المحيط البرهاني في الفقه النعماني

الفصل الأول: أن يتم الحول وعند صاحب المال ما بقي من المال مائة وخمسة وتسعون، وهذا الفصل على سبعة أوجه:
الوجه الأول: أن يتم الحول والخمسة المقبوضة قائمة في يد العاشر (136ب1) وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة قياساً، ويصير زكاة استحساناً، لم يذكر القياس والاستحسان ههنا، إنما ذكره في فصل الإبل، عامة المشايخ على أن ذكر القياس والاستحسان في فصل الإبل ذكر في فصل الدراهم.
وجه القياس: أن المعجل إنما يصير زكاة إذا ثبت الوجوب في آخر الحول؛ لأن أداء الزكاة ولا زكاة مستحيل، ولا زكاة إلا بعد الوجوب ولا وجوب في آخر الحول ههنا لانعدام شرطه، وهو كمال النُّصُب، فإن المؤدى خرج عن ملكه بالأداء، ولهذا لو أراد أن يسترد من العاشر لم يكن له ذلك.
وجه الاستحسان: أن يد الساعي في المقبوض قبل الوجوب، وهو المعجل قائمة مقام يد الملك، وفي المقبوض بعد الوجوب قائمة مقام يد الفقراء، وهذا لأن المقبوض قبل الوجوب حق المالك، والساعي يقبض مال المالك بأمره ويعمل له، فيكون نائباً عنه واعتبرت يده يد المالك، والمقبوض بعد الوجوب حق الفقراء.
ولهذا يجبر المالك على الأداء، والإنسان لا يجبر على أدء المالك لحق نفسه، وإنما يجبر لحق غيره، ولا حق في الصدقة إلا للفقراء، فتعتبر يد الساعي في قبض حقهم قائماً مقام يدهم، ومتى أشكل الأمر فيها عند الإخراج الدفع أنها واجبة وليست بواجبة كان حكمها موقوفاً، فإن ظهر أنها واجبة تبين أن يد الساعي كانت يد الفقراء من يوم الأخذ، وإن ظهر أنها نفل تبين أن يد الساعي يد صاحب المال من وقت الأخذ، إذا ثبت أن يد الساعي في المعجل قائمة مقام يد المالك صارت الخمسة المعجلة في يد المالك حكماً، فيكمل به النصاب ويثبت الوجوب، فيصير المعجل زكاة.
الوجه الثاني: أن يستهلكها العاشر، ويأكلها قرضاً، وهو الوجه الثالث؛ إذا أخذها عمالة له نفسه، وهو الوجه الرابع، وهذه الوجوه على القياس والاستحسان أيضاً.
وجه القياس: أن المعجل في هذه الصور لا يمكن أن يجعل باقياً على المالك، فكان النصاب ناقصاً في آخر الحول.
وجه الاستحسان: أن المستهلك والمأكول قرض مضمون في ذمة الساعي بمثله، فيمكن تكميل النصاب به يكون الضمان قائماً مقام المضمون، والمأخوذ عمالة لا تزول عن ملك رب المال بمجرد الأخذ، إذ لو زال لا تجب الزكاة، فلا يكون له عمالة؛ لأن العمالة في الصدقة الواجبة فيصير المأخوذ عمالة حينئذٍ ديناً على الساعي، ويكمل به النصاب، ففي إبطال الزكاة ابتداء إيجابها انتهاء، غير أن في فصل الاستهلاك والقرض نوع إشكال، فإن المعجل صار ديناً في ذمة الساعي، وأداء العين عن الغير لا يجوز، ولا

(2/268)


يقال بأن المعجل يصير زكاة من حين دفعه وعند ذلك كان عيناً، لأنا نقول هذا فاسد؛ لأن المعجل لو صار زكاة من حين دفعه، تخرج الخمسة من ملك المالك من وقت التعجيل، فلا يكمل به النصاب، ولا تجب الزكاة، فيبطل المعجل ولا يصير زكاة، فتقتصر صيرورة المعجل زكاة على الحال، وعند ذلك يتأتى الإشكال.
الوجه الخامس: أن يتصدق بها العاشر على المساكين قبل تمام الحول، ثم تم الحول، وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة لانعدام الوجوب في آخر الحول، لعدم كمال النصاب؛ لأن المعجل بوصوله إلى كف الفقير خرج عن ملكه حقيقة وحكماً، ولا ضمان على الساعي؛ لأن التصدق حصل بإذن المالك.
بيانه: أن الدفع إلى الساعي والساعي يقبض للمساكين، ويحتمل أن يصرفها إلى الفقراء قبل تمام الحول إذن بالدفع، زكاة على تقدير وجوب الزكاة، بأن يستفيد خمسة أخرى قبل الحول، وإذن بالدفع تطوعاً على تقدير عدم وجوب الزكاة.
الوجه السادس: أن يأكلها الساعي صدقة بحاجة نفسه، والجواب فيه نظير الجواب في الوجه الخامس لأن التصدق به على نفسه كالتصدق على مسكين آخر.

