المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الرابع في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله
لا خلاف لأحد أن تصرف الرجل في ماله قبل الحول جائز بيعاً كان أو غيره، وإنما الكلام في الكراهة، فنقول: أجمعوا على أنه إذا باع لتوسيع النفقة على نفسه وعياله أنه لا يكره، وأما إذا قصد بالبيع الفرار عن وجوب الصدقة يكره عند محمد، وعند أبي يوسف لا يكره، وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنه يكره، وأما تصرفه بعد الحول جائز عندنا، فالأصل عندنا أن وجوب حق الله تعالى في المال نحو الزكاة وما أشبهه لا يمنع النقل من ملك إلى ملك، وهذا لأن الحق في الحقيقة في الذمة، والمال محل إقامة الحق، فقبل الإقامة كان المال خالياً عن حق الله تعالى، فانعدم المانع من النقل.
ألا ترى أن مال الزكاة إذا كانت جارية فحال عليها الحول حل لصاحب المال وطؤها، ولو كان الحق ثابتاً في العين كانت الجارية مشتركة، ولا يحل وطء الجارية المشتركة، ولأن الزكاة إنما وجبت بصفة اليسر، واليسر في الأداء من نماء المال ولا نماء إلا بالتصرف، لو صار وجوب الزكاة مانعاً من التصرف لصار مانعاً من الأداء من نماء المال، فصار مانعاً من الأداء بصفة اليسر، فيعود إلى موضوعه بالنقص، وإنه لا يجوز.

وإذا ثبت أن وجوب الزكاة لا يمنع المالك من التصرف بعد ذلك ينظر إن إزالة المال عن ملكه بتصرفه بغير عوض نحو الهبة وأشباهها، فهو ضامن قدر الزكاة، وإن أزاله عن ملكه بعوض نحو البيع، فإن حصلت الإزالة بعوض يعدله ويوازيه لا يصير ضامناً للزكاة بقي العوض في يده أو هلك، وإن حصلت الإزالة بعوض لا يعدله ولا يوازيه يصير ضامناً قدر الزكاة بقي العوض في يده أو هلك؛ وهذا لأن البيع إذا حصل بعوض يعدل

(2/259)


والعوض يقوم مقام جميع مال الزكاة، ويصير من حيث المعنى كأن مال الزكاة قائم في ملكه، فلا يصير بالبيع مستهلكاً للزكاة، بل يصير ناقلاً، إياها من محل إلى محل، وله ولاية النقل حتى جاز أدء القيمة عندنا، فأما إذا حصل البيع بعوض لا يعدله، فالعوض لا يقوم مقام جميع مال الزكاة، فيصير بالبيع مستلهكاً مال الزكاة لا ناقلاً، والاستهلاك سبب وجوب الضمان.
ثم إذا وجب الضمان بالاستهلاك وزال الاستهلاك بانفساخ السبب من الأصل برىء من الضمان؛ لأن انفساخ السبب يوجب انعدامه من الأصل، كأن لم يكن وانعدام سبب الضمان يوجب انعدام الضمان، وإن زال بطريق الارتفاع لا بطريق الانفساخ من الأصل لا يبرأ عن الضمان؛ لأن ارتفاع السبب لا يوجب زوال الحكم؛ لأنه لا يظهر عدم السبب من الأصل ووجود السبب يشترط لثبوت الحكم، أما بقاؤه لا يشترط لبقاء الحكم، فيبقى حكم الضمان وإن زال السبب.

