ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وإذا قدر على القيام متكئاً لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الصحيح أنه يصلي قائماً متكئاً، ولا يجزئه غير ذلك، وكذلك لو قدر على أن يعتمد على عصا، أو كان له خادم لو اتكأ عليه قدر على القيام، فإنه يقوم ويتكىء خصوصاً على قول أبي يوسف، ومحمد

(2/141)


رحمهما الله، فإن على قولهما: إذا عجز المريض عن الوضوء وكان يجد من يوضئه لم يجزئه التيمم، وقدر بغيره كقدرته بنفسه، فكذلك هذا.
فإن كان يقدر على القيام، ولا يقدر على السجود أومأ إيماءً وهو قاعد؛ لأن القيام لافتتاح الركوع والسجود به، فكل قيام لا يتعقبه سجود لا يكون ركناً؛ ولأن إيماء القاعد أقرب إلى التشبه بالسجود من إيماء القائم.

والمقصود من الإيماء التشبه بمن يركع ويسجد هكذا ذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله: أنه بالخيار إن شاء صلى قائماً بإيماء، وإن شاء صلى قاعداً بإيماء، وهو أفضل عندنا.
وزاد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله فقال: إذا أراد أن يومىء للركوع يومىء قائماً، وإذا أراد أن يومىء للسجود يومىء قاعداً، لأن الإيماء بدل من الركوع والسجود، ولو كان قادراً على الركوع والسجود فيركع قائماً، ويسجد قاعداً فكذلك الإيماء.
لم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : ما إذا لم يقدر على القعود مستوياً، وقدر عليه متكئاً، أو مستنداً إلى حائط أو إنسان، أو ما أشبه ذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا رحمهم الله: يجزىء أن يصلي قاعداً مستنداً أو متكئاً، لا يجزئه أن يصلي مضطجعاً خصوصاً على قولهما هكذا ذكر في «النوادر» ، وهذا نظير ما ذكرنا في القيام إذا كان قادراً على القيام بالاتكاء والاستناد.
وإذا لم يستطع القعود صلى مستلقياً على قفاه متوجهاً نحو القبلة، ورأسه إلى المشرق، ورجلاه إلى المغرب هذا هو الأفضل عندنا، وإن صلى على جنبه الأيمن يومىء إيماءً أجزأه، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير رضي الله عنهم.
وقال الشافعي رحمه الله: الأفضل أن يصلي على جنبه الأيمن كما يوضع الميت في القبر، وإن صلى مستلقياً على قفاه جاز، احتج الشافعي رحمه الله بظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) وأراد به في الصلاة فقد ذكر الجنب، ولم يذكر الاستلقاء على قفاه.

والدليل عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه فإن النبي عليه السلام نقل الحكم من القعود إلى الجنب لا إلى الاستلقاء.
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام إلى نحو مذهبنا، ولأنه لو صلى مستلقياً على قفاه كان أقرب إلى استقبال القبلة؛ لأن الجانبين منه إلى القبلة، وإشارته تقع إلى هوى الكعبة، وإذا صلى على جنبه الأيمن فإشارته تقع إلى جانب رجليه، وذلك ليس بقبلة، ثم

(2/142)


ما به من العجز على وجه الزوال، إذا كان مستلقياً لو قدر على القعود، فقعد كذلك كان وجهه إلى القبلة، ولو قدر على القيام، فقام كذلك كان وجهه إلى القبلة فهذا أولى، ثم إذا أومأ فإنه يومىء بالرأس، فإن عجز عن الإيماء بالرأس لم يصل عندنا.
ثم اختلف المشايخ بعد هذا، قال بعضهم: إن دام العجز أكثر من يوم وليلة سقطت عنه الصلاة، وإن زال قبل ذلك لا تسقط، وقال بعضهم: لا تسقط وإن دام أكثر من يوم وليلة حتى إنه إذا برأ يلزمه القضاء، ولو مات قضى عنه ورثته.
وقال بعضهم: تسقط مطلقاً من غير فصل، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وعن أبي يوسف أن المريض إذا عجز عن الإيماء بالرأس يومىء بعينه ولا يومىء بقلبه، وعن أبي حنيفة أنه لم يجز للإيماء بالعينين، وسئل محمد رحمه الله، عن ذلك فقال: لا أشك أن الإيماء بالرأس يجوز، ولا أشك أن الإيماء بالقلب لا يجوز، وأشك في الإيماء بالعين أنه هل يجوز؟

وإذا افتتح الصلاة المكتوبة بالإيماء ثم قدر على القعود، واستقبل الصلاة قاعداً؛ لأن الصلاة قاعداً أقوى من الصلاة بالإيماء، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، وكذلك إذا كان يصلي قاعداً بركوع وسجود ثم قدر على القيام يستقبل الصلاة عند محمد رحمه الله؛ لأن عنده الصلاة قاعداً أضعف من الصلاة قائماً حتى لم يجز اقتداء القائم بالقاعد ابتداء على ما مر، فكذلك لا يجوز البناء هنا، وعندهما يتم الصلاة قائماً.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يصلي تطوعاً وقد افتتح الصلاة قائماً ثم يضنى لا بأس بأن يتوكأ على عصا وهنا مسألتان: مسألة في القعود ومسألة في الاتكاء.
أما مسألة القعود فهي على وجهين: فإن قعد بعذر يجوز؛ لأن في المكتوبة إذا قعد بعذر يجوز ففي النافلة أولى، وإن قعد بغير عذر، فقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا يجوز.
وجه قولهما: أن الشروع يلزم كالنذر، ثم لو نذر أن يصلي قائماً، وافتتح قائماً ثم قعد لم يجزه كذلك هنا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أنه كان في الابتداء مخيراً بين أن يصلي التطوع قاعداً، وبين أن يصليها قائماً، فيبقى هذا الخيار إلى الانتهاء؛ لأن حكم الانتهاء أشمل من حكم الابتداء. ألا ترى أن الحدث يمنع ابتداء الصلاة، ولا يمنع البقاء.
وما يقولان بأن الشروع ملزم. قلنا: الشروع ليس بملزم بعينه إنما صار ملزماً ليبقى ما باشر (114أ1) قربة وما باشر من القيام يبقى قربة، وإن لم يقم فيما بقي؛ لأن التطوع قاعداً قربة مع القدرة على القيام بخلاف النذر؛ لأنه ملزم بنفسه من حيث التسمية، على أنا نقول: بأن الشروع إنما يلزم ما شرع فيه، وما لا ينفصل عنه، وأما ما ينفصل عما شرع فيه لا يلزمه، ألا ترى لو أنه نوى أربع ركعات، فسلم على رأس الركعتين لم يلزمه شيء آخر على ظاهر الرواية؟ لأن الشفع الأول ينفصل عن الشفع الثاني، فكذلك هنا

(2/143)


القيام من الأول ينفصل عن القيام في الثاني بخلاف النذر؛ لأنه التزم له ذكراً.
وأما مسألة الاتكاء فهو على وجهين أيضاً: إن اتكأ بعذر تجوز صلاته من غير كراهة؛ لأن في الاتكاء تنقيص القيام، ولو ترك جميع القيام من غير عذر يجزئه عند أبي حنيفة رحمه الله فالتنقيص لا يكره، وعندهما ترك جميع القيام بعدما شرع قائماً لا يحزئه فتنقيصه يكره.
وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجب أن يكره الاتكاء بخلاف القعود، فإنه إذا قعد بعدما افتتح قائماً لا يكره عند أبي حنيفة رحمه الله.
ووجه ذلك: أن في الابتداء هو مخير بين أن يفتتح التطوع قائماً وبين أن يفتتحه قاعداً، فيبقى هذا الخيار في الانتهاء، فيجوز القعود من غير كراهة أما في الابتداء غير مخير بين أن يصلي متكئاً، وبين أن يصلي غير متكىء، بل يكره له ذلك لما فيه من سوء الأدب وإظهار التجبر، وكذلك في الانتهاء، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «دخل المسجد، فرأى حبلاً ممدوداً فسأل عن ذلك فقيل: إن فلانة تصلي بالليل ما نشطت فإذا أعيت اتكأت به فقال عليه السلام: فلانة تصلي بالليل ما نشطت فإذا أعيت نامت» مع هذا تجوز الصلاة لوجود أصل القيام.

هذا كله في التطوع، فأما في المكتوبة لا يجوز ترك القيام بالقعود من غير عذر، وكذلك يكره تنقيص القيام من عذر، وإن فعل ذلك جازت صلاته لوجود أصل القيام.
وإذا افتتح التطوع قاعداً وأدى بعضها قاعداً، ثم بدا له أن يقوم فقام، وصلى بعضها قائماً أجزأه عندهم جميعاً، أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله لا يشكل؛ لأن عندهما التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام بدليل أن المريض إذا افتتح المكتوبة قاعداً، ثم قدر على القيام جاز له أن يقوم ويصلي بقية الصلاة قائماً لهذا المعنى، أن التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام، وإنما يشكل هذا على مذهب محمد رحمه الله؛ لأن عنده التحريمة المنعقدة للقعود لا تكون منعقدة للقيام، حتى أن المريض إذا قدر على القيام في وسط الصلاة فسدت صلاته عنده مع هذا قال: هنا تجوز صلاته.
وفي المريض لا تجوز صلاته، والفرق لمحمد رحمه الله، وهو أن في المريض ما كان قادراً على القيام وقت الشروع في الصلاة، فما انعقدت تحريمته للقيام، فأما هنا في صلاة التطوع كان قادراً على القيام، فانعقدت تحريمته للقيام، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً فكلما جاء أوان الركوع قام وقرأ ما بقي من القراءة وركع جاز، وهكذا ينبغي أن يفعل إذا صلى التطوع قاعداً لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام «كان يفتتح

(2/144)


التطوع قاعداً فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل، في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام ومن القيام إلى القعود فدل أن ذلك جائز في التطوع والله أعلم.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: ويوجه المريض القبلة كما يوجه القبلة في اللحد، وأراد به المريض الذي قرب موته حيث أمر أن يفعل به ما يفعل بالميت، وهذا لأنه في معنى الميت، قال عليه السلام: «لقنوا موتاكم» وأراد به الذي قرب موته. واختيار أهل بلادنا الاستلقاء فإنه أسهل لخروج الروح.
وإذا أغمي على الرجل يوم وليلة أو أقل يلزمه قضاء الصلوات، وإن أغمي عليه أكثر من ذلك فلا قضاء عليه وهذا الاستحسان.
وفي القياس: إذا أغمي عليه وقت صلاة كامل لا قضاء عليه، وجه القياس: وهو أن الإغماء عذر لعجزه عن فهم الخطاب، فيأتي الوجوب إذا استوعب وقت صلاة كامل كالجنون، هكذا ذكر بعض المشايخ مسألة الجنون على طريق الاستشهاد.
j
وذكر مسألة الجنون في «فتاوى الصغرى» : وجعلها نظير مسألة الإغماء، فلأن قليل الإغماء لو لم يكن مسقطاً لا يكون الكثير مسقطاً كالنوم، وإنه إذا نام أكثر من يوم وليلة يلزمه القضاء كما إذا نام وقت صلاة.
وجه الاستحسان: حديث علي رضي الله عنه فإنه أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن، وعمار بن ياسر أغمي عليه يوم وليلة فقضى الصلوات، وابن عمر رضي الله عنهما أغمي عليه في ثلاثة أيام فلم يقض الصلوات؛ ولأن الإغماء إذا قصر فهو معتبر بما يقصر عادة، وهو النوم فلا يسقط القضاء، وإذا طال فهو معتبر بما يقصر عادة وهو النوم فلا يسقط القضاء، وإن طال فهو معتبر بما يطول عادة وهو الجنون والضر فيسقط القضاء، وقدرنا الطويل والقصير بالزيادة على يوم وليلة لتدخل الصلوات في حد التكرار فيحرج في القضاء إذ للحرج أثر في إسقاط القضاء.
ثم اختلفوا في أن الزيادة على اليوم والليلة يعتبر بالساعات أم بالصلوات؟ وذكر الكرخي في «مختصره» : أن المعتبر الزيادة على اليوم والليلة بالصلوات، وذكر الفقيه أبو جعفر في كتابه اختلافاً بين أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله، عند أبي يوسف رحمه الله يعتبر من حيث الساعات وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.

وعند محمد رحمه الله يعتبر من حيث الصلوات ما لم تصر الصلوات ستاً لا يسقط القضاء، وإن كان من حيث الساعات أكثر من يوم وليلة وهو الأصح.

(2/145)


وإنما تظهر ثمرة هذا الخلاف فيما إذا أغمي عليه عند الضحوة ثم أفاق من الغد قبل الزوال بساعة، فهذا أكثر من يوم وليلة من حيث الساعات، فلا قضاء عليه في قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قول محمد رحمه الله يجب عليه القضاء؛ لأن الصلوات لم تزدد على الخمس. هذا الذي ذكرنا إذا ألم الإغماء فلم يفق إلى تمام يوم وليلة وزيادة، فإن يفيق ساعة ثم يعاوده الإغماء لم يذكر محمد رحمه الله هذا في «الكتاب» ، وإنه على وجهين: إن كان لإفاقته وقت معلوم نحو أن يخف مرضه عند الصبح فيفيق قليلاً، ثم تعاوده الحمى فيغمى عليه، فهذه إفاقة معتبرة تبطل حكم ما قبلها من الإغماء إن كان أقل من يوم وليلة.
فأما إذا لم يكن لإفاقته وقت معلوم، لكنه يفيق بغتة فيتكلم بكلام الأصحاء ثم يغمى عليه بغتة فهذه الإفاقة غير معتبرة، ألا ترى أن المجنون قد يتكلم في جنونه بكلام الأصحاء، ولا يعد ذلك منه إفاقة، كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وفي «المنتقى» : المجنون يعيد صلاة يوم وليلة إذا كان مجنوناً في ذلك، وإن كان أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه يعني لا قضاء عليه فيما زاد على يوم وليلة.
بيانه: فيما روى أبو سليمان عن محمد رحمه الله: إذا جن حين دخل في الظهر، ثم أفاق من الغد عند العصر، فليس عليه قضاء الظهر؛ لأن الظهر زائد على صلاة يوم وليلة، وإذا جن قبل الزوال، ثم أفاق من يومه قبل غروب الشمس يعيد الظهر والعصر.
قال: وإذا كان بجبهته جرح لا يستطيع السجود عليه لم يجزئه الإيماء، وعليه أن يسجد على أنفه؛ لأن الأنف مسجد كالجبهة، وإن لم يسجد على أنفه، وأومأ لم تجزئه صلاته؛ لأنه ترك السجود مع الإمكان عليه فلا يجزئه.
قال في «الأصل» : ويكره للمومىء أن يرفع إليه عوداً أو وسادة ليسجد عليه، لما روي أن النبي عليه السلام «دخل على مريض يعوده، فوجده يصلي كذلك، فقال: «إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا أومىء برأسك» ، وأن ابن مسعود رضي الله عنه دخل على أخيه يعوده فوجده يصلي، ويرفع إليه عوداً فيسجد عليه فينزع ذلك من يد من كان في يده وقال: «هذا شيء عرض لكم الشيطان أومىء لسجودك» فإن فعل ذلك ينظر إن كان يخفض رأسه للركوع ثم للسجود أخفض من الركوع جازت صلاته (114ب1) وإن كان لا يخفض رأسه ولكن يوضع شيء على جبهته لم تجز صلاته؛ لأنه لم يوجد السجود ولا الإيماء.
ثم اختلفوا أن هذا يعد سجوداً وإيماءً، قال بعضهم: هو سجود، وقال بعضهم: هو إيماء، وهو الأصح. فإن كانت الوسادة موضوعة على الأرض فكان يسجد عليها جازت صلاته، فقد صح أن أم سلمة رضي الله عنها كانت تسجد على برقعة موضوعة بين يديها لعلة كانت بها، ولم يمنعها رسول الله عليه السلام من ذلك.

(2/146)


قال القدوري في «كتابه» : والمريض إذا فاتته صلوات فقضاها في حالة الصحة فعل كما يفعله الأصحاء؛ لأن تحصيل الركن بكماله فرض في الأصل، وإنما سقط حالة الأداء للعذر، فإذا لم يؤد حتى صح ظهرت فرضية الأداء بتحصيل الأركان بأكمل الوجوه. وإن فاتته في الصحة، فقضى في المرض صلى بالإيماء؛ لأن فرض الوقت يجوز أداؤه مع الإيماء، فكذا القضاء لفقه أن التكليف يعتمد الوسع، وهو في حالة المرض يكلف على القضاء، كما كلف على الأداء وليس في وسعه أكثر من هذا فسقط ما عجز عنه في القضاء لهذه الضرورة، كما سقط في الأداء.
وإذا شرع في الصلاة وهو صحيح، ثم عرض له مرض بنى على صلاته على حسب الإمكان، لأنه يؤدي البعض كاملاً والبعض ناقصاً، وإنه أولى من أن يستقبل ويؤدي الكل ناقصاً، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يستقبل إذا صار إلى الإيماء.

ولو شرع وهو معذور ثم صح فإن كان الشروع بركوع وسجود بنى في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يستقبل، وإن كان الشروع بالإيماء ثم قدر على الركوع والسجود فإنه يستقبل، وقال زفر رحمه الله: يبني.
فالكلام مع محمد رحمه الله بناءً على أصل، وهو أن المنفرد يبني آخر صلاته على أول صلاته، كما أن المقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، ففي كل فصل جوزنا الاقتداء به يجوز البناء هنا وإلا فلا.
وعند محمد رحمه الله القائم لا يقتدي بالقاعد، فكذا لا يبني في حق نفسه، وعندهما القائم يقتدي بالقاعد فكذلك يبني في حق نفسه. والكلام مع زفر رحمه الله بناءً على هذا الأصل أيضاً، فمن أصله أنه يجوز اقتداء الراكع بالمومىء.
وعندنا لا يجوز، فكذا البناء في حق نفسه، وإن نزع الماء من عينه، وأمر أن يستلقي أياماً على ظهره، ونهي عن القعود والسجود أجزأه أن يصلي مستلقياً مومياً، وعلى قول مالك، والشافعي رحمهما الله: لا يجوز، هما احتجا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن طبيباً قال له: بعدما كف بصره لو صبرت أياماً مستلقياً صحت عينك فشاور عائشة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فلم يرخصوا له في ذلك، وقالوا: أرأيت لو مت في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟ فترك ذلك وصلى بركوع وسجود.

والمعنى فيه: وهو أنه إنما تجوز الصلاة بالإيماء للمريض إذا عجز عن القيام والركوع والسجود وهذا ما عجز عن القيام والركوع والسجود فلا يجزئه الإيماء. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن حرمة الأعضاء كحرمة النفس، ولو كان قاعداً يخاف على نفسه الهلاك بسبب العدو، أو بسبب السبع فصلى مستلقياً بالإيماء جاز، فكذا إذا خاف على عينيه، ولأن من به رمد شديد فكان إذا وضع جبينه على الأرض ازداد وجعه واشتد، وإنه يومىء لسجوده ويجزئه ذلك فكذلك ههنا، ولأن الرمد من أشد الأوجاع فلا يختلف عن

(2/147)


سائر الأمراض، قال عليه السلام: «لا وجع إلا وجع العين» هكذا روى شمس الأئمة رحمه الله.
وإذ صلى المريض بالإيماء لغير القبلة متعمداً لم يجزئه، لأن استقبال القبلة شرط من شرائط الصلاة، ولم يقع العجز عنه بسبب المرض فلا يسقط عنه، وإذا لم يسقط كان كالصحيح، والصحيح لو صلى إلى غير القبلة متعمداً لم تجزئه صلاته فكذلك ههنا، وإن كان ذلك منه خطأ أجزأه، يعني إذا اشتبهت عليه القبلة، ولم يكن بحضرته من يسأل عنه فتحرى وصلى جازت صلاته وإن تبين أنه أخطأ، كما تجوز من الصحيح لقول علي رضي الله عنه: قبلة المتحري جملة قصده.
والحاصل: أن مفارقة المريض الصحيح فيما هو عاجز عنه، فأما فيما يقدر عليه هو كالصحيح. فإن كان يعرف القبلة، ولكن لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، ولم يجد أحداً يحوله إلى القبلة، فإنه روي عن محمد بن مقاتل أنه يصلي كذلك إلى غير القبلة ثم يعيد؛ إذا برأ، وفي ظاهر الجواب لا يعيد؛ لأن ما عجز عنه من الشرائط لا يكون أقوى ما عجز عن الأركان، فإن وجد أحداً يحوله إلى القبلة، فإنه ينبغي أن يأمره، حتى يحوله إلى القبلة، فإن لم يأمره وصلى إلى غير القبلة، قال أبو حنيفة رحمه الله: تجوز صلاته، وقالا: لا تجوز.

وكذلك على هذا إذا كان على فراش نجس إن كان لا يجد فراشاً طاهراً، أو يجد فراشاً طاهراً ولكن لا يجد أحداً يحوله إلى فراش طاهر، فصلى على هذا الفراش الطاهر جازت صلاته، فإن كان يجد أحداً يحوله إلى فراش طاهر ينبغي أن يأمره حتى يحوله، فإن لم يأمره وصلى على فراش نجس، قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز، وقالا: لا يجوز، وهذا بناءً على أصل معروف.
وهو أن القادر بقدرة الغير هل يصير قادراً؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصير قادراً، وقالا: يصير قادراً حتى أن الأعمى لا يجب (عليه الحج والجمعة، وإن كان له ألف قائد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يجب الحج والجمعة. قال شمس الأئمة رحمه الله: قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : إذا صلى متعمداً إلى غير القبلة لا يجزئه رواية أن فاعله لا يكفر بخلاف ما قاله بعض المشايخ رحمهم الله.
وإن صلى المريض قبل الوقت عمداً أو خطأ لم يجزئه؛ لأنه صلى قبل الوجوب، وقبل وجود سبب الوجوب، وصار هذا كمن صام رمضان قبل شهر رمضان؛ ولأن المريض فيما يقدر عليه كالصحيح، والصحيح لا تجوز له الصلاة قبل الوقت، فكذا المريض.
ومعنى المسألة: وهو أن يصلي قبل الوقت مخافة أن لا يشغله المرض عن الصلاة، وكذلك لو صلى بغير قراءة، أو بغير وضوء لم يجزه أيضاً لما ذكرنا أن المريض فيما قدر

(2/148)


عليه كالصحيح، فإن عجز عن القراءة يومىء لغير قراءة؛ لأن القيام والركوع والسجود ركن كما أن القراءة ركن، ثم العجز عن تلك الأركان يسقط الأركان حتى يصلي مضطجعاً بالإيماء، فكذا العجز عن القراءة يسقط القراءة حتى يصلي بغير قراءة، فإن عجز عن الوضوء يصلي بالتيمم.
والمومىء يسجد للسهو بإيماء؛ لأن سجدة السهو دون الصلاتية، فلما جازت الصلاتية بالإيماء حالة العجز فالسهو أولى.

وليس للمريض أن يقصر الصلاة كالمسافر؛ لأن القصر في حق المسافر عرف بالنص، ولا نص في حق المريض، وإذا أراد المريض أن يجمع بين الصلاتين، فصلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، لأن المرض عذر كالسفر، ثم المسافر كذا يجمع بين الصلاتين، فكذا المريض، ولا يجمع بين الصلاتين في وقت واحد ولا يدع الوتر، ولا يترك القنوت في الوتر.
الأحدب إذا كان قيامه ركوعاً يشير برأسه للركوع؛ لأنه عاجز عما هو فوقه.
وفي «الفتاوى» : إذا قال المريض عند القيام والانحطاط: بسم الله لما يلحقه من المشقة لا تفسد صلاته؛ لأنه ليس من كلام الناس، ولم يخرجه جواباً. وذكر في «مختلف الرواية» أن في قياس قول أبي حنيفة: تفسد صلاته، وفي قياس قول أبي يوسف رحمه الله: لا تفسد.
رجل له عبد مريض لا يقدر على الوضوء فعلى المولى أن يوضئه هكذا روي عن محمد رحمه الله؛ لأنه ما دام في ملكه كان عليه تعاهده.
أبو سليمان عن محمد: رجل افتتح الصلاة قاعداً من غير عذر، ثم قام يصلي بذلك التكبير لم تجز صلاته، ولو افتتح قائماً ثم قعد من غير عذر فجعل يركع مع الإمام وهو جالس ويسجد، قال: لا يجزئه، وإن كان لم يسجد بالأرض لكنه أومأ إيماءً، فإنه يقوم ويتبع الإمام في صلاته، وهي تامة أي: صلاته تامة، وقد أساء فيما فعل (115أ1) يريد بقوله: يقوم ويتبع الإمام في صلاته: أنه إذا أومأ بالركوع والسجود، ولم يركع ولم يسجد ينبغي له أن يقوم ويركع ويسجد ليصير إتياناً بالمأمور به، وصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه سوى الإيماء، وبمجرد الإيماء لا تفسد صلاته. وقوله: قد أساء فيما فعل معناه وقد أساىء فيما أومأ أول مرة.

ابن سماعة عن محمد: مريض صلى أربع ركعات جالساً، فلما قعد في الثانية منها قرأ وركع قبل أن يتشهد، قال: هو بمنزلة القيام؛ لأنه من عمل القيام، وإن كان حين رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية نوى القيام ولم يقرأ ثم عمل، قال: يعود ويتشهد وليست النية في هذا بعمل، وهذا لأنه جالس حقيقة إلا أنه في الفصل الأول وجدها هو من أعمال القيام وهو القراءة فاعتبر تباعاً، وفي الفصل الثاني لم يوجد إلا مجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في تغيير الحقائق.
مريض صلى جالساً فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الرابعة فظن أنها

(2/149)


ثالثة، فقرأ وركع وسجد بالإيماء فسدت صلاته؛ لأنه انتقل إلى النافلة قبل إتمام المكتوبة، ولو لم يكن في الركعة الرابعة، وإن كان في الثالثة فظن أنها ثانية، فأخذ في القراءة، ثم علم أنها ثالثة لا يعود إلى التشهد بل يمضي في قراءته، ويسجد للسهو في آخر الصلاة.
ذكر الحاكم مرسلاً: رجل صلى يومىء إيماءً فلما كان في الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام فقرأ فكان في قراءته مقدار التشهد ثم تكلم، قال: أجزأته صلاته من قبيل أن قراءته ليست في موضع قراءة تجزئه من شيء يعتد به، فلا تفسد عليه قعوده، قال: ولا يكون قائماً بنية القيام حتى يكون مع ذلك عمل يجزىء من شيء في الصلاة، أو بزيادة ركوع أو سجود. ولو كان صلى ركعتين بإيماء، فلما رفع رأسه من السجود ظن أنها الركعة الرابعة، فنوى أن يكون قائماً فقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ} وسورة ثم ذكر أنها الثالثة، قال: هذا يركع للثالثة، ولا يعود ليتشهد الثانية؛ لأنه صار بالقراءة بمنزلة من قام.

ذكر الحاكم: رجل صلى الظهر بإيماء، فصلى ركعتين بغير قراءة ساهياً، ثم ظن أنه إنما صلى ركعة، فنوى القيام، فقرأ وركع وسجد، ثم علم أنه هذه الثالثة، فصلى الرابعة بقراءة أجزأته صلاته. ولو كان قرأ في الأوليين، فلما رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام، ومكث ساعة كذلك، ثم استيقن أنها الرابعة، فلم يحدث نية في الجلوس حتى مكث كذلك مقدار التشهد لم تفسد عليه صلاته.
ومن يصلي التطوع قاعداً بعذر أو بغير عذر ففي التشهد يقعد كما في سائر الصلوات إجماعاً، أما حالة القراءة فعن أبي حنيفة رحمه الله إن شاء فكذلك قعد، وإن شاء تربع، وإن شاء احتبى، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يحتبي، وروي عنه أنه يتربع إن شاء، وعن محمد رحمه الله أنه يتربع.
وعن زفر رحمه الله: أنه يقعد كما في التشهد، ثم قال أبو يوسف رحمه الله: يحل القعد عند السجود، وقال محمد رحمه الله: عند الركوع كذا ذكر الشيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: في أول صلاته، وذكر هو في آخر باب الحدث أنه يخير بين التربيع والاحتباء حكي عن اختلاف زفر أن في صلاة الليل يتربع عند أبي حنيفة رحمه الله من أول الصلاة إلى آخرها.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا جاء وقت الركوع والسجود يقعد كما يتشهد في المكتوبة، وقال زفر رحمه الله: يقعد من أول الصلاة إلى آخرها كما في تشهد المكتوبة، وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الأفضل أن يقعد في موضع القيام محتبياً. قيل: ورأينا في «مختصر الكرخي» عن محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله يقعد كيف شاء، وهو قول محمد رحمه الله. وروى الحسن رحمه الله أنه يتربع وإذا أراد أن يركع بنى رجله اليسرى وافترشها.

قال القدوري رحمه الله: أطلق أبو الحسن رواية الحسن وهو عن أبي يوسف رحمه الله، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يركع متربعاً، وقال زفر:

(2/150)


يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله أن الفتوى على قول زفر في هذا. والله أعلم.
ما ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات»
رجل بحلقه خراج ولا يستطيع أن يسجد إلا ويسل خراجه، وهو صحيح فيما سوى ذلك يقدر على الركوع والقيام والقراءة، يصلي قاعداً يومىء إيماءً، ولو صلى قائماً بركوع وسجود، وقعد وأومأ بالسجود أجزأه، والأول أفضل. وإنما كان هكذا وذاك؛ لأن القيام لم يشرع قربة بنفسه، وكذلك الركوع، ولكن شرعا ليكونا وسيلتين إلى السجود، ولهذا كانت السجدة قربة بانفرادها، ولا كذلك القيام والركوع، وشرعت السجود مكررة يكون في ركعة، ولم يشرع القيام والركوع مكرراً في الركعة.
قلنا: وقد أمر بترك السجود هنا؛ لأنه لو سجد سال من خراجه شيء فتصير صلاته بغير طهارة، ولو لم يسجد كانت صلاته بطهارة ولكن من غير سجود.
قلنا: الصلاة مع الحدث لم تشرع في حالة الاختيار بحال، فأما الصلاة قاعداً وبإيماء مشروع في حالة الاختيار، حتى أن المتنفل إذا صلى قاعداً أو على الدابة بإيماء جاز، فكان ترك السجود أهون من تحمل الحدث، وقد عرف أن من ابتلي ببليتين يختار أهونهما، وإذا أمر بترك السجود هنا، أمر بترك القيام والركوع بطريق التبعية، ولكن مع هذا إن قام وركع جاز؛ لأن السجود هنا بقي مشروعاً، ولهذا لو تكلف وفعله بلا حدث جاز، فبقي القيام والركوع أيضاً مشروعاً تحقيقاً للتبعية، فإذا أتى به فقد أتى بما هو مشروع فجاز، إلا أنه لما أمر بترك السجود لما قلنا أمر بترك القيام والركوع أيضاً بطريق التبعية، لكن مع كونهما مشروعين في نفسهما فجاز الإتيان بهما.

وكذلك إذا كان به جراحة إذا قام سال جرحه، وإذا قعد لا يسيل، أو كان شيخاً كبيراً إذا قام سلسل بوله، وإذا قعد استمسك، يصلي قاعداً بركوع وسجود، وإن كان لو سجد سال أيضاً صلى قاعداً يومىء إيماءً، ويجعل السجود أخفض من الركوع لما عرف في مواضع كثيرة. وإنما كان هكذا لما قلنا: أنه لو قام صار مصلياً بدون الطهارة، وذلك غير مشروع في حالة الاختيار بحال، وإذا قعد كانت صلاته بطهارة ولكن على غير قيام، وذلك مشروع في حالة الاختيار على ما مر، فكان ترك القيام أهون من تحمل الحدث، وهذا والأول سواء إلا أن هنا لو صلى قائماً لا يجوز، وهناك يجوز؛ لأن هنا السيلان يوجد في حالة القيام، فيصير مصلياً مع الحدث فلا يجوز، ولا كذلك الفصل الأول.
وعلى هذا لو أن شيخاً كبيراً إذا قام ضعف وعجز عن القراءة، وإذا صلى جالساً يركع ويسجد، ويقدر على القراءة أمر بأن يصلي قاعداً بركوع وسجود؛ لأن الصلاة بغير قراءة لا تجوز في حالة الاختيار بحال، وتجوز الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام، وبالإيماء راكباً مع القدرة على النزول، فكان ترك القيام أهون من ترك القراءة.
وإذا كان بالرجل جرح إن قعد أو قام سال، وإن استلقى على قفاه رقأ الجرح، فإنه يصلي قائماً يركع ويسجد، وكذلك من به سلسل البول إذا كان بحيث يستمسك إذا استلقى

(2/151)


على قفاه، وإنما كان كذلك، وذلك؛ لأن الصلاة مع الحدث في حالة الاختيار لا تجوز بحال، والصلاة مستلقياً على قفاه فكذلك، فاستويا من هذا الوجه إلا أنه إذا صلى قائماً فاته فرض واحد وهو الطهارة من الحدث، ولو صلى مستلقياً على قفاه يلزمه تحمل الاستلقاء، وترك القيام والركوع والسجود، فكان ما قلنا أهون الأمرين.

وذكر في «المنتقى» عن أبي سليمان عن محمد رحمه الله: رجل به جرح إن اضطجع فأومأ لم يسل (115ب1) وإن قعد سال، قال: يصلي مضطجعاً ويومىء إيماءً. فعلى قياس ما ذكر في «المنتقى» ينبغي في مسألة «الزيادات» أن يصلي مستلقياً على قفاه.
ومن هذا الجنس
مسألة لا ذكر لها في شيء من الكتب، وهي أن المريض إذا كان يقدر على القيام لو كان يصلي في بيته، ولو خرج إلى الجماعة يعجز عن القيام يصلي في بيته قائماً، أو يخرج إلى الجماعة ويصلي قاعداً، اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: يصلي في بيته قائماً؛ لأن القيام فرض في الصلاة، فلا يجوز تركه لأجل الجماعة وهي سنّة. وأما من يقول: يخرج إلى الجماعة يقول: ليس في هذا ترك الفرض؛ لأن القيام إنما يفترض عليه إذا كان قادراً عليه وقت الأداء وهو عاجز عنه حالة الأداء، وإذا لم يكن القيام فرضاً عليه حالة الأداء لعجزه، وإنما اعتبر حالة الأداء في باب الصلاة لا حالة الوجوب لم يكن سبب الجماعة مدركاً فرضاً، فكان عليه مراعاة الجماعة.
وفي «المنتقى» عن إبراهيم عن محمد رحمهما الله: في رجل إن صام رمضان يضعف ويصلي قاعداً، وإن أفطر يصلي قائماً، قال: يصوم ويصلي قاعداً.
وفيه أيضاً: عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: فيمن خاف العدو إن صلى قائماً، أو كان في خباء لا يستطيع أن يقيم صلبه فيه، وإن خرج لم يستطع أن يصلي من الطين والمطر قال: يصلي قاعداً.
u
والله أعلم.

الفصل الثاني والثلاثون في الجنائز
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
الأولفي غسل الميت وإنه ينقسم أقساما

الأول: في نفس الغسل: يجب أن يعلم بأن غسل الميت شريعة ماضية والأصل فيه ما روي «أن آدم صلوات الله عليه لما قبض نزل جبريل عليه السلام بالملائكة وغسلوه، وقالوا: هذه سنّة موتاكم يا ابن آدم» . وقال عليه السلام: «للمسلم على المسلم ست

(2/152)


حقوق» وذكر من جملة ذلك أن يغسله بعد موته.

ونوع من المعنى يدل عليه وهو أن الميت في صلاة الجنازة بمنزلة الإمام للقوم إنه لا تجوز الصلاة بدونه، وشرط تقديمه على القوم كالإمام، وطهارة الإمام شرط لجواز صلاة القوم فكذا طهارة الميت؛ لأنه بمعنى الإمام، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: الجنازة متبوعة وليست بتابعة، ولأن ما بعد الموت حالة عرضٍ على الله تعالى، ورجوع إليه فوجب تطهيره بالغسل تعظيماً لله تعالى.
ولهذا يسن غسل الكافر، وإن كان لا يصلي تعظيماً لله تعالى: لأنه حالة عرضٍ عليه ورجوع إليه، وبه وردت السنّة في حق الكافر لما روي «أن النبي عليه السلام أمر علياً رضي الله عنه بغسل أبي طالب» .
ثم اختلف المشايخ في علة وجوب غسل الميت، قال أبو عبد الله البلخي في «تفسير المجرد» : إنما وجب غسله لأجل الحدث لا لنجاسة ثبتت بالموت؛ لأن النجاسة التي تثبت بالموت لا تزول بالغسل كما في سائر الحيوانات التي لها دم سائل إذا تنجست بالموت، فإنها لا تطهر بالغسل، والحدث مما يزول بالغسل حالة الحياة، فكذا بعد الوفاة، ونجاسة الميت لا تزول بالغسل.
علمنا أن غسل الميت شرع لإزالة الحدث لا لإزالة نجاسة الموت، ولأن الآدمي لا ينجس بالموت، وإن وجد احتباس الدم في العروق كرامة له بخلاف سائر الحيوانات، لكن يصير محدثاً؛ لأن الموت سبب استرخاء المفاصل وزوال العقل قبل الموت، وإنه حدث، فكان يجب أن يكون مقصوراً على أعضاء الوضوء كما في حالة الحياة لأن في حالة الحياة القياس: أن يجب غسل جميع البدن كما في الجنابة لا أنه سقط غسل جميع البدن، واكتفي بغسل الأعضاء الأربعة نفياً للحرج؛ لأنه يتكرر في كل يوم.

ألا ترى أن الجنابة لما لم تتكرر لم يكتف فيها بغسل الأعضاء الأربعة وكذلك الحيض لما لم يتكرر لم يكتف فيه بغسل الأعضاء الأربعة، والحدث بسبب الموت لا يتكرر فوجوب الغسل في جميع البدن لا يؤدي إلى الحرج، فأخذ بالقياس بعد الموت، والقياس يوجب غسل جميع البدن.