الوجه السابع: إذا ضاعت من يد الساعي قبل تمام الحول ثم وجدها بعد تمام الحول، وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة؛ لأن تكميل النصاب بالخمسة المفقودة متعذر؛ لأنها ضمان، وإذا لم يصر المعجل زكاة كان للمالك أن يسترده من الساعي، فإن لم يسترده حتى تصدق بها العاشر لم يضمنه، هكذا ذكر في «الكتاب» بعض مشايخنا، قالوا: هذا على قولهما، أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن يضمن؛ لأن صاحب المال أمره بالأداء على وجه يسقط الفرض عنه، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه ههنا.
أصله: الوكيل بأداء الزكاة إذا أداها بعدما أدى الموكل بنفسه، وهناك الوكيل ضامن عند أبي حنيفة لما قلنا، وعندهما لا يضمن فههنا كذلك.
والمحققون من مشايخنا قالوا: لا ضمان ههنا عند الكل، وفرقوا لأبي حنيفة بين هذه المسألة، وبين مسألة الوكيل، والفرق: أن في مسألة الوكيل الفرض لازم وقت الأمر، فيتقيد بالأمر بالصرف على وجه يسقط الفرض عنه، وهذا المعنى عن الأمر، وههنا الفرض غير لازم وقت التعجيل، ويحتمل أن يكون المعجل في يد الساعي إلى آخر الحول ويحتمل أن لا يبقى، ويحتمل أن يستفيد مالاً آخر، ويحتمل أن لا يستفيد، وعلى بعض الوجوه لا يقع الصرف مسقطاً الفرض عنه، فلا يتقيد الأمر بالصرف بإسقاط الفرض عنه، وإن نهى العاشر عن التصدق في هذه الصورة ضمنها إذا تصدق بعد ذلك بلا خلاف.

الفصل الثاني: إذا استفاد صاحب المال خمسة قبل تمام الحول، فتم الحول وفي يده مائتا درهم، فإنه تجب الزكاة في الوجوه كلها، لأنه تم الحول ونصابه كامل بدون المعجل ويصير المعجل زكاة؛ لأنه عجلها لتصير زكاة عما تلزمه من الزكاة في هذه السنة، وقد لزمته الزكاة في هذه السنة، فتصير زكاة، وليس عليه في الخمسة المعجلة

(2/269)


شيء، وإن كانت قائمة في يد المصدق، أما على قول أبي حنيفة، فلأنه لا يرى الزكاة في الكسور، وأما على قولهما، لأن المعجل صار زكاة من وقت الأداء وخرج عن ملكه، ولا زكاة بدون الملك، فقد حكم بزوال المعجل عن ملكه من وقت التعجيل، وفي الفصل الأول لم يحكم بزوال المعجل من وقت التعجيل حتى قال بوجوب الزكاة في بعض الوجوه من الفصل الأول.
ولو زال المعجل عن ملكه من ذلك الوقت لما وجبت الزكاة أصلاً لنقصان النصاب في آخر الحول.
والوجه في ذلك: أن المعجل يجب أن يكون زكاة من وقت القبض نظراً إلى أصل المال، ويجب أن تكون زكاة عند تمام الحول نظراً إلى أصله، وهو وصف النماء، لأن النماء إنما يحصل بالحول، إلا أنه لا معارضة بين الأصل وبين الوصف، فتجعل الزكاة من وقت التعجيل باعتبار الأصل، وإسقاطاً لاعتبار الوصف، إلا أنه إذا كان (137أ1) في اعتباره زكاة من وقت وجوده إبطال الوصف، فحينئذٍ يعتبر الوصف ويجعل زكاة عند تمام الحول تصحيحاً للزكاة بقدر الممكن.