إذا عرفنا هذا الأصل جئنا إلى بيان المسائل: قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان له إبل سائمة باعها بعد الحول حتى بعد البيع ثم حضر الساعي، فإن قال له البائع: أنا أدفع إليك قيمة الواجب أو عين الواجب من مال آخر، فلا سبيل له على المشترى، وإن قال له البائع: ليس عندي ما أدفعه إليك للحال، ينظر: إن كان البائع والمشتري في مجلس العقد بعد، فالساعي بالخيار إن شاء اتبع البائع بقدر الزكاة؛ لأن الزكاة وجبت عليه، وإن شاء اتبع المشتري وفسخ العقد في قدر الزكاة، وأخذ ذلك من النصاب.
وإن حضر الساعي بعدما تفرق البائع والمشتري عن مجلس العقد، فالقياس أن للساعي الخيار على نحو ما بينا، وفي الاستحسان لا سبيل له على المشتري، بل يتبع البائع بقدر الزكاة بمال.
وإذا بادل عروض التجارة بعروض التجارة وهي مثلها في القيمة أو باعها بدراهم أو دنانير لا يصير ضامناً للزكاة؛ لأنه بادل مال الزكاة بعوض يعدله، بخلاف ما إذا باعها بعبد للخدمة.
قال في «الجامع» : رجل له ألف درهم حال عليها الحول وجبت فيها الزكاة، ثم اشترى بها عبداً للتجارة يساوي تسعمائة وخمسين درهماً، ثم هلك العبد سقط عنه زكاة الألف المقدر بتسعمائة وخمسين؛ لأنه بهذا القدر بادل مال الزكاة بعوض يعدله ويوازيه؛ لأن العوض للتجارة كالأصل، فلا يصير بهذا القدر مستهلكاً، بخلاف ما إذا اشترى عبداً للخدمة أو طعاماً للأكل أو ثياباً للبس، حيث يعتبر ضامناً قدر الزكاة، بقيت هذه الأشياء في يده أو هلكت؛ لأنه بادل مال الزكاة بعوض لا يعدله، فيصير مستلهكاً قدر الزكاة.
وأما بقدر الخمسين وإن شاء مستهلكاً بهذا القدر؛ لأنه ليس بمقابلته عوض، إلا أن هذا القدر غبن يسير لأنه يدخل تحت تقويم المقومين منهم من يقومه بتسعمائة وخمسين، ومنهم من يقومه بألف فالاستهلاك إن ثبت بقول أحدهما لم يثبت بقول الآخر، فلا يثبت بالشك.

(2/260)


ولو كان اشترى بالألف عبداً قيمته خمسمائة وتقابضا وهلك العبد في يده لزمه زكاة خمسمئة، لأن بهذا القدر صار مستهلكاً؛ لأنه لمس بمقابلته عوض، وهذا غبن فاحش لأنه لا يدخل تحت تقويم المقومين والغبن الفاحش ليس بعفو؛ لأنه استهلاك بيقين، وعن أبي يوسف أن المشتري إنما يضمن زكاة خمسمائة إذا علم أن قيمة العبد خمسمائة واشتراه مع ذلك بالألف، أما إذا حسب أن قيمته ألف لا يضمن شيئاً، لأنه ما قصد الاستهلاك بل خدعه البائع، فكان مغروراً من جهته فيكون معذوراً، والصحيح ما ذكر في «الكتاب» ؛ لأن علم المشتري وجهله أمران باطنان لا يوقف عليهما، فلا يتعلق الحكم بها، بل يتعلق بسبب ظاهر، وفي الظاهر (135أ1) استهلاك، وما يقول البائع خدعه.
قلنا: إنما يكون كذلك إذا قال البائع هذا العبد يساوي ألفاً ورغبه في الشراء بالألف؛ لأنه يساوي، ولا كلام فيه حتى قال مشايخنا: لو قال البائع للمشتري ذلك لا يبعد أن يقول: لا يضمن المشتري.
رجل له ألف درهم حال عليها الحول ووجب فيها الزكاة، ثم إنه وهبها لرجل وسلمها إليه صار ضامناً للزكاة، لأنه صار مستهلكاً قدر الزكاة بإزالته عن ملكه بغير عوض أصلاً، فلو أن الواهب رجع في الهبة نقضاً بغير رضا وقبضها، وهلكت في يده فلا زكاة عليه.
علّل في «الكتاب» فقال: لأنها رجعت إلى حالتها الأولى، ومعنى هذا الكلام: أن الرجوع في الهبة فسخ في حق الناس كافة، والدراهم تتعين في الهبة، فتعين في فسخها، فعاد إليه قديم ملكه في الدراهم وارتفع الاستهلاك، فقد جعل الرجوع بالهبة فسخاً في حق الناس كافة، وإن حصل الرجوع بتراضيهما على رواية «الجامع» وفي كتاب الهبة........ هكذا على رواية أبي حفص، وعلى رواية أبي سليمان جعله عقداً جديداً في حق الثالث إذا حصل بتراضيهما.

