المحيط البرهاني في الفقه النعماني

كتاب الزكاة
هذا الكتاب يشتمل على سبعة عشر فصلاً:
1 * في كيفية وجوبها.
2 * في بيان سبب وجوب الزكاة.
3 * في بيان مال الزكاة.
4 * في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله.
5 * في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه.
6 * في تعجيل الزكاة.
7 * في أداء الزكاة والنية فيه.
8 * في المسائل المتعلقة بمن توضع الزكاة فيه.
9 * في المسائل المتعلقة بمعطي الزكاة.
10 * في بيان ما يمنع وجوب الزكاة.
11 * في الأسباب المسقطة للزكاة.
12 * في صدقات الشركاء.
13 * في زكاة الديون.
14 * في المال الذي ينوى ثم يقدر عليه.
15 * في المسائل التي تتعلق بالعاشر.
16 * في إيجاب الصدقة وما يتصل به من الهدي وأشباهه.
17 * في المتفرقات.

(2/237)


الفصل الأول في كيفية وجوبها
فنقول: ذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله في كتابه: إنها على الفور، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» أنها على الفور عند أبي يوسف ومحمد، وفي موضع آخر في «المنتقى» أنه إذا لم يترك حتى حال عليها حولان، فقد أساء وأثم، وعن محمد إن من لم يؤد الزكاة لم تقبل شهادته، وأن التأخير لا يجوز.
ووجه ذلك: أن الأمر بالأداء إن كان معلقاً إلا أنه تعين الفور، بدليل أن الزكاة إنما وجبت لدفع حاجة الفقر، وحاجته ناجزة.
وقال أبو بكر الرازي رحمه الله: إنها تجب على التراخي، وهكذا روى ابن شجاع، والبلخي عن أصحابنا. قال البلخي رحمه الله: وكذلك الحج، وهذا لأنه ليس في كتاب الله تعالى وما في سنّة رسوله بيان وقت أداء الزكاة، ولا يمكن إتيانه قياساً؛ لأن شروط العبادة لا تثبت قياساً كأصلها، فيبقى جميع العمر وقتاً لها كما في قضاء رمضان وكما في الكفارات.

الفصل الثاني في بيان سبب وجوب الزكاة
قال المحققون من مشايخنا: سبب وجوب أصلها في الذمة المال، وليس معناه أن الموجب هو المال بل الموجب هو الله تعالى، ولكن معناه: أن الله تعالى جعل المال سبباً لوجوب الزكاة كما أن المروي والمشبع هو الله تعالى، ولكن جعل الماء والطعام سبباً للري والشبع، وعلى قول هؤلاء الخطاب يطلب الأداء لا لأجل الوجوب في الذمة، وعليه اعتمد الإمام أبو منصور الماتريدي في كتاب «مأخذ الشرائع» .
وقال بعض مشايخنا: وجوب أصلها في الذمة بالخطاب أيضاً، ويقول به عامة أصحاب الشافعي رحمهم الله؛ لأن المال لا يمكن أن يجعل سبباً؛ لأن المال موجود في حق كثير من الأشخاص، ولا وجوب نحو الذي أسلم في دار الحرب، ومن أشبهه.
وجه قول المحققين من مشايخنا: أنها تضاف إلى المال، والحكم إنما يضاف إلى سببه قضية الأصل؛ لأن الأصل في الإضافات إضافة الحادث إلى سبب الحدوث؛ لأن الإضافة للاختصاص؛ ومعنى الحدوث به سابق على سائر معاني الاختصاص إلا أن الشرع جعل المال سبباً في وضع لا يؤدي إلى الحرج، وفي حق الذي أسلم في دار الحرب يؤدي إلى الحرج لتضاعف الواجبات.

(2/239)


غير أن مطلق المال ليس بسبب، إنما السبب المال النامي؛ لأن الزكاة وجبت بطريق التيسير بأداء عن نماء، ولهذا لم يجب القليل في القليل ولا الكثير في الكثير، ولم يجب مالاً بل وجب القليل في الكثير، ووجب مؤجلاً لا حالاً، وحتى التيسير إنما يتحقق بالأداء من نماء المال حتى يؤدي من عليه الواجب من النماء، ويبقى له أصل المال، غير أن طريق النماء في الحيوانات النسل، وفيما عداها من الأموال التجارة.
غير أنه يسقط اعتبار حقيقة النماء، فإنه أمر خفي تتفاوت فيه أحوال الناس، فأقيم الإسامة به حولاً في الحيوانات مقام حصول النسل؛ لأنه زمان النسل عادة، وأقيم الإمساك بنية التجارة حولاً في غيرها من الأموال سوى الأثمان مقام حصول النماء؛ لأنه زمان حصول النماء عادة، إنما فعلنا ذلك دفعاً للحرج عن الناس والله أعلم.

الفصل الثالث في بيان مال الزكاة
فنقول: مال الزكاة الأثمان، وهو: الذهب والفضة وأشباهها، والسوائم وعروض التجارة فنعتبر ذلك نوع نذكر فيه مسائله والأحكام المتعلقة به، فنبدأ ببيان أحكام الذهب والفضة وأشباهها، لأن الحاجة إلى معرفة ذلك أمسّ فنقول:
الزكاة واجبة في الذهب والفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، نوى التجارة أو، لا إذا بلغت الفضة مائتي درهم، والذهب عشرين مثقالاً، وإذا نقص نقصاناً لا يسيراً يدخل بين الوزنين لا تجب الزكاة إن كان كاملاً في حق غيره، هكذا ذكر القدوري في «كتابه» ، وهذا لأن الزكاة إنما تجب على المال، فيعتبر كمال النصاب في حقه، فإذا كان ناقصاً في حقه لا تجب الزكاة.
والمعتبر في الدراهم وزن سبعة، وهو أن تكون كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل على ما يزن الناس اليوم كما جرى التقدير في ديوان عمر رضي الله عنه، وقيل في تفسير وزن سبعة ما ينقص كل مائة منها سبعة مثاقيل، وعلى هذا القول وزن خمسة ما ينقص كل مائة منها خمس مثاقيل، والأصح هو التفسير الأول.

وأصل ذلك ما حكى الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» في آخر باب الصلح أن الدراهم على عهد عمر رضي الله عنه كانت على ثلاثة أنواع: نوع اثنا عشر قيراطاً، ونوع عشرون قيراطاً، ونوع عشر قراريط، وكان الدينار على نوع واحد وهو عشرون قيراطاً.
وكان يقع بين الناس الخصومة في مبايعاتهم بالدراهم. فشاور أصحابه في ذلك، فقيل له: خذ من كل نوع ثلثه وأخذ عمر رضي الله عنه ثلث العشرة وثلث اثنا عشر وثلث العشرين، فبلغ ذلك أربعة عشر قيراطاً، فجعل وزن الدراهم أربعة عشر قيراطاً وقدر وزن الدنانير على حالها، فبلغ وزن عشرة دراهم مائة وأربعين قيراطاً كل درهم أربعة عشر، وهو وزن سبعة دنانير كل دينار عشرون قيراطاً، وهذا هو تفسير وزن السبعة في الدراهم.

(2/240)


واختلفوا في وزن الدراهم على عهد رسول الله عليه السلام، فقيل: إنها كانت على وزن ستة، والأصح أنها كانت على وزن خمسة. وكذلك على عهد الصديق ثم صارت وزن سبعة على عهد عمر رضي الله عنه.
وكذلك اختلفوا أن الدراهم متى صارت مدورة؟ والمشهور إنما صارت مدورة على عهد عمر، وقبل ذلك كان على شبه النواة.

وإذا زاد الدرهم على مائتين أو زاد الدينار على عشرين فعلى قول أبي حنيفة: لا شيء في الزيادة في الدرهم حتى يبلغ أربعين درهماً، وفي الذهب أربعة مثاقيل. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله: تجب فيما زاد بحسابه، وذلك ربع العشر، ويضم الذهب إلى الفضة، والفضة إلى الذهب ويكمل أحد النصابين بالآخر عند علمائنا رحمهم الله؛ لحديث بكر بن عبد لله بن الأشج أنه قال: مضت السنة في ضم الذهب إلى الفضة في باب الزكاة، ولأن الذهب والفضة إن كانا مختلفين صورة فهما متفقان معنى من حيث إنه تعلق بهما وجوب الزكاة، وهو وصف لثمنيته، فجاء تكميل أحدهما بالآخر بخلاف البقر مع الإبل، فإن الزكاة تعلقت بهما باعتبار العين، والأعيان مختلفة حقيقة، ثم قال أبو حنيفة رحمه الله آخراً: يضم باعتبار القيمة، وقال أبو يوسف ومحمد: يضم باعتبار الأجزاء، يعني به الوزن. وأشار المعلى في «نوادره» ، إلى أن أبا يوسف رجع عن هذا القول، وقال: يضم باعتبار القيمة وصورة الكتاب بالأجزاء والوزن أن يكون النصف من هذا وزناً والنصف من آخر وزناً، بأن كانت الدراهم مائة والدنانير عشرة أو كان الربع من أحدهما وزناً، وثلاثة الأرباع من آخر وزناً بأن كانت الدراهم خمسين والدنانير خمسة عشر، أو كانت الدراهم........... القيمة بأن كانت الدراهم مائة والدنانير (131أ1) خمسة، وقيمتها مائة أو كانت الدنانير عشرة، والدراهم خمسين قيمتها عشرة دنانير.