قلنا: وليس في جعل المعجل زكاة من وقت التعجيل في هذه الصورة إبطال الزكاة؛ لأن الزكاة واجبة عند تمام الحول لتمام النصاب بدونه، فجعلنا المعجل زكاة زائلاً عن ملكه من وقت وجود التعجيل، فلا تجب فيه الزكاة، أما في الفصل الأول: لو جعلنا المعجل زكاة من وقت التعجيل كان فيه إبطال الزكاة؛ لأن الزكاة حينئذٍ لا تجب عند تمام الحول لنقصان النصاب بدون المعجل، فلم يجعله زكاة من وقت وجوده، فتم الحول والمعجل باق على ملكه، فكان النصاب تاماً عند الحول، فتجب الزكاة، ويصير المعجل زكاة.

الفصل الثالث: إذا ملك شيء ما في يد صاحب المال، وفي هذا الفصل لا تلزمه الزكاة في الوجوه كلها؛ لأن أكثر ما فيه أنا نجعل المعجل باقياً على ملكه، فالنصاب مع ذلك ناقص عند تمام الحول، فلا يجب الزكاة ولا يصير المعجل زكاة، فبعد ذلك إن كان المعجل قائماً في يد الساعي استرده المالك، فإن كان قد أكلها قرضاً أو أخذها بعمالة نفسه أو استهلكه ضمن مثل ذلك لصاحب المال، وإن كان قد أكلها صدقة بحاجة نفسه أو كان تصدق بها على الفقراء فلا ضمان، وإن كان قائماً في يده وتصدق بها في الحال هل يضمن؟ فهو على الخلاف الذي مرّ.
رجل له مائتا درهم عجّل منها خمسة ودفعها إلى المصدق ثم هلكت المائتان إلا درهماً وذلك قبل الحول، فأراد صاحب المال استرداد المعجل ليس له ذلك والأصل في هذا أن كل تصرف صح بجهة، لا يجوز نقضه ما لم تبطل تلك الجهة بيقين.
ألا ترى أن المشتري يشرط الخيار للبائع إذا عدّ الثمن في مدة الخيار لا يملك استرداده؛ لأن النقد قد صح بجهة الثمنية، ولم تبطل هذه الجهة قطعاً؛ لأن احتمال أن يصير المؤدّى ثمناً قائماً.

(2/270)


وكذلك المستأجر إذا عجل الأجرة قبل استيفاء المنفعة لم يملك الاسترداد، وإنما لم يملك لما قلنا.

إذا ثبت هذا فنقول: دفع الخمسة إلى المصدق بجهة الزكاة قد صح، ولم تبطل هذه الجهة قطعاً لاحتمال أن يستفيد ما يكمل به النصاب قبل الحول، وكذلك لو أنفق صاحب المال الدراهم كلها قبل الحول والخمسة المعجلة قائمة في يد الساعي أو أكلها قرضاً أو استهلكها، أو أخذها بعمالة نفسه، فليس لرب المال أن يأخذ ذلك منه، وكذلك لو عجل المائتين كلها، وأداها إلى العاشر لا يملك استرداد شيء منه للحال لاحتمال إلى آخر الحول مقدار ما يصير المؤدى زكاة عنه، ويكون الحول باقياً باعتبار المؤدى، إذ المؤدى باقٍ على ملك المالك؛ لكون يد الساعي قائمة مقام يد رب المال في هذه الحالة.
فرع على هذه الصورة

وهي ما إذا عجل المائتين كلها، فقال: لم أستفد شيئاً حتى تم الحول، والمائتان قائمة في يد العاشر، كان له أن يسترد من الساعي مائة وخمسة وتسعين ولا يسترد الخمسة؛ لأن مقدار الخمسة صار زكاةً، وما عدا الخمسة لم يبق لها احتمال أن تصير زكاة هذه السنة، وهو إنما عجل ليصير المعجل زكاة هذه السنة، فلو كان استفاد ألف درهم قبل تمام الحول، فالساعي يمسك من المائتين زكاة ألف، خمسة وعشرين، بقي هناك مائة وخمسة وتسعون يمسك الساعي هذا المقدار عند أبي حنيفة، وعندهما يمسك أربعة دراهم وثلاثة أثمان درهم، فأبو حنيفة لا يرى زكاة الكسور، وهما يريان ذلك.
رجل له خمس وعشرون من الإبل السائمة عجل منها بنت مخاض ودفعه إلى العاشر، فتم الحول وفي يد صاحب الإبل أربعة وعشرون، ففي القياس يصير قدر أربع من الغنم من بنت المخاض زكاة، ويرد الساعي الباقي، وفي الاستحسان يصير الكل زكاة، وقد مر وجه القياس والاستحسان في فصل الدراهم، هكذا ذكر في «الزيادات» .