وحكى الجصاص بإسناده عن محمد رحمه الله: أن القياس أن يكون الرجوع في الهبة فسخاً سواء بقضاء أو بغير قضاء غير أني أستحسن، فلا أجعله فسخاً إذا كان بغير قضاء، وعلى قول أبي يوسف هو فسخ على كل حال.
قيل: ما ذكر في «الجامع» وفي كتاب الهبة في رواية أبي حفص قياس، وما ذكر في رواية أبي سليمان والمتأخرون من مشايخنا قالوا: الصحيح ما ذكر في «الجامع» ، وفي كتاب الهبة في رواية أبي حفص، والوجه في ذلك أن الواهب بالرجوع يستوفي عين حقه؛ لأنه استحق الرجوع في الموهوب بنفس الهبة لا بدلاً عن شيء يصلح أن يكون الفسخ عوضاً عنه، وهذا لأن العوض المال وإن كان عوضاً للواهب بالهبة، إلا أن العوض المالي لا يصير مستحقاً بالمطالبة لمكان الجهالة، فلا يمكن أن يجعل الفسخ عوضاً عنه، وما عدا العوض المالي ليس بعوض، ولا مستحق بالعقد إذا لم يكن ما عدا العوض

(2/261)


المالي عوضاً ومستحقاً بعقد الهبة، ولا يمكن أن يجعل فسخه عوضاً عن العوض المالي كان الفسخ ثابتاً بنفس الهبة ابتداء لا بدلاً، ولهذا لو تعذر الفسخ بسبب من الأسباب لا يستحق الواهب الرجوع بشيء آخر.
فهو معنى قولنا: إن الواهب بالرجوع استوفى عين حقه، فلا يكون بيعاً جديداً، بل يكون فسخاً في حق الناس كافة، كما لو حصل الرجوع بقضاء.
ولم يذكر في «الكتاب» : إذا رجع في الهبة ولم يقبضها حتى هلكت في يد الموهوب له، هل يضمن قدر الزكاة؟ وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم، قالوا: يضمنون؛ لأن سبب الضمان الهبة والتسليم، الهبة إن انتقضت بالرجوع، فالتسليم لم ينتقض، فلا يبطل الضمان، وبعضهم قالوا: لا يضمن؛ لأنه إنما ضمن بالهبة والتسليم من حيث إنه أزال قدر الزكاة عن ملكه بعدما تعلق به حق الفقراء من غير تلف لا من حيث إنه دفعه إلى غيره، وبالرجوع عاد إليه قديم ملكه على رواية هذ الكتاب، فزال سبب الضمان، فيزول الضمان.