وكان الشيخ أبو عبد الله الجرجاني وغيره من مشايخ العراق يقولون: الغسل وجب لنجاسة الموت لا بسبب الحدث؛ لأن الآدمي له دم سائل، فيتنجس بالموت، والدليل على أنه يتنجس بالموت أن المسلم لو وقع في بئر ماء ومات فيها، فإنه يتنجس ماء البئر كلها حتى يجب نزح جميع البئر، وكذلك لو احتمل ميتاً قبل الغسل، وصلى معه لا تجوز

(2/153)


الصلاة، ولو كان الغسل واجباً لإزالة الحدث لا غير لكان تجوز الصلاة مع الميت قبل الغسل، كما لو احتمل محدثاً، وصلى معه.
والدليل عليه: أن الميت لا يمسح برأسه ولو كان الغسل للحدث لسن المسح على رأسه كما في الجنب؛ لأن الحدث يزول بالمسح على الرأس، فدل أن الغسل واجب لإزالة نجاسة ثبتت بالموت كرامة للآدمي بخلاف سائر الحيوانات. وهذا القول أقرب إلى القياس؛ لأنه قال: بثبوت النجاسة بعد وجود علتها، وهو احتباس دم السائل في العروق. وقال: يزول بالغسل.
والغسل أثر في إزالة النجاسة كما في حالة الحياة إن لم يكن له أثر في إزالة نجاسة الموت في سائر الحيوانات سوى الآدمي، فكان ما قاله موافقاً للقياس من كل وجه في حق ثبوت النجاسة بعد وجود علتها، وفي الزوال بالغسل موافقاً للقياس من وجه وهو الاعتبار بحالة الحياة إن كان مخالفاً للقياس باعتبار سائر الحيوانات، وما قاله البلخي مخالفاً للقياس من كل وجه، وهو المنع عن ثبوت النجاسة مع قيام العلة الموجبة للنجاسة فإما لم نجد سبب نجاسته لا يعمل في التنجس في الآدمي حالة الحياة كرامة له، فكذا بعد الوفاة، ولا شك أن ما هو أقرب إلى موافقة القياس أولى.

قسم آخر في بيان كيفية الغسل
ذكر أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم رحمهم الله أنه قال: يجرد الميت إذا أريد غسله، وقال الشافعي رحمه الله: السنّة أن يغسل في قميص واسع الكمين حتى يدخل الغاسل يده في الكمين، ويغسل يديه، فإن كان الكمين ضيقاً خرق الكمين.

حجته: بما روي عن النبي عليه السلام «حين توفي غسل في قميصه الذي عليه» ، وما كان سنّة في حق النبي عليه السلام يكون سنّة في حق غيره حتى يقوم دليل التخصيص؛ ولأن الميت متى جرد يطلع الغاسل على جميع أعضائه، وربما يطلع على عورته، وقبل الموت كان يكره الاطلاع عليه، فكذلك بعد الموت حقاً للميت بخلاف حالة الحياة. لأنه يجرد نفسه بنفسه، فلا يطلع عليه غيره.
وعلماؤنا احتجوا بما روت عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه السلام لما توفي أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم لغسله، فقالوا: لا ندري كيف نغسله. يغسل كما نغسل موتانا أو نغسله وعليه ثيابه؟ فأرسل الله تعالى عليهم النوم فما منهم أحد إلا نام وذقنه على صدره إذ ناداهم منادي أن اغسلوا نبيكم عليه السلام وعليه قميصة ولا تنزعوا.
فقد اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أن السنّة في سائر الموتى التجريد، والمعنى فيه وهو أن هذا غسل واجب فلا يقام مع الثياب اعتباراً بحالة الحياة،

(2/154)


وهذا لأن المقصود من الغسل هو التطهر، والتطهير لا يحصل إذا غسل مع ثيابه؛ لأن الثوب متى تنجس الغسالة تتنجس يديه ثانياً بنجاسة الثوب، فلا يفيد الغسل، فيجب التجريد.
وأما الحدث قلنا: النبي عليه السلام كان مخصوصاً بذلك لعظيم حرمته ألا ترى أن الصحابة قالت: لا ندري كيف نغسله؟ والنص الوارد في حق النبي عليه السلام بخلاف القياس لا يكون وارداً في حق غيره؛ لأنه ليس لغيره من الحرمة ما للنبي عليه السلام، وقوله: يطلع على عورته.

قلنا: أصلنا بين أمرين: بين أن نغسله في ثيابه حتى لا يطلع على عورته غيره، وبين أن يجرده فيقع الاحتراز عن نجاسة تصيبه من الثوب، والتجريد أولى؛ لأن صيانته عن النجاسة فرض، واطلاع الغاسل على عورة الميت، مكروه. فكان مراعاة التطهير، وإنه فرض أولى من مراعاة الاطلاع على عورة الميت، وإنه مكروه.

وإذا جرد عن ثيابه يوضع على تخت؛ لأنه لو وضع على الأرض يتلطخ (116أ1) ويتلوث بالطين فيوضع على التخت كيلا يتلطخ بالطين، ولم يبين في «الكتاب» كيفية وضع التخت إلى القبلة طولاً أو عرضاً.
من أصحابنا رحمهم الله من اختار الوضع طولاً كما كان يفعله في مرضه إذا أراد الصلاة بالإيماء، ومنهم من اختار الوضع عرضاً كما يوضع في القبر. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وعلى الأصح أنه يوضع كما تيسر فإن ذلك يختلف باختلاف الأماكن والمواضع، ويوضع على عورته خرقة؛ لأن ستر العورة واجب على كل حال، والآدمي محترم حياً وميتاً.
ألا ترى أنه لا يحل للرجال غسل النساء ولا للنساء غسل الرجال الأجانب بعد الوفاة، ثم ظاهر الرواية أنه يستر السوءة وهي العورة الغليظة وحدها ويترك فخذاه مكشوفتين.
قال و «في النوادر» : ويوضع على عورته من السرة إلى الركبة، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه وهو الصحيح، قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه: «لا تنظر إلى فخذ حي وميت» ويلف الغاسل على يديه خرقة ويغسل السوءة؛ لأن مس العورة حرام كالنظر فيجعل على يده خرقة ليصير حائلاً بينه وبين العورة.

ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه هل يستنجي؟ وذكر في صلاة الأثر أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أنه يستنجي، وعلى قول أبي يوسف: لا يستنجى، أبو يوسف يقول: المسكة تزول والمفاصل تسترخى بالموت وربما يزداد الاسترخاء بالاستنجاء، فيخرج زيادة نجاسة من باطنه، فلا يفيد الاستنجاء فائدته، فلا يشتغل به، وهما قالا: موضع الاستنجاء من الميت قل ما يخلو عن نجاسة حقيقة، فيجب

(2/155)


إزالتها كما لو كانت النجاسة على موضع آخر من البدن.
ثم يوضأ وضوءه للصلاة جاءت السنّة به من رسول الله عليه السلام؛ ولأن الغسل بعد الوفاة معتبر بالغسل حالة الحياة، وفي حالة الحياة كان إذا اغتسل توضأ أولاً وضوءه للصلاة، فكذلك بعد الوفاة.

قال شمس الأئمة الحلواني: هذا في البالغ والصبي الذي يعقل الصلاة، فأما الصبي الذي لم يعقل الصلاة، فإنه يغسله، ولا يتوضأ وضوءه للصلاة؛ لأنه كان لا يصلي.
ويبدأ بغسل وجهه، ولا يغسل اليدين بخلاف حالة الحياة؛ لأن الحي يغسله بنفسه، وآلة الغسل اليد فيؤمر بغسل اليدين أولاً، فيحصل غسل الأعضاء فإنه طاهرة، والميت يغسله الغاسل، ولا يغسل بنفسه، فلا يؤمر بغسل يد الميت بل يؤمر الغاسل بغسل يده.
ويبدأ في الوضوء بميامنه، وكذلك في الاغتسال؛ لأنه في حالة الحياة يفعل كذلك، فكذلك بعد الوفاة، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «كان يحب التيامن في كل شيء» ، وقد روت أم عطية أن النبي عليه السلام قال: للنساء اللاتي غسلن ابنته «إبدآن بميامنها وبمواضع وضوئها» . لا يمضمض ولا يستنشق وهذا عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: يمضمض ويستنشق اعتباراً بالغسل حالة الحياة.
ولنا ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الميت يوضأ وضوءه للصلاة إلا أنه لا يمضمض ولا يستنشق» . وهذا نص في الباب؛ ولأنه بتعذره عليهم إخراج الماء من فيه فيكون سقياً لا مضمضمة، ولو كبوه على وجهه ربما يخرج من جوفه ما هو نتن منه فيكون أخبث لفمه.
ومن العلماء من قال: يجعل الغاسل على أصبعه خرقة دقيقة ويدخل الأصبع في فمه ويمسح بها أسنانه ولهاته وشفتيه وينقيها، ويدخل من منخره أيضاً. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وعليه الناس اليوم: ولا يمسح برأسه بخلاف غسل الجنابة حالة الحياة: لأن إزالة الحدث بالمسح عرف نصاً بخلاف القياس حالة الحياة.

ألا ترى أنه لا يزول الحدث في سائر الأعضاء بالمسح ولا نص في حالة الموت، فيبقى على أصل القياس، ولا يؤخر غسل رجليه بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك يجتمع الماء المستعمل في موضع رجليه فالمفيد الغسل، وهنا لا يجتمع، ثم يغسل رأسه ولحيته بالخطمي؛ لأن الغسل شرع للتنظيف والغسل بالخطمي أبلغ في التنظيف، وهذا إذا كان له شعر على رأسه، لأن الحي إذا غسل وله شعر فعل ذلك حتى يصل الماء إلى ثنون شعره،

(2/156)


ولا يسرح شعره؛ لأن الحي إنما يفعل ذلك للزينة وقد انقطع ذلك بالموت.
ثم بعد التوضىء يغسل ثلاثاً؛ لأن هذا غسل مشروع بعد الوفاة، فيعتبر بالغسل المشروع حالة الحياة، ثم التثليث في الغسل حالة الحياة مشروع، وكذا بعد الوفاة، وإن زاد على الثلاث جاز كما في حالة الحياة.

ثم يغسل أولاً بالماء القراح يعني بالماء الخالص، ثم بالسدر فيطرح السدر بالماء، وفي الثالثة يجعل الكافور في الماء ويغسل، هكذا روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «يبدأ أولاً بالماء القراح، ثم بالماء والسدر، ثم بالماء وشيء من الكافور» وإنما يبدأ أولاً بالماء القراح حتى يسيل ما عليه من الدرن والنجاسة، ثم بماء السدر حتى يزول ما به من الدرن والنجاسة، فإن السدر أبلغ في التنظيف وإزالة الدرن، ثم بماء الكافور يطيب بدن الميت، كذا فعلت الملائكة بآدم عليه السلام حين غسلوه. والغسل بالماء الحار أفضل عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: الأفضل أن يغسل بالماء البارد إلا أن يكون عليه وسخ ودرن، أو نجاسة لا تزول إلا بالماء الحار، فحينئذٍ يغسل بالماء الحار.
حجته: أن الميت يسترخي، فلو غسل بماء حار ازداد الاسترخاء، فيصير سبباً لخروج ما في بطنه من النجاسات، فيؤدي إلى تنجيس الأكفان وتنجيسه ثانياً بعد الغسل، فكان الغسل بماء بارد أفضل.

وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن غسل الميت شرع للتنظيف، والماء الحار أبلغ في التنظيف، فيكون أفضل قياساً على حالة الحياة، قوله: يزيد في الاسترخاء، قلنا: لهذا سنّ بالماء الحار ليزيد الاسترخاء، فيخرج جميع ما في بطنه كيلا تنجس الأكفان.
ثم يضجعه على شقه الأيسر، فيغسل بالماء القراح حتى ينقيه؛ لأن البدائة بالأيمن مندوب إليه، ولا يمكنه ذلك إلا بعد أن يضعه على شقه الأيسر، فيضعه على شقه الأيسر، ويصب الماء عليه حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت من الشق الأيسر، فإذا وقع عند هذا فقد غسله مرة.

قال في «الكتاب» : وقد أمرن قبل ذلك بالماء ... بالسدر، فإن لم يكن بسدر فحرض، فإن يكن واحد منهما أجزأك الماء القراح. ثم يضعه على شقه الأيمن، وبصب الماء على شقه الأيسر، فيغسله بالماء القراح ثلاثاً حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه؛ لأن الأيمن قد غسل بصب الماء عليه فيغسل الأيسر يصب الماء عليه؛ لأن صب الماء أبلغ في التطهير، فيجب أن يكون بكل جانب من ذلك حظ، فإن فعل هذا فقد غسل مرتين. ثم يقعده ويسنده إلى نفسه فيمسح بطنه مسحاً رقيقاً، فقد أمره بالمسح بعد الغسل مرتين، وأمره بمسح رقيق حقاً للميت.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول» أنه قال: يقعده أولاً،

(2/157)


ويمسح بطنه، ثم يغسله؛ لأن المسح قبل الغسل أولى حتى يخرج ما في بطنه من النجاسة، فيقع الغسل ثلاثاً بعد خروج النجاسة.
وجه ظاهر الرواية: وهو أن المسح بعد المرة الثانية أولى؛ لأنه ربما يكون في بطنه نجاسة منعقدة لا تخرج بعد المسح قبل الغسل، ويخرج بعد الغسل مرتين بماء حار، فكان المسح بعد المرتين أقدر على إخراج ما به من النجاسة، فيكون أولى.
والأصل في ذلك ما روي: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما غسل رسول الله عليه السلام مسح بطنه بيده وقتها طلب منه ما يطلب من الميت فلم ير شيئاً فقال: طبت حياً وميتاً، وروي أن العباس رضي الله عنه فعل وقال: هذا، وروي أنه لما فعل به هكذا أراح ريح المسك في البيت، وانتشر ذلك الريح في المدينة.
وإن سال منه شيء مسحه، ولم يرد لهذا الاقتصار على المسح بل يغسل ذلك الموضع، وإنما أمره بالمسح قبل الغسل (116ب1) ؛ لأنه لو لم يمسح يتعدى عن ذلك الموضع بالغسل ثم يضجعه على شقه الأيسر، فيغسله بالماء القراح وشيء من الكافور حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه، فإذا فعل ذلك فقد غسله ثلاثاً.

ثم ينشفه بثوب كما في حالة الحياة بعدما اغتسل ينشف أعضاءه حتى لا تبتل ثيابه، فكذا ينشفه بعد الموت حتى لا تبتل الأكفان. ولا يأخذ من شعره وظفره؛ لأنه للزينة، وبالموت استغنى عن الزينة، وإن كان ظفره منكراً، فلا بأس بأن يأخذه.
روي ذلك عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وهذا سبيل كل ميت مات بعد الولادة، فإن ولد ميتاً لم يغسل، ولا يصلى عليه هكذا ذكر في «الأصل» .
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا استهل المولود سمي، وغسل، وصلي عليه، وورث وورث عنه، وإذا لم يستهل لم يسم، ولم يغسل، ولم يصلِ عليه؛ ولم يرث؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: «إذا استهل المولود غسل وصلي عليه وورث، وإن لم يستهل لم يصلِ عليه ولم يورث» وهذه الرواية موافقة لما ذكر في «الأصل» .
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يغسل ولا يصلى عليه وهكذا روي عن محمد رحمه الله في رواية، وبه أخذ الطحاوي رحمه الله.
وفي رواية أخرى عن محمد رحمه الله: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وبه أخذ الكرخي.
وجه إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: أن المنفصل ميتاً في حكم جرو حتى لا يصلى عليه فكذا لا يغسل.

وجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أن المولود ميتاً نفس مؤمنة، ومن النفوس من يغسل ولا يصلى عليه، فيجوز أن يكون لهذه الصفة وما يقول: بأن المولود ميتاً في حكم الجرو.

(2/158)


قلنا: إنه في حكم الجرو من وجه، وفي حكم النفس من وجه فيعطى له حظاً من الشبهين، فلاعتباره بالنفوس، قلنا: يغسل ولاعتباره بالأجراء قلنا: لا يصلى عليه.
وأما السقط الذي لم تتم أعضاؤه، ففي غسله اختلاف المشايخ، والمختار أنه يغسل ويلف في خرقة.
وإذا غرق الرجل في الماء ومات أو وقع في بئر ومات فعن أبي يوسف رحمه الله أن ذلك لا ينوب عن الغسل وكذلك إذا أصاب الميت المطر لا ينوب ذلك عن الغسل.

فرق بين الميت والحي، والفرق: أن الغسل في حق الحي يتكلف به لغيره، وهو الطهارة وعرف ذلك بقوله تعالى: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} (المائدة: 6) ، وقد حصلت الطهارة من غير فعله، فأما الطهارة لم تعرف مطلوبة من غسل الميت يجوز أن يكون غسله لهذه الحكمة، ويجوز أن يكون غسله لحكمة أخرى، فلا يجوز القول بسقوط الأمر بالغسل عند حصول هذه الحكمة، وهي الطهارة؛ ولأن الأمر بغسل الميت لاقى الأحياء، فلا بد من فعل منهم، ولم يوجد، والأمر في حق الحي بالاغتسال لاقاه بعينه، وقد وجد نوع فعل منه في هذه الصورة.
وإذا لم ينب ذلك عن الغسل يغسل ثلاثاً بعد ذلك في قول أبي يوسف. وعن محمد أنه إذا نوى الغسل عند إخراجه من الماء يغسل مرتين بعد ذلك وإن لم ينوِ الغسل عند إخراجه يغسل ثلاثاً بعد ذلك، وعنه في رواية أخرى يغسل مرة واحدة. وإذا غسل الميت، ثم خرج منه شيء؛ فإنه لا يعاد الغسل، ولا الوضوء عندنا، وبه ختم.
قسم آخر في بيان الأسباب المسقطة لغسل الميت
فنقول: غسل الميت يسقط بأسباب: أحدها: انعدام الغاسل حتى أن الرجل إذا مات بين يدي النساء في السفر ييمم، فبعد ذلك ينظر إن كن أجنبيات يممنه من وراء الثياب، وإن كانت فيهن ذو رحم محرم منه يممته بيدها.
وكذلك المرأة إذا ماتت بين يدي الرجال في السفر، فإن كانوا أجانب يمموها من وراء الثوب، وإن كان فيهم ذو رحم محرم منها يممها بيده.
وإذا كان مع النساء رجل من أهل الذمة، أو مع الرجال امرأة ذمية علم الذمي والذمية الغسل، وإذا كان مع الرجال زوجها لم يحل له أن يغسلها، ولو كان مع النساء امرأة الميت حل لها أن تغسله.

وفي «العيون» : إذا ظاهر من امرأته ثم مات منها فلها أن تغسله لأن النكاح قائم ولو كان لرجل امرأتان فقال: إحداكما طالق ثلاثاً، وقد كان دخل بهما، ثم مات قبل البيان ليس لكل واحدة منهما أن تغسله لجواز أن كل واحدة منهما مطلقة، ولهما الميراث، وعليهما عدة الوفاة والطلاق.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مات الرجل عن امرأته، وهي مجوسية؛ لأنه كان لا

(2/159)


يحل لها المس حال حياته، فكذا بعد وفاته بخلاف الذي ظاهر منها؛ لأن الحل قائم، فإن أسلمت قبل أن يغسل غسلته اعتباراً بحالة الحياة. وكذلك إذا مات عن امرأة، وأختها في عدته لم تغسله، فإن انقضت عدة أختها كانت لها أن تغسله.
إذا مات الرجل فأقامت امرأتان أختان كل واحدة منهما بينة أنه تزوجها، ودخل بها، ولا يعلم أيتها الأولى لم تغسله واحدة منهما، وميراث امرأة واحدة بينهما. وإذا مات الرجل وثمة أمته أو أمة غيره يممته بغير ثوب إلا من عتق بموته، ولا تغسل الأمة مولاها، وكذلك أم الولد، وعن أبي يوسف رحمه الله للمحرمة والرضاعة أن تغسل زوجها.
وإذا مات الرجل عن امرأته، فقتلت ابن الميت أو ارتدت والعياذ بالله أو وقعت المحرمية بينهما بسبب من الأسباب لم يجز لها أن تغسله.
وإذا تزوج امرأة الرجل بزوج ودخل بها الزوج الثاني حتى وجب عليها العدة، ثم فرق بينهما، وردت إلى الزوج الأول، ومات عنها وهي في العدة من النكاح الثاني لم يكن لها أن تغسله، وإن انقضت عدتها في حال حياته، أو بعد وفاته لها أن تغسله.

وإن كان معه امرأة قد بانت منه قبل موته بطلاق، أو غير طلاق لم تغسله؛ لأن النكاح ارتفع في حال الحياة، والعدة الواجبة عليها للاستبراء ولهذا تقدر بالأقراء، وكذلك لو ارتدت قبل موته ثم أسلمت. وتغسل المرأة الصبي الذي لم يتكلم؛ لأنه ليس لفرجه حكم العورة.
والثاني: انعدام ما يغسل به، فإنه إذا مات الرجل في السفر، وليس هناك ماء طاهر ييمم ويصلى عليه.

والثالث: الشهادة، فالشهيد لا يغسل عند عامة العلماء رحمهم الله، وقال الحسن البصري: يغسل.
أولاً: يحتاج إلى بيان معرفة الشهيد ثم إلى بيان معرفة حكمه، فنقول وبالله التوفيق: الشهيد اسم لكل مسلم مكلف طاهر عند أبي حنيفة رحمه الله قتل ظلماً في قتال ثلاث.
Y
إما مع أهل الحرب، أو مع أهل البغي، أو مع قطاع الطريق، بأي آلة قتل لم يحمل على مكانه حياً ولم ينتفع بحياته، ولم يبق حياً بعد الجراحة يوماً أو ليلة، ولم يجب عن دمه عوض هو مال بالإجماع.
وحكمه في الشرع أنه لا يغسل، ويصلى عليه عندنا، وقال الحسن البصري رحمه الله: يغسل، وقال الشافعي: لا يصلى عليه. أما الكلام مع الحسن رحمه الله في الغسل حجته في ذلك أن الغسل سنّة الموتى من بني آدم لما روينا أن الملائكة صلوات الله عليهم لما غسلوا آدم عليه السلام قالوا: «هذه سنّة موتاكم يا بني آدم» . والشهيد ميت؛ لأن المقتول ميت بأجله عند أهل السنّة والجماعة؛ ولأن الغسل شرع كرامة للميت،

(2/160)


والشهيد أحق بالكرامات، وإنما لم يغسل شهداء أحد؛ لأن الجراحة فشت في الصحابة في ذلك اليوم، وكان يشق عليهم حمل الماء من المدينة؛ لأن عامة جراحاتهم كانت ... في رسول الله عليه السلام لذلك.
وإنا نحتج بما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال في شهداء أُحد (117أ1) «زملوهم بكلومهم ودمائهم» وفي رواية «واروهم بثيابهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دماً» ، وفي رواية «فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك» ، وشهداء أُحد كانوا مكلفين طاهرين إذ لم ينقل أنه كان فيهم صبي، أو جنب، وقد قتلوا ظلماً في قتال أهل الحرب، وما اعتاضوا عن دمائهم عوض هو مال، وما حملوا عن مكانهم أحياء، وما انتفعوا بحياتهم، وما عاشوا يوماً أو ليلة بعد الجراحة. فكل من كان في معناهم يلحق بهم في حق سقوط الغسل، وما لا فلا.

وكذلك من قتل في قتال أهل البغي لأنه إنما حارب لإعزاز دين الله تعالى، فصار كالمحارب مع أهل الحرب، وقد صح أن عمار بن ياسر قتل بصفين فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً، وارمسوني في التراب رمساً، فإني رجل محاج أحاج معاوية يوم القيامة، وزيد بن صومان قتل يوم الجمل فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً فإني مخاصمهم يوم القيامة، وعن صخر بن عدي أنه قتله معاوية، وكان مقيداً فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً، فإني ومعاوية ملتقي يوم القيامة على الجادة.
وكذلك من قتل في قتال قطاع الطريق؛ لأنهم في معنى أهل الحرب.
ألا ترى أن الله تعالى وصفهم بكونهم محاربين الله ورسوله.
وكذلك من قتل مدافعاً عن نفسه، أو ماله، أو أهله، فهو شهيد قال عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد» ؛ ولأنه في معنى شهداء أُحد.

والمعنى في المسألة: أن غسل الميت إنما شرع لإزالة نجاسة ثبتت بالموت بسبب احتباس الدم السائل في العروق كما في سائر الحيوانات التي لها دم سائل، والدليل على أن النجاسة إنما ثبتت بسبب احتباس الدم السائل في العروق، فإن ما ليس له دم سائل من الحيوانات لا ينجس بالموت، والقتل على سبيل الشهادة يزيل الدم السائل عن العروق فلا تثبت نجاسة الموت بخلاف الموت؛ لأن النص ما ورد فيه، فبقي هو على النجاسة الأصلية. وأما الجواب عما قاله الحسن رحمه الله: أن الجراحات فشت في الصحابة.

(2/161)


قلنا: هذا باطل؛ لأن النبي عليه السلام لم يأمرهم بالتيمم، ولو كان ترك الغسل لما ذكرتم من المعنى لأمرهم رسول الله عليه السلام بالتيمم، كما لو تعذر غسل الميت في زماننا لعدم الماء، وبأنه ما لم يعذرهم في ترك الدفن، ولا شك أن حفر التراب هو أشق من غسل الميت، فلما لم يعذرهم في ترك الدفن كان أولى أن لا يعذرهم في ترك الغسل، وكما لم يغسل شهداء أُحد لم يغسل شهداء بدر كما رواه عقبة ابن عامر رضي الله عنه، وهذه الضرورة لم تكن يومئذٍ.
وكذلك لم يغسل شهداء الخندق، وحنين وهذه الضرورة لم تكن يومئذٍ فظهر أنهم إنما لم يغسلوا؛ لأن الشهيد لا يغسل.
وأما حديث آدم صلوات الله عليه، قلنا: بلى الغسل سنّة الموتى من بني آدم وهذا شهيد والشهيد ليس بميت من كل وجه بل هو ميت من وجه.

وأما الكلام مع الشافعي رحمه الله في الصلاة عليه: حجته في ذلك ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام: ما صلى على شهداء أُحد؛ ولأنه بصفة الشهادة يطهر من دنس الذنوب، والصلاة عليه شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه، وقد استغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل، ولأن الصلاة مشروعة على الميت دون الحي، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أحياء لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمرن: 169) ولنا ما روي أن النبي عليه السلام: صلى على شهداء أُحد، ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته، ولهذا اختص به المسلمين، والشهيد أولى بهذه الكرامة.
وأما قوله من المعنى الأول: ليسن بصحيح؛ لأن درجته لا تبلغ درجة رسول الله عليه السلام، وما يقول من المعنى الثاني: أن الشهيد حي قلنا: نعم ولكن في حق أحكام الآخرة كما قال الله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} أما في حق أحكام الدنيا فلا، ولهذا يقسم ماله بين ورثته، وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة، والصلاة عليه من أحكام الدنيا.

وأما حديث جابر فتأويله لم يكن حاضراً حال ما صلى رسول الله عليه السلام عليهم، فقد روي أنه قتل أبوه وأخوه وخاله يومئذٍ، فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة؟ فلم يكن حاضراً حال ما صلى عليه السلام عليهم فروى ما روى لهذا.
ومن شاهد النبي عليه السلام، وشاهد صلواته عليهم. روي أنه صلى عليهم فقد روى بعضهم أن النبي عليه السلام: «صلى على حمزة سبعين صلاة» وتأويله أن حمزة كان موضوعاً بين يديه، وكان يؤتى بواحد واحد، وكان يصلي رسول الله عليه السلام عليه فظن الراوي أنه صلى على حمزة في كل مرة، فروى أنه صلى عليه سبعين صلاة.

جئنا إلى بيان الشرائط التي شرطناها لكون المقتول شهيداً أما كونه مكلفاً، فهو شرط عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما حتى أن الكفار إذا دخلوا قرية من قرى

(2/162)


المسلمين، وقتلوا الصبيان والمجانين، فإنهم يغسلون عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يغسلون.
حجتهما: أنهم قتلوا في سبيل الله تعالى ظلماً، فيكونوا شهداء كالبالغين.
يوضحه: أن حال الصبيان والمجانين في الطهارة فوق حال البالغين العاقلين، فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد؛ لأنه يطهر بالسيف، فالصبي والمجنون أولى، ولأبي حنيفة رحمه الله أنهم ليسوا في معنى شهداء أُحد إذ لم ينقل أنه كان فيهم صبي أو مجنون فلا يلحقوا بهم في حق سقوط حكم الغسل.
وقد صح أن ابني آدم لما قتل أحدهما صاحبه أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام: «أن اغسله وكفنه وصلي عليه وادفنه» ؛، ولأن السيف محاء للذنوب والخطايا، وليس لهؤلاء ذنوب، فكان القتل في حقهم والموت سواء.

وهما يقولان: بأن السيف يطهر ويسقط الغسل عمن له ذنوب وخطايا، فلأن يسقط الغسل عنهم أولى، والجواب لأبي حنيفة رحمه الله ما بينا، ولأن ترك الغسل لإبقاء أثر الشهادة عليه ليكون له حجة على خصمه ولو لقيه، والصبي لا يخاصم بنفسه في حقوق الدنيا، فكذا في حقوق الآخرة، وإنما الخصم عنه في الآخرة هو الله تعالى، والله تعالى غني عن الشهود، فلا حاجة إلى إبقاء أثر الشهادة عليه. وأما كونه طاهراً فهو شرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى أن الجنب إذا قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو اللصوص يغسل عنده، وقال أبو يوسف: لا يغسل.
والحائض والنفساء إذا طهرتا، وتم الانقطاع، ثم قتلتا قبل الغسل، فهو على الخلاف، وإن قتلتا والحيض والنفاس قائم، عندهما لا يغسلان بلا إشكال، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان وأصح الروايتين عنه أن تغسل.

هما يقولان: الغسل الواجب بالجنابة سقط بالموت؛ لأن الغسل كان واجباً عليه، فيسقط بالموت لعجزه، والغسل بسبب الموت لم يجب؛ لأنه شهيد. ولأبي حنيفة رحمه الله حديث حنظلة، فإنه استشهد وهو جنب فغسلته الملائكة.
فسأل رسول الله عليه السلام زوجته عن حاله فقالت: أحبلني البارحة فأعجله الحرب من الغسل فقتل وهو جنب، فغسلته الملائكة تعليماً لنا، كما في قصة آدم عليه السلام؛ ولأن الأصل في بني آدم الغسل، إنما تركنا هذا الأصل بحديث شهداء أُحد، ولم يرو أنه كان فيهم جنب أو حائض؛ ولأن الشهادة عرفت مانعة ثبوت النجاسة، لا مطهرة عن نجاسة.
بيانه: أن المسلم طاهر، ولكن يتنجس بالموت، فالشهادة تمنع ثبوت النجاسة بالموت، والجنب والحائض نجس ممنوع عن دخول المسجد وتلاوة القرآن، فالشهادة لو عملت (117ب1) في حقهما إنما تعمل في إزالة النجاسة، والمنع من الثبوت أسهل من الرفع بعد الثبوت، ولا يقاس الأعلى على الأدنى.
وأما كونه مقتولاً ظلماً، فهو شرط بلا خلاف حتى أن من افترسه السبع، أو سقط

(2/163)


عليه البناء، أو الحائط، أو تردى من جبل، أو غرق في الماء، أو ما أشبه ذلك غسل كغيره من الموتى؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، وهم قتلوا ظلماً، فلا يلحق بهم غيرهم إلا إذا كان في معناهم.
يوضحه: أن هذه الأسباب غير معتبرة في حق أحكام الدنيا، والغسل من أحكام الدنيا؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، وهذا المعنى لا يوجد في حق من مات بهذه الأسباب. وإنما عممنا الآلة؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، ولم يكن كلهم قتيل السيف والسلاح بل فيهم من دمغ رأسه بالحجر، ومنهم من قتل بالعصا، ثم عمهم رسول الله عليه السلام في الأمر بترك الغسل؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله، وفي حق هذا المعنى السلاح وغيره سواء.

وشرطنا أن لا يحمل عن مكانه حياً حتى قلنا: إذا حمل عن مكانه حياً ومات في بيته، أو على أيدي الناس يغسل؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، هم ما حملوا عن مصرعهم بل ماتوا كما وقعوا على الجنب. فالذي يحمل عن مكانه حياً ليس في معنى شهداء أُحد، وقد صح أن عمر وعلياً رضي الله عنهما حملا عن مصرعهما حيين وغسلا، وعثمان رضي الله عنه أجهز عليه في مصرعه ولم يغسل، فعرفنا أن الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه. وهذا إذا حمل ليمرض فأما إذا رفع من بين الصفين كيلا يطأه الجنود فإنه لا يغسل.
والفرق الذي حمل كيلا يطأه الجنود ما نال شيئاً من راحات الدنيا فلم يخف الظلم في حقه فيكون في معنى شهداء أحد ولا يغسل ولا كذلك الذي مرض في بيته أو خيمته لأنه وصل إليه شيء من راحات الدنيا فيخف المظلم في حقه فلم يكن في معنى شهداء أُحد.

وشرطنا أن لا ينتفع بحياته، حتى قلنا: إذا أكل أو شرب في مكانه يغسل؛ لأن هذا ليس في معنى شهداء أُحد، فإنه روي أنهم طلبوا ماء، وكان الساقي يطوف عليهم، فكان إذا عرض الماء على إنسان أشار إلى صاحبه حتى ماتوا عطاشاً، ولأنه إذا أكل أو شرب، فقد وصل إليه راحة من راحات الدنيا فخف الظلم في حقه، فصار كالتمريض والارتثاث.
ولو كلم إنساناً ثم مات قبل أن يحمل لم يغسل.
قيل: هذا إذا كان قليلاً ليس أمور الدنيا، فإن من شهداء أُحد من فعل ذلك، أما إذا كان كثيراً من أمور الدنيا كالبيع والشراء غسل.
ولو أوصى بوصية، ثم مات لم يغسل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يغسل. واختلف المتأخرون رحمهم الله في ذلك، منهم من قال: هذا الاختلاف فيما أوصى بشيء من أمور الآخرة، فأما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا يغسل بالاتفاق، ومنهم من قال: لا خلاف بينهما في الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو يوسف رحمه الله: محمول على ما إذا كانت الوصية بأمور الدنيا والاهتمام لأولاده.

وعند مالك يغسل بالإجماع. وما قال محمد رحمه الله: محمول على ما إذا كانت

(2/164)


الوصية بالأمر الآخرة، وعند ذلك لا يغسل بالإجماع، استدل محمد رحمه الله في «الزيادات» بحديث سعد بن الربيع فإنه روي عن النبي عليه السلام «أنه قال يوم أُحد: «من يأتيني بخبر سعد فقال رجل: أنا آتيك بخبره، فجعل يتفحص القتلى حتى أدركه وبه رمق، فقال: إن رسول الله يقرئك السلام ففتح سعد عينيه، وقال: رسول الله في الأحياء قال: نعم هو سالم وقد بعثني إليك، فقال: الحمد لله على سلامته الآن طابت نفسي للموت، ثم قال: أقرأ رسول الله مني السلام، وأقرأ الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله تعالى إن قتل محمد وفيكم عين تطرف، ثم قال: أخبر النبي عليه السلام أن بي كذا كذا طعنة كلها أصابت مقتلي، ثم مات» وكان من جملة شهداء أُحد، فهذا يبين لك صحة ما قلنا.

وشرطنا أن لا يبقى بعد الجراحة حياً يوماً أو ليلة حتى قلنا لو عاش في مكانه يوماً أو ليلة فإنه يغسل، وإن كان دون ذلك لا يغسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد، إذ لم يبق منهم أحد حياً بعد الجراحة يوماً كاملاً أو ليلة كاملة.
يوضحه: أن القتيل يعيش قليلاً ولا يعيش طويلاً فلا بد من حد فاصل بين القليل والكثير فجعلنا الحد الفاصل بين القليل والكثير يوماً كاملاً أو ليلة كاملة؛ لأن كل واحدة من هذه المدة تعرف بنفسها، أما ما دون ذلك تعرف بالساعات فيكون هذا معرفة بغيرها لا بنفسها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إن عاش وقت صلاة كامل يغسل؛ لأنه وجبت عليه تلك الصلاة، وهذا من أحكام الأحياء.

وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذ مكث الجريح في المعركة يوماً أو أكثر منه حياً، والقوم في القتال على قتالهم ذلك اليوم كله، وهو يعقل فكلمهم، أو لا يعقل فهو بمنزلة الشهيد، قال: ألا ترى أنه لو كان يقاتل راجلاً أو فارساً اليوم كله، ثم خر ميتاً في آخر النهار من جراحة أصابته في أول النهار إنه يكون شهيداً.
وإن تصرم القتال بينهم وهو مجروح في المعركة صريع يعقل، فإن مكث كذلك وقت صلاتين أو وقت صلاة فهو بمنزلة الذي حمل حياً لا يكون شهيداً؛ لأنه صارت الصلاة ديناً في ذمته إذا كانت الحالة هذه، وهذا من أحكام الأحياء.
وإن كانوا في معمعة القتال، فوجد جريحاً فحملوه والقوم في القتال، ثم مات فهو شهيد، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: مجرد حمله ورفعه من المعركة والقتال على حاله فقد لا يجعله مرتثاً، وإنما ارتثاثه بذلك بعد تصرم القتال.
وشرطنا أن لا يجب عن نفسه عوض هو مال حتى قلنا: إن من قتل خطأ يغسل؛ لأنه اعتاض عن دمه بدل هو مال، فلا يكون في معنى شهداء أُحد.

يوضحه: أن الشهيد من سلم نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى لنيل الجنة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْولَهُمْ} (التوبة: 111) فمن استوجب الدية

(2/165)


بدلاً عن نفسه، فقد اعتاض عن دمه، فلم يتم التسليم فيغسل.
ومن وجد في المصر قتيلاً ينظر إن حصل القتل بعصا كبيرة، أو بحجر كبير ويعلم قاتله، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يغسل؛ لأن القتل على هذا الوجه عنده يوجب الدية، فقد اعتاض عن دمه بدلاً هو مال، وعلى قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا يغسل؛ لأن القتل على هذا الوجه عندهما يوجب القصاص ووجوب القصاص، لا يمنع الشهادة عندنا كما لو قتل بالسلاح.

وإن لم يعلم قاتله يغسل؛ لأنه وجبت الدية، والقسامة بقتله، فلم يكن في معنى شهداء أُحد. وإن حصل القتل بعصا صغيرة يغسل علم قاتله، أو لم يعلم؛ لأن هذا القتل يوجب المال على كل حال، إن حصل القتل بحديدة، فإن لم يعلم قاتله تجب الدية والقسامة على أهل المحلة، فيغسل، وإن علم القاتل لم يغسل عندنا، وعند الشافعي يغسل بناءً على أن قتل العمد يوجب الدية عنده، فقد اعتاض عن دمه بدلاً هو مال، وعندنا القتل العمد يوجب القصاص فمن اعتاض عن دمه بدل هو مال.
وحجتهما روي أن عمر وعلياً رضي الله عنهما غسلا وقد قتلا مظلومين.
وحجتنا ما روي أن عثمان رضي الله عنه لم يغسل، وقد قتل في المصر بالسلاح ظلماً، وعلم قاتله، وكذلك صخر بن عدي لم يغسل، وقد قتل في المصر بالسلاح ظلماً، وعلم قاتله، ولا حجة له في حديث عمر، وعلي رضي الله عنهما؛ لأنهما ارتثا فغسلا لأجل الارتثاث، لا؛ لأن وجوب القصاص يوجب خللاً في أمر الشهادة.
فإن قيل: الذي وجب القصاص بقتله ليس في معنى شهداء أُحد إذ لم يجب بقتلهم شيء.

قلنا: فائدة القصاص يرجع إلى ولي القتيل، وسائر الناس دون المقتول، فلم يحصل له بالقتل شيء كما لم يحصل شهداء أُحد بخلاف الدية؛ لأن فائدة الدية ترجع إلى الميت من حيث إنه (118أ1) تقضى ديونه وتنفذ وصاياه.
ومن قتل في قصاص أو رجم غسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد؛ لأنه قتل بحق وشهداء أُحد قتلوا ظلماً؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، وهذا لا يوجد في الذي قتل بحق؛ لأنه باذل نفسه لإبقاء حق مستحق.
وقد صح أن ماعزاً لما رجم جاء عمه إلى رسول الله عليه السلام وقال: قتل ماعز كما تقتل الكلاب، ماذا تأمرني أن أصنع به، فقال عليه السلام: «لا تقل هذا لقد تاب ماعز توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم، اذهب فاغسله وكفنه وصل عليه» . وكذلك من مات من حد أو تعزير غسل لما بينا، وكذلك من عدا على قوم ظلماً وكابرهم فقتلوه غسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد؛ لأن شهداء أُحد ما عدونا على غيرهم ظلماً؛ ولأن الظالم غير باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، فلا يكون شهيداً.

(2/166)


وكذلك الباغي إذا قتل لا يصلى عليه وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: يصلى عليه؛ لأنه مؤمن قال الله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} (الحجرات: 9) إلا أنه مقتول بحق، فهو كالمقتول في رجم أو قصاص.
ولنا حديث علي رضي الله عنه: أنه لم يغسل أهل الخوارج يوم النهروان، ولم يصلِ عليهم، فقيل له: أهم كفار فقال: لا ولكنهم إخواننا بغوا علينا، أشار إلى أنه ترك الغسل والصلاة عليهم عقوبة وزجراً لغيرهم، وهو نظير المصلوب يترك على خشبته عقوبة وزجراً لغيرهم.

وإن وجد في المعركة ميتاً ليس له أثر القتل غسل؛ لأن المقتول يفارق الميت بالأثر، فإذا لم يكن به أثر، فالظاهر لم يكن انزهاق روحه بقتل مضاف إلى العدو، بل لما التقى الصفان انخلع قناع قلبه من شدة الفزع فمات، والجبان قد يبتلى بهذا، وقد وقع هذا في كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.
وإن كان به أثر القتل لم يغسل؛ لأن الظاهر أن موته كان بذلك الجرح، وإنه كان من العدو فاجتماع الصفين كان لهذا، والأصل أن الحكم متى ظهر عقيب سبب موته يضاف إلى ذلك السبب.
ثم لا بد من معرفة الميت الذي ليس له به أثر القتل، والذي به أثر القتل، فالذي ليس به أثر القتل أن لا يكون به جراحة ولم يخرج منه الدم من موضع ما، أو خرج الدم منه من موضع يخرج منه الدم في حالة الحياة عادة.

حتى قلنا: لو خرج من أنفه أو دبره، أو ذكره دم غسل؛ لأن المرء قد يبتلى بالرعاف، وقد يبول دماً لمرض في الباطن، أو من شدة الفزع، وقد يبتلى المرء بالباسور، فيخرج الدم من الدبر، فلا تثبت صفة الشهادة بالشك. والذي به أثر القتل أن يكون به جراحة، أو لم يكن به جراحة إلا أنه خرج الدم منه من موضع لا يخرج منه الدم في حالة الحياة عادة.
قلنا: لو خرج الدم من أذنه أو عينه، لم يغسل؛ لأن الدم لا يخرج من هذين الموضعين عادة إلا لجرح في الباطن فالظاهر أنه ضرب على رأسه حتى خرج الدم من أذنه أو عينه.

وإن كان يخرج من فمه فهو على وجهين: إما أن ينزل من رأسه أو يعلو من جوفه، فإن كان ينزل من رأسه غسل؛ لأنه رعاف؛ لأن للدماغ والرأس منفذين منفذاً إلى المخ ومنفذ إلى الفم والحلق، وإن كان يعلو من الجوف إن كان سائلاً لم يغسل وهو شهيد لأن الدم لا يسيل من الجوف حالة الحياة إلا الجرح في الباطن فكان ذلك علامة الضرب والقتل وإنا نعلم ذلك بلون الدم وإن كان متجمداً يفصل لأنه يحتمل أن يكون صفراً أو سواداً احترق فلا يكون ذلك دليل الجرح في الباطن، فلا يترك الغسل بالشك وبه ختم.

(2/167)


قسم آخريتصل بمسائل الشهيد
ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» : أما في الشهيد وذكر فيها مسائل كثيرة وبنى مذهب أبي حنيفة ومذهب نفسه على أصل أن من صار مقتولاً في قتال ثلاث: إما مع أهل الحرب، أو مع البغاة، أو مع قطاع الطريق لمعنى مضاف إلى العدو، وكان شهيداً سواء كان بالمباشرة، أو بالتسبب، وكل من صار مقتولاً بمعنى غير مضاف إلى العدو لا يكون شهيداً لأن الشهيد اسم لقتيل العدو فلا بد وأن يكون القتل مضافاً إلى العدو مباشرة وتسبباً.
t
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا صار مقتولاً في هذا القتال الثلاث كان شهيداً، وإن لم يكن قتله مضافاً إلى العدو؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، وقد كان فيهم من رمت به دابته ثم عمهم رسول الله عليه السلام في حكم الشهادة.
إذا أوطأ مشرك مسلماً بدابته لا يغسل؛ لأنه قتيل العدو مباشرة، ولو وطئت دابة المشرك والمشرك راكبها إلا أنه لا يعلم به، فقتله لا يغسل؛ لأنه قتيل العدو مباشرة؛ لأن فعل الدابة يضاف إلى راكبها؛ لأنها تبع له يوقفها كيف شاء. وكذلك لو كدمته الدابة بفمها أو ضربته بيدها أو بعجته برجلها أو بذنبها لا يغسل بلا خلاف، وكان ينبغي أن يغسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأن هذه الأفعال غير مضافة إلى راكب الدابة.

ألا ترى أن الراكب في دار الإسلام بمثل هذه الأفعال لا يضمن فلم يكن قتل ألبتة.
قلنا:...... هل هذه الأفعال مضافة إلى راكبها لما قلنا إلا أنه سقط اعتبار الإضافة شرعاً في حق الضمان في حق من يسير على الدابة، لأن الركوب في الطريق مسير مباح في الأصل فلم يصر خائناً بالركوب، والتحرز عن هذه الأسباب غير ممكن، فجعل ذلك عفواً حتى لو أوقف الدابة في طريق المسلمين يجب الضمان بمثل هذه الأفعال؛ لأن الإيقاف في الطريق غير مباح في الأصل، فيصير خائناً بالاتفاق، فما تولد منه يكون مضموناً عليه.
فأما الحربي، فهو خائن في أصل الركوب للقتال مع المسلمين فما تولد منه يكون مضموناً عليه سواء أمكنه التحرز عنه أو لا.
وإن كانت دابة المشرك منفلتة من المشرك وليس عليها أحد، ولا لها سائق أو قائد فأوطئت مسلماً في القتال، فقتلته، غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأن قتله غير مضاف إلى العدو أصلاً، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يغسل؛ لأنه صار قتيلاً في قتال أهل الحرب.

(2/168)


وإن عثرت دابة رجل من المسلمين في القتال فرمت به فقتلته غسل عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لأبي يوسف بناءً على الأصل الذي قلنا: ولو نفر مشركون دواب المسلمين فرمت دابة صاحبها وقتلته لم يغسل بالإجماع لأنه قتيل العدو تسبباً، ولو رأت دواب المسلمين دابات المشركين فتفرق من ذلك دابة من غير..... المشركين ورمت بصاحبها وقتلته فهو على الاختلاف الذي بينا.

ولو انهزم المسلمون فوطئت دابة مسلم مسلماً وصاحبها عليها، أو سائق لها، أو قائد غسل؛ لأن قتله مضاف إلى المسلم، وإنه خطأ يوجب الدية، وكل قتيل هذا حاله لا يؤثر في سقوط الغسل.

وكذلك لو رمى مسلم المشركين بسهم، فأصاب سهمه رجلاً من المسلمين، فقتله يغسل؛ لأنه قتله مضاف إلى المسلم، وإنه خطأ تجب فيه الدية، فلا يؤثر في سقوط الغسل فاستدل في «الكتاب» بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فإن المسلمين التفوا بسيوفهم على اليمان، فقتلوه ولم يعرفوه فقضى رسول الله عليه السلام بالدية لحذيفة (118ب1) ، فهذا دليل على أن مثل هذا القتل يوجب الدية، ووجوب الدية يوجب خللاً في أمر الشهادة في حكم الغسل.
ولو ألجأ المشركون المسلمين إلى خندق فيه ماء أو نار فلم يجدوا بداً من الوقوع ففرق بعضهم أو احترق غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمه الله؛ لأن قتلهم غير مضاف إلى العدو؛ لأنهم هم الذين أوقعوا أنفسهم فيه، أكثر ما في الباب أنهم كانوا مضطرين في ذلك لكن مباشرتهم ذلك بأنفسهم يقطع تسبب العدو. ولو طعنوهم بالرماح حتى ألقوهم في الماء أو النار، أو رموا بهم عن سور المدينة، فلم تعقرهم الرماح وغرقهم الماء، أو ماتوا من وقوعهم لم يغسلوا؛ لأن قتلهم مضاف إلى العدو مباشرة.
ولو أن المشركين جعلوا الحسك حولهم أو حفروا خندقاً حولهم وجعلوا فيه ناراً أو ماءً، فجاء المسلمون ليلاً ولا يعلمون بذلك، فوقعوا فيه غسلوا؛ لأن قتلهم مضاف إلى فعلهم حيث وضعوا أقدامهم على ذلك الموضع باختيارهم، وجهلهم بذلك لا يجعل فعلهم مضافاً إلى العدو، فلا يسقط الغسل إلا على قول أبي يوسف رحمه الله.
ولو أن المشركين تحصنوا في مدينة، وصعد المسلمون سورها، فمالت رجل إنسان منهم فوقع فمات غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه مات من فعله لا من فعل العدو، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا يغسل لما قلنا. وكذلك لو أن المسلمين نقبوا الحائط فوقع عليهم من نقبهم غسلوا لما قلنا، إلا على قول أبي يوسف رحمه الله.

ولو نقب المشركون الحائط حتى سقط على المسلمين لم يغسلوا؛ لأنهم قتيل العدو. وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال والنساء والصبيان لا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال؛ لأنهن مخاطبات

(2/169)


بمخاصمتن يوم الجمعة من قتلهن، فيبقى عليهن أثر الشهادة ليكون شاهداً لهن كما للرجال، وأما الصبيان، فعند أبي حنيفة رحمه الله يغسلون، وعندهما لا يغسلون. قال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للصبي ذنب هجره، فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء، ثم الصبي لا يخاصم بنفسه، وإنما يخاصم عنه الله تعالى، والله تعالى غني عن الشهود، فلا حاجة إلى إبقاء أثر الشهادة.
قسم آخر في تكفين الشهداء
ويكفن الشهيد في ثيابه الذي عليه لقوله عليه السلام: «زملوهم بلباسهم» ولحديث زيد بن صوحان وصخر بن عدي: «لا تنزعوا عني ثوباً ولا تغسلوا عني دماً» ، ولأن في نزع ثيابه إزالة أثر الشهادة عنه.
وقد أمرنا بإبقاء أثر الشهادة عليه. ألا ترى أنا أمرنا بإبقاء الدم الذي على يديه، وكره إزالته بالغسل، فكره نزع ثيابه لهذا، غير أنه ينزع عنه السلاح والجلود والفرو والحشو والخف والقلنسوة، وكلما ليس من جنس الكفن لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «تنزع عنه العمامة والخفان والقلنسوة» .

وعن زيد بن صوحان رضي الله عنه أنه قال: «ادفنوني في ثيابي ولا تنزعوا عني إلا الحشو» ولأن ما يترك على الشهيد يترك ليكون كفناً له، والكفن للستر، والفرو والحشو يلبسان للزينة أو لدفع الحر والبرد، والميت قد استغنى عن ذلك، ولهذا كره تكفين غير الشهيد بهذه الأشياء، فإذا كره التكفين بهذه الأشياء ابتداء، كره الترك عليه كفناً له.

وفي «السير الكبير» يقول: ينزع عنه ما ليس من جنس الكفن نحو السلاح والسراويل والقلنسوة، ولم يذكر محمد السراويل إلا في «السير» ، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني يقول: الأشبه أن لا ينزع عنه السراويل؛ لأن في نزعه إبراز العورة من غير الضرورة، ووافقه في ذلك كثير من المشايخ من مشايخنا رحمهم الله.
ويزيدون في أكفانهم ما شاؤوا، وينقصون ما شاؤوا، قيل: معناه يزاد على ما عليه من الثياب إذا قل حتى يبلغ السنّة، وينقص عما عليه إذا كثر حتى يبلغ السنّة، وقيل: معناه يزاد على ما عليه من الثياب ثوب جديد تكرماً له، وإن كان ما عليه يبلغ السنّة، وينقصون ما شاؤوا كما يفعل بغيره من الموتى، إنما لا يزال عنه أثر الشهادة، فأما في سوى ذلك فهو كغيره من الموتى، وبه ختم.
نوع آخرمن هذا الفصل في تكفين الميت
هذا النوع ينقسم أقساماً قسم في مقدار الكفن. قال محمد رحمه الله: أدنى ما تكفن فيه

(2/170)


المرأة ثلاثة أثواب ثوبان وخمار، وأكثر ما تكفن فيه المرأة خمسة أثواب درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة، وأدنى ما يكفن الرجل فيه ثوبان، وأكثر ما يكفن فيه الرجل ثلاثة أثواب.
يجب أن يعلم بأن الكفن أنواع ثلاثة: كفن ضرورة وكفن كفاية وكفن سنّة، أما كفن الضرورة أن يكفن فيما يوجد، فإن حمزة استشهد، وعليه نمرة إذا غطي بها رأسه بدت قدماه وإذا غطي بها قدماه بدا رأسه فغطي بها رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.
وأما كفن الكفاية فما قال في «الكتاب» : أدنى ما تكفن به المرأة ثلاثة أثواب ثوبين وخمار وأدنى ما يكفن به الرجل ثوبين إزار ولفافة.
والأصل في ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «كفنوني في ثوبي هذين فقالت عائشة رضي الله عنها: ألا نشتري لك ثوباً جديداً فقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت» ؛ ولأنه لباس مشروع بعد الوفاة فيعتبر باللباس المشروع حالة الحياة ثوبين قميص وإزار.

وأدنى ما تلبس المرأة حالة الحياة ثلاثة أثواب قميص وإزار وخمار فكذا بعد الوفاة؛ وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن المرأة إذا كفنت في ثوبين وترك الدرع والخمار والخرقة جاز لأن المقصود هو الستر وذاك حاصل بالثوبين.
وأما كفن السنّة للرجال فثلاثة، إزار ورداء وقميص، وللنساء خمسة لفافة وإزار ودرع وخمار وخرقة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب، ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تكفن المرأة في خمسة أثواب والرجل في ثلاثة أثواب، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» احتراز الزيادة على الخمسة في المرأة، وعلى الثلاثة في الرجل من الاعتداء، وروي أن رسول الله عليه السلام «كفن في ثلاثة أثواب سحولية» أي بيض، وعن أم عطية أن رقية بنت رسول الله عليه السلام توفيت، «وأمر رسول الله عليه السلام بغسلها، وتكفينها، وجلس على الباب وجعل يناول الثياب حتى بلغ خمسة» ؛ ولأنه لباس مشروع بعد الوفاة فيعتبر باللباس المشروع حالة الحياة.
وأكثر ما تلبس المرأة حالة الحياة للخروج خمسة أثواب درع وخمار وإزار ... ونقاب فكذا بعد الوفاة تكفن بخمسة أثواب درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة تربط فوق الأكفان من عند الصدر فوق الثديين، والبطن كيلا يقصر عليها الكفن إذا حملت على السرير.
وعن زفر رحمه الله أنه قال: تربط الخرقة على فخذيها كيلا تضطرب إذا حملت على السرير، والأولى أن تكون الخرقة بحيث تصل إلى الموضعين ليكون أستر لها.

(2/171)


وأكثر ما يلبس الرجل في حالة الحياة ثلاثة أثواب قميص، وسراويل وعامته عمامته فكذلك بعد الوفاة يكفن في ثلاثة أثواب إزار، وقميص ولفافة، وهذا لأن مبنى حالة المرأة على الستر فيزاد في كفنها اعتباراً بحالة الحياة، ثم جعلنا الزيادة ثوبين ليكون الكفن وتراً لا شفعاً.

وقال الشافعي رحمه الله: لا قميص في كفن الرجل بل هي لفاف كلها؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وفي رواية أثواب سحولية؛ ولأن القميص يختص به الأحياء للتقلب، ولا حاجة إليه في الميت.
ولنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام: «كفن في حلة وقميص» ، والحلة اسم للثوبين عند العرب، رداء وإزار ولأن أشرف لباس الأحياء القميص، فوجب تقديمه إلا أنه لا يجعل قميصه على سنة قميص الأحياء، فلا يجعل له دخريض؛ لأن ذلك إنما يجعل في حق الحي ليتسع أسفله فيتيسر له المشي، والميت لا يحتاج إلى ذلك، ولا يجعل له الجيب أيضاً؛ لأن ذلك يفعل للحي ليكون ... ولا حاجة (119أ1) للميت إلى ذلك، ولا يكف أطرافه؛ لأن ذلك للصيانة ولا حاجة إليه في حق الميت، والأخذ بحديث ابن عباس رضي الله؛ عنهما أولى من الأخذ بحديث عائشة رضي الله عنها لأن الرجال حضروا رسول الله عليه السلام.
وهل يعمم الرجل؟ اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: يعمم؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما أوصى. ومنهم من يقول: إن كان في الورثة صغار لا يعمم، وإن كانوا كباراً وعمموا برضاهم يجوز.
ومنهم من قال: إن كان عالماً معروفاً أو من الأشراف يعمم، وإن كان من أوساط الناس لا يعمم، ومنهم من قال: لا يعمم على كل حال لما روينا من الحديث، ولأنه لو عمم ... للكفن شفعاً، ويكفن الرجل بكفن مثله. وتفسير ذلك أن ينظر إلى ثيابه في حياته للخروج إلى الجمعة، والعيدين فذلك كفن مثله.
قسم آخر في كيفية التكفين
فنقول: يبسط للرجل اللفافة، وهي تستر من القرن إلى القدم، ثم يبسط عليها الإزار وهو يستر من القرن إلى القدم أيضاً، ثم يوضع على الإزار الميت، وبعدما يوضع على الإزار يقمص، ويوضع الحنوط في رأسه ولحيته وسائر جسده؛ لأن الحنوط طيب الميت، والطيب حالة الحياة يستعمل في هذه الأعضاء، فكذا الحنوط بعد الوفاة.

(2/172)


وفي «المنتقى» : لا بأس بأن يجعل شيء من المسك في الحنوط، ويوضع الكافور على مساجده يريد به جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وقدميه؛ لأنه كان يسجد على هذه الأعضاء فتخص بزيادة الكرامة، وإن لم يكن لم يضره؛ لأن الحي قد لا يستعمل الطيب حالة الحياة، فلا يضره تركه بعد الوفاة.
وفي «القدوري» : لا بأس بسائر الطيب غير الزعفران والورس في حق الرجل، وتحشى منافذه إذا خيف خروج شيء، ثم يعطف الإزار عليه من قبل اليسار، ثم من قبل اليمين، ويشد الإزار عليه؛ لأن شد الإزار على القميص أستر، وفي حالة الحياة يشد الإزار أولاً، ثم القميص؛ لأن ذلك للتقلب، وشد الإزار بحسب القميص ليكن للتقلب، ثم اللفافة كذلك، وإنما يعطف اليسار أولاً ثم اليمين لمعنيين.
أحدهما: أن لليمين فضلاً على اليسار فيكون فوق اليسار.
والثاني: إنما يلبسه حالة الحياة من الثياب يعطف أولاً من قبل الأيسر، ثم من قبل الأيمن كذا هذا.
وأما المرأة تبسط لها اللفافة، والإزار على نحو ما بينا للرجل، ثم توضع على الإزار، وتلبس الدرع، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع، وقال الشافعي رحمه الله: يضفر شعرها خلف ظهرها اعتباراً بحالة الحياة، وإنما نقول: إنما يفعل ذلك؛ لأجل الزينة وهذه حال حسرة وندامة، فتعتبر بمثل هذه الحالة من حالة الحياة، ثم في حالة الحياة في حالة الحسرة والندامة بأن أصابتها مصيبة لا تجعل شعرها خلف ظهرها، بل تجعل على صدرها كذا بعد الوفاة.

ثم يجعل الخمار فوق ذلك، ثم تعطف اللفافة كما بينا في الرجل، ثم الخرقة بعد ذلك تربط فوق الأكفان فوق الثديين؛ لأنه لو لم تربط الخرقة ربما يضطرب ثداياها وقت الحمل، فتنتشر أكفانها فيبدو شيء من أعضائها.

والغلام المراهق، والجارية المراهقة بمنزلة البالغ؛ لأن المراهق، والمراهقة كل واحد منهما مشتهى كالبالغ والبالغة، فكان بدن كل واحد منهما في حكم العورة كبدن البالغ والبالغة، وإن كان لم يراهق كفن في خرقتين إزار ورداء، وإن كفن في إزار واحد أجزأه؛ لأن بدنه ليس بعورة لما أنه غير مشتهى، فانحطت درجته في الستر عن درجة من هو عورة. وأما السقط فإنه يلف في خرقة؛ لأن حاله لا يبلغ حال المنفصل حياً.
قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : والمحرم وغير المحرم في ذلك سواء، يريد به أنه يطيب ويغطى وجهه ورأسه، والكفن الخلق والجديد سواء، وروي عن محمد رحمه الله أن المرأة تكفن في الإبريسم والحرير والمعصفر، ويكره للرجال ذلك، وأحب الأكفان الثياب البيض.
وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد يكفن الميت في كل شيء يجوز له لبسه في حال حياته، وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله تخمر الأمة كما تخمر الحرة. والله تعالى أعلم.

(2/173)


قسم آخر
ويكفن الميت من جميع ماله قبل الوصايا والديون والمواريث، ومن لم يكن له مال فكفنه على من تجب عليه نفقته إلا المرأة، فإنه لا يجب كفنها على زوجها عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف، فإن عنده يجب عليه الكفن وإن تركت مالاً، ومن لم يكن له من ينفق عليه، فكفنه في بيت المال هكذا ذكر القدوري.
وفي «النوازل» : إذا مات الرجل، ولم يترك شيئاً ولم يكن هناك من تجب عليه نفقته يفترض على الناس أن يكفنوه إن قدروا عليه، وإن لم يقدروا عليه سألوا الناس.
فرق بين الميت والحي، إذا لم يجد ثوباً يصلي فيه ليس على الناس أن يسألوا له ثوباً، والفرق: أن الحي يقدر على السؤال بنفسه، والميت لا.
وفي «النوازل» أيضاً: رجل مات في مسجد قوم، فقام أحدهم وجمع الدراهم ليكفنه ففضل من ذلك شيء، إن عرف صاحب الفضل رده عليه، وإن لم يعرف كفن به محتاجاً آخر، وإن لم يقدر على صرفه إلى الكفن تصدق به على الفقراء.
وفيه أيضاً: رجل كفن ميتاً من ماله، ثم وجد الكفن في يدي رجل كان له أن يأخذه؛ لأنه بقي على ملكه لم يملكه الميت، وإن كان وهبه للورثة، وكفنه الورثة فالورثة أحق بها. وكذلك لو افترس الميت سبع وبقي الكفن فهو على التفصيل الذي قلنا: إن كان وهبه للورثة فالورثة أحق به.
وإذا نبش الميت وهو طري كفن ثانياً من جميع المال، فإن قسم المال فهو على الوارث دون الغرماء، وأصحاب الوصايا، وإن نبش بعدما تفسخ، وأخذ كفنه كفن في ثوب واحد. وإن لم تفضل التركة من الدين فإن لم يكن الغرماء قبضوا ديونهم بدىء بالكفن، وإن كانوا قبضوا ديونهم لا يسترد منهم شيء؛ لزوال ملك الميت.
قال هشام في «نوادره» : سألت محمداً عن معتق مات ولا مال له، وترك خالته والذي أعتقه قال: كفنه على خالته.
وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف رحمه الله: امرأة ماتت وتركت أباها وابنها، فالكفن عليهما على قدر مواريثهما، وكذلك البنت والأخ. والله تعالى أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل في حمل الجنازة
قال محمد رحمه الله «الجامع الصغير» : وتضع مقدم الجنازة على يمينك، ثم مؤخرها على يمينك ثم مقدمها على يسارك، ثم مؤخرها على يسارك هذا هو السنّة عند كثرة الحاملين، إذا تناوبوا في الحمل يبتدىء الحامل من اليمين المقدم للميت، وهو يمين الحامل أيضاً، وعند الشافعي رحمه الله السنّة أن يحملها اثنان يدخلان بين عمودي الجنازة يضع السابق منهما مقدمها على أصل عنقه، وكاهله، ويأخذ قائميها بيده، والآخر منهما يضع مؤخرها على أصل صدره، ويأخذ قائميها بيده.

(2/174)


وروى الشافعي بإسناده أن جنازة سعد بن معاذ حملت هكذا؛ ولأن الحمل على هذا الوجه أشق على البدن، وحمل الجنازة عبادة وما كان أشق على البدن من العبادات فهو أولى.
ولنا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من السنّة أن تحمل الجنازة من جوانبها الأربع وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يدور على الجنازة من جوانبها الأربع؛ ولأن عمل الناس اشتهر بهذه السنّة من غير نكير منكر وإنه حجة؛ ولأن المسارعة في حملها، والحمل بأربعة يكون أبلغ في المسارعة، وفيه تخفيف على الحاملين، وصيانة للميت عن السقوط، وتعظيم للميت بأن يحمله جماعة من المؤمنين على أعناقهم.
وإنما حملت جنازة سعد بن معاذ كما رواه الشافعي إما لازدحام الملائكة فقد روي (119ب1) أن النبي عليه السلام «كان يمشي على رؤوس أصابعه وصدور قدميه لكثرتهم» ، أو لضيق الطريق؛ أو لأن الحامل هناك رسول الله عليه السلام، والميت هناك بمأمن من السقوط؛ لأنه كان لكل نبي قوة أربعين رجلاً، وكان لنبينا قوة أربعين نبياً.
قال محمد رحمه الله: ورأيت أبا حنيفة رحمه الله فعل هكذا، وذلك دليل تواضعه، وذكر الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : ويكره أن يقوم الرجل بين عمودي له بجنازة من مقدمه أو مؤخره.
ويسرع بالجنازة وذلك ما دون الخبب لما روي أن النبي عليه السلام سئل عن المشي بالجنازة فقال: «ما دون الخبب فإن يك خيراً عجلتموه إليه وإن يك شراً وضعتموه عن رقابكم» أو قال: فبعداً لأهل النار» .
والمشي خلف الجنازة أفضل، وإن مشى أمامه كان واسعاً، وقال الشافعي رحمه الله: المشي أمامها أفضل لما روي أن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يمشيان أمام الجنازة، ولأن الناس شفعاء الميت والشفيع يقدم على من يشفع له.

ولنا ما روي أن النبي عليه السلام كان يمشي خلف جنازة سعد بن معاذ، وعلي رضي الله عنه كان يمشي خلف الجنازة فقيل له: إن أبا بكر، وعمر كانا يمشيان أمامهما فقال: رحمهما الله قد عرفا أن المشي خلفها أفضل ولكنهما أرادوا أن ييسرا الأمر على الناس.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فضل المشي خلف الجنازة على المشي أمامها كفضل المكتوبة على النافلة. وما يقول من المشي باطل؛ لأن الشفيع إنما يتقدم من يشفع له تحرزاً عن تعجيل من عنه الشفاعة بعقوبة من يشفع له حتى يمنعه من ذلك، وذلك لا يتحقق هنا.
ويكره أن يتقدم الكل عليها، وإن كان كلهم خلفها، فلا بأس؛ لأنه ربما يحتاج إلى التعاون في حملها، فإذا كانوا يمشون خلفها تمكنوا من التعاون عند الحاجة، فلم يكن به

(2/175)


بأساً، وإن كانوا أمامها لم يتمكنوا من التعاون عند الحاجة فكره لهذا.
قال الحاكم الصدر الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : وجدت في بعض الروايات أن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا بأس بالمشي أمام الجنازة وخلفها ويمنة ويسرة، وكره أبو يوسف أن يتقدمها منقطعاً عن القوم، فإذا كنت في جماعة من الناس فلا بأس بالمشي أمام الجنازة وخلفها ويمنة ويسرة.
g
ولا بأس بالقعود إذا وضعت الجنازة، ويكره قبله؛ لأن قبل الوضع ربما تقع الحاجة إلى التعاون، فإذا كانوا قياماً كان أمكن للتعاون، وبعد الوضع وقع الاستغناء عن ذلك، لأن الناس إنما حضروا إكراماً للميت، والجلوس قبل أن يوضع عن المناكب يشبه الازدراء والاستخفاف به، وبعد الوضع لا يؤدي إلى ذلك، ولا بأس بالركوب في الجنازة والمشي أفضل هكذا ذكر القدوري؛ لأنه يسير للصلاة فيجوز راكباً وماشياً، والمشي أفضل كما في سائر الصلوات، وهذا لأن المشي أقرب إلى الخشوع، وأليق بحال الشفيع.

وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف رحمه الله قال: رأيت أبا حنيفة يتقدم أمام الجنازة وهو راكب، ثم يقف حتى تأتيه، فهذا دليل على أنه لا بأس بالركوب في الجنازة، قيل: هذا إذا بعد عن الجنازة، أما إذا قرب منها يكره؛ لأن السبيل في اتباع الجنازة أن يكون بطريق التذلل لا بطريق التكبر، فعلى قول هذا القائل يحمل فعل أبي حنيفة رحمه الله على أنه كان بعيداً عن الجنازة، وفي المسألة دليل عليه، فإن أبا يوسف رحمه الله قال: ثم يقف حتى تأتيه.
ويكره النوح والصياح في الجنازة ومنزل الميت لما روي أن النبي عليه السلام «ينهى عن الصوتين الأجمعين الفاجرين صوت الصائحة والمغنية» .
فأما البكاء من غير رفع الصوت لا بأس به وسيأتي هذا الفصل بتمامه في كتاب الكراهية والاستحسان إن شاء الله تعالى. ولا تتبع الجنازة بنار يعني الإجمار.
قال في «الكتاب» : أكره أن يكون آخر زاده في الدنيا نار تتبع به، وروي «أن النبي عليه السلام خرج في جنازة فرأى امرأة في يدها مجمر فصاح عليها وطردها» .
ويكره أن يحمل الصبي على الدابة لأن حمله على الدابة؛ يشبه حمل الأثقال، وفي الحمل بالأيدي إكرام الميت، والصغار من بني آدم يكرمون كالكبار، وعنى أبو حنيفة في الفطيم والرضيع لا بأس بأن يحمل في طبق يتداولونه، ولا بأس بأن يحمله راكب؛ على دابة، يريد به أن الحامل له راكب لأن الحمل من الجوانب الأربع إنما تيسيراً على الحاملة، وصيانة للميت عن السقوط، وفي حمل الصبي الرضيع لا يحتاج إليه فيحمله واحد.

(2/176)


والرواية الأولى محمولة على ما إذا وضع على الدابة كوضع الأمتعة، ولا يصلى على صبي وهو على الدابة أو على أيدي الرجال حتى يوضع؛ لأن الميت بمنزلة الإمام، ولا يصلح أن يكون الإمام محمولاً، والقوم على الأرض، ولا ينبغي أن يرجع من تبع جنازة حتى يصلي عليه.
نوع آخرمن هذا الفصل في الصلاة على الجنازة

هذا النوع ينقسم أقساماً.

الأول: في نفس الصلاة وصفتها، فنقول: الصلاة على الميت مشروعة بالكتاب والسنّة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 103) والسنّة تأتي في خلال المسائل إن شاء الله تعالى، والأمة أجمعت عليها.
ومن صفتها أنها فرض كفاية. إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، أما كونها فرضاً فلأن الله تعالى أمر بها لقوله: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} والأمر للوجوب، وقال عليه السلام: «صلوا على كل بر وفاجر» والأمر للوجوب، وأما كونها فرض كفاية؛ لأنها تقام حقاً للميت فإذا قام بها البعض صار حقه مؤداً فيسقط عن الباقين كالتكفين والغسل.
القسم الثاني: في كيفية الصلاة على الميت فنقول: يتقدم الإمام، ويصطف الناس خلفه كما في سائر الصلوات؛ ولأن التوارث هكذا من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : يقوم الإمام عند الصلاة بحذاء الصدر من الرجل ومن المرأة هذا هو جواب ظاهر الرواية، وهذا لأن الواجب استقبال الميت، واستقبال حملته غير ممكن، فوجب استقبال الصدر؛ لأن الصدر موضع القلب، والقلب موضع الحكمة والعلم، ولأنه موضع نور الإيمان قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَمِ} (الزمر: 22) ... عليه، فكان الوقوف بحذاء الصدر الذي هو موضع نور الإيمان أولى.

وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يقوم بحذاء الوسط من الرجل ومن المرأة. إلا أن الميت إذا كان امرأة فليكن إلى رأسها أقرب، وإنما قال: يقوم بحذاء الوسط لما روي عن النبي عليه السلام «أنه كان يقوم على جنازة المرأة والرجل بحذاء الوسط» ، وعن سمرة بن جندب أن رسول الله عليه السلام «صلى على امرأة، ماتت في نفاسها فقام وسطها» ، وإنما قال: إذا كان الميت امرأة، فليكن إلى رأسها أقرب ليكون

(2/177)


أبعد عن عورتها فإن عورتها أشد، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يقوم من المرأة بحذاء الوسط، ويقوم من الرجل مما يلي الرأس هكذا روي عن أنس رضي الله عنه موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام.
والمعنى: أن الرأس معدن العقل فكان القيام عنده أولى، إلا أن في حق المرأة شرطنا القيام إلى وسطها؛ ليصير الإمام حائلاً بينها وبين عورتها الغليظة، فلا يقع بصر القوم عليها.
وإن قام في غير ذلك المكان جاز؛ لأن ترك السنّة يؤثر في الإساءة لا في منع الجواز. ويكبر فيها أربع تكبيرات، وكان ابن أبي ليلى يقول: خمس تكبيرات، وهو رواية عن أبي يوسف، والآثار اختلفت في نقل رسول الله عليه السلام، فروي الخمس والسبع والتسع وأكثر من ذلك، إلا أن آخر فعله كان أربع تكبيرات، وكان ناسخاً لما قبله.
بيانه فيما روي أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة حين اختلفوا في عدد التكبيرات، وقال لهم: إنكم اختلفتم فمن يأتي بعدكم أشد اختلافاً، فانظروا إلى آخر صلاة صلاها رسول الله عليه السلام (120أ1) على جنازة فخذوا بذلك، فوجدوه صلى على امرأة، وكبر فيها أربعاً فاتفقوا على ذلك.

وقال عليه السلام: «لا تنسوا أربع كأربع الجنائز» وروي عن علي رضي الله عنه أنه كبر أربع تكبيرات، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كبر أربعاً أيضاً؛ ولأن كل تكبيرة منها قائمة مقام ركعة، ثم الصلاة المعهودة لا تزيد على أربع ركعات، فكذا التكبير في هذه الصلاة لا يزيد على أربع تكبيرات؛ ولأن ابن أبي ليلى رحمه الله قال: التكبيرة الأولى الافتتاح، فينبغي أن يكون بعدها أربع تكبيرات كل تكبيرة قائمة مقام ركعة كما في الظهر، والعصر، والجواب أن التكبيرة الأولى وإن كانت للافتتاح، ولكن بهذا لا يخرج من أن يكون تكبيراً.
ثم قال: يكبر الأولى. ويحمد الله تعالى بعد التكبيرة الأولى، ويثني عليه، ولم يوقت في الثناء ههنا شيئاً، وفي سائر الصلوات وقتوا في الثناء وهو قوله: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره، قال شمس الأئمة رحمه الله: وقد اختلفوا في هذا الثناء بعد التحريم.
قال بعضهم: يحمد الله تعالى بكل ذكر في ظاهر الرواية، وقال بعضهم: يقول سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره كما في الصلوات المعهودة.
ثم يكبر الثانية، ويصلي على النبي عليه السلام؛ لأن الثناء على الله تعالى يعقبه الصلاة على النبي عليه السلام.
ثم يكبر الثالثة ويستغفر للميت ويتشفع له؛ لأن الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي عليه السلام يعقبه الدعاء والاستغفار، والمقصود بالصلاة على الجنازة الاستغفار للميت والشفاعة له، والدليل عليه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا أراد

(2/178)


أحدكم أن يدعو فليحمد الله تعالى وليصل على النبي عليه السلام ثم يدعو» ، قد روي «أن النبي عليه السلام رأى رجلاً فعل هكذا بعد الفراغ من الصلاة فقال عليه السلام: «ادع فقد استجيب لك» . ويذكر الدعاء المعروف: «اللهم اغفر لحينا وميتنا» إن كان يحسن ذلك، وإن كان لا يحسن ذلك يذكر ما يدعو به في التشهد «اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات» إلى آخره، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن من صلى على صبي يقول: اللهم اجعله لنا فرطاً، اللهم اجعله لنا ذخراً، اللهم اجعله لنا شافعاً مشفعاً، ولا يستغفر له؛ لأنه لا ذنب له.
ثم يكبر الرابعة ويسلم تسليمتين؛ لأنه جاء أوان التحلل وذلك بالسلام، ثم في ظاهر المذهب ليس بعد التكبيرة الرابعة دعاء سوى السلام، وقد اختار بعض مشايخنا ما يختم به سائر الصلوات «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة» إلى آخره، قال شمس الأئمة رحمه الله: وهو مخير بين السكوت والدعاء لما بينا، وقال بعضهم: يقرأ «ربنا لا تزغ قلوبنا» إلى آخره، وقال بعضهم: يقرأ «سبحان ربك رب العزة عما يصفون» إلى آخره.
وإن زاد الإمام على أربع تكبيرات فالمقتدي هل يتابع الإمام في الزيادة أو لا يتابع؟ فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يتابع، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يتابع؛ لأنه لم يظهر خطأ الإمام بيقين فإنه روي أن علياً رضي الله عنه كبر خمساً، وهكذا روي عن رسول الله عليه السلام.

والصحيح مذهبهما: أنه لا يتابع؛ لأن ما زاد على الأربع صار منسوخاً بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا متابعة في المنسوخ. وإذا لم يتابع الإمام في الزيادة فماذا يصنع؟ قالوا: يسلم أو ينتظر حتى يتابع الإمام في السلام.
وذكر في «النوازل» : أن عن أبي حنيفة فيه روايتان: في رواية يسلم للحال، ولا ينتظر تحقيقاً للمخالفة، وفي رواية يسكت حتى سلم معه إذا يسلم ليصير متابعاً فيما وجب فيه المتابعة وفي «روضة المقتدي» : إنما لا يتابع الإمام في التكبير الزائد على الرابع إذا كان يسمع التكبير من الإمام، أما إذا كان يسمع من المنادي يتابعه كما في تكبيرات العيد على ما مر.
ولا يقرؤون في صلاة الجنازة عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: لا بد من قراءة فاتحة الكتاب، يكبرون تكبيرة ويأتون بالثناء، ثم يقرؤون فاتحة الكتاب، حجته حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام كبر على ميت أربعاً وقرأ فاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى» ، وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة

(2/179)


الكتاب» وهذه صلاة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه صلى على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وجهر بها، وقال: «إنما جهرت لتعلموا أنها سنّة» ؛ ولأنها صلاة مشروعة، فلا تجوز بدون القراءة قياساً على سائر الصلوات.

ولنا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن صلاة الجنازة هل فيها قراءة؟ فقال: لم يوقت لنا رسول الله عليه السلام فيها قولاً ولا قراءة كبر ما كبر الإمام واختر من أطيب الكلام ما شئت، وما روي من الأحاديث يدل على الجواز لا على الوجوب، ونحن نقول بالجواز، فقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في صلاته أنه لو قرأ الفاتحة بدلاً عن الثناء لا بأس به، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إنما جهرت لتعلموا أنها سنّة» لم يقل أنها واجبة، كيف وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه وفضالة بن عبيد، وابن عمر رضي الله عنهم: ترك القراءة في صلاة الجنازة فيصير معارضاً لقول ابن عباس رضي الله عنهما يدل عليه أن القراءة لو شرعت لشرعت مكررة عقيب كل تكبيرة، فإن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، وعنده القراءة فرض في الركعات كلها، وعندنا في الركعتين.
وفي «فتاوى أهل سمرقند» : من قرأ في صلاة الجنازة بفاتحة الكتاب، إن قرأ بنية الدعاء فلا بأس به، وإن قرأ بنية القراءة لا يجوز أن يقرأ؛ لأن صلاة الجنازة محل الدعاء، وليست محل القراءة.
ويرفع يديه في تكبيرة الافتتاح في صلاة الجنازة، ولا يرفع في سائر التكبيرات:
قال الشافعي: يرفع، وبقوله أخذ كثير من أئمة بلخ رحمهم الله، حجتهم أن هذه التكبيرات يؤتى بها في حالة القيام، فتكون من سنّة الرفع كتكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيدين، ولأن رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح وتكبيرات العيد للحاجة إلى إعلام من خلفه من أصم أو أعمى، وهذا المعنى يقتضي رفع اليدين هنا.

حجة علمائنا رحمهم الله قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن» وليس منها صلاة الجنازة، ولأن بين كل تكبيرتين ذكر مقدر فلا حاجة للإعلام، ونظير هذا ما ذكر الحسن بن زياد رحمه الله في كتاب صلاته لا ترفع صوته بالتسليم في صلاة الحنازة كما يرفع في سائر الصلوة؛ لأن رفع الصوت مشروع للإعلام ولا حاجة إلى الإعلام إذ التسليم عقيب التكبيرة الرابعة بلا فصل، ولأن كل تكبيرة قائمة مقام كل ركعة كذا ها هنا.
ومما يتصل بهذا الفصل
إذا اجتمعت الجنائز فالإمام بالخيار إن شاء صلى على كل جنازة صلاة على حدة،

(2/180)


وإن شاء صلى عليهم صلاة واحدة، ويجزىء عن الكل لما روي في شهداء أُحد أن رسول الله عليه السلام صلى على كل عشرة صلاة واحدة، ولأن الدعاء والشفاعة تحصل بصلاة واحدة.
قال في «الكتاب» : فإن أراد أن يصلي عليها صلاة واحدة إن شاؤوا وضعوا الجنائز صفاً طولاً، وإن شاؤوا وضعوا واحداً بعد واحد مما يلي القبلة.
والأصل فيه ما روي عن عثمان بن عبد الله بن صهيب أنه قال: صليت مع أبي هريرة رضي الله عنه ما لا أحصي صلاة الجنازة، فكان يضع مرة صفوفاً ومرة صفاً واحداً، ولم يجعل أحدهما أفضل في ظاهر الرواية، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إن وضعوا واحداً بعد الآخر كان أحسن حتى يصير الإمام قائماً بإزاء الكل، فإنه ليس البعض بأولى من البعض في أن يقوم الإمام بحذاءه، وهكذا وردت السنّة في شهداء أُحد، ولكن يجعل الرجال مما يلي الإمام، والصبيان بعده، والنساء مما يلي القبلة هكذا روي عن علي، وابن مسعود، وابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، ولأنه لو صلى بهم حالة الحياة فالرجل يلي الإمام والصبي يلي الرجل والمرأة (120ب1) تلي، الصبي فبعد الوفاة يصلي الإمام عليهم هكذا أيضاً.

وإن كان حراً ومملوكاً فكيف ما وضعت أجزأك؛ لأنهما لا يختلفان في المقام حالة الحياة، فكذا بعد الوفاة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يضع أفضلهما مما يلي الإمام وأسنهما.
وإن كان صبياً حراً ومملوكاً لم يذكر هذا الفصل في «الأصل» ، وذكر في «المجرد» أنه يقدم الصبي الحر على العبد وهذا على رواية أبي حنيفة رحمه الله، أما على ما هو ظاهر الرواية في الرجل الحر والمملوك كيف ما يوضع جاز.
وإن كان عبداً وامرأة، فالعبد مما يلي الإمام والمرأة خلفه، وإن كان جنازة خنثى وامرأة ورجل يوضع الرجل مما يلي الإمام وخلفه مما يلي القبلة خنثى وخلف الخنثى المرأة والله أعلم.
وقال أبو يوسف رحمه الله: الأحسن عندي أن يكون أهل الفضل مما يلي الإمام لقوله عليه السلام: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهي» .
وإذا انتهى إلى الإمام في صلاة الجنازة وقد سبقه بتكبيرة لا يكبر، ولكنه ينتظر تكبيرة الإمام حتى يكبر، فيكبر معه فإذا سلم الإمام قضى هذا الرجل ما فاته قبل أن ترفع الجنازة، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف لا ينتظر تكبيرة الإمام بل يكبر ويدخل مع الإمام.
وتفسير هذه المسألة على قول أبي حنيفة، ومحمد إذا جاء الرجل وقد كبر الإمام

(2/181)


تكبيرة الافتتاح، فإن هذا الرجل لا يكبر تكبيرة الافتتاح، ولكن ينتظر حتى يكبر الإمام التكبيرة الثانية، فيكبر معه التكبيرة الثانية، وتكون هذه التكبيرة تكبيرة الافتتاح في حق هذا الرجل، ويصير هذا الرجل مسبوقاً بتكبيرة يأتي بها بعد ما يسلم الإمام.
وتفسير المسألة على قول أبي يوسف: هذا الرجل حين حضر يكبر تكبيرة الافتتاح، فإذا كبر الإمام الثانية تابعه فيها، ولم يصر مسبوقاً بشيء، حجة أبي يوسف رحمه الله قوله عليه السلام: «اتبع إمامك» في أي حال أدركته وقاسه بسائر الصلوات، فإن المسبوق في سائر الصلوات يكبر حين يحضر كذا هنا.

والدليل عليه أنه لو كان حاضراً مع الإمام فكبر الإمام ولم يكبر المقتدي يكبر ولا ينتظر فكذلك هنا، ومذهبهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنها؛ فإنه قال في حق الذي انتهى إلى الإمام في صلاة الجنازة وقد سبقه الإمام بتكبيرة أنه ينتظر الإمام حتى يكبر معه، ولم ينكر عليه غيره فيكون إجماعاً؛ ولأن كل تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة قامت مقام ركعة حتى لو ترك تكبيرة منهما لا تجزئه الصلاة كما لو ترك ركعة من ذوات الأربع.
فلو كبر قبل تكبير الإمام يصير متقدماً على الإمام بركعة، وهذا لا يجوز، وبه فارق سائر الصلوات؛ لأن هناك لو كبر لا يصير متقدماً على الإمام بركعة فيجوز، فإذا سلم الإمام يكبر المسبوق عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله تكبيرة صار مسبوقاً بها قبل أن ترفع الجنازة.
وعند أبي يوسف رحمه الله يسلم مع الإمام؛ لأنه لم يصر مسبوقاً بشيء. وإن كان مسبوقاً بتكبيرتين يأتي بهما بعد سلام الإمام عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه حين جاء لا يكبر تكبيرة الافتتاح ما لم يكبر الإمام الثالثة، فإذا كبر تابعه هذا الرجل، وصارت الثالثة، في حق هذا الرجل تكبيرة الافتتاح.
وصار مسبوقاً بتكبيرتين يأتي بهما بعد سلام الإمام قبل أن ترفع الجنازة. وعند أبي يوسف رحمه الله يأتي بتكبيرة واحدة؛ لأنه قد أتى بتكبيرة الافتتاح حين انتهى إلى الإمام وبتكبيرتين مع الإمام، فإذا أتى بتكبيرة أخرى بعده تم أربعاً.
وإن كان مسبوقاً بثلاث يكبر ثلاث تكبيرات بعد سلام الإمام عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه أتى بتكبيرة واحدة مع الإمام، وهي التكبيرة الرابعة للإمام وتكبيرة الافتتاح لهذا الرجل، وبقي عليه ثلاث تكبيرات، فيأتي بها بعد سلام الإمام.

وهل يأتي بالأذكار المشروعة؟ وإن كان لا يأمن رفع الجنازة يتابع بين التكبيرات ولا يأتي بالأذكار بين التكبيرتين، ذكر الحسن رحمه الله في «المجرد» : أنه إن كان يأمن رفع الجنازة فإنه يأتي بالأذكار المشروعة.
وذكر المسألة في «النوازل» : مطلقة من غير تفصيل. فقال: من فاته بعض التكبيرات على الجنازة يقضيها متتابعة بلا دعاء ما دامت الجنازة على الأرض؛ لأنه لو قضى مع الدعاء يرفع الميت فيفوته التكبير.

(2/182)


والحاصل: أنه ما دامت الجنازة على الأرض، فالمسبوق يأتي بالتكبيرات وإذا وضع الجنازة على الأكتاف لا يأتي بالتكبيرات، وإذا رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يأتي بالتكبيرات.
وعن محمد أنه إن كانت الأيدي إلى الأرض أقرب، فكأنها على الأرض فيكبر، وإن كانت إلى الأكتاف أقرب، فكأنها على الأكتاف فلا يكبر، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: المسبوق بثلاث تكبيرات يكبر بعد سلام الإمام تكبيرتين؛ لأنه أتى بتكبيرة حين انتهى إلى الإمام، وبتكبيرة مع الإمام، فبقي عليه تكبيرتان فيأتي بهما بعد سلام الإمام، وإن كان مسبوقاً بأربع تكبيرات لا يصير مدركاً لصلاة الجنازة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن عندهما لا يكبر إلا مع الإمام، وإذا سلم الإمام فقد فاتته الصلاة، فلا يصير مدركاً لها، وعند أبي يوسف رحمه الله: يصير مدركاً للصلاة يكبر تكبيرة، ويشرع في الصلاة، فإذا سلم الإمام يكبر ثلاث تكبيرات ثم يسلم.
وفي «المنتقى» : إذا كان الرجل حاضراً مع الإمام وقت الشروع في صلاة الجنازة فكبر الإمام ولم يكبر هو مع الإمام فإنه يكبر التكبيرة الأولى، ولا ينتظر التكبيرة الثانية، وقد ذكرنا هذا في حجة أبي يوسف في المسألة المتقدمة، فإن لم يكبر حتى كبر الإمام الثانية، فكبر الثانية عنها ولم يكبر الأولى حتى يسلم الإمام، فإن كبر الأولى مع الإمام ولم يكبر الثانية، والثالثة مع الإمام، فإنه يكبرهما اتباعاً، ثم يكبر مع الإمام ما بقي، وإن لم يكبر هو مع الإمام حتى كبر الإمام أربعاً كبر هو قبل أن يسلم الإمام، ثم يكبر ثلاثاً قبل أن ترفع الجنازة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة أنه فاتته صلاة الجنازة، وقد ذكرنا أنه إذا كان مسبوقاً بأربع تكبيرات، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يصير مدركاً للصلاة، وعلى قول أبي يوسف: يصير مدركاً؛ لأن عنده كما حضر يكبر.
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في هذه الصورة نظير قول أبي يوسف رحمه الله، وقال: حين حضر المقتدي يكبر تكبيرة الافتتاح عند محمد كما هو قول أبي يوسف، وقال: حين حضر المقتدي يكبر تكبيرة، وفرق لمحمد بينما إذا أدرك الإمام بعد التكبيرة الرابعة وبينما إذا أدركها بعد التكبيرة الثالثة.
والفرق: أن بعدما كبر الإمام التكبيرة الثالثة لو انتظر المقتدي تكبيرة الإمام لا تفوته الصلاة؛ لأنه يكبر مع التكبيرة الرابعة، أما بعدما كبر الإمام الرابعة لا يمكنه انتظار الإمام؛ لأنه لم يبق عليه شيء، فلو لم يكبر حين حضر تفوته الصلاة، فلهذا افترقا.
h

إذا كبر على جنازة تكبيرة، ثم أتي بجنازة أخرى، فوضعت، يتم الصلاة على الأولى، ويفرد الثانية بالصلاة؛ لأنه لو جمع بينهما لا يخلو إما أن يقتصر على ما بقي من التكبيرات، فيصير مكبراً على الثانية ثلاث تكبيرات، وصلاة الجنازة لم تشرع بثلاث تكبيرات، وإما أن يزيد تكبيرة أخرى، فيصير مكبراً على الأولى خمس تكبيرات بتحريمة واحدة، وذاك أيضاً غير مشروع بإجماع الصحابة.

(2/183)


فإن نوى أن يصلي على الجنازة الثانية بهذه التحريمة لا يخلو إما أن ينوي الصلاة عليها جميعاً، وفي هذا الوجه تتم الصلاة على الأولى، ويستقبل الصلاة على الثانية؛ لأنه لم يخرج عن الأولى متى نوى البقاء عليها، وإذا لم يخرج عن الأولى لا يصير شارعاً في الثانية، وكذلك إذا لم ينوِ شيئاً، أو نوى الثانية، ولم يكبر لها، وفي هذين الوجهين أيضاً يتم الصلاة على الأولى، ويستقبل الصلاة على الثانية. أما إذا لم ينو شيئاً فظاهر، وأما إذا نوى الثانية ولكن ما يكبر لها؛ فلأن بمجرد النية لا يصير خارجاً من الأولى (121أ1) شارعاً في الثانية ما لم يقرنه بالعمل.
وإن نوى الصلاة على الثانية لا غير، وكبر لها يتم الصلاة على الثانية، ويستقبل الصلاة على الأولى؛ لأنه لما نوى الصلاة على الثانية لا غير، وكبر لها صار شارعاً فيها، ومن ضرورة كونه شارعاً فيها أن لا يبقى داخلاً في الأولى. كذا قال محمد رحمه الله في «نوادر الصلاة» .
القسم الثالث في بيان من يصلى عليه، ومن لا يصلى عليه
فنقول: لا يصلى على الكافر لقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ} (التوبة: 84) ، وروي أنه لما مات أبو طالب جاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله عليه السلام وقال: إن عمك الضال قد مات فقال عليه السلام: «اغسله وكفنه وادفنه وما تحدث به حدثاً حتى تلقاني» ، أي: لا تصلِ عليه؛ ولأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار له، والاستغفار للكافر حرام قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ} (التوبة: 80) ، وصلي على كل مسلم مات بعد الولادة لما تلونا من الكتاب، لا البغاة وقطاع الطريق، فإنه لا يصلى عليهم.
وقال الشافعي: يصلى عليهم؛ لأنهم مسلمون، وقال عليه السلام: «صلوا على كل بر وفاجر» .
ولنا: أن الصلاة دعاء واستنزال الرحمة، ونص القرآن يشهد لقطاع الطريق بالخزي قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) وحلول الخزي به ينافي الدعاء له، وكذلك البغاة؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد وقطاع الطريق.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه لم يصلِ على قتلى نهروان وغيرهم من البغاة.

(2/184)


وكذلك الذي يقتل غيلة بالخنق هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: وكذلك كل من يقتل على متاع يأخذه، والمكابرون في المصر بالسلاح؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد، فكان حكمهم كحكم قطاع الطريق.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : من قتل مظلوماً لم يغسل ويصلى عليه، ومن قتل ظالماً غسل، ولا يصلى عليه، وأراد بالمقتول ظلماً المقتول من أهل العدل قتل بسيف أهل البغي، وأراد بالمقتول ظالماً المقتول من أهل البغي قتل بسيف أهل العدل، وإنما لا يصلي على الباغي إذا قتلوا في الحرب، فأما إذا قتلوا بعدما وضع الحرب أوزارها يصلى عليه.
وكذلك قاطع الطريق إنما لا يصلى عليه إذا قتل في حالة الحرب، فأما إذا أخذهم الإمام، ثم قتلهم صلى عليهم.
وإذا مات المولود في حال ولادته، وإن كان خرج أكثره صلى عليه، وإن كان أقل لم يصلِ عليه؛ لأن للأكثر حكم الجميع، فإذا مات بعدما خرج أكثره فكأنه مات بعد الولادة، وإذا مات بعدما خرج الأقل منه، فكأنه مات في البطن.
ومن قتل نفسه خطأً بأن نازل رجلاً من العدو ليضربه، فأخطأه وأصاب نفسه ومات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهذا بلا خلاف.
وأما من يعمد قتل نفسه بحديدة، هل يصلى عليه؟ اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يصلى عليه، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الحلواني رحمه الله يقول: الأصح عندي أنه يصلى عليه، وتقبل توبته إن كان تاب في ذلك الوقت لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 48) وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: الأصح عندي أنه لا يصلى عليه، لا؛ لأنه لا توبة له، ولكن لأنه باغي على نفسه، والباغي لا يصلى عليه.

والذي صلبه الإمام هل يصلى عليه؟ فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في صبي سبي ويسبى معه أبويه أو أحدها فمات، لا يصلى عليه إلا إذا كان أقر بالإسلام، وهو يعقل الإسلام، وإن لم يسب معه أحدهما فمات يصلى عليه.
يجب أن يعلم أن الولد الصغير يعتبر تبعاً للأبوين أو لأحدهما في الدين، فإن انعدما يعتبر تبعاً لصاحب اليد، فإن عدمت اليد يعتبر تبعاً للدار؛ لأنه يقدر اعتباره أصلاً في الدين، فلا بد من اعتباره تبعاً نظيراً له، غير أن علة التبعية في الأبوين أقوى فتعتبر أولاً تبعاً لهما أو لأحدهما، وعند انعدامهما عليه التبعية في حق صاحب اليد أقوى.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان مع الصبي أبواه أو أحدهما يعتبر تابعاً لهما لا للدار، فيجعل كافراً تبعاً لهما، والأصل في ذلك قوله عليه السلام: «كل ولد يولد على الفطرة إلا أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما

(2/185)


كفوراً» قوله عليه السلام: «كل ولد يولد على الفطرة» يحتمل أنه أراد به على الخلقة التي خلق الله تعالى قبل الولادة، فإن بعض اليهود كانوا يقولون: إن الولد قبل الولادة يكون على خلاف ما يكون بعد الولادة، فأبطل ذلك بهذا.

أو يحتمل أنه أراد به على الدين الذي دان يوم الميثاق، فإن الله تعالى خاطب ذرية آدم صلوات الله عليه بعدما أخرجهم من صلبه كالذر، وأعطاهم العقول بعضهم بيض وبعضهم سود، فقال لهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَفِلِينَ} (الأعراف: 172) ، فقالوا كلهم: بلى، إلا أن البيض قالوا: عن اعتقاد، والسود قالوا عن خوف. فالذين قالوا عن اعتقاد يموتون مسلمين، والذين قالوا عن غير اعتقاد يموتون كافرين، فيحتمل أن مراد النبي عليه السلام من هذا الكلام ذاك أي يولد كل مولود على ما دانه يوم الميثاق، وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة.
وقوله: يهودانه أو ينصرانه معناه يستتبعانه في الدين، وقوله: إما شاكراً معناه مسلماً، وقوله: إما كفوراً معناه كافراً.
وأما إذا لم يسب معه أحد أبوية صلي عليه إذا مات، ويعتبر مسلماً تبعاً للدار عند انعدام تبعية الأبوين.
والصبي إذا وقع في يد المسلم من الجند في دار الحرب وحده، ومات هناك صلي عليه، واعتبر مسلماً تبعاً لصاحب اليد عند انعدام تبعية الأبوين، ويستوي الجواب فيما قلنا إذا كان الصبي عاقلاً، أو غير عاقل؛ لأنه قبل البلوغ تابع للأبوين في الدين ما لم يصف الإسلام.
وقوله في المسألة الأولى: إذا سبي معه أبوان لم يصلِ عليه حتى يقر بالإسلام، وهو يعقل، فهذا يدل على أن الصبي إذا أسلم وهو يعقل إنه يصير مسلماً، وهذا مذهبنا، والمسألة معروفة في «السير» .

وقوله: يعقل الإسلام يعني: يعقل صفة الإسلام، وهذا يدل على أن من قال: لا إله إلا الله لا يكون مسلماً حتى يعلم صفة الإيمان، وكذلك إذا اشترى جارية واستوصفها صفة الإسلام، فلم تعلم فإنها، لا تكون مؤمنة، وصفة الإسلام ما ذكر في حديث جبريل صلوات الله عليه: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره من الله تعالى.
ومما يتصل بهذه المسألة
أن أولاد المسلمين إذا ماتوا حال صغرهم قبل أن يعقلوا يكونون في الجنة، فإن فيهم أحاديث كثيرة أكثرها من المشاهير، وبالأحاديث تبين أنهم قالوا: بلى يوم أخذ

(2/186)


الميثاق عن اعتقاد، وقد رووا عن أبي يوسف رحمه الله التوقف فيهم، وهو مردود على الراوي، فإن محمداً روى عن أبي حنيفة رحمه الله في كتابه «آثار أبي حنيفة» رحمه الله: أن الذين يصلون في جنازة أولاد المسلمين وهم صغار يقولون في التكبيرة الثالثة: اللهم اجعله لنا فرطاً، اللهم اجعله لنا ذخراً، اللهم اجعله لنا شافعاً مشفعاً، وهذا أيضاً منه رحمه الله بإسلامهم.
وأما أولاد الكفار إذا ماتوا قبل أن يعقلوا اختلف فيه أهل السنّة والجماعة، روي عن محمد رحمه الله أنه قال: إني أعرف أن الله تعالى لا يعذب أحداً من غير ذنب، وبعضهم قالوا: يكونون في الجنة خداماً للمسلمين، وبعضهم قالوا: إن كان قال: بلى يوم الميثاق عن اعتقاد يكونون من أهل الجنة، وإن كان قال: من غير اعتقاد يكونون في النار. وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه: توقف فيهم وكل أمرهم إلى الله تعالى، والله أعلم.
القسم الرابع في بيان من هو أولى بالصلاة على الميت

ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصلاة: أن إمام الحي أولى بالصلاة، وذكر الحسن في كتاب صلاته عن أبي حنيفة أن الإمام الأعظم، وهو الخليفة أولى إن حضر، فإن لم يحضر فإمام المصر أولى (121ب1) فإن لم يحضر فالقاضي أولى، فإن لم يحضر فصاحب الشرطة أولى، فإن لم يحضر فخليفة الوالي أولى، فإن لم يحضر فخليفة القاضي، فإن لم يحضر فإمام الحي، فإن لم يحضر فالأقرب من ذوي قرابة، وبهذه الرواية أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله.
ومن المشايخ من قال: لا اختلاف بين الروايتين، فما ذكر في كتاب الصلاة محمول على ما إذا لم يحضر الإمام الأعظم، ولا واحد ممن ذكر في رواية الحسن، أما لو حضر الإمام الأعظم، فهو أولى بالصلاة باتفاق الروايات؛ لأن في التقدم على السلطان ازدراء له، ونحن أمرنا بتوقيره، فإن لم يحضر الإمام الأعظم، فأمير المصر أولى؛ لأنه في معنى الإمام الأعظم من حيث أنا أمرنا بتوقيره، وبعده القاضي أولى لما ذكرنا في أمير المصر، وبعده صاحب الشرطة، وبعده خليفة الوالي، وبعده القاضي، وبعد هؤلاء الإمام الحي أولى؛ لأنه هو صلى بالميت حال حياته، فيكون هو أولى بالصلاة عليه.
وإنما ذكر محمد رحمه الله إمام الحي أولاً في كتاب الصلاة؛ لأن السلطان لا يوجد في كل موضع، قال الكرخي في كتابه: وتقديم إمام الحي ليس بواجب ولكنه أفضل، فأما تقديم السلطان فواجب؛ لأن في ترك تقديم السلطان ازدراء به، وفي ذلك إفساد أمور المسلمين فيجب تقديمه. فأما ليس في ترك تقديم إمام الحي إفساد أمور المسلمين، ولكنه برضى الميت حال حياته، وهذا المعنى يقتضي تفضيله على غيره، أما لا يوجب تقديمه، ثم بعد إمام الحي فولي الميت أولى، وهذا كله قول أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله.

(2/187)


وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: ولي الميت أولى بالصلاة على الميت على كل حال، حجة أبي يوسف والشافعي قول الله تعالى: {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوجُهُ أُمَّهَتُهُمْ وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَبِ مَسْطُوراً} (الأحزاب: 6) من غير فصل، ولأن هذا حكم تعلق بالولاية، فيكون الولي مقدماً على السلطان ومن سميناهم قياساً على النكاح؛ ولأن المقصود من صلاة الجنازة الدعاء للميت والشفاعة، ودعاء القريب أرجى في الإجابة؛ لأنه أشفق على الميت، فيوجد منه زيادة تضرع في الدعاء والاستغفار لا يوجد ذلك من السلطان، فيكون هو أولى.
حجة أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله: أنه لما مات الحسن بن علي رضي الله عنهما خرج الحسين والناس لصلاة الجنازة، فقدم الحسين سعيد بن العاص، وكان سعيد والياً بالمدينة يومئذٍ، فأبى سعيد أن يتقدم فقال له الحسين: تقدم ولولا السنّة ما قدمتك، ولأن هذه صلاة تقام لجماعة فيكون السلطان أولى بإقامتها قياساً على سائر الصلوات.
فإن اجتمع للميت قريبان هما في القرب إليه على السواء بأن كان له أخوان لأب وأم أو لأب، فأكبرهم سناً أولى، لأن النبي عليه السلام أمر بتقديم الأسن، فإن أراد الأكبر أن يقدم إنساناً ليس له ذلك إلا برضا الآخر؛ لأن الحق لهما استوائهما في القرابة لكنا قدمنا الأسن للسنّة، ولا سنّة في تقديم من قدمه، فيبقى الحق لهما كما كان، وإن كان أحدهما لأب وأم، والآخر لأب، فالذي لأب وأم أولى، وإن كان أصغر، وإن قدم الأخ لأب وأم غيره، فليس للأخ لأب أن يمنعه عن ذلك؛ لأنه لا حق للأخ لأب أصلاً.

وإن اجتمع للميت ابن وأب، ذكر في «كتاب الصلاة» أن الأب أولى، من مشايخنا من قال: ما ذكر في كتاب الصلاة قول محمد رحمه الله، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله الابن أولى، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الولاية لهما إلا أنه يقدم الأب احتراماً له، ورد هذا القائل هذه المسألة إلى مسألة النكاح.
ومسألة النكاح على هذا الخلاف، فإنه إذا اجتمع للمجنونة أب وابن، فالابن أولى عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد الأب أولى، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الولاية لهما إلا أنه يقدم الأب احتراماً له.
ومنهم من قال: لا بل ما ذكر في صلاة الجنازة أن الأب أولى قول الكل؛ لأن للأب زيادة فضيلة وسن ليس للابن، وللفضيلة أثر في استحقاق الإمامة فيرجح الأب بذلك بخلاف النكاح؛ لأنه لا أثر للفضيلة هناك في إثبات الولاية، فلا يثبت الترجيح به، ونص هشام في «نوادره» عن محمد عن أبي حنيفة أن الأب أولى من الابن.
وإذا اجتمع للميت أب وأخ، فالأب أولى بالإجماع، قال القدوري: وسائر القرابات أولى من الزوج، وكذا مولى العتاقة وابنه، وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: الزوج أولى حجته في ذلك ما روي أنه لما ماتت امرأة ابن عباس رضي الله عنهما صلى عليها، وقال: أنا أحق بها.

(2/188)


وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه لما ماتت امرأته قال لأوليائها: كنا أحق بها حين كانت حية، فإذا ماتت فأنتم أحق بها، ولأن السبب فيما بين الزوجين الزوجية، وإنها تنقطع بالموت، والسبب فيما بين الأقارب القرابة، وإنها لا تنقطع بالموت.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما محمول على أنه كان إمام حي فصلى عليها لكونه إمام حي لا لكونه زوجاً. وإن كان للمرأة التي ماتت زوج وابن منه كره للابن أن يتقدم أباه؛ لأن في تقديمه على الأب ازدراء واستخفاف بالأب، فينبغي أن يقدم الأب، ولا يتقدم عليه.

قال أبو يوسف رحمه الله: وله في حكم الولاية أن يقدم غير أبيه؛ لأن الابن هو الولي إلا أنه منع عن التقدم على أبيه لما ذكرنا من المعنى، وذلك المعنى لا يوجب انقطاع ولايته.
وإن تركت أباً وزوجاً وابناً من هذا الزوج لم يكن الابن أن يقدم أباً إلا برضى الجد؛ لأن الابن ممنوع عن التقدم على الجد لكونه بمنزلة الأب، فيكون ممنوعاً عن تقديم غيره على الجد من طريق الأولى.
وإن تركت زوجاً وابناً من زوج آخر، فلا بأس للابن أن يتقدم على هذا الزوج، ويقدم من شاء، لأنه هو الولي، ولم يوجد ما يمنع التقدم، والتقديم على هذا الزوج، وهو الازدراء بأبيه.
ومولى الموالاة أحق من الأجنبي؛ لأنه ملحق بالقريب، ولهذا كان أحق من الأجنبي؛ لأنه ملحق بالقريب، ولهذا كان أحق بميراثه عند عدم القريب. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان الأقرب غائباً المكان تفوت الصلاة بحضوره فالأبعد أولى، فإن قدم الغائب غيره بكتاب كان للأبعد منعه، وحد الغيبة ههنا أن لا يقدر على القدوم فيدرك الصلاة، ولا يقدرون على تأخيرها لقدومه، والمريض بمنزلة الصحيح يقدم من شاء، وليس للأبعد منعه؛ لأن ولايته لم تسقط، ولهذا لو حضر مع المرض كان له أن يتقدم، ومتى كانت الولاية باقية كان له حق التقدم.
وإن قدم الأخوان من الأب والأم كل واحد منهما رجلاً، فالذي قدمه الأكبر أولى لأنهما؛ رضيا بسقوط حقهما، وأكبرهما سناً أولى بالصلاة عليه، فيكون أولى بالتقديم. ولا حق للنساء ولا للصغار في التقديم؛ لأن حق التقديم ينبني على ولاية التقدم، وليس للنساء والصغار ولاية التقدم فلا يكون لهم حق التقديم.
عبد مات فاختصم في الصلاة عليه المولى وأب العبد أو ابنه، وهما حران فالمولى أحق بالصلاة عليه.

وكذلك المكاتب إذا مات عن غير وفاء، ولو ترك وفاء، وأديت كتابته أو لم تؤد إلا أن المال حاضر لا يخاف عليه التلف، فالابن أولى، وكذا الأب، ولكن يكره أن يتقدم جده وهو أبو المكاتب، وإن كان المال غائباً فالمولى أحق بالصلاة.

(2/189)


نوع آخرمن هذا الفصل في القبر والدفن
وإذا انتهي بالميت إلى القبر فلا يضر وتر دخله أم شفع؛ لأن المقصود وضع الميت في القبر، فإنما يدخل قبره بقدر ما يحصل به الكفاية الشفع والوتر فيه سواء.
وقد صح: أنه دخل في قبر رسول الله عليه السلام أربعة علي، والعباس وابنه فضل، واختلفوا في الرابع ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن الرابع صالح مولى عتاقة رسول الله عليه السلام، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: أن الرابع صهيب، وذكر شمس الأئمة الرخسي رحمه الله: أن الرابع المغيرة بن شعبة أو أبو رافع.
ويقول واضعه في القبر: بسم الله وعلى ملة رسول الله معناه: بسم الله وضعناك، وعلى ملة رسول الله سلمناك. روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام كان إذا وضع ميتاً في القبر يقول (122أ1) : «بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، وهكذا روي عن علي رضي الله عنه.
ويلحد للميت ولا يشق له، وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: يشق ولا يلحد، حجة الشافعي توارث أهل المدينة، فإنهم توارثوا الشق دون اللحد، وعلماؤنا احتجوا بقوله عليه السلام: «اللحد لنا والشق لغيرنا» ولأن الشق فعل أهل اليهود والتشبه بهم مكروه فيما مسته يد ولا حجة له في توارث أهل المدينة؛ لأنهم إنما توارثوا ذلك لضعف أراضيهم بالبقيع، ولأجل هذا المعنى اختاروا الشق في ديارنا، فإن في أراضي ديارنا ضعف أو رخاوة فينهار اللحد فاختاروا الشق لهذا.
وصفة اللحد: أن يحفر القبر بتمامه ثم يحفر في جانب القبلة منه حفيرة فيوضع فيه الميت، ويجعل ذلك كالبيت المسقف.

وصفة الشق: أن يحفر حفيرة في وسط القبر ويوضع فيه الميت. ويدخل الميت من قبل القبلة في القبر، وفي «بعض الكتب» : ويستقبل به القبلة عند إدخاله في القبر يعني توضع الجنازة فوق اللحد من قبل القبلة.
وقال الشافعي رحمه الله: يسل سلاً، قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: صورة السل أن توضع الجنازة في مؤخر القبر حتى يكون رأس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر، ثم يدخل الرجل الآخذ القبر، فيأخذ برأس الميت، ويدخله القبر أولاً، ويسل كذلك.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: صورة السل أن توضع الجنازة في مقدم

(2/190)


القبر حتى تكون رجلا الميت بإزاء موضع رأسه من القبر، ثم يدخل الرجل الآخذ القبر، فيأخذ برجلي الميت ويدخلهما القبر أولاً ويسل كذلك.
حجتنا في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام أدخل في القبر من قبل القبلة، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يدخل الميت قبره من قبل القبلة، ولأنه إذا أخذ من قبل القبلة كان وجوه الآخذين إلى القبلة، وإذا سل سلاً لا تكون وجوه الآخذين إلى القبلة، وأشرف حال الإنسان إذا كان قائماً أو نائماً أو قاعداً أن يكون وجهه إلى القبلة.
h
ويوضع في القبر على شقه الأيمن موجهاً إلى القبلة قال عليه السلام: «يا علي استقبل به القبلة استقبالاً وضعوه لجنبه ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه على ظهره» .
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يفرغ من اللحد؛ لأنها عورة من قرنها إلى قدمها، فربما يبدو شيء من أثر عورتها فيسجى القبر.
ألا ترى أن المرأة خصت بالنعش على جنازتها، وقد صح أن قبر فاطمة سجى بثوب ونعش على جنازتها ولم يكن النعش في جنازة النساء حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها، فأوصت قبل موتها أن تستر جنازتها، فاتخذوا لها نعشاً من جريد النخل، فبقي سنّة هكذا في جميع النساء، وإذا وضعت في اللحد استغني عن التسجية.

وإن كان رجلاً لا يسجى قبره عندنا، وعند الشافعي رحمه الله: يسجى لما روي أن النبي عليه السلام لما دخل قبر سعد بن معاذ وأسامة بن زيد معه سجى قبره، ولأصحابنا رحمهم الله ما روي عن علي رضي الله عنه أنه مر بميت وقد سجي قبره فنزعه، وقال: إنه رجل، وأوصى شريح أن لا يسجى قبره؛ ولأن مبنى حال الرجل على الانكشاف، فلا يسجى قبره إلا لضرورة وهي ضرورة دفع الحر أو الثلج أو المطر عن الداخلين في القبر.
وتأويل قبر سعد بن معاذ أنه إنما يسجى قبره؛ لأن الكفن كان لا يعم بدنه، فيسجى قبره حتى لا يقع الاطلاع على شيء من أعضائه.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويكره الآجر على اللحد، ويستحب القصب واللبن، قال في «الأصل» : اللبن والقصب بدل المذكور في «الجامع الصغير» : على أنه لا بأس بالجمع بينهما، وقد جاء في الحديث أنه وضع على قبر رسول الله عليه السلام حزمة من قصب، ورأى رسول الله عليه السلام فرجة من قبر فأخذ مدرة وناوله الحفار وقال: «سد بها تلك الفرجة، فإن الله تعالى يحب من كل صانع أن يحكم صنعته» ، والمدرة قطعة من اللبن فدل أنه لا بأس باستعمال اللبن.
وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: هذا في قصب لم يعمل فأما القصب المعمول وبالفارسية بورياء بافته أزنى فقد اختلف المشايخ فيه

(2/191)


قال بعضهم: لا يكره؛ لأنه قصب كله، وقال بعضهم: يكره لأنه لم ترد السنّة بالمعمول.
وأما الحصير المتخذ من البردي فإلقاؤه في القبر مكروه؛ لأنه لم ترد السنّة به.
وكثير من الصحابة أوصوا بأن يرمسوا في التراب رمساً من غير شق ولا لحد، وقالوا: ليس جنبنا الأيسر بأولى من الأيمن في التراب، وكانوا يرمسون في التراب رمساً ويهال عليهم التراب إلا أن الوجه يوقى من التراب بلبنتين أو ثلاث، وكراهة الآجر مذهبنا وقال الشافعي: لا بأس به لما روي أن دانيال النبي عليه السلام وجد في تابوت من صخرة.

ولنا: ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نهى عن تجصيص القبور وتقصيصها، والتجصيص هو العمل بالجص، والتقصيص هو العمل بالآجر؛ لأن القص هو الآجر، وعن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يستحبون اللبن والقصب ويكرهون الآجر، وقوله: كانوا كناية عن الصحابة والتابعين، ولأن الآجر إنما يستعمل في الأبنية للزينة والإحكام، والقبر موضع البلى.
بعض مشايخنا قالوا: إنما يكره الآجر إذا أريد به الزينة أما إذا أريد به دفع أذى السباع أو شيء آخر لا يكره.
قال مشايخ بخارى: لا يكره الآجر في بلدتنا لمساس الحاجة إليه لضعف الأراضي، حتى قال بعضهم: بأن في هذه البلدة لو جعل تابوتاً من حديد لا يكره لكن ينبغي أن يضع مما يلي الميت اللبن.
وكذلك التابوت من الخشب. كره بعضهم على ظاهر الرواية وقال: بأن هذا في معنى الآجر؛ لأن كل واحد منها لإحكام النازل، ولا حاجة إلى الإحكام. وبعضهم فرق بينهما وقال: كراهة الآجر من حيث إنه مسته النار فلا انتقال به، وهذ المعنى معدوم في حق الخشب، ولكن هذا الفرق ليس بصحيح، ومساس النار في الآجر لا يصلح علة للكراهة، فإن السنّة أن يغسل الميت بالماء الحار، وقد مسته النار.
قال: ويسنم القبر مرتفعاً من الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلاً ولا يزاد عليه من تراب غير القبر، ولا يربع. وقال الشافعي: يربع ويسطح ولا يسنم، والمسنم هو السفط الذي هو على رسمنا، واحتج بما روى المزني بإسناده له لما توفي إبراهيم بن رسول الله عليه السلام جعل رسول الله عليه السلام قبره مسطحاً؛ ولأنه مسكن مشروع بعد الوفاة فيعتبر بالمسكن حال الحياة، المسكن حال الحياة يكون مسطحاً مربعاً فكذا المسكن بعد الوفاة.
وعلمائنا احتجوا بحديث سعيد بن جبير وعروة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جبريل عليه السلام صلى بالملائكة عليهم السلام على آدم عليه السلام وسنم قبره.

وعن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: أخبرني من رأى قبر النبي عليه السلام وقبر أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما قبل أن يدار الحائط ناشزة مرتفعة مسنمة، وروي أنه لما مات عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالطائف صلى عليه محمد بن الحنفية، وكبر

(2/192)


عليه أربعاً، وجعل له لحداً، وأدخله القبر من قبل القبلة، وجعل قبره مسنماً، وضرب عليه فسطاطاً. ولأن تربيع القبر تشبه بصنيع أهل الكتاب، والتشبيه بصنيعهم فيما لنا مستند مكروه؛ ولأن التربيع في الأبنية للإحكام، ونختار في القبور ما هو أبعد عن الإحكام. وتأويل حديث (122ب1) إبراهيم بن رسول الله سطح قبره أولاً ثم سنم.
وإن خيف ذهاب أثره فلا بأس برش الماء عليه بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما إذا لم يخف ذهاب أثره، ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يكره، وعن أبي يوسف أنه يكره. وإن خيف مع ذلك، فلا بأس بحجر توضع أو آجر، فالظاهر لا يكره على الظاهر، وقد وضع رسول الله عليه السلام على قبر أبي دجانة حجراً وقال: هذا لأعرف به قبر أخي.
وفي «كتاب الآثار» عن محمد: لا أرى أن يزاد في تراب القبر على ما خرج، ولا أرى برش الماء عليه بأساً، ولا يجصص ولا يطين، روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر الكرخي في «مختصره» .
وفي «طهارات النوازل» : أنه لا بأس به، وعن أبي يوسف أنه كره أن يكتب عليه كتاباً وكره أبو حنيفة رحمه الله البناء في القبر وأن يعلم بعلامة. قالوا: وأراد بالبناء السقط الذي يجعل على القبور في ديارنا، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى النهي عن السقط. ويكره أن يوضأ على القبر يعني بالرجل أو يقعد عليه أو يقضي عليه حاجة، ويكره أن يصلي عنده، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا ينبغي أن يصلي على ميت بين القبور، وإن صلوا أجزأهم.

قال القدوري: وذوي الرحم المحرم أحق بإدخال المرأة القبر من غيره، وفي «نوادر» إبراهيم عن محمد رحمهما الله: الأخوال أحق بدخول القبر من بني الأعمام يريد به دخول قبر المرأة، وبنو الأعمام أحق من الزوج ومن أخ الرضاعة.
ولا يدفن الرجلان أو أكثر في قبر واحد، وعند الضرورة لا بأس به، ويقدم في اللحد أفضلهما، وجعل بينهما حاجز من الصعيد، فقد صح أن رسول الله عليه السلام أمر في شهداء أحد بأن يدفن الاثنين والثلاثة منهم في قبر واحد، وكانت الحالة حالة الضرورة.
فالأنصار يومئذٍ أصابهم قروح وجهد شديد فشكوا إلى رسول الله عليه السلام، وقالوا: الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال عليه السلام: «أعمقوا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة، فقالوا: من نقدم، فقال عليه السلام: قدموا أكثرهم قرآناً» .
وإن احتاجوا إلى دفن المرأة والرجل في قبر واحد قدم الرجل في اللحد، وفي الجنازة تقدم المرأة على الرجل ليكون الرجل إلى الرجل أقرب، والمرأة عنه أبعد. ثم في قوله عليه السلام: «أعمقوا» دليل على أن السنّة في القبر أن يعمق؛ لأن هذا أمر بالتعميق.

(2/193)


والمعنى: أن فيه صيانة الميت عن الضياع. وفي بعض «النوادر» عن محمد رحمه الله أنه قال: ينبغي أن يكون مقدار العمق إلى صدر رجل وسط القامة، قال: وكل ما ازداد فهو أفضل. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يعمق القبر صدر رجل، وإن عمقوا مقدار قامة الرجل فهو أحسن. والله أعلم، وبه ختم.
نوع آخر في الكافر يموت وله ولي مسلم
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : كافر مات وله ولي مسلم قال: يغسله ويتبعه ويدفنه.

وقال في «الأصل» : كافر مات وله ابن مسلم فما ذكر في «الأصل» خاص، وما ذكر في «الجامع الصغير» : عام فإن اسم الولي يتناول كل قريب، وهذا؛ لأن الغسل سنّة الموتى من بني آدم على سبيل العموم على ما مر لكن الغسل في حق المسلم يكون تطهيراً، وفي حق الكافر لا يكون تطهيراً. والولد المسلم مندوب إلى بر والده، وإن كان مشركاً قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8) والمراد به الوالد المشرك بدليل قوله تعالى: {وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15) الآية، ومن الإحسان والبر في حقه القيام بغسله ودفنه بعد موته، ولما مات أبو طالب قال عليه السلام لعلي: اذهب واغسله وكفنه، وواره ولا تحدث به حدثاً حتى تلقاني أي لا تصل عليه.
وفي «السير الكبير» : سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: أن أمي ماتت نصرانية فقال: اتبع جنازتها واغسلها وكفنها، ولا تصلي عليها وادفنها، وإن الحارث بن أبي ربيعة ماتت نصرانية فتتبع جنازتها في نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد صح أن رسول الله عليه السلام خرج في جنازة عمه أبو طالب، وكان يمشي ناحية منها.
والحاصل: أنه إذا كان خلف جنازة الكافرين من قومه من يتبع الجنازة لا ينبغي لقريبه المسلم أن يتبع الجنازة حتى لا يكون مستكثراً سواد الكفرة، ولكن يمشي ناحية منها. وإن لم يكن خلف الجنازة من قومه الكافرين يتبعها، فلا بأس للمسلم أن يتبعها، وهذا التفصيل منقول عن محمد رحمه الله.

ولا يغسل الكافر كما يغسل المسلم يريد به أنه لا يراعى في حقه سنّة الغسل من البدائة بالميامن وغير ذلك، ولكن يصب الماء عليه على الوجه الذي تغسل النجاسات، وكذلك لا يراعى في حقه سنّة الكفن، ولكن يلف في ثوب، وكذلك لا يراعى في حقه، شبه اللحد في حقه ولكن تحفر له حفيرة، ولا يوضع فيه بل يلقى، وهذا؛ لأن مراعاة السنّة في هذه الأشياء بحق المسلم.

(2/194)


وكذلك كل ذي رحم محرم منه مثل الأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة، وكل قرابة؛ لأنه من باب التكريم، وصلة الرحم وهو من محامد الدين. وإنما يقوم المسلم بغسل قريبه الكافر وتكفينه ودفنه إذا لم يكن هناك من يقوم به من المشركين، فإن كان هناك أحد من قرابته على ملته، فإن المسلم لا يتولى بنفسه بل يفوض إلى أقربائه المشركين ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم.
ولم يبين في «الكتاب» : أن الابن المسلم إذا مات، وله أب كافر هل يمكن أبوه الكافر من القيام بغسله وتجهيزه وينبغي أن لا يمكن من ذلك، بل فعله المسلمون.
ألا ترى أن اليهودي لما آمن برسول الله عليه السلام عند موته قال عليه السلام لأصحابه: «لوا أخاكم» ولم يخل بينه وبين والده اليهودي. قال: ويكره أن يدخل الكافر في قبر قرابته من المسلمين ليدفنه؛ لأن الموضع الذي فيه الكافر تنزل فيه اللعن والسخط، والمسلم يحتاج إلى نزول الرحمة في كل ساعة فينزه قبره من ذلك. وهذا الفصل يصير رواية في الفصل الأول. وبه ختم.
نوع آخرمن هذا الفصل في الخطأ الذي يقع في هذا الباب
إذا دفن قبل الصلاة عليه صلي عليه في القبر ما لم يعلم أنه تفرق أجزاؤه، لا يخرج عن القبر. أما لا يخرج عن القبر؛ لأنه قد سلم إلى الله تعالى، وخرج عن أيدي الناس، جاء في الحديث عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «القبر أول منزل من منازل الآخرة» وأما الصلاة عليه في القبر فلا يرد رسول الله عليه السلام فعلاً، ولكن إنما يصلي عليه ما لم يعلم أنه تفرق أجزاؤه؛ لأن المشروع الصلاة على الميت لا على أجزائه المتفرقة قالوا: وما ذكر أنه لا يخرج من القبر، فذلك فيما إذا وضع اللبن على اللحد أو وضع ولكن لم يهل التراب عليه يخرج ويصلى عليه؛ لأن التسليم لم يتم بعد.
قال الحاكم الشهيد في «الأمالي» : عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يصلى على الميت في القبر إلى ثلاثة أيام، والصحيح: أن هذا ليس بتقدير لازم؛ لأنه يختلف تفرق الأجزاء لاختلاف الأوقات في الحر والبرد وباختلاف الأمكنة، وباختلاف حال الميت في السن والهزال. فأما المعتبر فيه أكثر الرأي، إن كان في أكبر رأيهم أنه تفرق أجزاء هذ الميت المعين قبل ثلاثة أيام لا يصلون عليه إلى ثلاثة، وإن كان في أكبر رأيهم أنه لم تتفرق أجزاؤه بعد ثلاثة أيام يصلون عليه بعد ثلاثة أيام.
فإن قيل: كيف يصلى عليه في القبر وإنه غائب عن أعين الناس بالتراب؟
قلنا: نعم، ولكن هذا لا يمنع جواز الصلاة، ألا ترى أن قبل الدفن كان غائباً بالكفن ولم يمنع ذلك جواز الصلاة.

(2/195)


وإذا صلي على الميت قبل الغسل، فإنه يغسل ثم تعاد الصلاة عليه بعد الغسل، وكذلك لو غسلوه وبقي عضو من أعضائه أو ... ، وإن كان قد لف في كفنه وقد بقي عضو لم يصبه الماء (123أ1) يخرج من الكفن فيغسل ذلك العضو، وإن كان الباقي شيء يسير كالأصبع ونحوه، فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله؛ لأن الأصبع في حكم العضو بدليل اغتسال الحي. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يخرج من الكفن؛ لأنه لا يتيقن بعدم وصول الماء إليه، فلعل وصل إليه الماء لكن أسرع إليه الجفاف لقلته، ذكر الخلاف على هذا الوجه في «نوادر أبي سليمان» .
وإن دفنوه ثم تذكروا أنهم لم يغسلوه، فإن لم يهل التراب عليه يخرج ويغسل ويصلى عليه، وإن أهالوا التراب عليه لم يخرج، وهل يصلى عليه ثانياً في القبر؟ ذكر الكرخي رحمه الله في «مختصره» : يصلى عليه، وفي «النوادر» عن محمد: القياس أن لا يصلى عليه؛ لأن طهارة الميت شرط جواز الصلاة عليه ولم توجد.
وفي الاستحسان يصلى عليه؛ لأن تلك الصلاة لم يعتد بها لترك الطهارة مع الإمكان، والآن زال الإمكان، وسقط فرضية الغسل، فيصلى عليه في قبره. أو نقول: صلاة الجنازة صلاة من وجه ودعاء من وجه، ولو كانت صلاة من وجه لا تجوز بدون طهارة أصلاً، ولو كانت دعاء من وجه تجوز بدون الطهارة، فإذا كانت بينهما.
قلنا: أنه تشترط الطهارة حالة القدرة، ولا تشترط حالة العجز.
وإن سقط شيء من متاع القوم في القبر، فلا بأس بأن يحفروا التراب في ذلك الموضع، ويخرج المتاع من غير أن ينبشوا الميت، وإن لم يمكنهم ذلك إلا بحفر الكل، ونبش الميت فعلوا ذلك كذا ذكر في «الأصل» ؛ لأن في إبقاء المتاع في البيت القبر إضاعة المال، ونهى رسول الله عليه السلام عن إضاعة المال.
وإذا وضع الميت في اللحد لغير القبلة أو على يساره قد عرف ذلك، فإن كان بعد إهالة التراب لا ينبش عنه قبره وإن كان قبل إهالة التراب وقد شرحوا اللبن نزع اللبن ويوضع كما ينبغي.
وإذا صلوا على جنازة والإمام على غير طهارة فعليهم إعادة الصلاة؛ لأن صلاة الإمام لم تجز لعدم الطهارة، فلا تجوز صلاة القوم لأن صلاتهم بناءً على صلاة الإمام، وإذا لم تجز صلاتهم، فهذا ميت لم يصل عليه، فيعيدوا الصلاة. وإن كان الإمام طاهراً، والقوم على غير طهارة لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن عدم طهارة القوم لا يوجب فساد صلاة الإمام، وإذا جازت صلاة الإمام، فقد سقط الفرض بصلاة الإمام وحده، فلا يكون للباقين حق الإعادة؛ لأنه يكون تنفلاً بصلاة الجنازة، والتنفل بصلاة الجنازة غير مشروع.
وإذا ظهر أن الموضع الذي دفن فيه الميت مغصوب، أو أخذ بالشفعة، فإنه يخرج الميت عنه، ويدفن في موضع آخر.

(2/196)


وفي كراهية «فتاوى أهل سمرقند» : حامل أتى على حملها تسعة أشهر فماتت وقد كان الولد يتحرك في بطنها، فلم يشق بطنها، ودفنت، ثم رؤيت في المنام أنها تقول: ولدت لا ينبش القبر؛ لأن الظاهر أنها لو ولدت كان الولد ميتاً. والله أعلم.
نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات
بيان صفوف النساء في صلاة الجنازة: ويصف النساء في خلف الرجال في الصلاة على الجنازة لقوله عليه السلام: «خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» ؛ ولأنها صلاة تؤدى بجماعة، فتعتبر بالصلاة المعهودة، وفي الصلاة المعهودة تقوم النساء خلف الرجال، فكذا في صلاة الجنازة.
فإن وقعت امرأة بجنب رجل فيها لم تفسد عليه صلاته.
وفرق بين هذا وبين الصلاة المعهودة فإنها إذا قامت بحذاء الرجل في الصلاة المعهودة، وقد نوى الإمام إمامتها، فإنه تفسد صلاة الرجل، وفي صلاة الجنازة لم تفسد صلاة الرجل.
والفرق: وهو أن في الصلاة المعهودة القياس أن لا تفسد صلاة الرجل بمحاذاة المرأة كما قال الشافعي رحمه الله إلا أنا تركنا القياس بالنص، والنص ورد في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، ولهذا لا قراءة فيها، ولا ركوع ولا سجود بخلاف الصلاة المعهودة.

والذي يعتمد عليه ما أشار شمس الأئمة في «شرحه» : وهو أن العلماء اختلفوا في محاذاتها في المكتوبات هل هي مفسدة أم لا؟ منهم من رأى ومنهم من أبى، فاختلافهم في الصلاة اتفاق منهم في جواز الصلاة المقيدة، وهذا أصل محمد، وفي الشرع عليه مسائل كثيرة من ذلك.
قال أبو حنيفة رحمه الله: في المس الفاحش ناقض للوضوء، ولأن العلماء اختلفوا في المس القليل أنه هل ينقض؟ منهم من رأى ومنهم من أبى فكان اختلافهم في المس القليل اتفاق منهم في المس الفاحش أنه ناقض للوضوء. ومن ذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: المكاتب إذا ملك أخاه لا يصير مكاتباً، لأن العلماء اختلفوا في الحر إذا ملك أخاه هل يصير حراً أم لا؟ منهم من رأى ومنهم من أبى، فاختلافهم في الحر اتفاق منهم في المكاتب أنه لا يصير مكاتباً.
قال شمس الأئمة رحمه الله، وهذه المسألة تصير رواية لمسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط» ، وهو أنه يصح اقتداء المرأة بالإمام في صلاة الجنازة من غير أن ينوي الإمام

(2/197)


إمامتها بخلاف الصلاة المعهودة؛ لأن في الصلاة المعهودة إنما جعل نية إمامتها شرطاً؛ لأن محاذاتها تفسد الصلاة فيتحرز بترك النية عن محاذاتها. أما هنا ... من الفساد من قبل المحاذاة فلم تجعل النية شرطاً، إلا أن النساء يمنعن من شهود الجنائز. لأنه روي عن النبي عليه السلام أنه رأى نساء في جنازة فقال: «ارجعن مأزورات غير مأجورات» .

ليس على من قهقه في صلاة الجنازة وضوء، وكذلك سجدة التلاوة، وهذا بناءً على الأصل الذي بينا: أن العلماء اختلفوا في انتقاض الطهارة بالقهقهة في الصلاة المكتوبة المعهودة، منهم من رأى ومنهم من أبى. فاختلافهم في الصلاة المطلقة اتفاق منهم في الصلاة المقيدة أنها لا تنقض الوضوء، ولكنها تفسد الصلاة؛ لأن القهقهة تشبه الكلام لأنه صوت خارج من مخرج الكلام، فكان شبه الكلام. الكلام على الحقيقة يشبه الصلاة، فكذا ما هو شبه الكلام. وإن صلاها قعوداً أو ركوباً أمرهم بالإعادة استحساناً، وفي القياس تجزئهم.
وجه القياس: وهو أن صلاة الجنازة دعاء من وجه والقيام والقعود في الدعاء سواء، تقاس هذه بالاستسقاء، فالقيام والقعود في الاستسقاء سواء، وإن كانت السنّة هو القيام وكذلك السنّة في الخطبة القيام، ثم لو خطب قاعداً جاز فكذا هنا.
ووجه الاستحسان: وهو أن صلاة الجنازة واجبة، فلا تتأدى على الدابة، وقاعداً مع القدرة على القيام قياساً على الوتر، وكان القياس في سجدة التلاوة أن لا تتأدى راكباً؛ لأنها واجبة إلا أنه جوز كيلا ينقطع السفر؛ لأن قراءة القرآن مما يكثر في السفر، فالنزول لسجدة التلاوة يؤدي إلى قطع السفر، فتتأدى على الدابة.
أما الصلاة على الجنازة لا تكثر في السفر بل توجد في الأحايين، فالنزول لها لا يؤدي إلى قطع السفر، فلا تتأدى على الدابة. وإن كان ولي الميت مريضاً، فصلى قاعداً وصلى الناس خلفه قياماً أجزأهم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: تجزىء الإمام، ولا تجزىء المأموم لما عرف من أصله أن اقتداء القائم بالقاعد لا يجوز، وعندهما يجوز وقد مر الكلام فيه.
z

وإذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، إن أمكن تمييز المسلمين بالعلامة يميزون، وإن لم يمكن التمييز، وكانت الغلبة للمسلمين غسلوا ويصلى عليهم إلا من عرف بعينه أنه كافر. وهذا لأن العبرة للغالب والمغلوب ساقط الاعتبار بمقابلته.

ألا ترى أنه لو وجد ميت في دار الإسلام يصلى عليه، وإن احتمل أن يكون كافراً؛ لأن الغلبة في دار الإسلام للمسلمين.
ولو وجد ميت في دار الحرب لا يصلى عليه، وإن احتمل أن يكون مسلماً؛ لأن الغلبة في دار الحرب للكفار. فإذا كانت الغلبة للمسلمين جعل من حيث الحكم كأن الكل

(2/198)


مسلمون فيصلى عليهم، لكن ينوون بالدعاء المسلمين؛ لأنه لو أمكن التمييز حقيقة يجب التمييز حقيقة، فإذا تعذر (123ب1) التمييز حقيقة وأمكن التمييز بالنية، وإن كان الأكثر كفاراً لم يغسلوا، ولم يصل عليهم لما ذكرنا أن العبرة للغالب.
فإن قيل: إنما تعتبر الغلبة وعدم الغلبة حالة الاختيار لا حالة الاضطرار، والحالة ههنا حالة الاضطرار، فإن الصلاة على الميت فرض.
قلنا: كما أن الصلاة على الميت فرض، وترك الصلاة على الكافرين فرض، فإذا تعارض الدليلان اعتبرنا الغالب، وإن استويا لم يصل عليهم عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يصلى عليهم ترجيحاً للمسلمين على الكافرين، وإنا نقول: استوى جانب الصلاة وجانب الترك فترجح جانب الترك؛ لأن الصلاة على الكافر لا تجوز بحال، وترك الصلاة على المسلم جائز في الجملة، فإنه لا يصلى على الباغي عندنا، وعلى الشهيد عندك، فكان الميل ما يباح الحال أولى. بخلاف ما إذا كانت الغلبة للمسلمين، لأنه لما ترجح بحكم الكثرة فكأنه ليس فيهم كفار.
ولم يبين في «الكتاب» : في فصل الاستواء في أي موضع يدفنون، وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يدفنون في مقابر المشركين، وبعضهم قالوا: يتخذ لهم مقبرة على حدة، وهو قول الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمة الله عليه.

وهذا بناءً على اختلاف الصحابة في نصرانية تحت مسلم حبلت من المسلم، ثم ماتت اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في دفنها، فرجح بعضهم جانب الولد وقال: تدفن في مقابر المسلمين، ورجح بعضهم جانبها وقال: تدفن في مقابر المشركين، لأن الولد في حق هذا الحكم جزء منها ما دام في بطنها، وقال عقبة بن عامر: يتخذ لها مقبرة على حدة، فكذلك هنا يتخذ لهم مقبرة على حدة، لتكون بين مقبرة المسلمين وبين مقبرة الكفار.
ولما أمكن اعتبار حالهم بين الحالتين وجب اعتباره بخلاف الصلاة؛ لأنه واسطة بين فعل الصلاة وبين تركها، فإذا تعذر فعل الصلاة وجب الترك.
وإذا لم يجدوا ماء يغسل الميت فيمموه وصلوا عليه، ثم وجدوا ماء يغسل ويصلى عليه ثانياً في قول أبي يوسف، وعنه في رواية يغسل ولا تعاد الصلاة عليه بمنزلة جنب تيمم وصلى، ثم وجد ماء بعد ذلك. وإذا أخطؤوا بالرأس وقت الصلاة فجعلوه في موضع الرجلين وصلي عليه جازت الصلاة؛ لأنه وجد شرائط الجواز، وهو كون الميت أمام الإمام، إنما تركوا سنّة من سننها، وترك السنّة لا يوجب فساد الصلاة. فإن فعلوا ذلك عمداً جازت الصلاة؛ لأن مثل هذا لو وقع في المكتوبة جاز ففي صلاة الجنازة أجوز.
قال شمس الأئمة، والحاكم الشهيد ذكر في «إشاراته» حرفاً فقال: إذا كان عندهم أنهم يصلون عليها إلى القبلة يعني يصلون بالتحري، ولكن جهلوا عن النية، فلما فرغوا ظهر أنهم صلوا عليها إلى غير القبلة أجزأتهم صلاتهم، وفي الصلاة المكتوبة لا تجزئهم صلاتهم إذا فعلوا مثل هذا.

(2/199)


وفرق بينهما فقال: في عدم صلاة الجنازة الأمر فيها واسع، فإنها لم تتمحض صلاة على ما ذكرنا أنها دعاء من وجه، فانحطت رتبتها ودرجتها عن رتبة المكتوبة ودرجتها، فأما عند مشايخنا فكلتاهما سواء، والجواب فيهما أنهما تجوزان، فإن تعمدوا ذلك فإنهم يستقبلون الصلاة عليها كما في المكتوبة؛ لأنها في وجوب استقبال القبلة كسائر الصلوات.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعض النسخ ولا بأس بالأذان في صلاة الجماعة فإن كان الصحيح لا بأس بالإذن في صلاة الجنازة فمعناه أحد الشيئين إما إذن الولي غيره في الصلاة على الجنازة؛ لأن للولي حق الصلاة لما ذكرنا، فتكون له ولاية تحويل هذا الحق إلى غيره، وإما إذن أولياء الميت للمصلي لينصرفوا قبل الدفن؛ لأنه لا ينبغي لهم أن ينصرفوا قبل الدفن إلا بإذنهم.
لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «أميران وليسا بأميرين» ولي الميت قبل الدفن والمرأة تكون في الركب وفي رواية «صاحب الدابة القطوف» . وإن كانت الرواية لا بأس بالأذان في صلاة الجنازة فمعناه لا بأس بالإعلام قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إعلام من الله ورسوله.
والإعلام لا بأس به في صلاة الجنازة فإنه روي عن رسول الله عليه السلام أنه مر بقبر فقال: قبر من هذا فقيل: «قبر فلانة ماتت ليلاً فقال: آذنتموني فقال: خشينا عليك هوام الليل فقال عليه السلام: «إذا مات منكم ميت فآذنوني فإن صلاتي عليكم دعاء ورحمة» فدل أنه لا بأس بالإعلام في صلاة الجنازة، ولأن في الإعلام إعانة وحث على الطاعة فلا بأس به لهذا.
وقد حكي عن بعض مشايخ بلخ رحمهم الله: أنه يكره النداء في الأسواق أن فلاناً مات؛ لأنه من أفعال الجاهلية، وبنحوه ذكر الكرخي رحمه الله: عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ينبغي أن يؤذن بالجنازة إلا أهلها وجيرانها ومسجد حيها، وكثيراً من مشايخ بخارى رحمهم الله لم يروا به بأساً إذ ليس المقصود منه الترسم برسم أهل الجاهلية، وإنما المقصود به الإعلام حثاً على الطاعة ألا ترى أن النداء الخاص لا يكره وكذا لا يكره العام أيضاً.
ولا يصلى على ميت إلا مرة واحدة، وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لمن لم يصلِ أن يصلي عليه.

حجته: أنه لما قبض رسول الله عليه السلام صلى على قبره الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فوجاً بعد فوج، ولأن الصلاة على الميت شرعت دعاءً واستغفاراً له،

(2/200)


والدعاء والاستغفار مشروع مرة بعد مرة.
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بما روي أن رسول الله عليه السلام صلى على جنازة فلما فرغ جاء عمر رضي الله عنه، ومعه قوم، فأراد أن يصلي عليها فقال عليه السلام: «الصلاة على الجنازة لا تعاد، ولكن ادع للميت واستغفر له» ، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه لما مات أخوه عاصم قال لابن عاصم: أرني قبر أبيك فأراه، فقام عليه ودعا ولم يصل عليه.
والمعنى: أن صلاة الفريق الأول وقعت فرضاً أن صلاة الجنازة شرعت قضاء لحق الميت صار مقاماً بالفريق الأول، فسقط الفرض بصلاة الفريق الثاني فيكون نفلاً، والتنفل بصلاة الجنازة غير مشروع، ولو جاز ذلك لكان الأولى أن يصلي على قبر رسول الله عليه السلام من رزق زيارته الآن؛ لأنه في قبره كما وضع؛ لأن لحوم الأنبياء حرام على الأرض، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ولم يستقبل أحد بهذا، فعلم أنه لا تعاد الصلاة على الميت.
قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إلا أن يكون الذي صلى أول مرة غير الولي حينئذٍ يكون للولي حق الإعادة؛ لأن حق التقدم للولي، وليس لغيره؛ ولأنه إسقاط حقه، وهو تأويل فعل الصحابة، فإن أبا بكر رضي الله عنه كان مشغولاً بتسوية الأمور وتسكين الفتنة، وكانوا يصلون عليه قبل حضوره، وكان الحق لأبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه كان هو الخليفة. فلما فرغ صلى عليه، ثم بعده لم يصلِ عليه أحد.
وأما حديث النبي عليه السلام: كان هو الولي لمن مات بالمدينة، وغير الولي متى صلى على الميت كان للولي حق الإعادة.

وتكره صلاة الجنازة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها لحديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله عليه السلام أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا» وذكر هذه الساعات، والمراد من ذلك صلاة الجنازة؛ لأن الدفن في هذه الأوقات غير مكروه وإن صلوها لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن حق الميت يتأدى بما أدوا، فإن المؤدى في هذه الأوقات صلاة، وإن كان بها نقصان إلا أن السبب أوجبها كذلك؛ لأن سبب صلاة الجنازة حضور الجنازة.
ألا ترى أن الصلاة تضاف إلى الجنازة يقال: صلاة الجنازة، والحكم أبداً يضاف إلى السبب (124أ1) وكذلك تتكرر الصلاة بتكرر الجنازة وهذا يدل على كون الجنازة سبباً فهو معنى قولنا: السبب أوجبها مع النقصان وقد أداها كذلك. فهو نظير ما لو تلا آية السجدة في هذه الأوقات وسجد فيها جاز، وطريقه ما قلنا، ولأنهم لو أعادوها لازدادت الكراهة.

(2/201)


ونظير هذا ما لو سجد للسهو قبل السلام نهي عنه، ولو سجد مع ذلك جاز، لأنه لو لم يجز صارت سجدات أربعاً فازدادت الكراهة. وهذا الرجل ما خالف الكل فإن من العلماء من يجوز السجدة قبل السلام.
وكذلك ههنا من العلماء من يجوز الصلاة في الأوقات المكروهة، ولأن صلاة الجنازة تشبه الصلاة المطلقة حيث إنه يشترط فيها الطهارة عن الحدث، والطهارة عن النجاسة، وستر العورة، واستقبال القبلة والتحريم بالتكبير، والتحلل بالسلام، وتشبه الدعاء من حيث سقوط القراءة والركوع والسجود، فمن حيث إنها تشبه الصلاة نهي، ومن حيث إنها تشبه الدعاء إذا أداها جاز، وهو قياس سجدة التلاوة إذا تلاها في هذه الأوقات، وأراد أن يسجد لها ينهى عن ذلك، ولو سجد جاز وسقط عنه، كذلك هنا.
ولا تكره بعد طلوع الفجر، وبعد العصر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتي بجنازة بعد العصر فقال: أسرعوا قبل أن تغرب الشمس، ولأن الصلاة على الجنازة فريضة، وإنما يكره في هذين الوقتين التطوع.

ولو حضرت الجنازة بعد غروب الشمس يبدؤون بالمغرب ثم بالجنازة لما روي عن أبي برزة الأسلمي أنه أتي بجنازة بعدما غربت الشمس ووضعت على مقبرة بالبصرة، فأمر المؤذن فأذن، وصلى المغرب ثم صلى على الجنازة، ولأن صلاة المغرب فرض عين، وصلاة الجنازة فرض كفاية، فتكون المغرب آكد، والبداية بآكد الفرضين أولى؛ ولأن تأخير المغرب مكروه، وتأخير صلاة الجنازة لا بأس به.
وروى الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : أنه يبدأ بأيهما شاء؛ لأن مبنى صلاة الجنازة على المسارعة، قال عليه السلام: «ثلاث لا يؤخرن» وذكر من جملتها الصلاة على الجنازة، ومبنى المغرب أيضاً على المسارعة فاستويا فيبدأ بأيهما شاء.
وإن أوجد شيئاً من أطراف ميت كيد أو رجل أو رأس لم يغسل ولم يصلِ عليه، ولكنه يدفن.
وقال الشافعي: يغسل ويصلى عليه قل ذاك الجزء أو كثر بناءً على مذهبه أن تكرار الصلاة على ميت واحد يجوز، وعندنا لا يجوز. وهذا في الميت عند الشافعي، أما في الشهيد عنده لا يصلى على كل البدن فكيف يصلى على جزء منه. وأجمعوا أنه لو وجد أكثر البدن يغسل ويصلى عليه.
وذكر الحسن بن زياد في صلاته عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا وجد أكثر البدن غسل وكفن وصلي عليه ودفن. وإن كان نصف البدن، ومعه الرأس غسل وصلي عليه ودفن، وإن كان مشقوقاً نصفين طولاً، فوجد منه أحد النصفين لم يغسل، ولم يصلِ عليه، ولكنه يدفن لحرمته، وإن كان نصف البدن بلا رأس غسل، ولم يصلِ عليه. وإن كان أقل من نصف البدن ومعه الرأس غسل وكفن ودفن ولا يصلى عليه.

(2/202)


احتج الشافعي رحمه الله بما روي أن طائراً ألقى يد آدمي بمكة في وقعة الجمل، فغسلها أهل مكة وصلوا عليها، قيل: إنها يد طلحة بن عبيد الله، أو يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى على عظام بالشام، وعن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه صلى على رؤوس، ولأن هذا نقص من جملة الآدمي لا يزال عنه في حالة السلامة، فيجب الصلاة عليه قياساً على ما لو كان الموجود في أكثر من نصف البدن، أو نصف البدن ومعه الرأس، وهذا لأن الصلاة على المسلم شرعت لحرمة المسلم وحرمة القليل كحرمة الكثير بدليل أنه لا يحل إتلاف القليل كما لا يحل إتلاف الكثير.
وأصحابنا رحمهم الله: احتجوا بما روي عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: «لا يصلى على عضو» والمعنى: وهو أن هذا العضو لو انفصل عن الآدمي حالة الحياة لا يصلى عليه، فكذا لو انفصل عنه بعد موته وجب أن لا يصلى عليه قياساً على الشعر والظفر؛ وهذا لأن صلاة الجنازة ما عرفت قربة بدون الميت، والميت اسم لجميع البدن، ولم يوجد جميع البدن، ولا أكثر البدن، إنما وجد منه البعض، والمعدوم أكثر من الموجود، فيرجح العدم على الموجود، فكأنه لم يوجد شيء من البدن، وبدون بدن الميت لا تقام صلاة الجنازة بخلاف إذا وجد الأكثر؛ لأن جانب الموجود يرجح على العدم، فسقط اعتبار العدم.
فأما حديث أهل مكة، قلنا: التعلق به لا يصح؛ لأنه ليس في الحديث أن الغاسل لليد والمصلي عليها من هو، فما لم يعرف الغاسل لا يكون الحديث حجة، وأما حديث عمر رضي الله عنه المراد منه الدعاء لإجماعنا أنه لا يصلى على العظام، وكذا حديث أبي عبيدة محمول على الدعاء صلى يعني: دعا.
ثم الطرف يدفن لأن الدفن إماطة الأذى، وقد ورد الأثر به فإنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الإسلام بضعة وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» .

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا كان القوم في المصلى فجيء بالجنازة هل يقومون لها إذا رأوها قبل أن توضع؟ فيه كلام، من الناس من يقول: يقومون لما روي عن النبي عليه السلام أنه كان جالساً فمرت عليه جنازة فقام فزعاً فقيل له: إنه جنازة يهودي فقال: «ما قمت لها وإنما قمت فزعاً من الموت» ، ومنهم من قال: لا يقومون وهو الصحيح. والصلاة على الجنازة في الجبانة والأمكنة والدور سواء لما روي عن النبي عليه السلام أنه صلى على بعض في الموتى في الأمكنة وصلى على البعض في الجبانة.

(2/203)


وإن النبي عليه السلام لما قبض صلى عليه في حجرة عائشة رضي الله عنها كان الناس يدخلون فوجاً فوجاً، فيصلون عليه وينصرفون.
وإنما تكره الصلاة على الجنازة في الجامع ومسجد الحي عندنا.
وقال الشافعي: لا تكره، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية كما قال الشافعي، وفي رواية قال: إذا كانت الجنازة خارج المسجد الإمام والقوم في المسجد فإنه لا تكره وستأتي المسألة في باب الكراهية، وسيأتي لا يجهرون في صلاة الجنازة بشيء من الحمد والثناء وصلوات الرسول عليه السلام لأن هذا ذكر كله، والإخفاء في الذكر أولى كما في أذكار الصلوات.
ومشايخ بلخ يقولون: السنّة أن يسمع الصف الثاني ذكر الصف الأول، والصف الثالث ذكر الصف الثاني، والرابع ذكر الصف الثالث، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا يجهرون كل الجهر، ولا يسرون كل السر، وينبغي أن يكون بين ذلك.
ويتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف فوتها في المصر، وإن لم يخف الفوت توضأ، وكذلك إن كان افتتح الصلاة، ثم أحدث تيمم وبنى، وقد مر هذا في باب التيمم.

رجل تيمم وصلى على جنازة ثم أتي بجنازة أخرى إن وجد من الوقت مقدار ما يتوضأ به، والماء منه قريب بطل ذلك التيمم، وعليه إعادة التيمم للصلاة على الجنازة الثانية بالإجماع؛ لأنه يمكنه استعمال الماء بعد التيمم الأول، فبطل التيمم، وإن لم يجد من الوقت مقدار ما يتوضأ به، فله أن يصلي بالتيمم الأول على الجنازة الثانية، عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله ليس له ذلك ويعيد التيمم للجنازة الثانية، هكذا أورده الإمام السرخسي رحمه الله في «شرح الصلاة» ، وأورد الفقيه أبو الليث رحمه الله هذه المسألة في «مختلفاته» ، وذكر قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف رحمهما الله.
حجة محمد رحمه الله: وهو أن التيمم إنما يجوز لضرورة، وقد ارتفعت الضرورة عند الفراغ من الأولى، فعليه تجديد التيمم للثاني.
حجة أبي يوسف رحمه الله (124ب1) : وهو أن العذر قائم وهو خوف الفوت لو اشتغل بالوضوء، فلهذا جاز له أن يصلي بتيممه الأول.
ويكره أن يجعل على اللحد دفوف خشب يريد به صفائح خشب توضع على اللحد؛ لأن في ذلك إضاعة المال بلا فائدة فإن اللبن يكفي، ولأن ذلك يستعمل للزينة أو لإحكام البناء، والميت غير محتاج إلى ذلك، ولكن مع هذا لو فعل لا بأس به لرخاوة الأراضي في ديارنا.
وفي «وقف النوازل» المرتد لا يدفع إلى من انتحل إليهم كاليهود أو النصارى ليدفنوه في مقابرهم، ولكن تحفر له حفيرة، فيلقى فيها كالكلب.
وفي «واقعات الناطفي» : رجل مات في السفينة يغسل ويكفن ويرمى في البحر؛ لأنه الدفن نقل الميت من مكان إلى مكان سيأتي في كتاب الاستحسان والكراهية إن شاء الله تعالى.

(2/204)


وفي «النوازل» : لا يدفن الميت في الدار وإن كان صغيراً؛ لأن الدفن مكان الموت سنّة الأنبياء عليهم السلام لا سنّة غيرهم.

ولا تكسر عظام اليهود والنصارى التي توجد في قبورهم؛ لأن إيذائهم حرمة حتى حرم إيذاؤه في حياته فتكون لعظامه حرمة حتى لا تكسر متى وجدت بعد الموت. ولا يقوم الرجل بالدعاء بعد صلاة الجنازة؛ لأنه قد دعا مرة، لأن أكثر صلاة الجنازة الدعاء. ولا يصلى على صبي وهو على الدابة أو على أيدي الرجال كما في البالغ، وفي رواية «النوادر» يجوز.
وفي «النوازل» : صلى رجل على جنازة، والولي خلفه، ولم يرض به أي لم يأمره به، فإن تابعه وصلى معه لا يجوز للولي أن يعيد الصلاة؛ لأنه قد صلى مرة، وإن لم يتابعه فإن كان الذي صلى السلطان، أو الإمام الأعظم، أو القاضي، أو والي البلدة، أو إمام حيه، فليس للولي أن يعيد، وإن كان غيرهم فله الإعادة.
وفيه أيضاً: مات رجل في غير بلده وصلى عليه غير أهله، ثم جاء أهله وحملوه إلى منزله، فإن كان الأول صلى بإذن الإمام يعني السلطان، أو القاضي لا يصلون عليه ثانياً؛ لأن الصلاة بإذن الإمام كصلاة الإمام بنفسه.
وفي «العيون» : إذا أوصى الميت أن يصلي عليه فلان، فالوصية باطلة إلا في رواية ابن رستم، فإنها جائزة في روايته، فيؤمر فلان بأن يصلي عليه.
جنازة تشاجر فيها قوم، فقام رجل ليس بولي وصلى وتابعه بعض القوم في الصلاة عليها فصلاتهم تامة، وإن أحب الأولياء إعادة الصلاة أعادوا. ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة لكن ينوي في التسليمة الأولى من على يمينه وينوي في التسليمة الثانية من على يساره.
عن أبي يوسف رحمه الله إذ كبر يريد التطوع بصلاة الجنازة يجزئه عن التطوع.
وعن أبي يوسف أيضاً في جنب وميت وعندهما من الماء ما يكفي لأحدهما الجنب أولى به يريد به إذا كان الماء مباحاً.
ومن هذا الجنس
عريان وميت ومعهما من الثوب ما يكفي لأحدهما إن كان الثوب ملكاً لأحدهما صرف إليه، وإن كان ملكاً للميت، والحي وارثه يكفن به الميت، ولا يلبسه الحي؛ لأن الكفن مقدم على الميراث.

ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض، وميت، ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، فإن كان الماء لأحدهم فهو أولى به، وإن الماء لهم لا يصرف إلى واحد منهم؛ لأن للآخرين فيه نصيباً، وإن كان الماء مباحاً فالجنب أحق به، وتتيمم المرأة وييمم الميت أيضاً، وهذا؛ لأن غسل الجنب فريضة، ويمكنه الإمامة، وغسل الميت ليس بفريضة فييمم الميت، ويصلي الرجل، وتقتدي المرأة به بالتيمم؛ ولأن في

(2/205)


كون التيمم مزيلاً للجنابة خلاف. فإن عمر، وابن مسعود كانا لا يريان التيمم للجنب، فكان الصرف إلى الجنابة أولى، وكذا لو كان مكان الحائض محدثاً يصرف إلى الجنب للمعنى الثاني. والله أعلم.
وجد قتيل في دار الحرب مختوناً غير مقصوص شاربه لا يصلى عليه؛ لأن من الكفرة من يختتن، ولو وجد غير مختون، ولكنه مقصوص الشارب يصلى عليه إذ ليس منهم من يقص الشارب هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولم يجعل شمس الأئمة الختان علامة الإسلام، وهكذا كان يقول بعض المشايخ، وقد ذكرنا في «شرح الزيادات» أن الختان والخضاب ولبس السواد من علامات الإسلام.
وإذا وجد قتيل في دار الإسلام، وعليه زنار وفي حجره مصحف لا يصلى عليه؛ لأن المسلم في دار الإسلام لا يعقد الزنار أصلاً، أما الكافر في دار الإسلام قد يقرأ القرآن، فلو كان ذلك في دار الحرب يصلى عليه؛ لأن الكافر في دار الحرب لا يقرأ القرآن أما المسلم قد يعقد الزنار على نفسه في دار الحرب لمصلحة ترى في ذلك.
g

في «متفرقات شمس الأئمة الحلواني» رحمه الله: من لا يجبر على نفقة الميت حال حياته كأولاد الأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات لا يجبر على الكفن بلا خلاف. ثوب الجنازة إذا تخرق ولم يبق صالحاً لما اتخذ له، فليس للولي أن يتصدق به، بل يبيعه ويصرف ثمنه في ثمن ثوب آخر، وينبغي أن يكون غاسل الميت على الطهارة، ويكره أن يكون جنباً أو حائضاً، ولا بأس بجلوس الحائض والجنب عنده وقت الموت.

الفصل الثالث والثلاثون في بيان حكم المسبوق واللاحق
يجب أن يعلم أن المسبوق من لم يدرك أول الصلاة وبعض أحكامه من الإتيان بالثناء والإتيان بالتعوذ، والإتيان بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد. وقيامه إلى قضاء ما سبق به قد مر في فصل ما يفعله المصلي في صلاته بعد الافتتاح، وما يتصل بذلك الفصل فلا يعد.
واللاحق من أدرك أول الصلاة إلا أنه لم يصل مع الإمام إما؛ لأنه نام أو؛ لأنه أحدث وذهب، ثم توضأ ثم عاد، وانتبه النائم، وقد صلى الإمام بعض الصلاة. ومن حكم المسبوق أنه يصلي أولاً ما أدرك مع الإمام، فإذا فرغ الإمام من صلاته يقضي ما سبق به، ومن حكم اللاحق أنه يصلي ما فاته أولاً مع الإمام، ثم يتابع الإمام فيما بقي، والمسبوق في الحكم كأنه منفرد، ولهذا كان عليه القراءة فيما يقضي.
ولو سهى فيما يقضي كان عليه السهو، واللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام، ولهذا لا قراءة عليه فيما يصلي، ولا سهو عليه إن كان قد سهى.

وكان الشيخ الإمام الزاهد عبد الله الخيراخري يقول عن أصحابنا رحمهم الله

(2/206)


تعالى: اجعلوا المسبوق فيما يقضي كالمنفرد، إلا في ثلاث مسائل، وقد ذكرنا ذلك عامة في الفصل السابع من هذا الكتاب، ذكرنا ثمة الفرق في فصل محاذاة المرأة بين المسبوق وبين اللاحق، وذكرنا الفرق بين نية اللاحق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وقد فرغ الإمام من صلاته، وبين نية المسبوق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وذكرنا أيضاً الفرق بين دخول اللاحق المصر، وبين دخول المسبوق المصر.
في فصل المسافر المسبوق إذا سلم مع الإمام ساهياً، ومسح يديه على وجهه بعد السلام كما يفعل في العادة، ثم تذكر ليس له أن يبني، لأن مسح اليدين على الوجه عمل كثير من رآه يفعل ذلك يظنه خارج الصلاة، وهذا هو حد عمل الكثير، فيصير خارجاً من الصلاة، ويؤيده رواية مكحول النسفي عن أبي حنيفة أن من رفع يديه عند الركوع، أو عند رفع الرأس من الركوع تفسد صلاته، واعتبر عملاً كثيراً.
وفي «نوادر أبي سليمان» : عن محمد رجل فاتته ركعة مع الإمام، ثم سلم الإمام فسهى الرجل، ولا يدري أفاتته الركعة، أو لا، ثم علم، فقام فقضاها فعليه السهو، وإن كان ذلك قبل سلام الإمام، فلا سهو عليه؛ لأن قبل سلام الإمام هو على المتابعة، فلا يعتبر سهوه، بخلاف ما بعد سلام الإمام.
والمسبوق إذا لم ينتظر سلام الإمام وقام وقرأ، وركع ثم سلم الإمام، وسجد للسهو رجع إليه فسجدها معه، وأعاد القراءة والركوع، ولا سهو عليه (125أ1) وإذا قام الإمام إلى الخامسة وتابعه المسبوق، إن كان الإمام قعد في الرابعة فسدت صلاة المسبوق. والمسبوق يسجد سجدتي السهو مع الإمام.
وكذا المقيم إذا كان مقتدياً بالمسافر يسجد للسهو مع الإمام، واللاحق لا يأتي بسجود السهو حتى يفرغ من صلاته، فإن يسجد المسبوق ولا المقيم المقتدي بالمسافر مع الإمام سجدا إذا فرغا من صلاتهما استحساناً.

والقياس: أن لا يسجد لأنهما انتقلا من صلاة الإمام إلى غيرها وجه الاستحسان: أن التحريمة واحدة، فكانت صلاة واحدة فإن سجدا معه، ثم سهوا أعادا السهو، فإن لم يسجدا مع الإمام وسهوا، فعليهما سجدتان عن السهوين، فإن سهى الإمام ثم أحدث ثم استخلف رجلاً فالخليفة يأتي بسجود السهو بعد تمام صلاة الإمام، وإن سهى الثاني يسجد أيضاً، وإذا اجتمع سهو الأول وسهو الثاني كفاه سجدتان، وإن لم يسهو الأول وسهى الثاني يسجد أيضاً ويتابعه الأول في ذلك.

إن أدركه رجلان سبقا ببعض الصلاة، وقاما إلى قضاء ما سبق به، واقتدى أحدهما بالآخر، فسدت صلاة المقتدي؛ لأنه اقتدى في موضع الانفراد.
رجل اقتدى بالإمام في ذوات الأربع بعدما صلى الإمام بعض صلاته، فأحدث الإمام، وقدم هذا الرجل، والمقتدي لا يدري كم صلى الإمام وكم بقي عليه، فإن المقتدي يصلي أربع ركعات، ويقعد في كل ركعة احتياطاً. وإذا ظن الإمام أن عليه سهو يسجد للسهو وتابعه المسبوق في ذلك، ثم علم أنه لم يكن على الإمام سهو ففيه روايتان:

(2/207)


في إحدى الروايتين تفسد صلاة المسبوق، وبه أخذ عامة المشايخ، وفي إحدى الروايتين لا تفسد، وبهذه الرواية كان يفتي الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير، فإن لم يعلم أنه لم يكن على الإمام سهو لم تفسد صلاة المسبوق بلا خلاف.
الإمام إذا سبقه الحدث في ذوات الأربع فاستخلف مسبوقاً بركعتين فإن المسبوق يصلي ركعتين ويقعد حتى يتم صلاة الإمام، ثم يقوم يقضي ما سبق به، ولو أن هذا المسبوق صلى ركعتين، ولم يقعد فسدت صلاتهم، كما لو اقتدى المقيم بالمسافر، فأحدث المسافر واستخلف المقيم، فصلى المقيم ركعتين ولم يقعد، وهناك تفسد الصلاة كذا ههنا، وهذا لأن الخليفة قائم مقام الإمام الأول ما لم يفرغ عن صلاة الأول، والأول لو ترك هذه القعدة فسدت صلاته فكذا إذا ترك الثاني.

المسبوق بركعة إذا سلم مع الإمام ساهياً لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه مقتد بعد، وإن سلم بعد الإمام كان عليه السهو؛ لأنه صار منفرداً. وإذا دخل الرجل في صلاة الرجل بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو فعلى قول محمد رحمه الله اقتداؤه به صحيح على كل حال عاد الرجل إلى سجود السهو أو لم يعد، وعلى قول أبي حنيفة اقتداؤه موقوف إن عاد الرجل إلى سجوده صح اقتداؤه، وإن لم يعد لا يصح اقتداؤه.
ولو دخل في صلاته بعدما سجد سجدة واحدة، وهو في الثانية، فإنه يسجدها معه ولا يقضي الأولى، وكذلك إن دخل في صلاته بعدما سجدهما لم يقضيها.
صلى بقوم صلاة الفجر فسلم واحد من القوم بعد الفراغ من التشهد وحال الإمام الدعاء وأخر السلام حتى طلعت الشمس فسدت صلاة الإمام على قول من يرى ذلك، ولم تفسد صلاة من سبق بالسلام، وكذلك لو تذكر الإمام تلاوة بعد سلام هذا الرجل، فسجد الإمام للتلاوة بعد سلام هذا الرجل، أو كانت الصلاة ظهراً فأدرك الإمام الجمعة لا تفسد صلاة من سلم إذا لم يدرك الجمعة.
وكذا المسبوق بركعة إذا قام إلى قضاء ركعته بعد سلام الإمام، ثم تذكر الإمام تلاوة، وسجد لها لا تفسد صلاة المسبوق إلا إذا تابعه في السجدة بعدما قيد ركعته بالسجدة.
أحدث الإمام وعليه سجود السهو، واستخلف مسبوقاً قد ذكرنا قبل هذا أنه لا ينبغي للإمام أن يقدمه، ولا له أن يتقدم، فلو أنه تقدم مع هذا كيف يصنع؟ قال: يصلي بالقوم بقية صلاتهم فإذا انتهى الإمام الصلاة إلى السلام يتأخر، ويقدم مدركاً يسلم به، ولا يسلم هذا المسبوق، فإن لم يكن ثمة مدرك كيف يصنع هذا المسبوق؟ قال: يتأخر من غير أن يسلم ثم يقوم ويقضي ما فاته وحده، وكذلك القوم يقومون، ويقضون ما فاتهم وحداناً، فإذا فعلوا ذلك يأتون بسجود السهو التي وجبت على الإمام استحساناً.

قد ذكرنا أن اللاحق لا يتابع الإمام في سجوده، ولو تابعه مع ذلك، وسجد معه لا يجزئه، وعليه أن يسجد إذا فرغ من صلاته؛ لأن ما أتى به من السجدة في غير محلها؛ لأن سجدة السهو شرعت في آخر الصلاة، وهو إنما أتى بها في وسط الصلاة.

(2/208)


يجب أن يعلم أن ما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً، وآخر صلاته حقيقة؛ لأن ما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة، وآخر صلاته حكماً من حيث إن الأول اسم لفرد سابق يكون ما أدرك مع الإمام أولاً في حقه حقيقة، ومن حيث إنه آخر في حق الإمام؛ لأن الآخر اسم لفرد لاحق يكون آخراً في حقه حكماً تحقيقاً للتبعية، وتصحيحاً لاقتداء؛ لأن ما بين أول الصلاة وآخرها مغايرة من حيث الحكم، فإن القراءة فرض في الأوليين نفل في الآخريين، والمغايرة تمنع صحة الاقتداء.
ولما صح الاقتداء علمنا أن ما أدرك مع الإمام آخر صلاته حكماً، وإذا كان ما أدرك أول صلاته حقيقة وآخرها حكماً، وما يقضي آخره حقيقة أوله حكماً، اعتبرنا الحقيقة فيما يقضي وفيما أدرك في حق الثناء.
فقلنا: بأن المسبوق يأتي بالثناء متى دخل مع الإمام في الصلاة حتى يقع الثناء في محله وهو ما قبل أداء الأركان، واعتبرنا الحكم فيما أدرك، وفيما يقضي في حق القراءة، فجعلنا ما أدرك صلاته وما يقضي أول صلاته، فتجب القراءة عليه، فيما يقضي؛ لأن القراءة ركن لا تجوز الصلاة بدونها، واعتبرنا الحكم فيما أدرك وفيما يقضي في حق القنوت، فجعلنا ما أدرك آخر صلاته في حق القنوت حتى أنه إذا أتى بالقنوت فيما أدرك مع الإمام لا يأتي بالقنوت فيما يقضي كيلا يؤدي إلى تكرار القنوت الذي هو ليس بمشروع، واعتبرنا الحقيقة في حق القعدة، وفيما يقضي، وفيما أدرك فألزمناه القعدة متى فرغ من صلاته؛ لأن قعدة الختم ركن لا تجوز الصلاة بدونها، فألزمناه القعدة في آخر الصلاة عملاً بالحقيقة ليخرج عن القعدة بيقين.

المسبوق بركعتين إذا قام إلى قضائها سبق، ولم يكن الإمام قرأ في الأوليين، وإنما قرأ في الأخريين، فإنه تجب عليه القراءة فيما يقضي، ولو ترك القراءة فيما يقضي لم تجز صلاته؛ لأن القراءة في الأخريين وقعت بطريق القضاء، فالتحقت بمحل الأداء، وصار كأنه قرأ في الأوليين، وهناك المسبوق يقرأ فيما يقضي كذا ها هنا.
وإذا قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به قبل أن يتشهد الإمام أو بعدما تشهد قبل أن يسلم، فقد ذكرنا هذه المسألة قبيل الفصل الرابع، ومن فروعات هذه المسألة إذا قام بعدما تشهد الإمام، وعلى الإمام سجود السهو، فقرأ وركع ولم يسجد حتى عاد الإمام إلى سجود السهو، فعلى هذا الرجل أن يتابع الإمام في سجود السهو؛ لأنه لم يستحكم انفراده بأداء ما دون الركعة؛ لأن ما دون الركعة ليس له حكم الصلاة، فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، ثم يقوم للقضاء، ولا يعتد بالذي أدى؛ لأنه صار رافضاً لها بالعود إلى متابعة الإمام.
وإن لم يعد إلى متابعة الإمام ومضى على ذلك جازت صلاته، لأنه لم يبق على الإمام ركن من أركان الصلاة، ويسجد للسهو في آخر صلاته استحساناً، وإن قيد المسبوق الركعة بسجدة، ثم عاد الإمام إلى سجود السهو لم يعد إلى متابعة الإمام لأنه استحكم انفراده بأداء ركعة كاملة، وإن عاد إلى متابعته فسدت صلاته؛ لأنه اقتدى في موضع الانفراد، والاقتداء في موضع الانفراد تفسد الصلاة.
فإن قيل: الاقتداء في موضع الانفراد إذا لم يكن بركعة كاملة ينبغي أن لا يوجب فساداً كالانفراد في موضع الاقتداء إذا لم يكن بركعة كاملة.

قلنا: الاقتداء في موضع الانفراد إنما يفسد الصلاة، وإن حصل الاقتداء بما دون الركعة؛ لأنه لما اقتدى به (125ب1) زال الانفراد؛ لأن بين الاقتداء والانفراد تنافي، فأما المسبوق بالاقتداء بالإمام صار تبعاً للإمام، وبالانفراد لم تزل التبعية؛ لأنه يؤدي ما أداه الإمام، والتبعية تنفى بهذا كما في النائم، وإذا لم تزل التبعية بنفس الانفراد بقي في صلاة الإمام وإذا بقي في صلاة الإمام لم تفسد صلاته إلا أن يأتي بركعة كاملة، فحينئذٍ تفسد صلاته لا لزوال المتابعة، ولكن لشروعه في صلاة أخرى. وهذه فصول:
أحدها: في السهو.

والثاني: في الصلبية إذا تذكر الإمام سجدة صلبية بعدما قام المسبوق إلى القضاء، إن لم يكن قيد الركعة بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام كما ذكرنا في سجود السهو، وإن لم يعد فسدت صلاته؛ لأن الصلبية من أركان الصلاة، ألا ترى أنه لو لم يأت بها الإمام كانت صلاته فاسدة، فكذلك إذا لم يتابع المسبوق فيها، وإن كان قيد الركعة بالسجدة، فصلاته فاسدة عاد إلى متابعة الإمام أو لم يعد لما ذكرنا أن السجدة الصلبية ركن وبعد إكمال الركعة عاجز عن المتابعة فلهذا تفسد صلاته.

والثالث: إذا تذكر الإمام سجدة تلاوة، فإن كان المسبوق لم يقيد الركعة بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، ولأن الركعة الناقصة تحتمل الرفض على ما ذكرنا فصار كأنه لم يقم، ولو لم يقم يتابع الإمام فكذلك هنا، فلو لم يتابع، الإمام ومضى على ذلك فإنه ينظر، إن وجد منه القيام والقراءة بعد فراغ الإمام من القعدة الثانية مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته، وإلا فلا؛ لأن عود الإمام إلى سجدة التلاوة يرفع القعدة بدليل أنه لو لم يقعد بعدها لم تجر صلاته، والقعدة فرض أو ركن كالصلبية، وإذا ارتفعت القعدة صار كأنه قام إلى قضاء ما سبق به قبل فراغ الإمام من التشهد، ومضى على ذلك، فإنه يعتبر القيام والقراءة التي وجد بعد فراغ الإمام من التشهد كذلك هنا.
فإن قيد المسبوق الركعة بالسجدة قبل أن يعود الإمام إلى سجدة التلاوة ثم عاد الإمام إلى سجدة التلاوة، فإن تابعه المسبوق فصلاته فاسدة رواية واحدة؛ لأنه لما قيد الركعة بالسجدة استحكم انفراده، فإذا تابع الإمام، فقد اقتدى في

(2/209)


موضع كان عليه الانفراد، فيوجب فساد الصلاة، وإن لم يتابعه ففيه روايتان: قال في «الأصل» : صلاته فاسدة؛ لأنه حين سجد الإمام للتلاوة، ارتفضت القعدة في حق الإمام.
وإذا ارتفضت القعدة فسدت صلاته؛ لأن القعدة الأخيرة فرض.
وفي «نوادر» أبي سليمان قال: لا تفسد صلاته؛ لأنه حين قيد الركعة بالسجدة تم انفراده، ولم يبق على الإمام ركن من أركان الصلاة بدليل أنه لو لم يسجد الإمام للتلاوة، وذهب جازت صلاته، بخلاف الصلبية على ما ذكرنا، وفقه هذا الكلام أن قعوده كان معتداً به، وإنما

(2/210)


انتقض في حق الإمام بالعود إلى سجدة التلاوة؛ وذلك بعدما استحكم انفراد المسبوق عنه، فلا يتعدى ذلك إلى المسبوق، كرجل صلى بقوم، ثم ارتد والعياذ بالله، بطلت صلاته ولم تبطل صلاة القوم، وكذلك رجل صلى الظهر بالناس يوم الجمعة في القرية، ثم راح إلى الجمعة، فأدركها اعتبر المؤدى في حقه تطوعاً، وصار فرضه الجمعة، وبقي المؤدى في حق القوم فرضاً كما كان، فكذلك هنا، كذا ذكره الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
وذكر الشيخ الإمام خواهر زاده، والإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمهم الله الاختلاف على عكس ما ذكره الشيخ الإمام السرخسي رحمه الله فقالا: في ظاهر الرواية لا تفسد صلاته، وفي رواية أبي سليمان تفسد صلاته.
إذا تذكر الإمام فائتة بعد الصلاة والسلام وخلفه مسبوق، حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر، محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: لا رواية في هذا الفصل، وعندي أن صلاة المسبوق لا تفسد كما لو ارتد الإمام بعد السلام وخلفه مسبوق. وإذا صلى الإمام الظهر أربع ركعات، وقعد على الرابعة، وقام إلى الخامسة ساهياً فجاء إنسان واقتدى به في صلاة الظهر.

قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: يصح اقتداء الرجل؛ لأن الإمام لم يقيد الخامسة بالسجدة، فهو في تحريمة الظهر. وإذا كان الرجل يصلي الظهر، وخلفه مسبوق فقام الإمام إلى الركعة الخامسة تابعه المسبوق إن كان الإمام قعد على رأس الرابعة فسدت صلاة المسبوق؛ لأنه لما قعد على رأس الرابعة بقيت صلاته في حق المسبوق، فصار المسبوق في حكم المنفرد، فهذا اقتداء في موضع الانفراد، وإن لم يكن قعد على رأس الرابعة لا تفسد صلاة المسبوق؛ لأن الإمام على الصلاة الأولى حكماً.
ولهذا قلنا: إذا لم يقعد الإمام على رأس الرابعة، وقام إلى الخامسة لا يسلم المقتدي ما لم يقيد الإمام الخامسة بالسجدة، بخلاف ما إذا قعد على رأس الرابعة فإن هناك للمقتدي أن يسلم. وكذلك قلنا في الإمام إذا كان يصلي المغرب، فقام إلى الرابعة، وتشهد المقتدي وسلم قبل أن يقيد الإمام الرابعة بالسجدة فإنه تفسد صلاة المقتدي، وطريقه ما قلنا.
وإذا جاء المسبوق إلى الإمام وهو راكع وفي يد هذا المسبوق شيء، فوضعه حتى ... فكبر تكبيرتين، ودخل في الصلاة قال هشام: قال أبو حنيفة رحمه الله: لو وقع تكبيرة الافتتاح قائماً وهو مستوي أيضاً صح الشروع، وإن وقع وهو منحط عنه غير مستوى لا يجوز.
وإن ركع المسبوق وسوى ظهره صار مدركاً للركعة قدر على التسبيح أو لم يقدر، وإن لم يقدر على تسوية الظهر في الركوع حتى رفع الإمام رأسه فاته الركوع.

ولو كبر والإمام راكع، واشتغل هو بالثناء، ولم يركع حتى رفع الإمام رأسه، ثم ركع هو لم يصر مدركاً للركعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافاً لزفر رحمه الله، ولو

(2/211)


كبر قبل ركوع الإمام، ولم يركع معه حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم ركع هو صار مدركاً للركعة. وإذا سلم الإمام فالمؤتم المسبوق يتأنى، ولا يتعجل في القيام، وينظر هل يشتغل الإمام بقضاء ما نسيه من صلاته فإذا تيقين فراغ الإمام من صلاته حينئذٍ يقوم إلى قضائه، ولا يسلم مع الإمام؛ لأنه في وسط صلاته.
وفيه حكاية أن أبا يوسف كان على مائدة هارون الرشيد، فسأل زفر وقال: ما تقول يا أبا هذيل متى يقوم المسبوق إلى قضائه؟ فقال زفر رحمه الله: بعد سلام الإمام، فقال أبو يوسف رحمه الله: أخطأت، فقال زفر: بعدما سلم الإمام تسليمة واحدة، فقال أبو يوسف: أخطأت، فقال زفر: قبل سلام الإمام، فقال أبو يوسف: أخطأت، ثم قال أبو يوسف رحمه الله: إنما يقوم بعد تيقنه أن الإمام فرغ من صلاته فقال زفر: أحسنت أيد الله القاضي.
قال: مكث المسبوق حتى يقوم الإمام إلى تطوعه إن كانت صلاة بعدها تطوع، ويستدبر إلى المحراب إن كانت صلاة لا تطوع بعدها، وإن لم يمكث حتى يسلم الإمام، ولكن حين فرغ الإمام من قراءة التشهد قام المسبوق إلى قضاء ما سبق، جازت صلاته بالاتفاق، ولكنه مسيء فيما صنع، وإنما جازت صلاته لفراغ الإمام من الصلاة، حتى قالوا فيمن صلى مع الإمام الجمعة، والإمام في الجامع، وهو في الطريق، وهو مسبوق، فخاف أنه لو انتظر الإمام حتى يسلم، ثم يقوم هو إلى القضاء تفسد المارة عليه صلاته، فإذا علم أن الإمام فرغ من التشهد يقوم هذا إلى القضاء وتجوز صلاته.

روى ابن سماعة، وأبو سليمان في «نوادره» عن محمد: إذا نام المؤتم خلف الإمام، وسهى الإمام عن سجدة من أول الركعة، فقضاها في آخر صلاته وسلم، ثم استيقظ ذلك الرجل، فإنه يصلي، ويسجد تلك السجدة في موضعها من الركعة الأولى.

وفي رواية أبي سليمان إن كان الإمام ترك القعود في الثانية يقعد فيها هذا اللاحق قال: لأن الإمام يقضي السجدة، ولا يقضي الجلوس، وفي رواية ابن سماعة لو استيقظ هذا النائم قبل أن يسجدها الإمام، فإنه (126أ1) يصلي ما صلى إمامه، ولا يسجد تلك السجدة حتى يسجدها إمامه، فيسجدها معه؛ لأنه لا يجزئه أن يسجدها قبله، وكذلك إن لم يكن نام، ولكن سبقه الحدث فذهب وتوضأ، ثم انصرف.
وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: رجل دخل في صلاة إمام بعدما صلى الإمام ركعة فلما كبر رعف، فذهب، وتوضأ، ثم جاء، وقد صلى الإمام ركعتين أخريتين، وبقيت عليه ركعة فاتبع الإمام حين جاء ولم يقض ما فاته، وصلى معه الرابعة، قال: يقوم ويصلي ركعة بغير قراءة ويقعد، ويصلي ركعة أخرى بغير قراءة، ويقعد؛ لأن بالنية وافقه الإمام، ثم يصلي ركعة بقراءة لأنه أول صلاته.
وفي «نوادر» أبي سليمان عن محمد لو نام الرجل خلف الإمام في التشهد الأخير، فلم يقرأ التشهد، وقرأه الإمام، ثم ضحك هذا الرجل بعدما انتبه قبل أن يتشهد، قال: عليه الوضوء لصلاة أخرى، وصلاته تامة، وإنما وجب عليه الوضوء، وإن كان الإمام قد

(2/212)


سلم؛ لأن المقتدي إنما يخرج من حرمة الصلاة بتسليم الإمام إذا لم يكن عليه شيء من واجبات الصلاة، وههنا عليه التشهد.

وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف سبق، فقام يقضي قال أبو حنيفة: صلاته فاسدة وقال أبو يوسف: صلاته تامة، وإنما فسدت صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه بالاقتداء بالقارىء التزم صلاة بقراءة، وقد عجز عن إتمامها بذلك فجاء الفساد، وعلى هذا إذا صلى ركعة بركوع، وسجود ثم مرض، وصار إلى حالة الإتمام، فصلاته فاسدة في قول أبي حنيفة؛ لأنه التزم صلاة بركوع وسجود خلافاً لأبي يوسف. وروى المعلا عن أبي يوسف في الأخريين الخلاف على نحو ما ذكرنا في الأمي.
ابن سماعة في «الرقيات» عن محمد: رجل فاتته ركعة مع الإمام فلما تشهد الإمام قام الرجل يقضي ركعته، وقد كان الإمام نسي سجدة عليه من تلاوة، فلما سلم الإمام ذكر السجدة التي عليه من التلاوة قد فرغ الرجل من ركعته، أو لم يفرغ منها حتى سجد الإمام سجدة التلاوة، ومضى الرجل في ركعته، ولم يسجد معه سجدة التلاوة، قال محمد رحمه الله: إذا ركع، وسجد قبل أن يسجد الإمام سجدة التلاوة، فصلاته تامة؛ لأنه خرج من صلاة الإمام بالفراغ من تشهد الإمام قبل أن يبطل تشهد الإمام، فإن كان ركع وسجد بعدما سجد الإمام سجدة التلاوة، فصلاته فاسدة؛ لأن بعود الإمام يبطل تشهده؛ لأن من حق سجدة التلاوة الواجبة في الصلاة؛ أن تؤدى في الصلاة ولا تؤدى خارج الصلاة.
أرأيت لو نسي الإمام سجدة تلاوة حتى سلم، وتفرق القوم غير أن الإمام بعد في مصلاه، ثم تذكر الإمام السجدة وسجدها، فمن خرج من المسجد، أو تكلم قبل أن يسجدها الإمام فصلاته فاسدة. قال: وإنما هو بمنزلة مسافر صلى ركعتين، ثم تشهد، فخرج بعض القوم من المسجد، أو تكلم، ثم نوى المسافر الإقامة.

الفصل الرابع والثلاثون في المصلي إذا كبر ينوي الشروع في الصلاة التي هو فيهاأو في صلاة أخرى أو ينوي بخلاف ما نوى قبل ذلك
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : في رجل افتتح الظهر؛ وصلى منها ركعة ثم افتتح العصر، أو التطوع فقد نقض الظهر؛ لأن العصر غير الظهر، وكذا التطوع غير الفرض، وله ولاية الشروع فيهما، فإذا افتتح واحداً منهما يعني العصر، أو التطوع صح الافتتاح، وصار شارعاً فيه، وإذا صار شارعاً فيه يصير خارجاً عن الآخر ضرورة فيبطل الآخر.

وإن افتتح الظهر بعدما صلى ركعة فهي تجزئه، وتجزئه تلك الركعة عن الظهر، فيصلي بعده ثلاث ركعات ويتم الظهر؛ لأنه نوى الشروع في شيء هو فيه، وذلك باطل فلغت نيته ويبقى في ظهره، فإن صلى أربعاً بعد ذلك على تقدير أنه افتتح الصلاة، ولم

(2/213)


يقعد في الثالثة فسدت صلاته؛ لأن هذه الثالثة رابعة صلاته حقيقة، وإن كانت ثالثة في ظنه، فقد ترك القعدة الأخيرة فتفسد صلاته.
ولو نوى بالتكبير هذه الفريضة، وفريضة أخرى أو تطوعاً لم يخرج عن هذه الفريضة إذا نوى غيرها على حدة.

رجل سلم في الركعتين من الظهر ناسياً، ثم ذكر فظن أن ذلك يقطع الصلاة، فاستقبل التكبير، ونوى به الدخول في الظهر ثانية، وهو إمام قومه، فكبروا معه ينوون ذلك فهم على صلاتهم الأولى يصلون ما بقي منها، ويسجدون السهو، وذلك لأنه لو خرج عن الصلاة لا يخلو إما أن يخرج بالسلام، أو بالنية، أو بالتكبير لا جائز أن يصير خارجاً بالسلام؛ لأن هذا سلام الساهي لأن حد السهو أن يسلم، وعليه ركن من أركان الصلاة وهو لا يعلم به، وقد وجد هذا الحد هنا فكان سلام الساهي، وقد ذكرنا غير مرة أن سلام الساهي لا يخرج المصلي عن الصلاة. لا جائز أن يصير خارجاً بالنية؛ لأنه نوى إيجاد الموجود وذلك لغو، فصار وجود النية وعدمه بمنزلة. ولا جائز أن يصير خارجاً بمجرد التكبير؛ لأن التكبير وجد في وسط الصلاة، والتكبير في وسط الصلاة، فلا يخرجه عن الصلاة. إذا ثبت أنه لا يصير خارجاً عن الصلاة الأولى، فإذا قعد في الرابعة، ثم قام إلى الخامسة تجوز صلاته، لأنه صلى الظهر خمساً، وقعد في الرابعة قدر التشهد تجوز صلاته؛ لأنه اشتغل بالنفل بعد إكمال الفرض. وإن لم يقعد في الرابعة قدر التشهد، فسدت صلاته؛ لأنه اشتغل بالنفل قبل إكمال الفرض.

ثم إذا جازت صلاته بأن قعد في الرابعة قدر التشهد؛ فإنه يجب عليه سجدتا السهو بتأخير الركن عن محله، وهو القيام إلى الركعة الثالثة؛ لأنه حين كان قعد على رأس الركعتين يفترض عليه القيام بعدما تشهد، فإن اشتغل بالدعوات، فقد أخر الركن، وهي الركعة الثالثة، فتجب سجدتا السهو.
فرق بين هذا وبين ما إذا كبر ينوي العصر، أو ينوي التطوع، فإنه يصير خارجاً عن الظهر داخلاً في العصر أو في التطوع، وهنا لا يصير خارجاً.
ووجه الفرق: وهو أن هناك نوى شيئاً ليس هو فيه، لأنه نوى العصر وهو ليس في العصر، فالنية الثانية أفادت غير ما أفادته الأولى، فتكون معتبرة، وإذا كانت معتبرة صار شارعاً إلى العصر، ومن ضرورة الشروع في العصر الخروج عن الظهر. فأما هنا نوى شيئاً هو فيه، فلم تفد الثانية إلا ما أفادته الأولى، فلغت الثانية، فلهذا لا يصير خارجاً عن الأولى.
ونظير هذا رجل باع شيئاً بألف، ثم باعه ثانياً بألف، فالبيع الثاني باطل، والبيع الأول على حاله؛ لأن الثاني لم يفد غير ما أفاده الأول، فيتضمن البيع الثاني انفساخ البيع الأول كذلك ههنا.
وفرق بين هذا وبينما إذا سلم على رأس الركعتين من الظهر، وهو يظن أنه صلاة الفجر، أو صلاة المسافر، أو سلم على رأس الثالثة، وهو يظن أنه المغرب أو الوتر، فإن

(2/214)


هناك يصير خارجاً عن الصلاة وهنا لا.
والفرق: وهو أن هناك السلام سلام عمد؛ لأنه سلم وهو عالم أنه صلى ركعتين لا غير، والسلام العمد يخرجه من الصلاة. أما ها هنا السلام سلام الساهي؛ لأنه سلم وقد بقي عليه أركان الصلاة، وهذا هو حد السهو، والسلام الساهي لا يخرجه عن الصلاة.

فإذا صلوا أربع ركعات بعدما صلى ركعتين إن قعدوا على رأس الثانية جازت صلاته، والركعتين الأوليين من هذا الأربع فريضة تمام صلاة الظهر، والركعتين الأخرتين نافلة، ويجوز هذا؛ لأنه اشتغل بالنفل بعد إكمال الفرض. وإن لم يقعدوا على رأس الثانية فسدت صلاتهم لاشتغالهم بالنفل قبل إكمال الفرض.
وإذا صلى من المغرب ركعتين، وقعد قدر التشهد، وزعم أنه أتمها، فسلم، ثم قام وكبر ينوي الدخول في سنّة المغرب، ثم تذكر أنه لم يتم المغرب، وقد سجد للسنّة، أو لم يسجد فصلاة المغرب فاسدة؛ لأنه كبر ونوى الدخول في صلاة أخرى، فيكون منتقلاً من الفرض قبل إتمامه إلى التطوع. أما إذا سلم وتذكر فحسب أن صلاته فاسدة، فقام، وكبر للمغرب ثانياً وصلى ثلاثاً.

إن صلى ركعة وقعد، قدر التشهد أجزأه المغرب وإلا فلا؛ لأن نية المغرب ثانياً لم تصح بقي مجرد التكبير وذا لا يخرجه عن الصلاة. وإن افتتح المغرب، وصلى ركعة وظن أنه لم يكبر الافتتاح فافتتحها، وصلى ثلاث ركعات، وقعد على رأس الثانية جازت صلاته؛ لأنه في المرة الثانية قعد على رأس الثانية بزعمه، وهي ثالثته على الحقيقة.
ولو صلى المغرب ركعتين وظن أنه لم يفتتح، فافتتحها، وصلى ثلاث ركعات، وقعد على رأس الثانية والثالثة لا تجوز صلاته؛ لأن من حقه أن يقعد على الركعة الأولى؛ لأنها ثالثته على الحقيقة، فإذا لم يقعد، فقد ترك القعدة على رأس الثالثة وإنه يوجب فساد الصلاة.
وإذا صلى الظهر أربعاً فلما سلم تذكر أنه ترك سجدة منها ساهياً، ثم قام واستقبل الصلاة، وصلى أربعاً، وسلم وذهب، فسد ظهره؛ لأن نية دخوله في الظهر ثانياً لغو، فإذا صلى ركعة فقد خلط المكتوبة بالنافلة قبل الفراغ من المكتوبة.
وإذا صلى الغداة بقوم فقال له رجل من القوم: تركت سجدة من صلب الصلاة، فقام الإمام وكبروا استأنف الصلاة (126ب1) .

لا تجزئه لا الأولى ولا الثانية؛ لأن هذه التكبيرة لم تخرجه عن الأولى، فلقد خلط النافلة بالمكتوبة قبل الفراغ من المكتوبة.
وفي «فتاوى الفضلي» : المسبوق إذا شك في صلاته بعد ما قام إلى قضائها أنه سبق بركعة أو بركعتين فكبر ينوي الاستقبال يخرج عن صلاته؛ لأن حكم صلاة المسبوق، وحكم صلاة المنفرد مختلفان ألا ترى أن الاقتداء بالمسبوق لا يصح وبالمنفرد يصح، فإذا أقبل على إحديهما وكبر ثبت الانتقال إلى الأخرى، كمن انتقل بالتكبير من فرض إلى نفل، أو من نفل إلى فرض.

(2/215)


وكذلك المسبوق إذا سلم مع الإمام ناسياً، وظن أن ذلك مفسد، فكبر ونوى به الاستقبال كان خارجاً عن صلاته، والمعنى ما ذكرنا، وهذا بخلاف المنفرد إذا شك المنفرد فكبر ينوي الاستقبال حيث لا يكون خارجاً عن صلاته؛ لأن هناك الصلاة لم تختلف، فهو بمنزلة ما لو كان في الظهر، فكبر ينوي الظهر أو كان في العصر فكبر ينوي العصر، وهناك لا يصير خارجاً عن صلاته، كذا في المنفرد، ولا كذلك المسبوق على ما ذكرنا.
وفي «الرقيات» : كتب ابن سماعة إلى محمد في رجل صلى خلف إمام ركعة من صلاة فريضة (ثم) أن المأمور نوى أن يصلي صلاته لنفسه، أو نوى أن يؤم إمامه فيما بقي من الصلاة، فمضى على نيته ذلك، ويركع ويسجد ينوى بذلك كله الصلاة لنفسه أو يؤم أمامه ولا ينوي اتباع الإمام في شيء من ذلك غير أن ركوعه وسجوده كان بعد ركوع الإمام وسجوده، فلم يزل يفعل ذلك حتى أتم صلاته، قال: صلاته تامة، ولا يخرجه شيء من ذلك من صلاة الإمام؛ لأنه لم يفتتح الصلاة بتكبير مستقبل.
قال: ولا يشبه هذا أن يأتم ببعض المأمومين إذا ائتم ببعض المأمومين، فقد خرج من صلاة إمام إلى صلاة إمام غيره أما هنا بخلافه، فالرجل لا يكون إمام نفسه.

وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل دخل مع الإمام في صلاة الظهر ينوى التطوع ثم ذكر أنه لم يصل الظهر فقطعها ثم استأنف التكبير معه ينوي الظهر، فلا قضاء عليه لما كان من النافلة؛ لأنها صلاة واحدة، فإذا صلاها لم يكن عليه أن يقضيها، وكذلك لو دخل فيها ينوي الظهر ثم تكلم، ثم استقبل التكبير والدخول فيها ينوي النافلة ثم أفسدها لم يكن عليه إلا المكتوبة.
وفي «نوادر هشام» : قال: سمعت محمداً في رجل صلى المغرب في منزله ثم أدرك الجماعة، فدخل معهم والإمام في التشهد في آخر صلاته، قال: فإذا سلم الإمام فعلى هذا الداخل معه أن يصلي أربعاً كما يصلي الظهر، لكن يقرأ في كل ركعة بالفاتحة والسورة.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل صلى أربع ركعات جالساً، فلما قعد في الثانية منها قرأ وركع قبل أن يتشهد، قال: هو بمنزلة القيام ويمضي في صلاته لأنه من عمل القيام، وإن كان حين رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية نوى القيام، ولم يقرأ ثم علم، قال: يعود ويتشهد وليست النية في هذا بعمل، وهذا لأنه جالس حقيقة إلا أن في الفصل الأول وجد ما هو من أعمال القيام وهو القراءة، فاعتبر قياماً، وفي الفصل الثاني وجد مجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في تغيير الحقائق.
ذكر الحاكم في «المنتقى» : رجل يصلي بإيماء، فلما كان في الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام فقرأ، وكان في قراءته مقدار التشهد ثم تكلم، قال: أجزته صلاته، قال: ولا يكون قائماً بنية القيام حتى يكون مع ذلك عمل يجزىء من شيء في الصلاة أو بزيادة ركوع أو سجود.

(2/216)


ولو كان صلى ركعتين بإيماء، فلما رفع رأسه من السجود ظن أنه (في) الركعة الثانية، فنوى أن يكون قائماً، فقرأ {الحمد} وسورة ثم ذكر أنها الثالثة، قال: هذا يركع للثالثة ولا يقول التشهد الثانية؛ لأنه صار بالقراءة بمنزلة من قام.

ذكر هو في «المنتقى» أيضاً: رجل صلى الظهر بإيماء، فصلى ركعتين بغير قراءة ساهياً، ثم ظن أنه إنما صلى ركعة، فنوى القيام، فقرأ وركع وسجد، ثم علم أن هذه الثالثة وصلى الرابعة بقراءة أجزأته صلاته.
ولو كان قرأ في الأوليين، فلما رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام ومكث ساعة كذلك، ثم استيقن أنها الرابعة، فلم يحدث فيه في الجلوس حتى مكث كذلك مقدار التشهد لم تفسد عليه صلاته، وبه ختم.

الفصل الخامس والثلاثون في المتفرقات
رجل أسلم في دار الحرب، فمكث فيها شهراً ولم يعلم أن عليه صلاة، فليس عليه قضاؤها، وقال زفر رحمه الله عليه قضاؤها؛ لأن بقبول الإسلام صار ملتزماً أحكام الإسلام، ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله له، وذلك غير مسقط للقضاء بعد تقرر السبب، كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة.
حجتنا: أن ما يجب بخطاب الشرع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل علمه به، ألا ترى أن أهل قباء افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس بعد فرضية التوجه إلى الكعبة، وجوز ذلك لهم رسول الله عليه السلام، لأنه لم يبلغهم التوجه للكعبة، وكذلك شرب بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الخمر بعد نزول آية التحريم قبل علمهم، وفيه نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 93) والمعنى فيه، وهو أن الخطاب بحسب الوسع وليس في وسع الآدمي الائتمار قبل العلم، فلو ثبت حكم الخطاب في حقه كان فيه من الحرج ما لا يخفى، ولهذا قلنا أن الحجر في حق المأذون والقول في حق الوكيل لا يثبت قبل العلم.

قال: والعلم الذي (يجب) به عليهم الصلاة أن يخبره بذلك رجلان عدلان أو رجل وامرأتان في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وإن كان ذمياً أسلم في دار الإسلام، فعليه قضاؤها استحساناً. وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: هما في القياس سواء، ولا قضاء عليهما حتى تلزمهما الحجة، وهو

(2/217)


قول الحسن رحمه الله، ولكنا ندع القياس ونقول كما قال أبو حنيفة.
وجه القياس يأتينا أن الشرائع لا تلزمه إلا بالعلم والسماع، ولم يوجد، فلا يلزمه القضاء.

وجه الاستحسان: وهو أن الخطاب شائع في دار الإسلام، فيقوم شيوع الخطاب مقام العلم به؛ لأنه ليس في وسع المبلغ أن يبلغ كل واحد، إنما الذي في وسعه أن يجعل الخطاب شائعاً، ولأنه ما دام في دار الإسلام يسمع الأذان والإقامة، ويرى حضور الناس الجماعات في كل وقت، فإنما اشتبه عليه ما لا يشتبه ولأنه في دار الإسلام يجد من يسأل عنه، فترك السؤال منه تقصير بخلاف دار الحرب.
وعنه أيضاً: من أسلم ومكث سنين لا يعلم أن عليه صلاة أو زكاة أو صيام، وهو في دار الحرب أو في دار الإسلام، قال: ليس عليه قضاؤها معنى، قال: وإن أعلمه بذلك رجلان أو رجل وامرأتان ممن هو عدل، ثم فرط في ذلك كان عليه أن يقضي ما فرط فيه من وقت إعلامه، في دار الحرب كان، أو في دار الإسلام.
فإن بلغه في دار الحرب رجل واحد، فعليه القضاء فيما ترك عندهما، وهو إحدى الروايتين عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية الحسن عنه: لا يلزمه القضاء حتى يخبره رجلان عدلان مسلمان أو رجل وامرأتان، وهذا بناءً على أصل معروف، وهو أن خبر الواحد هل هو حجة ملزمة أم لا، عند أبي حنيفة: لا يكون حجة، وعندهما: يكون حجة، فالعدد ليس بشرط عندهما.

وأما العدالة هل هي شرط؟ عندها جواب «المبسوط» أنهما شرط عندهما، وروى الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية أنها ليس بشرط عندهما، حتى إذا أخبره رجل فاسق أو صبي أو امرأة أو عبد، فإن الصلاة تلزمه، وموضع هذا كتاب الاستحسان.
وجه رواية الحسن: وهو أن هذا خبر ملزم، فيشترط فيه العدد كالحجر على المأذون وعزل الوكيل والإخبار بجناية العبد، ووجه الرواية الأخرى وهو قولهما وهو الأصح أن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ، قال عليه السلام: «رحم الله امرءاً سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها، ثم أداها إلى من لم يسمعها» فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل، وخبر الرسول هناك يلزم فههنا كذلك.

وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف رحمه الله: من أخبره من عبد أو صبي أو فاسق، فهو إعلام وعليه قضاء ما لم يصلِ بعد الإعلام، وعن أبي حنيفة رحمه الله: إذا أخبره بذلك أناس من أهل الذمة لم يكن عليه أن يقضي شيئاً مما مضى، وقال أبو يوسف: إذا لم يبلغه وهو في دار الحرب لم يقض وإن كان في دار الإسلام. قضى (127ب1) .
ذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهم الله فيمن قال: لله عليّ أن أصلي

(2/218)


نصف ركعة أو أحج نصف حجة، قال: لا شيء عليه، ولو قال: لله عليّ أن أصلي ركعة أو أصوم من نصف يوم وجب عليه صوم يوم وصلاة ركعتين.
وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصلي نصف ركعة، فعليه ركعتان، فلو قال: لله عليّ أن أصلي ثلاث ركعات، فعليه أربع ركعات، فصار عن أبي يوسف في قوله: نصف ركعة روايتان. المعلى عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصلي الظهر ثماني ركعات ليس عليه إلا الأربع.

رجل دخل مع الإمام في الركعة الثالثة من المغرب ينوي به التطوع، فإنه يصلي الثالثة معه، فإذا سلم الإمام قام هو يصلي ثلاث ركعات بقراءة، يقعد في الأولى منهن؛ لأن شروعه في صلاة قد صح، فيلزمه ما على إمامه، والذي على إمامه ثلاث ركعات، إلا أن التطوع ثلاث ركعات غير مشروع، فلهذا يضم إليه الرابعة حتى يصير متطوعاً بأربع ركعات، وهذا لأن الشروع كالنذر، ثم لو نذر ثلاث ركعات يلزمه أربع ركعات، فكذلك إذا شرع في ثلاث ركعات وجب أن يلزمه أربع ركعات، ويقرأ في الثلاث كلها، لأنها تطوع والقراءة في التطوع في كل ركعة فرض، ويقعد في الأولى من الثلاث؛ لأن الأولى من الثلاث ثانية صلاته، والقعدة على رأس الركعتين من التطوع واجب، فإن لم يقعد في الأولى منهن جازت صلاته استحساناً، وهو قولهما.

وفي القياس تفسد صلاته، وهو قول محمد وزفر رحمهما الله، ولا يقعد في الثانية من الثلاث؛ لأنها ثالثته، والقعدة على رأس الثالثة من التطوع بدعة غير مشروعة، ويقعد في الثالثة ويسلم؛ لأنها آخر صلاته، والقعدة في آخر الصلاة فرض.
الرجل إذا كان خلف الإمام، ففرغ الإمام من السورة لا يكره له أن يقول صدق الله، وبلغت رسله، ولكن الأفضل أن لا يقول ذلك. ذكره شيخ الإسلام في «شرحه» .
وفي «الأصل» : إذا صلى وقدامه عَذَرَة أو بول لا يفسد ذلك صلاته، ولكن المستحب له أن يبعد عن موضع النجاسة عند الصلاة، ورأيت في موضع آخر: ويكره أن يصلي وقدامه عَذَرَةٌ أو بول.

وفي «الأصل» أيضاً: يكره للمسافر أن يصلي على الطريق، بل ينبغي له أن يتنحى عن الطريق؛ لأن الطريق مشغول بحق المسلمين، فهو كما لو صلى في أرض مغصوبة، فإن وجد موضعاً مباحاً يصلي في ذلك الموضع ولا يصلي على الطريق، فإن لم يجد موضعاً مباحاً ولكن وجد أراضي الناس، فإن كانت الأراضي مزروعة لا يصلي في الأراضي، ولكن على الطريق؛ لأن الضرر في الصلاة في الأراضي في هذه الصورة أكثر من الضرر في الصلاة في الطريق، وإن لم تكن الأراضي مزروعة يصلي في الأراضي، ولا يصلي في الطريق، وإن كانت الأرض للذمي، فالصلاة في الطريق أولى من الصلاة في الأرض.
وإذا ذكر سجدتين من ركعتين بدأ بالأولى منهما؛ لأن القضاء معتبر بالأداء، فكما أن الثانية تترتب على الأولى في الأداء فكذلك في القضاء.

(2/219)


وعند الشافعي رحمه الله: من ترك سجدة وصلى بعدها ركعة أو ركعتين يأتي بتلك السجدة ويعيد ما صلى بعدها؛ لأنه حصل قبل أوانه. وهذا بناءً على أصله أن زيادة الركعة، والركعتين في احتمال الرفض والإلغاء كزيادة ما دون الركعة، فإنه عندنا زيادة الركعة الواحدة لا يحتمل الرفض والإلغاء والركعة تتقيد بالسجدة الواحدة، فأداء الركعة الثانية أداء معتبر، فليس عليه إلا قضاء المتروك، وعند الشافعي رحمه الله: الركعة لا تتقيد بسجدة واحدة بل تتقيد بسجدتين.
وجه قوله: أن وجود الركعة الثانية إنما يكون بعد تمام الركعة الأولى، وتمام الركعة الأولى إنما يكون بالسجدتين، وهذا الرجل لم يسجد سجدتين، فلم يصح القيام إلى الثانية، والركعة الأولى محتاجة إلى سجدة واحدة، فالتحقت السجدة الواحدة من الركعة الثانية إلى الركعة الأولى، فصارت الأولى ركعة تامة.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: وجود الركعة الثانية إنما يكون بوجود الركعة الأولى، ووجود الركعة الأولى إنما يكون بوجود أركانها، وأركانها القيام والقراءة والركوع والسجود، والسجدة الأخيرة شرعت متمة للركعة، وتمام الشيء وصفه، والشيء إنما يوجد بوجود أصله، لا بوجود وصفه، وقد وجد هنا أصل الركعة وهو القيام والقراءة والركوع والسجدة، فيصح القيام إلى الثانية، وإذا صح القيام إلى الثانية، فعليه أن يسجد سجدتين، وكذلك إذا ترك ثلاث سجدات من ثلاث ركعات، ثم ذكر في الرابعة فعليه أن يسجد ثلاث سجدات، لأن عليه أن يبدأ بالأولى فالأولى، والأسبق فالأسبق، وعليه سجدتا السهو؛ لأنه أخر ركناً وتأخير الركن يوجب سجدتي السهو إذا كان ناسياً.

قال: وكذلك إذا كانت إحديهما تلاوة والأخرى صلبية، فإنه يبدأ بالأولى منهما، وقال زفر رحمه الله: يبدأ بالصلبية؛ لأنها أقوى، ولكنا نقول: القضاء معتبر بالأداء، فإذا كانت سجدة التلاوة من الركعة الأولى، والصلبية من الركعة الثانية بدأ بالتلاوة لتقدم وجوبها في الأداء، فكذلك في القضاء.
وإذا سلم وانصرف ثم ذكر أن عليه سجدة صلبية أو سجدة تلاوة، فإن كان في المسجد لم يتكلم عاد إلى صلاته استحساناً، وفي القياس: إذا صرف وجهه عن القبلة لم يمكنه أن يعود إلى صلاته، وهو رواية محمد رحمه الله.
وجه القياس: وهو أن صرف الوجه عن القبلة مفسد للصلاة كالكلام، فيمنعه من البناء.
وجه الاستحسان: وهو أن المسجد من حيث إنه مكان الصلاة مكان واحد على ما عرف فبقاؤه في المسجد كبقائه في مكان الصلاة، وصرف الوجه عن القبلة غير مفسد للصلاة، كما في حق الملتفت في صلاته.
m

وهذا القياس والاستحسان نظير القياس والاستحسان فيمن ظن في صلاته أنه رعف، فانسحب ليتوضأ، فوجده مخاطاً، وهو في المسجد، وهناك يبنى على صلاته استسحاناً، وفي القياس: لا يبني، وروي عن محمد رحمه الله رواية أخرى، هذا إذا كان

(2/220)


يذهبُ ووجهه إلى القبلة بأن كان باب المسجد على حائط القبلة، فأما إذا أعرض عن القبلة بوجهه تفسد صلاته وإن كان في المسجد قياساً واستحساناً..
فإن خرج من المسجد فسدت صلاته في الصلبية؛ لأنها من أركان الصلاة، فتركها يوجب فساد الصلاة، وإن كانت تلاوة لا توجب فساد الصلاة لما ذكرنا أنها واجبة، وترك الواجب لا يوجب فساد الصلاة، وعلل محمد رحمه الله في الصلبية لفساد صلاته بالخروج عن المسجد، فقال: لو بقي في الصلاة وقد خرج من المسجد لبقي فيها وقد مشى فرسخاً أو فرسخين، وهذا فسخ محال هذا إذا كان في المسجد.
فإن كان في الصحراء، فإن تذكر قبل أن يجاوز أصحابه عاد إلى مكان الصلاة وأتم الصلاة؛ لأن بحكم اتصال الصفوف صار ذلك الموضع كالمسجد بدليل صحة الاقتداء.

ولم يذكر في «الكتاب» إذا كان يمشي أمامه. وقيل: وقته بقدر الصفوف خلفه اعتباراً لأحد الجانبين بالآخر، والأصح أنه إذا جاوز موضع سجوده، فذلك في حكم خروجه من المسجد لمنعه من البناء بعد ذلك.

ذكر الإمام السرخسي رحمه الله وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم: رجل افتتح الصلاة، فقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع، ثم ذكر ذلك قبل أن يصلي الثالثة، فهذا قد صلى ركعة واحدة؛ لأنه لما قام في الركعة الأولى فقرأ وركع، فقد صح هذا الركوع؛ لأنه حصل، بعد قيام وقراءة فوقع معتبراً إلا أن توقف صحة هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية لم يصح قيامه؛ لأنه إنما يصح القيام من الأولى إلى الثانية بعد تمام الأولى، وهنا قام إلى الثانية قبل تمام الأولى، فلم يصح قيامه، وصار كأنه لم يكن، فالسجدتان لا تكونان معتبرتين من الركعة الثانية؛ لأنهما حصلتا قبل الركوع، والركعة الأولى محتاجة إلى وجود سجدتين، فانصرفت السجدتان إلى الركعة الأولى، فصارت ركعة تامة.
فلو أنه قام وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام في الثانية وركع وسجد ثم قام في الثالثة وسجد سجدتين ولم يركع قال: هذا إنما صلى ركعة واحدة بالاتفاق، إلا أنه اختلفت الروايات أن المعتبر هي الركعة الأولى، وفي رواية باب السهو: المعتبر هي الثانية.
وجه رواية باب الحدث وهو أنه لما قام وركع، فقد وقع هذا الركوع موقعه إلا أنه يوقف هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا لم يسجد وقام إلى الثانية لم يصح قيامه، وصار كأنه لم يكن، فالتحقت السجدتان بالركعة الأولى، فصارت ركعة تامة وبطلت الثانية والثالثة.

وجه (128أ1) رواية باب السهو وهو أنه لما قام إلى الثانية وركع وسجد، فقد وقعت هذه السجدة محلها؛ لأنها حصلت بعد قيام وركوع، ومن ضرورة وقوعها محلها بطلان الأولى، فكانت المعتبرة هي الركعة الثانية وبطلت الثالثة أيضاً؛ لأن هذه سجدة حصلت قبل الركوع، فلا يكون معتبراً.

فلو أنه قام وسجد ولم يركع ثم قام في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام في الثالثة

(2/221)


وركع وسجد، قال: هذا صلى ركعة واحدة أما في رواية باب الحدث: المعتبر هي الركعة الثانية؛ لأنه لما قام وسجد ولم يركع لا تكون هذه السجدة معتبرة؛ لأنها حصلت قبل الركوع، فلما قام إلى الثانية وركع صح هذا الركوع؛ لأنه حصل بعد قيام، إلا أنه توقف صحة هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثالثة لم يصح قيامه وركوعه؛ لأنه قام وركع قبل تمام الثانية، فصار كأنه لم يقم ولم يركع وسجد سجدتين، والركعة الثانية محتاجة إلى وجود السجدتين، فانصرفت السجدتان إلى الركعة الثانية، فصار المعتبر هي الركعة الثانية، وفي رواية باب السهو المعتبر هي الركعة الثالثة، والمعنى ما بينا.
فلو أنه قام وركع ولم يسجد ثم قام في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام في الثالثة وسجد ولم يركع، فهذا قد صلى ركعة واحدة في الزيادات كلها؛ لأنه لما قام في الأولى وركع ولم يسجد وقع هذا الركوع معتبراً؛ لأنه حصل بعد قيام وقراءة، فإذا لم يسجد وقام إلى الثانية لم يصح قيامه وركوعه، فإذا قام إلى الثالثة وسجد التحقت السجدتان إلى الركعة الأولى، فصارت ركعة تامة وبطلت الوسطى وعليه سجود السهو في المسائل كلها؛ لأنه أخر ركناً من أركان الصلاة، وبتأخير الركن تجب سجدتا السهو، ولا تفسد صلاته إلا في رواية عن محمد رحمه الله، فإنه يقول: زيادة السجدة الواحدة كزيادة ركعة، بناءً على أصله أن السجدة الواحدة قربة. بيانه في سجود الشكر.

فأما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: السجدة الواحدة ليست بقربة إلا سجدة التلاوة، وزيادة ما دون الركعة لا يكون مفسداً للصلاة إذا سلم وعليه سجدة السهو، فسجدها أو سجد إحديهما ثم أحدث متعمداً أو قهقهة، فإن صلاته تامة وعليه الوضوء لصلاة أخرى في القهقهة؛ لأن حال ما بعد سجدتي السهو أو بعد إحديهما كحال قعود مقدار التشهد، ولو فعل شيئاً من هذه الأشياء بعدما قعد قدر التشهد لا تفسد صلاته، فكذلك ههنا إذا اقتدى المتطوع، فصلى الظهر في أول صلاته أو في آخر صلاته قطعها، فعليه قضاء أربع ركعات، وهو قياس المسافر يقتدي بالمقيم في صلاة الظهر ثم يقطعه على نفسه.
فرق بين هذا وبين الرجل إذا افتتح التطوع ينوي أربع ركعات، فلما صلى ركعتين بدا له أن يتمها، فسلم على رأس الركعتين، فإنه لا تلزمه الركعتان عند أبي حنيفة ومحمد، وهو الظاهر من قول أبي يوسف.
افتتح الظهر، فنوى أن يصليها ستاً ثم بدا له وسلم على الأربع تمت صلاته، وكذلك إن دخل المسافر في صلاة الظهر، ونوى أن يصلي أربع ركعات، فبدا له فصلى ركعتين جازت صلاته؛ لأن الظهر في حق المسافر ركعتان كالفجر في حق المقيم فنية الزيادة على ذلك يكون لغواً، وليس عليه شيء، معناه: لا يجب عليه سجدتا السهو.
افتتح التطوع ونوى ركعتين وصلى ركعة بقراءة وركعة بغير قراءة فسدت صلاته، فإن لم يسلم حتى قام وصلى ركعتين وقرأ فيهما ونوى قضاء عن الأولى، فإنه لا تجزئه وعليه أن يستقبل الصلاة ركعتين، وكذلك إذا صلى الفجر وقرأ في ركعة منها، ولم يقرأ في

(2/222)


الأخرى فسدت صلاته، ولو أنه لم يسلم ولكن قام وصلى ركعتين، وقرأ فيهما ونوى قضاء عن الأوليين، فإنه لا تجزئة وعليه أن يستقبل الصلاة.

وفي «نوادر أبي سليمان» عن محمد: رجل افتتح الصلاة قاعداً من غير عذر ثم قام يصلي بذلك التكبير لم تجزئه صلاته، ولو افتتح قائماً ثم قعد من غير عذر، فجعل يركع مع الإمام وهو قاعد ويسجد، قال: لا تجزئة، وإن كان لم يسجد بالأرض، لكنه أومأ إيماءً، فإنه يقوم، ويتبع الإمام في صلاته وهي تامة، أي صلاته تامة، وقد أتى فيما فعل يريد بقوله: يقوم ويتبع الإمام في صلاته، أنه إذا أومأ بالركوع والسجود ولم يسجد ينبغي له أن يقوم ويركع ويسجد ليصير إتياناً للمأمور به وصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه سوى الإيماء وبمجرد الإيماء لا تفسد صلاته، وقوله: وقد أساء فيما فعل، معناه: وقد أساء فيما أومأ أول مرة والله أعلم.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا قعد على رأس الرابعة في ذوات الأربع، ثم سها وقام إلى الخامسة، فجاء إنسان واقتدى به يريد التطوع، فعليه قضاء ست ركعات، لأنها صلاة واحدة.
وفي «نوادر بشر بن الوليد» عن أبي يوسف: إذا سلم الإمام عن يمينه وعليه سجدتا السهو، فجاء إنسان واقتدى به في هذه الحالة يريد التطوع، ثم تكلم قبل أن يسجد الإمام، فليس عليه شيء وإن سجد الإمام ولم يسجد الرجل معه ثم تكلم، فعليه قضاء الأربع، وهذا لأن السلام محلل قاطع حرمة الصلاة، إلا أنه إذا كان عليه سهو تعود حرمة الصلاة إذا سجد، وإذا لم يسجد لم تعد، وظهر أن الاقتداء لم يصح، فلا يلزمه شيء.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: لو أن رجلاً مسافراً صلى ركعتين ولم يقعد على رأس الثانية حتى قام ساهياً، وهو يظن أنه صلى ركعة، فدخل رجل معه في هذه الحالة يريد التطوع، ثم إن الإمام أخبر بما صنع فقطع صلاته، فعلى هذا الداخل معه أن يصلي ركعتين، وإن قعد المسافر على رأس الثانية ثم قام ساهياً أو عامداً وصلى ركعتين تمام الأربع، فدخل معه هذا الرجل في صلاته يريد التطوع، فعليه أربع ركعات.

وفي «الرقيات» : عن ابن سماعة عن محمد افتتح الرجل صلاة ينويها ظهراً ظنها عليه، ثم دخل معه رجل في آخر صلاته يريد التطوع ثم رفضها الإمام، وأفسدها لما علم أنه ليس عليه، فلا شيء عليه ولا على الداخل.
الإمام إذا قام إلى الخامسة ناسياً قبل أن يقعد على رأس الرابعة في ذوات الأربع ثم عاد الإمام إلى القعدة ولم يعد المقتدي وقيد الخامسة بالسجدة، جازت صلاة الإمام. واختلفوا في صلاة المقتدي، والإعادة أحوط.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من جمع بين صلاتين بغير عذر، فقد أتى باباً من أبواب الكبائر» ، هكذا ذكره الفقيه أبو جعفر رحمه الله قال رحمه الله:

(2/223)


والنوم ليس بتفريط، وروي عن رسول الله عليه السلام: «وإنما التفريط أن يدع الرجل الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى» .
وفي «متفرقات أبي جعفر» : أن رجلاً جاء والإمام لم يسجد بعد فكبر، ولم يشاركه في الركوع حتى رفع الإمام رأسه، قال: يسجد معه على سبيل المتابعة، قال: ولهذا قلنا: إن الرجل إذا أدرك الإمام وهو قائم، فكبر وركع الإمام ولم يركع هو معه، وسجد الإمام ولم يسجد هو معه أيضاً ولم يتابعه حتى تفرد وأدى الركوع والسجدتين جميعاً في حالة الانفراد، لا تفسد صلاته، وكذلك لو جاء والإمام راكع، فلم يتابعه في الركوع حتى رفع رأسه ثم تفرد بالركوع جازت صلاته.
رجل معه ثوبان بأحدهما نجاسة خفيفة لا يعلم بأيهما، فصلى في إحدى الثوبين الظهر وفي الآخر العصر، وفي الأول المغرب، وفي الآخر العشاء، ذكر هذه المسألة في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» ، وذكر أن فيها ثلاثة أجوبة عن أصحابنا رحمهم الله.
روي في كتاب «التحري» عن علمائنا المتقدمين أن صلاة الظهر والمغرب جائزتان، وصلاة العصر والعشاء فاسدتان، وروي عن خلف بن أيوب أن صلاة الظهر جائزة وما سواها فاسدة، وعن أبي القاسم أحمد بن ... أن الصلوات كلها جائزة.

قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله......... إنه إنما اختلفت أجوبتهم لا ختلاف الوضع، فمن قال بأن الصلوات كلها جائزة، فوضع المسألة عنده أن هذا الشخص حال ما أراد أن يصلي الظهر تحرى، ووقع تحريه على أحد الثوبين أنه هو الطاهر بعلامة رأى فيه، فصلى فيه الظهر ثم ظهر عنده أن الثوب الثاني هو الطاهر بعلامة رأى فيه حال ما أراد أن يصلي العصر، فصلى العصر في الثوب الآخر، ثم ظهر عنده حال ما أراد أن يصلي المغرب أن الطاهر هو الثوب الأول، فصلى فيه المغرب، ثم ظهر عنده حال ما أراد أن يصلي العشاء أن الطاهر هو الثوب الثاني، فصلى العشاء في الثوب الثاني، وإنما جازت الصلاة كلها في هذه الصورة؛ لأن اجتهاد الرأي إذا افضى إلى طهارة ثوب يجب عليه أن يصلي فيه، ولا يسعه غير ذلك، فقد صلى في كل ثوب بإيجاب الشرع أداء الصلاة فيه فيجوز.
ومن قال بجواز صلاة الظهر والمغرب وبفساد العصر والعشاء، فوضع المسألة عنده أنه تحرى ووقع تحريه على أحد الثوبين، أنه طاهر من غير أن يرى فيه علامة تدل على طهارته، فصلى فيه الظهر، ثم صلى العصر في الآخر من غير تحر ومن غير أنه وقع في رأيه أنه هو الطاهر، ثم صلى المغرب ولم يعلم بأن عليه إحدى الصلاتين (128ب1) الأوليين ثم صلى العشاء، وإنما جاز ظهره في هذه الصورة لأنه أداها في ثوب طاهر

(2/224)


عنده، وإنما فسد العصر لأنه أداها في ثوب نجس عنده، وهو غير مضطر إلى الصلاة فيه.
وإنما جاز المغرب، لأنه صلاها وفي زعمه أنه ليس عليه فائتة وإنما فسدت العشاء لأنه صلاها في حين حكمنا بنجاسته حين حكمنا بجواز الظهر، وهو غير مضطر في الصلاة فيه باجتهاده ورأيه.
ومن قال بجواز الظهر وبفساد ما عداها من الصلاة، فوضع المسألة على قوله: أنه صلى الظهر في أحد الثوبين من غير تحر، ثم صلى العصر من غير تحر في الثوب الآخر، ثم صلى المغرب وهو يعلم بفساد العصر ثم صلى العشاء والله تعالى أعلم.