وفي كتاب «زكاة الإملاء» رواية بشر بن الوليد لا يكمل النصاب فيما (في) يد المصدق، ولا يجوز ذلك عن زكاته وعلى المصدق أن يردها على صاحبها، ويأخذ منه أربعاً من الغنم، ولو لم يحل الحول حتى هلك من إبله واحد، وبقي ثلاثة وعشرون، ثم حال الحول، فالساعي يمسك من المؤدي قدر أربع من الغنم ويرد الباقي قياساً واستحساناً؛ لأنا وإن جعلنا المؤدى باقياً على ملكه تم الحول، ونصابه أربعة وعشرون، فلا يجب إلا بقدر أربع من الغنم، وإن أكلها العاشر قرضاً وهو غني ضمن قيمتها، أما حصة رب المال، فلا شك.
وأما حصة الفقراء؛ فلأنه غني والغني ليس بمحل للصدقة، وإن أكلها بحساب عمالة نفسه يضمن حصة رب المال، ولا يضمن حصة الفقراء؛ لأن حصة الفقراء وجبت زكاة، والعمالة تجب في الزكاة، وإن تصدق بها على المحتاجين أو أكل وهو محتاج لا يضمن شيئاً؛ لأن التصدق حصل بأمر رب المال.

رجل له أربعون شاة سائمة، فقبل أن يتم حولها عجل شاة منها وتصدق بها العاشر

(2/271)


أو باعها، وتصدق بثمنها ذلك جائز، أما إذا تصدق بعينها فظاهر، وأما إذا باعها وتصدق بثمنها، فلأن المأمور بالصدقة يملك البيع والتصدق بالثمن؛ لأنه ربما يكون البيع والتصدق بالثمن أيسر عليه، فإن تم الحول وليس عند صاحبها إلا تسعة وثلاثون شاة، لا يصير المعجل زكاة، لأنه لا تجب الزكاة حينئذٍ؛ لأن المؤدى لا يمكن أن يجعل باقياً على ملكه بعدما وصل إلى الفقير عينه أو بدله، فتم الحول ونصابه ناقص، فلا تجب الزكاة، ويكون المؤدى تطوعاً ولا يجب الضمان على العاشر؛ لأنه تصدق بأمر صاحبها.

ولو لم يبعها ولم يتصدق بعينها، وهو في يد المصدق على حالها يصير المعجل زكاة استحساناً عند عامة المشايخ، ولو كان العاشر باعها وأخذ الثمن لنفسه على وجه العمالة ثم تم الحول، وغنم صاحب الغنم تسعة وثلاثون كان على العاشر قيمتها؛ لأن الزكاة لم (تتم) وإذا لم تتم لا تجب العمالة، وقد صار مستهلكاً لها بالبيع، ووجب عليه القيمة؛ فتم الحول وبعض النصاب قيمة، ونصاب السوائم لا تكمل بالقيمة. وكذلك إذا أكلها قرضاً، وباقي المسألة بحالها بخلاف فصل الدراهم، لأن هناك ما وجب على الساعي من جنس النصاب فجاز أن يكمل به النصاب، ولو أكلها العاشر وهو محتاج، فلا ضمان.
رجل له مائتا درهم وأربعون درهماً عجل منه ستة دراهم فتم الحول وعند......... عند العاشر، فإن القياس على قول أبي حنيفة أن تصير الخمسة زكاة والدرهم السادس على رب المال؛ لأن الخمسة المعجلة صارت زكاة من وقت القبض، فتم الحول وماله مائتان وخمسة وثلاثون، فتجب الخمسة عن المائتين، ولا يجب في الباقي شيء؛ لأنه لا يرى زكاة الكسور، ووجه الاستحسان: أن في جعل المعجل زكاة من وقت التعجيل إبطال بعض المعجل، فيصير زكاة بعد الحول فتم الحول، وماله مائتان وأربعون.