ولو كان اشترى بالألف عبداً للخدمة بعد الحول حتى ضمن قدر الزكاة، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً ورده بقضاء، أو بغير قضاء واسترد تلك الألف وهلك في يده لا تسقط عنه الزكاة؛ لأن سبب الضمان لم يزل؛ لأن أكثر ما في الباب أنه عاد إليه ملك الألف إلا أنها ما عادت إليه بسبب الفسخ؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في فسخ البيع كما لا يتعينان في البيع، فالفسخ أوجب الألف ديناً في ذمة البائع، والمشتري أخذ هذه الألف عوضاً عما وجب في ذمة البائع، لا بحكم الفسخ، فلم يكن هذا الاسترداد إعادة إلى قديم الملك.
بل كان تمليكاً ابتداء عوضاً عما وجب في الذمة، وتجدد الملك يُنزّل منزلة تجدد البيع، ولو وصل إليه عين آخر اليسر أنه لا يرتفع حكم ذلك الاستهلاك كذا ههنا، بخلاف الرجوع في الهبة؛ لأن الدراهم والدنانير تتعينان في الهبة، فيتعينان في الفسخ فعين النصاب عاد إليه بناءً على انفساخ سبب الزوال، فافترقا من هذا الوجه.
رجل تزوج امرأة على ألف درهم، ودفعها إليها، فحال عليها الحول وهي في يدها حتى وجبت عليها الزكاة، ثم طلقها قبل الدخول بها وأخذ منها نصف الألف، لا يسقط عنها شيء من الزكاة؛ لأن الدراهم لا تتعين عند فسخ النكاح كما لا تتعين عند عقد النكاح، فبالطلاق قبل الدخول بها يجب عليه رد نصف الألف ديناً في الذمة، فهذا دين لحقها بعد الدخول، وقد قضت ذلك من محل تعلق به حق الفقراء، فصارت ضامنة للزكاة.
ولو تزوجها على إبل سائمة أو غنم سائمة أو بقر سائمة، ودفعها إليها، فحال الحول عليها، وهي عندها ثم طلقها قبل الدخول بها وأخذ منها النصف، فلا زكاة عليها في النصف الذي دفعت إلى الزوج، وإنما عليها الزكاة في النصف الباقي.

وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا تزوجها على إبل بعينها؛ لأنها تعينت للرد،

(2/262)


فالاستحقاق ورد على بعض النصاب بعينه، وإنه يوجب سقوط الزكاة بقدره، وإنما يشكل هنا إذا تزوجها على إبل بغير عينها ثم عينها؛ لأن الإبل إذا لم تكن معنية عند العقد، فعند الفسخ بطلاق الزوج لا يستحق عليها نصف المقبوض، وإنما يستحق مثل المقبوض ديناً في الذمة أو نصف قيمة المقبوض، فلم تصر عين مال الزكاة مستحقاً، فينبغي أن لا يسقط شيء من الزكاة، ألا ترى أن الإبل إذا لم تكن معنياً عند العقد، فالمرأة لا تستحق عين الإبل إنما تستحق أحد الشيئين؛ إما الوسط من المسمى أو القيمة، كذا الزوج عند الطلاق.
فمن مشايخنا من حمل المسألة على ما إذا تزوجها على إبل بعينها ألا ترى أن محمداً رحمه الله قال تزوجها على إبل سائمة وإسامة ما في الذمة لا يتصور، وإنما يتصور إسامة العين، ومنهم من قال الجواب في العين وغير العين على السواء، وهو الصحيح.
وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه، والتنصيص على السائمة لا يدل على إرادة العين.
فقد ذكر محمد رحمه الله في كتاب النكاح: إذا تزوجها على إبل سائمة بغير عينها، فالوجه في المسألة أن الإبل لم تكن معينة عند العقد إلا أن بعد ما عينها التحقت بالمعين وقت العقد كأن العقد من الابتداء ورد عليها، وإنما التحقت بالمعين وقت العقد ضرورة أنها لو لم تلتحق بالمعين وقت العقد (135ب1) وجب على المرأة بالطلاق قبل الدخول مثل ما يجب على الزوج عند العقد، ولا وجه إليه؛ لأنه وقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض وبين المقبوض؛ لأن الحيوان ليست من ذوات الأمثال.