وثمرة الاختلاف لا تظهر حال تكامل الأجزاء والوزن، لأنه متى انتقص قيمة إحداهما وزاد قيمة الآخر، فيمكن تكميل ما انتقص منه بما ازداد وكمل النصاب وزناً (و) قيمة، فتجب الزكاة بلا خلاف، وإنما تظهر حال نقصان الأجر أو الوزن، فعلى قول أبي حنيفة: تجب الزكاة؛ لأنه يعتبر القيمة، وقد كمل النصاب باعتبار القيمة، وعلى قولهما: لا تجب الزكاة لأنهما يعتبران الوزن والأجزاء ولم يكمل النصاب من حيث الوزن والأجزاء، والحاصل أنهما يعتبران الوزن حالة الاجتماع، وأبو حنيفة اعتبر القيمة حالة الاجتماع.
وأجمعوا على أن العبرة للوزن حالة الانفراد حتى إذا كان له أقل من مائتي درهم قيمتها عشرون ديناراً، أو كان له أقل من مائتي درهم قيمتها عشرون ديناراً، أو كان له أقل من عشرين ديناراً قيمتها مائتا درهم، أو كان له قلب فضة وزنه مائة وخمسون، وقيمته لصياغته عشرون ديناراً، أو كان له قلب ذهب وزنه خمسة عشر وقيمته لصياغته مائتا درهم لا تجب الزكاة.

(2/241)


وإنما اعتبر الوزن حالة الانفراد لقوله عليه السلام: «في مائتي درهم خمسة دراهم» والمراد من الدرهم الوزن، وقال عليه السلام: «في عشرين مثقال ذهب نصف مثقال» ، والمثقال هو الوزن، فالنبي عليه السلام نصّ على الوزن حالة الانفراد، فإن بلغ الوزن نصاباً حالة الانفراد فلا يبقى للقيمة عبرة؛ لأن القيمة إنما تعرف بالاجتهاد في موضع النص إذا كان العبرة للوزن حالة الانفراد، فإن بلغ الوزن نصاباً حالة الانفراد تجب الزكاة، وما لا فلا.
جئنا إلى حالة الاجتماع: فهما يعتبران الوزن حالة الاجتماع اعتباراً لحالة الاجتماع بحالة الانفراد، وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر القيمة حالة الاجتماع.

وفرق بين حالة الاجتماع وبين حالة الانفراد، فقال: في حالة الانفراد؛ إنما تعتبر القيمة بخلاف القياس؛ لأن المال مال التجارة، وفي مال التجارة تعتبر القيمة كما في سائر أموال التجارة، إلا أن في حالة الانفراد لما اعتبر الشرع الوزن والتقويم اجتهاداً ولا عبرة للاجتهاد حال وجود النص كان ذلك من الشرع إسقاطاً لاعتبار القيمة، فإن في حال الاجتماع لا نص على اعتبار الوزن، فيجب العمل فيه بالقياس.
في «المنتقى» : عن أبي يوسف رجل عنده عشرة دنانير ومائة درهم إن صرف الدنانير إلى الفضة، فقومها دراهم كان له مائتا درهم وزيادة، وإن أضاف الفضة إلى الدنانير، فقومها دنانير كان له أقل من عشرين دنانير، فلا زكاة حتى يكون أي مئة أضاف إلى الأخرى وجب فيها الزكاة، وهو قول أبي حنيفة أولاً، وقال أبو حنيفة آخراً: إذا وجب عليه الزكاة في أحد الوجهين، ولم يجب في الوجه الآخر، فعليه الزكاة.
ذكر القدوري في «كتابه» : روى الحسن عن أبي حنيفة أن الزكاة تجب في الدراهم النبهرجة والزيوف، وما كان الغالب فيه الفضة إذا كانت مائتي درهم؛ لأن اسم الدرهم ينطلق على ما كانت الفضة فيه غالبة، فيتناولها النص الموجب باسم الدراهم، وإن كانت ستوقة ليست للتجارة لم تجب الزكاة فيها حتى يبلغ ما يكون فيها من الفضة مائتين؛ لأن الغالب فيها الغش فلا يتناولها اسم الدرهم، فينظر إلى ما فيها من الفضة، وهذا إذا لم تكن للتجارة، فإن كانت للتجارة، وقد بلغت قيمتها مائتين وجبت الزكاة؛ لأنه إذا لم ينطلق عليها اسم الدرهم لم تكن بمنزلة الأثمان، فتكون بمنزلة العروض، وفي العروض تجب الزكاة إذا كانت للتجارة وقد بلغت قيمتها مائتين، كذا هنا.

وأما الفلوس، فلا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، وإن كانت للتجارة، فإن بلغت

(2/242)


قيمتها مائتين وجبت الزكاة لما ذكرنا، وكان الفقيه أحمد بن إبراهيم رحمه الله يقول: من ملك مائتي درهم عطريفية، فإن كانت للتجارة تجب فيها الزكاة، وإن كانت للنفقة، فإن كان فيها فضة....... لفضة تجب الزكاة وما سوى الفضة لا تجب.
وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول على قول أبي حنيفة: تجب الزكاة إذا أمسكها للنفقة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد فيها: الزكاة وإن كانت للنفقة.
وروي عن أبي عبد الله أحمد بن أبي حفص الكبير أنه قال: لسنا نأخذ بقول أبي حنيفة في هذه المسألة إنما نأخذ بقول أبي يوسف ومحمد.......... علم بد رأيهما عن أبي حنيفة والعطارف يسمى دراهم في عرفنا، فيتناولها النصير الموجب باسم الدراهم.
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يفتي في العطارف بوجوب الزكاة في المائتين منها عدد الخمسة دراهم، وكان يقول يجب أن يكون هذا قول أصحابنا جميعاً؛ لأن الثمينة، وقد تقررت فيها في بلادنا بحيث لا تتغير حيث تقررها في الذهب والفضة، وبه أخذ الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، ومشايخ زماننا قالوا: هم إنما أفتوا في زمنهم بهذا حيث تقررت الثمينة فيها، أما في زماننا قد تراجعت ولم تبق ثمناً، فلا يمكن إيجاب الزكاة فيها باعتبار المعنى، فينظر إلى أنها من الفضة.
وروي عن سعد بن معاذ المروزي أنه قال: العطريفية إذا كانت ألفاً ومائتي درهم تجب فيها الزكاة وما لا فلا، وفي ألف ومائتي عطريفية خمسة دراهم، وذلك لأن في كل عطريفية دانق فضة، وما سواه نحاس وألف ومائتا دانق يكون مئتي درهم، وفي مائتي درهم خمسة دراهم.
ولو أن رجلاً أعطى خمسة دراهم عن مائتي درهم رجلاً عن الزكاة ثم جاء المعطى له وقال وجدتها ستوقة، فإن كان في أكثر رأيه أنه صادق غير متهم، فإنه يصدقه، ولا شيء عليه إذا كان الذي وجد ستوقاً ليس فيه فضة، وكان للمعطى أن يستر ذلك من المعطي؛ لأن المعطي لم يملك؛ لأنه ليس بمحل للتمليك بجهة الزكاة، وإن كانت نبهرجة لم يسترد منه؛ لأنه ملك ذلك؛ لأنه محل التمليك بجهة الزكاة في الجملة، فلا يملك الاسترداد منه وإن لم يجزئه ذلك عن زكاة ماله في هذه الصورة؛ لأن من حجة المعطي أن يقول: شرط أن يكون ذلك من الزكاة لم تكن بيني وبينك، وإنما ذلك بينك وبين الله تعالى، هكذا حكي عن الفقيه أحمد بن إبراهيم رحمه الله.
وفي الباب المعلمة بعلامة النون من «الواقعات» : رجل له مائتا درهم حال عليها الحول، فأدى زكاتها خمسة، فوجد الفقير فيه منها درهماً ستوقه فجاء به ليرده على صاحب المال، فقال صاحب المال رد عليّ الباقي؛ لأنه ظهر أنه لم يكن عليّ زكاة ليس له أن يسترد؛ لأنه ظهر أنه أداه على وجه التطوع، فلا يكون له الرجوع إلا إذا رد الفقير

(2/243)


باختياره، ويكون ذلك من الفقير بمنزلة الهبة المبتدأة، حتى لو كان الفقير صبياً، ورده باختياره لا يحل له الأخذ.
رجل له مائتا درهم نقد بيت المال حال عليها الحول؛ فأدى عنها خمسة زيوفاً أو........ فإنه يجزىء ذلك عن زكاة المائتين عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد يجزئه مقدار مال الزيوف لا غير حتى لو كانت قيمة الزيوف أربعة دراهم جياد، فعليه أن يؤدي الدرهم الخامس عند محمد، وعندها ليس عليه شيء آخر.