والقياس على قولهما: أن يمسك الساعي خمسة دراهم زكاة عن المائتين، ويمسك أيضاً خمسة وثلاثين جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من درهم وفي الاستحسان لا يرد شيئاً.
وجه القياس: أن في التعجل كل درهم يقع زكاة عن نفسه، وعن أربعين سواه، ألا ترى أنه إذا عجل عن المائتين خمسة وبقيت الخمسة في يد الساعي ثم استفاد خمسة أخرى، فالخمسة المعجل تقع عن نفسها، وعن المائتين سواها، فكذا هنا جعلت الخمسة المعجلة من المعجل زكاة من وقت القبض عن نفسها وعن المائتين، فبقي له خمسة وثلاثون أربعة وثلاثون في يده ودرهم في يد الساعي.
ولو كان في يده ستة أخرى كان كل الدراهم الزائدة زكاة عن نفسه، وعن هذه الأربعين، فإنما يجب رد شيء (137ب1) من الدرهم الزائد بسبب فوات ستة دراهم، فيقسم الدرهم الزائد زكاة على نفسه، وعن هذه الأربعين على واحد وأربعين، فيسقط منه

(2/272)


بقدر ستة أجزاء من واحد وأربعين جزءاً من درهم.
وجه الاستحسان: أن ما قلنا لأبي حنيفة، ولو هلك بعد التعجيل ما فعل، فإن الساعي يمسك من الدرهم الزائد على قولهما استحساناً، ستة أجزاء من واحد وأربعين جزءاً من درهم؛ لأن المعجل صار زكاة بعد الحول، فتم الحول، وفي ملكه مائتان وستة دراهم.
فنقول: لو كان ههنا خمسة وثلاثون درهماً كان الدرهم الزائد كله زكاة، فيسقط من الدرهم الزائد بقدر خمسة وثلاثين، وذلك خمسة وثلاثون جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من درهم، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يرد الدرهم السادس كله قياساً واستحسناً؛ لأنا وإن جعلنا المعجل باقياً على ملكه، فالزائد على المائتين يكون في ستة، وأبو حنيفة لا يرى الزكاة في أقل من الأربعين.

ولو أنفق صاحب المال مما في يده درهماً، فتم الحول وفي يده مائتان وثلاثة وثلاثون درهماً، فعلى قول أبي حنيفة الساعي يرد الدرهم الزائد كلها على رب المال قياساً واستحساناً لما ذكرنا، وأما على قولها فالساعي يرد على رب المال جزءاً من أربعين جزءاً من درهم؛ لأن المعجل باق على ملكه استحساناً، فتم الحول وماله تسعة وثلاثون درهماً، فانتقص من الأربعين درهم، فينقص من الدرهم الزائد بقدره.
رجل له أربعون من الغنم السائمة عجل شاة منها ثم إن الإمام أعطاها المصدق من عمالته، أو أخذها المصدق من عمالته بنفسه، وأشهد على ذلك، وكانت في يده سائمة حتى تم الحول وفي يد صاحب الغنم أربعون شاة......... دفعه على سبيل العمالة وصار زكاة.

ولو تم الحول وعند صاحب الغنم تسعة وثلاثون شاة فليس على صاحبها زكاة؛ لأن المأخوذ عمالة لا يمكن إبقاؤه على ملك صاحب المال، لأن هنا الأخذ وقع للساعي، فلا يمكن أن يجعل الساعي نائباً عن رب المال فيه، فتم الحول ونصابه ناقص، وكان على الساعي رد الشاة على المالك، لأنه أخذها بحسب العمالة، وتبين أنه لا عمالة، ولو كان الساعي باعها قبل الحول بيوم نفذ البيع، يريد به إذا أخذها بعمالة نفسه وباعها لنفسه، وكان على الساعي قيمتها؛ لأنه تعذر رد عينها بسبب البيع فيلزمه رد قيمتها.
d
ولو كان المصدق لم يأخذها بعمالة نفسه، ولكن باعها للفقراء قبل الحول نفذ البيع، فإن تم الحول، وفي يد صاحب المال ثلاثة وثلاثون من الغنم، وثمن المعجل قائم في يد الساعي رد الثمن على المالك، أداء الزكاة ههنا لم يجب، لأن نصاب الغنم لا يكمل بالثمن، ولو لم يبعها المصدق حتى تم الحول، وفي يد صاحب الغنم تسعة وثلاثون من الغنم ثم باعها للفقراء نفذ البيع وتصدق بثمنها؛ لأن الزكاة قد وجبت ههنا، فإن نقصت شاة من الغنم قبل الحول ثم باع المصدق الشاة المعجلة نفذ، ولا ضمان عليه

(2/273)


عند الكل علم بذلك أو لم يعلم على ما عليه المحققون من أصحابنا.