وكذا يقع التفاوت بين نصف المقبوض وقيمته، والتحرز عن هذا التفاوت ممكن بإيجاب نصف المقبوض وإلحاق المقبوض بالمعين وقت العقد، فألحقنا المقبوض بالمعين وقت العقد، فأوجبنا رد نصف المقبوض بخلاف ابتداء العقد؛ لأن الاحتراز عن هذا التفاوت في ابتداء العقد بإيجاب المعين غير ممكن إذ ثبت حالة العقد غير معين، فأما بعد الطلاق تعين المقبوض بالقبض فأمكن إيجاب نصفه تحرزاً عن التفاوت، وإذا أوجب عليها رد نصف المقبوض صار غير مال الزكاة مستحقاً عليها، وهذا بخلاف الدراهم؛ لأن الدراهم بالتعيين لا تلتحق بالمعين وقت العقد، وكيف تلتحق وإن تعيينها وقت العقد لا يصح.
ثم إن محمداً رحمه الله أوجب عليها الزكاة في النصف الباقي، ولم يشترط أن يكون ذلك نصاباً، وفرق بين هذا وبين ما إذا لم تقبض المرأة الإبل حتى طلقها بعد الحول قبل الدخول بها، فإن عليها زكاة نصفها إن كان نصاباً والفرق أن الصداق إذا كان عيناً وكان مقبوضاً، فبالطلاق قبل الدخول لا ينتقض ملكها في النصف إلا بقضاء ورضاء، وإذا لم يكن مقبوضاً فبالطلاق قبل الدخول ينتقض ملكها في النصف من الأصل من غير قضاء ولا رضاء.
فالوجه في ذلك: أن بالطلاق قبل الدخول يفسد سبب الملك في نصف الصداق؛

(2/263)


لأن العقد ورد على العين بالعين وقد هلك أحدهما قبل القبض، وبقي الآخر، والأصل أن العقد إذا ورد على العين بالعين، وهلك أحدهما قبل القبض وبقي الآخر، يفسد العقد في الآخر ولا يبطل؛ لأن كل واحد منهما أصل من وجه، فبقاء ما بقي يوجب بقاء العقد، وهلاك ما هلك يوجب انفساخ العقد، فعملنا بهما فقلنا ببقاء أصل العقد، وبارتفاع وصف الصحة إذا ثبت أن سبب ملكها في نصف الصداق يفسد بالطلاق قبل الدخول.

فنقول: فساد السبب لا يمنع ثبوت الملك في اليد بعد القبض، فلا يمنع بقاء من الطريق الأولى، فيبقى الملك إلا أنه ينتقض بالقضاء أو الرضا، فيقتصر البطلان على حالة القضاء أو الرضا، وكان بمنزلة هلاك البعض بعد الحول، فلا يشترط كون الباقي نصاباً، أما فساد السبب قبل القبض يمنع ثبوت الملك فيمنع البقاء، فينتقض الملك في النصف من الأصل، وصار كأن لم يكن، وكان كالمال المشترك بينهما، فيشترط أن يكون نصاباً.
وإن كانت الإبل قد ازدادت في يديها زيادة متصلة ثم طلقها قبل الدخول بها لا يسقط عنها شيء من الزكاة، لأن الواجب عليها في هذه الصورة: رد نصف القيمة لا رد نصف الأصل؛ لأن الزيادة المتصلة في المهر تمنع بنصف العين بالطلاق قبل الدخول على ما عرف؛ فلم يصر عين مال الزكاة مستحقاً، ذكر المسألة في «الجامع» من غير ذكر الخلاف، وذكر في نكاح «الأصل» : أن الزيادة المتصلة بالمهر تمنع بنصف المهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد وزفر: لا تمنع، ولما كان قول محمد في الزيادة المتصلة أنها لا تمنع بنصف المهر صار نصف المهر عين مال الزكاة مستحقاً عليها، فينبغي أن تسقط نصف الزكاة، وتبين مما ذكر في نكاح «الأصل» أن المذكور في الجامع قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وعلى قول محمد، وزفر لا تمنع ويكون المذكور، في «الجامع» قول الكل وثبت برجوع محمد إلى قولهما؛ لأن «الجامع» آخر تصانيف محمد رحمه الله.
ولو لم يكن الزوج طلقها قبل الدخول، ولكنها قبلت ابن زوجها قبل الدخول بها بشهوة حتى بانت من زوجها، وجب عليها رد جميع البدل إذا لم تزدد الإبل في بدنها لمكان الفرقة الجاثية من قبلها قبل الدخول بها، وسقط عنها كل الزكاة؛ لأن عين مال الزكاة استحق عليها بكماله.