فوجه قول محمد: أن الواجب خمسة جاز إن ماز الزيوف عنها إنما يجوز إذا كان الزيوف (131ب1) مثلاً للجياد، وإنما تكون الزيوف مثلاً للجياد إذا سقط قيمة الجودة، والجودة في الأموال الربوية إنما يسقط اعتبارها عند المقابلة بجنسها فيما بين المتعاقدين كيلاً يؤدي إلى الربا، ألا ترى أن في حق الثالث لا يسقط اعتبارها، لما كان لا يؤدي إلى الربا، لأنها إنما تظهر قيمة الجودة في حق الصغير والربا لا تجري بين المتعاقدين وغيرها، فثبت أن للجودة قيمة في موضع لا يؤدي إلى الربا وإن حصلت المقابلة بجنسها.
إذا ثبت هذا فنقول: اعتبار قيمة الجودة في حق الفقير يؤدي إلى الربا من وجه دون وجه، من حيث إن الفقير بما أخذ من الغني لا يملك من الغني قدر الواجب؛ لأن قدر الواجب لا يصير ملكاً للفقير قبل الأخذ، بل أخذه صلة ليسا بمتعاقدين، ومن حيث إنه تعلق بالواجب حق الفقير حتى ضمنه المالك عند الاستهلاك، والحق يلحق بالحقيقة متعاقدين؛ لأنه يصير مملكاً قدر الواجب من صاحب المال بما أخذ، فتمكن الربا من وجه دون

(2/244)


وجه، والعمل بالأمرين متعذر على حال، لما بينهما من التنافي، فعملنا بهما في حالين، فقلنا: متى كان في اعتبار الربا منفعة للفقير أو احتياط لأمر العبادة نعتبر الربا كما إذا وجب للفقير على الغني خمسة دراهم نبهرجة، فأعطاه أربعة جياداً تساوي خمسة نبهرجة لا يجوز؛ لأن في اعتبار الربا منفعة للفقير، فإنه يأخذ درهماً آخر، فتعتبر الربا ويؤخذ بالاحتياط وتسقط قيمة الجودة، وإذا كان في اعتبار الربا ضرر بالفقراء تعتبر الربا، ألا ترى أن صاحب المال لو أدى المال إلى الفقير ستة دراهم زيوفاً مكان خمسة دراهم جياد يجوز، وأخذ الستة مكان الخمسة ربا كما في حقوق العباد، ثم لم يعتبر الربا؛ لأن في اعتبار الربا ضرر على الفقير، فإنه لما سلم لهم الدرهم السادس، فلم تعتبر الربا؛ لأن في اعتبار الربا ضرر على الفقير، ولم يسقط قيمة الجودة.l

إذا ثبت هذا فنقول: في مسألتنا في اعتبار الربا ضرر على الفقير؛ لأنه يفوت حقه في الجودة، ولا يصل إليه درهم آخر، ومن لم يعتبر الربا لا يفوت حقه في الجودة، فيصل إليه درهم آخر بإزاء الجودة، فلا تعتبر الربا أو الجودة في مال الربا لها قيمة، وإن قوبلت بجنسها إذا كان لا يؤدي إلى الربا.
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: إن الربا فيما بين الفقير والغني ممكن من وجه دون وجه، فتمكن شبهة الربا على كل حال، والشبهة تلحقه بالحقيقة في باب المحرمات احتياطاً، فمست الضرورة إلى إسقاط قيمة الجودة في مسألتنا تحرزاً عن شبهة الربا، وإذا سقط اعتبار قيمة الجودة ههنا لا يضمن صاحب المال شيئاً، وأما إذا أدى ستة دراهم مكان خمسة دراهم ناوياً عن زكاة ماله؛ إنما جاز ولم يعتبر الربا؛ لأن المعارضة من الفقير والغني لا تثبت نصاً، وإنما ثبت في ضمن نية الربا، فإن صاحب المال بنية الزكاة قصد قضاء ما عليه من الحق للفقير واستخلاص ما للفقير لنفسه.
ونية الزكاة من الغني بقدر خمسة إذا كان عليه خمسة، ولم يصح بقدر الدرهم السادس، وإذا لم تصح نية الزكاة في الدرهم السادس صار كأنه نوى أن تكون الخمسة زكاة والدرهم السادس تطوعاً، ولو نوى على هذا الوجه لا يتمكن الربا، أما ههنا نية الزكاة صحت بقدر خمسة؛ لأن عليه زكاة خمسة، وإذا صحت نية الزكاة بقدر خمسة ثبتت بين الغني والفقير معارضة باعتبار الحق إن كان لا يثبت باعتبار الملك، فيمكن شبهة الربا.
وعلى هذا إذا كان مال الزكاة مكيلاً أو موزوناً، فأعطى من جنسها (ما) هو أجود منه، وهو أقل من الواجب كيلاً، نحو أن يؤدي أربعة أقفزة حنطة جيدة عن خمسة أقفزة حنطة وسط لا يجوز إلا عن قدره من الكيل أو الوزن، فإن كان المؤدى مثل الواجب في القدر، ولكنه أردأ من الواجب سقط منه الفضل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يؤدي الفضل.

وفي «القدوري» : رواية ابن سماعة عن أبي يوسف إذا أعطى الفضة مكان الفضة، فإن كان وزن الفضة مما دفع أقل لم يجز حتى يؤدي قدر النقصان، نحو أن يؤدي النبهرجة عن الجياد، وإن كان التفاوت لمعنى في الوصف، نحو أن يؤدي الفضة التبر عن الدراهم المضروبة، وقيمة المضروبة أكثر، إنه يجوز.
وإذا كان لرجل إبريق فضة وزنه مائتا درهم وقيمته لصياغته ثلاثمائة، أدى عنه خمسة عما عليه، فهو على الخلاف الذي بينّا، أن الجودة والصياغة في أموال الربا سواء، ألا ترى أنه لا تعتبر الصياغة في حقوق العباد فيما بين المتعاقدين كما لا تعتبر الجودة هكذا ههنا، فصار الخلاف في الصياغة نظير الخلاف في الجودة، ولو أدى عنه قدر خمسة دراهم من الذهب لا يجوز عن جميع زكاة الإبريق بالإجماع؛ لأن للجودة قيمة في أموال الربا عند معاملتها بخلاف جنسها بالإجماع.
وفي «القدوري» : إذا كان إناء فضة وزنه مائتان وقيمته ثلاثمائة، فإن زكى من عينه تصدق بربع عشره على الفقير فيشاركه فيه، وإن أدى من قيمته عدل إلى خلاف جنسه وهو الذهب عند محمد، فأما عند أبي حنيفة لو أدى خمسة من غير الإناء سقطت عنه الزكاة. وإن أدى من الذهب ما يبلغ قيمته قيمة خمسة دراهم من غير الإناء لم يجز في قولهم.
جئنا إلى بيان زكاة عروض التجارة والمسائل المتعلقة بها، فنقول: الزكاة واجبة في عروض التجارة بظاهر قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ

(2/245)


صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103) واسم المال يتناول عروض التجارة، لو خلينا وظاهر الآية لكنا نوجب الزكاة في العروض، وإن لم تكن للتجارة لكن ترك العمل بظاهره ههنا إذا لم تكن للتجارة بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان للتجارة فتبقى على ظاهرها.

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميأمرنا بإخراج الزكاة عن الرقيق، وعن كل مال نبيعه» ، ولأن هذا مال نبغي منه النماء، فيكون سبباً لوجوب الزكاة كالدراهم والدنانير والسوائم.
وإذا ثبت وجوب الزكاة في عروض التجارة، فنقول بعد هذا: الشرع لم يبيّن مقدار النصاب والواجب فيها، فيكون التقدير فيهما مفوضاً إلينا، أي في النصاب وفي الواجب، فقدرنا النصاب والواجب فيها بالذهب والفضة دون السوائم، إما لأن نصاب الذهب والفضة لا يختلف، والواجب فيهما أيضاً لا يختلف، لأن نصاب الدرهم مائتان على كل حال، ونصاب الذهب عشرون مثقالاً على كل حال، والواجب فيها ربع العشر على كل حال، وإما لأن الذهب والفضة أصول جملة هذه الأموال؛ لأن هذه الأموال في الغالب يحصل بهما مكان إلحاق هذه الأموال بالذهب والفضة أولى، وإذا وجب اعتبار المقدار بهما يعتبر بأيهما.
ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أن المالك فيها بالخيار إن شاء قوّم بالدراهم، وإن شاء قوّم بالدنانير ولم يحلء فيه خلاف، لأن هذا مال احتيج فيه إلى التقويم فيقوم، إما بالذهب أو الفضة كضمان المتلفات، وعن أبي حنيفة أنه يقوم بما فيه إيجاب الزكاة، حتى إذا بلغ بالتقوم بأحدهما نصاباً ولم يبلغ بالآخر قوم بما يبلغ نصاباً، وهو إحدى الروايتين عن محمد.
ولو كان (132أ1) بالتقوم كل واحد منهما يبلغ نصاباً، يقوم ما هو أنفع للفقراء من حيث الرواج، وإن كانا في الرواج سواء يتخير المالك؛ لأن هذا المال كان في يد المالك، وقد انتفع به في ابتداء الحول من حيث التجارة، فيجب اعتبار منفعة الفقراء عند التقويم، لأداء الزكاة تسوية بين المالك وبين الفقراء، لأن الزكاة وجبت على وجه يعتدل النظر من الجانبين فيهما.