رجل له أربعون بقرة سائمة عجل منها مسنة ثم تم الحول وفي يده أربعون بقرة سائمة صار المعجل زكاة، وهذا ظاهر.

ولو هلكت واحدة منها قبل الحول، ثم تم الحول والمسنة في يد الساعي على حالها، فإن المصدق يمسك من المسنة قدر تبيع أو تبيعة ويرد الفضل قياساً واستحساناً؛ لأن المعجل إنما يصير زكاة عما لزمه، والذي لزمه قدر تبيع أو تبيعه؛ لأنا وإن جعلنا المعجل باقياً على ملكه، ثم تم الحول ونصابه ناقص عن أربعين، فإن أراد المتصدق أن يرد المسنة ويأخذ تبيعاً، وأبى المالك ذلك وأراد المالك أن يسترد المسنة، ويرد التبيع وأبى المصدق ذلك، فليس لواحد منهما ذلك إلا برضا الآخر؛ لأن التعجيل قد صح بتراضيهما فلا يصح النقض إلا بتراضيهما، فإن تم الحول وعند صاحب البقر ستون أخذت تلك المسنة ويأخذ الساعي من صاحب البقر تام قيمة تبيعين أو تبيعتين؛ لأنه تم الحول وقد لزمه تبيعان.
فإن قال صاحب البقر للساعي: رد علي المسنة حتى أعطيك التبيعين، أو قال الساعي: أرد عليك المسنة وآخذ منك تبيعين، فليس لواحد منهما ذلك إلا برضا الآخر.
قال: ولو حال الحول وعنده أربعون من البقر فعدها المصدق وأخذ منها بقرة مسنة، ثم أعاد المصدق عدها فوجدها سبعة وثلاثين مع البقر التي أخذها المصدق وقد اتفقا على الخطأ في العدد، فلصاحب البقر أن يسترد المسنة ويعطيه تبيعاً وإن أبى الساعي ذلك. وكذلك للساعي أن يرد المسنة ويأخذ التبيع بخلاف مسألة التعجيل.
والفرق: أن التسليم والأخذ في هذه الصورة كان بناءً على تمام النصاب، وكان التراضي ثابتاً بهذا الشرط، فإذا فات الشرط فات التراضي، فثبت لكل واحد منهما الخيار، أما في مسألة تعجيل التسليم والتسلم كان مع كمال العدد، ويحتمل تمام النصاب في آخر الحول ويحتمل ضده، وكان التراضي ثابتاً مطلقاً، فلا ينفرد أحدها بالنقض.

قال: وإن لم يرد المصدق المسنة على صاحب البقر حتى ضاعت أو تصدق بها المصدق أجزأته من زكاته؛ لأنه أدى ما وجب عليه وهو قدر تبيع وزيادة شيء، فبقدر ما وجب يقع عن زكاة ماله، وهل يضمن المصدق الفضل؟ قال: ينظر إن أعطاه صاحب البقر باختياره لا يضمن؛ لأن الدفع حصل على جهة الصدقة وصح منه، ولم يوجد من المصدق بعد ذلك تعد في حقه فلا يضمن، وإن كان المصدق أكرهه على الدفع ينظر إن أكرهه وهو يرى أن عدد البقر ناقص كان ضامناً للفضل على قدر التبيع؛ لأنه تعمد الجور والظلم.
واستدل محمد رحمة الله لإيضاح مسألة التعجيل: رجل له أربعون من البقر، فلما حال عليه الحول أتاه المصدق، فقال المصدق إني كنت أمرت غلامي أن يبيع عشرة منها قبل الحول، وأنا لا أدري أباع أو لم يبع، فخذ هذا التبيع، فإن كان باعها، فذلك زكاتها وإن لم يبعها أتممت لك زكاة الأربعين، وأخذ المصدق التبيع على هذا، ثم ظهر أن

(2/274)


الغلام لم يبعها، فأراد المصدق أن يرد التبيع، ويأخذ المصدق المسنة أو أراد صاحب البقر أن يسترد التبيع ويأخذ المسنة أو أراد صاحب البقر أن يسترد التبيع ويأخذ المسنة لا يكون لأحدهما ذلك بدون رضا صاحبه، وأمر صاحبه البقر أن يتم زكاة الأربعين، ولا ينقض ما فعلا بتراضيهما إلا بتراضيهما، فكذا مسألة التعجيل.
قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له مائتا درهم وعشرون مثقالاً من الذهب، عجل زكاة المائتين ثم هلكت المائتان قبل تمام الحول، وبقي الذهب، فإن المؤدى يكون زكاة عن الذهب، وروي عن أبي يوسف: أن المؤدى لا يكون زكاة عن الذهب ويصير تطوعاً، وعليه زكاة الذهب وهو رواية عن أبي حنيفة، ذكر رواية أبي حنيفة أبو عبد الله البلخي في المناسك.