فإن قيل: سبب استحقاق مال الزكاة صنعها، وهو التقبيل، فصارت مستهلكة مال الزكاة، فتصير ضامنة قدر الزكاة، والواجب أن بالتقبيل في هذه الصورة لا يزول ملكها عن الصداق متى كان الصداق عيناً، وكان مقبوضاً ما لم يقض القاضي بالرد أو ترد هي بنفسها؛ لأن النكاح في هذه الصورة مشتمل على عوضين يتعينان بالعقد؛ لأن المرأة عين والصداق في هذه الصورة عين أيضاً، والمعاوضة متى اشتملت على عوضين عينين يتعينان بالمعاوضة وهلك أحدهما قبل التسليم، والآخر مقبوض، فالمقبوض يبقى ملكاً للقابض ملكاً فاسداً ما لم يقض القاضي بالرد أو يرد القابض بنفسه على ما مر.

(2/264)


إذا ثبت هذا فنقول: هلك أحد العوضين وهو المرأة معنى بالتقبيل، والعوض الآخر وهو الصداق مقبوض، فبقي ملكاً لها ملكاً فاسداً ما لم يقض القاضي بالرد أو ترد هي بنفسها، فهو من حيث المعنى كالرد بقضاء القاضي؛ لأنها ردت بسبب فساد الملك، والرد بقضاء وبغير قضاء سواء؛ لأنه في الحالين لا يثبت عقد جديد في حق الثالث؛ لأنها في الحالين موقفه عين حق الزوج، فإن كانت قبلت ابن زوجها، وقد ازدادت الإبل في يديها جبراً لا يجب عليها رد الإبل عندهما، لقيام المانع من الرد، وهو الزيادة المتصلة، فترد القيمة وعليها جميع زكاة الإبل؛ لأن عين مال الزكاة لم يصر مستحقاً عليها، وعلى قول محمد رحمه الله على ما ذكر محمد في نكاح «الأصل» ، يجب عليها رد عين الإبل؛ لأن الزيادة المتصلة ليست بمانعة نصف العين فيلزمها رد عين الإبل، وتسقط جميع الزكاة عنها لاستحقاق عين مال الزكاة عليها بكماله، والله أعلم.

الفصل الخامس في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه
إذا استبدل الدراهم أو الدنانير بجنسها أو بخلاف جنسها لم ينقطع حكم الحول، حتى لو تم حول الأصل تجب الزكاة، وكذلك إذا بادل عروض التجارة بعروض التجارة لا ينقطع حكم الحول، وإذا استبدل السائمة بخلاف جنسها بأن باعها بدراهم أو دنانير أو بجنسها بأن باعها بإبل مثلها مثلاً يبطل حكم الحول عندنا، وهذا لأن الزكاة السائمة تجب باعتبار العين ولا يراعى فيها القيمة، وكان انعقاد الحول عليها باعتبار العين، والعين الثاني غير الأول حقيقة، فقد تبدل ما انعقد عليه الحول، فيبطل حكم الحول ضرورة بخلاف عروض التجارة؛ لأن وجوب الزكاة في عروض التجارة، وانعقاد الحول عليه باعتبار القيمة، والقيمة لم تتبدل.
فإن قيل: زكاة السائمة كما تجب باعتبار العين تجب باعتبار القيمة والمالية أيضاً، ألا ترى أنه لو هلكت المالية بالموت لا تجب الزكاة، وههنا إن تبدل العين لم تتبدل المالية، فاعتبار العين يوجب بطلان الحول، واعتبار المالية يوجب بقاء الحول، فلا يبطل الحول بالشك.
قلنا: وجوب الزكاة في السائمة (136أ1) إن كان باعتبار العين والمالية جميعاً إلا أن اعتبار العين أولى، لأن العين أصل، والمالية تبع، فإن العين تبقى بدون المالية، والمالية لا تبقى بدون العين، فإذا تبدل العين، فقد تبدل الأصل، فجعل المالية مقيداً له حكماً ومعنى تبعاً وإن لم تتبدل من حيث الحقيقة، وإذا تبدل العين والمالية جميعاً بطل حكم الحول ضرورة.
وإذا كان للرجل إبل سائمة، فإذا كان قبل الحول بشهر هلك واحدة منها لا يبطل حكم الحول عندنا، حتى لو استفاد واحدة منها أخرى قبل الحول ثم تم الحول تجب