وذكر محمد رحمه الله في «الرقيات» أنه يقوم في البلد الذي حال الحول على المتاع بما يتعارفه أهل ذلك البلد نقداً فيما بينهم، يعني غالب نقد ذلك البلد، ولا ننظر إلى موضع الشراء، ولا إلى موضع المالك وقت حولان الحول؛ لأن هذا مال وجب تقويمه، فيقوّم بغالب نقد البلد كما في ضمان المتلفات إلا أنه يعتبر نقد البلد الذي حال الحول فيه على المال؛ لأن الزكاة تصرف إلى فقراء البلدة التي فيها المال، فالتقويم بنقد ذلك البلد أنفع في حق الفقراء من حيث الرواج، فيجب اعتباره.

(2/246)


وروي عن أبي يوسف أنه يقوم ما اشترى به، وإن كان وهب له فقيل: ينوي به التجارة أو اشتراه بعرض إذا......... يقوم بغالب نقد البلد؛ لأن التقويم إنما احتيج إليه لأجل الزكاة والزكاة وظيفة الملك، وهذا المال ملك بالثمن وكان وجوب الزكاة فيه باعتبار الثمن، وكان التقويم به أولى، وهكذا نقول فيما إذا اشتراه بعرض: إن هذا المال ملك بذلك العرض، إلا أن التقويم بذلك العرض غير ممكن؛ لأن العرض لا يصلح لتقويم الأشياء، فوجب التقدير فيه بنقد البلد. ثم إذا قوم بالدراهم يقوم بمائتي درهم مضروبة، فلا زكاة فيه حتى يساوي مائتي درهم مضروبة، نص عليه في «المنتقى» .
وإذا اشترى عرضاً بدراهم أو دنانير، فالمشترى لا يصير للتجارة؛ إلا إذا نوى التجارة، وإذا اشترى عرضاً بعرض التجارة، فالمشترى يكون للتجارة نوى التجارة أو لم ينو شيئاً، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن المشترى لو صار مالَ التجارة مع أنه لم ينو التجارة، إنما صار لكونه بدل مال التجارة؛ لأن العقد لا يتعلق بعين الدراهم والدنانير، وإنما يتعلق بمثلها ديناً في الذمة، وما في الذمة ليس مال التجارة، إنما المشترى بالعرض بدل مال التجارة؛ لأن العقد يتعلق بعين العرض، وإنه كان للتجارة، فجاز أن يصير بدله للتجارة بدون نية التجارة.

الفرق الثاني: إن كان المشترى بدل مال التجارة في الفصلين جميعاً، إلا أن المشترى بالدراهم والدنانير لو صار مال التجارة لكونه بدلاً عن مال التجارة لصار مال التجارة من غير قصده.
أما المشترى بغرض التجارة لو صار مال التجارة بكونه بدل مال التجارة لصار مال التجارة من غير قصده ونيته؛ لأن الأصل صار مال التجارة من غير قصده ونيته، وما سوى......... لا يصير مال التجارة قصده ولم يعترض ما يبطل قصده، حتى لو اعترض ما يبطل قصده بأن ينوي الابتذال والخدمة وقت الشراء لا يصير المشترى للتجارة.
وأما العرض المشترى بغرض ليس هو للتجارة أو يفيد الخدمة، لا يصير للتجارة إلا بنية التجارة؛ لأن الأصل لو كان للتجارة من غير قصده، فالمشترى لا يصير للتجارة إلا بنية التجارة فإذا لم يكن الأصل للتجارة؛ بأن لا يصير المشترى به مال التجارة، إلا بنية التجارة كان أولى.
ثم نية التجارة لا عمل (لها) ما لم ينضمَّ إليها الفعل بالبيع والشراء أو السوم فيما يسام، حتى إن من كان له عبد للخدمة أو ثياب للبذلة نوى فيهما التجارة لم تكن للتجارة حتى يبيعها، فيكون في الثمن الزكاة مع ماله، وهذا بخلاف ما لو كان له عبد للتجارة، فنوى أن يكون للخدمة، بطل عنه الزكاة بمجرد النية؛ لأن في الفصل الأول الحاجة إلى فعل التجارة، وهو........ بفاعل فعل التجارة فالنية ما اتصلت بالمنوي. وفي الفصل

(2/247)


الثاني الحاجة إلى ترك التجارة، وهو ترك التجارة حقيقة، فالنية اتصلت بالمنوي.
ثم اتفق أصحابنا أن من ملك ما سوى الدراهم والدنانير من الأموال بالشراء، ونوى التجارة حالة الشراء أنه يعمل بنيته، ويصير المشترى للتجارة.
واتفقوا أيضاً أنه لو ملك هذه الأعيان بالإرث ونوى التجارة وقت موت المورث لا تصير للتجارة، ولا تعمل نيته.

واختلفوا فيما إذا ملكها بالتبرع كالهبة والصدقة والوصية والخلع والصلح عن دم العمد، ونوى التجارة عند التمليك، قال أبو يوسف: تعمل نيته، وقال محمد: لا تعمل نيته، وقول أبي حنيفة كقول محمد، كذا ذكره بعض المشايخ.
فوجه قول محمد: أن المنوي هو التجارة، وهذه الأشياء ليست بتجارة فلم تتصل النية بالمنوي، فلا يعمل.
وجه قول أبو يوسف رحمه الله: إنه يملك هذه الأعيان بكسبه والتجارة ليست هي إلا الكسب، فيلحق هذا الكسب بكسب التجارة احتياطاً لأمر العبادة.
وذكر ابن سماعة عن محمد فيمن أجّر داره بعبد يريد به التجارة، فهو للتجارة؛ لأن الإجارة نوع تجارة؛ لأنها بيع المنفعة، فالنية اتصلت بالمنوي. وفي «المنتقى» : أن نية التجارة بالعقد المتزوج عليه باطلة، وهذا يجب أن يكون قول محمد.
واختلف المشايخ في أن نية التجارة في العرض هل تعمل؟ قال شيخ الإسلام في «شرح الجامع» : والأصح أنها لا تعمل؛ لأن العرض بمعنى العارية، فعلى ما عرف في موضعه، ونية التجارة في العواري ليست بصحيحة، وفي «الجامع الكبير» ما يدل على أن بدل منافع عين هو للتجارة لا يصير للتجارة بدون النية.
قال: رجل له دار لا مال له سوى الدار، ورجل له جارية للتجارة قيمتها ألف درهم، لا مال له سوى الجارية استأجر صاحب الجارية الدار عشر سنين بالجارية، وصاحب الدار يريد بالجارية التجارة، فإن الجارية عند صاحب الدار تكون للتجارة، فقد شرط نية التجارة من صاحب الدار في الجارية، لتصير الجارية للتجارة من غير فصل فيما إذا كانت الدار للتجارة أو لم تكن.
وفي «الأمالي» : جعل بدل منافع عين التجارة للتجارة من غير نية كبدل عين هو للتجارة، وكان فيه روايتان، واختلف المشايخ فيه أيضاً، وإنما اختلفوا لاختلاف الروايتين قال القدوري في «شرحه» : والعمال الذين يعملون للناس بأجر إذا اشتروا أعياناً للعمل بها، فحال الحول عليها عندهم، وكل عين يبقى له أثر في العين، بحيث يرى كالعصفر والزعفران، وما أشبهه ففيه الزكاة، وما لا يبقى له أثر في العين، فمعنى التجارة لا يتحقق من عينه؛ لأن العين تتلف من كل وجه، فلا يكون المأخوذ عوضاً عن العين، بل يكون عوضاً عن عمله، فلا يصير مال زكاة كالصابون والأشنان بحيث يرى فلا زكاة فيه؛ لأن ما يبقى أثره في العين، فمعنى التجارة يتحقق في عينه، لأن ما يأخذ الأجير من الأجر يأخذ عوضاً عن الأثر العام بالعين المعمول، ولهذا يكون له حق بنفس العين إلى

(2/248)


أن يستوفي الأجر، فيكون مال التجارة، أما ما لا يبقى له أثر في العين.........
وذكر في «الأصل» : الخباز إذا اشترى ملحاً أو حطباً للخبز، فلا زكاة فيه، لأن معنى التجارة لا يتحقق في عينه؛ لأنه يصير مستلهكاً من كل وجه، فما يأخذ من المال يكون عوضاً عن عمله لا عن الحطب والملح، فلا يصير (132ب1) مالَ التجارة.
وإذا اشترى سمسماً ليجعل على وجه الخبز تجب فيه الزكاة؛ لأن عينه تبقى بعد الخبز، فيمكن تحقيق معنى التجارة في عينه، ولا تجب الزكاة في الشحوم والأدهان التي يحتاج إليها ليدهن به الجلود، ذكره في «المنتقى» بناءً على الأصل الذي قلنا.