وجه رواية أبي يوسف: أنهما مالان مختلفان، بدليل اختلاف قدر نصابهما وواجبهما والتعيين في الجنس المختلف صحيح، وإذا صح التعيين وهلك المؤدى عنه قبل الحول يصير المؤدى تطوعاً، فتبقى عليه زكاة الذهب، والدليل عليه: إذا كان له نصاب غنم ونصاب إبل عجل زكاة (138أ1) . الغنم، ثم هلك الغنم قبل الحول لا يقع المعجل عن الإبل وطريقه ما قلنا.
وجه ما ذكر في «الجامع» : أن التعيين لم يصح؛ لأن التعيين إنما يصح في الأجناس المختلفة. وجواز التعجيل مبني على السببية، والذهب والفضة وإن كانا مختلفين حقيقة فهما في حق سببية الزكاة جنس واحد معنى، ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر، وإذا صارا في حق، سببية الزكاة جنساً واحداً معنىً التحقا بالجنس الواحد حقيقة في حق هذا الحكم، فلا يصح التعيين إلا إذا كان في التعيين فائدة، فحينئذٍ يصح التعيين، ويعمل فيه بالحقيقة، وهما جنسان مختلفان حقيقة.
إذا ثبت هذا فنقول: لا فائدة للتعيين في الحال؛ لأن الواجب في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين مثقال نصف مثقال، فأما إن كان قيمتها على السواء، أو كان قيمته نصف مثقال أقل أربعة، أو أكثر ستة، فإن كان قيمتها على السواء يسقط عنه خمسة، ويبقى خمسة جعل المؤدى عنهما أو عن أحدهما، فإن كان قيمة نصف مثقال أربعة يسقط عنه خمسة، ويبقى عليه أربعة جعلنا المؤدى عنهما، أو عن الدراهم خاصة، وإن كان قيمة نصف مثقال ستة تسقط عنه قدر خمسة ويبقى عليه قدر ستة، فجعلنا المؤدى عنهما، أو عن أحدهما يدل أنه لا فائدة في التعيين في الحال، وإنما الفائدة باعتبار الهلاك، فإنه إذا هلكت الدراهم تلزمه زكاة الدنانير بكماله، والهلاك موهوم. وإذا كان في فائدة التعيين، وهما لم يعتبرا جنسين، بل اعتبرا جنساً واحداً، فلا يصح. فالتعيين صار كأنه عجل خمسة ولم يعين وهناك، أو هلكت المائتان يقع المعجل عن الدنانير كذا ههنا، بخلاف ما إذا كان نصاب غنم ونصاب إبل، وعجل زكاة أحدهما؛ لأن هناك التعيين قد صح؛ لأن الجنس مختلف، ولهذا لا يضم أحدهما إلى الآخر، والتعيين في الجنس المختلف صحيح.

(2/275)


وأما إذا عين الأداء عن الدراهم بعد الحول وبعد الوجوب، بل يصح التعيين حتى إذا هلكت الدراهم، بل تلزمه زكاة الذهب اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: يصح التعيين، وفرق هنا القائل فيما قبل الحول وفيما بعد الحول.

ووجه الفرق: أن الأداء قبل الحول أداء بطريق التعجيل، وإنه مبني على قيام السبب لا على قيام الواجب، والذهب والفضة في حكم السببية جنس واحد، والتعيين في الجنس الواحد لغو، أما إذا كان بعد الحول مبني على قيام الواجب، والواجب مختلف والتعيين في الجنس المختلف صحيح، وبعض مشايخنا قالوا: التعيين بعد الحول غير صحيح كالتعيين قبل الحول؛ لأنه ما يفيد إلا على اعتبار هلاك المؤدى عنه، وإنه موهوم. وفي حق هذا المعنى لا فرق فيما قبل الحول وفيما بعده، هذا إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، فأما إذا هلك المؤدى عنه بعد الحول ذكر في «الجامع» أن المؤدى يكون عنهما، وتلزمه نصف زكاة الدراهم ونصف زكاة الدنانير، وذكر في «نوادر الزكاة» أن المؤدى يكون عن الدراهم، وتلزمه زكاة الدنانير بكمالها، وهكذا ذكر في «المنتقى» عن محمد.
قال في «المنتقى» عقب هذه المسألة: وكذلك لو كان مكانها عبد وأمة للتجارة. وروى بشر عن أبي يوسف أيضاً أن المؤدى يكون عن الدراهم، ذكر هذه الرواية في «المنتقى» . وجه رواية «نوادر الزكاة» و «المنتقى» : أن التعيين معتبر، فإنه تلزمه زكاة الدنانير، وفيه فائدة، فإن قيمة المالين ربما تختلف بعد الحول، ربما تكون قيمة نصف مثقال أقل من خمسة دراهم بعد الحول إلا أنه إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول يلغو التعيين؛ لأن المؤدي كما قصد أن يكون المؤدى عن الدراهم قصد أن يكون المؤدى زكاة، فإذا هلك المؤدى عنه قبل الحول له اعتبرنا نية التعيين تلغو نية الزكاة؛ لأن ما أدى يصير تطوعاً إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، ومتى اعتبرنا نية الزكاة تلغو نية التعيين.

فنقول: إلغاء نية التعيين أولى من إلغاء نية الزكاة؛ لأن نية التعيين غير محتاج إليها، فإنه لو عجل خمسة دراهم ناوياً عما يجب عليه يجوز، ويكون المؤدى عن المالين، ونية الزكاة محتاج إليها إذا كان المؤدى محتاج إليها، فإنه لو عجل خمسة دراهم ناوياً عما يجب عليه يجوز، ويكون المؤدى عن المالين، ونية الزكاة محتاج إليها إذا كان المؤدى بعض النصاب حتى يصير المؤدى كله زكاة، ولا شك أن إلغاء ما لا يحتاج إليه أولى من إلغاء ما يحتاج إليه، فأما إذا بقي المالان بعد الحول أمكن اعتبار نية الزكاة مع نية التعيين، فاعتبرناهما ولم نشتغل بالترجيح.
وجه ما ذكر في «الجامع» : أنه لا فائدة في التعيين إلا باعتبار الهلاك، والهلاك أمر موهوم، ولا معتبر بالفائدة الموهومة، فلا يصح التعيين، وفي حق هذا المعين لا فرق فيما إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، وفيما إذ هلك المؤدى عنه بعد الحول.
وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة: رجل له ألف درهم سود، وألف درهم بيض عجل عن البيض خمسة وعشرون، ثم هلكت البيض قبل الحول أجزأه ما أدى عن السود، ولو لم تهلك حتى حال الحول وهما عنده، وهلكت البيض كان نصف ما أدى مما هلك نصفه

(2/276)


مما بقي، وهذه الرواية توافق رواية «الجامع» .
قال في «المنتقى» : وكذلك لو كان الأداء بعد حَوَلان الحول، قال: وكذلك عنده ألف درهم ومائة دينار، أو جارية للتجارة تساوي ألف درهم، فأدى عن أحد الجنسين، والجواب في جميع هذه الوجوه على ما وصفت لك، وهو قول أبي يوسف.
وذكر في «المنتقى» بعد هذه المسائل مسألة البيض والسود عن محمد في صورة أخرى، فقال: إذا استحقت الألف التي زكى عنها قبل الحول أو بعده لم تجزه الزكاة عن الألف الباقية. قال محمد: وإن زكى عن ألف بعد الحول، ثم ضاعت وله دين على رجل لم يكن المؤدى عن زكاة دينه، وإن كان الأداء والضياع قبل الحول أجزأه عن زكاة دينه.

وفي «نوادر هشام» عن محمد: إذا كان للرجل أربعون شاة سائمة عجل منها شاة، فأخذها المصدق، ووضعت عنده عناقاً، أي: ولدت، فحال الحول وقيمته على حاله، فالشاة مع العناق صدقة. وإن نقص من غنم رب الغنم حتى أخذ العناق، وتكون الشاة صدقة.
وفي «الأجناس» : لو كان عنده خمسة وتسعون ديناراً ومائة درهم، وثوب للتجارة، وقيمته خمسة دراهم، فعجل ذلك الثوب إلى المصدق من زكاة ماله قبل الحول، فقطعه المصدق، ولبسه يجزئه ذلك من زكاته، قال: لأن عنده دراهم، وقيمة الثوب دراهم، فجاز ضمه إلى ما عنده ليكتمل النصاب، والله أعلم.