(2/265)


الزكاة عندنا، وهذا بناءً على أن نقصان النصاب في أثناء الحول لا يمنع وجوب الزكاة بلا خلاف، وهذا لأن الحول إنما ينعقد باعتبار المال، وبعض المال في السوائم عندنا خلافاً للشافعي، وفي عروض التجارة والدراهم والدنانير نقصان النصاب في أثناء الحول لا يمنع وجوب الزكاة إن زال بقي البعض.
فزوال ما زال إن كان يوجب بطلان الحول، فبقاء ما بقي يوجب بقاء الحول وقد عرف أن الحكم متى ثبت بعلة يبقى ما بقي شيء من العلة، وعلى هذا إذا جعل البعض علوفه في خلال الحول لا يبطل حكم الحول عندنا، وإنما يبطل إذا جعل الكل علوفة؛ لأن الحول إنما ينعقد على المال باعتبار النماء، فإذا جعل الكل علوفة، فقد زال جميع ما انعقد عليه الحول بخلاف ما إذا جعل البعض، لأن هناك بقي بعض ما انعقد عليه الحول، فبقي حكم الحول باعتباره.
وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن له غنم للتجارة منها تبلغ نصاباً، فماتت في خلال الحول، فسلخها ودبغ جلدها وقيمة الجلد تبلغ نصاباً، فعليه الزكاة عند تمام الحول قال: وبمثله لو كان عصيراً للتجارة تبلغ قيمته نصاباً فتخمر في خلال الحول ثم تخللت، وقيمته تبلغ نصاباً ثم تم الحول، فلا زكاة عليه وأشار إلى الفرق فقال لا بد وأن يكون على ظهر الشاة شيء من الصوف له قيمته، فيبقى الحول باعتباره، ولا كذلك العصير.
وذكر مسألة الجلد في «المنتقى» : على نحو ما ذكرنا ولم يذكر مسألة العصير، وذكر المعنى في مسألة الجلد، فقال: الجلد في نفسه مال، لكن لا تظهر أحكام المالية لمجاورة النجاسات إياه، فمن حيث إنه مال يبقى الحول، وهذ المعنى يقتضي بقاء الحول في مسألة العصير؛ لأن الخمر عندنا مال إلا أنه ليس بمتقوم، فيبقى الحول من حيث إنه مال.
h
ونص القدوري في «شرحه» أن حكم الحول لا ينقطع في مسألة العصير، وسوى بين مسألة العصير وبين مسألة الشاة.
قيل: وفي «نوادر ابن سماعة» : أن الحول لا ينقطع في مسألة العصير كما ذكره القدوري.

ولو كان له عبد للتجارة كاتبه ثم عجز ورد في الرق، ذكر في «المنتقى» : أنه لا يعود للتجارة، وقيل: وفي «الجامع» : أنه يعود للتجارة، قال في «المنتقى» : وكذلك إذا لم يكاتبه، ولكنه وهبه لرجل ودفعه إليه ثم رجع في نفسه لم تكن للتجارة، وكان هبته إياه إخراجاً له من التجارة، قال: والبيع في هذا يفارق الهبة وأشار إلى الفرق؛ فقال: ألا ترى أني لو أمرت رجلاً أن يهب عبدي هذا من فلان، فوهبه له ثم رجعت فيه لم يكن له أن يهبه له ثانياً، ولو أمرته ببيع عبد لي، فباعه ثم ردّ إليّ بعيب كان له أن يبيعه مرة أخرى.
وفي «القدوري» : إذا كان العبد للتجارة فقتله عبد خطأً، فدفع به فالثاني للتجارة؛ لأن الثاني قائم مقام الأول لحماً ودماً فيبقى حكم الأول فيه ولو قتله عبد عمداً، فصالحه المولى عن الدم على العبد أو على غيره، لم يكن للتجارة لأنه عوض عن شيء آخر هو ليس بمال، وليس بقائم مقام الأول، فلا يبقى حكم الأول والله أعلم.