قال «القدوري» : وآلات الصُّناع الذين يعملون بها وظروف الأمتعة، لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها غير معدة للتجارة. ولو أن نخاساً يشترى دواباً ويبيعها، فاشترى جلاجل ومقادد وبراقع فإن كان يبيع هذه الأشياء مع الدواب ففيها الزكاة، وإن كانت لحفظ الدواب فلا تجب الزكاة بمنزلة له آلات الصناع، وكذلك إذا كان من يبيعه إنما يسلم هذه الأشياء لمن يشترى، لا على وجه البيع فلا زكاة فيها، وهي بمنزلة ثياب الخدم التي يسلم البائع مع الخدم في البيع.
قال هشام: سألت محمداً عن رجل اشترى جارية للخدمة، وهو ينوي أنه إن أصاب ربحاً قال: ليس فيها زكاة حتى يشتري، وعزيمة أمره والغالب منه أن يشتريها للتجارة، ذكر هذه الجملة في «المنتقى» .
وقال في «العيون» : والعطار إذا اشترى قوارير فهو هكذا، وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا اشترى جوالق بعشرة آلاف دراهم ليؤاجرها من الناس، فحال عليها الحول، فلا زكاة فيها؛ لأنه اشتراها لعلة لا للتجارة، فإن كان في رأيه أنه يبيعها آخراً، فلا عبرة لهذا، وكذلك الجواب في إبل الحمالين، وهم المكارين.
رجل له مائتا قفيز من الحنطة للتجارة حال عليها الحول، وقيمتها مائتا درهم حتى وجب عليه الزكاة، فإن أدى من عينها أدى ربع العشر من عينها خمسة أقفزة حنطة، وإن أدى من قيمتها أدى ربع عشر القيمة أيضاً خمسة دراهم، فإن لم يؤد حتى تغير سعر الحنطة إلى زيادة، فصارت تساوي أربعمائة، فإن أدى من عين الحنطة أدى ربع العشر خمسة أقفزة بالاتفاق، وإن أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها يوم حولان الحول الذي هو يوم الوجوب عند أبي حنيفة، وعندهما يؤدي عشرة دراهم قيمتها يوم الأداء.
وإن تغير به سعر الحنطة إلى نقصان، فصارت تساوي مائة إن أدى من عين الحنطة أدى خمسة أقفزة بلا خلاف، وإذا أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها يوم حولان الحول الذي هو يوم الوجوب. وعندهما: أدى درهمين ونصف قيمتها يوم الأداء.
فالحاصل: أن أبا حنيفة يعتبر القيمة يوم الوجوب في جنس هذه المسائل، وهما يعتبران القيمة يوم الأداء، وهذه المسألة في الحاصل بناءً على معرفة الواجب في عروض التجارة يوم حولان الحول، فعندهما الواجب يوم حولان الحول جزء من النصاب عيناً، لكن للمالك ولاية نقل الواجب إلى القيمة بالأداء، فتراعى قيمته يوم النقل والدليل (على) أن الواجب ما قلنا، قوله عليه السلام: «خذ من الإبل الإبل ومن البقر البقر» والدليل عليه أن في نصاب السوائم تعتبر القيمة يوم الأداء، حتى إن من وجب في إبله بنت مخاض قيمته خمسة دراهم ثم تغير السعر، فصارت تساوي درهمين ونصفاً فأراد أن يؤدي القيمة أدى درهمين ونصفاً بالإجماع، فقياس عروض التجارة على السوائم أن تعتبر القيمة يوم الأداء.
واختلفت عبارة المشايخ في بيان مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فعبارة بعضهم أن الواجب بعد حولان الحول أداء القيمة، ولكن من هذا النصاب العين وأمكن تخفيفه؛ لأن النصاب حنطة وهي مال، وأداء الخمسة من الحنطة من حيث إنها مال ممكن.
والدليل على أن الواجب هذا أن النبي عليه السلام أوجب في خمس من الإبل السائمة شاة، وعين الشاة لا توجد في الإبل، وإنما يوجد فيه مال مقدر بقدر الشاة، والدليل عليه أن الزكاة وجبت بطريق التيسير، والتيسير في أن يكون الواجب من النصاب حتى تسقط بهلاك النصاب، ولكن من حيث إنه مال لا من حيث إنه عين؛ لأنه ربما يتعسر على المالك أداء العين بأن كان النصاب جارية حسناء، فعلم أن الواحب يوم حولان الحول أداء القيمة، ولكن من هذا النصاب والقيمة يوم حولان الحول خمسة دراهم، فوجب عليه خمسة دراهم، فلا يتغير بعد ذلك بتغير السعر، وهذا القائل يقول بأن مسألة السوائم على الخلاف، وإنما أمر رسول الله عليه السلام بأخذ العين تيسيراً على أرباب الأموال، لكن الأداء من العين الذي هو مملوك لهم أسهل وأيسر.

وعبارة بعضهم: أن الواجب عند أبي حنيفة يوم حولان الحول في مال التجارة أحد الشيئين بالعين أو القيمة، لأن القيمة يوم حولان الحول معتبرة بالإجماع حتى إن قيمة الحنطة إن كانت أقل من مائتي درهم، لا تجب الزكاة والعين أيضاً معتبرة، لأن قيمة الشيء ماليته، والمالية تقوم بالعين، ومالية هذا العين تقوم بعين آخر، وكان كل واحد معتبراً أصلاً، وكل واحد منهما صالح للخروج عن عهدة الواجب، وكان الواجب أحدهما لا بعينه، فثبت أن الواجب أحد الشيئين إذا اختار أحدهما، فجعل ما اختار كأنه هو الواجب من الأصل دون غيره.
وإذا صار الواجب من الأصل هو القيمة، حتى اختار أداءها لا يتغير الواجب عند ذلك بتغير السعر، وهذا القائل يقول بأن مسألة السوائم على الوفاق، والفرق على قول هذا القائل بين السوائم وبين عروض التجارة أن القيمة في السوائم يوم حولان الحول غير معتبرة للوجوب، إنما المعتبر هو العين؛ ألا ترى لو كان له خمس من الإبل لا تساوي مائتي درهم تجب الزكاة.

(2/249)


ولو كان له الأربع من الإبل تساوي مائتي درهم لا تجب الزكاة، وكان الحق متعلقاً بالعين؛ إلا أن للمالك، ولاية نقل هذا الحق من العين إلى القيمة بالأداء، فتعتبر القيمة يوم الأداء، فأما في عروض

(2/250)


التجارة بخلافه.
فإن قيل: لو كان الواجب أحد الشيئين، فإذا أدى أربعة أقفزة حنطة جيد تساوي خمسة أقفزة حنطة وسط ينبغي أن يجزئه عن الخمسة، ويجعل الحنطة بدلاً عن القيمة، وإن كانت الحنطة منصوصاً عليها كما في كفارة اليمين إذا أعطى ثوباً واحداً لعشرة مساكين تساوي خمسة أصوع من الحنطة ناوياً عن الحنطة، فإنه يجزئه عن الحنطة، وبالإجماع في مسألة أقفزة لا يجزئه إلا عن أربعة.
قلنا: إنما لا يجزئه عن الخمسة الأقفزة إذا قصد أداءها عن الخمسة الأقفزة الوسط؛ وهذا لأنه لما قصد أداء العين ظهر أن الواجب من الابتداء هو العين، فوقعت الأربعة بأجناسها عن نفسها لو وقع عن الباقي إنما يقع بالجودة، والجودة لا قيمة لها عند مقابليها بجنسها وقد قابل الجودة بجنسها حيث جعلها بدلاً عن الأقفزة الوسط، وقصد أداءها عن الوسط، حتى لو أدى أربعة أقفزة جيدة من الحنطة تساوي خمسة دراهم عن الدراهم تجزئة عن كل الواجب، وسقط عنه كل الواجب، هكذا ذكره الكرخي وعليه عامة مشايخنا، وإنه صحيح؛ لأنه ما قابل الجودة بالجنس، إنما قابلها بخلاف الجنس جعلها بدلاً عن الدراهم، وإن استهلك الحنطة بعد تمام الحول ثم تغير السعر، فالجواب فيه والجواب فيما إذا كانت الحنطة مائة وتغير السعر سواء لأن بالاستهلاك وجب المثل ديناً في الذمة، وتغير السعر يؤثر في المثل حسب تأثيره في العين، وكذلك الجواب في كل ما يكال أو يوزن أو تغير؛ لأن هذه (133أ1) الأشياء مضمونة بالمثل عند الإتلاف، وإن كان النصاب شيئاً هو ليس بمثلي كالثوب أو الجارية أو ما أشبهه، فاستهلكه بعدما تم الحول ثم تغير السعر إلى زيادة أو نقصان، فالجواب فيه عند أبي حنيفة، كالجواب في المثليات تعتبر القيمة يوم الوجوب، وعندهما تعتبر القيمة يوم الاستهلاك، فالتغير بعد الاستهلاك في غير المثليات.
والفرق لهما: أن المثليات غير معتبر حتى اعتبر القيمة فيها يوم الأداء، والتغير بعد الاستهلاك في غير المثليات معتبر عندهما، حتى تعتبر القيمة يوم الاستهلاك في غير المثليات.
والفرق لهما: أن المثليات بنفس الاستهلاك تنقل الحق من العين إلى المثل لا إلى القيمة وللمثل حكم العين، وسعر المثل قد يتغير، فيعتبر ما لو تغير سعر العين، ولو كان العين قائماً في يده، وتغير سعره لكان تعتبر قيمته يوم الأداء عندهما، فههنا كذلك.
h

أما في غير المثليات ينتقل الحق إلى القيمة بالاستهلاك لا إلى المثل، كما في حقوق العباد والقيمة التي وجبت على صاحب المال لم تعتبر بما تعتبر العين، وحق الفقير في القيمة لا في العين، فاعتبرنا القيمة يوم الاستهلاك لهذا.
هذا الذي ذكرنا كله في فصل الحنطة إذا كان التغير من حيث السعر، فأما إذا كان

(2/251)


التغير من حيث الذات، إن كان التغير من حيث النقصان بأن أصاب الحنطة ما بعد الحول، وفسدت وصارت قيمتها مائة، إن أدى من عينها أدى خمسة أقفزة، وإن أدى من قيمتها أدى درهمين ونصفاً بلا خلاف، فأبو حنيفة رحمه الله فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة.
والفرق أن في هذه المسألة فاتت الجودة، والجودة بعض العين، ألا ترى أن من غصب من أخر ثوباً جيداً، فأصابه بآفة وذهبت الجودة عنه، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء تركه عليه وضمنه قيمته بالغة ما بلغت، وإن شاء أخذ منه وضمنه قيمة الجودة كما لو فاتت بعض العين، فدل أن الجودة بعض العين، فإذا فاتت الجودة فات بعض مال الزكاة، وفوات كل مال الزكاة يوجب سقوط كل الزكاة، ففوات بعضه يوجب سقوط الزكاة قدره، أما في المسألة المتقدمة لم تفت الجودة ولا شيء من العين، ولكن انتقصت قيمته لفتور رغائب الناس فيه، ورغائب الناس ليست بمال، فلم يفت شيء من مال الزكاة حتى تسقط الزكاة بقدره، فلهذا افترقا.
وإن كان التغير إلى زيادة بأن كانت الحنطة ندية، وقيمتها يوم الوجوب بالإجماع فهما فرّقا التغير من حيث الذات إلى زيادة، وبين التغير من حيث فحقت بعد الحول، وصارت قيمتها أربعمائة إن أدى من العين أدى خمسة أقفزة، وإن أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها السعر إلى زيادة.
والفرق أن الزيادة من حيث الذات زيادة عينية، وكانت الزيادة الحاصلة من حيث الذات بعد الحول كزيادة مال استفادها بعد الحول، ولو استفاد زيادة مال بعد الحول لا يجب فيها شيء فههنا كذلك، أما الزيادة من حيث السعر ليست بزيادة عينية، فإن العين على حالها كما كانت، وإنما هي باعتبار رغبة يحدثها الله تعالى في قلوب العباد، ورغائب الناس ليست بمال لتجعل الزيادة بسببها بمنزلة زيادة مال استفادها بعد الحول، وإن لم تزدد العين كانت الأربعة قيمة ذلك العين، وكان قيمة حصة الفقراء عشرة دراهم، فإذا أراد أن يؤدي القيمة يؤدي عشرة دراهم.
ثم إن محمداً قال في هذه الصورة: إن أدى من العين أدى خمسة أقفزة ولم يقل أدى خمسة أقفزة من هذا اليابس، أو خمسة أقفزة ندية وينبغي أن يؤدي خمسة أقفزة ندية لما ذكرنا أن هذه زيادة مال استفادها بعد الحول، ولا تعتبر بالزيادة المستفادة بعد الحول، ولو أوجبنا خمسة أقفزة من هذا اليابس فقد اعتبر بالزيادة المستفادة بعد الحول، فأوجبنا خمسة أقفزة ندية كما وجب يوم حولان الحول حتى لم يلزمنا اعتبار الزيادة المستفادة بعد الحول، هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري.
قال القدوري في «كتابه» : ويضم الذهب والفضة إلى عروض التجارة؛ لأن وجوب الزكاة وعروض التجارة عندنا باعتبار القيمة، وباعتبار القيمة العروض من جنس الدراهم والدنانير.

(2/252)


زكاة السوائم
جئنا إلى زكاة السوائم، وبيان أحكامها والمسائل المتعلقة بها، فنقول لا بد لبيان ذلك من معرفة السائمة وألفاظ الكتب في بيان ذلك مختلفة.
ذكر الحسن في «كتابه» عن أبي حنيفة أن السائمة ما ترعى في البرية بنفسها وصاحبها يلتمس به الرَّسَل والنسل ولا يريد بيعها ولا التجارة.

وذكر القدوري في «كتابه» أن السائمة هي الراعية التي تكتفي بالرعي وبمؤنتها (من) ذلك، وهذا لأن السوائم إنما تعتبر لتحقيق الزيادة من حيث الدر والنسل والسمن، وإنما يعتبر ذلك زيادة إذا قلت مؤنة العلف، أما إذا كثرت مؤنة العلف فلا، وإن كان يعلفها أحياناً ويرعاها أحياناً يعتبر فيها الغالب، لأن أصحاب المواشي لا يجدون بداً من أن يعلفوا مواشيهم في بعض السنّة بأن اشتد البرد أو وقع الثلج على الأرض فيسقط اعتبار ذلك، واعتبر الغالب.
إلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الأصل» حيث قال: ألا ترى إلى أهل الجبال ربما علفوا أشهراً أو أكثر، فتخرج بهذا من أن تكون مال الزكاة، أشار إلى أن العبرة للغالب.
ولو نوى أن يجعل السائمة علوفة أو عاملة ذكر في «الأصل» : أنه لا مخرج من أن تكون نصاباً؛ لأن النية لم تتصل بالمنوي، وذكر القدوري في «كتابه» : فإن كان يرعاها مع هذه النية لا مخرج من أن تكون نصاباً. وإن ترك رعيها خرج من أن يكون نصاباً؛ لأن نية جعلها علوفة أو عاملة في الحاصل نية ترك السوم؛ فإن كان يرعاها، فالنية لم تتصل بالمنوي فلا يعمل، وإن ترك رعيها فقد اتصلت النية بالمنوي، فيعمل.
وفي «المنتقى» : إذا كان للرجل غنم للتجارة نوى أن تكون للحم، فجعل يذبح كل شاة، أو كانت عنده إبل سائمة نوى أن تكون للحمولة، فإنها للحم والحمولة، وفيه أيضاً: ذكر إبراهيم عن محمد: إذا كان للرجل إبل يعمل عليها، وهي للعمل تركها ترعى أكثر من ستة أشهر فهي سائمة، وإذا رعاها أقل من ستة أشهر، فهي...... على حالها.
وكذلك الغنم إذا لم تكن سائمة ورعاها، وهو عين ما ذكره القدوري قال: وإن كانت للتجارة ورعاها ستة أشهر أو سنة لم تكن سائمة أبداً، وهي للتجارة إلا أن ينوي أن يجعلها سائمة، قال: وهذا بمنزلة رجل له عبد للتجارة أراد أن يستخدمه سنين، فاستخدمه، فهو للتجارة على حاله، وفيه زكاة التجارة إلا أن ينوي أن يخرجه عن التجارة ويجعله للخدمة.

(زكاة الإبل)
قال محمد رحمه الله: وليس في دون الخمس من الإبل زكاة، وفي الخمس شاة وفي العشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرون بنت مخاض وهي التي طعنت في السنة الثانية، وفي ست وثلاثين بنت لبون

(2/253)


وهي التي طعنت في السنة الثالثة وفي ست وأربعين حُقَّة (133ب1) ، وهي التي طعنت في السنة الرابعة، وفي إحدى وستين جذعة، وهي التي طعنت في السنة الخامسة، ثم بعده هي..........، ولا يؤخذ شيء من ذلك في الزكوات، «لنهي النبي عليه السلام عن أخذ كرائم أموال الناس» ، ثم بعد ذلك يزداد عدد الواجب بزيادة إبل النصاب فيجب في ستة وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، على هذا اتفق العلماء.
فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين تستأنف الفريضة عند علمائنا، فيكون في الخمس شاة، وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، فإذا بلغت خمساً وعشرين تجب بنت مخاض مع الحقتين في مائة وعشرين، فيكون عدد إبل النصاب مائة وخمسة وأربعين، ويكون عدد الواجب حقتان وبنت مخاض، فإذا بلغت الإبل مائة وخمسين تجب فيها ثلاث حقاق، فإذا زادت الإبل على مائة وخمسين تستأنف الفريضة على الترتيب الذي ذكرنا في أصل النصاب إلى خمس وعشرين، فإذا بلغت خمساً وعشرين وصارت جملة إبل النصاب مائة وخمسة وسبعين تجب فيها بنت مخاض مع ما سبق من الحقاق إلى ستة وثلاثين، فإذا بلغ ستاً وثلاثين تجب فيها بنت لبون مع ما تقدم من الحقاق إلى ست وأربعين فإذا بلغت ستاً وأربعين تجب فيها أربع حقاق إلى خمسين، فإذا صارت خمسين وصارت جملة إبل النصاب مائتين، وزادت عليها بعد ذلك استأنف الفريضة، وبعد ذلك كلما بلغت الإبل خمسين يستأنف الفريضة أبداً على نحو ما فسّرنا.
(زكاة البقر)

قال وليس في أقل من ثلاثين من البقر صدقة، فإن كانت ثلاثين سائمة ففيها تبيع أو تبيعة وهي الحول التي تمت له سنة، وطعن في الثانية، وفي أربعين مسنة، وهي التي طعنت في الثالثة، واختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله فيما زاد على الأربعين، ذكر في «الأصل» : إن زاد فبسبحان ما مضى، فإن كانت واحدة ففيها ربع عشر مسنة، وروى الحسن عنه أنه لا شيء في الزيادة على الأربعين حتى يبلغ عشراً، فإذا بلغت عشراً وصارت جملة بقر النصاب خمسين تجب فيها مسنة وربع مسنة، مسنة في الأربعين وربع مسنة في الزيادة، وروى ابن كاس عنه أنه لا شيء في الزيادة، حتى تبلغ خمساً، فإذا بلغت خمساً وصارت جملة البقر خمسة وأربعين تجب مسنة وثُمْنُ مسنة، مسنة في الأربعين، وثُمْنُ مسنة في الخمس، وروى أسد بن عمرو عنه أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ عشرين، فإذا بلغت عشرين، فصار جملة نصاب البقر ستون تجب فيها تبيعان أو تبيعتان، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، وإذا ازدادت على الستين يتغير الفرض بعشر عشرة أبداً بلا خلاف، ويتغير من التبيع إلى المسنة ومن المسنة إلى التبيع، ويدار

(2/254)


الحساب على الأربعينات والثلاثينات فيجب في سبعين مسنة تبيع مسنة في الأربعين، وتبيع في الثلاثين، وفي ثمانين مسنتان في كل أربعين مسنة، وفي تسعين ثلاث أتبعه في كل ثلاثين تبيع، وفي المائة تبيعان ومسنة، في أربعين مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع، هكذا أبداً.
(زكاة الغنم)
قال: وليس في أقل من أربعين من الغنم صدقة، فإذا كان أربعين ففيها شاة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا ازدادت واحدة، ففيها ثلاث شياه إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة، ذكر في «الأصل» عن أبي حنيفة أنه لا يؤخذ إلى الثني فصاعداً، وروى الحسن عنه أنه يؤخذ الجذع من الضأن والثني من المعز، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله.
إذا اجتمع في النصاب نوعان بأن كان غنم ضأن ومعز وإبل عراب وبخت وبقر وجواميس يجمع الغنم كلها على حدة، والبقر كلها على حدة. ويأخذ المصدق من أوساطها فريضة التي تجب له، فإن شاء أخذ من البقر دون الجواميس؛ لأنه شيء واحد وقال أصحابنا: المتولد بين الغنم والظبا يعتبر فيه الأم، فإن كانت الأم غنماً تجب الزكاة ويكمل به النصاب، وكذلك المتولد من البقر الأهلي والوحشي، وإذا أدى شاة سمينة تبلغ قيمتها قيمة شاتين وسطين عن شاتين وسطين جاز، كذا ذكر في «الجامع الكبير» ، لأن للجودة قيمة في الشاة، فلم يكن المؤدى عين المنصوص عليه، فيمكن بقدره بالمنصوص عليه.
قال أبو حنيفة رحمه الله: الخيل السائمة إذا كانت ذكوراً وإناثاً، ففيها الزكاة ويخير صاحبها، فإن شاء أعطى من كل فرس ديناراً، وإن شاء أعطى ربع عشر قيمتها، والأصل في ذلك ما روى جابر أن رسول الله عليه السلام قال: «في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم وليس في المرابطة شيء» .
وأما الذكور الخلَّص والإناث الخلَّص، ففيه روايتان عن أبي حنيفة. في رواية تجب كما في المختلط، وفي رواية لا تجب، وقال أبو يوسف ومحمد: لا صدقة في الخيل أصلاً، وهو قول الشافعي حجتهم في ذلك: قوله عليه السلام: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» ولأنا أجمعنا على أنه ليس للساعي ولاية الأخذ، ومعنى زكاة السوائم على أن ولاية الأخذ للساعي، لو كانت الزكاة واجبة في الخيل لكان ولاية الأخذ فيها للساعي، وأبو حنيفة رحمه الله يحمل ما رووا من الحديث على فرس الغازي، ويجب عن فصيل الساعي ويقول: الفرس مطمع كل طامع، فالظاهر أنهم إذا علموا أنه لا يتركونه لصاحبه.

(2/255)


ولا زكاة في الحمر والبغال وإن كانت سائمة؛ لأن الزكاة لا تجب في الحيوانات إلا بالإسامة والخيل والإبل والغنم تسام عادة أما الحمر والبغال لا تسام عادة.

قال محمد رحمه الله: وليس في الحملان والفصلان والعجاجيل زكاة، وكان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول: يجب فيها ما يجب في المسنان، وهو قول زفر، ثم رجع عن هذا القول، وقال: يجب فيها واحدة منها، وهو قول أبي يوسف والشافعي، ثم رجع عن هذا القول وقال: لا يجب فيها شيء، وهو قول محمد. وجه قوله الأول: قوله عليه السلام: «في خمس من الإبل السائمة شاة» ، وقوله عليه السلام: «في أربعين شاة شاة» وهذا اسم جنس، فيتناول الصغار والكبار كما يتناول الذكور والإناث. وجه قوله الثاني أن قول أبي بكر: «لو منعوني عناقاً مما كانوا يؤدونه على عهد رسول الله عليه السلام لقاتلتهم» بين أن للعناق مدخلاً في باب الزكاة، ولا يكون ذلك إلا في الصغار، وجه قوله الآخر: أن الزكاة عرفت نصاً، فإن أمكن إيجابها كما نطق به النص تجب وما لا فلا، وأدنى ما ورد الشرع بإيجابه في الإبل من الإبل بنت مخاض.
ثم إن مشايخنا تكلموا في كيفية الاختلاف في هذه المسألة، بعضهم قالوا الاختلاف في انعقاد الحول على الصغار، عند أبي حنيفة آخر الحول لا ينعقد على الصغار، وهو قول محمد، وعند أبي يوسف وزفر والشافعي ينعقد، وبعضهم قالوا: الاختلاف في بقاء الحول إذا كان للرجل نصاب إبل أو نصاب بقر أو غنم، فولدت أولاداً وهلكت (134أ1) الأمهات وتمّ الحول على الأولاد، فلا شيء فيها عند محمد، وهو قول أبي حنيفة آخراً وعند أبي يوسف وزفر والشافعي تجب.
ثم اتفقت الروايات عن أبي يوسف في الحملان إذا كانت أربعين وفي العجاجيل إذا كانت ثلاثين أنه تجب واحدة منها، وإذا كانت أقل من ذلك لا يجب شيء كما في المسنان، واتفقت الروايات عنه في الفصلان أيضاً أنه تجب في خمسة وعشرين فصيل واحد منها، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ عدداً تجب اثنان من الكبار وهو ستة وسبعون، فإنه يجب فيها بنتا لبون، فإذا بلغت الفُصْلان هذا المبلغ تجب اثنان منها.......، فقد اختلفت الروايات عن أبي يوسف فيه، وفي رواية قال: لا يجب فيها شيء، وفي رواية قال: لا يجب في خمس فصال الأقل من واحدة منها، ومن شاة وفي العشر الأقل من ثنتين منها ومن شاتين، وفي خمسة عشر الأقل من ثلاث منها ومن ثلاث شياه. وفي عشرين الأقل من أربع منها ومن أربع شياه، وفي خمسة وعشرين واحدة منها، وفي رواية في العشر الأقل من واحدة منها ومن شاتين إلى آخر ما ذكرنا، وهاتان الروايتان لا حجة

(2/256)


لهما؛ لأن على اتفاق الروايات عنه تجب في خمس وعشرين منها واحدة منها، فكيف تجب في خمسة عشر ثلاث منها وفي عشرين أربع منها، وفي رواية هشام عنه: تجب في خمسة فصال خمس فصيل وفي ثلاثة عشر ثلاثة أخماس فصيل، وفي خمسة وعشرين واحد منها.
وفي رواية محمد عنه: إذا كان له خمسة فصلان ينظر إلى قيمة أفصلها، وإلى قيمة بنت مخاض، فإن كان قيمة أفصلها تبلغ قيمة بنت مخاض تجب فيها شاة، وإن كانت تبلغ نصف بنت مخاض تجب نصف شاة؛ لأنه لو كان واحدة منها بنت مخاض تجب فيها شاة، فإذا لم تكن فيها بنت مخاض تعتبر قيمتها، هذا كله إذا كان النصاب كله صغاراً.

وإن كان في النصاب واحدة مسنة فصاعداً تجب الزكاة بلا خلاف، حتى إذا كان له تسعة وثلاثون حملاً، وواحدة مسنة حال عليها الحول وجب فيها شاة، ويجعل الصغار تبعاً للمسنة، فبعد ذلك ينظر إن كانت المسنة وسطاً أخذت في الزكاة، وإن كانت جيدة لم يؤخذ، ويؤمر بأداء شاة وسط، وإن كانت أقل من الوسط يؤدي صاحب المال ذلك أو قيمته؛ لأن عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجوب الزكاة كان باعتبارها، فلا يزاد عليها.
وعند أبي يوسف رحمه الله الفصل على الحمل كان باعتبارها، فلا يزاد عليها، كان المعنى فيه أنّا لو أوجبنا شاة وسطاً والحالة هذه، ربما تؤثر تلك على قيمة أكثر النصاب، فيؤدي إلى الإجحاف بأرباب الأموال، فإن هلكت المسنة بعد تمام الحول لم يؤخذ مما بقي شيء في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الوجوب عندهما باعتبار ملك الواحدة وجعل الصغار تبعاً لها، فإذا هلكت هي من غير صنع أحد صار كما لو هلك الكل، وعند أبي يوسف الفضل على الحمل كان باعتبار تلك الواحدة، فيبطل الفضل بهلاكها وجعل كأن النصاب كله كان حملاناً، وهلكت منها واحدة وهناك تجب تسعة وثلاثون جزءاً من أربعين جرءاً من الحمل، كذا ههنا.
ولو هلك الحملان، وبقيت المسنة يجب فيها جزء من أربعين جرءاً من شاة مسنة، فقد جعل الواجب في السنة لا غير حال هلاكها، حتى لو قال بسقوط الواجب عندهما وبسقوط الفضل عند أبي يوسف، وجعل الواجب في الكل حال بقاء المسنة، وهلاك الصغار حتى أوجب في المسنة جزءاً من أربعين جزءاً من شاة مسنة.

والوجه في هذا أن يقال: بأنّا لا نقول بأن الواجب في السنة وحدها، إذ لو كان كذلك كان هذا إيجاب القليل في القليل أو إيجاب الكثير في الكثير، وإنه خلاف مبنى الزكاة، بل الوجوب في الكل إلا أنه أعطى الصغار حكم الكبار تبعاً للمسنة، وجعل في حق المسنة كأن الكل كبار، وهلك تسعة وثلاثون، فتبقى المسنة يقسطها ويسقط قسط الباقيات، أما في حق الصغار الكبيرة أصل، فإذا هلكت جعل هلاكها بمنزلة هلاك الكل، فسقط كل الواجب لهذا.
وكذلك إذا كان للرجل أربعة وعشرون فصيلاً وبنت مخاض سمينة أو وسط، أو

(2/257)


كان له تسعة وعشرون حمولاً، وتبيع سمينة أو وسط، فهو على التفاصيل التي بيناها، وإذا كان له أربعون شاة عجافاً إلا واحدة منها، فإنها شاة سمينة، فإنه تجب فيها شاة وسط، وإن لم يكن فيها شاة سمينة فإنه يجب واحدة من فضلهن إلى مائة وعشرين، ولا تؤخذ شاة وسط كيلا يؤدي إلى الإجحاف بأرباب الأموال.
وإن كان له مائة وإحدى (و) عشرون شاة عجافاً إلا واحدة منها، فإنها شاة وسط، فإنه تؤخذ تلك الشاة وواحدة من أفضلهن؛ لأنه لو كان فيها شاتان وسطان أخذها، فإذا كان فيها واحدة وسط أخذت هي أو واحدة من أفضلهن.
وإن كان له مائتان وواحدة فيها شاة وسط وما سواها عجاف، فإنه تؤخذ تلك الواحدة وشاتان من أفضلهن، لأنه لو كان فيها ثلاث شياه أوساط أخذن، فإذا كان فيها واحدة وسط تؤخذ تلك الواحدة وشاتان من أفضلهن.

رجل له خمس من الإبل بنات مخاض أو فوق ذلك إلا أنها عجاف، بعجفهن لا تساوي واحدة منهن بنت مخاض وسط، فعليه شاة من ذلك الصنف الذي الإبل فيه. وبيان ذلك أنه ينظر إلى قيمة بنت مخاض وسط، وإلى قيمة شاة وسط، وإنما اعتبرنا قيمة بنت مخاض وسط، لأن أقل الأسنان التي فرضت فيها الزكاة بنات المخاض ثم تتغير الزكاة بعد ذلك بزيادة العدد لا بزيادة السن، فاعتبرت قيمة بنت مخاض وسط لهذا، فإن كانت قيمة بنت مخاض وسط مثلاً خمسين وقيمة الشاة الوسط عشرة، فنقول لو كانت الواحدة بنت مخاض وسط، لكان الواجب فيها شاة قيمتها عشرة، وذلك خمس بنت مخاض، فإذا لم تكن الواحدة بنت مخاض وسط.......... ننظر إلى قيمة أفضلهن، فإن كان قيمتها عشرين مثلاً، تجب فيها شاة تساوي أربعة مثل خمس أفضلهن على هذا التفسير، إذ لا وجه إلى الإجحاف بأرباب الأموال، ولا إلى تعطيل الأموال، ولو أوجبنا ههنا شاة وسطاً، ربما تبلغ قيمتها قيمة واحدة منها أو أكثر، فيؤدي إلى الإجحاف بأرباب المال، وكان النظر من الطرفين فبها قلنا.
وكذلك لو كن ستاً أو سبعاً أو ثمانياً أو تسعاً على سن ما ذكرنا؛ لأن الفضل على الخمس إلى العشر عضو، فإذا صارت عشراً ففيها شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه على التفسير الذي قلنا.

ولو كان له خمس وعشرون من الإبل بنات مخاض وفوق ذلك، وفيهن بنت مخاض وسط وجبت بنت مخاض وسط، لأنه وجد فيهن ما يؤخذ في الزكاة، وإن كن كلهن دون بنت مخاض وسط في القيمة، لا تجب بنت مخاض وسط لأنا (134ب1) ، لو أوجبنا ذلك لا يكون المأخوذ مأخوذاً في النصاب، ومبنى الزكاة أن يكون المأخوذ موجوداً في النصاب، ولأن فيه إضراراً بأرباب المال، ولكن يؤخذ أفضلهن فيكون ذلك قائماً مقام بنت مخاض وسط، وإن كان عشر عجاف بنات مخاض أو خمس عشرة أو عشرين إلا

(2/258)


واحدة منها، فإنها بنت مخاض وسط، وجبت في العشر شاتان وسطان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه أوساط، وفي عشرين أربع شياه أوساط؛ لأن الأصل في نصاب الإبل بنت المخاض وما زاد عليها عفو، ألا ترى أن من كان له خمس بنت مخاض تجب فيها شاة وسط، فإذا (وجد) في النصاب ما هو الأصل يكفي، وجعل ما وراءه تبعاً له.
فإن قيل: إذا وجدنا أربعاً من الشياه الأوساط وقع الإجحاف بأرباب الأموال؛ لأن قيمتها قد تزيد على بنت المخاض التي تجب الزكاة لأجلها، قلنا: هذا فاسد؛ لأن سعر الغنم مع سعر الإبل تتفاوتان من حيث الغالب، فإذا ازداد أحدهما يزداد الآخر، وإذا انتقص أحدهما انتقص الآخر.
ألا ترى أن الشرع أوجب في الخمس من الإبل السائمة شاة وسطاً، وفي العشرين أربع شياه أوساط، وفي خمس وعشرين بنت مخاض وسط، ولو جاز أن تكون قيمة أربع شياه أوساط تزيد على قيمة بنت مخاض وسط كان الواجب في خمس وعشرين أقل من الواجب في العشرين، وهذا مما يجوز أن يقال به.