مسائل هذا الكتاب مبنية على أصول معروفة في كتاب الصلاة
أحدها: أن الترتيب في أركان الصلاة شرط أدائها إلا فيما شرعت مكرّرة كالسجدتين، فإن الترتيب في أداء السجدتين ليس بشرط، حتى لو أتى بالسجدة الأولى في آخر الصلاة تجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنما لم يشترط الترتيب فيهما بالنص واعتباراً بالركعات، فإن الترتيب في أداء الركعات ليس بشرط لما كانت الركعات مكررة حتى إنه لو أدرك الإمام في الركعة الثانية من صلاة الفجر وصلى معه، فإنه تجزئه، وإن صلى الثانية قبل الأولى.
وأصل آخر: أن المتروكة إذا قضيت التحقت بمحلها وصارت كالمؤداة في محلها.
وأصل آخر: أن سلام السهو لا يخرج المصلي عن حرمة الصلاة.
وأصل آخر: أن تأخير الركن يوجب سجدتي السهو.
وأصل آخر: أن السجدة إذا فاتت عن محلها لا تجوز إلا بنية القضاء، ومتى لم تفت عن محلها تجوز دون نية القضاء، وإنما تفوت عن محلها فتحلل ركعة كاملة، وبما دون الركعة الكاملة لا تفوت عن محلها، لأن ما دون الركعة محل الرفض، فكان في حكم العدم، والركعة الكاملة ليست بمحل الرفض، فلا تكون في حكم العدم.
وأصل آخر: أن زيادة ما دون الركعة الكاملة، لا يوجب فساد الصلاة، وزيادة الركعة الكاملة توجب فساد الصلاة إذا كانت الزيادة قبل إكمال أركان الفريضة، ومعنى زيادة ما دون الركعة الكاملة زيادة ركوع أو زيادة سجدة، ومعنى زيادة الركعة الكاملة ركوع وسجدة. وعن محمد أن زيادة السجدة الواحدة قبل إكمال الفريضة يفسدها.
وأصل آخر: أن الصلاة متى جازت من وجه وفسدت من وجه أو جازت من وجوه وفسدت من وجه يحكم بالفساد احتياطاً، لأمر المعتاد حتى يخرج عن عهدة ما لزمه ديناً في الذمة بيقين.

وأصل آخر: أن المأتي بها من السجدات إذا كان أقل من المتروكات فإنه يخرج المسألة عن اعتبار المأتي بها، وإن كانت المتروكات أقل من المأتي بها، فإنه يخرج المسألة على اعتبار المتروكات؛ لأن التخريج على الأقل أسهل، وإن كانا على السواء، فالمصلي به بالخيار إن شاء خرج المسألة على اعتبار المأتي بها، وإن شاء خرج المسألة على اعتبار المتروكة.

(2/225)


وأصل آخر: إذا شك أنه ترك سجدة أو ركعة، فإنه يأتي بهما احتياطاً ليخرج عن عهدة ما عليه بيقين، وينبغي أن يقدم السجدة على الركعة، ولو قدم الركعة على السجدة تفسد صلاته، وإنما تفسد صلاته إذا قدم الركعة على السجدة؛ لأنه ربما يكون المتروك السجدة، فإذا أتى بالركعة يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال الفرض، وإنه يتوجب فساد الصلاة، وأما إذا قدم السجدة على الركعة لا تفسد صلاته؛ لأنه إن كان المتروك هي السجدة، فإذا أتى بالسجدة فقد تمت صلاته، فبالإتيان بالركعة بعد ذلك يصير منتقلاً إلى الفعل بعد إكمال الفرض، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان المتروك الركعة، فإذا أتى بالسجدة تقع هذه السجدة زائدة وزيادة سجدة واحدة لا تفسد الصلاة، فلهذا قلنا: إنه يقدم السجدة، فإذا سجد يتشهد ثم يقوم ويصلي ركعة ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو.

قال محمد رحمه الله: رجل صلى الغداة وترك منها سجدة، فإنه يسجد تلك السجدة سواء علم أنه تركها من أي ركعة، وإذا أتى بها تمت صلاته إذ ليس فيه أكثر من أن يترك الترتيب في السجدة، أو أخر ركناً بعذر إلا أن الترتيب في السجدة ليس بشرط، وتأخير الركن بعذر غير جائز، فبعد ذلك ينظر إن علم أنه تركها من الركعة الأولى ينوي القضاء؛ لأنها فاتت عن محلها، أوإن علم أنه تركها من الركعة الثانية لا ينوي القضاء؛ لأنها لم تفت عن محلها، وإن لم يعلم أنه تركها من أي ركعة ينوي القضاء؛ لأن على أحد تقديرين يلزمه فيه القضاء، وعلى التقدير الآخر لا يلزمه فيه القضاء، فقلنا بأنه ينوي القضاء احتياطاً، ويستوي إن ذكرها قبل السلام أو بعده في الحالين جميعاً إذا سجد تلك السجدة تمت صلاته؛ لأن هذا سلام السهو؛ لأنه سلم وعليه ركن من أركان الصلاة، فلم يخرج عن حرمة الصلاة، فيصير مؤدياً السجدة في حرمة الصلاة، فتتم صلاته لهذا.
ثم إذا سجد ينبغي أن يعقد قدر التشهد؛ لأن تلك القعدة قد ارتفعت بالعود إلى السجدة؛ لأن محل السجدة قبل القعدة فترتفض القعدة بالعود إلى السجدة، ليكون إتماماً لسجدة في محلها ثم يسلم ويسجد سجدتي السهو لها لتأخير ركن عن محله أو لزيادة قعدة أتى بها في الصلاة.
وإن ترك سجدتين منها، فهذه المسألة على أربعة أوجه:
إن علم أنه تركها من الركعة الأولى، فعليه أن يصلي ركعة واحدة بكمالها؛ لأن هذا الرجل ما صلى ركعة واحدة؛ لأنه أتى بركوعين؛ أحدهما: في الركعة الأولى، والثاني: في الركعة الثانية ثم أتى بسجدتين عقيبهما فهاتان السجدتان تنقلان إلى الركوع الأول على رواية باب الحدث وإن نقص الركوع الثاني، وعلى رواية باب السهو هاتان السجدتان للركوع الثاني ويرتفض الركوع الأول، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة واحدة، فيصلي ركعة أخرى.
وإن علم أنه تركهما من الركعة الثانية، فإن عليه أن يسجد سجدتين حتى يتم الركعة الثانية، ويقعد قدر التشهد ويسلم ويسجد للسهو، وإن علم أنه تركهما من ركعتين، فإنه

(2/226)


يسجد سجدتين ينوي بالأولى قضاء ما عليه، ولا ينوي بالثانية قضاء ما عليه، ثم يقعد قدر التشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن لم يعلم أنه تركهما من أي ركعة، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه تلزمه سجدتان من وجهين: وهو ما إذا تركهما من ركعتين أو من الركعة الثانية، وتلزمه ركعة من وجه، وهو ما إذا تركهما من الركعة الأولى، فيجمع بينها احتياطاً، وينبغي أن يقدم السجدتين على الركعة؛ لأنه لو قدم الركعة على السجدتين، والواجب عليه سجدتان تفسد صلاته لانتقاله إلى النفل قبل إكمال الفرض، وإذا قدم السجدتين فالواجب عليه ركعة لا تفسد صلاته؛ لأن زيادة السجدة والسجدتين قبل إكمال الفرض لا تفسد الفرض، فلهذا قلنا بتقديم السجدتين وينوي بالسجدة الأولى قضاء ما عليه؛ لجواز أنه ترك من كل ركعة سجدة، فتكون السجدة الأولى قضاء ما عليه لفواتها عن محلها، فتلزمه نية القضاء، ولا تلزمه نية القضاء بالسجدة الثانية؛ لأنها لم تفت عن محلها.
وإذا سجد سجدتين يقعد بعدها قدر التشهد لا محالة؛ لجواز أن عليه سجدتين لا غير، وقد أتى بها فيفرض القعدة........ عقيبهما إذ قعدة الختم فرض تفسد الصلاة بتركها، ولو كان الواجب عليه الركعة لا غير، فزيادة التشهد لا يضره، فيقعد عقيب السجدتين قدر التشهد لهذا، ثم يقوم ويصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
فإن قيل لماذا لا نأمره بركعة أخرى حتى لا يكون متنفلاً بركعة واحدة إن كان الواجب عليه سجدتان لا غير؟

قلنا: لوجوه: أحدها: أن الركعة الأخرى متردد بين البدعة والتطوع وما تردد بين البدعة والتطوع لا يؤتى به، فأما الركعة الأولى يتردد بين الفرض وبين البدعة، وما يتردد بين الفرض والبدعة يؤتى بها، وهو أصل معروف في كتاب الصلاة، ولأنه يصير متطوعاً بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وذلك منهي عنه، ولأنه كما يتوهم أن يكون متنفلاً بركعة إذا سلم عليها؛ لجواز أن يكون (129أ1) الواجب عليه سجدتان يتوهم ذلك إذا أضاف إليهما ركعة أخرى، لجواز أن الواجب عليه قضاء ركعة، فلا معنى للاشتغال بهذا.
وإن ترك ثلاثة سجدات ذكر في «الكتاب» أنه يسجد سجدة، ويصلي ركعة.
ووجه ذلك: أن هذا الرجل في الحقيقة ما سجد إلا سجدة واحدة، وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة، ثم لا يقعد بعد هذه السجدة، لأنه متيقن أنه لم يتم صلاته، ولكنه يصلي ركعة ثم يقعد ويسلم ويسجد للسهو.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: ما ذكر محمد رحمه الله من الجواب في هذه الصورة خطأ، والصحيح أنه تلزمه ثلاث سجدات وركعة؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات، وهو أن يكون المقيد بالسجدة الركعة الأولى، فيسجد سجدة أخرى تتميماً لتلك

(2/227)


الركعة، ثم يسجد سجدتين أخراوين للركعة الثانية ويتم صلاته، ومن وجه تلزمه سجدة وركعة، وهو أن يكون إنما أتى بالسجدة عقيب الركوع الثاني، فإذا سجد سجدة أخرى فهاتان السجدتان تنتقلان إلى الركوع الأول، ويرتفض الركوع الثاني، أو يصيران للركوع الثاني، ويرتفض الركوع الأول على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة، فلزمه أن يصلي ركعة أخرى، فهو معنى قولنا: إنه تلزمه ثلاث سجدات من وجه، وركعة وسجدة من وجه، فيجمع بين الكل احتياطاً، ويقدم السجدات على الركعة.t

ولو قدم الركعة على السجدات، تفسد صلاته، ويتشهد عقيب السجدات؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات لا غير، فتكون هذه القعدة قعدة الختم، وقعدة الختم فرض ثم يصلي ركعة ويقعد بعدها؛ لأنه من وجه عليه سجدة وركعة، فتكون هذه الركعة ثانية صلاته، فتفترض القعدة بعدها.
ومن المشايخ من قال: ما ذكر محمد من الجواب صحيح، ولكن يصرف تأويله أن يكون مراده من قوله يسجد سجدة ينوي بها أن يكون عن الركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنه إن نوى أن تكون هذه السجدة عن الركعة التي قيدها بالسجدة تلتحق هي بتلك الركعة ويصير هو مصلياً ركعة واحدة، فيلزمه ركعة أخرى، وإذا أتى بها تتم صلاته.
وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» .

(2/228)


قال مشايخنا رحمهم الله؛ وينبغي أن يلزمه سجدتان وركعة؛ لأن هذا الرجل أتى بركوعين ولم يسجد أصلاً، فإذا سجد سجدتين، فهاتان السجدتان تلتحقان بالركوع الأول أو بالركوع الثاني على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة واحدة، فيصلي ركعة أخرى حتى تتم صلاته.
رجل صلى المغرب ثلاث ركعات وترك منها سجدة ثم تذكرها، فإنه يأتي بها ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو لما مر، وينبغي أن ينوي بهذه السجدة قضاء ما عليه لجواز أنه تركها من الركعة الأولى أو من الركعة الثانية، فإن على هذا التقدير يجب عليه نية القضاء؛ لأنها فاتت عن محلها، يجوز أنه تركها من الركعة الثالثة، وعلى هذا التقدير لا تلزمه نية القضاء، إلا أن نية القضاء إذا لم تكن قضاء لا يضره، وترك نية القضاء إذا كان قضاء تفسد الصلاة، فأتى بها احتياطاً.

ولو تذكر أنه ترك منها سجدتين ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه إن تركهما من ركعتين أو من الركعة الأخيرة تلزمه سجدتان، وإن تركها من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فعليه ركعة فيجمع بين الكل احتياطاً، ويقدم السجدتين على الركعة وينوي بهما القضاء، لجواز أنه تركهما من الركعة الأولى أو الثانية أو من الأولى والثانية وصارتا ديناً عليه ويقعد بعد السجدتين؛ لأن صلاته قد تمت إن تركهما من الركعة الأخيرة أو من ركعتين ثم يقوم ويصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو.

(2/229)


وإن تذكر أنه ترك منها ثلاث سجدات، فعليه أن يسجد ثلاث سجدات، ثم يصلي ركعة؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات، وهو ما إذا تركها من ثلاث ركعات، أو ترك سجدتين من الركعة الأخيرة، وسجد من ركعة قبل الركعة الأخيرة، ومن وجه عليه ركعة وسجدة، وهو ما إذا ترك سجدتين من ركعة قبل الركعة الأخيرة، وسجدة من ركعة، فيجمع بين الكل احتياطاً، فإذا سجد سجدة، فقعد على وجه الاستحباب لا على وجه الفرض؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعة، فهذه قعدة على رأس الركعتين من وجه. والقعدة على رأس الركعتين في ذوات الأربع والثلاث واجبة، ومن وجه عليه ثلاث سجدات لا غير فهذه القعدة تكون بدعة، فالقعدة بعد السجدة الواحدة ترددت بين البدعة والواجب، وقد عرف أن ما تردد بين البدعة وبين الواجب يستحب الإتيان بها، ثم يسجد سجدتين أخراوين، ويقعد على وجه الفرض؛ لأنه قد تمت صلاته إن كان عليه ثلاث سجدات لا غير، ثم يصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات يسجد سجدتين ويصلي ركعتين.

وتخريج المسألة على اعتبار المأتي بها، فنقول: هذا الرجل أتى بسجدتين، وإن كان أتى بها في ركعتين، فعليه سجدتان وركعة، وإن كان أتى بها في ركعة، فعليه ركعتان، فيجمع من الكل احتياطاً ويبدأ بالسجدتين ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الفرض بالطريق الذي قلنا قبل هذا، ثم يصلي ركعة، ويقعد لا محالة؛ لأن صلاته قد تمت إن كان أتى بالسجدتين في ركعتين ثم يصلي ركعة أخرى؛ لأن من وجب عليه ركعتان، فهذا آخر صلاته، فيقعد لا محالة ثم يسلم ويسجد للسهو على نحو ما ذكروا.
وإن تذكر أنه ترك منها خمس سجدات، فهذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة ثم يقوم، ويصلي ركعتين يقعد بينهما، وهذه القعدة سنّة، ويقعد بعدهما وهذه القعدة فرض.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا الجواب غلط، وينبغي أن يقال: يلزمه ثلاث سجدات وركعتين؛ لأن من وجه تلزمه ثلاث سجدات وركعة بأن قيد الركعة الأولى بالسجدة، فيسجد سجدة إتماماً لتلك الركعة، ثم يسجد سجدتين ويلتحقان بالركوع الثاني أو الثالث، فيصير مصلياً ركعتين ثم تلزمه ركعة أخرى إتماماً لصلاته، فمن هذا الوجه تلزمه ثلاث سجدات وركعة، ومن وجه آخر تلزمه سجدة وركعتان، فإن قيد الركوع الثاني أو الثالث بالسجدة، فيلزمه سجدة إتماماً لتلك الركعة ويصير مصلياً ركعة، فيلزمه ركعتان أخراوان فيجمع بين الكل احتياطاً.
ومن المشايخ من قال بأن ما ذكر من الجواب في «الكتاب» صحيح يصرف تأويله أن يكون مراد محمد من قوله يسجد سجدة تعيين إلحاقها بالركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنها حينئذٍ تلتحق بتلك الركعة ويصير مصلياً ركعة واحدة، فيلزمه ركعتين أخراوين.
وإن تذكر أنه ترك منها ست سجدت لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» .

قال مشايخنا: وينبغي أن يسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ركع ثلاث ركوعات ولم يسجد أصلاً، فتوقف كل ركوع على وجود السجدتين، فيسجد سجدتين إتماماً لركعة واحدة، ثم يصلي ركعتين أخراوين ويتم صلاته.
رجل صلى الظهر أربع ركعات وتذكر أنه ترك منها سجدة، فإنه يسجد تلك السجدة، وينوي بها قضاء ما عليه، ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك سجدتين ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه من وجه تلزمه سجدتان من ركعتين أو من الركعة الأخيرة، ومن وجه تلزمه ركعة بأن تركهما من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فيجمع بين الكل احتياطاً، ويبدأ بالسجدتين وينوي بهما قضاء ما عليه، ويتشهد بعد السجدتين لا محالة؛ لأن من وجه عليه سجدتان لا غير، فمن هذا الوجه هذا تمام صلاته ثم يصلي ركعة ويتشهد بعدها لا محالة؛ لأن من وجه عليه الركعة، فمن هذا الوجه هذا تمام صلاته.
وإن تذكر أنه ترك ثلاث سجدات سجد ثلاث سجدات وصلى ركعة، لأن من وجهين عليه ثلاث سجدات لا غير، وهو ما إذا تركهن من ثلاث ركعات أو ترك ثنتين منها من الركعة الأخيرة، ومن وجه عليه سجدة وركعة، وهو ما إذا ترك ثنتين منها من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فيجمع بين الكل احتياطاً ويقدم السجدات على الركعة ويقعد بعدهن لا محالة، لجواز أنه تمت صلاته ثم يصلي ركعة ويقعد عقبهما لا محالة، لجواز أن صلاته تمت الآن.

وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات يسجد أربع سجدات ويصلي ركعتين؛ لأنه إن تركهن من أربع ركعات أو ترك ثنتين منها من الركعة الأخيرة وثنتين منها من الركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه أربع سجدات لا غير، وإن ترك ثنتين منها من ركعة قبل الركعة الأخيرة وثنتين منها من ركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه ركعة وسجدتان، وإن تركهن من ركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه قضاء ركعتين، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيجسد أربع سجدات، ويقعد بعدهن؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الثاني، ثم يصلي ركعة (129ب1) أخرى ويقعد؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الثالث.
وإن تذكر أنه ترك خمس سجدات، فهذا الرجل ما أتى إلا بثلاث سجدات، فإن أتى بها في ثلاث ركعات، فعليه ثلاث سجدات وركعة، ثلاث سجدات ليصير مصلياً ثلاث ركعات وركعة ليتم صلاته، وإن أتى بها في ركعتين بأن أتى بثنتين في ركعة، وواحدة في ركعة، فعليه سجدة وركعتان، سجدة ليصير مصلياً ركعتين، وركعتين إتماماً لصلاته، فيجمع بين الكل احتياطاً، فإذا سجد سجدة قعد بعدها وهذه قعدة مستحبة؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعتان، فمن هذا الوجه تكون هذه القعدة واجبة؛ لأنها على رأس الركعتين، ومن وجه عليه ثلاث سجدات وركعة، فتكون هذه القعدة بدعة، وقد عرفت أن ما تردد بين البدعة وبين الواجب يستحب الإتيان بها، ثم يسجد سجدتين، ولا يقعد

(2/230)


عقبيها؛ لأن هذه القعدة تتردد بين البدعة والسنّة، وما تردد بين البدعة والسنّة لا يؤتى به، ثم يصلي ركعة ويقعد عقبها؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعة، ومن هذا الوجه هذه الركعة تكون آخر صلاته، ثم يصلي ركعة أخرى ويقعد؛ لأن من وجه عليه ركعتان، ومن هذا الوجه يكون هذا آخر صلاته.

قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ما ذكر من الجواب مستقيم فيما إذا نوى بالسجدات إلحاقها بالركعات التي قيدهن بالسجدة، فأما إذا لم ينو ذلك بل سجد ثلاث سجدات مطلقاً، ينبغي أن تفسد صلاته؛ لأن من الجائز أنه أتى بثلاث سجدات في ثلاث ركعات قبل الركعة الأخيرة، ويقيد كل ركعة بسجدة، فإذا سجد ثلاث سجدات يقيد الركعة الأخيرة بثنتين منها، فإذا صلى بعد ذلك ركعتين يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال الفرض وإنه يوجب فساد الفرض.
فأما إذا نوى إلحاقها بالركعات التي قيدها بالسجدة تلتحق هذه السجدات بتلك الركعات، ويصير مصلياً ثلاث ركعات، فإذا صلى ركعة بعد ذلك يتم صلاته، فإذا صلى بعد ذلك ركعة أخرى، يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل في هذه الركعة، ولكن هذا إكمال الفرض، فلا يفسد الفرض.
وإن تذكر أنه ترك ست سجدات، فهذا الرجل إنما أتى بسجدتين، فإن أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعتان وإن أتى بهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد بعدهما على سبيل الاستحباب؛ لأنه صار مصلياً ركعتين من وجه بأن كان عليه سجدتان وركعتان، ثم يقوم ويصلي ركعة ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب أيضاً؛ لأنها ثانية من وجه بأن كان عليه ثلاث ركعات ثم يصلي ركعة، ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب أيضاً؛ لأنها ثانية من وجه بأن كان عليه ثلاث ركعات ثم يصلي ركعة ويقعد عقيبهما على سبيل الفرض؛ لأن هذه رابعة من وجه فتفترض عليه القعدة.
قال بعض مشايخنا: ما ذكر من الجواب مستقيم إذا نوى بالسجدتين إلحقاهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة، فأما إذا لم ينوِ الإلحاق ينبغي أن تفسد صلاته على ما ذكرنا قبل هذا.

وإن تذكر أنه ترك سبع سجدات، فهذا الرجل لم يأت إلا بسجدة واحدة، والسجدة الواحدة لا تتقيد بها إلا ركعة واحدة، فيأتي بسجدة واحدة ليصير مصلياً ركعة، ثم يصلي بعد ذلك ثلاث ركعات يصلي ركعة ويقعد، وهذه العقدة سنّة؛ لأنها قعدة على رأس الركعتين في ذوات الأربع، وينبغي أن ينوي بالسجدة إلحاقَها بالركعة التي قيدها بالسجدة، ثم يصلي ركعتين ويقعد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك منها ثمان سجدات، فهذا الرجل ركع أربع ركوعات، ولم يسجد أصلاً، فيسجد سجدتين ليصير مصلياً ركعة ثم يصلي ثلاث ركعات والله أعلم.
رجل صلى الغداة ثلاث ركعات وترك منها سجدة فسدت صلاته؛ لأن صلاته تفسد من وجه بأن ترك هذه السجدة من إحدى الركعتين الأوليين؛ لأنه زاد ركعة كاملة وعليه ركن من أركان الفريضة، ولا تفسد من وجه بأن ترك هذه السجدة من الركعة الثالثة؛ لأن زيادة ما دون الركعة الكاملة لا توجب فساد الصلاة، فيحكم بالفساد احتياطاً، وإن ترك سجدتين تفسد صلاته أيضاً؛ لأن صلاته تفسد

(2/231)


من وجه بأن ترك هاتين السجدتين من الركعتين الأوليين، أو من إحدى الأوليين، ولا تفسد من وجه بأن ترك اثنتين منها من الركعة الثالثة، فيحكم بالفساد احتياطاً، وإن ترك منها أربع سجدات لا تفسد صلاته.
فالأصل في جنس هذه المسائل: أن المأتي بها من السجدات إذا كانت أقل من المتروكات، لا يحكم بالفساد كما في هذه المسألة، ومتى كانت المتروكات أقل من المأتي بها يحكم بالفساد كما في المسائل المتقدمة، وهذا لأن الفساد فيما إذا كانت المتروكات أقل باعتبار أنه زاد ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة. وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا كان المأتي بها أقل.
بيان ذلك: فيما إذا كان المتروك أربع سجدات أن يقول: هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، ولا يتقيد بالسجدتين إلا ركعتين، فقد تيقنا أنه ما زاد ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة، فلا يحكم بالفساد.

ثم كيف يصنع؟ قال: يسجد سجدتين، ويصلي ركعة؛ لأن من وجه عليه سجدتان لا غير، وهو ما إذا أتى بالسجدتين في ركعتين، ومن وجه عليه ركعة، وهو ما إذا أتى بالسجدتين في (ركعتين) ، فيجمع بينهما احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد عقبيهما لا محالة؛ لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة، وينبغي أن ينوي بالسجدتين إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة، أما بدون النية، ينبغي أن تفسد صلاته؛ لأنه يجوز أنه أتى بالسجدتين في الركعتين الأوليين في كل ركعة سجدة، فتوقف الركوع الثالث بهما، ويصير زائداً ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة، فتفسد صلاته.
وإن ترك خمس سجدات، فكذلك لا يحكم بفساد الصلاة؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا يتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة، وينبغي أن ينوي بهذه السجدة إلحاقها بتلك الركعة التي تقيدت بالسجدة، ثم يصلي ركعة ويتم صلاته.
وإن ترك منها ست سجدات لا تفسد صلاته أيضاً؛ لأن هذا الرجل ركع ثلاث ركوعات، ولم يسجد أصلاً فيسجد سجدتين إتماماً لركعة واحدة، ثم يصلي ركعة ويتم صلاته.
رجل صلى الظهر خمس ركعات، وترك منها سجدة تفسد صلاته، وكذلك إذا ترك منها سجدتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً تفسد صلاته، وطريق الفساد أنه يصير منتقلاً إلى النفل قبل إكمال أركان الفريضة على نحو ما بينّا في المسألة المتقدمة.

وإن ترك ست سجدات لا تفسد صلاته، لأن هذا الرجل ما أتى إلا بأربع سجدات ولا يتقيد بالسجدات الأربعة أكثر من أربع ركعات، فلا يصير منتقلاً إلى النفل قبل إكمال

(2/232)


أركان الفرض، ثم وجه الإتمام أن يسجد أربع سجدات، ويصلي ركعتين؛ لأن من وجه عليه قضاء أربع سجدات وهو أن يكون أتى في كل ركعة بسجدة، ومن وجه عليه قضاء ركعة وسجدتين، وهو أن يكون أتى في ركعتين في كل ركعة بسجدة، وفي ركعة أخرى بسجدتين، ومن وجه عليه قضاء ركعتين، وهو أن يكون أتى بأربع سجدات في ركعتين في كل ركعة بسجدتين، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد أربع سجدات ثم يقعد لا محالة لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد لا محالة، لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الثاني ثم يصلي ركعة أخرى، ويقعد لا محالة؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الثالث.
قال بعض مشايخنا ما ذكر من الجواب في «الكتاب» محمول على ما إذا نوى بالسجدة التي يأتي بها إلحاقها بالركعات التي قيدها بالسجدات، أما إذا لم ينوِ ينبغي أن تفسد صلاته على نحو ما بينّا قبل هذا.
وإن ترك سبع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بثلاث سجدات فإن كان أتى بها في ثلاث ركعات في كل ركعة سجدة، فعليه ثلاث سجدات وركعة، وإن كان أتى بسجدتين في ركعة أو بسجدة في ركعة، فعليه سجدة وركعتان، فيجمع بين الكل احتياطاً ثم طريق الإتمام أن يسجد ثلاث سجدات أولاً، ويقعد بعد الأولى على طريق الاستحباب، ولا يقعد بعد الثلاث لا على وجه الاستحباب ولا على وجه الفرض، ثم يصلي ركعة ويقعد على سبيل الفرض؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الأول ثم يصلي ركعة ويقعد؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الثاني.

ولو ترك منها ثمان سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين ويصلي ثلاث ركعات؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعتان، وإن كان أتى بهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد بعدهما على سبيل الاستحباب لأن من وجه عليه سجدتان وركعتان، فيكون ما بعد السجدتين موضع قعوده المستحب، ثم يصلي ركعة ويقعد أيضاً على وجه الاستحباب دون الفرض، لأن من وجه عليه ثلاث ركعات، فيكون ما بعد هذه الركعة موضع قعوده المستحب، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى على سبيل الفرض؛ لأن من وجه عليه سجدتان وركعتان، فيكون آخر صلاته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى، ويقعد على سبيل الفرض؛ لأن من وجه عليه ثلاث ركعات، فيكون هذا آخر صلاته، وينبغي أن ينوي بالسجدتين اللتين يأتي بهما إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة لما ذكرنا قبل هذا.
وإن ترك منها تسع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، وهذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة، وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد أخرى ينوي إلحاقها بالركعة التي قيدها بالسجدة؛ إتماماً لتلك الركعة، ثم يصلي ركعة ويقعد، وهذه القعدة سنّة ثم

(2/233)


يصلي ركعتين أخراوين ويقعد بعدهما إتماماً لصلاته.
وإن ترك منها عشر سجدات، فهذا الرجل ركع خمس ركوعات، ولم يأت بشيء من السجدات فيسجد سجدتين ليتم ركعة ثم يصلي ثلاث ركعات بعد ذلك، ويتم صلاته، وكذلك الجواب في العصر والعشاء.
رجل صلى المغرب أربع ركعات وترك منها سجدة فسدت صلاته، وكذلك لو ترك منها سجدتين أو ثلاثاً أو أربعاً فسدت صلاته أيضاً. وطريق الفساد: انتقاله من الفرض إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض على نحو ما بينّا في المسائل المتقدمة.

وإن ترك منها خمس سجدات لا تفسد صلاته؛ لأنه ما أتى إلا بثلاث سجدات، ولا يتقيد بالسجدات الثلاث أكثر من ثلاث ركعات، فلا يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض، وطريق الإتمام أن يسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعة؛ لأنه من وجه يلزمه (130أ1) ثلاث سجدات لا غير، وهو ما إذا أتى بثلاث سجدات في ثلاث ركعات، ومن وجه عليه سجدة وركعة، وهو ما إذا أتى بسجدتين في ركعة وبسجدة في ركعة، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد ثلاث سجدات أولاً ويقعد بعدهن؛ لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد لاحتمال الوجه الثاني، وينوي بالسجدات التي يأتي بهن إلحاقها بالركعات التي قيدهن بالسجدة لما ذكرنا غير مرة.
وإن ترك ست سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين، ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعة، وإن كان أتى بهما في ركعة فعليه ركعتان، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب لا على سبيل الفرض، ثم يصلي ركعة ويقعد على سبيل الفرض؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الأول ثم يصلي ركعة أخرى لاحتمال الوجه الثاني، وينبغي أن ينوي بالسجدتين اللتين يأتي بهما إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة لما ذكرنا.
وإن ترك سبع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدة ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا يتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة ثم يصلي ركعتين ويقعد بينهما وهذه القعدة سنّة، ويقعد عقيبهما أيضاً وهذه قعدة الختم، وينبغي أن ينوي بالسجدة التي يأتي بها إلحاقها بالركعة التي قيدها لما ذكرنا.

فإن ترك ثمان سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ركع أربع ركوعات ولم يأت بالسجدة أصلاً، فيسجد سجدتين ليصير مصلياً ركعة ثم يصلي ركعتين ويقعد فيهما وهذه القعدة سنّة، ويقعد عقيبهما أيضاً وهذه قعدة الختم.
رجل افتتح الصلاة، وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الثالثة وقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام إلى الرابعة وقرأ وسجد ولم يركع، فهذا

(2/234)


إنما صلى ركعتين؛ لأنه لما قام وقرأ وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع إلى وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع تلتحق هاتان السجدتان بذلك الركوع باتفاق الروايات، فيصير مصلياً ركعة واحدة فإذا قام إلى الثالثة وقرأ وركع ولم يسجد، توقف هذا الركوع على وجود السجدتين أيضاً. فإذا قام إلى الرابعة وقرأ وسجد ولم يركع التحقت هاتان السجدتان بذلك الركوع أيضاً، باتفاق الروايات، فيصير مصلياً ركعتين.
ولو أنه قام إلى الصلاة وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الثالثة وقرأ وركع وسجد سجدتين ثم قام إلى الرابعة، وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الخامسة، وقرأ وسجد ولم يركع، قال: هذا إنما صلى ثلاث ركعات؛ لأنه لما قام وصلى، وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع إلى وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية وقرأ وسجد لم يركع، فالتحقت هاتان السجدتان بالركوع المتقدم، فيصير مصلياً ركعة واحدة فإذا قام إلى الثالثة وقرأ وركع وسجد صار مصلياً ركعة أخرى، فيصير مصلياً ركعتين، ثم لما قام إلى الرابعة قرأ وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الخامسة وقرأ وسجد ولم يركع التحقت هاتان السجدتان بالركوع المتقدم، فيصير مصلياً ركعة أخرى، فيصير مصلياً ثلاث ركعات.

ولو قام إلى الصلاة وقرأ وركع، ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وركع ولم يسجد أيضاً، ثم قام إلى الثالثة وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الرابعة، وقرأ وركع وسجد، قال: هذا إنما صلى ركعتين؛ لأن في هذه الصورة توقف الركوع الأول والركوع الثاني على وجود السجدتين، فإذا سجد في الركعة الثالثة، ولم يركع تلتحق هاتان السجدتان بالركوع الأول أو بالركوع الثاني على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة، ثم لما قام إلى الرابعة وقرأ وركع وسجد صار مصلياً ركعة أخرى، فتبين أنه صار مصلياً ركعتين فيقوم ويصلي ركعتين أخراوين، فتمت صلاته.
رجل افتتح الصلاة خلف الإمام ثم قام حتى صلى الإمام أربع ركعات وترك من كل ركعة سجدة، فلما قعد الإمام في التشهد انتبه هذا الرجل، فأحدث الإمام وتقدم هذا الرجل، فإنه لا ينبغي له أن يتقدم؛ لأن المقصود من الاستخلاف إتمام صلاة الإمام، وغيره أقدر على إتمام صلاة الإمام؛ لأنه لاحِقٌ قد أدرك أول الصلاة، فعليه أن يبدأ بالأَولى فالأَولى، فلهذا لا ينبغي له أن يتقدم. مع هذا لو تقدم جاز؛ لأن صحة الاستخلاف تعتمد المشاركة بين الإمام وبين الخليفة في الصلاة، وهذا شريك في هذه الصلاة فيصح استخلافه.
وينبغي له أن يصلي ركعة بسجدة من غير أن يصلي القوم معه؛ لأنهم قد أدّوا هذه الركعة مع الإمام، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام؛ لأنهم قد أدوا هذه الركعة مع الإمام، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام من تلك الركعة ويسجد القوم معه؛ لأن عليهم قضاء هذه السجدة مع الإمام.
وكذلك يفعل في الركعة الثانية والثالثة والرابعة؛ يصلي كل ركعة منها بسجدة من

(2/235)


غير أن يصلي القوم معه، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام من تلك الركعة، ويسجد القوم معه، وإنما وجب عليه تقديم الركعة على السجدة التي تركها الإمام؛ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة، واللاحق يبدأ بالأول فالأول، فإذا أتى بالركعات كلها على نحو ما بينا يتشهد ويسلم ويسجد للسهو ويسجد القوم معه؛ لأنه خليفة الإمام الأول، وعلى الإمام الأول أن يسجد للسهو والقوم يسجدون معه، فكذا هذا الخليفة.
ثم قال في «الكتاب» : قلت: إنما تفسد عليه صلاته، قال: ولماذا تفسد؟ قلت: لأن الإمام مرة يصير إماماً للقوم ومرة غير إمام، وهذا قبيح، قال: ولو كان هذا في ركعة استحسنت أن أجيزه، يريد بهذا أنه لو ترك سجدة من الركعة الأخيرة وقام رجل خلفه عن هذه الركعة، فأحدث الإمام وقدم هذا الرجل والقوم قعود، فإن هذا الرجل يقوم ويصلي ركعة بسجدة، والقوم لا يتابعون في تلك السجدة ولا تفسد عليه صلاته، ذكر هذا السؤال في «الأصل» ، ولم يذكر الجواب، ففيه إشارة إلى أن ههنا قول آخر أنه لو صلى هكذا أنه تفسد عليه صلاته، ووجه ذلك: أن هذا الرجل يصير مقتدياً وإماماً في صلاة واحدة مراراً.
بيانه: أنه حين يقوم في الركعة الأولى، فهو في الحكم كان خلف الإمام مقتدياً به؛ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة، فإذا أدى الأمر إلى السجدة التي تركها الإمام من الركعة الأولى يصير فيها إماماً للقوم، ثم إذا قام إلى الركعة الثانية يصير مقتدياً بالإمام الأول، ويخرج من أن يكون إماماً للقوم، فإذا أدى الأمر إلى السجدة التي تركها الإمام من هذه الركعة يصير إماماً للقوم فيها، وكذلك في الركعة الثالثة والرابعة.

فهو معنى قولنا: إن هذا الرجل يصير إماماً ومقتدياً في صلاة واحدة مراراً، وإنه قبيح، لكن استحسن في الركعة الواحدة؛ لأن في الركعة الواحدة لا يتكرر خروجه من حكم الإمامة وعوده إليه.

قالوا: وينبغي لهذا الرجل على هذا القول إذا أراد أن لا تفسد صلاته أن يسجد تلك السجدات التي تركها الإمام، ويتابعه القوم فيهن، ثم يتشهد ويقدم عليه غيره حتى يسلم بهم ثم يقوم هذا الرجل ويقضي ما فاتته وحده، فلا يؤدي إلى الاستحالة التي ذكرها، إلا أنه يلزمه أمر مكروه، فإنه يصير آتياً بالسجدة قبل الإتيان بالركوع، وإنه مكروه، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور وهو الرحيم الغفور وبه ختم الطهارات والصلاة من المحيط (130ب1) .

(2/236)