(2/266)


الفصل السادس في تعجيل الزكاة
ويجوز تعجيل الزكاة قبل الحول إذا ملك نصاباً عندنا؛ لأنه أدى بعد وجود سبب الوجوب؛ لأن سبب الوجوب نصاب نام؛ فإن نظرنا إلى النصاب فالنصاب قد وجد؛ وإن نظرنا إلى النماء فقد وجد أيضاً؛ لأن العبرة لسبب النماء وهو الإسامة أو التجارة لا لنفس النماء، وقد وجد سبب النماء.
بخلاف ما إذا عجل قبل كمال النصاب؛ لأنه أدى قبل وجود سبب الوجوب، وإذا عجل زكاة سنتين، يجوز عن علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر، وكذلك إذا عجل زكاة نصب كثيرة، وله نصاب واحد جاز عند علمائنا الثلاثة، وإذا عجل عشر نخلة قبل أن يخرج منه شيء لا يجزئه عند أبي حنيفة ومحمد، ويلزمه أن يعطي عشر الخارج وعلى قول أبي يوسف يجوز التعجل، ولا يلزمه شيء إذا كان ما أدى مثل عشر ما خرج.
وعلى هذا الخلاف: إذا زرع وعجل العشر قبل النبات، ولو عجل بعدما نبت وصار له قيمة، فإنه يجزئه بالإجماع، إذا خرج الحب بعد ذلك.
وجه قول أبي يوسف: أنه أدى بعد وجود سبب الوجوب؛ لأن النخيل سبب حصول التمر؛ لأن بعد وجود النخيل لا يحتاج إلى واسطة اختيارية لحصول التمر وهذا هو حد السبب، وكذلك الزراعة سبب حصول الحب بهذا الطريق، وإذا كان سبباً لخروج التمر والحب كان سبباً لوجود النماء، فيكون سبباً للوجوب، فكان الأداء بعد وجود سبب الوجوب، وعلى هذا الجواب يخرج ما أدى قبل الزراعة.
وجه قول محمد: أن الأداء حصل قبل وجود سبب الوجوب؛ لأن سبب وجوب العشر الخارج الذي يجب فيه العشر كما أن سبب وجوب الزكاة المال الذي تجب فيه الزكاة.
وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف: لا بأس بتعجيل زكاة النخل والكرم لسنين؛ لأن هذا قائم كالحرث الذي بذره حال ثمنه، قال أبو يوسف: وأما الأنعام إذا أراد أن يزكي ما في بطونها مع الأمهات ويحتسب بها في العدد، فعجل ذلك قبل الحول أجزأه إذا كانت حوامل.
وفيه أيضاً: الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل له ألف درهم أراد أن يعجل زكاتها قبل الحول فعليه أن يزكي من كل إحدى وأربعين درهماً، وسيأتي المعنى فيه بعد هذا، وإن حال الحول قبل أن يؤدي وجب عليه في كل أربعين درهماً درهم، ولو كانت له واحد وأربعون ألف درهم، فعجل زكاتها عجل ألف درهم وليس عليه أكثر منها؛ لأن الحول إنما يحول على أربعين ألفاً.
قال محمد في «الزيادات» : رجل مرّ على العاشر بمائتي درهم، فأخبر العاشر أنه لم

(2/267)


يتم حوله، وحلف على ذلك لم يأخذ منه العاشر شيئاً، فإن طلب فيه العاشر أن يعجل زكاته خمسة ففعل، فهذه المسألة تشتمل على فصول ثلاثة: